1
2
Makhtootat press and publishing house Mauvelaan 67 2282 SW Rijswijk The Netherlands E-mail: nasirmounes@hotmail.com
) رعشة السكين ( صالح فائق وفن الكوالج، ً ايضا، تلك: اسم الكتاب عبد الكريم كاظم: اسم المؤلف ) ( العنوان مقتبس من قصيدة للشاعر صالح فائق . صورة الغالف كوالج للشاعر صالح فائق تصميم الغالف ناصر مؤنس الطبعة األولى 2014 :سنة اإلصدار دار مخطوطات: الناشر
All rights reserved. No parts of this publication may be reproduced, stored in a retrieval system, or transmitted in any form or by any means, electronic, mechanical, photocopying, recording or other wise, without the prior permission, in writing, of the publisher.
3
4
5
ومع ذلك ،ال تترك للغزاة تلك الورود الذهبية صالح فائق – من مجموعة ( رهائن ) – دمشق 5791
6
التكثيف الشعري الرمزي من خالل معنى الكوالج وداللته الفنية
7
بين قلة من الشعراء المعاصرين اختار الشاعر صالح فائق الكوالج مع النص ،عالمان متناقضان ومتشابهان في نفس الوقت ،وخالفًا لمعاصريه وجد في الكوالج طريقة مغايرة أخرى لكتابة تجربته الشعرية المتصلة بتجربته الوجودية والذاتية والجمالية ،من هنا نرى شعر صالح في لحظيته مرآة ونافذة في ذات الوقت ،ينظر من خالله إلى أعماق ذاته وإلى العالم دون فقدانه رؤية وهشاشة وعنف أو خراب الواقع ،والشاعر هنا أيضًا يسكن كتائه تخومًا من المعاني المتناثرة في هذا الكوالج أو ذاك ،مثلما فضاءات الداللة تقع بين عالمين متقاربين :الكوالج والنص .
8
يلجأ الشاعر إلى التكثيف الشعري ،من خالل لغة النص، وإلى التكثيف الرمزي ،من خالل معنى الكوالج ودالالته الفنية ،ويمكننا القول أيضًا أن لفن الكوالج في نصوص صالح فائق إقامة دائمة لعالمات االستفهام ما يؤدي إلى عدم استطاعة قراءة نصوصه منفصلة عن الكوالج ،إنه تشابك يخلق نصًا متميزًا ويؤكد لنا حقيقة أن كل نص يكتبه الشاعر تصنعه تجربة ما ويحمل بين دالالته الكثير من األسئلة الوجودية والكونية ،ويمتزج النص الشعري بالمعنى الرمزي للكوالج ال المعنى التقليدي المعروف الذي يتضمن البعض من جذاذات الجرائد وأجزاء من الورق الملون المصنوع يدويًا وبعض الصور الفوتوغرافية وبعض األعمال الفنية ،وبذلك يمنحنا هذا المزج طريقة جديدة للكشف عن المعنى المراد من النص والكوالج في نفس الوقت . 9
تستمد تجربة الشاعر مع هذا الفن البصري (الكوالج) ديمومته الجمالية خاصة وأن الشاعر سليل ثقافة عريقة وظفها جيدًا في تجربته الشعرية اإلبداعية التي حملت همًا معرفيًا وثقافيًا وفنيًا طغى على أي حالة أخرى ،ويبدو صالح مشغوال ً ،كما نلمس في أغلب نصوصه وطبيعة اختياره للكوالج ،برغبته في أن يجعل قراءة المعنى حاضرة على نحو متواصل مثلما يجعلنا أن نفكر بطريقة جديدة إلقامة اتصال فني ـ جمالي مع فن الكوالج وهي فكرة مغايرة ترى أن تأثير الكوالج في النص الشعري شيء يتطلب التعاطي معه نقديًا ،لكن الشاعر ،رغم أساليبه المتنوعة في الكتابة الشعرية واختيار الكوالج ،يؤمن كشاعر أنه من هذا الفن البصري يستطيع أن يصنع أفق نصوصه ورؤيته وانطباعاته، 10
إذ بدون فهم يؤمن كشاعر أنه من هذا الفن البصري يستطيع أن يصنع أفق نصوصه ورؤيته وانطباعاته ،إذ بدون فهم الكوالج لن يستطيع المتلقي أن يصل إلى المعنى الشعري الذي يطمح إليه الشاعر مثلما تطمح إليه القراءة النقدية .كما يسعى الشاعر إلى كتابة تأريخ العالم القديم ـ الجديد عبر مخيلة شعرية جامحة تمزج النص الشعري بالكوالج ،كأن الشاعر هنا يريد أن يخلق عالمًا جديدًا ومغايرًا يعبر عن المستقبل ومقارباته ويرصد الراهن المسكون بالمفارقات .إننا ال نسعى من خالل هذه المالحظات ،اعاله ،إلى تقويم التجربة الشعرية المتصلة بفن الكوالج وحسب بل نستدعي االعتماد على متن متنوع بين النص والكوالج ونعتقد أن مثل هذا االستدعاء لم يتحقق بعد ،ولكن قراءاتنا النقدية تُملي علينا القول بأنه لتطور فن الكوالج
ال بد من مشروع فني مشترك ونقصد بالمشروع المشترك توفر قناعة فكرية وجمالية بمعطيات شعرية أيضًا يسعى الناقد من خاللها إلى بلورة معرفة فنية ـ شعرية جديدة ومتصلة ،ولن يتم ذلك إذا لم يكن هناك اختيار جمالي للكوالج وتجاوز ما هو متداول من خالل اقتراح لغة شعرية ورؤية جمالية تمليها التجربة المعرفية ـ الذاتية الرصينة ،ألن وضع كوالج مع قصيدة ما ليس للمتعة البصرية وحسب بل لمحاورة القارئ وتحريضه الكتشاف المعنى أو البحث عنه .
11
أيها الهارب أنتَ مسؤول عن هذه اإلشارات تحدثها في األعماق اهواؤك الجميلة.
انظر إلى استدارة وحيدة على القماش نسيها جسد امرأة نهدان يزهوان كأن من حلمتيهما 12
تتخضب الجذور والكتب الطيور والحمام الموانئ واالجناس ربما لهذا السبب سيبقى العالم مزهواً إلى األبد
.
صالح فائق – من مجموعة (تلك البالد ) -لندن 8791-
13
عناق شعري بين النص و الكوالج
14
استكمل الشاعر مهمة االتصال الجمالي بين النص والكوالج بعدّة فكرية ونقدية وفنية ومخيلة مغايرة أكثر تماسكًا ،وانطالقًا من ذات األسباب الفنية الكامنة في النص والكوالج معًا تحرر الشاعر من ربقة الثابت في الكتابة الشعرية المتصلة بالفنون األخرى ومنها الكوالج، بشكل خاص ،ولعل هذا التحرر في الفكرة الشعرية واألسلوب وشكل االختيار عائد إلى طبيعة التجريب الشعري الذي يمارسه الشاعر في أغلب اختياراته المتصلة بالكوالج من جهة وبنصوصه الشعرية من جهة ثانية . الكوالج الذي يتم اختياره من قبل الشاعر ينطلق ،أيضًا، من مفهوم جمالي محض ليصل إلى بناء فكرة مجاورة للنص تعبر عن تطلعات ومتابعات وإشارات الشاعر في الحياة والموقف كما في الشعر، 15
وال شك أن هذا االختيار لهذه المجموعة من الكوالجات ال تعني حكمًا على قيمتها الفنية وحسب بل لتثبيت منهجية الشاعر في التغيير ،وأعني تغيير النظرة إلى العالم والكون .لقد تشكلت هذه النظرة أيضًا في إطار انفتاح ـ تداخل الفنون على بعضها البعض ،إال أن هذه النظرة كانت ،على ما بينها من تداخل وانفتاح ،تدعو إلى ما هو ذاتي وجمالي وراهني .ومثلما يحيل الذاتي على اإلنسان ـ الشاعر بصفته فردًا ال يجب أن تمنعه فرديته من تأكيد هويته الشعرية واإلنسانية معًا ومن انفتاحه على الفنون ،كذلك يحيل الراهني على خصوصية تأريخه لزمن يشكّل التحرر من كل إضافة للجمالي الذي القيود المتقاطعة مع كل الفنون، يحيل على واقع الحياة اليومية وماهيتها .ثمة من يكتب الشعر مأخوذًا بجمالية الكوالج وراقصًا على جمال الكلمة وحيويتها والقها التعبيري الذي يأتلف مع المعنى مثلما يأتلف مع الكوالج في عناق شعري حميم 16
ويبدو لي أن الشاعر (بول فاليري) قد أصاب المعنى في تعبيره الذي حدد من خالله (الشعر بالرقص) ولكن الشعر الذي هو رقص جميل مع الكلمة أو حوار راقص مع فن الكوالج قليل ونادر ،قد يتسأل البعض بغرابة :وما شأن الرقص بالشعر؟ سأضحك ،ال لغرابة السؤال بل لطريقة صياغته فالشاعر الذي ال يجيد التعامل مع كلمات القصيدة أو الموجودات المحيطة به ليس بشاعر ،إذن ال يكمن سر القصيدة في الشاعر بل باألشياء المحيطة به ،الشعر موجود في كل شيء ،الفلسفة والعلم والخيال واألسطورة والتوقع و كذلك الكوالج ،ثمة أكذوبة قديمة ترسخت عنوة في ذهن البعض مفادها( :المعنى في قلب الشاعر) يا لها من كذبة سمجة ومحاولة نقدية مستهلكة لاللتفاف على معنى المعنى. 17
اني أدفنُ طيوراً ميتة في وهاد تعرفون أين تقع ،في األرض أو في الذاكرة . ضحكات باعة أراهم دائما يبحثون عن طريق .
اني أصعدُ من وهاد تعرفون موقعها في األرض أو في الذاكرة 18
في الدروب إبل ضائعة تهاجمها نسور. حين انتهي إلى مرتفع التقي صيادلة ينظرون إلي يقهقهون. صالح فائق –من مجموعة ( الطريق إلى البحر) – باريس 8711 -
19
عالقة الشعر بالكوالج
20
الكالم عن الشعر هو ،في الشكل الفني ،كالم عن رمزية الكوالج ،ففي ضوء هذه الرمزية ترتسم عالقة الشعر بالكوالج كتطابق في السياق، وليست الرمزية هنا مقصودة لذاتها بل تعيننا على معاينة حيّز التطابق ولنقرأ ،نقديًا ،في هذا الحّيز معنى الشعرية المجردة وفي هذه الشعرية نقرأ ،أيضًا، معناها اآلخر المتصل بالكوالج مثلما نصوغ سؤالها المرتبط بشكل خاص مع الكوالج،
21
ومن خالل صياغة السؤال ال تتعرض عالقة الشعر والكوالج لسوء القراءة أو عيوب النقل والمحاكاة وال تنزلق هذه العالقة إلى إفراغ المفاهيم الجمالية واللغوية من وظائفها الفنية والرمزية أو من معناها الذي هو ضرورتها ،حتى لكأن الكوالج ليس مجرد تمرينًا في تطبيق الفكرة الجمالية بل تطابقًا معها. إن االستعانة أو اإلفادة من فن الكوالج من منطلق المعنى الجمالي وسؤاله الخاص أمر ينقلنا من الحوار إلى التلقّي وأعني ،تلقّي المعنى الوافد
للنص ثم الدخول بحوار خاص مع المعنى المتصل بالكوالج ،مع العلم بأن الحوار ليس اختيارًا أو انتقاء بل عملية تطابق تجيزها مرتكزات نقدية قائمة بين الشعر والكوالج ومفتوحة على أبواب التأويل المختلفة . إن الكالم عن العالقة بين الشعر والكوالج هو كالم أيضًا عن حقل ثقافي ـ نقدي مختلف ،أي على عالقات تشبه منظومات فكرية ومعتقدات جمالية مغايرة وقيم فنية معرفية ،وبالنظر إلى هذه العالقة المتداخلة التي اسقطت معايير القراءة النقدية الجامدة والقارئ الواقف، بال حراك ،أمام النص ،عالقة تنتمي إلى الجمال الذي يتحكم ،في بعض األحيان ،بذائقتنا واختياراتنا ،عالقة تستدعي نموذجية النقل وفنية المحاكاة ،تحاكي المعنى الذي نتحدث أو نبحث عنه،
22
وتحاكي حياتنا أيضًا ،قد يتساءل البعض :كيف نحدد سؤال العالقة؟ نقول ،ال ننفي مثل هذا السؤال ولسنا ضده ،ولكن تحديد السؤال ،في القراءة النقدية ،يبدو ضروريًا ولعل ما تقدّم ،من مالحظات او إشارات نقدية ،يحمله أو على األقل يشير إليه ويلمح إلى جمالية العالقة المجردة ،أي إلى كونه سؤاال ً عن ماهية الشعر في حقله الفني المتصل بالكوالج من جهة ،وفي كونه من جهة ثانية سؤاال ً عن حيّز التطابق .
23
حقلٌ فيه أطباء وفيله.
كل فيل يحملُ مئات الكتب بعضها يحترق
خلف الفيلة واألطباء 24
عجوز تقضمُ تفاحة أمامها صندوق خشبي يحوي رفات ابنها . صالح فائق -من مجموعة ( مقاطعات و أحالم ) لندن 8711
25
البحث عن المعنى اآلخر
26
يقول أندريه بريتون( :الجمال يتداعى) وفي محاولة قراءتنا النقدية لهذه التداعيات الجمالية التي تنطوي على أسرارها وتلتبس فيها الدالالت بعد أن داخلتها ،في الشعر، جمالية الكوالج ومالت إلى الصورة الرمزية وقاربت بين أطراف المعنى والداللة ،من هنا يصنع الشاعر العراقي صالح فائق صورًا شعرية مغايرة وصادمة ،صورًا هي أقرب إلى التركيب الذهني منها إلى التشكيل التجريدي وهو في ذلك انما يعبر عن إيمانه التلقائي لهاجسه الفني والجمالي واللغوي .النص الذي يكتبه صالح يدور حول الرموز والتفاصيل والوجود والذات والحياة ومشاهداته الخاصة ،بل يمضي إليه مدفوعًا برغبة البحث عن المعنى اآلخر الذي يجعل القارئ النقدي واقفًا ما بين المعنى وطريقة العثور عليه أو ما بين الرمز والصورة الذهنية المكثفة المتصلة بالكوالج وما بين اللغة الشعرية وبالغتها . هناك الصورة الشعرية التي يجترحها خيال الشاعر تذكرنا دائمًا بالمرئيات وخصوصًا مرئيات الرسام الفرنسي بول سيزان التي هي من الواقع وليست منه في الوقت ذاته، من هنا أيضًا يستعير صالح صوره من الحياة والواقع والكون والتفاصيل المحيطة به إضافة لحضور المشاهدة ،كما أسلفنا ،ونقلها كما هي عبر هذا المقطع الشعري على سبيل المثال( :وهناك ضرير يندفع من زقاق باحثًا عن هاتف) ليأخذنا الحقًا، 27
من خالل هذه الصور ،بمرجله االرتجالي إلى التنقيب عن المعاني والدالالت ،إذن كل شيء في النص الشعري الذي يكتبه صالح يدعو للدهشة التي يحتاجها القارئ ،في نصه أيضًا ال تخون اللغة الشعرية كلمات النص حين تذهب بقارئها النقدي إلى جوهر الشعر .ثمة نصوص شعرية لصالح فائق كم تمنيت لو أنني كنت كاتبها ،هذه األمنية ،على ما يبدو للقراءة النقدية ،هي المستوى اآلخر من المعنى ،وهو المستوى المتعلق بجمالية النص الذي يتداعى أمام لذة القراءة وجماليتها أو غرابة الداللة التي تنتج ،بدورها ،دالالت إضافية وسط الكثير من المعاني الجوهرية واللغوية والرمزية المتصلة بمعنى الكوالج أو بجوهر النص الشعري نفسه ودالالته الفنية والجمالية . نصوص الشاعر تقرأ من نهايتها كما تقرأ من بدايتها ،أنها النصوص المفتوحة التي تتزامن فيها التفاصيل وتتقاطع ،وتكشف معانيها من خالل صناعة هذه المعاني ومن خالل تلك الخيوط الرمزية التي توصلنا بالداللة ،نصوصه تمد لغتها باتجاه عالم واسع ،خارج حدود المرئيات أحيانًا ،تنداح معانيه على سطح الحروف وااللفاظ والعبارات،
28
ثمة تطابق في بعض النصوص بحيث تلبس الكلمة المعنى والمعنى الكلمة، ولكن هذا التطابق قد ال نجده في أغلب مجاميعه الشعرية( :نملة تمشي في جنازة/آكل قصائدي في زقاق ضيق/في مدن مومياوات/شاعر نائم يكتب قصائد/ومضات/دببة في مأتم) .
29
صورٌ تتداعى ،اتخيلها اكتبها ،أسردها على سجين اخلقه ،أوالً ،في زنزانة مبطنة بالصوف ثم أفتحُ له الباب ليرافقني
30
في أوقات أرويها على جاري المشلول الذي يراقبُ ،اآلن ثعباناً يحتضرُ في قنينة مغلقة . صالح فائق -من مجموعة ( رحيل ) لندن 8719 -
31
الكشف عن طبيعة الخيال
32
يقول الشاعر الروسي الكسندر بوشكين: (سأذرف الدموع على الخيال) من هنا يالمس الشاعر في كتاباته الشعرية واحدة من أهم قضايا اإلبداع الشعري ،وهو الخيال ،ومن هنا نتساءل أيضًا :أليس يبهرنا الشاعر عندما يخلق بواسطة خياله نصًا مغايرًا هو صورة أناس ومخلوقات وأشكال وتجارب؟ أنه يبهرنا ألنه ال يخفي عنا جمالية اللغة وغرابة المعاني ،وإن المفردة الشعرية في تجربة صالح فائق تأتي استجابة ،إضافة للمخيلة الصارمة ،إلى قانون الرؤية الشعرية المتعلقة بتجربته نفسها وانعكاسًا لحالته الذاتية ـ الشعورية وبما أننا سبق أن رصدنا ،في دراسة سابقة ،الرؤية المتصلة بالمعنى التي تحكم إنتاج صالح الشعري 33
وقيامها على التخلق من جدلية تقابليه بين المعنى والداللة أو بين المفردة والجملة ويمكن لنا تلمس هذا القانون ،أيضًا ،في أغلب نصوصه األخيرة التي يستخدم فيها المفردات اللغوية التي تجسد الحالتين المتقابلتين حتى وإن اختلفت المعاني والدالالت ،إن الكشف عن طبيعة الخيال في جسد النص الشعري يقتضي متلقيًا بارعًا في مالمسة الشكل الداللي المتحرك في الصورة الشعرية مع طبيعة الخيال ،وال يتأتى هذا الكشف إال بعد رصد المعنى الشعري ،كما أن متابعة الخيال في باطن النص ال يكفي لمعرفة التبادل الداللي بين النص والصورة أو الكوالج وحسب بل ألن البناء اللغوي والرمزي والتشكيلي للنص الشعري نفسه 34
يتسم بنسق خيالي يجمع بين خاصية التكثيف والترميز والتشكيل ،ففي بعض النصوص يأتي خيال الشاعر مكثفًا وفي بعضها شفافًا وفي بعضها واضحًا ال أثر للرمز فيه ،وهذه هي إحدى مهارات الشاعر في كيفية تركيب نصوصه المتصلة بالكوالج ،وثمة انتقال مباغت من المعنى الشائع للنص إلى المعنى المتواري خلف الداللة أو المتزامن معه ،وهنا ينقلنا الشاعر أيضًا عبر نقطة قائمة بين عالم المعنى األول الذي يمثله النص الشعري وعالم المعنى الثاني المتمثل بالكوالج ،لكن عبر وسيط حسي يتصل بشكل مباشر مع مخيلة المتلقي وخيال الشاعر .
الشاعر خاسر لنفهم السبب ،نحتاج تعابير أخرى بدونها ليس الشاعر إال واحداً من حشدٍ يتعثرُ بين قوارب صالح فائق -من مجموعة ( أعوام ) 3991
35
فضاء اللغة الشعرية
36
من البديهي أن اللغة إرث إنساني مشترك ،وأن نصيب الشاعر منها يتحدد وفق اطالعه على دالالتها وتأمله لبنيتها وتضاريسها ومعرفته بمنعرجاتها ،فالشعراء ال يتمايزون باللغة نفسها بل بتقنيات استخدامها وتوظيفها في سياقات جمالية وصور فنية مغايرة ،كما أن اللغة الشعرية المغايرة ترتبط بمنابع معرفية متصلة بتجربة الشاعر وثقافته مثلما تُشكل األفق الفني لصوره ومخيلته ومنابع تجاربه أيضًا وقد تتسرب من تلك المنابع ،في أغلب األحيان ،الصورة الشعرية المتصلة بالمشهد التجريدي المجاور لالنطباع الذهني المجرد . ال يخفى ،على القارئ ،أن النسيج اللغوي للنص الشعري أو الجملة والمقطع الذي يكتبه الشاعر يستدعي عناية فنية بين السياقات المتداخلة والتناظرات والتقارب بين التداخالت الجمالية للغة ،إذ يتكئ الشاعر على صيغ لغوية ،أقرب إلى الغرابة منها إلى البساطة ،قوامها تعارضات شفافة متصلة بالحياة اليومية، من هنا أيضًا تأتي اللغة لتعبر عن رؤيا الشاعر الرائي الذي يدون مشاهداته اليومية بمهارة شعرية وتكون كما تريدها الحقيقة الشعرية المغايرة، 37
ويمكننا القول كذلك :الشاعر كون ال تخوم له تنبت في مخيلته االلفاظ مثلما األشجار وتتقاطع في مفرداته المخلوقات المتنوعة والعوالم المختلفة مثلما يلغي المسافة بين المعنى والداللة أو بين بداية النص ونهايته . أسس صالح لغته الشعرية الخاصة ،وخصوصيته اللغوية تأتي من حالة التقمص اللغوي الذي يمارسه الشاعر بطريقة االستئناف للغة شعرية أخرى تبعث في نص شعري الحق والتقمص ،المشار إليه ،هو نوع من الضمان لعملية االنبعاث اللغوي الذي يترجم التجربة ويُشير ،بشكل رمزي ،إلى خصوصية الكتابة الشعرية بكل تحوالتها اللغوية والفنية والرمزية .
38
لغته أيضًا متعددة المستويات، تحريضية ومتجاوزة أو رومانسية أحيانًا وتأملية ،ثمة نصوص شعرية تبدو لغتها مغلقة تدور حول نفسها مشدودة إلى بداية ونهاية ،تلبيان شهوة القارئ في أن يكون ناطقًا شعريًا بآمال الشاعر نفسه ،وثمة نصوص نتلمس في لغتها مرارة الفقد والنفي واالغتراب .
39
وأخيرًا ،اللغة وحدها ليست مقياسًا لفهم النص الشعري ،اللغة تحتاج إلى حدس نقدي وهو عمل العقل النقدي وتجربته مع النصوص ،وهو دور المخيلة النقدية أيضًا وطريقتها في االلتقاط والبحث ،وهكذا يكاد خطاب العقل النقدي أن يحوّل الشعري إلى الطبيعي واإلنساني واليومي ويرد الداللة إلى المعنى ويبلور فهمًا جماليًا يجعل من كل إنجاز شعري طبيعي وإنساني ،وكوني أيضًا .
هذا الشاللُ هدية إلى محيط أمواجه تندفع نحو بركان ،حيث غرفتي صالح فائق -من مجموعة ( ومضات ) -الفيليبين2132 -
40
اللغة الالمرئية :لغة في اللغة
41
أترانا ،في القراءة النقدية ،نبالغ بالقول إذ نعرض لهاجس شعري ـ فني مغاير في خطاب صالح فائق الشعري ،في وقت يواجه الشعر اثباتًا واتصاال ً لوجوده الرمزي في فن الكوالج ،لقد عرضنا في قراءة سابقة رأينا الذي يؤكد هذا االتصال الجمالي المشترك بين الشعر والكوالج فال نحتاج إلى تكرار ما قلناه، لكن قد ينطوي التكرار على إضافة ما تقوم في نزعة ذاتية وشعرية وجمالية قد توحّد على نحوٍ كبير وغير مفتعل بين هاجس النص الشعري وبين رمزية الكوالج ،فنرى المعنى في النص مثلما نتلمسه في الكوالج .والحق ،أننا لم نفتعل هذا الهاجس أو االتصال افتعاال ً ولم نحمل النص الشعري على قول ما لم يقله الكوالج ،في مضمونه ورموزه أو لغته الالمرئية أو بتعبير الفرنسي لوكليزيو "لغة في اللغة" ،ومع ذلك فأننا ال ننفي أن ليس هناك من انفصال ال حق بين هاجسنا النقدي وهاجس النص الشعري المتصل بالكوالج، 42
وليس أمر كهذا محض مصادفة أو محاولة شعرية تجريبية عابرة ،أنه هاجس المغايرة والتجريب والتجدد الذي عودنا عليه الشاعر ،وآية ذلك نصوصه المتواصلة في حفر المعنى وترويض الداللة والتعاطي مع الكوالج، وقد انصبّ جهد الشاعر على وعي هذه التفاصيل المشتركة ،المعنى والداللة والكوالج، بأشكال متعددة سواء أكان نصًا شعريًا مطعمًا بالكوالج أو كوالجًا مطعمًا بالمعاني ومندمجًا بالداللة، 43
44
ويمكن اإلشارة لبعض عناوين هذه الكوالجات في مجموعته الشعرية (أحالم ومقاطعات) الصادرة عام 8711في لندن: ()knowing better and doing worse ()new chairman ()Europe and the Middel East ()The Devince comedy
إضافة لكوالجات تحتوي على قفص للعصافير وهيكل عظمي وطفل صغير يفترش األرض، أفعى وامرأة بجناحين ورجل بالزي العربي التقليدي وتلسكوب وعربة قديمة من القرون الماضية نساء عربيات بزي محلي وبرج ايفل وامرأة تحمل على رأسها ماكنة خياطة منزلية 45
وحصان وصبي يحمل فأسًا مرآة يتوسطها خفاش ويحملها طفالن ،فيله وحصان يسقط من السماء وآخر يجلس القرفصاء ،وكوالج يجمع بين الشاعر صالح فائق وهو يشرب العصير وشخصيات قديمة تشبه ابن الهيثم والفارابي وابن رشد ،وهناك كوالج يحمل الكثير من اإلشارات وهو عبارة عن لوحة العشاء األخير لإليطالي دافنشي المرسومة سنة 8171م وثمة جموع من البشر متراصفة خلف اللوحة بمالبس عربية ،إضافة لكوالج عبارة عن عنبر أو مختبر كبير للهياكل العظمية مع الكثير من البشر الموزعين على اكثر من جانب والذين يحيطون بهذه الهياكل العظيمة وقد كتب تحت هذا الكوالج عبارة.)ministry of defence( : الكوالج ،كما يبدو للقراءة النقدية ،بوصفه فنًا متصال ً بالمعنى هو الذي يفسّر لنا طبي عة االتصال به لغويًا وفنيًا ،كما يفسّر لنا هذا االتصال بصيغة خطاب شعري يخف لتغيير العالم أو البحث عن المعنى وليس فهمه وحسب، 46
ولعمري أن هاجس الشعر الذي يتصل بفن الكوالج على هذا النحو الذي نلمسه في أعمال صالح فائق هو ذاته الذي وحّد على نحو كبير بين النص والكوالج فتحرر األخير من الشبهة التي ألصقها البعض ،من النقاد ،به أال وهي شبهة اإلقامة في السياسي .ثمة وشائج قائمة بين النص الشعري والكوالج تنم عن إفرازات داللية وجمالية وفنية ،بل وتجعل النص الشعري ككل إيقونًا مرتبطًا باستدراجات يتحكم فيها فن الكوالج الذي يوجه المعنى والداللة معًا ،وهذه الوشائج تحقق التواصل واالتصال مع مفردات النص فتكون كتلة كوالجية ـ شعرية مغايرة بكل تموقعاتها الرمزية والبنيوية والبصرية .
47
هذه وصايا لشاعر محبطٍ يتنقلُ بين ماضيهِ وحاضرهِ كما بين غرفة وغرفة . ضحية اشراقات حتى أنقذه الكسلُ في فجر ورأى اليأس استعادة لشهوات الطفولة . صالح فائق -من مجموعة ( ومضات ) -الفيليبين 2132 -
48
التواصل اللغوي بين الشعر والكوالج
49
ثمة تواصل لغوي بين الشعر والكوالج ،أريد من هذا الكالم العودة للوراء كثيرًا وأعني إلى فكرة "أمين الريحاني في كتابه الصادر عن دار الريحاني عام 8791بطبعته الثانية والمعنون "أنتم الشعراء" التي مالت إلى اعتبار (الشعر تواصال ً مع الرموز والحياة والطبيعة) وأضيف رغبة في النفاذ إلى ما هو خلف مظاهر اللغة ،المتواصلة مع فن الكوالج ،الستكناه أسرارها، واللغة هنا يجب أن تالئم الحياة المعاصرة وتعبّر عن حاجاتنا الجمالية، لكي ال يحيا الشاعر أو القارئ في تناقض متصل مع حياته ورموزه س شيئًا ويقول أو يكتب شيئًا آخر . والطبيعة المحيطة به ،بمعنى آخر يح ّ إذن اللغة في نظر الشاعر هي المرجع األول ومنها تأتي المعاني والدالالت والرموز ،وألن اللغة ليست كما يقول طه حسين في حديث األربعاء( :من وحي السماء وإنما هي ظاهرة من ظواهر االجتماع اإلنساني) وأضيف أيضًا هذا االجتماع المتصل مع كل الفنون اإلنسانية وبذلك ترتبط المعاني المتناثرة في فن الكوالج باللغة الشعرية، 50
وألن اللغة ترتبط بالحياة فإن هذه المعاني تبدو ذات طابع إنساني اجتماعي مادي متغير تغيّر الحياة نفسها ومتواصال ً معها ،ومع هذه المتغيرات ،في نفس الوقت ،كما تفضي موضوعة التواصل اللغوي إلى مقاربة النص الشعري بمعنى جمالي يتصل بما يسعى إليه معنى الكوالج وإلى تأكيد حركية المعاني وتعددها واختالفها ودالالتها ،ويُفضي القول بنموذج الكوالج ،الذي يختاره الشاعر ،إلى تقريب اللغة من واقع فن الكوالج ومن واقع الحياة أيضًا وال يعود للغة ،فقط ،فضلٌّ في ابتكار المعاني ألن اللغة الشعرية في هذه الحالة مثلما هي مرهونة لصورة النموذج اللغوي الشعري ،الجمالي والفني متصلة برمزية الكوالج ومتواصلة معه .
51
هناك حفارون في جزيرة أسناني يبحثون عن علماء من قرون وسطى اختفوا بعد زالزل وأعاصير في بداية فمي صالح فائق -من مجموعة ( شاعر نائم يكتب قصيدة ) الفيليبين2132 -
52
ال شيء يقع خارج الشعر
53
54
ال بدّ لمن أراد القبض على تلك اللحظة السحرية في معنى الكوالج من استالل ذلك المعنى المتواري خلف دالالت النص الشعري ،إذن ال شيء يقع خارج النص الشعري وال شيء يفلت من قبضة الكوالج ،من هنا يمكننا القول عن رغبة الشاعر صالح فائق لتكوين صورة شعرية جديدة ،مؤطرة بالكوالج أو صورة شعرية تشبه الكوالج المنشور في الصحف والمجالت . واآلن ،من يسعه االدعاء أن الكوالج يقع خارج الشعر؟ من يسعه االدعاء أن صورة شعرية أجمل يمكن المخيلة أو الكوالج اجتراحها؟
55
هناك كوالج يظهر فيه "حصان يسقط من السماء" لحظة مرعبة في شعريتّها وفي الجهة المقابلة هناك صورة شعرية مغايرة وغريبة من نص شعري لصالح يحمل عنوان "كلبي امير ينبح" ويقول فيه( :اكيلُ شتائم ضد اغنياء وحكام هذا العالم كتمرين صباحي لفمي) صورة أكبر من الفكرة ومعنى، يتصل بالكوالج ،يضاهي الصورة ،يبدو أن الشاعر قد تعمد ،بقصدٍ أو بدونه، في وضع نصه والكوالج في كفتّي ميزان لتقدير أيهما األوزن ،جماليًا وفنيًا، لكن للقول ،في هذه التجربة الشعرية ،أن ال وجود لكوالج خارج الشعر وال لشعر خارج الكوالج .
56
أقدّمُ ما عندي هدايا إلى سكان األزقة الضيقة إلى نسر خجول إلى األبدية ألنها حرّرتني من احتكار الكالم عن المصانع و الصيادين وإلى يعسوب أرشدني إلى شاعر مكتظ بأوهام وطرقات تؤدي إلى ال مكان صالح فائق -من مجموعة ( دببه في مأتم ) 2131 57
تغيير العالم ال يكون بالتمنّي بل بالمعرفة
58
المتعة البصرية في الوقت الراهن صارت أيضًا متعة فكرية ،متعة اكتشاف الحقيقة والجمال والمعنى ،متعة ممارسة التغيير أو القدرة على التغيير ،إذن ال بدّ ألي عمل فني أدبي من إحكام الوسائل المعرفية للغاية الجمالية التي يهدف إليها ،ومهما كانت العبارة أو الصورة واللوحة والكوالجات أنيقة والوصف غنيًا بالرموز واإلشارات والمعاني والدالالت فإن ذلك ال يُمتعنا قط إن لم يكن جزءًا من كل،
59
وإن يالئم التصميم األساسي ،لمكونات الموضوع ،كي ال يفقد المعنى معناه أو الجميل جماله وينقلب إلى تشويه ،ومن هنا يؤكد الشاعر على وحدة العمل الفني والتآزر الوظيفي لكل عناصره المكوّنة والمتصلة بالنص والكوالج . أهمية هذه الكوالجات المختارة في أنها ليست مجرّد عرض واعٍ لجوانب من الفهم السياسي لحركة العالم والمجتمع والفكر بل أكثر أهميتها في انها :ممارسة تنويرية معرفية في حقل الثقافة أو الكتابة الشعرية بشكل خاص ،وانطالقًا من قضايا أو كشوفات المجتمع الثقافي الحضاري ،ذلك أن الكشوفات المعرفية ـ الحضارية المتنوعة في الثقافية العربية أو الكونية تدخل في النسيج المعرفي ـ اإلنساني العام لهذه الكوالجات المتصلة ،بدورها، 60
بالكتابة الشعرية ،إضافة إلى كون هذه الكشوفات مَعْلمًا مهمًا من معالم حركة تكوّن وتطور هذا الفهم المعرفي الجمالي لحركة الكون والمجتمع والفكر ،ثم بوصف كون تلك الكشوفات تشكل حلقات أو أمثلة متتابعة في حركة الثقافة والتحضر أو في جوهر حركية الجمال ،ولعلّ في اختيارات الشاعر صالح فائق للكوالج تتمثل بوضوح الممارسة النقدية والفهم المعرفي لهذا النوع من الفن ،وألن للشاعر موقفًا من الحياة والعالم واألفكار والصراعات الدائرة ،فقد كان يلقي األضواء واإلشارات والتهكمات ،من خالل الشعر والكوالج ،على مواقف متنوعة ،فهو في نفس الوقت ال يريد أن يعرض عليك هذا الكوالج أو ذاك وحسب بل يكشف ،من خالل اختيارات ،عن مضمون هذا الكوالج أو ذلك النص، وباألهمية نفسها يلقي األضواء على مختلف األشكال الجمالية المتصلة بالكوالج والتي تتجلى من خالل النص الشعري . 61
أنا النافخ في بوق قديم وكأني زنجي مدلل في مزرعة تتداعى صور كثيرة في رأسي أقوم ،أشدّها بسالسل من حديد. صالح فائق -من مجموعة ( دببه في مأتم ) 2131
62
63
64
2132
65