فن النقائض تنوعت فنون الدب وتعددت ،ومن بين هذه الفنون فن النقائض ،و هذا الفن لون جديد من ألوان الدب والمناظرة الدبية .و يعتبر هذا الفن سجلً تاريخيا ً ساهم في معرفة أنساب العرب وأيامهم ومثالبهم ،وأمد اللغة بثروة من اللفاظ وأكسب المعاجم مادة لغوية هامة . . . تعريف فن النقائض لغة :النقائض جمع مفرده نقيضة ،والنقض إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء ، ونقض البناء هدمه ،ونقض الحبل إذا حّله ،ونقض العهد إذا تحلل منه ،والنقض ضد البرام لذلك قالوا نقائض جرير والفرزدق) والمناقضة في القول أن تتكلم بخل ف معناه( . اصطلحا ً :هو أن يتجه الشاعر إلى آخر بقصيدة هاجيا ً مفتخرا ً ملتزما ً البحر الذي اختاره الول والقافية ذاتها وحركة الروي ،إذا ً فل بد من وحدة الموضوع ووحدة البحر والقافية والروي . مثال :ما قاله الخطل عندما مدح عبد الملك بن مروان هاجيا ً بني كليب بن يربوع رهط جرير ومفض ً ل عليهم بني دارم عشيرة الفرزدق خصم جرير: أما كليب بن يربوع فليس لهم * * * عند التفارط إيراد ول صدر مخّلفون ويقضي الناس أمرهم * * * وهم بغيب وفي عمياء ما نظروا فيرد عليه جرير: أرجو لتغلب إذا غّبت أمورهم * * * أل يبارك في المر الذي لئتمروا ب إذ خّل فارطهم * * * حوض المكارم إّن المجد مبتدُر خابت بنو تغل ٍ فالموضوع واحد وهو الهجاء .والبحر واحد وهو البسيط .والقافية راء مضمومة في النقيضتين.والمعاني واحدة هي الضعة والهوان. نشأة فن النقائض : النقائض من الفنون الشعرية القديمة لنها عرفت منذ العصر الجاهلي ،فقد كان شعراء القبائل المتحاربة يتراشقون بالشعر كما يتراشقون بالّسهام ،وكانوا يهجون ويناقضون بعضهم بعضاً ،فينتصر الشاعر بقومه ويرد عليه شاعر القبيلة المعادية ،ثم جاء السلم فدارت النقائض بين شعراء المسلمين وشعراء المشركين فدافع شعراء المدينة عن السلم والمسلمين ودافع شعراء مكة عن دينهم الوثني ،
وعلى الرغم من أن النقائض أيام الرسول صلى ا عليه وسلم تعّد امتداداً للنقائض في الجاهلية إل أن تغيراً قد أصابها من حيث الغاية إذا أصبحت دفاعا ً عن عقيدة ومبادئ دينية بعد أن كانت دفاعا ً عن أعراض القبيلة . ونقائض السلم لم تشتمل على فحش وجرح للعراض وانتهاك للحرمات كالتي نتلمّسها بشكل واضح في نقائض جرير والفرز دق والخطل . ثم ازدهر هذا الفن ازدهاراً كبيراً وواسعا ً في العصر الموي وتحّول إلى فن مستقل بذاته له أصوله وعناصره وأساليبه ومراميه وأبعاده الجتماعية والسياسية فأحتّل مكانة عزيزة وتبوأ منزلة في لوحة الشعر. وكانت الحياة في العصر الموي صالحة لقيام مثل هذا الفن ،واستطاع أن يرجع إلى ما كان عليه في الجاهلية الولى ،لذلك عاشت النقائض في ظله وسايرته إلى النهاية وبلغت في درجتها الفنية وآثارها الدبية الجتماعية منتهى ما بلغت في تاريخ الشعر العربي جمعيه ، فما هي أسباب النقائض في هذا العصر؟ أسباب النقائض : لو رجعنا إلى العصر الموي وبحثنا عن سبب انتعاش وتفجر النقائض في هذا العصر لوقفنا على أسباب خاصة وأسباب عامة. السباب الخاصة: أهم هذه السباب السبب القتصادي فنقائض جرير والخطل متأثرة به ،إذ أنها قامت على ما كان بين قيس وتغلب من المنافسة على أرض الجزيرة واستغللها منذ نزلت قيس فنسرين أساءت جوار تغلب فوقف جرير والخطل متناقضين . ومن السباب الخاصة أيضا ً أن الظرو ف جعلت جريراً يقف في صفو ف قيس ، وتصاد ف أن عشيرته أسرعت بالبيعة لبن الزبير ،و قتل مجاشعي الزبير بن العوام ، و لجأت النوار زوج الفرزدق حين غاضبته إلى الزبير فجعل الفرزدق يهجو جريراً . السباب العامة: السبب السياسي :وترجع إلى تشجيع الخلفاء أي حّكام بني أمية لهذا الفن ولهذا
الشعر بغية صر ف الناس عن التفكير في السياسة . السبب العقلي :وتعود إلى نمو العقل وقدرته على الحوار والجدل والمناظرة في الّنحل السياسية والعقيدية والفقه والتشريع . فلقد تناظر الشعراء بحقائق القبائل ومفاخرها ومثالبها ،فدرس كّل منهم موضوعه وبحث في أدلته ليوثقها ،وفي أدلة خصمه لينقضها ،فأصبحت مناظرات شعرية تدور في سوقي المربد في البصرة والكناسة في الكوفة . السبب الجتماعي :ومرده إلى حاجة المجتمع العربي وخاصة في البصرة إلى ضرب من الملهي يقضي به الناس أوقات فراغهم . خصائص فن النقائض : لفن النقائض وخصوصاً ما جرى بين جرير و الفرزدق والخطل خصائص عديدة منها: -1طول النقيضة : لختلط العصبية القبلية بالسياسة ،فكانت النقيضة تخوض في مديح الخلفاء والولة فأصبحت ل تحتوي على فخر وهجاء فحسب بل تحتوي على مديح وسياسة ،ويقدم الشاعر لكل ذلك ببكاء الطلل ووصف الرحلة والنسيب ،فاتسمت بالطول ،فلجرير قصيدة رائية أكثر من خمسين بيتا ً بدأها برثاء زوجته ووصف المطر ومديح أم حرزة ويبدأ البيت الرابع والعشرين فيها بهجاء الفرزدق فيقول ) :الكامل( لول الحياء لعادني استعبار * * * ولزرت قبرك والحبيب يزار ولقد نظرت وما تمتع نظرة * * * في اللحد حيث تمّكن المحفار ثم يهجو الفرزدق فيقول : أفأم حرزة يا فرزدق عتيم * * * غضب المليك عليكم القهار فيرد عليه الفرزدق بقصيدة طويلة وفي البيت الثاني والعشرين يبدأ بهجاء جرير فيقول : ) الطويل(
تحن بزوراء المدينة ناقتي حنين * * * عجول يبتغـي البـو رائـم ويا ليت زوراء المدينة أصبحت * * * بأحفار فلح أو بسيف الكواظم ثم يهجو جريراً فيقول : تحّرك قيس في رؤوس لئيمة * * * أنوفا ً وآذانا ً لئام المصالم فجرير من قبيلة قيس -2التأثر بالسلم : عاش شعراء النقائض في بيئة إسلمية ،فدخلت المعاني السلمية في صلب النقائض فخراً وهجاء . وهذا ما يبدو في نقيضة الفرزدق التي يهجو بها جريراً ويفتخر بقومه فيقول: ) الكامل( إن الذي سمك السماء بنى لنا * * * بيتا ً دعائمـه أعز وأطول بيتا ً بناه المليك ومـا بنا * * * حكم السماء فإنه ل ينقل وهذا مأخوذ من قوله تعالى ( أأنتم أشد خلقا ً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها) وقوله أيضًا ) :الكامل( ضربت عليك العنكبوت بنسجها * * * وقضى عليك به الكتاب المنزل وهذا مأخوذ من قوله تعالى ( مثل الذين اتخذوا من دون ا أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) . ومن قول جرير الذي كان أشد تأثراً بالسلم يقول ) :الكامل( إّن البعيث وعبد آل مقاعس * * * ل يقرآن بسورة الحبار وهذا مأخوذ من قوله تعالى ( :يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )...وغير ذلك من الشعار التي تبين تأثر شعراء النقائض بالسلم -3الفحاش في الهجاء: لقد هتك شعراء النقائض العراض وأباحوا الحرمات بعبارات تؤثر التصريح ل التلميح ،
وهذا الهجاء وصل إلى درجة تشمئز منه النفوس وتنكرها الخلق والتعاليم الدينية وكان لبعض البيات أثر في نفوس من وجهت إليهم فقال جرير: ما هجينا بشيء قط أشد علينا من قول الخطل) البسيط ( مازال فينا رباط الخيل معلمة وفي * * * كليب رباط الذّل والعار قوم إذا استنح ا لضيا ف كلبهم * * * قالوا لمهم :بولي على النار تمسك البول شحا ً ل تجود به * * * ول تبول لهم إل بمقدار فأجابه جرير ) :الكامل( حّيوا المقام وحيوا ساكن الدار * * * ما كدت تعر ف إل بعد إنكار كما أّن الفرزدق يقول في أم جرير ) :الوافر( قبح ا فقرة في بطنها منها * * * خرجت وكنت فيها تحمل فأجابه جرير ) :الكامل( قبح الله بني خفا ف ونسوة ٍ * * * بات الخزير لهن كالحقال إذاً سلك شعراء النقائض هذا الطريق وهو الهجاء من أجل الرد على الخصم وتقوية حجته -4اعتماد السخرية: عمد شعراء النقائض إلى هذا السلوب ففيه إسفا ف وتشنيع الخصم وفي نقائض جرير والفرزدق أمثلة كثيرة على ذلك .فقد سخر جرير من الفرزدق قائلً ) الطويل( وإنك لو تعطي الفرزدق درهما ً * * * على دين نصرانية لتن ّ صرا ومن ذلك أيضا ً قوله ) :الوافر( خذوا كحلً ومجمرة وعطراً * * * فلستم يا فرزدق بالرجال ومن ذلك قول الفرزدق في والد جرير ) الكامل( إّنا لنضرب رأس كّل قبيلٍة * * * وأبوك خلف أتانه يتقّمل وقوله أيضا ً ) :الطويل( تركنا جريراً وهو في السوق * * * حابس عطية هل يلقى به من يبادله فقالوا له رّد الحمار فإنه * * * أبوك لئيـم رأسـه وجحـافله -5توليد المعاني والصور:
كان لشعراء النقائض خيال خصب يبتكرون الصور ويبالغون في المعاني ويخترعون الوقائع والحوادث غير آبهين بما يرتكب في سبيل ذلك من الكذب والبهتان . فشغل جرير بفكرة القين والحدادة عند الفرزدق فوّلد منها المعاني ،فحينما يصفه بأنه قين و ابن قين كان يتعمق في هذه الفكرة ،ويستخرج منها معاني متعددة فيقول : ) الكامل ( ألهى أباك عن كل المكارم والعل * * * لي الكتائـف وارتفاع المرجل تصف السيو ف وغيركم يعصي بما * * * يا ابن القيون و ذاك فعل ال ّ صقل يقول أيضا ً ) :الطويل( هو القين وابن القين ل قين مثله لفطح المساحي أو لجدل الداهم ونلحظ الفرزدق يسرد في ميميته حوادث وأيام فيقول ) الطويل( ونحن ضربنا هامة ابن خويلد * * * يزيد على أّم الفـراخ الجواثم ونحن قتلنا ابني هّيم وأدركت * * * بحيرا بنا ركض الذكور الصلدم -6استخدام أسلوب المقارنة والموازنة: وأسلوب الموازنة والمقارنة من أهم سمات النقائض عند المويين وخصوصا ً عند الفرزدق وجرير والخطل لجأ إليه الشعراء للحتجاج والدقة في التحدي ولتوضيح الفكرة وإظهارها . يقول الفرزدق ) :الطويل( أتعدل أحسابا ً لئام أدقٍة * * * بأحسابكم إني إلى ا راجع واضعا ً قول الخطل لجرير ) :الطويل( أتعدل أحسابا ً كراما ً حماتها * * * بأحسابكم إني إلى ا راجع ومنها قول الخطل لجرير ) :البسيط( أما كليب بن يربوع فليس لهم * * * عنـد التفارط إيراد و ل صدر مخافون ويقضي الناس أمرهم * * * وهم بغيب ٍ وفي عمياء ما شعروا ملطمون بأعقار الحياض فما * * * ينف ّ ك فـي دارمّي فيهـم أثر قوم أنابت إليهم كّل مخزية * * * وكّل فاحشٍة سّبت بهـا مضر فينقض عليه جرير قائلً ) :البسيط( نحن اجتبينا حياض المجد مترعة * * * من حومة لم يخالط صفوها كدر
خابت بنو تغلب إذ دخل فارطهم * * * حوض المكارم إّن المجد مبتدر الظاعنون على العمياء إن ظعنوا * * * والسائلون بظهر الغيب ما الخير -7رصد سقطات الخصم: حاول شعراء النقائض رصد أخطاء وغفلت الخصم لكي ينهلون عليه بالهجاء والشعر المقذع وينظر هنا إلى حادثة نبؤ السيف في يد الفرزدق عندما أمره الخليفة سليمان بن عبد الملك بضرب عنق أحد السرى ،وكان قد دس له سيف ل يقطع ،فاستغل هذه الحادثة جرير ، وراح يسخر من الفرزدق فيقول) :الطويل( أكلفت قيسا ً أن نبا سيف غالب * * * وشاعت له أحدوثـة فـي المواسم بسيف أبي رغوان سيف مجاشع * * * ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم ضربت عند المام فأرعشت يداك * * * وقالـوا محـدث غير صـارم تبين لنا من فن النقائض ما يلي: أن فن النقائض فن قديم وجد منذ العصر الجاهلي وترعرع حتى وصل إلى عهد بني أمية ،وقد توافرت في هذا العهد السباب السياسية الجتماعية والعقلية لرعاية هذا الفن ،وجذبت إليه الشعراء . ونلحظ أن هذا النوع من فنون الشعر يحتاج إلى شرائط من حيث اتحاد البحر والروي والمعنى. و عرفنا أقطاب هذا الفن في هذا العهد وكيف استطاعوا تكريس شعرهم في سيبل الوصول إلى غايتهم . وفن النقائض هو أحد الفنون الدبية الجديدة ،وأنه أفاد العلماء في معرفة النساب والمفاخر عند العرب.