Hira Magazine 43

Page 1

‫فرسان العصر‬ ‫إنِ‬ ‫اشتعلت شمعة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فشمو ًعا أخرى تُشْ ِع ُل‪..‬‬ ‫كاألفئدة الفياضة بلدن ّية األسرار‪،‬‬ ‫بعضها يقبس من بعض‪..‬‬ ‫َ‬ ‫واألنوا َر يرسلون‪،‬‬ ‫واألرض يجوبون‪،‬‬ ‫ومكانًا مكانًا يضيئون‪..‬‬ ‫هؤالء هم فرسان العصر‪..‬‬ ‫إذا م ُّروا من مكان‪،‬‬ ‫بعثوا الحياة وأيقظوا مشاعر‬ ‫ماتت من زمن بعيد‪.‬‬ ‫***‬

‫‪Temmuz - Ağustos 2014 Sayı: 43 Fiyatı: 7,5 TL.‬‬



‫التصور العام‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ يف ما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫صاحب االمتياز‬

‫شروط النشر‬

‫املشرف العام‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال ِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة ِّ‬ ‫ً‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص‬ ‫منفصل أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬ ‫‪YEMEN‬‬ ‫مكتب حراء للنشر والتوزيع‬ ‫شارع بغداد‪ ،‬مقابل بريد بغداد‪ ،‬صنعاء ‪ -‬اليمن‬ ‫‪Phone: +967 1 214774‬‬ ‫‪Fax: +967 1 204494‬‬ ‫‪GSM: +967 736027560‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@woxmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪EGYPT‬‬ ‫‪ 37‬شارع د‪ .‬عبد الشافي محمد ‪ -‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة‪.‬‬ ‫هاتف‪+201119482609 - +201065523089 :‬‬ ‫‪hiraegypt@gmail.com‬‬ ‫‪LİBYA‬‬ ‫دار الرواد‪ ،‬ذات العماد‪ ،‬برج ‪-4‬طرابلس‪-‬ليبيا‪.‬‬ ‫هاتف‪daralrowdooks@gmail.com - 00218213350332 :‬‬ ‫هاتف‪hiralibya@gmail.com - 00218916125579 :‬‬

‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201098325549 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬ ‫‪Çağlayan Matbaası‬‬ ‫‪İzmir - Turkiye‬‬ ‫‪Tel:+90 (232) 252 20 96‬‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬


‫يبــرزون عنــد المغــارم‪ ،‬ويختفــون عنــد المغانــم‪...‬‬

‫أدوات لتنزل أقدار اهلل الرحمانية وألطافه السبحانية‪.‬‬

‫وممــا يــروى فــي هذا الســياق قــول اإلمــام علي ‪:‬‬

‫يكثــرون فــي أخاديــد التضحيــة‪ ،‬ويقلــون فــي أوديــة‬

‫"إن لكل شيء ثمرة‪ ،‬وثمرة المعروف تعجيل السراح"‪...‬‬

‫المكاســب‪ ...‬يتقدمون في زمن االنكسارات‪ ،‬ويتأخرون‬

‫اعــا للمعــروف‪ ،‬فــإن اهلل وقاهــم‬ ‫ولمــا كان هــؤالء ّ‬ ‫صن ً‬ ‫وعجــل ســراح أرواحهــم مــن أســر‬ ‫مصــارع الســوء‪ ،‬بــل ّ‬

‫‪ -11‬فرسان قيادة وكفاءة‬

‫ومجرات الفاعلية‪.‬‬ ‫ّ‬

‫بعيدا وســام ًقا‪ ،‬ومن ال يملك الزاد‬ ‫ألنــه فــي العادة يكون ً‬

‫عند مجيء االنتصارات‪.‬‬

‫األنانية وأســرار الطين‪ ،‬حيث ارتقت في آفاق اإلحســان‬

‫ال تستطيع كثير من األمم العبور إلى المستقبل المشرق‪،‬‬

‫‪ -10‬فرسان خدمة وتضحية‬

‫يعبر أو يصعد‪.‬‬ ‫والمراقي ال يمكن أن ُ‬

‫لقــد كانت الخصال التســع الســابقة مؤهــات الصطفاء‬

‫وبالنســبة لفرســان الخدمــة‪ ،‬يبدو أن الصفات العشــر‬

‫اهلل لهــم واســتخالصهم للخدمة الدانية قطوفها‪ ،‬الســائغ‬

‫السابقة هي المراقي التي اعتلوها للصعود إلى المستقبل‬

‫شرابها‪ ،‬السابغة تربيتها‪ ،‬السامقة مشاريعها‪.‬‬

‫الوضــيء‪ ،‬وال ســيما أنهــم قــد أصبحــوا ســادة فــي هــذا‬

‫وفنارا للسادرين‪،‬‬ ‫منارا للحيارى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لقد صارت الخدمة ً‬

‫عبر ُســ ّلم الخدمة كما قال‬ ‫الزمن‪ ،‬إذ ارتقوا إلى الســيادة ْ‬

‫قاربا للغرقى‪ ،‬وملجأ للمستضعفين‪ ،‬وأصبحت‬ ‫وأمســت ً‬

‫‪" :‬سيد القوم خادمهم"‪.‬‬

‫مطعمــا للجائعيــن‪ ،‬ومدرســة للجاهليــن‪،‬‬ ‫بعــد ذلــك كلــه‬ ‫ً‬

‫رأيت مهارتهم في ُمعاركة أمواج الحياة‪ ،‬أيقنت‬ ‫عندما ُ‬

‫ومصحة للسقيمين‪ ،‬وكه ًفا للملهوفين‪.‬‬

‫ويتوســلون إلى مرضاة الرب‬ ‫إلى الخالق بخدمة الخلق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫باســتلطاف المربوبيــن‪ ،‬ويتخــذون مــن خدمــة الــورى‬

‫مرقــاة للصعــود إلى فــردوس الطاعــة اإللهيــة‪ ،‬ويتعبدون‬

‫وجــدت ربيعهم دعوة‪،‬‬ ‫اهلل بتقديــم عونهــم للعبيــد‪ ...‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫وصيفهــم منجزات‪ ،‬وخريفهم توبة‪ ،‬وشــتاءهم متعة ببرد‬ ‫الرضــا عــن أقــدار اهلل التــي اصطفتهــم تشــري ًفا وتكلي ًفــا‪،‬‬

‫غزل‬ ‫ومــا زالــوا في هذا الدرب ســائرين حيث يجــددون ْ‬ ‫األفــكار ويجيــدون نحــت األفعــال‪ ،‬يجــودون بكريــم‬

‫األموال ويســتجدون تقديم أطيب الخدمات‪ ،‬وال يبالون‬ ‫بما يكرعون في هذا الطريق من تضحيات‪ ،‬كأن الشــاعر‬ ‫العربي القديم قد عناهم بقوله‪:‬‬

‫إن أخا الهيجاء من يسعى معك‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫عرفت مــن أبنــاء الخدمــة يزدلفون‬ ‫وجــدت مــن‬ ‫لقــد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫بــأن أمتنــا بــدأت بامتالك قنطرة العبور إلى المســتقبل‪ ،‬إذ‬ ‫يتميزون بأنهم في ابتالء النقم يصبرون وفي ابتالء النعم‬

‫يشــكرون‪ ،‬ومــن هــذا وذاك تتكــون المــادة التــي ُتصنــع‬

‫منها جســور العبور اآلمن إلى المســتقبل المشــرق حيث‬

‫االستخالف الكريم والتمكين المكين‪.‬‬

‫مصباحا لتبديــد دياجير التخ ّلف‬ ‫لقــد جعلوا الخدمــة‬ ‫ً‬

‫ال لجلب فراش السرور‪ ،‬وجعلوها مغال ًقا للشرور‬ ‫وقندي ً‬

‫ومهلكــة لآلثــام‪ ،‬ومحرقــة للكبائــر‪ ،‬حيــث ُتشــيع قيــم‬

‫شع بشموع العطاء‬ ‫اإلنصاف‬ ‫ّ‬ ‫وتجتث أشواك الفجور‪ ،‬و ُت ّ‬

‫وصنائــع المعروف‪ ،‬وتضيء بفضــل مواقد الخير وأنوار‬

‫المعرفة وبدور العرفان‪.‬‬

‫وبالجملــة فــإن أبنــاء الخدمــة هــم مــن فرســان أمتنــا‬

‫الذين ســيعبرون بها من مرحلة التيه الحالك إلى مراحلة‬

‫ ‬

‫يضــر نفـــسه لينفعــك‬ ‫ومــــن‬ ‫ّ‬

‫الفرقــان النورانــي‪ ،‬ومن مربع الغثائية الســوداء إلى دائرة‬

‫ ‬

‫شتت فيك شمله ليجمعك‬

‫اختيــارا‬ ‫بفروســيتهم‪ ،‬فــإن اختبــارك إياهــم ال يزيــدك إال‬ ‫ً‬

‫ومن إذا ريب الزمان صدعك‬

‫ويقفــون فــي الخلف‪ ،‬فهم عند بذر األســباب في األمام‪،‬‬

‫وعنــد حصــد النتائــج في الــوراء الخلــف‪ ،‬يتزاحمون في‬ ‫"المبادارت"‪ ،‬ويتسللون لوا ًذا من أمام "البيادر"‪.‬‬

‫لهم‪ ،‬إذ في أيديهم تسكين للروعات وفي قلوبهم تسكن‬

‫الروائع‪.‬‬

‫(*) أستاذ الفكر اإلسالمي السياسي بجامعة تعز ‪ /‬اليمن‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫إنهم دائمو الدأب لجعل وطنهم وأمتهم في المقدمة‬

‫الفاعليــة البيضــاء‪ ،‬وإن معرفتي بنمــاذج منهم تعطيني ثقة‬

‫‪63‬‬


‫وعــن رد اإلشــراق إلــى وجوههــم الكســيفة‪ ،‬وإعــادة‬ ‫االســتقامة إلــى أجســامهم الكســيحة‪ ...‬وال يتعبــون‬ ‫مــن العمــل مــن أجــل رد األمــر إلى نصابــه‪،‬‬ ‫والحــق إلى‬ ‫ِّ‬ ‫أصحابــه‪ ،‬ومــن إعــادة المياه إلــى مجاريها‪ ،‬والســفن إلى‬ ‫مراسيها‪ ،‬والطيور إلى أعشاشها‪.‬‬

‫ويجدون باإلنجازات‪.‬‬ ‫بالشعارات‬ ‫ّ‬

‫يعظــون النــاس بأحوالهــم ال بأقوالهــم‪،‬‬ ‫ويربوهنــم‬ ‫ّ‬

‫بأفعالهــم ال بأفكارهــم‪ ،‬ويخدمونهــم بمشــاريعهم ال‬ ‫بشعاراتهم‪.‬‬

‫يصنعــون الخطــط‪ ،‬وينســجون البرامــج‪ ،‬ويتســلحون‬

‫بعيــدا عــن التــواكل األجــوف‬ ‫باألســباب والوســائل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واألماني الفارغة واألحالم الحمقاء‪ ،‬وكأن لسان حالهم‬

‫‪ -7‬فرسان عطاء ومعروف‬

‫‪62‬‬

‫يقول ما قاله الشاعر العربي‪:‬‬ ‫لسنا وإن أحسابنا كرمت‬

‫ ‬

‫نبنــي كـما كــانت أوائلـــنا‬

‫ ‬

‫يوما على األحساب نتكل‬ ‫ً‬ ‫تبني ونفعل مثل ما فعلـــوا‬

‫عم ّليــون من طــراز رفيع‪ ،‬فإنهــم ال يهذرون‬ ‫وألنهــم َ‬

‫فــي الــكالم‪ ،‬وال يســفون فــي الخصــام‪ ،‬وال يتأثــرون‬ ‫بالسفاســف‪ ،‬وال ينقــادون للرعــاع‪ ،‬وال يهتمــون بســقط‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫يضعــون ا ُ‬ ‫ألعطيــات والمِ َنن قالئد فــي أعناق الرجال‪ ،‬بل‬ ‫ويقتلون خصومهم على طريقة الخليفة العباسي المأمون‬ ‫الــذي قــال‪ :‬لقــد‬ ‫بلــوت رعيتــي بالســيف والكــرم‪ ،‬فــكان‬ ‫ُ‬ ‫الكــرم أنجع فيهــا‪ ،‬حيث يقتلونهم بالمعــروف‪ ،‬كما قال‬ ‫الشاعر العربي‪:‬‬ ‫وإذا بغى باغ عليك بجهله‬ ‫فاقتله بالمعروف ال بالمنكر‬ ‫ ‬ ‫يؤمنــون بمــا آمــن بــه الســلف‪ ،‬حيــث يــرون أن منــع‬ ‫الموجود سوء ظن بالمعبود‪ ،‬وبعطائهم يصونون أعراض‬ ‫ِ‬ ‫الكرام‪ ،‬ويحمون أعراضهم من اللئام‪.‬‬

‫المتاع‪ ،‬وال يقفون عند توافه األمور‪.‬‬

‫يكثــرون مــن النــوال بــدون ســؤال‪ ،‬بــل يعطــون‬ ‫ويشــكرون‪ ،‬ولهــذا فــإن اهلل يزيدهــم على الشــكر اللفظي‬ ‫والشــكر العملــي‪ ،‬ولذلــك تراهــم فــي ازديــاد متعاظــم‬ ‫وتوسع مستمر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويصح فيهم قول عاصم بن وائل‪:‬‬ ‫وإنا لنقري الضيف قبل نزوله‬ ‫ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك‬ ‫ ‬ ‫ويبــدون مبتســمين وهــم يعطــون‪ ،‬ألنهــم يتلــذذون‬ ‫بصناعــة المعــروف وبــذل الخير حتى يصــح أن يقال في‬ ‫"ابن الخدمة" ما قاله زهير‪:‬‬ ‫ال‬ ‫تراه إذا ما جئته متهل ً‬ ‫ألنك تعطيه الذي أنت سائله‬ ‫ ‬ ‫ُيشعرونك أنهم إخوانك الذين لم تلدهم أمك وأنك‬ ‫أنــت الــذي أعطيتهم‪ ،‬ذلك أنهم دائمو البحث عن األجر‬ ‫ال عن الشكر‪.‬‬ ‫وبجملــة واحــدة في هــذه الخصلة‪ ،‬فإنهــم يحرصون‬ ‫على أخذ المال من الحالل وصرفه في النوال‪.‬‬

‫الــدروب‪ ،‬ويحاكمــون الخطــوب‪ ،‬ويحاربــون الحروب‪.‬‬

‫ويكثــرون مــن األفعــال‪ ،‬يبخلــون‬ ‫يقللــون مــن األقــوال ُ‬

‫أحبــوا اهلل بســببهم‪ ،‬فقــد ربحــوا أنفســهم حيــث صــاروا‬

‫‪ -8‬فرسان عمل وإنجاز‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪ -9‬فرسان إحسان وفاعلية‬

‫ال يمكــن أن تــرى اب ًنــا للخدمــة يتيه في قفار الســلبية‪ ،‬بل‬

‫في أودية اإليجابية تراهم يزرعون‪ ،‬وفي سهوب الفاعلية‬

‫تجدهــم يصنعون‪ ،‬وفي ســهول الحركيــة تجدهم يغزلون‬ ‫خيوط الشمس‪ ،‬حيث المجد القادم والتمكين المنشود‪.‬‬ ‫ال يبخلــون بخدمتهــم‪ ،‬وال يمنعــون رفدهــم‪ ،‬وال‬

‫ِ‬ ‫يمنــون بإحســانهم‪ُ ...‬يفرجــون‬ ‫يضنــون بمعروفهــم‪ ،‬وال ّ‬ ‫الكــروب ويبــردون غليــل القلــوب‪ ...‬يحاربــون النوائب‬

‫ويهــدون‬ ‫ويجابهــون المصائــب‪ُ ...‬يشــبعون الجائعيــن‪ُ ،‬‬ ‫الحيــارى الضائعيــن‪ ،‬ويــردون الشــاردين الزائغيــن‪...‬‬ ‫يقيمون موازين العدل ويكثرون من مواسم البذل‪.‬‬

‫لقــد نجح هؤالء الفرســان فــي تحبيب اهلل إلى الكثير‬

‫مــن خلقه‪ ،‬كما قــال حكيم الصحابة أبو الدرداء ‪" :‬إن‬

‫أحب عباد اهلل إلى اهلل‪ ،‬الذين يحببون اهلل تعالى إلى عباده‪،‬‬ ‫نصحا"‪ ...‬وكيــف ال يحب الناس‬ ‫ويعملــون فــي األرض‬ ‫ً‬

‫ربهم؟ وهؤالء باسمه تعالى يكشفون الكروب‪ ،‬ويضيؤون‬ ‫وقبل أن يربح "أبناء الخدمة" كل أولئك الناس الذين‬


‫ويمتطــون مراكــب التقــوى فــي عروجهــم نحــو الســماء‪،‬‬ ‫وذلك بمزيد من االلتحام مع أهل األرض‪.‬‬ ‫اعتقادهــم أمــل‪ ،‬وشــكرهم عمــل‪ ،‬متأســين بــآل‬ ‫ود‬ ‫‪‬اع َم ُلــوا َ‬ ‫آل َد ُاو َ‬ ‫داوود الذيــن قــال المولــى ‪ ‬لهــم‪ْ :‬‬ ‫ُش ْك ًرا‪(‬سبأ‪.)13:‬‬ ‫يجــري "الطائــف" منهــم فــي أصقــاع األرض‬ ‫خادما‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فيثيبه اهلل بالكثير من "اللطائف"‪.‬‬ ‫ومــن ذلــك أنهم ال تتشــابه عليهــم البقــر‪ ،‬وال تلتبس‬ ‫عليهم السبل‪ ،‬وال تتيه بهم المسالك‪ ،‬وال تعجزهم كثرة‬ ‫المسائل‪.‬‬

‫‪ -4‬فرسان فضائل وأخالق‬

‫فضائلهــم كثيــرة ووســائلهم عفيفــة‪ ...‬ال يغرقــون فــي‬ ‫مستنقع السياسة وال يتسلقون سلّم الرياسة‪.‬‬

‫ينتمــون إلــى الفضائــل ال إلــى الفصائــل‪ ،‬وينحدرون‬

‫مــن األدب ال مــن الحســب‪ ،‬وينتســبون إلــى المــكارم ال‬ ‫إلى الكرام‪ ،‬ويتسابقون في اتباع األسباب ال األنساب‪.‬‬

‫إنهــم كريمــو الخصــال‪ ،‬طيبــوا الوصــال‪ ،‬يكتفــون‬

‫يس ُــعون الناس بأخالقهم‬ ‫بالكفاف‪ ،‬ويتجملون بالعفاف‪َ ،‬‬ ‫يس ُعوهم بأموالهم‪.‬‬ ‫ويحاولون أن َ‬

‫وبالجملة فإن الفضيلة فرس جموح كما قال الدكتور‬

‫‪ -2‬فرسان حكمة وسداد‬

‫‪ -3‬فرسان تسامح وائتالف‬

‫بجدارة عالية‪.‬‬

‫‪ -5‬فرسان حب وصفاء‬

‫قديما‪" :‬ال يتصرف مع القلوب تصرف‬ ‫لقد قالت العرب ً‬ ‫الســحاب مــع الجنوب"‪ ،‬حيث كانت ومــا تزال األمطار‬ ‫تهطــل غزيــرة في جنوب الجزيــرة أي اليمن‪ ،‬وهكذا هم‬

‫أبناء الخدمة‪ ،‬إذ إن قلوبهم ســحاب هطال‪ ،‬ومشــاعرهم‬ ‫غيث مدرار‪ ،‬وما فتئت أفئدتهم ترعد وأيديهم تمطر‪.‬‬

‫بصفــاء قلوبهــم يعالجــون أكــدار النــاس‪ ،‬وبحــاوة‬

‫كالمهــم يواجهــون مــرارات الخلــق‪ ،‬وبأنــوار عقولهــم‬ ‫ينازلــون كلمــات الحيــاة‪ ،‬وبأيديهــم الطويلــة يعمــرون‬

‫أقاصي األرض وأغوار الحياة‪.‬‬

‫ال يتربصــون بكائــن الدوائــر‪ ،‬وال يتمنــون ألحــد‬

‫الغوائل‪ ،‬وال يضمرون لشخص العداوات‪ ،‬وال ينسجون‬

‫إلنسان الحبائل‪.‬‬

‫‪ -6‬فرسان عدل واستقامة‬

‫إنهــم قائمــون بالحــق‪ ،‬قوامــون بالقســط‪ ،‬مســتقيمون في‬ ‫أبــواب الحقيقــة‪ ...‬تجدهــم دائمــي االســتقامة‪ ،‬ألنهــم‬

‫الكيس الفارغ فإنه ال يستقيم‪.‬‬ ‫مملوؤون صد ًقا وعدالً‪ ،‬أما ّ‬ ‫يعشــقون اإلنصــاف‪ ،‬ويرفعــون عــن‬ ‫المســتضعفين‬ ‫َ‬

‫اإلجحــاف‪ ،‬يحاربــون الجــوع والخضــوع‪ ...‬ال ينصرون‬

‫الظلوم وال يخذلون المظلوم‪.‬‬ ‫َّ‬

‫ال يك ّفون عن كفكفة دموع المظلومين والمحرومين‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫الخلل‪ ...‬يقيلون‬ ‫الخلل‪ ،‬ويصلحون َ‬ ‫لقد رأيتهم يســدون ُ‬ ‫العثــرات‪ ،‬ويغفــرون الــزالت‪ ،‬ويســترون العــورات‪...‬‬ ‫يغضــون الطــرف‪ ،‬ويبحثــون عــن األعــذار‪ ...‬يقللــون‬ ‫ويندرون اللوم‪.‬‬ ‫العتاب‪ُ ،‬‬ ‫ال يقطعون الحبال‪ ،‬وال َي ُح ّلون العرى‪ ،‬وال يصرمون‬ ‫العالئــق‪ ،‬وال يفصمــون األواصر‪ ،‬يرتــدون أردية الحلم‪،‬‬ ‫ويأتــزرون بمــآزر العفو‪ ،‬ويضعون على رؤوســهم عمائم‬ ‫الكرم‪ ،‬وعلى العموم فإنهم يلبسون ألبسة التقوى‪.‬‬

‫براعتهم ومهارتهم‪ ،‬حيث نجحوا في امتطاء هذا الحصان‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أقوالهــم نبــات تفكير‪ ،‬وأفعالهم تخــرج من رحم التدبير‪،‬‬ ‫رأيتهم قليلي الكالم ويبدو أن مقولة اإلمام علي كرم اهلل‬ ‫وجهــه "إذا تــم الفعل نقص الكالم" تنطبق عليهم‪ ،‬وتبدو‬ ‫قلــة كالمهــم من كثرة فعالهم‪ ،‬ألن اإلنــاء الممتلئ أخف‬ ‫صوتــا مــن اإلناء الفــارغ‪ ،‬والعربة الممتلئــة أقل جلبة من‬ ‫العربة الفارغة‪.‬‬ ‫وألنهــم قليلــو كالم فــإن أخطاءهــم أقــل‪ ،‬وســدادهم‬ ‫أكثــر‪ ،‬إذ إن عقولهــم راجحــة وأفكارهــم راقيــة‪ ،‬ولهــذا‬ ‫دوما أسهمهم غير طائشة بل رابحة‪.‬‬ ‫ظلت ً‬ ‫لقــد عرفوا بإحســان التدبير وتجفيــف منابع الحماقة‬ ‫والتدميــر‪ ،‬وألنهــم فرســان فإنهــم ال يكفــون عــن ركوب‬ ‫أحصنــة "التأنــي" وال يدخلون حصون "التواني"‪ ،‬إذ إنهم‬ ‫يتأنون في نيل األماني وال يتوانون عنها‪.‬‬ ‫ومــن مفــردات حكمتهــم وســدادهم أنهــم يعالجــون‬ ‫ندوب االفتقار‪ ،‬وأدواء الجهاالت‪ ،‬وآثار العثار‪.‬‬

‫مصطفى الســباعي رحمه اهلل‪ ،‬لكن فرســان الخدمة أثبتوا‬

‫‪61‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬فؤاد البنا*‬

‫فرسان "الخدمة"‬

‫وفيالق العبور إىل النور‬ ‫نتيجــة تأهيــل ربانــي وتأديــب رحمانــي‬

‫فــي عالــم الغيب‪ ،‬وبســبب امتالك بعض‬ ‫النــوادر مــن عمالقــة الزمــان لكثيــر مــن‬

‫الخبايا البشــرية والعطايا الســبحانية‪ ،‬ونتيجة لتفعيل سائر‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫المنــح والمواهــب فــي طريــق اإلصــاح الشــامل الــذي‬

‫‪60‬‬

‫يخدم الخلق ويرضي الحق‪ ،‬فإن اهلل ييســرهم لما خلقوا‬ ‫له‪ ،‬واهلل أعلم حيث يجعل رسالته‪.‬‬

‫وال شــك أن مــن هــؤالء‪ ،‬األســتاذ فتــح اهلل كولــن‬

‫ال من خــال تيار كبير‬ ‫الــذي أحــدث فــي تركيا‬ ‫تغييرا هائ ً‬ ‫ً‬

‫أوجــده بنعمــة اهلل عليه وهو "تيــار الخدمة" الذي بدأ منذ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫عقدين بالســير في جنبــات األرض‪ ،‬لينير األنفاس الطيبة‬ ‫من‪،‬‬ ‫والنفائس الكريمة‪ ،‬وليوزع الخدمات الجليلة بدون ّ‬ ‫ويشــيع مشــاعر اإلســام بدون شــعارات بعــد عقود من‬ ‫الكد الكادح داخل حدود تركيا العزيزة‪.‬‬ ‫ذهبيــا ُحــق لــه أن ُيفاخــر بــه الدنيا‪،‬‬ ‫لقــد أوجــد جيــ ً‬ ‫ا ًّ‬ ‫فإن عامته من الرواحل ومن الفرســان؛ فرســان "الخدمة"‬ ‫الذين وصلوا إلى هذا المرتقى الصعب بمؤهالت كثيرة‪،‬‬ ‫إذ إن أكثرهم فرسان في كافة الجيهات واالتجاهات‪:‬‬

‫‪ -1‬فرسان استنارة وعرفان‬

‫فهــم يتبعــون طريق الهــدى‪ ،‬ويتجافون عن ُســبل الهوى‪،‬‬


‫انقساما وتجزئة زادا من وهنها وضعفها‪ .‬ومرد ذلك كله‬ ‫ً‬

‫فــي تقديرنــا‪ -‬إلى إخطاء هــذه الحركات منهــج التغيير‬‫السنني الذي دلت عليه اآليات واألحاديث سالفة الذكر‪.‬‬ ‫حماســيا كمــا يعتقــد‬ ‫خطابــا‬ ‫فالتغييــر ليــس دعــوة أو‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫تركيبا‬ ‫الكثيرون‪ ،‬بل هو عمل تتركب فيه عناصر وأجزاء‬ ‫ً‬ ‫دقي ًقا‪ ،‬إذا ما ُأحسن أعطى أكله وثماره‪ ،‬وإذا ما أسيء لم‬

‫هدرا للجهد والوقت‪.‬‬ ‫يعط ً‬ ‫شيئا وكان ً‬

‫وعدما مع‬ ‫وجــودا‬ ‫• فــإذا كان التغييــر الســنني يــدور‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ووعيا‪ -‬فــإن التغيير‬ ‫فكــرا‬ ‫صــاح النفــس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عقــا ً‬‫وقلبــا‪ً ،‬‬ ‫الالســنني يتعلــق بظواهــر األشــياء قبــل بواطنهــا‪ ،‬وبعالم‬

‫األشياء قبل عالم األفكار‪.‬‬

‫• وإذا كان التغييــر الســنني يراعــي مراتــب األصــول‬

‫تبعا‬ ‫والفــروع‪ ،‬يقيــم األولــى قبــل الثانيــة‪ ،‬ويجعل الثانيــة ً‬ ‫لهــا‪ ،‬ويحــدد اختصاصــات التغييــر ومجاالتــه وأصولــه‬ ‫ورجاالتــه‪ ،‬فــإن التغييــر الالســنني يخلــط بيــن ذلــك كله‬ ‫فيقــدم الفــروع علــى أصولهــا ويجعلهــا حاكمــة عليهــا‪،‬‬

‫ويتصدى له من ليس له بأهل‪.‬‬

‫• وإذا كان التغييــر الســنني يؤمــن بالمرحلية والتدرج‬

‫معيــن فــي الخطــاب والتواصــل‪ ،‬فــإن التغييــر‬ ‫وأســلوب ّ‬ ‫الالســنني ينــزع إلــى الطفــرة والتســرع واالســتعجال‪،‬‬

‫بأســلوب فيه مــن القطيعة والغلظة والجفــاء أكثر مما فيه‬ ‫من التواصل والرفق واللين‪.‬‬

‫• وإذا كان التغييــر الســنني ينحــو إلــى إحــال األمــن‬

‫واإليمــان حيث ُي َم ّكــن للعمران‪ ،‬ومن ثم فهو أجنح إلى‬ ‫السلم منه إلى الفوضى‪ ،‬فإن التغيير الالسنني أجنح إلى‬

‫الصدام والنزاع حيث ال أمن وال إيمان وبالتالي ال عمران‪.‬‬ ‫آخــرا‪ ،‬فالتغيير الســنني وعي وعلم‬ ‫وأخيــرا وليــس‬ ‫•‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ظنا‪ ،‬له أصوله ونظامــه ومفاهيمه ومناهجه وقيمه‬ ‫وليــس ًّ‬

‫وأخالقــه‪ ،‬منطلقــة العلــم والمعرفــة‪ ،‬والتغييــر الالســنني‬ ‫إخالل بموجبات ومقتضيات ذلك كله‪.‬‬

‫(*) جامعة السلطان موالي سليمان‪ ،‬كلية اآلداب‪ ،‬بني مالل ‪ /‬المغرب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪59‬‬

‫الفراغ الرهيب‬ ‫أي ٍد نحو الفراغات ممدودة‪،‬‬ ‫وعقول حولها مشدودة‪..‬‬ ‫"ال َّاليش َء" تريد‪،‬‬ ‫وبال َو ْه ِم ترغب‪..‬‬ ‫ما أضيع ما تتعب‪،‬‬ ‫أخيب الذي إليه تتوجه‪..‬‬ ‫وما َ‬ ‫أيتها األيدي‪..‬‬ ‫َو ّحدي وال تكرثي‪..‬‬ ‫وإىل الواحد األحد انظري‪..‬‬ ‫***‬


‫ينــدرج فيهــا كل خطــاب وارد عــن اإلصــاح واإلحيــاء‬

‫والم َبصــر بحقيقــة األمــور‪،‬‬ ‫أمرا‬ ‫ُ‬ ‫والمعرف بحكم الشــرع ً‬ ‫َّ‬ ‫ونهيــا‪ ،‬والمقنــع باألدلــة والحجــج الشــاهدة‪ .‬والتغييــر‬ ‫ً‬ ‫بالقلب فموكول إلى العامة ممن ليســت لهم قوة اللســان‬

‫مراد مضموم إلى معاني التغيير ودالالته الواسعة‪.‬‬

‫التطبع به أو االستئناس به عند‬ ‫مع المنكر والفساد ومن‬ ‫ّ‬

‫والهداية واالســتقامة‪ ،‬وقبل ذلك اإليمان والتقوى‪ .‬فكل‬ ‫مــا يســهم فــي تغييــر النفس من حــال المعصيــة إلى حال‬

‫أو قوة السلطان‪ ،‬لكن لهم أن يمنعوا أنفسهم من التطبيع‬

‫الطاعــة‪ ،‬ومــن حــال االنحــراف إلى حــال االســتقامة هو‬

‫شــوه‪ .‬فحالــة اإلنكار هنــا‪ ،‬تعني جاهزيــة النفس الدائمة‬ ‫ُف ّ‬

‫من معاني التغيير في السنة والسيرة النبوية‬

‫لرفض المنكر واالتجاه إلى المعروف‪.‬‬

‫إجمال‪ ،‬السيرة النبوية من أولها إلى آخرها‪ ،‬أي منذ بعثة‬ ‫ً‬

‫وهذه المراتب واالختصاصات ليست تفاضلية وإنما‬

‫الرســول ‪ ‬إلى وفاته‪ ،‬كلها حركة ومدرســة في التغيير‪،‬‬

‫تكامليــة‪ ،‬فكلهــا مطلوبــة فــي اآلن نفســه‪ ،‬يشــتغل بعضها‬

‫بأحداثهــا الكبــرى العامة وبأحداثها الصغــرى التفصيلية‪،‬‬

‫إزاء بعــض لتثمــر حركــة إيجابية في واقــع األمة‪ .‬وهدي‬

‫مــن تقويم األنفــس وهدايتها إلى بناء الجماعة ولحمتها‪،‬‬

‫القرآن في التغيير هو المنهج النبوي فيه كذلك قائم على‬

‫ممــا يتوجــب استكشــاف المزيــد مــن دالالتــه وعبــره‬

‫الحكمــة‪ ،‬وعلى الموعظة الحســنة‪ ،‬وعلــى الجدال بالتي‬

‫ودروسه‪ ،‬ومثل ذلك سنته ‪ ‬بيا ًنا لما أنزل إقامة للوحي‬

‫هــي أحســن‪ ،‬وعلــى ليــن الجانــب‪ ...‬ومــا إلى ذلــك مما‬

‫وتقويما للعادات السائدة‪.‬‬ ‫ً‬

‫تميل وتنجذب إليه األنفس وتتهيأ للسماع واالقتناع‪.‬‬

‫ومــن أحاديــث البــاب فــي التغييــر حديث أبي ســعيد‬

‫نجــد في الســنة كذلك أحاديث تــدل على التغيير من‬

‫منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم‬ ‫الخدري ‪" :‬من رأى منكم‬ ‫ً‬ ‫اإليمــان" (رواه البخــاري)‪ .‬وكمــا هــو واضــح فــي الحديــث‪،‬‬ ‫هنالــك مراتب فــي التغييــر‪ ،‬ومســؤوليات واختصاصات‬ ‫معتبــرة كي يتحقق التغييــر بمقصده ويثمر الثمار المرجو‬

‫منه‪ ،‬وإال فإن الخلط بينها أو تجاوز حدودها المرســومة‬

‫أضــرارا ومنكــرات أســوأ‪ ،‬وســيصادم روح‬ ‫لهــا‪ ،‬ســينتج‬ ‫ً‬

‫وجوهــر التغييــر نفســه‪ .‬ومــن أقــوال العلماء فــي ذلك أن‬

‫ولي األمر‬ ‫التغييــر باليــد موكــول إلى الحاكم والســلطان‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الــذي بيــده إجراء العقوبــات والتعزيــرات‪ .‬إذ لو غير كل‬ ‫أحــد أو جماعــة باليــد‪ ،‬ســواء تحققــوا مــن المنكــر أو لم‬ ‫يتحققوا باالعتبار الشرعي له ‪-‬ال بالظن والتوهم‪ -‬فذاك‬

‫البالء بعينه والفتنة بعينها كما هو حال األمة اليوم‪ .‬ولقد‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫شروطا في هذا المنكر منها‪:‬‬ ‫اشترط بعض العلماء‬ ‫ً‬

‫‪58‬‬

‫فيه‪.‬‬

‫مكروها أو مختل ًفا‬ ‫مجمعا عليه ال‬ ‫محرما‬ ‫• أن يكون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مستورا‪.‬‬ ‫باطنا أو‬ ‫• أن يكون‬ ‫مرئيا ال ً‬ ‫ً‬ ‫ظاهرا ًّ‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يســتطع فبلســانه‪ ،‬فــإن لم يســتطع فبقلبــه وذلك أضعف‬

‫الح َســن إلى األســوأ ومــا يترتب على ذلــك من عقوبات‬ ‫َ‬ ‫غير دينه‬ ‫حســب حجــم المخالفــة كما فــي حديث‪" :‬مــن ّ‬

‫فاضربــوا عنقــه" (رواه مالك)‪ .‬بالنســبة للخارج عن الجماعة‬

‫المفشــي ألســرارها لــدى العــدو‪ ،‬يتعلــق األمــر بالخيانــة‬

‫العظمــى كما في اصطالحنا المعاصــر‪ ،‬باعتبار الردة ردة‬ ‫سياســية أكثــر منهــا فكريــة‪ .‬كما تــدل على ذلــك روايات‬

‫أخرى للحديث كحديث‪" :‬ال يحل دم امرئ يشهد أن ال‬ ‫الثيِب الزاني‪،‬‬ ‫إله إال اهلل وأني رسول اهلل إال بإحدى ثالث‪ّ :‬‬

‫والنفــس بالنفــس‪ ،‬والتارك لدينه المفــارق للجماعة" (رواه‬

‫وهنــات‪ ،‬فمن أراد‬ ‫هنات‬ ‫مســلم)‪ ،‬وحديــث‪" :‬إنها ســتكون‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أن يفــرق أمــر هذه األمــة وهي جميع فاضربوه بالســيف‬

‫كائنا من كان" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫ً‬

‫وهنــاك حديــث الحــوض عندمــا يحال بيــن النبي ‪‬‬

‫مني"‪ ،‬فيقال‪ :‬إنك‬ ‫وبين أقوام من أمته عليه فيقول‪" :‬إنهم ّ‬

‫ال تــدري مــا أحدثــوا بعدك‪ .‬فيقول‪" :‬ســح ًقا ســح ًقا لمن‬ ‫غير بعدي" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫ّ‬

‫مقدورا على تغييره من جهة االختصاص‬ ‫• أن يكون‬ ‫ً‬

‫واقع التغيير في األمة‬

‫• أن يكون برفق وحكمة ولين وتدرج‪.‬‬

‫كثيرة‪ ،‬بعضها أفلح إلى حدود معينة‪ ،‬وبعضها أخفق ولم‬

‫خشية الوقوع في منكر أكبر منه‪.‬‬

‫ِ‬ ‫الم ْب ِصــر‬ ‫أمــا التغييــر باللســان فموكــول إلــى العالــم ُ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫قامت في األمة منذ وقت مبكر حركات تغييرية إصالحية‬ ‫يفلــح‪ ،‬وبعضهــا أفســد ولــم يصلــح وألحق بكيــان األمة‬


‫التغيري ليــس دعوة أو خطا ًبا حامســ ًّيا كام يعتقد‬

‫َو َّات َقوا َل َف َت ْح َنا َع َليهِ م َبر َك ٍ‬ ‫ات ِم َن الس َــما ِء َوا َ‬ ‫ض َو َل ِك ْن‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ون‪(‬األعراف‪ ،)96:‬وقوله‪:‬‬ ‫اه ْم ب َِما َكا ُنوا َي ْكس ُــب َ‬ ‫َك َّذ ُبوا َفأ َخ ْذ َن ُ‬ ‫الط ِري َقــ ِة َ َ‬ ‫ــاء َغ َد ًقــا‬ ‫اس َــت َق ُاموا َع َلــى َّ‬ ‫ل ْســ َق ْي َن ُ‬ ‫اه ْم َم ً‬ ‫َ‬ ‫‪‬و َأ ْن َل ِــو ْ‬

‫الكثــرون‪ ،‬بل هــو عمل ترتكب فيه عنــارص وأجزاء‬

‫تركي ًبا دقيقً ا‪ ،‬إذا ما ُأحسن أعطى أكله ومثاره‪ ،‬وإذا‬

‫ما أيسء مل يعط شي ًئا وكان هد ًرا للجهد والوقت‪.‬‬

‫‪ِ ِ‬‬ ‫ــن ِذ ْك ِــر َر ِّب ِه َي ْســ ُل ْك ُه َع َذ ًابا‬ ‫ــن ُي ْع ِــر ْ‬ ‫ض َع ْ‬ ‫ــم ِفيــ ِه َو َم ْ‬ ‫ل َن ْفت َن ُه ْ‬

‫َص َع ًدا‪(‬الجــن‪ .)17-16:‬فإقامــة ســنن اهلل الدينيــة الشــرعية‬

‫التــي هــي هدايــة الرســل والرســاالت‪ ،‬تســتتبع ضــرور ًة‬ ‫كونيــا‬ ‫إلهيــا‬ ‫قدريــا بالخيــر والبركــة‪ ،‬وتعطيلهــا‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫إنعامــا ًّ‬

‫يســتتبع عقوبات إلهية بحجم ومقدار الجحود واإلنكار‬

‫والتعطيــل‪ .‬وكل قصص األمــم الغابرة الهالكة واألخرى‬ ‫اآلمنــة المطمئنــة التي قص علينا القرآن‪ ،‬شــواهد في هذا‬ ‫أول‪.‬‬ ‫الباب‪ .‬فالبد مراعاة هذا الضابط السنني ً‬

‫أغلــب المفســرين لآلية المتقدمــة على قول إن اهلل ال‬

‫يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفســهم‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‪ ،‬أي‬ ‫من طاعة اهلل جل وعال‪ .‬وهو ما يمكن عكســه ً‬

‫أنــه ســبحانه ال يغيــر ما بقــوم من النقمــة والخذالن حتى‬ ‫وكمــا ذهــب اإلمــام القرطبــي في تفســيره ‪-‬فــي تنبيه‬

‫جيــد بيــن يــدي اآلية‪ -‬إلى أن العقوبة ال تنزل على أعيان‬

‫العصاة ضرورة‪ ،‬فقد تكون بســبب من غيرهم إذا تفشــت‬ ‫الفاحشــة واســتفحلت المعاصــي‪ .‬ولقــد ســئل النبــي ‪:‬‬

‫أنهلــك وفينــا الصالحون؟ قال‪" :‬نعم إذا كثر الخبث" (رواه‬

‫أيضا من دائرة المســؤولية على‬ ‫مســلم)‪ .‬وذلــك مــا يوســع ً‬ ‫النفــس وعلــى الغير‪ ،‬وينســجم مع مفهوم الشــهادة على‬

‫النــاس‪ ،‬والدعــوة إلى الخيــر‪ ،‬واألمر بالمعــروف والنهي‬ ‫عــن المنكــر‪ ،‬واألخــذ على أيدي الجاهليــن كما ورد في‬

‫حديث السفينة لما قال الذين في أسفلها‪ :‬لو أ ّنا خرقنا في‬ ‫نصيبنــا خر ًقــا ولم نؤذ من فوقنا؟ فــكان التحذير والتنبيه‪:‬‬

‫"فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا‬ ‫جميعا‪ ،‬وإن أخذوا على‬ ‫ً‬

‫أيديهم نجوا ونجوا‬ ‫جميعا" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫ً‬

‫فتــازم تغييــر ما بالنفس‪ ،‬مع التشــديد والتأكيد على‬

‫والفكريــة‪ ،‬والقوليــة والفعليــة‪ ،‬والخلقيــة والســلوكية‪...‬‬ ‫مع ما بالقوم‪ ،‬مع التشــديد والتأكيد نفســه على شــمول‬ ‫واستغراق "ما" لكل أحوال القوم الذين جاؤوا في سياق‬ ‫النكــرة‪ ،‬وذلــك كما قيل إفادة للتعميم‪ ،‬أي لكل ما يحيط‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫شــمول واســتغراق "مــا" لــكل أحــوال النفــس اإليمانيــة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يغيروا ما بأنفسهم من الغواية والعصيان‪.‬‬

‫بهــم فــي حياتهــم المادية الدنيوية مــن التكريم في الذات‬ ‫إلــى تســخير المخلوقــات والكائنــات‪ ،‬وصالحهــم فــي‬ ‫حالهم هو نفســه فالحهم في مآلهم‪ .‬ذلك التالزم يجعل‬ ‫من صالح النفس علة تدور مع حكمها الذي هو التغيير‬ ‫وعدما كما يقول األصوليون‪.‬‬ ‫جودا‬ ‫ُو ً‬ ‫ً‬ ‫هلل َل ْم َي ُك‬ ‫أمــا اآليــة الثانية‪ ،‬فقوله تعالى‪َ  :‬ذ ِل َ‬ ‫ــك ِب َأ َّن ا َ‬ ‫ُم َغ ِّي ًرا ِن ْع َم ًة َأ ْن َع َم َها َع َلى َق ْو ٍم َح َّتى ُي َغ ِّي ُروا َما ِب َأ ْن ُف ِسهِ ْم َو َأ َّن‬ ‫هلل س ِم ٌ ِ‬ ‫يم‪(‬األنفال‪ ،)53:‬وهي مثل األولى في سننيتها‬ ‫ا َ َ‬ ‫يع َعل ٌ‬ ‫وداللتها وقصدها وإن نصت على النعمة‬ ‫تحديدا‪ ،‬إذ كل‬ ‫ً‬ ‫نعــم أنعم وينعم بهــا عليهم‪ .‬وكما‬ ‫فضــل اهلل علــى عبــاده ٌ‬ ‫أن الوضع السيئ ينقلب إلى حسن بإعمال سنن التغيير‪،‬‬ ‫فإن الوضع الحســن يمكنه أن ينقلب إلى ســيئ‪ ،‬والنعمة‬ ‫يمكنها أن تزول بإهمال سنن التغيير واالنقالب على قيم‬ ‫الخير والصالح‪.‬‬ ‫ذهب اإلمام الشــوكاني في تفســيره في التماس معنى‬ ‫اآلية إلى "أن ذلك العقاب‪ ،‬بسبب أن عادة اهلل في عباده؛‬ ‫عــدم تغييــر نعمــه التــي ينعــم بهــا عليهــم حتى يغيــروا ما‬ ‫بأنفســهم من األحوال واألخالق‪ ،‬بكفران نعم اهلل ونمط‬ ‫إحســانه وإهمــال أوامــره ونواهيــه‪ .‬وذلــك كمــا كان مــن‬ ‫آل فرعــون ومــن قبلهــم‪ ،‬ومــن قريــش ومــن يماثلهم من‬ ‫المشــركين‪ .‬فــإن اهلل فتــح لهم أبواب الخيــرات في الدنيا‬ ‫ومــن عليهــم بإرســال وإنزال الكتــب‪ ،‬فقابلوا هــذه النعم‬ ‫ّ‬ ‫بالكفــر‪ ،‬فاســتحقوا تغييــر النعم كما غيــروا ما كان يجب‬ ‫عليهم سلوكه والعمل به من شكرها وقبولها"‪.‬‬ ‫ومثــل هــذا فــي القــرآن‪ ،‬وردت فيــه آيات كثيــرة كما‬ ‫ــن ُم ِص َيب ٍة َفب َِما َك َس َــب ْت‬ ‫‪‬و َما َأ َص َاب ُك ْم ِم ْ‬ ‫فــي قولــه تعالــى‪َ :‬‬ ‫ال ُي َر ُّد َب ْأ ُس َنا َع ِن‬ ‫‪‬و َ‬ ‫َأ ْي ِد ُ‬ ‫يك ْم َو َي ْع ُفو َع ْن َك ِثيرٍ ‪(‬الشورى‪َ ،)30:‬‬ ‫ــوءا‬ ‫‪‬و ِإ َذا َأ َر َاد ا ُ‬ ‫ا ْل َق ْو ِم ا ْل ُم ْج ِر ِم َ‬ ‫هلل ِب َق ْو ٍم ُس ً‬ ‫ين‪(‬يوســف‪َ ،)110:‬‬ ‫ال َمر َّد َل ُه َو َما َل ُهم ِم ْن ُدو ِن ِه ِم ْن َو ٍ‬ ‫ال‪(‬الرعد‪.)11:‬‬ ‫ْ‬ ‫َف َ َ‬ ‫كمــا أن ضمائــم التغييــر فــي القــرآن الكريــم كثيــرة‪،‬‬

‫‪57‬‬


‫مدخل من أهم مداخل‬ ‫التــي كانــت متداولة‪ ،‬والذي كان‬ ‫ً‬

‫اللســان العربي قبل نزول القرآن الكريم‪ ،‬لم يكن َتداوله‬

‫قديما بين االســم اللغوي واالســم الشــرعي‬ ‫ميــز العلماء ً‬ ‫ّ‬

‫تهــم األنفــس والمجتمعات والقيم واألفــكار‪ ،‬وإنما كان‬

‫شــائعا بالمعاني والدالالت التي حملها فيما بعد‪ ،‬والتي‬ ‫ً‬

‫تغييــر الوعي والفكر واألنفــس والقيم والمجتمع‪ .‬ولقد‬

‫الحســية المظهرية المرتبطة بحياة البدو‬ ‫ارتباطه بالمعاني‬ ‫ّ‬

‫كمــا فعــل ابــن فــارس في كتابــه القيم "الصاحبــي في فقه‬

‫اللغــة"‪ ،‬أو بيــن الوضــع اللغــوي‪ ،‬والوضــع الشــرعي‪،‬‬

‫والترحــال فــي الغالــب‪ .‬وهــو معنــى قريــب مــن قــول اهلل‬ ‫‪‬و َل ُم َر َّن ُه ْم‬ ‫تعالــى فــي كتابــه العزيــز على لســان إبليــس‪َ :‬‬ ‫َف َلي َغ ِيــر َّن َخ ْل َق ا ِ‬ ‫هلل‪(‬النســاء‪ ،)119:‬وقولــه تعالى واص ًفا نعيم‬ ‫ُ ّ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ــار ِم ْن َل َب ٍن َل ْم‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ــن‬ ‫آس‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫غ‬ ‫ء‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ار‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ــا‬ ‫يه‬ ‫ف‬ ‫‪‬‬ ‫الجنــة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ٌ‬ ‫َ َ ٌ ْ َ ْ‬ ‫َي َت َغ َّي ْر َط ْع ُم ُه‪(‬محمد‪.)15:‬‬

‫والعــرف العــام‬ ‫أو الحقيقــة اللغويــة والحقيقــة الشــرعية‪ُ ،‬‬ ‫والعرف الخاص كما فعل آخرون‪.‬‬ ‫ُ‬

‫والمــراد مــن ذلك كله محاوالت رصــد التغيير الذي‬

‫طــرأ على بنيات األلفاظ وعلــى معانيها ودالالتها‪ .‬وكما‬ ‫يتوجــب التمييــز فــي هــذا المســتوى بيــن البنــاء اللغــوي‬

‫من معاني التغيير في القرآن الكريم‬

‫الحق بين البناء الشرعي والبناءات االصطالحية الالحقة‬

‫قصدا‪ ،‬إحداهما وردت في ســياق‬ ‫لفظا لكنهما متحدتين‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫هيمنــت اســتعماالتها وانتشــرت‪ ،‬وأمســت مؤطــرة لفكر‬

‫تغيير من الحالة السلبية إلى اإليجابية أو العكس‪ ،‬والثانية‬

‫الشرعية األصل‪ ،‬التي يفترض أن ترافق اللفظ والمفهوم‬

‫معا "النفس"‪ .‬وغاية التغيير ومقصده‬ ‫التغيير في الحالتين ً‬

‫لــدى أهل المدارس والمذاهب والفــرق والطوائف التي‬

‫اإليجــاب والســلب‪ ،‬والثانيــة في ســياق الســلب‪ .‬األولى‬

‫عوضا عن المعاني والدالالت‬ ‫وثقافة وتدين المســلمين‬ ‫ً‬

‫تغييــر مــن الحالة اإليجابيــة إلى الحالة الســلبية‪ .‬ومدخل‬

‫طــوال رحلتــه وتواجــده‪ .‬وذلــك ألنها مــن المطلق الذي‬

‫الصــاح واالســتقامة علــى أمــر اهلل ونهيــه‪ ،‬ومجــاالت‬

‫يســتوعب الزمــان والمــكان‪ ،‬وليســت مــن النســبي الــذي‬ ‫يســتوعبه الزمــان والمكان‪ ،‬إذ كل مفــردة من القرآن‪ ،‬لها‬

‫كل خصائص القرآن في االستعمال القرآني‪.‬‬

‫من هذا المنظور ‪-‬على وجازة القول فيه‪ -‬ســنحاول‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫بعضــا مــن دالالت ومعانــي مفهــوم التغييــر‬ ‫أن نقتبــس ً‬

‫‪56‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والبناء الشــرعي‪ ،‬فإنه يتوجب كذلك التمييز في مســتوى‬

‫معنيــان كبيــران تــدل عليهمــا آيتــان كريمتــان مختلفتــان‬

‫معا‪" .‬ما" المســتغرقة األحوال النفس‬ ‫التغييــر فــي اآليتين ً‬ ‫كلها واألحوال الواقع كله‪.‬‬

‫ال ُي َغ ِّي ُر َما ِب َق ْو ٍم‬ ‫هلل َ‬ ‫أما اآلية األولى فقوله تعالى‪ :‬إ َِّن ا َ‬ ‫َح َّتى ُي َغ ِّي ُروا َما ِب َأ ْن ُف ِسهِ ْم‪(‬الرعد‪.)11:‬‬ ‫واآليــة نــص فــي أن هنالك تغييــران‪ ،‬أحدهما من اهلل‬

‫مــن القــرآن الكريــم ومــن الســنة النبوية الشــريفة‪ ،‬أي من‬ ‫ِ‬ ‫المؤس َســين للمعرفــة‪ ،‬وليــس مــن‬ ‫األص َليــن المصدريــن‬ ‫ّ‬ ‫األصــول أو المصــادر التي أسســتها المعرفــة في التداول‬

‫ســنن اهلل الجاريــة فــي المخلوقــات‪ ،‬الناظمــة والضابطــة‬

‫والتكاملــي وفــق المحددات والخصائــص المفهومية في‬

‫جــار وجائــز علــى األنبيــاء أنفســهم الذيــن اصطفاهم اهلل‬

‫بعض المعاني والدالالت اللغوية‬

‫اإلنســان جزئــي مدخلــه النفــس وهــو ســبب‪ ،‬وتغييــر اهلل‬

‫‪ ،‬والثانــي مــن النــاس‪ ،‬والعالقــة بينهمــا ســننية ســببية‬ ‫متالزمــة‪ ،‬هــي كترتيــب النتيجة علــى مقدماتها‪ .‬فحســب‬

‫التاريخــي‪ .‬هــذا مــع مراعــاة البنــاء المنهجــي الســنني‬

‫ألحوالهــا‪ ،‬البــد مــن األخــذ باألســباب‪ .‬وإذا كان ذلــك‬

‫القرآن كما ألمحنا إليها سل ًفا‪.‬‬

‫لرساالته‪ ،‬فهو فيمن دونهم أوجب وآكد ضرورة‪ .‬فتغيير‬

‫أهــم مــا يمكــن أن نقف عليــه بخصوص الداللــة اللغوية‬

‫كوني شامل مستوعب ألحوال اإلنسان النفسية والمادية‬

‫وحوله‪ ،‬كأنه جعله‬ ‫بدلــه‬ ‫وغيره ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشــيء عــن حاله‪ّ ،‬‬ ‫تحول ّ‬

‫وهــذه المطابقــة هــي ما نــص عليه العلمــاء من تالزم‬

‫تغير‬ ‫لمــادة "غ ي ر" ممــا لــه عالقــة بمرادنــا هنا‪ ،‬قولهــم‪ّ :‬‬

‫غير ما كان‪.‬‬

‫هذا باإلضافة إلى دالالت واشــتقاقات ليســت مرادة‬

‫كالغيــرة وغيرهــا‪ .‬وذلــك يعنــي فيمــا يعنيــه أن التغيير في‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المحيطة به وهو نتيجة‪.‬‬

‫ســنن اهلل تعالى الدينية الشــرعية وســننه الكونيــة القدرية‪،‬‬ ‫منهجيا‬ ‫ســننيا‬ ‫حيــث رتبــت إحداهما على األخرى ترتيبا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫آم ُنــوا‬ ‫‪‬و َل ْــو َأ َّن َأ ْه َ‬ ‫ــل ا ْل ُق َــرى َ‬ ‫محكمــا‪ ،‬كمــا قــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫ً‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬سعيد شبار*‬

‫سننية التغيري بني اإلعامل واإلهامل‬ ‫للوقــوف علــى المعانــي والــدالالت‬

‫الكريم بلسان عربي مبين‪ ،‬هو اللسان الذي كانت العرب‬

‫المتمــم‬ ‫والمكمل لما تقدمه من الوحي‪،‬‬ ‫ّ‬

‫والتواصلي واألدبي‪.‬‬

‫الشــرعية التــي جــاء بهــا الوحــي الخاتــم‬

‫كلهــا مــن خصائصــه ومحدداتــه المنهاجيــة والمعرفيــة‪،‬‬

‫دائما على المعاني والدالالت اللغوية‬ ‫يجدر بنا الوقوف ً‬ ‫التــي كانــت تحملهــا األلفــاظ مــن قبــل‪ .‬فقد نــزل القرآن‬

‫ِ‬ ‫أحــد المفاهيــم‬ ‫ونحــن بيــن يــدي مفهــوم "التغييــر"‬

‫األساســية المركزيــة والمحوريــة فــي االعتبــار الشــرعي‪،‬‬ ‫يجــدر بنــا كذلــك االنتباه إلى التغيير الــذي أحدثه القرآن‬

‫الكريم وأحدتثه السنة النبوية على مباني ومعاني األلفاظ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫المصــدق والمهيمــن والمحفــوظ بحفــظ اهلل لــه‪ ،‬وهــذه‬

‫تعرفــه حــق المعرفة‪ ،‬وبــه وعليه انبنى كيانهــا االجتماعي‬

‫‪55‬‬


‫الـ"أنا" الطاغيــة تبدأ بـ"أنا" وتنتهي بـ"من أنتم؟"‪،‬‬

‫حكمته وبصيرته؟‬

‫املعبة عــن طغيان الذات الــذي هو أصل‬ ‫وهــي‬ ‫ّ‬

‫من لم يعبد ربه عبد نفســه‪ ...‬اإلكثار من ذكر النفس‬ ‫يو ّلــد نســيان اهلل‪َ  :‬ف ْاذ ُكــروا ا َ ِ‬ ‫ــد‬ ‫ــم َآب َاء ُك ْم َأ ْو َأ َش َّ‬ ‫هلل َكذ ْك ِر ُك ْ‬ ‫ُ‬ ‫وعوضا‬ ‫النفس‪،‬‬ ‫لذكر‬ ‫تمهيد‬ ‫اآلباء‬ ‫ِذ ْك ًرا‪(‬البقرة‪)200:‬؛ ذكر‬ ‫ً‬ ‫عــن ذكــر النفــس ُشــرع لنــا ذكر اهلل‪ ،‬ومن نســي اهلل أنســاه‬ ‫اه ْم َأ ْن ُف َس ُه ْم‪(‬الحشر‪.)19:‬‬ ‫نفسه‪َ  :‬ن ُسوا ا َ‬ ‫هلل َف َأ ْن َس ُ‬ ‫معظــم الرذائــل ناتجــة عــن "توثيــن" الــذات‪" ...‬آن‬

‫الكفــر والجحــود‪ ،‬يحتقر األغيار حتى لــو كانوا من‬ ‫شــعبه أو حاشــيته املقربة‪ ،‬خاصة حــن يكونون‬ ‫أصحاب رشف ديني أو تاريخي أو اجتامعي‪.‬‬

‫أصحــاب شــرف ديني أو تاريخــي أو اجتماعي‪ ،‬كما قال‬

‫جوبلز" كان وزير الدعاية لـ"هتلر"‪ ،‬وذات مرة كان يشرف‬

‫هشــام حيــن رأى زيــن العابديــن بــن الحســين‪ :‬مــن هذا؟‬

‫رد‬ ‫علــى إعدام قســيس فقــال له‪ :‬اتق اهلل‬ ‫فــي وال تقتلني‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫الوزيــر‪ :‬يــا غبــي لم يعد العصر عصــر اهلل إنه عصر هتلر‪.‬‬

‫فكان رد الفرزدق‪:‬‬

‫هـذا ابـن خير عبــاد اهلل كلــهم‬

‫ ‬

‫انتهى به المطاف إلى أن انتحر هو وعائلته وزعيمه هتلر‪،‬‬

‫هـــذا النــقي التــقي الطــاهــر العـ َلم‬

‫والجزاء من جنس العمل‪.‬‬

‫وليس قولك من هذا بضائره‬

‫أو بالعلم أو بالوزارة‪ ،‬يغري بعبادة الذات‪ ،‬ونســبة الخير‬

‫‪‬ر ِّب‬ ‫إلى النفس‪ ،‬والشــر إلى الغير‪ ،‬ولذا قال الشــيطان‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫‪‬ر َّب َنــا‬ ‫ب َِمــا َأ ْغ َو ْي َتني‪(‬الحجــر‪ ،)39:‬بينمــا قــال آدم وحــواء‪َ :‬‬ ‫َظ َل ْم َنا َأ ْن ُف َس َــنا‪(‬األعراف‪ .)23:‬الـ"أنا" المســتكبرة ال ترى إال‬ ‫ذاتها وحدها بال شريك‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫من الوصاية عليها وحمايتها من نفسها‪.‬‬

‫على النقيض يمكن استذكار "تشرشل" رئيس الوزارة‬

‫البريطانية أيام الحرب الثانية‪ ،‬والذي حقق أعظم انتصار‬ ‫فــي تاريخ بريطانيــا‪ ،‬لقد رفض أن يعلن األحكام العرفية‬

‫على شعبه أثناء الحرب وقال‪" :‬ال أجمع على شعبنا وطأة‬ ‫الحرب ووطأة األحكام العرفية"‪ .‬بعد النصر أخفق حزبه‬ ‫في االنتخابات العامة وترك الرجل الوزارة بصورة طبيعية‪،‬‬

‫ولــم تهتــف لــه الجماهيــر فــي الشــارع "بالروح بالــدم!"‪.‬‬

‫فــي ســورة العلق‪ ،‬قــرن العلم باإليمــان لقمع الغرور‬

‫المعرفــي‪ ...‬وشــرع العبــادة والســجود والقــرب مــن اهلل‬

‫‪‬ك َّل إ َِّن‬ ‫لقمــع الــذات الطاغيــة المنفصلــة عــن ربهــا‪َ :‬‬ ‫‪‬‬ ‫اس َت ْغ َنى‪(‬العلق‪.)7-6:‬‬ ‫ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫ان َل َي ْط َغى َأ ْن َر ُ‬ ‫آه ْ‬

‫مســ ّلمات العلــم تمــر عبــر الــذات‪ :‬أعتقــد أن ســرعة‬

‫والبعث ليح ّفــز النفس على‬ ‫المــوت‬ ‫وذكــر بالرجعــى‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫بكــذا‪ ...‬وحقائــق الشــريعة تخضــع لعقلــه‪ ،‬فهــو يأخــذ‬

‫الســاعي إلــى مصادرة حريــة الناس في عبــادة ربهم وهو‬ ‫عبدا إذا ص ّلى‪ ،‬وتوعــده بقوله‪َ  :‬ل ِئ ْن َل ْم َي ْن َت ِه‬ ‫الــذي ينهــى ً‬ ‫اصيــ ٍة َكا ِذ َبــ ٍة َخ ِ‬ ‫َل َنســ َف َع ْن ب َّ ِ ِ ‪ِ ‬‬ ‫اط َئ ٍة‪(‬العلق‪،)16-15:‬‬ ‫ْ‬ ‫ِالناص َيــة َن َ‬ ‫وفــي الســورة إشــادة باإلنســان المترقــي مــن "العلق" إلى‬

‫الضــوء تســاوي كــذا‪ ،‬وأن الشــمس أكبــر مــن األرض‬

‫‪54‬‬

‫للشــعوب علــى أنهــا "دهمــاء" و"رعاع" و"همــج"‪ ،‬فالبد‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫العرب تعرف من أنكرت والعجم‬ ‫ ‬ ‫رفــض الشــيطان الســجود آلدم وقــال‪َ  :‬أ َنــا‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ــم‬ ‫َخ ْي ٌــر م ْن ُه‪(‬األعــراف‪ ،)12:‬وفرعــون قــال‪ :‬أ َنــا َر ُّب ُك ُ‬ ‫ا َ‬ ‫أل ْع َلى‪(‬النازعــات‪ ،)24:‬وقــارون قــال‪ِ  :‬إ َّن َمــا ُأو ِت ُيت ُــه َع َلــى‬ ‫ــم ِع ْن ِدي‪(‬القصــص‪ ،)78:‬والنمــرود قــال‪َ  :‬أ َنــا ُأ ْحيِــي‬ ‫ِع ْل ٍ‬ ‫يت‪(‬البقــرة‪ ،)258:‬وصاحــب الجنتيــن قــال‪َ  :‬أ َنــا َأ ْك َث ُــر‬ ‫َو ُأ ِم ُ‬ ‫ال َو َأ َع ُّز َن َف ًرا‪(‬الكهف‪.)34:‬‬ ‫ِم ْن َك َما ً‬ ‫االغتــرار بالجنــس أو بالعنصر أو بالســلطة أو بالمال‬

‫اســتعالء الــذات يعنــي ازدراء اآلخريــن والنظــر‬

‫ويحــرف الكلــم عــن‬ ‫ويتــرك‪ ،‬ويستحســن ويســتهجن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مواضعــه دون بصيــرة أو علــم وفــق ما يروق لــه‪ ،‬ويتكلم‬ ‫بتفاصح وتضخيم للكلمات وتركيز على مخارج النطق‪،‬‬ ‫وكأنه يقرأ قرارات نهائية ال مرد لها‪.‬‬

‫كيف له أن يسكت بينما الجميع يتساءلون عن قضية‬

‫شرعية أو تاريخية‪ ،‬وهو يعتقد أن البشرية تفتقر إلى مثل‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫النظــر فــي حالهــا‪ ...‬وذكــر نمــوذج الطاغيــة أبــي جهــل‬

‫"العقل"‪.‬‬

‫(*) عالم ومفكر وداعية ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬سلمان العودة*‬

‫ِ‬ ‫وغ ْم ُط الناس"‬ ‫و"الك ْب ُر َب َط ُر‬ ‫الـ"أنــا" الطاغيــة تبــدأ بـ"أنــا" وتنتهي بـ"من أنتــم؟"‪،‬‬ ‫الحــق َ‬ ‫ّ‬ ‫(أخرجــه مســلم)‪ .‬وهــي المعبــرة عــن طغيــان الــذات الــذي هو أصــل الكفــر والجحود‪،‬‬ ‫يحتقــر األغيــار حتــى لــو كانــوا من شــعبه أو حاشــيته المقربة‪ ،‬خاصة حيــن يكونون‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫طاغية‬

‫‪53‬‬


‫ندعي أنه مخصوص لثقافة معينة أو بلد أو‬ ‫فال يمكن أن ّ‬

‫شــعب دون اآلخر‪ .‬وكما أن الطب الصيني يســتعمله غير‬ ‫الصينييــن مــن أطبــاء ومرضى‪ ،‬فكذلك الطب اإلســامي‬

‫بشرط إتقان قواعده وأفكاره‪.‬‬

‫الطــب اإلســامي ‪-‬كمــا نــرى‪ -‬لــه محــاور فكريــة‬

‫متميزا عن باقي أنــواع الطب؛ فكما نرى‬ ‫أساســية تجعلــه‬ ‫ً‬

‫الطــب الصينــي يعتمــد علــى فكــرة التناغــم بيــن طاقتيــن‬ ‫طاقــ ِة الييــن واليانــج‪ -‬ويســتعمل األدويــة أو اإلبــر فــي‬‫تحقيــق هــذا الهدف‪ ،‬وكما نرى في الطب الياباني البديل‬

‫متوضئا‪ ،‬وال يكون على جنابة‬ ‫وأثناء العالج‪ ،‬كأن يكون‬ ‫ً‬

‫أنــه يعتمــد علــى فكرة الطاقــة الكونية والطاقة الشــخصية‬

‫نصح ومســاعدة المريض‬ ‫أثنــاء عالج المريض‪ ،‬وكذلك ْ‬

‫(طاقــة الــري وطاقــة الكــي)‪ ،‬ويســتعمل فــي هــذا التوازن‬

‫علــى الطهــارة لمــا لهــذا مــن تأثيــر روحــي ونوراني على‬

‫طر ًقــا كثيــرة تتضمن العالج باليد واألدويــة والتمارين‪...‬‬

‫ا عــن التأثيــرات األخرى ألهميــة النظافة‬ ‫اإلنســان‪ ،‬فضــ ً‬

‫كذلــك نــرى الطب اإلســامي له محــاور متميــزة تجعله‬

‫من الناحية المادية‪ .‬وهناك تفاصيل أخرى كثيرة ال يتسع‬

‫مختل ًفا عن مدارس الطب األخرى في العالم‪ .‬وكما نجد‬

‫المقــام للحديــث عنهــا‪ ،‬وربمــا تفاصيــل أخــرى ال زلنــا‬

‫الطــب الصينــي يتــم اســتعماله فــي كل أرجــاء الكون وال‬

‫نجهلها عن الطب اإلسالمي ونحتاج إلى إعادة اكتشافها‪.‬‬ ‫قــد يقــول قائــل إن هذا مــا بدأ يكتشــفه الطــب الحديث‪،‬‬ ‫وأن الطب في الغرب اليوم يؤكد على الطبيب أن يحسن‬

‫معاملــة المريــض ويهتــم بالنواحــي النفســية للمرضــى‪.‬‬ ‫وبالتالــي فــا فــرق بين ما نســميه الطب اإلســامي وبين‬

‫الطب الحديث‪ .‬لكن أعتقد أن هناك فارق جوهري وهو‬ ‫النيــة الموجــة لهدف ســام واليقين بوجــود اهلل ‪ .‬فهناك‬

‫فــارق كبيــر بيــن البائــع الــذي يتعامــل بــأدب فــي انتظــار‬

‫المقا ِبــل المادي‪ ،‬وبين من يتعامل بأدب ألنه يتعامل مع‬ ‫اهلل قبل أن يعامل البشر‪ .‬والفارق الجوهري الثاني هو أن‬

‫الطــب فــي الغرب ال ينظر إلى الناحية النفســية والروحية‬

‫كجــزء من الكون وأنها مرتبطــة بالخالق‪ ،‬لكنه ينظر على‬ ‫أنهــا بعــض التفاعــات الكيميائيــة واإلشــارات الكهربية‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫فقــط دون أن يــدرك مــا وراءهــا‪ .‬الفــارق الثالــث هــو‬

‫‪52‬‬

‫استخدام العلم الديني والشرعي بجوار العلم المادي‪.‬‬

‫وبالطبــع نحــن نعتقــد أن الطــب اإلســامي ليــس‬

‫مقصورا على الطبيب المسلم وال على المريض المسلم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فقــد أثبــت هــذا الطــب نجاحــه في شــفاء مالييــن‪ ،‬وربما‬

‫مليــارات األجســاد واألرواح علــى مــر الســنين‪ .‬وبالتالي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بعض التساؤالت حول الطب اإلسالمي‬

‫يرتبط اســتعماله اليوم فقط بالطبيب الصيني أو المريض‬ ‫الصينــي‪ ،‬كذلك يجب أن يكون الطب اإلســامي‪ .‬وكما‬

‫نجــد الصيــن تعيد اكتشــاف تراثها الطبي وكنــوز المعرفة‬

‫لديهــا‪ ،‬كذلــك نحــن المســلمين يجــب أن نعيد اكتشــاف‬ ‫تراثنا الطبي المميز والذي تم نسيانه أو فقدانه أو إخفاؤه‬

‫والتجهيل به عن عمد‪.‬‬

‫هنــاك الكثيــر مــن المالمــح والتفاصيــل التــي لــن‬

‫يكفــي هذا المقال لشــرحها‪ ،‬وكلها تؤكــد على أن الطب‬ ‫اإلســامي هو طب متفرد ومختلف وله عدة خصائص‪،‬‬ ‫وأننا في حاجة إلى إحياء هذا الطب في عصرنا الحديث‪،‬‬

‫ألن اإلنســان اليــوم في أمس الحاجــة إلى هذا الطب‪ .‬إنه‬

‫الطب والطبيب الذي ينظر إلى اإلنســان بصورة متكاملة‬ ‫كجســد وروح‪ ،‬ويهتــم بعالــم الغيــب وعالــم الشــهادة‬ ‫واإلنسان كجزء من الكون وخلق اهلل ‪ .‬ونريد الطبيب‬

‫واالخــاق‪ ،‬طبيــب ينبــذ‬ ‫الديــن‬ ‫الــذي يحكــم تصرفاتــه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫التقليد ويســعى إلى اإلبداع‪ ،‬طبيب يجمع العقل والنقل‬

‫والتجربة‪.‬‬

‫(*) أستاذ جراحة العظام‪ ،‬جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬


‫الطــب يف الغرب ال ينظــر إىل الناحية النفســية‬

‫والفلسفة مثل ابن الهيثم‪ ،‬أو الجراح الكيميائي المجرب‬

‫والروحية كجزء مــن الكون وأنها مرتبطة بالخالق‪،‬‬

‫والمدير مثل الزهراوي‪ ...‬إلخ‪ .‬وبالتالي فلم يكن الطبيب‬

‫لكنه ينظر عــى أنها بعض التفاعــات الكيميائية‬

‫عاما‬ ‫متخصصــا بدرجــة تؤدي إلى ضيق األفق‪ ،‬ولم يكن ًّ‬ ‫ً‬

‫واإلشارات الكهربية فقط دون أن يدرك ما وراءها‪.‬‬

‫فــي علمــه لدرجــة تخل بإتقانــه لحرفته وصنعتــه وعلمه‪.‬‬ ‫المحــور الخامــس هو العمل المؤسســي‪ .‬فقبل عصر‬

‫العلوم اإلسالمية‪ ،‬كان العلماء يعيشون في خاليا منعزلة‬

‫لهــا وطريقــة تعامله معها‪ ،‬اإلخراج واإلفــرازات بما فيها‬

‫للتأمــل إال فــي بعــض االســتثناءات القليلــة مثــل مكتبــة‬

‫العالقة الجنسية‪.‬‬

‫االســكندرية‪ .‬لكن في الدولة اإلسالمية كان الحج يمثل‬

‫إذن فالطــب اإلســامي هــو طــب يجمع بيــن العلوم‬

‫كبيرا يتم فيه تبادل الخبرات من كل أنحاء‬ ‫مؤتمرا‬ ‫ًّ‬ ‫سنويا ًَ‬ ‫ً‬

‫المادية وما وراء المادية‪ ،‬بين الجسد والروح‪ ،‬بين العقل‬

‫العالم اإلسالمي‪ ،‬وكان هذا التبادل يتم ليس فقط في مكة‬

‫والنقــل‪ ،‬بيــن عالم الغيــب وعالم الشــهادة‪ ...‬فيبحث في‬

‫وأيضا في البــاد المجاورة التي تقع على‬ ‫المكرمــة‪ ،‬بــل‬ ‫ً‬

‫معــا دون أن يهمــل طر ًفــا‬ ‫كليهمــا ويعالــج فــي كليهمــا ً‬

‫طريــق الحجيــج مثل العراق ومصر والشــام‪ .‬هذا التبادل‬

‫لحساب الطرف اآلخر‪.‬‬

‫المعرفي تطور بتكوين مؤسسات علمية كبيرة وجامعات‬

‫مواصفات الطبيب في الطب اإلسالمي‬

‫مثــل األزهــر والقيــروان‪ ...‬وأنتــج مستشــفيات كبيــرة‬

‫‪ -1‬إنه يتقن العلوم المادية في مجال تخصصه من اطالع‬

‫تحولت إلى مدارس للطب في أنحاء العالم اإلســامي‪،‬‬

‫دمشــق‪ ،‬وغيرهــا فــي كل بــاد اإلســام مــن الصيــن إلى‬

‫وأيضــا أنتــج منظومــة للتعليــم والتدريــب‬ ‫األندلــس‪...‬‬ ‫ً‬ ‫والبحــث وتبــادل الخبــرات‪ .‬وســاعد علــى هــذا تقــارب‬ ‫اللغــة والفكــر‪ ،‬حيــث كانــت اللغــة العربيــة (لغــة القرآن)‬ ‫لغــة عالميــة تســهل التواصــل‪ ،‬وبجوارها اللغة الفارســية‬ ‫لغــة العلــم والفنــون‪ ،‬والتركيــة لغــة السياســة‪ .‬وبالتالــي‬

‫وأيضا‬ ‫فلــم يقتصر الطب اإلســامي علــى الروحانيــات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لــم يتوقــف عنــد العوامل الماديــة فقط بل جمــع بينهما‪.‬‬

‫خصائص الطب اإلسالمي‬

‫ومــن قواعــد الطب اإلســامي أنه ينظر لإلنســان كوحدة‬

‫متكاملــة مترابطــة ببعضهــا البعض‪ ،‬ومترابطــة بالكون من‬

‫حوله‪ ،‬ومترابطة مع خالق هذا الكون الذي نفخ فيه من‬

‫روحه‪ .‬لذلك نجد في الطب اإلســامي أن الطبيب عليه‬ ‫أثنــاء الفحــص‪ ،‬مراجعــة ليس فقط العلــة والمرض الذي‬

‫أخــرى‪ :‬مــكان معيشــة المرء ونــوع الهواء الذي يتنفســه‪،‬‬

‫نوع األغذية واألطعمة التي يأكلها‪ ،‬النوم وانتظامه وعدد‬ ‫ســاعاته‪ ،‬النشــاط الحركي ومدة الراحة والنشــاط الذهني‬

‫ومــدة الراحــة‪ ،‬العوامل النفســية والضغــوط التي يتعرض‬

‫والجراحــة الحديثــة‪ ،‬إلــى آخره من األســباب المادية في‬

‫الشفاء‪.‬‬

‫‪ -2‬لديــه علــم ٍ‬ ‫كاف بجوانــب الحيــاة األخــرى‪ ،‬مثــل‬

‫تقييــم نفســية المريــض‪ ،‬وكيفيــة التعامــل بــأدب واحتــرام‬ ‫مــع المريــض‪ .‬ولديه من الثقافــة العامة ما يجعله يمتلك‬ ‫الحكمة والمعرفة بجوانب الحياة األخرى من فقه وقرآن‬ ‫ال للطبيب الحكيم الناجح‪.‬‬ ‫وفن ومنطق‪ ...‬فيكون مثا ً‬

‫‪ -3‬إنــه فــي التعامــل مــع المريــض والمجتمــع‬

‫دائما‬ ‫يســتحضر النية الخالصة لعمل الخير‪ ،‬ويعتبر نفســه ً‬

‫أداة من أدوات الشــفاء التي ســخرها اهلل ‪ ،‬وأنه لخدمة‬ ‫وسام‪.‬‬ ‫هدف كبير‬ ‫ٍ‬

‫‪ -4‬أن يستعمل مع علمه المادي في الطب والجراحة‬

‫العلــم الروحــي فــي آيــات القــرآن واألحاديــث النبويــة‬ ‫َ‬ ‫الثابتــة‪ ،‬فــي اســتعمالها لرفــع البالء والدعاء هلل بالشــفاء‪،‬‬

‫مثــل‪ :‬بســم اهلل الشــافي‪ ،‬قــراءة المعوذتيــن والفاتحة على‬

‫المريض‪ ،‬أو قوله ‪" :‬اللهم رب الناس‪ ،‬أذهب البأس‪،‬‬ ‫اشــفه‪ ،‬وأنت الشــافي‪ ،‬ال شفاء إال شفاؤك شفاء ال يغادر‬

‫سقما" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫ً‬

‫أيضا الحرص على الطهارة لدى الطبيب قبل‬ ‫وهناك ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫يشكو منه المريض‪ ،‬ولكن عليه تقييم ومراجعة ستة أشياء‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مثــل بيمارســتان المنصــوري فــي القاهــرة‪ ،‬والنــوري فــي‬

‫علــى أحــدث األبحــاث العلميــة وإتقــان لطــرق العــاج‬

‫‪51‬‬


‫فــا تتحــول إلى وســيلة لألذى والتجبــر‪ .‬الملمح الثالث‬ ‫للعلــوم فــي العصــر اإلســامي‪ ،‬كان نبذ التقليــد األعمى‬

‫واالهتمــام بالتجربة واإلبداع‪ .‬لذلك إذا نظرنا إلى الطب‬

‫في عصور النهضة اإلسالمية حين كان العالم اإلسالمي‬ ‫هــو العالــم األول فــي كل العلــوم الماديــة مــن اقتصاد أو‬

‫فكر أو علوم أو قوة عسكرية‪ ،‬سنجد أن علوم الطب لها‬ ‫وتقييما مختل ًفا‪ ،‬وســنجد األطباء لهم فكر‬ ‫معنــى مختل ًفــا‬ ‫ً‬ ‫مختلف وقواعد مختلفة عن ما قبله وما بعده‪.‬‬

‫شكلت فكر‬ ‫في الطب اإلسالمي خمسة محاور هامة ّ‬

‫األطباء وطرق البحث والعالج؛ أول هذه المحاور مقولة‬

‫األغذيــة والجــو والمنــاخ وطبيعــة الحيــاة‪ ،‬وتتفاعــل مع‬

‫شــهيرة "اإلنســان رمز الوجود"‪ ،‬وهذه المقولة تحمل في‬

‫الهرمونــات التــي يفرزها الجســم وتســري فــي الدم لكل‬

‫طياتهــا الكثيــر من المعانــي‪ ،‬فهي تؤكد على أن اإلنســان‬

‫األعضاء‪ .‬وخلف هذا كله‪ ،‬روح الحياة والعوامل النفسية‬

‫جــزء ال يتجــزأ مــن الكــون‪ ،‬بــل هــو يحتــوي فــي داخلــه‬

‫والعوامــل الفكريــة التــي تؤثــر علــى طبيعة حياة اإلنســان‬

‫صــورة مــن الكون األكبر‪ .‬فاإلنســان مرتبط بما حوله من‬

‫وطريقة تفكيره وتعامله مع ما يتعرض له ومع من حوله‬

‫أرض وسماء وكائنات وأجرام سماوية وأرواح وأفكار‪.‬‬

‫مــن أفــكار ومعطيات‪ ،‬وأن اإلنســان جزء مــن الكون‪ ،‬بل‬ ‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬نجد الكثير من األبحاث والتقارير‬

‫للمنظمــات الطبية الدوليــة تتحدث عن األمراض كأرقام‬

‫ال تقرير عن أن مرض السكر يكلف العالم‬ ‫ليس أكثر‪ .‬فمث ً‬ ‫تقدر بعشرين (‪ )20‬بليون دوالر‪ ،‬أو عدد المرضى‬ ‫خسائر ّ‬

‫دوالرا‪ ،‬ويضيعون وقت العمل‬ ‫كذا ويكلفون الدولة كذا‬ ‫ً‬ ‫كــذا ســاعة‪ ...‬إنــه النظــر إلــى البشــر علــى أنهــم آالت‬ ‫وأشــياء لهــا وظيفــة اإلنتــاج فــي ماكينة كبيرة بــدون قلب‬

‫وال روح وال عواطف‪ ،‬تحول اإلنســان إلى رقم له ثمن‪.‬‬

‫مواصفات الطب في عصور النهضة اإلسالمية‬

‫وتطــورا ظهر بالصدفة من سالســلة القرود‪ .‬ومن الناحية‬ ‫ً‬ ‫األخــرى‪ ،‬فاإلنســان مســتخلف مــن اهلل لرعايــة الكــون‪،‬‬

‫ال عن اهلل يدمر كيف يشــاء ويفســد‬ ‫وبالتالي فهو ليس بدي ً‬

‫وقتمــا أراد‪ ...‬ولكنــه قائد في هذا الكون يحكم تصرفاته‬

‫َعقــد مــع من ك َّلفه بالقيادة لفترة محددة هي هذه الحياة‪،‬‬ ‫ثــم بعدهــا يتــم الحســاب ليرجع إلــى ربه فيحاســبه على‬

‫مستوى األداء فيما كلفه به‪.‬‬

‫المحــور الثالــث هــو العلــم التجريبــي‪ .‬ففــي العصور‬

‫اإلســامية كان العلــم التجريبــي هو أهــم طريق في تقييم‬

‫إذا نظرنــا إلــى العلــوم بصفة عامة في العصر اإلســامي‪،‬‬ ‫كان العقــل يعنــي المنطــق والتفكيــر‪ ،‬بينمــا التجربة تعني‬

‫ســينا‪ ،‬والزهــراوي‪ ،‬وابــن الهيثــم‪ ...‬وغيرهــم مــن علماء‬

‫تجربة هذا المنطق على الواقع المادي والمحسوس‪ ،‬أما‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫ال به بــا إرادة‪،‬‬ ‫شــيئا مفعو ً‬ ‫وهــذا يعنــي أن اإلنســان ليس ً‬

‫الجــزء المــادي مــن الكــون‪ ،‬ولدينــا الكثيــر من األســماء‬

‫فكان يحكمها ثالثة قواعد رئيسية‪ :‬العقل والنقل والتجربة‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مصغرة من الكون‪.‬‬ ‫وهو صورة‬ ‫ّ‬

‫المحور الثاني هو أن اإلنسان خليفة اهلل في األرض‪،‬‬

‫النقل فكان منه المقدس مثل الدين واألخالق‪ ،‬ومنه غير‬ ‫المقدس مثل بحوث السابقين وخبراتهم والتي هي قابلة‬ ‫إلعــادة التقييــم والتجربــة‪ .‬وكانــت وصية جابــر بن حيان‬

‫أبــو علــم الكيميــاء‪ -‬هــي "ال تع ّلِمــوا الكيميــاء لمــن ال‬‫تأمنــون دينه وخلُقه"‪ .‬فالبعد األخالقي يحكم كل العلوم‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الالمعــة فــي مجــال العلوم التجريبية فــي الطب‪ ،‬مثل ابن‬

‫غيــروا مجــرى العلــوم الطبية والبحــث العلمي في مجال‬ ‫الطب وغيره‪.‬‬

‫المحــور الرابــع هو النظرة الشــمولية لألشــياء‪ ،‬وهذا‬

‫يتضــح فــي التكامــل المعرفــي لــدى العلمــاء واألطبــاء؛‬

‫فنجد الطبيب الفقية الفيلســوف الرياضي الموسيقي مثل‬ ‫ابــن ســينا‪ ،‬أو نجــد عالم البصريــات والفيزيــاء والكيمياء‬


‫الطــب اإلســامي هو طــب يجمــع بــن العلوم‬ ‫املادية وما وراء املادية‪ ،‬بني الجســد والروح‪ ،‬بني‬ ‫العقل والنقل‪ ،‬بني عامل الغيب وعامل الشهادة‪...‬‬ ‫معا دون‬ ‫فيبحث يف كليهــا ويعالج يف كليهام ً‬

‫أن يهمل طرفً ا لحساب الطرف اآلخر‪.‬‬

‫القــدرة علــى التوســط لــدى اآللهــة لترفــع هــذا البــاء‬ ‫عــن المريــض! وكانــت القرابيــن والنباتــات العطرية‪ ،‬من‬

‫األدوات المستعملة للتقرب إلى اآللهة في هذا المجال‪.‬‬ ‫ال‬ ‫وجاءت بعدهم أوربا لتسير على نفس الطريق‪ ،‬لكن بد ً‬ ‫مــن ربــط األمراض بــاألرواح الشــريرة ولعنــة اآللهة‪ ،‬تم‬

‫ربطها بالخطايا البشرية وغضب الكنيسة‪ ،‬وأصبح القس‬

‫األحيــان ننظــر إلــى الطــب على أنــه من النــوع األول من‬

‫وكاهن الكنيسة هو المسؤول عن شفاء المرضى من هذه‬

‫العلوم‪ .‬لكن الطب البشــري يتعامل مع الجســد والروح‬

‫األمــراض‪ .‬فــكان االهتمام بالروحانيــات أعلى بكثير من‬

‫أيضا مع‬ ‫وليس فقط مع الصفة التشريحية لإلنسان‪ ،‬إنما ً‬

‫االهتمام بالجانب المادي لألمراض‪.‬‬

‫أفكاره وطريقة تعامله مع ما حوله من مؤثرات‪.‬‬

‫إســاميا‪ ،‬ونقــدم األدلــة على هذا‪ .‬وهنــا ال ندعو لفرض‬ ‫ًّ‬ ‫نموذج من العلم أو أسلوب من التفكير على باقي شعوب‬ ‫األرض‪ ،‬ولكننــا نبشــر وننبــه لمواطــن القــوة التي يملكها‬

‫هــذا الطــب‪ ،‬والتي يمكن أن تحمل الخير لكل البشــرية‪.‬‬

‫تاريخ الطب‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫طبا‬ ‫ونحن في هذا المقال نفترض أن هناك ما يسمى ًّ‬

‫بينمــا فــي العصــور الحديثــة (عالــم مــا بعــد القــرن‬

‫‪ 16‬الميــادي) أصبــح أنــواع اإلصابــات أكثــر وحشــية‪،‬‬ ‫واألمــراض أكثــر ضراوة كما نرى فــي إصابات الحروب‬

‫والحــوادث اليــوم‪ ،‬أو األمراض التي لم تعهدها البشــرية‬

‫مثــل مــرض نقص المناعة المكتســب‪ .‬ومن ناحية أخرى‬

‫جــدا فــي مجــاالت‬ ‫تطــور الطــب المــادي بدرجــة كبيــرة ًّ‬ ‫عديــدة‪ ،‬ســواء فــي العــاج باألدويــة أو بالجراحــة أو‬

‫فــي العصــور القديمــة كان اليونــان يهتمــون بالجانــب‬

‫باألشــعة‪ ...‬وأصبــح التركيــز بنســبة ‪ %95‬علــى الجانــب‬

‫بمــا فيهــا الطــب‪ ،‬ولــم يكــن هناك اهتمــام كبيــر بالجانب‬

‫لإلنســان فــي حــاالت المــرض أو ما قبل المــرض أو في‬

‫والروحانيــات‬ ‫تشــكل أكثــر مــن ‪ %95‬مــن طــرق العالج‪،‬‬ ‫ّ‬

‫الدقيــق فــي مجاالت الطب وفروعــه‪ ،‬فأصبح كل طبيب‬

‫الميتافيزيقــي فــي كل األفــكار والفلســفات والعلــوم‬

‫المادي من المريض دون اهتمام ُيذكر بالجانب الروحي‬

‫المادي من التجربة والمشــاهدة‪ .‬كان الســحر والشــعوذة‬

‫الوقاية من األمراض‪ .‬وساعد على هذا‪ ،‬تطور التخصص‬

‫بينما‬ ‫يشــكل الجانب المادي والعلمي التجريبي أقل من‬ ‫ّ‬

‫متخصص في منطقة معينة من الجسم ‪-‬وربما في مرض‬

‫بــل كان ينظــر العديــد مــن الفالســفة فــي الثقافــة اليونانية‬

‫الطــب أو فــروع العلــم والحيــاة‪ ،‬مما جعــل الطبيب ينظر‬

‫‪ %5‬مــن طــرق العــاج المســتعملة فــي عــاج األمراض‪.‬‬

‫الفلســفي والخيــال التحليلــي‪ .‬وكان تفســير الكثيــر مــن‬ ‫األمــراض ‪-‬وربمــا العــاج‪ -‬يرتبــط بــاألرواح الشــريرة‬

‫ولعنة اآللهة وما إلى ذلك من تفسيرات‪ .‬وكان المسؤول‬ ‫عــن عــاج هــذه األمراض هــو كاهن المعبــد‪ ،‬الذي لديه‬

‫ا طبيب العظام‬ ‫جدا؛ فمثــ ً‬ ‫إلــى المريــض بنظرة محــدودة ًّ‬

‫ينظر لمريض يشكو من ركبته‪ ،‬على أنه ركبة وغضاريف‬

‫وبعض العظام المريضة‪ ،‬ويهمل أو ينسى أن هذه الركبة‬ ‫جــزء مــن هيــكل عظمــي متكامــل يتحكــم فيــه عضــات‬ ‫وأعصــاب‪ ،‬ولــه دورة دمويــة متصلــة بالقلــب‪ ،‬ويؤ ِّثر فيه‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫إلــى التجربــة أو أي عمــل يــدوي باحتقار مقارنــ ًة بالفكر‬

‫محدد‪ -‬ال يتخطى بعلمه هذا إلى أي فرع آخر من فروع‬

‫‪49‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬خالد عمارة*‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫هل هناك ما يسمى ط ًّبا إسالم ًّيا؟‬

‫‪48‬‬

‫قــد ينظــر البعــض للطــب كعلــم مثل كل‬ ‫إنســانيا‬ ‫ركا‬ ‫العلــوم المادية‪ ،‬ويعتبره‬ ‫مشــت ً‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫عاما بين كل البشر‪ .‬وهذا صحيح بعض‬ ‫ًّ‬ ‫الشــيء‪ ،‬لكــن ال يمكــن النظــر إلــى الطب البشــري كعلم‬ ‫مماثــل لعلــوم الميكانيــكا أو الرياضيــات والحســاب‪،‬‬ ‫ذلــك ألن الطــب يتعامــل مــع اإلنســان‪ ،‬وهــذا يختلــف‬ ‫عــن اآلالت والجمــاد‪ .‬فاإلنســان جســد وروح‪ ،‬وبالتالي‬ ‫فالتعامــل مــع األمــراض العضويــة دون مراعــاة البعــد‬ ‫الروحــي والنفســي ال يفيــد‪ ،‬وربمــا يأتي بنتيجة عكســية‪.‬‬ ‫وهــذا مــا أثبتتــه األبحــاث التــي أثبتــت العالقة المباشــرة‬ ‫بيــن القــدرة على االلتئام والشــفاء للجســد‪ ،‬وبيــن الحالة‬ ‫النفســية والنــوم والهــواء والغــذاء وعوامــل أخــرى كثيرة‬ ‫كلهــا تتعلــق بالروح‪ .‬ال توجد كيمياء إســامية وال فيزياء‬ ‫إسالمية‪ ،‬ولكنها علوم عالمية يشترك فيها كل البشر مع‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ضوابــط أخالقية تضبط اســتعمال هــذه العلوم في الحياة‬ ‫والمجتمعات المختلفة‪ ،‬لكن هناك فلســفة إســامية وفن‬ ‫إســامي‪ ،‬ألنهــا علــوم ترتبط بالــروح والفكــر والتاريخ‪.‬‬ ‫وبالتالــي فما يتعلــق بالروح يختلف عن ما يتعلق بالمادة‬ ‫مــن علــوم؛ إن درجة غليان المياه هــي ‪ 100‬درجة مئوية‬ ‫علــى ســطح الكرة األرضيــة‪ ،‬وهذه الخاصيــة ال تختلف‬ ‫إن كان من يغلي المياه مســلم أو مســيحي أو غير ذلك‪.‬‬ ‫وهذه الخاصية ال تختلف إن كان من يغلي المياه يتحدث‬ ‫الصينية أو العربية‪ .‬فهذا الجزء من العلوم مشترك إنساني‬ ‫عام بين كل الشــعوب والبشــر‪ ،‬وهو يتضمن علوم المادة‬ ‫والطبيعــة‪ .‬أمــا النوع الثانــي من العلوم‪ ،‬فهــو العلوم التي‬ ‫تختلــف مــن مجتمع إلى آخر حســب العادات واللغات‬ ‫والديانــة وطبيعــة البشــر وطبيعــة الحيــاة والمــوروث‬ ‫الحضــاري مثــل علوم الفلســفة والتاريخ‪ .‬وفــي كثير من‬


‫وتخليصــه مــن التبعات التي تعلق به فــي الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫فصل حق الربوبية عن حق األلوهية في منظومة التوحيد‬ ‫الوجداني ‪-‬دون تقسيمات الكالم الجافة‪ -‬وأنه ال محبة‬ ‫من العبد خالصة إال بمجموعهما‪.‬‬

‫قــال فــي ســياق المقابلــة بيــن النوعيــن بعد ســرده آليات‬

‫الزينــة والجمــال‪" :‬فامتن تعالى وعــرف بنعم من جملتها‬

‫أيضــا خرجــت صــور التشــكيل‬ ‫ومــن هــذا المســلك ً‬

‫‪‬اع َل ُموا‬ ‫الجمال والزينة وهو الذي ذم به الدنيا في قوله‪ْ :‬‬ ‫ــب َو َل ْه ٌو َوزِ َين ٌة‪(‬الحديد‪ ،)20:‬بل حين‬ ‫َأ َّن َمــا ا ْل َح َيا ُة ُّ‬ ‫الد ْن َيا َل ِع ٌ‬

‫اإليمانيــة عبــر التاريــخ اإلســامي‪ ،‬لترســم لوحــات فنية‬

‫عــرف بنعــم اآلخــرة امتــن بأمثاله فــي الدنيا وهــو كثير‪...‬‬

‫تحكي فيها قصة عروج القلب عبر مدارج السالكين إلى‬

‫النعــم التــي خلقها لنــا من شــوائب الكــدرات الدنيويات‬

‫العطــار‪ ،‬و"كشــف المحجــوب" للهجويــري‪ ،‬و"مــدارج‬

‫اهلل رب العالميــن‪ ،‬مــن مثــل "منطــق الطيــر" لفريــد الدين‬

‫تخليصــا لهذه‬ ‫فأنــزل األحــكام وشــرع الحــال والحــرام‬ ‫ً‬

‫الســالكين" للعالمــة ابــن قيــم الجوزيــة‪ ،‬و"رحلــة الطيــر"‬

‫واألخرويات‪ .‬فهذه النعم بدون خضوع لقوانين االمتثال‬

‫لحجــة اإلســام الغزالــي‪ ،‬و"التــال الزمرديــة" للعالمــة‬

‫ورســوما بال‬ ‫أشــباحا بال أرواح‪،‬‬ ‫التكليفي التعبدي تصير‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫محمــد فتــح اهلل كولــن‪ ،‬و"قناديــل الصــاة مــع جماليــة‬

‫عنــوان يترجــم حقيقتها ووظيفتها ويضفــي عليها جمالها‬

‫الديــن" ألســتاذنا فريــد األنصــاري‪ ...‬وغيرهــا كثيــر مــن‬

‫ورونقهــا‪ .‬أو بعبــارة العالمــة النورســي "تنتكــس منقلبــة‬

‫(ســمفونيات) الجمال التعبدي التي عزفتها ألســنة قلوب‬

‫على عقبها من نفاسة األلماس الثمين إلى خساسة قطع‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الواقي‪.‬‬

‫(*) كاتب وباحث من المغرب‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬ألبي إسحاق الشاطبي‪.‬‬ ‫(‪ )2‬روضة المحبين ونزهة المشتاقين‪ ،‬البن قيم الجوزية‪.‬‬ ‫(‪ )3‬في ظالل القرآن‪ ،‬لسيد قطب‪.‬‬

‫(‪ )4‬جمالية الدين‪ :‬معارج القلب إلى حياة الروح‪ ،‬لفريد األنصاري‪.‬‬ ‫(‪ )5‬نحو فلسفة إسالمية للجمال والفن‪ ،‬لتوحيد الزهيري‪.‬‬ ‫(‪ )6‬نيل األوطار شرح منتقى األخبار‪ ،‬لـ"الشوكاني"‪.‬‬ ‫(‪ )7‬الشعاعات‪ ،‬لبديع الزمان سعيد النورسي‪.‬‬

‫(‪ )8‬الصــور والمرايــا فــي تــراث النورســي الفكــري والوجدانــي‪ ،‬ألديب‬

‫إبراهيم الدباغ‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫الزجاج المنكسر"‪.‬‬ ‫وأمــا مــا يتعلــق بلباس العبــد وعمرانه المــادي وفعله‬ ‫عمومــا‪ ،‬فهــو ترجمــة لجمــال اإليمــان فيــه‬ ‫الخارجــي‬ ‫ً‬ ‫وأزهــارا يانعة في قلبه‬ ‫ولرمزيتــه المتفجــرة عيو ًنــا رقراقة‬ ‫ً‬ ‫ضاربــة بأعماقهــا فــي مجاهيــل الوجدان والشــعور‪ .‬ومن‬ ‫هنا نفهم قول الراغب األصفهاني في جعله آية الزينة في‬ ‫ســورة األعــراف مؤطــرة ضمن حقيقة "الزينــة الخارجية"‬ ‫في نصه السابق‪ ،‬ألنها وردت في اللباس كما هو متداول‬ ‫عند المفسرين وقد أشار إليه‪.‬‬ ‫فبــؤرة هــذا النــوع مــن الجمال‪ ،‬مــرآة تصويريــة لنعم‬ ‫اهلل الكونيــة عبــر قنــوات الشــكر والحمــد والتوحيــد‪،‬‬ ‫ضاربــة بأعماقهــا فــي صلب شــرايين قلب العبد النفســي‬ ‫والشــعوري‪ ،‬ألن قلبــه ‪-‬كســائر القلــوب‪" -‬أعظــم مرايــا‬ ‫العالم وأكثرها سعة وأشفها شفافية وأتقاها صفاء‪ ،‬لذلك‬ ‫جعــل موضــع نظــر اهلل تعالــى‪ ،‬ومهبــط أنــواره وتجلياته‬ ‫ومســتودع إلهاماته وخزين غيوبه ووعاء وحيه وخطابه"‪.‬‬ ‫فــإذا رســخ قلبه فــي اإليمان وامتأل هذا المســتودع بتلك‬ ‫األنــوار‪ ،‬فــاض علــى الجــوارح والعمــران‪ ،‬والمشــيمة‬ ‫المغذية هي القرآن‪.‬‬ ‫شعوريا‬ ‫فصار الجمال الكوني ‪-‬بذلك االعتبار‪ -‬مبع ًثا‬ ‫ًّ‬ ‫للجمال التعبدي التكليفي‪ ،‬وهذا مدلول له واآلخر دليل‬ ‫وعكسا في‬ ‫طردا‬ ‫عليه في معادلة جمالية متبادلة الطرفين ً‬ ‫ً‬ ‫حركة العبد التعبدية‪ .‬ومن هنا استحال ‪-‬في حقوق اهلل‪-‬‬

‫كثير من الربانيين قدماء ومحدثين‪.‬‬ ‫وخالصــة األمــر المجزئــة فــي الســياق‪ ،‬أن إدراك‬ ‫الجمــال الكونــي إنما تكفي فيه الفطرة فقط‪ ،‬ألن أســبابه‬ ‫موضوعــة ‪-‬كمــا قيــل قبــل‪ -‬الســتدعاء متعــة النــاس من‬ ‫حيث هم كذلك على اإلطالق‪ .‬وأما التعبدي فهو ذوقي‬ ‫انفعالــي خــاص ٍ‬ ‫تال لألول البد فيه من الخضوع لمبادئ‬ ‫التكليف‪ ،‬ألن الفطرة فيه قد تضعف عن معرفة األسباب‬ ‫والشروط المقتضية له وكذا الموانع العارضة فيه لقصد‬ ‫الشــارع‪ .‬ومــن هنــا ســقط تــذوق غيــر المســلم للصــور‬ ‫التشــكيلية فــي مهــاوي االســتصنام التألهــي للمخلوقات‬ ‫تــارة ولشــهوات "الليبيــدو" تارة أخرى‪ .‬واهلل ســبحانه هو‬

‫‪47‬‬


‫باطن المؤمن متصلة به غير منفصلة‪.‬‬

‫علــى وتــر‪ ،‬وال يــزال يرتقي بحادي المحبــة في معارجها‬

‫يضاهــي بــه حب الطيــور ربيعها‪ ،‬وحب الزهــور عبيرها‪،‬‬

‫في الجمال التعبدي‬

‫لمأمن يســتدفئ به من برد الشــهوات‬ ‫بــل وحــب الطريــد‬ ‫ٍ‬

‫قــدر ُســقي بمــاء المشــيئة‬ ‫إن الجمــال االبتالئــي إذن‪َ ،‬‬ ‫ــن‬ ‫القهريــة الخــــلقية‪ ،‬وخــرج مــن ينابيــع حــروف ُ‬ ‫‪‬ك ْ‬ ‫ــون‪ ‬لتســطر قواعــد التكليــف وتنظيــم الهــوى‪ ،‬فــا‬ ‫َف َي ُك ُ‬

‫القارس‪ .‬قال األســتاذ النورســي يجلي حقيقته الجمالية‪:‬‬ ‫واحــدا‪ ،‬كل‬ ‫"إن ثمــرة واحــدة وزهــرة واحــدة وضيــاء‬ ‫ً‬

‫بســيطا ونعمة جزئية‬ ‫منهــا يعكــس كالمــرآة الصغيرة رز ًقا‬ ‫ً‬

‫يبقــى المكلــف كالبهيمــة المســيبة تسترســل فــي نيــل‬

‫بسيطا‪ ،‬ولكن بسر التوحيد تتكاثف تلك المرايا‬ ‫وإحسا ًنا‬ ‫ً‬

‫يقيِــد أو حامــل يــزع‬ ‫لذاتهــا واقتنــاص شــهواتها دون داع ّ‬

‫الصغيــرة مــع مثيالتهــا مباشــرة ويتصل بعضهــا بالبعض‬

‫عــن الوقــوع فــي المحظــور‪ .‬ومجمــوع ذلــك هــو قصــد‬

‫جدا‬ ‫اآلخــر‪ ،‬حتــى يصبح ذلــك النوع مرآة واســعة كبيرة ًّ‬

‫الشــارع العام من وضع الشــريعة‪ ،‬كما قال أبو إســحاق‪:‬‬

‫خاصا بذلك‬ ‫ضربــا من جمال إلهي يتجلى‬ ‫تجليا ًَّ‬ ‫تعكــس ً‬ ‫ً‬

‫"المقصد الشــرعي من وضع الشــريعة‪ ،‬إخراج المكلف‬

‫باقيا من خالل‬ ‫ال‬ ‫النوع‪ ،‬فيظهر سر التوحيد جما ً‬ ‫ًّ‬ ‫سرمديا ً‬

‫اختيارا كما هو عبد‬ ‫عبــدا هلل‬ ‫عــن داعيــة هواه حتى يكون ً‬ ‫ً‬

‫ذلك الجمال الفاني المؤقت‪ ...‬بينما إن لم ينظر إلى ذلك‬

‫اضطــرارا"‪ .‬فالجمــال التعبــدي إذن‪ ،‬مــن لــوازم عبــادة‬ ‫هلل‬ ‫ً‬

‫الجمال بنظر التوحيد‪ ،‬أي لوال سر التوحيد؛ لظلت تلك‬

‫المؤمــن االختياريــة والخــروج مــن عبوديــة االضطــرار‪،‬‬

‫أســبابا تكوينيــة لذلــك‪ .‬ومن هنا‬ ‫الموضوعــة فــي الكــون‬ ‫ً‬ ‫قالــوا فــي تعريــف "الحمد" ‪-‬لمناســبته له‪ -‬إنــه "الوصف‬

‫بالجميــل علــى الجميــل االختيــاري للتعظيــم"‪ .‬والشــكر‬ ‫أخوه في هذا الميدان‪ ،‬غذاهما أصل اإليمان بلبانه فصارا‬

‫مــن أبنائــه‪ .‬قال ابن القيم‪" :‬فهو ســبحانه يحب ظهور أثر‬ ‫نعمتــه علــى عبده فإنه من الجمال الذي يحبه‪ ،‬وذلك من‬

‫شــكره علــى نعمه وهــو جمال باطن"‪ .‬وأمــا التوحيد فهو‬ ‫القنــاة االبتدائيــة المعرفــة بذلــك كلــه‪ ،‬الحاكمــة عليه في‬

‫سلم منازل اإليمان‪ ،‬ألنه يستلزمهما في منظومة التشريع‬

‫اإلســامي ومقاصــده التعبديــة‪ ،‬فيكون هو ســفينة النجاة‬ ‫حينمــا تتكاثــر النيــات وتتشــعب طر ًقــا ملتويــة فــي بحــر‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫اإلرادات‪ ،‬حتى إذا ارتقى على متن صهواته العبد الحائر‬

‫‪46‬‬

‫ال‪ -‬من‬ ‫فــي الفلــك الســائر كان قد حصل على أمانــه ‪-‬أو ً‬ ‫اختطــاف أمــواج النــزوات والرغبــات المرعبــة‪ ،‬ثــم جال‬

‫ثانيــا‪ -‬بجوانحــه المطمئنــة فــي فضــاء أســراره‪ ،‬هنالــك‬‫ً‬ ‫معــارج اإليمــان فيتنســم من صفو‬ ‫تبعــا‪-‬‬ ‫يصــادف ‪-‬ولــو ً‬ ‫َ‬

‫قطعــا تنشــل رئتيــه مــن حريــق التيه القاتــم‪ ،‬فتحيا‬ ‫عليلهــا ً‬ ‫بانتشــاقها ويطرب قلبه لشــذاها‪ ،‬فال يزال يذوب كاللحن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فــا يظهر ذلــك الجمال المقدس وال يبيــن ذلك الكمال‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والتحلــي بزينــة أصــل اإليمــان هــي حقيقته المجســدة له‬ ‫ــان َو َز َّي َن ُه‬ ‫هلل َح َّب َب ِإ َل ْي ُك ُم ا ِ‬ ‫ــن ا َ‬ ‫يم َ‬ ‫‪‬و َل ِك َّ‬ ‫كمــا قــال تعالى‪َ :‬‬ ‫إل َ‬ ‫ِفــي ُق ُلوب ُِك ْم‪(‬الحجــرات‪ .)7:‬والباعــث علــى ذلــك توحيــد‬ ‫الــرب ‪ ‬وتفريــده بالعبــادة وحمــده وشــكره على النعم‬

‫الثمــرة الجزئية ســائبة وحيدة فريــدة معزولة عن مثيالتها‬

‫الرفيــع‪ ،‬بل تنكســف حتى تلك اللمعــة الجزئية المتعلقة‬

‫منهــا وتضيــع وتنتكــس منقلبــة علــى عقبيهــا مــن نفاســة‬ ‫األلمــاس الثميــن إلى خساســة قطع الزجاج المنكســر"‪.‬‬

‫فالتوحيــد ‪-‬بمــا هو كلي معنوي مســتفاد من حقيقة النعم‬

‫ووظيفتها وليس من هياكلها المادية‪ -‬هو المقصود ابتداء‬ ‫من تلك النعم واآلالء المتجســدة في تلك الهياكل‪ ،‬فهو‬

‫جمــال تعبــدي باطن يترجمــه جمال تلك النعــم الراجعة‬ ‫إلــى المشــيئة الخلقية القدرية الحاكمــة على الجميع في‬ ‫الخلــق‪ .‬فالتوحيــد الممثل هنا لحقيقــة الجمال التعبدي‪،‬‬ ‫يجعــل الناظــر يبصــر الموجــودات الكونية فــي الدنيا بما‬

‫هــي مــرآة للجمــال اإللهي الســرمدي المطلــق‪ .‬ومن هنا‬

‫وقبــل كل شــيء‪ -‬كان "الشــرك اســتهانة بشــعة بالكــون‬‫وتعــد عظيــم عليــه وحــط مــن قيمتــه وتهوين من شــأنه"‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫قــال الشــاطبي يســرح فــي المســاق نفســه‪" :‬فالحاصل أن‬

‫مــا بــث فيهــا (أي الدنيا) مــن النعم الذي وضعــت عنوا ًنا‬ ‫ال علــى المعنى‪ٍ -‬‬ ‫بــاق وإن فني‬ ‫عليــه ‪-‬كجعــل اللفــظ دلي ً‬ ‫العنــوان"‪ .‬وإنمــا الذي وضعــت عنوا ًنا عليه هــو التوحيد‬

‫وهــو جمــال مسترســل ال يفنــى‪ ،‬يــدل عليه جمــال النعم‬

‫الكونيــة االبتالئيــة الــذي عمــا قريب ســيفنى دونــه كفناء‬ ‫الرســم دون الــروح‪ .‬وإنمــا جعــل هــذا لخدمــة ذاك‬


‫ــد ا ِ‬ ‫َ‬ ‫اك ْم‪(‬الحجــرات‪.")13:‬‬ ‫هلل َأ ْت َق ُ‬ ‫ــم ِع ْن َ‬ ‫فــي قولــه‪ :‬إ َِّن أ ْك َر َم ُك ْ‬

‫وقدرا‪ .‬وعلى‬ ‫في خلقه بقصد ابتالئهم واختبارهم قضاء‬ ‫ً‬

‫وهــو في التصور اإلســامي مقصد أصيــل وظيفته خدمة‬

‫هــذا النــوع مــن الجمــال وضعــت أصــول تلــك النعم في‬ ‫الكون ابتداء‪ ،‬قال تعالى‪ِ  :‬إ َّنا َج َع ْل َنا َما َع َلى ا َ‬ ‫ض زِ َين ًة‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ال‪(‬الكهف‪ ،)7:‬وقال سبحانه‪:‬‬ ‫َل َها ِل َن ْب ُل َو ُه ْم َأ ُّي ُه ْم َأ ْح َس ُن َع َم ً‬ ‫ين َوا ْل َق َن ِ‬ ‫الش َهو ِ‬ ‫اط ِير‬ ‫‪‬ز ِّي َن ِل َّلن ِ‬ ‫ُ‬ ‫ات ِم َن النساء َوا ْل َب ِن َ‬ ‫اس ُح ُّب َّ َ‬ ‫أيضا‪:‬‬ ‫ــن َّ‬ ‫الذ َه ِب َوا ْل ِف َّض ِة‪(‬آل عمران‪ ،)14:‬وقال ً‬ ‫ا ْل ُم َق ْن َط َــر ِة ِم َ‬ ‫وما‬ ‫ــم َاء ُّ‬ ‫ِيــح َو َج َع ْل َن َ‬ ‫اهــا ُر ُج ً‬ ‫َ‬ ‫الد ْن َيــا ب َِم َصاب َ‬ ‫الس َ‬ ‫‪‬و َل َق ْــد َز َّي َّنــا َّ‬ ‫ِ‬ ‫لشــي ِ‬ ‫أيضا‪ُ  :‬ق ْل َم ْن َحر َم زِ َين َة ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫اطين‪(‬الملك‪ ،)5:‬وقال ً‬ ‫ل َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫ا َّل ِتي َأ ْخر َج ِل ِعبا ِد ِه َو َّ ِ ِ‬ ‫الر ْز َِق‪(‬األعراف‪.)32:‬‬ ‫َ‬ ‫الط ِّي َبات م َن ِّ‬ ‫َ‬ ‫فهذه الزينة إنما وضعت للناس ‪-‬جميع الناس‪ -‬فال‬

‫كلي من الكليات المقاصدية الكبرى‪ .‬وقد تعبر عنه اللغة‬ ‫ٍّ‬ ‫التجريديــة كمــا تعبر عنــه اللغة التصويريــة‪ ،‬وذلك غالب‬ ‫الشــريعة كمــا هــو الحال بالنســبة لمجموع الصــور الفنية‬

‫اللغوية المنظومة في آي القرآن وجوامع كلم النبي ‪،‬‬ ‫وكذا الصور التجسيمية إذا أمنت الوقوع في حرم أصول‬ ‫العقيدة وقواعد التوحيد‪.‬‬

‫والجمــال فــي التصــور اإلســامي‪ ،‬ســواء تعلــق‬

‫بصــورة اإلنســان أم بفعلــه ونظامــه النفســي‪ ،‬أم بنعــم اهلل‬ ‫الوجوديــة فــي الخــارج‪ ،‬كل ذلــك ال يخلــو مــن تأطيــر‬

‫يتعلق بها مدح أو ذم من حيث هي كذلك قبل التكليف‬

‫نوعيــن مــن اإلرادة مرتبطيــن بمشــيئة اهلل فــي خلقــه همــا‬

‫بمقتضياتهــا الالزمــة عــن الدخــول فــي قانون االنتســاب‬

‫إرادة التكويــن‪ ،‬وإرادة التكليــف‪ .‬فمــا كان مــن األولــى‬

‫اإليمانــي‪ ،‬وإن تعلــق بهــا شــيء مــن ذلك فهــو تعلق عام‬

‫فهــو راجع إلى إرادته ســبحانه الكونيــة القدرية المتعلقة‬

‫خاصــا كمــا تعلــق العالمــان العلــوي والســفلي‬ ‫وليــس‬ ‫ً‬ ‫عمومــا‪ .‬قال ابن القيــم في تعليقه على‬ ‫بالمحبــة واإلرادة‬ ‫ً‬

‫بربوبيته وخلقه‪ ،‬وما كان من الثانية فهو راجع إلى إرادته‬ ‫توحيد األلوهية‪.‬‬ ‫توحيد الربوبية‪ ،‬والثانية عنوا ُنها‬ ‫عنوا ُنها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫واألمــران غيــر متالزميــن؛ فقــد يقضــي ويقدر مــا ال يأمر‬ ‫بــه وال شــرعه‪ ،‬وقــد يأمــر بمــا ال يقــدره وال قضــاه‪ .‬وقد‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫األمريــة التشــريعية المتعلقــة بألوهيتــه وشــرعه‪ .‬فاألولــى‬

‫اآليات السالفة‪" :‬فأخبر سبحانه عن خلق العالم والموت‬ ‫والحيــاة وتزييــن األرض بمــا عليهــا أنــه لالبتــاء"‪ .‬وقال‬

‫مقررا هذه الحقيقة‪" :‬ونظرة إلى السماء‪ ،‬كافية‬ ‫سيد قطب‬ ‫ً‬ ‫إلدراك أن الجمــال عنصــر مقصــود فــي بنــاء الكــون وأن‬

‫معــا‪ ،‬وقد ينفــرد الكوني فيمــا وقع من‬ ‫يجتمــع األمــران ً‬

‫صنعــة الصانــع فيــه بديعــة التكوين جميلة التنســيق‪ ،‬وأن‬

‫وإذن فــاإلرادة القدرية الخلقيــة هي "المتعلقة بكل مراد؛‬

‫قائم على جمال التكوين‪ ...‬فكل شــيء فيه يؤدي وظيفة‬

‫إلــى كونــه‪ ...‬واإلرادة األمريــة هي المتعلقــة بطلب إيقاع‬

‫األنصــاري ‪-‬رحمــه اهلل‪ -‬إلــى هــذه النكتــة بإشــارة لطيفة‬

‫أنــه يحــب فعــل ما أمر بــه ويرضاه‪ ،‬وكذلــك النهي يحب‬

‫اإليمانيــة"‪ .‬والكــون هنا كما ترى‪ ،‬ليــس بمعناه الفيزيائي‬

‫في الجمال االبتالئي‬

‫إلــى القضــاء والقدر بدليل مقابله وهــو "الزينة اإليمانية"‪.‬‬

‫المعاصــي كمــا ينفــرد التكليفي فيما وقع مــن الطاعات‪.‬‬

‫الجمال فيه فطرة عميقة ال عرض ســطحي وأن تصميمه‬

‫فمــا أراد اهلل كونــه كان‪ ،‬ومــا أراد أن ال يكــون فــا ســبيل‬

‫بدقــة وهــو فــي مجموعــه جميــل"‪ .‬وقــد أشــار األســتاذ‬

‫المأمــور به وعدم إيقــاع المنهي عنه‪ .‬ومعنى هذه اإلرادة‬

‫فقــال‪" :‬فالزينــة الكونيــة مبعــث وجدانــي للتحلــي بالزينة‬

‫ترك المنهي عنه ويرضاه"‪.‬‬

‫الضيــق فقــط‪ ،‬ولكــن بمعنــاه االبتالئــي الرمــزي الراجــع‬

‫إذا ثبت هذا‪ ،‬فالجمال االبتالئي هو أسباب الزينة التكوينية‬

‫ثــم ألن الجمــال التكوينــي البــد وأن تكــون أشــياؤه التي‬

‫علــى أن "األســباب والمســببات موضوعة فــي هذه الدار‬

‫توحيــد الزهيــري فــي تعليقــه على آيــة الزينة الســالفة في‬

‫ابتــاء للعبــاد وامتحا ًنــا لهم‪ ،‬فإنها طريق إلى الســعادة أو‬ ‫الشقاوة"‪ .‬أي هو جملة النعم التي امتن اهلل بها على عباده‬ ‫وجعلهــا حجــة على خلقــه‪ ،‬فهي دائمة االسترســال على‬

‫العبد دون انقطاع‪ .‬لكن ذلك كله مسيج بغطاء مشيئة اهلل‬

‫ســورة الكهــف‪" :‬بنــص هذه اآلية نعلــم أن الجمال الذي‬

‫تبديــه األشــياء هو حقيقة موضوعية توجــد خارج النفس‬ ‫اإلنســانية وتســتند إلى عمــل إلهي هو "التزييــن"‪ ،‬والغاية‬

‫منــه هو االبتالء"‪ .‬والجمال اإليماني التعبدي شــرارة من‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫سببا لالستمتاع على اإلطالق‪ ،‬بناء‬ ‫االبتالئية الموضوعة ً‬

‫يزدان بها الناس‪ ،‬مغايرة لهم منفصلة عنهم‪ .‬قال الدكتور‬

‫‪45‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬إدريس التركاوي*‬

‫احتضنْ خيار البشر‪ ..‬امنحهم قلبك‪ ..‬خذهم إلى المكان األسمى من حبك‪..‬‬ ‫سمحا كالمسيح كن‪..‬‬ ‫وفي الوقت نفسه كن ل ّينًا تجاه َمن ينكر شأنك‪ ،‬ويجافي فكرك‪ً ..‬‬ ‫عطو ًفا كقلبه‪ ..‬محي ًيا لموتى األرواح كأنفاسه‪.‬‬

‫املوازين‬

‫الجامل االبتاليئ والجامل التعبدي‬ ‫الجمال في داللته األصلية االبتدائية هو الحســن والبهاء والزينة‪ ،‬وإذا تعلق باإلنســان‬ ‫اشترط فيه التناسق والكمال في جميع األحوال في صيغة كلية ال تقتصر على جزئي‬

‫مــن جزئياتهــا‪ .‬قــال الراغب األصفهاني فــي "المفردات" في نص "هو المؤســس لهذه‬

‫الكلمات المتواضعة"‪" :‬الزينة الحقيقية ما ال يشــين اإلنســان في شــيء من أحواله ال في الدنيا وال في‬ ‫اآلخــرة‪ ،‬فأمــا مــا يزينــه فــي حالــة دون حالــة فهو من وجه شــين‪ .‬والزينــة بالقول المجمل ثــاث‪ :‬زينة‬

‫نفســية كالعلم واالعتقادات الحســنة‪ ،‬وزينة بدنية كالقوة وطول القامة‪ ،‬وزينة خارجية كالمال والجاه‪.‬‬ ‫‪‬م ْن َحر َم‬ ‫ــم ا ِ‬ ‫يم َ‬ ‫فقولــه َ‬ ‫‪‬ح َّب َ‬ ‫ان َو َز َّي َن ُــه ِفي ُق ُلوب ُِك ْم‪(‬الحجرات‪ )7:‬فهو من الزينة النفســية‪ ،‬وقوله َ‬ ‫إل َ‬ ‫ــب ِإ َل ْي ُك ُ‬ ‫َّ‬ ‫زِ َين َة ا ِ‬ ‫قوما كانوا يطوفون بالبيت‬ ‫هلل‪(‬األعراف‪ )32:‬فقد حمل على الزينة الخارجية؛ وذلك أنه قد روي أن ً‬ ‫عــراة‪ُ ،‬فن ُهــوا عــن ذلــك بهذه اآلية‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬بل الزينة المذكورة في هذه اآلية هي الكرم المذكور‬

‫‪44‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫إن الصــر عىل تلــة الرمــاة مهام كانــت الظروف‬

‫هــم عدد من الرمــاة بالمغــادرة‪ ،‬وكان الصحابي‬ ‫لحظتهــا َّ‬

‫واألحوال‪ ،‬أمر عســر ومرتقى صعــب‪ ،‬ال يقدره إال‬

‫يذكرهم بأمر رسول اهلل ‪،‬‬ ‫الجليل عبد اهلل بن جبير ‪ّ ‬‬

‫الفحــول‪ ،‬وال يســتطيعه إال املق َّربــون‪ ،‬وال ميلك‬

‫أن األمر‬ ‫أولوه َّ‬ ‫إال أنهم وإن لم يعصوا أمره ‪ ‬غير أنهم َّ‬

‫الثبــات عليه إال املؤ َّيــدون‬ ‫امللهمــون الر ّبانيون‬ ‫َ‬

‫ال يشــمل نهاية المعركة وإنما أوانها فقط‪ .‬فغادروا الت ّلة‪،‬‬

‫ممن محق َ‬ ‫"أنَاه" وســحقها‪ ،‬وانصهر يف الجامعة‬

‫ومن تحت إمرته‬ ‫وتركــوا الظهر مكشــو ًفا‪ّ ،‬‬ ‫ومكنوا لخالد َ‬

‫ربا وعشقً ا‪.‬‬ ‫ص ً‬

‫رقــاب الجيش المســلم؛ فــدارت الدائرة لصالــح الكفار‪،‬‬

‫ســلم لــكان مــا كان مــن أمــر رســول اهلل ‪‬‬ ‫أن اهلل ّ‬ ‫ولــوال َّ‬

‫وصحبه الكرام ‪.‬‬ ‫شك أني لست بصدد ديباجة مقال عن السيرة‬ ‫ما من ٍّ‬

‫علــى تلــة الرمــاة اليــوم يقــف المع ِّلمــون الصادقــون‪،‬‬

‫األحمديون‪...‬‬ ‫والخــدام المتفانون‪ ،‬والنافعون لخلــق اهلل‬ ‫ّ‬ ‫هــم ق ّلــة إذا ِقيســوا بأهــل المناصب والوظيــف‪ ،‬وهم ث ّلة‬

‫النبوية‪ ،‬وال في مقام اســتنباط العبر والمعاني الالمتناهية‬ ‫مــن هــذا الحــدث الخطيــر فــي تاريــخ البشــرية قاطبــة‪،‬‬

‫يســيرة بيــن صفوف أهل المكاســب والرغيــف‪ ،‬وهم "ال‬

‫الحضــاري الــذي تــدور رحــاه فــي عصرنــا بيــن الحــق‬

‫مــن عند اهلل‪ ،‬ســواء في ذلك عرفهــم العارفون أم جهلهم‬

‫فأيــن هي تلــة الرماة اليوم؟ ومن هم الرماة المكلفون‬

‫الخدمــة ونفــع العبــاد بــا مقابــل وال أجــر ‪-‬فيمــا‬

‫والباطل‪ ،‬وبين الصدق والكذب‪ ،‬وبين اإليمان والجحود‪.‬‬

‫الجاهلون أم جحدهم الجاحدون‪ ...‬ال فرق‪.‬‬

‫سيتمكنون من استنباط العبر‪ ،‬ومن ثم‬ ‫بالصبر عليها؟ وهل‬ ‫ّ‬

‫نحســب‪ ،‬وفيمــا نــرى‪ ،‬وبنــاء علــى الخيــارات الشــاقة‬

‫يالزمون التلة مهما كانت الظروف؟ أم أنهم يســتعجلون‬ ‫رهبا؟‪.‬‬ ‫رغبا أو ً‬ ‫ويلتحقون بصفوف المنتصرين ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وإنمــا مقصــدي هو البحث عــن "ت ّلة الرمــاة" في الصراع‬

‫تنزل‬ ‫شيء" في عيونهم؛ إال أنهم مصدر كل بركة ورحمة ّ‬

‫والشديدة التي تخيرتها طواعية وإيما ًنا‪ -‬تقف اليوم على‬

‫تلــة الرمــاة‪ ،‬ذلــك أنهــا اختــارت التربيــة والتعليم‪ ،‬ونشــر‬

‫أن تلــة الرمــاة اليــوم هــي "حقــول التربيــة‬ ‫أجــزم َّ‬ ‫والتعليــم"‪ ،‬وفي المســتوى األشــمل هــي "الخدمة ونفع‬

‫العالــم‪ ،‬وكشــف الكــرب عن المظلوميــن المقهورين من‬

‫عليهــا ال يبــدو أنــه يحــارب‪ ،‬وال يقال عنه "بطــل"‪ ،‬مثلما‬

‫بذواتهــم‪ ،‬وإنمــا يتولــون بذلــك بقلــوب مؤمنــة‪ ،‬وأفئــدة‬

‫الخير والبر‪ ،‬وإدخال الســرور على البشــر من كل أصقاع‬

‫أن هــذه التلــة‪ ،‬ليــس فيها مكاســب‪ ،‬ومن‬ ‫الخلــق"‪ .‬ذلــك َّ‬

‫كل جنــس ولــون‪ ،‬دون أن يبحثــوا عن مقابل أو يتبجحوا‬ ‫ِّ‬

‫هــو الحال مــع "السياســي" و"االقتصادي" و"المشــاهير"‬

‫يرددون‬ ‫مطمئنــة‪ ،‬وأرواح زكية‪ ،‬ونفــوس مرضية‪ ...‬وهم ّ‬ ‫في كل وقت وحين‪َ " :‬ف َد َاك ْار ِليق يا هو"(‪َ " ،)1‬أ َدب يا هو"‪،‬‬ ‫"إيمان يا هو"‪" ،‬يقين يا هو"‪َ " ،‬ق ُبول يا هو"‪.‬‬

‫ْيفهم أحد حقيقتهم‪ ،‬وقد يكونون مثار جدل‪.‬‬

‫انتمائــه وجغرافيتــه‪ ،‬وعــن فصلــه وأصلــه‪ ...‬هــؤالء هــم‬

‫كل فن وحقل‪ ...‬ثم إن النصر قد ال ُينسب لهم‪ ،‬وقد‬ ‫من ِّ‬

‫يعتقد الكثيرون أن هؤالء ال ناقة لهم وال جمل فيما يناله‬

‫الناس من تقدم وإنجاز‪ ...‬وبالتالي‪ ،‬قد ُيظلمون‪ ،‬وقد ال‬

‫بغــض النظــر عــن‬ ‫ومــن كان علــى شــاكلتهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هــؤالء َ‬

‫ثــم إن الصبــر علــى تلــة الرمــاة مهما كانــت الظروف‬

‫وظننــا بحــول اهلل تعالــى فيهــم‪ ،‬أنهــم‬ ‫رمــاة هــذه األمــة‪ّ ،‬‬

‫واألحــوال‪ ،‬أمــر عســير‪ ،‬ومرتقــى صعــب‪ ،‬ال يقــدره إال‬

‫صبــرا وعشــ ًقا‪ ،‬والتزم‬ ‫وســحقها‪ ،‬وانصهــر فــي الجماعــة‬ ‫ً‬

‫ســلكا‪ ،‬ولــم يكن في إشــارته‬ ‫الوعــي الجمعــي‬ ‫وم ً‬ ‫مذهبــا َ‬ ‫ً‬

‫يحيل إال إلى اهلل تعالى وحده‪ ،‬هو صاحب األمر والملك‬ ‫بحكمه وعلى مقتضى ِحكمته‪.‬‬ ‫والخلق‪ ،‬ال شيء يكون إال ْ‬

‫ا ْل ِم َيع َاد‪(‬الرعد‪.)31:‬‬

‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪َ " )1‬ف َد َاك ْار ِليق" في اللغة التركية تعني العطاء والتضحية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫الفحــول‪ ،‬وال يســتطيعه إال المقربــون‪ ،‬وال يملك الثبات‬ ‫َّ‬ ‫الربانيون ممن محق " َأ َناه"‬ ‫المؤيــدون‬ ‫عليــه إال‬ ‫َ‬ ‫الملهمون ّ‬ ‫َّ‬

‫سيعم‬ ‫وأن اإلسالم بفضلهم‬ ‫سيثبتون‪ ،‬وأنهم سيصبرون‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪‬و ْع ُد ا ِ‬ ‫ف‬ ‫هلل َ‬ ‫ال ُي ْخ ِل ُ‬ ‫هلل إ َِّن ا َ‬ ‫األكوان‪ ،‬وسيغمر العالمين‪َ ...‬‬

‫‪43‬‬


‫تربية‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫تلّةال ُّرماة‬

‫غزوة أحد‪ ...‬تلك التي كانت للمسلمين‬

‫أن النبي ‪‬‬ ‫الرماة" رمز وداللة؛ ذلك َّ‬ ‫ولقد كان لـ"ت ّلة ُّ‬

‫ذهبــا؛ ذلك أ َّنهــم طعموا ‪-‬فيها‪-‬‬ ‫األرض ً‬

‫التلــة فــي جميع الظــروف ومهما كانــت تقلُّبات الحرب‪،‬‬

‫درسا ال ُينسى‪ ،‬وعبرة ال ُيشترى بها ملء‬ ‫ً‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫مــذاق الهزيمــة‪ ،‬ونالهــم منها شــيء من ريــح االنهزام‪...‬‬

‫‪42‬‬

‫ديا‪ ،‬وأنه أســباب‬ ‫وحينهــا تي ّقنــوا َّ‬ ‫وع ً‬ ‫أن النصــر ليــس ْ‬ ‫ــدا َأب ًّ‬ ‫ومقدمــات‪ ،‬وبواعــث وتحضيــرات إذا مــا و َفوهــا ح ّقهــا‬ ‫وغلبوا‪ ،‬وهذا‬ ‫ومســتحقها ُنصروا َ‬ ‫وغلبوا‪ ،‬وإال انكســروا ُ‬

‫فحــوى قولــه تعالــى‪ :‬ليــس ِب َأما ِن ِيكــم وال َأما ِن‬ ‫ــل‬ ‫ــي َأ ْه ِ‬ ‫َ ْ َ َ ّ ُ ْ َ َ َ ِّ‬ ‫اب‪(‬النساء‪.)123:‬‬ ‫ا ْل ِك َت ِ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بتخطيطــه المحكــم وبتكتيكه الملهم‪ ،‬أمر الرماة بمالزمة‬ ‫يتمكن الكفار‬ ‫بهــذا تــم االنتصار ابتداء للمســلمين‪ ،‬ولــم ّ‬

‫وعلى رأسهم القائد الصعب المراس خالد بن الوليد‪ ،‬لم‬ ‫يتمكنــوا من مباغتة الجيش المجاهد من الخلف‪ ،‬فهرب‬ ‫ّ‬ ‫جيش قريش ورجع القهقرى‪.‬‬

‫لكن في هذه اللحظة الصعبة تغير كلُّ شيء‪ ،‬وبخاصة‬

‫حين بدأ الجنود يجمعون الغنائم ويحصدون المكاسب‪.‬‬


‫فــي ضــوء المبــادئ اإلســامية النبيلــة وهــدي الديــن‬

‫وتشــير مصــادر التاريــخ األيوبــي إلــى أن القدس في‬

‫العدل وإشــاعة الحرية والمســاواة ورفع مشعل الهداية‪،‬‬

‫أتــاح لســاكنيها مــن غيــر المســلمين الفرصــة لمارســة‬

‫القيــم وأهدافــه الســامية‪ ،‬وعلــى أســاس مــن إقامــة ميزان‬

‫عظيما من التسامح‬ ‫قدرا‬ ‫عصر صالح الدين‪ ،‬قد شهدت ً‬ ‫ً‬

‫جاء الفتح اإلسالمي لبيت المقدس مرتين‪ ،‬مرة في أيام‬

‫أنشطتهم اليومية بحرية مطلقة‪ ،‬مما أتاح الفرصة لصالح‬

‫عمر بن الخطاب‪ ،‬وأخرى في أيام صالح الدين األيوبي‬

‫لدين لكي يعنى بالخدمات العامة وإنشاء البيمارستان‪.‬‬

‫‪ .‬وقــد فتــح عمرو بن العــاص ‪ ‬بيت المقدس‪ ،‬بعد‬

‫إن التسامح الذي نراه هنا‪ ،‬فعل إيجابي ومروءة نفسية‬

‫أن حاصــر المدينة‪ ،‬ولما طــال الحصار على أهلها طلبوا‬

‫وتوجــه صــادق نحو اآلخر‪ ،‬ال موقف ســلبي اضطراري‪،‬‬ ‫ّ‬

‫الصلــح على شــرط أن يكون المتولــى عمر بن الخطاب‬

‫خاصــة وأن االختــاف بمــا هو حقيقة كونية وإنســانية ال‬

‫كتابــا أمنهــم فيــه علــى‬ ‫‪ ،‬فكاتبهــم عمــر وكتــب لهــم ً‬

‫ينبغي أن يحول دون استشعار معنى الرحم الجامعة لبني‬

‫أرواحهم وأموالهم وعقائدهم‪ .‬وتأتي رسالة عمر ‪ ‬إلى‬

‫اإلنســان‪ .‬ولعــل مقاربــة أخــرى مــن الصحيفــة وأخواتها‬

‫نموذجا للتسامح الديني والسلوك الحضاري‬ ‫أمراء الشام‬ ‫ً‬

‫أن تظهرنــا علــى اعتــراف اإلســام بالتعدديــة المليــة فــي‬

‫الراقييــن فــا تهــدم كنائســهم وال يكرهــون علــى دينهم‪.‬‬

‫األرض‪ ،‬وعلى أن ذلك شــرط موضوعي للتعارف الذي‬

‫وحين دخل عمر بن الخطاب بيت المقدس‪ ،‬وفي كنيسة‬

‫يتجاوز معرفة اآلخر إلى "القسط بالمعروف" معه‪ ،‬وإلى‬

‫القيامــة‪ ،‬ولما حان وقــت الصالة‪ ،‬صلى عمر على مقربة‬

‫أن يكون "كالنفس غير مضار" و"أن يكون البر المحض"‬

‫يصل داخلها خشية أن يتخذ المسلمون‬ ‫من الكنيسة ولم‬ ‫ّ‬ ‫وقــد حظــي نصارى بيــت المقدس بالرعايــة الكاملة‪،‬‬

‫وكفلت لهم الدولة اإلسالمية الحرية المطلقة في ممارسة‬ ‫عقائدهم الدينية وأنشطتهم االقتصادية واالجتماعية وقد‬

‫عنــي بهــم ســاطين المماليــك حتــى أن رئاســة بطريــرك‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫صالتــه في داخل الكنســية ذريعة فيضعــوا أيديهم عليها‪.‬‬

‫هو ضابط العالقة معه وميزانها‪.‬‬

‫ومــن مظاهــر تســامح المســلمين مــع غيرهــم مــن‬

‫أصحــاب الملــل األخــرى‪ ،‬مــا ألفينــاه لــدى األندلســيين‬ ‫ليــس فقــط مــن منــح المســيحيين واليهــود حريــة العبادة‬

‫وإقامــة الكنائــس واألديــرة والبيع‪ ،‬وممارســة شــعائرهم‬

‫فضــا عــن اســتخدامهم في وظائــف الدولة إلى‬ ‫الدينيــة‪،‬‬ ‫ً‬

‫مرســوما من الســلطان فــي القاهرة‪،‬‬ ‫الســريان كان يصــدر‬ ‫ً‬ ‫و ُأعفوا من الرســوم المفروضة على زائري كنسية القيامة‬

‫من اليهود والنصارى عدد من أعالم األندلس في الطب‬

‫وفي عهد الســلطان "برسباي" استمرت هذه االمتيازات‪.‬‬

‫هذا التسامح في مشاركتهم أعيادهم التي تختص بهم‪.‬‬

‫بالدهــم أمام اليهــود‪ ،‬ليدخلوا آمنين وينتقلوا بين ربوعها‬

‫(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫والتوصية عليهم باإلحسان لهم ومعاملتهم معاملة حسنة‪،‬‬ ‫وبمثــل هــذه الــروح الطيبــة فتــح المســلمون أبــواب‬

‫ســالمين‪ ،‬وســمحوا لهــم بممارســة نشــاطهم الخــاص‬ ‫والعــام علــى أوســع نطــاق‪ ،‬وأباحــوا لهــم التتلمــذ علــى‬

‫أيديهــم واألخــذ عنهــم‪ ،‬وأجــازوا لهم الكثير مــن المهام‬

‫واألعمــال والمناصــب الرســمية وغيــر الرســمية‪ ،‬فصــار‬ ‫تسامح المسلمين مع اليهود من السماح لهم باالحتفاظ‬

‫بهياكلهــم ومعابدهــم في بيت المقــدس في الوقت الذي‬ ‫أمــرت الكنســية فــي غــرب أوربا بتحطيــم هيــاكل اليهود‬

‫وإهدار دمهم‪.‬‬

‫أيضا تجلى‬ ‫والفلسفة واألدب وسائر العلوم والفنون‪ ،‬بل ً‬

‫الهوامش‬ ‫(‪)1‬‬

‫الدعــوة إلــى اإلســام‪ ،‬لـــسير تومــاس أرنولــد‪ ،‬ص‪،792-730:‬‬

‫ترجمة‪ :‬الدكتور حســن إبراهيم حســن‪ ،‬والدكتور عبد المجيد عابدين‪،‬‬ ‫القاهرة ‪.1970‬‬

‫(‪ )2‬الصحيفــة أنمــوذج مــن التســامح فــي اإلســام‪ :‬إبراهيــم العجلوتي‪،‬‬ ‫ص‪.50-49:‬‬

‫(‪ )3‬الــدول اإلســامية‪ ،‬للدكتــور كامــل الدقــس‪ ،‬ص‪ ، 79:‬دار األرقــم‪،‬‬ ‫عمان ‪.1993‬‬

‫(‪)4‬‬

‫بحــوث فــي اإلســام والمجتمــع‪ ،‬للكدتــور علــي عبــد الواحــد‪،‬‬

‫ص‪ ،73:‬القاهرة ‪.1977‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫منهم التجار والصيارفة واألطباء والوزراء‪ .‬وال أدل على‬

‫حد اتخاذ بعض الوزراء والكتاب منهم‪ ،‬حتى لقد اشتهر‬

‫‪41‬‬


‫"علــى إباحة الحريات‪ :‬حرية العقيــدة‪ ،‬واإلقامة والتنقل‪،‬‬

‫ونصت معاهدة خالد بن الوليد ‪ ‬لبالد عانات على‬

‫تضــر مصلحــة المجموع وتراعي المبــادئ األخالقية في‬

‫الصلبان في أيام عيدهم"‪ .‬كذلك معاهدة حذيفة بن اليمان‬

‫"أن ال يهــدم لهــم بيعــة وال كنيســة‪ ،‬وعلــى أن يخرجــوا‬

‫ومزاولــة الحــرف دون تقييــد مــا دامت هــذه الحريات ال‬

‫‪ ‬مــع أهــل ماه دينار على "إعطاء األمان على أنفســهم‬

‫السلوك الفردي وفي العالقات اإلجتماعية"(‪.)4‬‬

‫ومهمــا يكــن األمــر فــي اســتخالص دالالت هــذه‬

‫وأموالهم وأرواحهم وال يغيرون عن ملة وال يحال بينهم‬

‫الفقهــي لبنودهــا‪ ،‬فإنها حافلة بــدالالت أخرى تتعلق بما‬

‫بن العاص ‪ ‬أن يعقد مع من س ّلموا له حصن بابليون‪،‬‬

‫وبين شــرائعهم ولهم المنعة"‪ .‬وفي مصر اســتطاع عمرو‬

‫الصحيفة في جانبيها السياسي والتنظيمي أو في التحرير‬ ‫وراء البنــود مــن التوجــه نحــو وحــدة الشــعور بالجماعــة‬

‫صلحــا شــرط لهــم فيــه أن ال تبــاع نســاؤهم وأبناؤهــم‬ ‫ً‬

‫اإلنســانية‪ ،‬وحميميــة العالقــات فيمــا بيــن أفرادهــا علــى‬

‫وال يســبون وأن تقــر أموالهــم وكنوزهــم فــي أيديهــم"‪.‬‬ ‫وفي ضوء العهود السابقة وغيرها في عصر الراشدين‬

‫اختــاف االنتمــاء الدينــي وال َق َبلــي‪ .‬وتــم فــي الصحيفــة‬

‫وكذلك عصر األمويين‪ ،‬فقد تأكد لنا أنه كانت تقوم على‬

‫ال‬ ‫اعتبرا مدخ ً‬ ‫إشــارات إلى "المعروف والقســط" اللذيــن ُ‬ ‫عاما لها‪ ،‬وإلى أن "ذمة اهلل واحدة"‪ ،‬و"أن سلم المؤمنين‬ ‫ًّ‬

‫أســاس المعاملة المتســامحة مع أهالي األديان األخرى‪،‬‬

‫غيــر مضــار"‪ ،‬و"أن اهلل علــى أتقــى مــا فــي هــذه الصحيفة‬

‫الدينيــة في ممارســة شــعائرهم وطقوســهم‪ ،‬كذلــك نالوا‬

‫وإتاحــة كافــة الحريــات والحقوق‪ ،‬فأعطيــت لهم الحرية‬

‫واحــدة"‪ ،‬و"أن النصــر للمظلــوم"‪ ،‬و"أن الجــار كالنفــس‬

‫الحريــة المدنيــة مــن خالل مــا أتاحه لهم المســلمون من‬

‫وأبــره"‪ ،‬و"أن البــر دون اإلثــم"‪ ،‬و"أن اهلل علــى أصدق ما‬ ‫مثــل مــا ألهل هــذه الصحيفة مع البــر المحض من أهل‬

‫هذه الصحيفة"‪ ،‬و"أن اهلل جار لمن بر واتقى"‪.‬‬

‫إن هذه الصحيفة قد صدرت عن رؤية إيمانية شاملة‬

‫دينيا على أنه توسعة‬ ‫ترى إلى اآلخر المختلف‬ ‫ًّ‬ ‫عقديا أو ًّ‬ ‫للــذات وميــدان لفضائلهــا ولمــا تتمتــع بــه مــن معروف‬

‫التماســا‬ ‫وقســط وبر وتقوى وصدق‪ ،‬وحســبك ذلك كله‬ ‫ً‬ ‫تعزيزا‬ ‫لوحدة الشــعور اإلنساني في المجتمع الواحد أو‬ ‫ً‬ ‫لوحدة الخلق‪ ،‬على تنوع مللهم ونحلهم وألســنتهم‪ ،‬في‬ ‫مقابــل وحدانيــة الخالــق الذي شــاء ســبحانه أن يجعلهم‬

‫ومنهاجا‪،‬‬ ‫شعوبا وقبائل ليتعارفوا‪ ،‬وأن يجعل منهم شرعة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫وقضت حكمته أن ال يزالون مختلفين حتى يبلوهم أيهم‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫ال‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬وأيهم أتقى له وأقوم سبي ً‬ ‫أحسن عم ً‬

‫‪40‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فــي هذه الصحيفة"‪ ،‬وأن اليهود مواليهم وأنفســهم "على‬

‫حماية وأمان على أرواحهم وأموالهم وأنفســهم وما إلى‬ ‫ذلك‪ ،‬مما يجعلهم يعيشون كيفما شاؤوا‪.‬‬

‫كمــا أنه لم يكتف المســلمون بهــذه العهود التي تبرم‬

‫مــع غيــر المســلمين مكفولــة بهــذه الحريــات الســابقة‪،‬‬ ‫حريصــا على أن‬ ‫فوجدنــا الخليفــة عمــر بــن الخطاب ‪‬‬ ‫ً‬ ‫يلحق هذه العهود بوصايا من قبله موجهة إلى كافة القادة‬

‫والــوالة بأن يمنعوا المســلمين من ظلــم أهل الذمة‪ ،‬وأن‬

‫يوفوا لهم بعهودهم وال يكلفوا فوق طاقاتهم‪.‬‬

‫وهــذه الــروح التــي نصــت عليهــا تلــك العهــود لــم‬

‫طبِق‬ ‫تكــن مجــرد إطــار نظــري ُوضــع للمعاهدين‪ ،‬لكنــه ّ‬ ‫عمليــا فــي كل البــاد المفتوحة‪ .‬ولم يكــن فرض الجزية‬ ‫ًّ‬ ‫عقابــا لهــم المتناعهم عــن الدخول في‬ ‫الذمــة‬ ‫أهــل‬ ‫علــى‬ ‫ً‬ ‫اإلســام‪ ،‬ولكنها كانت مقابل الحماية لهم وتأمينهم في‬

‫وقــد ســار خلفــاء الرســول ‪ ‬علــى منهاجــه القويــم‬

‫كثيرا من األعباء‬ ‫دار اإلســام‪ .‬فإذا كان المســلم يتحمل ً‬

‫عمر بن الخطاب ‪ ‬في حاجة ‪-‬وكانت مشركة فدعاها‬

‫عــن اإلســام‪ ،‬فــا أقــل مــن فــرض الجزية علــى الذمي‪،‬‬

‫فــي عــدم اإلكــراه فــي الدين؛ جــاءت امــرأة إلــى الخليفة‬ ‫إلــى اإلســام فأبــت‪ -‬فقضــى حاجتهــا‪ ،‬لكنه خشــي ألن‬

‫يكــون فــي تصرفه هــذا ما ينطوي علــى إكراهها للدخول‬ ‫فــي اإلســام‪ ،‬فاســتغفر اهلل عمــا فعــل وقــال‪" :‬اللهــم إني‬

‫أرشدت ولم أكره"‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫دافعــا للــزكاة ويــؤدي الخدمــة العســكرية للزود‬ ‫باعتبــاره ً‬ ‫لذلــك فهنــاك ارتبــاط بيــن المنعــة والجزيــة حتــى يتعادل‬

‫الفريقــان فــي تحمل المســؤولية باعتبارهمــا رعاية لدولة‬ ‫واحدة‪ ،‬كما تعادال في التمتع بالحقوق وتساويا بالتمتع‬

‫بالمرافق العامة للدولة‪.‬‬


‫الديني الذي عانوا منه عدة قرون‪ ،‬فتركوا ‪-‬ألول مرة في‬

‫والمال‪ .‬والجماعة كلها هي التي تقوم بحماية األمن في‬

‫اإلسالمية‪ ،‬لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين‪،‬‬

‫بينهــم"‪ .‬والجماعة متعاونة لمســاعدة المحتــاج والمدين‬

‫جميعا على من ابتغى دسيسة فساد‬ ‫داخلها "ويد المؤمنين‬ ‫ً‬

‫جزءا مــن رعية الدولة‬ ‫تاريخهــم‪ -‬ومــا يدينون وأصبحوا ً‬

‫والمريــض‪ ،‬وهــي ملزمة بمعاونته في فداء أو أســر‪ ،‬وكل‬

‫وظلــوا أغلبيــة غير مســلمة في بالدهم لعــدة قرون‪ ،‬حتى‬

‫مجموعــة قبليــة من أهل المدينة مســؤولة عــن األمن في‬

‫دخــل منهــم من دخل في اإلســام دون إكــراه‪ ،‬بل ودون‬

‫مواطنهــا وعــن حمايــة المدينة مــن ناحيتهــا‪ ،‬واألمة كتلة‬

‫ترهيب‪ ،‬وفي أحيان كثيرة دون ترغيب‪ .‬وبقي منهم على‬

‫صلحا إال‬ ‫واحدة "يد المسلمين واحدة" وال تعقد جماعة‬ ‫ً‬

‫نصرانيته أو يهوديته أو زرادشــتيته‪ ،‬شــاهدين بذلك على‬

‫هذه السماحة غير المسبوقة التي جاء بها اإلسالم‪ ،‬والتي‬

‫باتفاق الجماعة‪ .‬لكل مجموعة رياســتها وهم مســؤولون‬

‫وضعتها دولته وحضارته في الممارسة والتطبيق‪.‬‬

‫عــن جماعتهــم مــن كل ناحية‪ .‬والقاعدة فــي التعامل هي‬

‫غريبــا أن نجــد المستشــرق‬ ‫ومــن هنــا ال يكــون‬ ‫ً‬ ‫اإلنجليزي "سير توماس أرنولد" (‪1930-1864‬م) يعلن‬

‫أي إن اهلل يؤيد‬ ‫الوفاء دون الحنث و"أن اهلل على أبر هذا" ْ‬

‫بالنصراينــة‪" :‬إنــه مــن الحــق أن نقــول إن غير المســلمين‬

‫وإذا هوجمــت المدينــة فالبد أن يشــترك الجميع في‬

‫أي إن‬ ‫البر أي الوفاء‪ ،‬فمن نصوصها‪" :‬والبر دون اإلثم" ْ‬ ‫أصفى وأصدق ما في هذه الوثيقة من الوفاء‪.‬‬

‫عن ســماحة اإلســام عندما يقول وهو شــديد التمســك‬

‫الدفــاع‪ .‬أمــا إذا قامــت جماعــة بحــرب خــارج حدودهــا‬

‫قــد نعمــوا ‪-‬بوجه اإلجمال‪ -‬في ظل الحكم اإلســامي‪،‬‬ ‫ال فــي أوربــا في‬ ‫بدرجــة مــن التســامح ال نجــد لهــا معــاد ً‬ ‫ويظهر تســامح اإلســام في مواقفه الكريمة مع غير‬

‫المســلمين فــي عهــود األمــان التــي أعطيت لهــم؛ فكانوا‬ ‫يقيمــون فــي بالدهــم بنــاء على هــذه العهود تحــت مظلة‬

‫اإلسالم‪ ،‬وكان األمان يشكل القاعدة اإلسالمية األساسية‬

‫بعــد دخول المســلمين البــاد المفتوحــة‪ ،‬وبمقتضى هذا‬

‫األمان أتيح لغير المسلمين كثير من الحقوق والحريات‪.‬‬ ‫وكان عهــد األمــان الــذي َعقــده الرســول الكريــم ألهــل‬

‫نجران‪ ،‬هو المثال الذي عقدت على منواله عهود األمان‬ ‫الالحقة‪.‬‬

‫وفــي الحقيقــة يمكــن التأســيس لــكل هــذه الوقائــع‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫األزمنة الحديثة"(‪.)1‬‬

‫فــا إلــزام‪ ،‬وليخرج من يريد‪ ،‬ولكن الرســول ‪ ‬كان إذا‬ ‫سعيدا‪ .‬وهذه‬ ‫مختارا‬ ‫أحدا لمهمة سارع في التنفيذ‬ ‫ً‬ ‫ندب ً‬ ‫ً‬

‫القواعد واردة في القرآن الكريم بهديه وأخالقه التي هي‬ ‫مــكارم األخــاق أو المروءة اإلســامية التي حلت محل‬ ‫المروءة الجاهلية ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫وإذا كان الدكتــور حســين مؤنــس قــد ّغلــب ‪-‬فــي‬

‫تحليلــه للصحيفــة‪ -‬جانــب األمة علــى الدولة‪ ،‬ورأى في‬ ‫عســكريا أو‬ ‫قائدا‬ ‫نبيا‬ ‫منيرا‪ ،‬ال ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الرســول الكريم ًّ‬ ‫وســراجا ً‬

‫دبلوماســيا‪ ،‬فإن الدكتور "كامــل الدقس" يرى‬ ‫قائــد دولــة‬ ‫ًّ‬

‫فــي الصحيفــة إعال ًنا عن "قيام دولة قانونية في األرض"‪،‬‬ ‫وقد نظم الرسول الكريم جميع شؤونها ورسم سياستها‬

‫الداخلية والخارجية بصفته الرئيس األعلى للدولة‪.‬‬

‫تحــض علــى التســامح وتؤكــد علــى‬ ‫التاريخيــة التــي‬ ‫ّ‬ ‫ضرورة التعاون بين اإلنســان وأخيه اإلنســان على الرغم‬

‫دســتورا للدولــة نظــم فيــه شــعب دولتــه وحــدد‬ ‫الرســول‬ ‫ً‬

‫دســتورا لليهــود مــن‬ ‫"الصحيفــة" الــذي أعطــاه النبــي ‪‬‬ ‫ً‬

‫والواجبات على مواطني الدولة من اليهود وقبائلهم‪ ،‬ومن‬

‫مــن اختــاف الديانــات وتعــدد الملــل والنحــل فــي عهد‬

‫البشرية في عمرها الطويل بمثله‪.‬‬

‫وبين فيه الحقوق‬ ‫العالقة بين المسلمين وغير المسلمين‪ّ ،‬‬ ‫القبائــل المتفرقة مــن األوس‪ ،‬والخزرج‪ ،‬والمهاجرين‪...‬‬ ‫دســتورا‬ ‫يعد‬ ‫وهذا الكتاب الذي يعرف بعقد "الصحيفة" ّ‬ ‫ً‬

‫وتحدد الصحيفة ‪-‬فيما يرى الدكتور حسين مؤنس‪-‬‬

‫فريــدا لــم تحلــم البشــرية في عمرهــا الطويل منذ نشــأتها‬ ‫ً‬

‫والبــر (والبــر معنــاه الوفــاء)‪ ،‬ولهــم األمــن علــى النفــس‬

‫ولعــل ألصــق القواعــد بموضوعنــا‪ ،‬تلــك التــي تنص‬

‫واجبــات أعضاء هذه الجماعة وحقوق كل منهم‪ ،‬العدل‬

‫وإلى يوم الناس هذا بمثله"(‪.)3‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫دستورا لم تحلم‬ ‫ساكني المدينة‪ ،‬حيث وضع بالصحيفة‬ ‫ً‬

‫ويقــول الدكتــور كامل الدقس فــي ذلك‪" :‬لقد وضع‬

‫‪39‬‬


‫ثقافة وفن‬

‫أ‪.‬د‪ .‬بركات محمد مراد*‬

‫من مظاهر التسامح يف اإلسالم‬ ‫تأســس مجتمــع المدينــة بعــد هجــرة‬

‫المطلق من اإلنسان لخالقه‪ ،‬وهو أمر ال يتم باإلكراه‪.‬‬

‫والثقافيــة‪ ،‬ومــارس المســلمون ذلك من‬

‫لهــا فــي دينها برعاياها األصليين في شــأن قوانين العدالة‬

‫الرســول ‪ ‬إليهــا علــى التعدديــة الدينية‬

‫عمليا على مدى تاريخهم الطويل‪.‬‬ ‫بعده‬ ‫ًّ‬

‫ويؤكــد ذلــك ما يعرفــه التاريخ من أن المســلمين لم‬

‫أحدا على الدخول في اإلسالم‪ ...‬فالحرية الدينية‬ ‫ُيكرهوا ً‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫مكفولة للجميع‪،‬‬ ‫وتعد مبدأ من المبادئ اإلسالمية التي‬ ‫ّ‬ ‫ال إ ِْك َــر َاه ِفــي‬ ‫أكدهــا القــرآن الكريــم فــي قولــه تعالــى‪َ  :‬‬ ‫ين‪(‬البقــرة‪ .)256:‬فالعقيــدة تتصل بعالقة اإلنســان بربه‪،‬‬ ‫الد ِ‬ ‫ِّ‬ ‫وبالتالــي فهــي تفتــرض االقتنــاع الكامــل بهــا‪ ،‬والتســليم‬

‫‪38‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ولم يحفظ التاريخ أن أمة سوت رعاياها المخالفين‬

‫ونوال حظوظ الحياة بقاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"‬

‫مــع تخويلهــم البقــاء على رســومهم وعاداتهــم‪ ،‬مثل أمة‬ ‫المســلمين‪ ،‬فحقيق هذا الذي نســميه التسامح بأن نسميه‬ ‫"العظمة اإلسالمية"‪.‬‬

‫ولهــذا‪ ،‬عندمــا حــررت الجيــوش اإلســامية تلــك‬

‫الشــعوب المضطهــدة تحــت نير المســتعمرين مــن الروم‬ ‫والفــرس‪ ،‬حــررت كذلــك ضمائرهــم مــن االضطهــاد‬


‫أكمــل املؤمنني إميانًا أحســنهم خُ لُقً ا‪ ...‬فحســن‬

‫تك ْن عند امرئ من َخليقة‬ ‫ومهما ُ‬

‫ ‬

‫الخُ لُق هو كامل اإلميان‪ ...‬فهذه الدرجة العلية التي‬

‫وإن َخا َلها َت ْخفى على الناس ُت ْعلم‬

‫وضع فيها رســول الله ‪ ‬الخُ لُق‪ ،‬تطا ِبق الحقيقة‪،‬‬

‫الخ ُلــق‪،‬‬ ‫إذن فكمــا أن اإليمــان يــؤدي إلــى كمــال ُ‬

‫وهي أن أعىل درجة يف اإلميان هي درجة ُحسن‬

‫أيضا إلى كمــال اإليمان‪ .‬واإليمان‬ ‫فح ْســن ُ‬ ‫الخ ُلــق يؤدي ً‬ ‫ُ‬

‫الخُ لُق‪ ،‬وأن أكمل املؤمنني إميانًا أحســنهم خُ لُقً ا‪.‬‬

‫"موجــودا فــي القلــب بدون أثــر ُيرى‬ ‫ليــس ‪-‬كمــا يقــال‪-‬‬ ‫ً‬

‫معبر عنــه في الخارج‬ ‫فــي الخــارج"‪ ،‬فالحقيقــة هو شــيء ّ‬

‫الرجل‬ ‫طــرق‪ ،‬من مثل قول الرســول ‪" :‬إذا رأيتم‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫بعــدة ُ‬ ‫المســاجد فاشــهدوا له باإليمــان" (رواه الترميذي)‪ .‬هذا‬ ‫َي ْعتاد‬ ‫َ‬

‫ــت ُ ِ‬ ‫تمم مكارم‬ ‫يقــول فــي الحديــث الصحيح‪" :‬إنما ُب ِع ْث ُ‬ ‫أل ّ‬

‫ليتمــم مــكارم مــن‬ ‫األخــاق"‪ْ ،‬‬ ‫أي جــاء رســول اهلل ‪ّ ‬‬ ‫ليتم‬ ‫األخالق ســبقت وجاء بها أنبياء ســابقون‪ ،‬وهو جاء ّ‬

‫يعبر عن‬ ‫فعــل وهذه ممارســة تدل على شــيء؛ فاإليمــان ّ‬

‫دل على ضعف‪ ،‬مثل ما في أحاديث‬ ‫يعبِر ّ‬ ‫نفســه‪ ،‬فإن لم ّ‬ ‫الجهــاد مــن مثــل قولــه ‪" :‬مــا من نبــي بعثه اهلل فــي أم ٍة‬

‫يركز‬ ‫هاتــه النعمــة‪ .‬وألهمية األخالق نجد رســول اهلل ‪ّ ‬‬

‫عليها في كل حالة؛ مثل حديث أبي أمامة ‪ ‬المشهور‪:‬‬ ‫"أنــا ِ‬ ‫زعيــم بِبي ٍ‬ ‫ــت فــي َر َبــض الجنة لمــن ترك ِ‬ ‫ــراء وإن‬ ‫الم َ‬ ‫ٌ َْ‬ ‫َ‬ ‫كان ُمح ًّقا‪ ،‬وب َِب ْي ٍت في وسط الجنة لمن َترك الكذب وإن‬ ‫ٍ‬ ‫حسن ُخ ُلقه ‪-‬أو‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫مازحا‪ ،‬وبب ِْيت في أعلى الجنة لمن ّ‬

‫وأصحاب يأخذون‬ ‫قبلــي‪ ،‬إال كان لــه من أمته حواريــون‬ ‫ٌ‬ ‫بس ّنته ويقتدون بأمره‪ ،‬ثم إنها َت ْخ ُلف من بعدهم ُخلوف‪،‬‬ ‫ُ‬

‫يقولــون مــا ال يفعلــون‪ ،‬ويفعلــون مــا ال يؤمــرون‪ ،‬فمــن‬

‫جاهدهــم بيــده فهــو مؤمــن‪ ،‬ومــن جاهدهــم بلســانه فهو‬

‫متجاوزا الــذات‪ ،‬وهو البد له من تعبير‬ ‫صريحــا‬ ‫خارجيــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫فــي الــذات‪ ،‬على األقل في هذا المســتوى الذي عبر عنه‬ ‫يترجم‬ ‫الحديــث‪ ،‬البــد لإليمــان من تعبيــر‪ ،‬وهذا التعبيــر َ‬

‫إلى ُخ ُلق حسن‪ .‬فأكمل المؤمنين إيما ًنا أحسنهم ُخ ُل ًقا‪...‬‬ ‫الخ ُلــق هو كمال اإليمان‪ ...‬فهــذه الدرجة العلية‬ ‫فحســن ُ‬ ‫الخ ُلق‪ ،‬تطابــق الحقيقة‪،‬‬ ‫التــي وضــع فيهــا رســول اهلل ‪ُ ‬‬ ‫الخ ُلق‪،‬‬ ‫وهي أن أعلى درجة في اإليمان هي درجة ُحسن ُ‬

‫وأن أكمــل المؤمنيــن إيما ًنــا أحســنهم ُخ ُل ًقــا‪ .‬ومثل ذلك‬

‫ــق‪ ،‬بــل نجــد أن رســول اهلل ‪‬‬ ‫البــر‪،‬‬ ‫ــن ُ‬ ‫الخ ْل ُ‬ ‫والبــر ُح ْس ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬

‫الدين كله عبــارة عن ُخ ُلق‪ ،‬أي‬ ‫ُ‬ ‫الخ ُلــق ألنــه رأس األمــر‪ّ .‬‬

‫إن طبيعتــه ليســت طبيعــة نظريــة‪ ،‬وليســت معلوماتية‪ ،‬بل‬

‫هــي طبيعــة عملية؛ هي طبيعــة اللباس الذي ُيلبس‪ ،‬لباس‬

‫تلبسه النفس اإلنسانية فتصير به خل ًقا آخر‪ .‬فالدين ُخلق‪،‬‬ ‫أي ذو طبيعــة عمليــة‪ ،‬طبيع ٍة ُيتخلق بهــا فتصير ِ‬ ‫كالخلقة؛‬

‫كخلقة الشــخص ســجي ًة راسخ ًة فيه وهذا هو المطلوب‪.‬‬ ‫أيضا‪ ،‬قالت سيدتنا‬ ‫ومحمد رسول اهلل ‪ ‬عبارة عن ُخ ُلق ً‬

‫عائشــة ‪ ‬وقــد ســئلت عن ُخ ُلقــه‪" :‬كان ُخلقــه القرآن"‪،‬‬

‫والقــرآن نفســه كان عبــارة عــن ُخ ُلق تخ َّلق به رســول اهلل‬

‫"خ ُلــق"‪ ،‬والقــرآن‬ ‫"خ ُلــق"‪ ،‬ومحمــد ‪ُ ‬‬ ‫‪ .‬إذن الديــن ُ‬

‫جدا وهو نوعان؛ َح َســن‬ ‫"خ ُلــق"‪ُ .‬‬ ‫علية ًّ‬ ‫ُ‬ ‫فالخ ُلــق في منزلة ّ‬ ‫الح َســن فهو الذي ينبغي على المسلم‬ ‫وســيئ‪ .‬أما ُ‬ ‫الخ ُلق َ‬ ‫ّ‬

‫ليتممه‪ ،‬وهو‬ ‫أن يتخلــق بــه‪ ،‬وهــو الذي جــاء به اإلســام ّ‬

‫ال له‪ ،‬وكان لنا أسوة‬ ‫الذي دعا إليه رسول اهلل ‪ ‬وكان مث ً‬ ‫وجد ِس َواه لدى‬ ‫في هذا ُ‬ ‫الح َسن ال في ِسواه‪ ،‬وال ُي َ‬ ‫الخ ُلق َ‬ ‫رسول اهلل ‪.‬‬ ‫(*)‬

‫األميــن العــام لمؤسســة البحــوث والدراســات العلميــة (مبــدع) ‪/‬‬

‫المغرب‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫في الب ِّر‪ ،‬وقد ســئل عنه رســول اهلل ‪ :‬ما الب ِّر؟ قال‪" :‬الب ُِّر‬ ‫س‬ ‫ــن ُ‬ ‫ُح ْس ُ‬ ‫الخ ُلــق"‪ ،‬والب ِّر كمــا ورد في كتاب اهلل ‪َ  :‬ل ْي َ‬ ‫ــم ِق َب َل ا ْل َم ْش ِــر ِق َوا ْل َم ْغ ِــر ِب َو َل ِك َّن‬ ‫الب‬ ‫ِــر َأ ْن ُت َولُّــوا ُو ُج َ‬ ‫وه ُك ْ‬ ‫ْ َّ‬ ‫هلل َوا ْليــو ِم ِ‬ ‫ــن بِــا ِ‬ ‫ــاب‬ ‫الب‬ ‫ال ِئ َكــ ِة َوا ْل ِك َت ِ‬ ‫اآلخ ِــر َوا ْل َم َ‬ ‫آم َ‬ ‫ِــر َم ْ‬ ‫ــن َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َّ‬ ‫ين‪(‬البقــرة‪ )177:‬إلى آخر اآليات التي تشــمل جميع‬ ‫َو َّ‬ ‫الن ِب ِّي َ‬ ‫ين‬ ‫الجوانب الباطنية الخاصة والعامة‪ ،‬إلى أن يقول‪ :‬ا َّل ِذ َ‬ ‫ون‪‬؛ هؤالء ُهــم األبرار‪ ،‬هم‬ ‫َص َد ُقــوا َو ُأو َل ِئ َ‬ ‫ــم ا ْل ُم َّت ُق َ‬ ‫ــك ُه ُ‬ ‫الذيــن صدقــوا‪ ،‬وهم المتقون‪ ،‬وهــم الذين اتصفوا بصفة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مؤمن‪ ،‬ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن‪ ،‬وليس وراء ذلك‬ ‫مــن اإليمــان حبة َخــر ٍ‬ ‫دل" (رواه مســلم)‪ ،‬وذلــك هو أضعف‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫تعبيــرا‬ ‫جــدا حيــن ال نجــد‬ ‫اإليمــان‪ .‬هــذا حــال ضعيــف ًّ‬ ‫ً‬

‫لمن َح ُســن ُخ ُلقه‪( "-‬رواه اإلمام أحمد)؛ فالمدار على ُح ْســن‬

‫‪37‬‬


‫الديــن كله عبــارة عن خُ لُق‪ ،‬أي إن طبيعته ليســت‬ ‫ّ‬

‫مع النفس‪ ،‬وفيه جانب يمكن أن نسميه ُخ ُل ًقا مع الناس‪.‬‬

‫طبيعة نظرية‪ ،‬وليست معلوماتية‪ ،‬بل هي طبيعة‬

‫الخلُقي‬ ‫عناية اإلسالم بالجانب ُ‬

‫عمليــة؛ هي طبيعــة اللباس الــذي ُيلبس‪ ،‬لباس‬

‫اإلسالم ع ِني بهذا الجانب عناية كبيرة‪ ،‬وال بأس أن نقف‬

‫تلبسه النفس اإلنســانية فتصري به خَ لقً ا آخر‪ ،‬وهذا‬

‫عنــد بعض األحاديث وبعــض اآليات الكريمة لننظر أين‬

‫هو املطلوب‪.‬‬

‫يضــع اهلل ‪ ‬هــذه المســألة‪ .‬مــن اآليــات الصريحــة فــي‬

‫مخاطبا رسوله ‪ ‬في سياق‬ ‫هذا الموضوع‪ ،‬قول اهلل ‪‬‬ ‫ً‬

‫‪‬و ِإ َّن َك َل َعلى‬ ‫اتهــام الخصوم له بالجنــون وبغير الجنون‪َ :‬‬ ‫الخ ُلق‬ ‫فسر به العلماء ُ‬ ‫ُخ ُلقٍ َع ِظ ٍ‬ ‫يم‪(‬القلم‪ .)4:‬من جملة ما َّ‬ ‫الخ ُلق الذي أشــارت إليه الســيدة‬ ‫هــا هنــا بـ"الديــن" وهو ُ‬

‫خرب‬ ‫أمــا إذا كان العكــس‪ ،‬أي الظاهــر جميــل والباطــن ِ‬

‫فيا خســارتاه‪ ...‬لذلك كان رســول اهلل ‪ ‬يقول في دعائه‬ ‫أصلــح مــن عالنيتــي‪،‬‬ ‫المشــهور‪" :‬اللهــم اجعــل ِس ّــري‬ ‫َ‬ ‫وعالنيتي صالحة"‪.‬‬

‫ال‬ ‫خديجة ‪ ‬في بدء الرسالة حين قالت للرسول ‪" :‬ك َّ‬ ‫ِ‬ ‫الر ِحم‪ ،‬و ُت ْك ِســب‬ ‫واهلل مــا يخزيــك اهلل ً‬ ‫أبــدا‪ ،‬إنــك َلتصــل ّ‬

‫األساس الذي يتم عليه الحساب‬

‫وتقــري الضيــف‪ ،‬وتعيــن علــى نوائــب الحــق‬ ‫المعــدوم‪ْ ،‬‬

‫اللبــاس المعنــوي هو األســاس في الشــخصية ال اللباس‬

‫الــك ّل"‪ ،‬أو كمــا قالت ‪ ‬جزء من حديث متفق‬ ‫وتحمــل َ‬

‫الخارجــي‪ ،‬وهــو األســاس الــذي عليه يتم الحســاب يوم‬

‫أبــدا"؛ أي مثــل صاحــب‬ ‫عليــه‪" .‬ك َّ‬ ‫ال واهلل مــا يخزيــك اهلل ً‬

‫القيامــة‪ ،‬وهــو األســاس فــي نظــر اهلل ‪ ‬إلــى العبد‪ ،‬وهو‬

‫نقــوم أنفســنا من هــذا الجانب ال من‬ ‫إنســان‪ ،‬وينبغــي أن ّ‬ ‫الجانــب الشــكلي الخارجــي‪ .‬والشــريعة اهتمــت أول ما‬ ‫اهتمــت بهــذا الجانب‪ ،‬وعليــه ركزت‪ .‬ولتقريــب المعنى‬ ‫يمكــن أن نســتعير مــا يقال فــي مجال البناء؛ فهنــاك البناء‬

‫وحديــدا‪ ،‬وهنــاك التحســينات‬ ‫وأسســا‬ ‫أســوارا‬ ‫األســاس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والتزينــات المســماة بـــ"‪( "Finition‬لفظــة أعجميــة ولكنهــا‬

‫طغــت علــى اللفظــة العربيــة)‪ .‬هــذه المحســنات وهــذه‬ ‫المزينــات التــي تعطــي البنــاء شــكله النهائــي ‪-‬تأتــي فــي‬

‫األخيــر عــادة‪ -‬لهــا أهميتهــا‪ ،‬وهــي أساســية فــي األصــل‬

‫منطــق األشــياء‪ ،‬وبهذا المنطق الفطــري الطبيعي تكلمت‬

‫أعــد رســوله هــذا اإلعــداد‬ ‫الســيدة خديجــة ‪ .‬واهلل ‪ّ ‬‬ ‫الخ ُلق العظيم ليحمل هذه الرســالة العظيمة ليكون‬ ‫بهــذا ُ‬

‫الخ ُلق الحسن نفسه‪ ،‬هو أول المؤهالت‬ ‫كفؤا لها‪ .‬فإذن ُ‬ ‫ً‬

‫وأعظمها لحمل األمانة‪.‬‬

‫الح َسن تعبير عن اإليمان الكامل‬ ‫ُ‬ ‫الخلُق َ‬

‫الخ ُلــق‪ ،‬ألنه اللغة‬ ‫كان رســول اهلل ‪‬‬ ‫يحــث على ُحســن ُ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بصــدق عــن ُحســن اإليمــان وكمالــه‪ ،‬قــال ‪:‬‬ ‫المعبــرة‬

‫هــي مــن الشــيء ومن ذاته ومــن صميمه‪ ،‬وهــي ضرورية‬

‫ينبغــي أن تكــون فــي إبانها‪ ،‬وســاترة لكيان آخــر في غاية‬

‫أرفع األخالق‬ ‫شــكل‬ ‫لإليمــان التــي يتــم التعبير عنها في‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫للشيء‪ ،‬وهي التي تعطي للشيء شكله الحقيقي‪ ...‬ولكن‬ ‫المتانــة والصالبــة‪ .‬أما إذا حدث العكس‪ ،‬فالشــكل الذي‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫الحســن‪ .‬هذا‬ ‫الحســن يؤدي إلى الثواب‬ ‫الخ ُلق‬ ‫يعني أن ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫أحســنهم ُخ ُل ًقــا"‪ ،‬وقــال ‪:‬‬ ‫ــل المؤمنيــن إيما ًنــا‪،‬‬ ‫"أك َم ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والحسن‬ ‫يار ُكم ِلنسائه"‪ .‬والتعبير عن الكمال ُ‬ ‫"خياركم خ ُ‬

‫نســميها كماليــات زائــدة ال معنى لها‪ ،‬بل‬ ‫ال نســتطيع أن ّ‬

‫‪36‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫األســاس مــن الناحيــة العملية في التقويــم الصحيح لكل‬

‫الخ ُلــق ال يمكــن أن يعا َقــب بنقيــض مــا هــو عنــده‪.‬‬ ‫هــذا ُ‬

‫ا والبنــاء المســتور تحتــه فــي غاية الهشاشــة‪،‬‬ ‫ُيــرى جميــ ً‬

‫فهنا تكون الكارثة‪ ،‬إذ قد يســقط البناء كله في لحظة من‬ ‫اللحظات فتحدث كارثة إنسانية‪.‬‬

‫هــذا اللبــاس المعنــوي أنــواع‪ ،‬فيــه جانــب يمكــن أن‬

‫نســميه ُخ ُل ًقــا مــع اهلل ‪ ،‬والثاني يمكن أن نســميه ُخ ُل ًقا‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫باســم التفضيــل فــي هــذا الكمال‪ ،‬يشــعر بالثمرة الحســنة‬

‫وأســماها‪ ،‬ألن اإليمــان الــذي و َقــر فــي القلــب ال يمكن‬

‫يعبر عن نفســه‬ ‫يعبر عن نفســه‪ ،‬أي مســتحيل أن ال ّ‬ ‫أن ال ّ‬

‫فــي صــورة ُخ ُلق َحســن‪ ،‬بــل الحقيقة أن كل مــا هو واقر‬ ‫الخ ُلق إن َح َس ًــنا‬ ‫يعبر عن نفســه في ُ‬ ‫فــي القلــب‪ ،‬البــد أن ّ‬ ‫‪‬و َل َت ْع ِر َف َّن ُه ْم ِفي‬ ‫َ‬ ‫فسيئ‪ ،‬قال اهلل تعالى‪َ :‬‬ ‫سي ًئا ّ‬ ‫فح َسن‪ ،‬وإن ّ‬ ‫َل ْح ِن ا ْل َق ْو ِل﴾(محمد‪ ،)30:‬وقال الشاعر‪:‬‬


‫فالبــد مــن مجاهــدة ومجهــود كبيــر ‪-‬وهــذا األمــر يغفــل‬

‫حدث‬ ‫عنه‪ -‬إذ حين يتم االنتقال إلى هذا الدين بسرعة‪َ ،‬ت ُ‬ ‫التغييــرات الشــكلية فــي البــس الديــن‪ ،‬ولكــن التغييرات‬

‫المعنويــة ال تســير بنفــس الســرعة‪ ،‬هذا إذا حــرص عليها‬ ‫وواجههــا‬ ‫وراض نفســه علــى التغييــرات المطلوبة‪ ...‬أما‬ ‫َ‬ ‫إذا أهملهــا فســيظل فقــط مخلو ًقــا‬ ‫بــزي يخالف‬ ‫مســتورا ٍّ‬ ‫ً‬ ‫ظاهر يخالــف‬ ‫مــا هــو مســتور تحته‪ ،‬وهذا يعنــي‬ ‫الباطن‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬

‫ويعنــي‬ ‫ظاهــر يصبــح وســيلة للخداع من حيث ال يشــعر‬ ‫ٌ‬ ‫اإلنسان‪.‬‬

‫ال‪،‬‬ ‫إن اإلنســان يبتــدئ مــن الحكــم علــى الظاهــر أو ً‬

‫وينطلــق فــي‬ ‫التعــرف علــى أي شــخص من ظاهــره‪ ،‬ألن‬ ‫ّ‬ ‫ذلــك الظاهــر لــه داللــة ولــه معنى‪ ،‬فهــو بمثابــة لفظ يدل‬

‫على معنى؛ فإذا ساوى اللفظ المعنى (أي ساوى‬ ‫الظاهر‬ ‫ُ‬ ‫الباطــن) أو كان هــذا اللفــظ أقــل من المعنــى (أي الباطن‬ ‫َ‬ ‫أحســن مــن الظاهــر) فذلك يشــير إلــى أن خلقــه أكثر من‬

‫اللفظ الذي هو الصورة الظاهرة‪ .‬وها هنا يفرح اإلنسان‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪35‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي*‬

‫اإلسالم‬

‫واملسألة األخالقية‬ ‫ال ما الذي ينقصها‪،‬‬ ‫تأملــت في نفســي أو ً‬ ‫ُ‬

‫فالخ ُلق إذن هو تلك الصفات والسجايا‬ ‫ُيطلق عليه هذا‪ُ .‬‬

‫حولــي‪ ،‬فوجدتهــم ُي ْشــبهونني وقــد‬ ‫يكونــون أحســن منــي‪ .‬ولكنــا‬ ‫أفلســنا في مســتوى‬ ‫ً‬ ‫جميعا ْ‬

‫خاصا‬ ‫لباسا ًّ‬ ‫تلبس ً‬ ‫النفس اإلنسانية‪ ،‬والنفس من الداخل َ‬

‫وتأملت في حال المسلمين‬ ‫من حامل هذا الدين‪.‬‬ ‫جميعا‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫مادي‬ ‫اللباس الذي َي ْس ُــتر به َ‬ ‫لباس ّ‬ ‫الخ ْلق جســمه هو ٌ‬

‫الح َســن‪.‬‬ ‫تأملــت فيمــن‬ ‫فوجدتــه ُ‬ ‫ُ‬ ‫الخ ُلــق َ‬

‫الح َســن المطلوب في هذه الشــريعة‪،‬‬ ‫والمطلوب‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الخ ُلــق َ‬

‫من أقصى الكرة األرضية إلى أقصاها‪ ،‬فوجدت المســألة‬ ‫الخ ُلقيــة مســألة تســتحق عنايــة أكبر مما يعطــى لها‪ ،‬ليس‬ ‫ُ‬

‫فقــط فــي الجانــب النظري أو فــي جانب الدراســة أو في‬ ‫جانــب التحليــل أو في جانب الحديــث والخطابة‪ ،‬وإنما‬ ‫العملــي على وجه الخصوص‪ ،‬وهنا النقص‬ ‫فــي الجانب َ‬ ‫الشــديد الفظيع‪ ،‬المســؤول عن الكثير من الويالت التي‬

‫أفرادا وجماعات‪.‬‬ ‫نعاني منها‬ ‫ً‬

‫"الخ ْلــق"‪ ،‬إذ‬ ‫ُ‬ ‫"الخ ُلــق"‪ ،‬مــن نفــس المــادة التــي منهــا َ‬

‫الفــرق بينهمــا مجــرد تغييــر طفيــف فــي الحركــة‪ ،‬وهــذا‬ ‫األصــل ُي ِ‬ ‫شــعر بــأن مــا ُيط َلق عليــه هذا‪ ،‬هو مــن جنس ما‬

‫‪34‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حــد أنها صارت تشــبه‬ ‫التــي ترســخت فــي اإلنســان إلــى ّ‬ ‫قتــه‪ ...‬فهــو اللبــاس المعنــوي‪ ،‬وإن شــئتم هــو لبــاس‬ ‫ِخ ْل َ‬ ‫"الخ ُلق"‪.‬‬ ‫هو ُ‬

‫َي ْســهل تغييــره وإعــادة ترتيبــه وتنظيفــه وتزيينــه‪ ،‬ولكــن‬ ‫اللبــاس المعنــوي ليــس مــن الســهل تغييــره‪ ،‬وليــس مــن‬ ‫الســهل إصالحه‪ ،‬وليس من الســهل إحداث الترتيب فيه‬

‫نحــب أن يكون عليها‪،‬‬ ‫بســرعة ليعــود على الصــورة التي‬ ‫ّ‬ ‫بل البد من مجاهدة ومكابدة ورياضة شاقة عسيرة ُت ْسهم‬

‫فيهــا أمور كثيــرة؛ مادية ومعنوية‪ ،‬داخلية وخارجية‪ ،‬ومن‬ ‫ليطهرهم بها‬ ‫جملتهــا الباليــا التي ُي ْســ ِّلطها اهلل على عباده ّ‬ ‫ويزكيهم‪.‬‬ ‫ّ‬

‫لباس معنوي‬ ‫ُ‬ ‫الخلُق ٌ‬

‫هذا اللباس المعنوي ليس من الســهل إحداث تغيير فيه‪،‬‬


‫ورثتهــم المخ َلصين كأبي بكر‪،‬‬ ‫إليكــم‪ ...‬ولكــن اتبعــوا هؤالء‪ ...‬اتبعــوا األنبياء العظام‪ ...‬اتبعوا َ‬ ‫وعمــر‪ ،‬وعثمــان‪ ،‬وعلــي رضــي اهلل عنهــم وأرضاهم أجمعيــن آالف المرات‪ ...‬اتبِعوا من ســار‬

‫على دربهم كالجيالني‪ ،‬والشاذلي‪ ،‬ومصطفى الصديق البكري‪ ،‬ومحمد بهاء الدين النقشبندي‪،‬‬

‫ومن‬ ‫واإلمــام الربانــي‪ ،‬وخالــد البغــدادي‪ ،‬والشــاه ولــي اهلل الدهلوي‪ ،‬وبديــع الزمان النورســي‪َ ،‬‬

‫تبعهــم بإحســان مــن نجــوم الهــدى‪ ...‬هــؤالء فارقــوا الدنيا كمــا جــاؤوا إليها؛ ليس معهم ســوى‬

‫عدوا الدنيا‬ ‫يورثوا من متاع الدنيا ولو مثقال ذرة‪ .‬هؤالء هم من ُيقتدى بهم‪ ...‬هؤالء ّ‬ ‫الكفن‪ .‬ولم ِّ‬

‫محطــة عابــرة‪ ...‬قال ســيد المرســلين‪" :‬ما لي وللدنيــا؟ ما أنا في الدنيا إال كراكب اســتظل تحت‬

‫شــجرة ثم راح وتركها"؛ ال عالقة لي بهذه الدنيا‪ ،‬إن صلتي بها صلة مســافر جلس تحت شــجرة‬

‫ريثما يلتقط بعض أنفاسه ثم غادرها‪.‬‬

‫اتبعــوا مــن كان علــى هذه الشــاكلة‪ ،‬اتبعوا من يعيش عيشــة كهذه‪ ...‬من اقتدى بهم ال يخســر‬ ‫أبدا‪ِ ...‬ل ُن ُك ِثر من العمل الطيب‪ ،‬و ِل َن ْنشر الخير والصالح‪ ...‬ثم ال ننتظر مقابل ما بذلناه‪َ .‬ذ َك ْرنا في‬ ‫ً‬ ‫أحســنت إلى أحــد‪ ،‬أو‬ ‫يت‪ ،‬أو‬ ‫أحــد الــدروس إذا‬ ‫أحدا‬ ‫قت‪ ،‬أو ّ‬ ‫صنعــت معرو ًفــا أو ّ‬ ‫وهبت ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫زك َ‬ ‫تصد َ‬ ‫َ‬

‫دت طري ًقا‪ ...‬فال ُتبطل هذا‬ ‫ال أو إشــارة أو حتى بتعبيرات وجهك‬ ‫بالمن قو ً‬ ‫منز ً‬ ‫ال أو فع ً‬ ‫مه َ‬ ‫ّ‬ ‫ال‪ ،‬أو ّ‬ ‫بيتا؟‪ ..‬إن‬ ‫صيرت‬ ‫َ‬ ‫وأنت تنظر إليه وكأنك تقول‪ :‬ألم ُأ َم ِّهد لك طري ًقا؟ ألم أؤسس لك ً‬ ‫فعلت‪ ،‬فقد ّ‬ ‫رديئا بال قيمة‪.‬‬ ‫عملك ً‬ ‫المــن‪ .‬يقــول تعالــى‪ِ َ  :‬‬ ‫ِ‬ ‫قيمــة العمــل مرتبطــة بخلــوه مــن‬ ‫ــم‪‬؛ ال تبطلــوا ما‬ ‫ّ‬ ‫ال ُت ْبط ُلــوا َص َد َقات ُك ْ‬ ‫ِ‬ ‫جهرا‬ ‫ِّ‬ ‫تقدمونه ً‬ ‫رمزا لصدقكم‪ ،‬وبوضوح أكثر‪ ،‬ال تبطلوا ما ّ‬ ‫يعبر عن شهامتكم ويرمز إلى ص ْدقكم ً‬ ‫أو‬ ‫المنة‪ ،‬وال انطالقكم‬ ‫تلميحــا علــى ســبيل ّ‬ ‫تعرضوه لمصيبــة ّ‬ ‫ً‬ ‫المنة واإلحــراج‪ .‬وكذلك التبليغ ال ّ‬

‫بهــذه الرســالة إلــى أنحــاء العالــم‪ ،‬وال انفتاحكــم إلــى أكثر مــن ‪ 150‬دولة‪ ،‬أو تأسيســكم ألكثر من‬ ‫ألــف مدرســة‪ ...‬بــل كلما‬ ‫انهمرت عليكــم ال ِن َعم الربانية كالغيث‪ ،‬وب ّللتكم من أعلى رؤوســكم إلى‬ ‫ْ‬

‫أخمص أقدامكم انحنوا كالغصن‬ ‫تواضعا‪ .‬هذا هو مقتضى الشعور ِب ِن َعم اهلل ومقتضى إدراك مواهبه‬ ‫ً‬ ‫تواضعــا‪ ...‬هــذا االنحناء‬ ‫أي االنحنــاء والســجود‬ ‫اعتراف بــأن هذه ال ِن َعم ليســت ِم َّنا‪ ،‬إنما‬ ‫ٌ‬ ‫الواســعة؛ ْ‬ ‫ً‬

‫هي منه ســبحانه‪ .‬هذه الروح‪ ،‬روح النذر‪ ،‬هي‬ ‫المحرك األكبر ألولئك الذين نذروا أنفســهم لخدمة‬ ‫ّ‬

‫أبدا‪.‬‬ ‫شخصيا لم أستطع أن أكون كذلك‪ ،‬وال‬ ‫القرآن‪ .‬ويجب على هؤالء الناذرين أ ّ‬ ‫ال يتخلوا عنها ً‬ ‫ًّ‬

‫الهمة لذلك‪ ،‬ولكنكم بإذن اهلل وعنايته ولطفه ورعايته ستحققون ذلك‪.‬‬ ‫أملك َّ‬ ‫ض علينا من َعوارف المعارف‪ ...‬أفض علينا نعمك المشرقة الوجوه ومواهبك النضرة‬ ‫اللهم َأ ِف ْ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫المالمح غي ًثا‬ ‫صبا‪ ،‬فنحن فقراء ال يشبعون‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مدرارا يغشانا من رؤوسنا إلى أقدامنا‪ُ .‬ص َّبه اللهم علينا ًّ‬ ‫وإزاء كل لطف من لدنك "هل من مزيد" يهتفون‪.‬‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬نور الدين صواش‪ .‬هذا النص مفرغ ومترجم من دروس األستاذ الشفوية‪.‬‬ ‫َّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪33‬‬


‫الموشور‬

‫فتح الله كولن‬

‫سلوك املحتسبني‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫ِ‬ ‫جمع طاقتنا ونبذلها في مشاريع صالحة نافعة‪ .‬وحذار من التشتت والتبعثر‪.‬‬ ‫األصل أن ُن ّ‬ ‫فاإلنسان محدود الطاقة والمقدرة‪ ،‬محدود التفكير والفهم‪ ،‬محدود المنطق واالستيعاب‪...‬‬ ‫همته هنا وهناك‪ ،‬يصاب باإلرهاق ويتع ّثر في القيام بمهامه الضرورية‪ ،‬وربما‬ ‫فإذا ما تناثرت ّ‬ ‫وســددوا‪ُ ..‬أ ِ‬ ‫تماما‪ .‬ومن ثم اعملوا‬ ‫عجب الناس بصنيعكم أم ال‪َ .‬ر َّحبوا‬ ‫ِّ‬ ‫يفشــل في القيام بها ً‬ ‫ال نلتفت إلى ذلك‪ِ .‬ل َن ُكن ماء في الصحارى القاحلة‪...‬‬ ‫بكم أم َع َبسوا في وجوهكم‪ ...‬ينبغي أ ّ‬ ‫ــما وأعــرض عــن شــربها‪ ،‬ال نيــأس‪.‬‬ ‫ولنتدفــق سلســبي ً‬ ‫ال كاألنهــار‪ْ ...‬‬ ‫وإن ّ‬ ‫عدهــا بعضهــم ُس ًّ‬ ‫ترابا حتى ُتنبت‬ ‫ترابا‬ ‫َ‬ ‫ترابا‪ْ ،‬‬ ‫دائما؛ ْ‬ ‫الورود‪ِ ...‬ل َن ُكن ً‬ ‫كن ً‬ ‫كن ً‬ ‫ِل َن ُكن ً‬ ‫ترابا‪ً ،‬‬ ‫ترابا تحت األقدام ً‬ ‫ال ُفيحجم عن نثر البذور‪ ،‬ال ضير‪ ...‬لنن ُثر‬ ‫ــد ذلك التراب قاح ً‬ ‫خصبــا معطــاء‪ ...‬بعضهــم قد ُي ِع ّ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ال‪.‬‬ ‫أم‬ ‫أحــد‬ ‫بعدنــا‬ ‫من‬ ‫عاها‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫يعنينــا‬ ‫وال‬ ‫الطيبــة‪،‬‬ ‫األرض‬ ‫تلــك‬ ‫فــي‬ ‫نملــك‬ ‫مــا‬ ‫كل‬ ‫غماما‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫يشــمل النــاس بظاللــه‪ ،‬ثــم يتقاطــر غي ًثــا‬ ‫منهمــرا على رؤوســهم‪ ،‬وال علينــا أن ننشــغل‪َ ،‬أقاموا‬ ‫ً‬ ‫سدودا لالستفادة من ذلك الغيث أم لم يقيموا؟ ِلنصدح بأقوى األلفاظ وأعذب األلحان‪ ،‬ولو‬ ‫ً‬ ‫ســدوا آذانهم أو أغمضوا عيونهم‬ ‫إعراضا‪ ،‬ال نبالي‪ِ ...‬ل َن ْســع دون ملل إلى إســماعهم أعذب‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫األلحان بأعذب العبارات وأرق األلفاظ‪.‬‬ ‫ونكتــب بــه عبــارات مصبوغــ ًة باإلخــاص‪ ،‬ملونــة باإلخــاص‪ ،‬مزخرفــة‬ ‫القلــم‬ ‫ِل َن ْرفــع‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫باإلخــاص‪ ،‬مطبوعــة باإلخالص‪ ...‬و ْل َت ُكــن مرضاة اهلل روح تلك العبارات‪ ...‬وال يعنينا َأأ ْثنى‬ ‫أحد فســوف يحتضنها أجيــال الغد المنصفون‪.‬‬ ‫بعضهــم عليهــا أم ال‪ْ .‬‬ ‫فــإن لــم ُيقبــل عليها اليوم ٌ‬ ‫ترابــا تطــؤه األقــدام‪ِ ...‬ل َن ْبــق ُنع ِّفــر وجوهنا بالتــراب‪ ...‬وال نبالــي‪َ ،‬أ َع َرفــوا َق ْد َرنا أم‬ ‫ِل َن ُكــن نحــن ً‬ ‫لم يعرفوا‪ِ .‬ل َن ْنثر البذور‪ ،‬وال نبالي حتى لو زعموا أنهم ُه ْم الزارعون‪ِ ...‬ل ُن ْنشــئ‬ ‫ســدودا َتســقي‬ ‫ً‬ ‫ألن المهم هو‬ ‫أراضيهــم‪ ،‬وال نبالــي ولو قالوا عن أنفســهم "نحن المنشــئون"‪ .‬فالقــول ال َيعنينا‪ّ ،‬‬ ‫إكراما لإلنسانية‪.‬‬ ‫القيام بما ينبغي‬ ‫ً‬ ‫تمامــا‪ ،‬لكنها في‬ ‫تفو ُ‬ ‫هــت بها‪ -‬متع ِّثرة شــاحبة متهافتــة‪ِ ،‬م ْثلي ً‬ ‫قــد تبــدو هــذه المعانــي ‪-‬ألني َّ‬ ‫ال َع َلى َر ِّب‬ ‫‪‬و َما َأ ْس َأ ُل ُك ْم َع َل ْي ِه ِم ْن َأ ْجرٍ إ ِْن َأ ْج ِر َي ِإ َّ‬ ‫أصلها نداء األنبياء وأنفاسهم في كل زمان‪َ :‬‬ ‫ترابا‪ ،‬ب َّل ْغنا رســالة‪،‬‬ ‫ا ْل َعا َل ِم َ‬ ‫يــن‪ ...‬ال نريــد منكــم جــزاء‪َ ...‬ف َع ْلنــا‪َ ،‬أ ْن َج ْزنــا‪َ ،‬أ َق ْمنا‪ُ ،‬ق ْلنــا‪َ ،‬م َّه ْدنا‪ ،‬كنا ً‬ ‫َن َشرنا الحق‪َ ،‬خ َدمنا الحقيقة‪ ...‬ال نريد منكم مقابل ذلك ولو مثقال ذرة‪.‬‬ ‫األســتاذ بديــع الزمــان يذكــر قصــة حبيــب النجار في ســورة يــس‪ ،‬والتي قيل إنهــا وقعت في‬ ‫ــل عيســى ‪ ...‬يأتي رســوالن ثم يلحق بهمــا ثالث‪ .‬يقول‬ ‫رس ُ‬ ‫أنطاكيــا‪ ،‬والروايــات تقــول إنهــم ُ‬ ‫‪‬اتب ُِعــوا َم ْن َ َ‬ ‫َ‬ ‫ون‪ .‬هؤالء وجــدوا الطريق‪ ،‬إنهم على‬ ‫ــم ُم ْه َت ُد َ‬ ‫حبيــب النجــار‪َّ :‬‬ ‫ال َي ْســأ ُل ُك ْم أ ْج ًرا َو ُه ْ‬ ‫أجرا‪ ..‬إن كان البد من االتباع فاتبعوا هؤالء‪ ...‬اتبعوا من ال ينتظر‬ ‫هــدى‪ ،‬وهــم ال يطلبــون منكــم ً‬ ‫طمعا فــي ثناء أو تصفيق أو‬ ‫شــيئا‪ ،‬ال يطمــع فــي شــيء عندكم‪ .‬وال تتبعــوا من ِّ‬ ‫منكــم ً‬ ‫يحدق فيكم ً‬ ‫تم ّلق مقابل معروف أســداه إليكم‪ ...‬أو يســعى إلى ملء أكياســه وخزائنه بأموالكم لقاء إحســاناته‬

‫‪32‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫عــدم المبالغــة في العناية بهــا‪ ،‬وأن ال تكون هد ًفا بذاتها‪،‬‬

‫إعداد القوة‪ ،‬والزهد مع التوكل‪.‬‬

‫ولــم يذكــر األســباب الماديــة كعمــارة األرض‪ ،‬ألن‬

‫وأن ال تكون في القلوب‪.‬‬

‫حب البناء مركوز في الفطر‪ ،‬وإنما يذكر في العادة بما قد‬

‫وإذا أردنــا أن ننتصــر علــى الكافريــن فبالدعــوة إلــى‬

‫حاضرا فــي الذهن والواقع‪،‬‬ ‫يهمــل أو ينســى‪ ،‬ال مــا كان‬ ‫ً‬

‫االلتــزام بمبــادئ اإلســام‪ ،‬ندعوهــم بثقتنــا باإلســام‪،‬‬

‫فالناس في سعي مستمر ال يكفون‪ ،‬هذا خلقهم وديدنهم‪.‬‬

‫ويقيننــا باإليمــان‪ ،‬والعــزة والقــوة فــي الحــق‪ ،‬والجهر به‬

‫العدد أو العتاد أو االقتصاد أو الحضارة أو الصناعة‪ ،‬بل‬

‫التفوق المادي فيما لو تفوقنا‪.‬‬

‫فظهــرت بهــذا أســباب الهزيمة‪ ،‬وليس منهــا الضعف في‬

‫والصــدع‪ ،‬ندعوهــم بالمبــادئ اإليمانيــة واألخالقيــة قبل‬

‫ضعف اإليمان وتعظيم الدنيا‪.‬‬

‫فالتفــوق المــادي ال يجــدي‬ ‫كثيــرا فــي دعوتهــم‪ ،‬ألن‬ ‫ً‬

‫لكــن هــل المعنــى أن ال نتخــذ األســباب للتقــدم‬

‫عندهــم منــه وزيــادة‪ ،‬ومهمــا صنعنــا‬ ‫"ماديــا" فلــن نبلــغ‬ ‫ًّ‬

‫االقتصــادي والصناعــي؟ اتخــاذ األســباب فــي كل شــيء‬

‫مقيدون وهم منفلتون‪ ،‬والمنفلت يأتي بما‬ ‫تفوقهم‪ ،‬ألننا َّ‬

‫تقد ًما فهو مطلوب‪ .‬وغير‬ ‫مطلــوب‪ ،‬وكل مــا يحقق لألمة ّ‬

‫المقيد‪.‬‬ ‫ال يأتي به‬ ‫َّ‬

‫مطلــوب محاكاة الذيــن فقدوا اإليمان لنكون صورة لهم‬

‫فكيــف نطمــع أن نهديهــم بشــيء هــم فيــه أحســن‬

‫فــي كافــة أنــواع التقــدم‪ ...‬فبمــا أن ديننا غيــر دينهم وكذا‬

‫منــا‪ ،‬وال يلــزم أن نكــون أحســن منهــم فيــه فــي الصناعــة‬

‫شــريعتنا‪ ،‬فيجــب أن تختلف أهدافنا ووســائلنا وحدودنا‬

‫تعظيم الدنيا‪ .‬فيتقدمون ألجل الدنيا‪ ،‬ونحن نتقدم ألجل‬

‫اآلخرة‪ ،‬وفارق الهدفين كبير‪.‬‬

‫التقــدم المبني على تعظيــم الدنيا‪ ،‬مغاالة وإفراط‬ ‫فــي‬ ‫ّ‬

‫كبيــر فــي اتخــاذ المتــاع المــادي بمــا يوصــل إلــى الترف‬ ‫والفجور والعدوان وســلب النــاس أقواتهم وكرامتهم‪...‬‬ ‫وهو يصل إلى عبادة الدنيا‪.‬‬

‫وفــي التقــدم المبنــي علــى تعظيــم اآلخــرة‪ ،‬حدود ال‬

‫ال؛ بكفايتــه وأمنه قبل‬ ‫ُت َتخطــى‪ ،‬تقــوم لخدمــة اإلنســان أو ً‬

‫لهــوه ومالعبــه‪ ،‬يكفيــه مشــكلة القــوت والســكن قبــل‬

‫المضاهــاة ببناء ناطحات الســحاب‪ ،‬ويصــون كرامته عن‬ ‫المســألة بدل تشــريده وحرمانه‪ ،‬ويقف بالرفاهية والبذخ‬ ‫عنــد حــد‪ ،‬وال يقبــل بما هــو محرم وضار‪ ،‬وال بما يشــير‬ ‫إلى نسيان اآلخرة أو يفضي إلى ذلك‪.‬‬

‫محتاجيــن عالــة معوزيــن‪ ،‬يكفينــا من التقدم مــا يردع عنا‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أن‬ ‫وضوابطنــا‪ .‬وأبــرز خالف بيننا وبينهــم في التقدم‪ ،‬هو ّ‬ ‫تقدمنــا ينبنــي علــى تعظيم اآلخــرة‪ ،‬وتقدمهــم ينبني على‬ ‫ّ‬

‫يســد حاجتنــا فال يتركنا‬ ‫واالقتصــاد‪ ،‬يكفــي أن نتقــدم بما ّ‬

‫ويصــون ديارنــا وأعراضنا وأموالنا‪ .‬هــذا يكفينا‪ ...‬فلدينا‬ ‫مهمة عظمى هي بناء اآلخرة بإصالح أنفسنا‪ ،‬واستصالح‬

‫غيرنــا‪ ،‬ودعــوة العالمين إلى عبــادة رب العالمين وحده‪.‬‬ ‫فلو استفرغنا جهدنا في بناء الدنيا فما يبقى لآلخرة؟!‬

‫والصحابــة ‪ ‬دعوا فارس والــروم بما ليس عندهم؛‬

‫باإليمان باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬وال سبيل لنا إال أن ندعوهم‬

‫بمــا هــم فقــراء فيــه‪ ،‬ال بمــا هم أغنيــاء فيه‪ .‬هــم فارغون‪،‬‬

‫علينا أن نمأل أرواحهم باإليمان‪ .‬متخبطون‬ ‫فكريا‪ ،‬علينا‬ ‫ًّ‬ ‫أن نهديهم بإذن اهلل‪.‬‬

‫ميــدان الــروح والفكر هم فيهما ضائعــون محتارون‪،‬‬

‫ونحــن فيهمــا نملــك مصــادر الهداية‪ .‬وميــدان المادة هم‬ ‫فيــه أســياد وكهنة‪ ،‬ونحن مهمــا صنعنا لن نكون كمثلهم‪.‬‬

‫فالعقــل والمنطق يقول‪ :‬نعطيهم مــا عندنا مما اختصصنا‬

‫طري ًقــا إلــى تعظيــم اآلخــرة بــل بــازدراء الدنيــا‪ .‬فمن رام‬

‫جمة تعوقنا أن نكون "مثلهم" في التقدم المادي لما سبق‬

‫أتى بمعادلة محالة‪ .‬فإن اهلل تعالى لم يجعل تعظيم الدنيا‬

‫يهون من مقام اآلخرة فيجعل اآلخرة مطيته‬ ‫ذلك فإما أن ّ‬ ‫إلــى الدنيــا‪ ،‬أو يكتشــف بعــد عنت أنه محــال‪ .‬لكن عدم‬

‫تعظيــم الدنيــا ال يلــزم عنــه إهمالهــا‪ ،‬كال‪ ،‬بــل المطلــوب‬

‫المفتــوح‪ ،‬لنجتهــد في فتح طرق مغلقة أمامنا فيها عوائق‬

‫المقيد‪.‬‬ ‫أنهم منفلتون‪ ،‬والمنفلت يفعل ما ال يفعله‬ ‫َّ‬

‫(*) جامعة أم القرى‪ ،‬مكة المكرمة ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫ومن أراد تعظيم اآلخرة من خالل تعظيم الدنيا‪ ،‬فقد‬

‫بــه‪ .‬ومــن عــدم البصيــرة أن نتــرك هــذه الغنيمــة والطريق‬

‫‪31‬‬


‫يهونون من شأن الدنيا‪ ،‬حتى قرن مضى إلى قرنين‪ ،‬ليس‬ ‫ّ‬

‫ال إلــى أوربــا‪،‬‬ ‫وجنوبــا إلى إفريقيا‪ .‬فــي قرن واحد‬ ‫وشــما ً‬ ‫ً‬

‫إال ما كان من أحاديث دون أن يكون لها أثر في الواقع‪.‬‬

‫وذات قــوة عســكرية واقتصاديــة وثقافــة وكثافــة ســكانية‬

‫هزم اإلسالم إمبراطوريات كبرى ذات حضارات مؤثرة‪،‬‬

‫ظاهرا في المســلمين تعظيم اآلخرة كما عظمها الســلف‬ ‫ً‬

‫تقدمــوا عليهم؟‬ ‫علــى رأســها فــارس والروم‪ .‬فبأي شــيء ّ‬

‫فمنــذ مضــي قــرن الصحابــة ‪ ‬والمســلمون فــي انتقــال‬ ‫مســتمر مــن تعظيم اآلخرة إلى تعظيــم الدنيا‪ ...‬في إقبال‬

‫هل كان ذلك بحضارة مثيلة؟‬

‫علــى الدنيــا وإدبــار عن اآلخــرة‪ ...‬حتى تكامــل اليوم أو‬

‫أبدا ‪-‬والتاريخ ال يمكن‬ ‫كال‪ ،‬لم يكن شيء من ذلك ً‬

‫درس التاريــخ ووقف على ما طرأ‬ ‫كاد‪ ،‬وهــذا َي ِ‬ ‫عرفــه َمن َ‬

‫تزويره‪ -‬بل لم يكن لديهم سوى إيمان عميق باهلل واليوم‬

‫اآلخر أعطاهم اليقين والثقة والثبات والهدف الصحيح‪،‬‬

‫على المسلمين بعد الفتوحات وشيوع األموال‪.‬‬

‫وقــودا إليمانهــم‪ ،‬وزهــد فــي الدنيــا‬ ‫وعمــل صالــح كان‬ ‫ً‬

‫فالحقيقــة أن المســلمين اليــوم وغيرهــم ‪-‬في اإلقبال‬

‫بالغا‪ ...‬وإذا‬ ‫وتعظيما‬ ‫على الدنيا‪ -‬سواء؛ محبة‬ ‫واهتماما ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫أعدوها‬ ‫أورثهم قوة القلب والتوكل على اهلل تعالى‪ ،‬وقوة ّ‬ ‫قدر المستطاع‪ ،‬ال مضاهية وال مماثلة‪.‬‬ ‫ْ‬

‫نظرنــا إلــى المترفيــن والالهثين وراء الدنيا اليوم فســنرى‬

‫هــذه هي أدوات العلو والنصر والتمكين التي كانت‪،‬‬

‫تلــق وقبول‬ ‫الفــرق بينهمــا‪ ،‬وهــو أن المســلمين فــي حالة ٍّ‬

‫وبها انتصر المسلمون في معارك غير متكافئة مع قريش‬

‫لــكل مــا يغرقهم في الدنيا ويجعل منهــم أمة تابعة مقلدة‬

‫الع ّدة‬ ‫ثــم العــرب ثم فارس والروم‪ ،‬كانوا فيهــا األقل في ُ‬

‫لغيرهــا‪ ،‬وأن الغــرب فــي حالــة تصدير وتأثير فــي العالم‬ ‫معظم للدنيا مؤثر في غيره‪،‬‬ ‫أي الغرب ِّ‬ ‫وفي المسلمين‪ْ ..‬‬ ‫أمــا ذلــك القول المغالط‪ ،‬فإنه يصور المشــكلة وكأن‬

‫المســلمين رهبان أعرضوا عن زخرف الدنيا بالكلية ولم‬

‫يقومــوا بــأي عمــل دنيوي! ولكن ما يبــدو لنا أن صاحب‬ ‫هــذا الــرأي يريــد أن يرجــع بالالئمــة على الشــريعة بأنها‬

‫كرســت تهويــن الدنيــا وإهمالهــا‪ ،‬ولكن عندما فشــل في‬

‫ذلــك رجــع وألقــى الالئمــة علــى المســلمين‪ ،‬أي عندما‬

‫اســتعصى عليــه فهم الواقع قــام بالنظر في طريقة الغرب‬ ‫في التقدم فرجع إلى المسلمين ليحملهم عليها‪.‬‬

‫ًّأيــا كان‪ ،‬فهو رأي خاطئ وتشــخيص قاصر‪ ،‬وســبب‬

‫الــداء معــروف غيــر مجهــول‪ ،‬ومــا كان اهلل تعالــى ليبهــم‬

‫ويعمــي عــن وســيلة علــو اإلســام والنهــوض باألمة فال‬ ‫يدركه إال آحاد الناس‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫كال‪ ..‬فهــذه قضيــة كبــرى‪ .‬وعــادة الشــريعة‪ ،‬بيــان‬

‫‪30‬‬

‫وإيضــاح القضايــا الكبــرى التــي تهــم األمة‪ .‬فأمــر تعظيم‬ ‫ُ‬ ‫اآلخرة والتهوين من الدنيا في النصوص الشرعية أوضح‬

‫مــن الشــمس‪ .‬أما ســبب تأخر المســلمين‪ ،‬فــا يعرف إال‬

‫بعد معرفة سبب تقدمهم‪.‬‬

‫ففــي المئة األولى تمت الفتوحات‪ ،‬وبســط اإلســام‬

‫وغربا إلى المحيط األطلسي‪،‬‬ ‫ســلطانه شر ًقا إلى الصين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫معظمون للدنيا متأثرون فيها بغيرهم‪.‬‬ ‫والمسلمون ِّ‬

‫والعتاد والحضارة‪.‬‬

‫وقــد بــان لهــم أســباب الهزيمــة فــي معركــة حنيــن‪،‬‬ ‫وع ّدة في غزوات َب ْدر و ُأ ُحد‬ ‫فبعدما كانوا هم األقل ً‬ ‫عددا ُ‬

‫والخنــدق ومؤتــة وتبــوك‪ ،‬هــم اليــوم فــي حنيــن األكثــر‪،‬‬ ‫هلل ِفي‬ ‫فــكان ما لم يحتســبوا‪ ،‬قــال تعالى‪َ  :‬ل َق ْــد َن َص َر ُك ُم ا ُ‬ ‫ــن َك ِث ٍ‬ ‫َمو ِ‬ ‫َ‬ ‫ــم َك ْث َر ُت ُك ْم َف َل ْم ُت ْغ ِن‬ ‫اط َ‬ ‫َ‬ ‫يــرة َو َي ْو َم ُح َن ْينٍ إ ِْذ أ ْع َج َب ْت ُك ْ‬ ‫َ‬ ‫َع ْن ُكم َشي ًئا َو َضا َق ْت َع َلي ُكم ا َ‬ ‫ض ب َِما َر ُح َب ْت ُث َّم َو َّل ْي ُت ْم‬ ‫أل ْر ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ين‪(‬التوبة‪.)25:‬‬ ‫ُم ْدب ِ​ِر َ‬ ‫مــع الكثــرة تنتفــي الحاجة ويحــل الغــرور باالعتماد‬

‫علــى النفــس وتــرك التوكل فتكــون الهزيمــة‪ .‬والمؤمنون‬

‫إنمــا ينتصــرون بــاهلل ال بأنفســهم‪ ،‬وبقــوة اهلل ال بقوتهــم‪:‬‬ ‫ــت‬ ‫ــن ا َ‬ ‫ــت إ ِْذ َر َم ْي َ‬ ‫ــم َو َمــا َر َم ْي َ‬ ‫ــم َت ْق ُت ُل ُ‬ ‫ــم َو َل ِك َّ‬ ‫هلل َق َت َل ُه ْ‬ ‫وه ْ‬ ‫‪َ ‬ف َل ْ‬ ‫هلل َر َمى‪(‬األنفال‪.)17:‬‬ ‫َو َل ِك َّن ا َ‬ ‫جليــا فــي كتابه شــروط التمكين‬ ‫وقــد بيــن اهلل تعالــى ًّ‬ ‫آم ُنــوا ِم ْن ُك ْم َو َع ِم ُلوا‬ ‫﴿و َع َد ا ُ‬ ‫هلل ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫فــي األرض فقــال‪َ :‬‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫ــات َليس َــت ْخ ِل َف َّن ُهم ِفــي ا َ‬ ‫ف‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫اس َــت ْخ َل َ‬ ‫َّ‬ ‫ض َك َمــا ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هِ‬ ‫ــم ا َّل ِذي ْار َت َضى َل ُه ْم‬ ‫ه‬ ‫ين‬ ‫د‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ــن‬ ‫م‬ ‫يــن‬ ‫ا َّلذ َ ْ َ ْ ْ َ َ ُ َ ّ َ َّ َ ُ ْ َ ُ ُ‬ ‫ون بِي‬ ‫َو َل ُي َب ِّد َل َّن ُه ْم ِم ْن َب ْع ِد َخ ْو ِفهِ ْم َأ ْم ًنا َي ْع ُب ُدو َن ِني َ‬ ‫ال ُي ْش ِــر ُك َ‬ ‫َشي ًئا َو َم ْن َك َفر َب ْع َد َذ ِل َك َفأُو َل ِئ َك ُهم ا ْل َف ِ‬ ‫ون﴾(النور‪)55:‬؛‬ ‫اس ُق َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وتــرك الشــرك‪ ،‬واإليمــان بــاهلل‪ ،‬والعمــل‬ ‫فذكــر التوحيــد ْ‬ ‫الصالــح‪ ،‬يضــاف إليهــا مــا ُذكر فــي النصــوص األخرى‪:‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬لطف الله خوجه*‬

‫البناء والتقدم‬

‫بني تعظيم الدنيا وتعظيم اآلخرة‬ ‫فــي بيــان منزلــة الدنيــا مــن اآلخــرة قــال‬

‫قــول مغلــوط‪ ،‬ألن المشــكلة ليســت في عمــارة األرض‪،‬‬

‫عظمها‬ ‫أهملوهــا فتأخــروا‪ ،‬والغــرب لما ّ‬

‫فالذيــن فقــدوا اإليمــان عظمــوا الدنيا ألنهــا رأس مالهم‪،‬‬

‫قائــل‪ :‬لمــا ح ّقــر المســلمون أمــر الدنيــا‬

‫عمل ألجلها فتقدم‪ ،‬لذا ينبغي على المسلمين أن َي ِ‬ ‫عدلوا‬ ‫عن النظرة السلبية للدنيا‪ ،‬التي تؤدي إلى إهمالها وإهمال‬ ‫القيــام بعمارتهــا‪ ،‬وأن يبحثــوا في أســباب التقدم‪ ،‬ألن اهلل‬

‫تعالــى خلقنــا لنســتعمرها ونمشــي في مناكبهــا‪ .‬لكن هذا‬

‫بــل المشــكلة فــي اإلقبــال علــى الدنيــا بدرجــة العبــادة؛‬

‫والمؤمنون أخروها لتعظيمهم اآلخرة‪ ،‬وهذان التعظيمان‬ ‫ال يجتمعان‪.‬‬

‫ثم إن هذا الرأي لم يصدق في تصوير هذه المشكلة‪،‬‬

‫فهو مفتقر إلى الدقة‪ ،‬ذلك ألنه ال وجود اليوم لمسلمين‬


‫مترا‪ .‬ولكن معظمنا يبقى على الغذاء الذي‬ ‫يصل إلى ‪ً 12‬‬ ‫يطفــو علــى ســطح الماء‪ .‬زد على ذلــك فإننا نملك قدرة‬ ‫كثير‬ ‫بريق ٍ‬ ‫على الصيد في ظالم الليل‪ ،‬ويساعدنا في ذلك ُ‬ ‫من الكائنات البحرية ك ُأ ِّم ِ‬ ‫الح ْبر على سطح البحر‪ .‬نحن‬ ‫طيور البطرس الجوالة نأتي في المرتبة األولى بين طيور‬ ‫المع ِمـ�رة؛ إذ نعيـ�ش ‪ 30‬عاما‪ ،‬كما يعيش بطرس "�‪Diome‬‬ ‫ً‬ ‫ُ َ ّ َ‬ ‫عاما‪.‬‬ ‫‪ً 62 "dea epomophora‬‬

‫طيرا صحيح الجسم‪.‬‬ ‫ً‬

‫جيدا في‬ ‫نقــوم بتغذيــة الفرخ الــذي يفقس من البيضة ً‬

‫األيــام العشــرين األولــى‪ ،‬ثــم يتنــاوب الذكــر واألنثى في‬

‫زيارة صغيرهما وحمل الطعام له بانتظام‪ .‬تتمكن الفراخ‬ ‫التي تنمو ذيولها وأرياشها في مد ٍة تمتد من ثالثة شهورٍ‬ ‫إلــى عشــرة شــهور‪ ،‬مــن مغــادرة العــش لفتــرات قصيرة‪.‬‬ ‫يومــا‪ ،‬يتمكن فرخ‬ ‫فبينمــا يغــادر فرخــي العش بعــد ‪ً 278‬‬ ‫البطـ�رس ذو المنقـ�ار األصفـ�ر‬

‫ما نتوقعه لمستقبلنا‬

‫(�‪Thalassarche Chlororhyn‬‬

‫حجمــا والــذي يعيش فــي المحيط‬ ‫‪ )chus‬الــذي يصغرنــي‬ ‫ً‬

‫يوما‪ .‬نمضي فترة‬ ‫األطلنطي‪ ،‬من مغادرة العش بعد ‪ً 120‬‬ ‫أعوام في‬ ‫أعوام إلى عشرة‬ ‫الشباب التي تمتد من خمسة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫تع ّلم السباحة وصيد األسماك‪.‬‬

‫وراثيا‬ ‫إننا نقوم بتصرفاتنا كلها بتقدير إلهي‪ُ ،‬مبرمجين‬ ‫ًّ‬

‫لنحافظ على حياتنا ويستمر وجودنا على مسرح الحياة‪.‬‬

‫وعلــى الرغــم مــن بعــض العثــرات‪ ،‬فإننــا نقــوم بــكل مــا‬ ‫تبتعــد فــراخ البطــرس ذات الســيقان الســوداء عــن العش‬

‫مترا لتســبح في حرية تامة‪ ،‬ثم تعود إلى‬ ‫نحو ‪ 25‬أو ‪ً 30‬‬

‫أعشاشها عند عودة آبائها أو أمهاتها حام َلين لها الطعام‪،‬‬

‫كثيرا عن أعشاشهم‪.‬‬ ‫كما ال يبتعد المراهقون من صغارنا ً‬ ‫تظهــر أولــى عالمــات البلوغ عندما يبلــغ المراهقون‬

‫الثالثــة أو الرابعــة مــن العمــر‪ ،‬وال يتمكنــون مــن بنــاء‬ ‫أعشاشــهم حتى يبلغوا السادســة أو الســابعة‪ .‬وربما يمتد‬

‫ذلك عند بعض أنواعنا إلى الخامسة عشرة من أعمارهم‬ ‫وال يستطيعون بناء أعشاشهم قبل هذه المدة‪.‬‬

‫السعي في سبيل الرزق‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫نتغــذى علــى مــا يطفــو علــى المــاء‪ ...‬كمــا أن حيوانــات‬ ‫ــريات‬ ‫البحار الجريحة أو الميتة أو أســماك الحبار وال ُقشِ ّ‬

‫‪28‬‬

‫الســ ُفن فــي‬ ‫هــي الطعــام المفضــل لنــا‪ .‬وأصبــح اتبــاع ُّ‬ ‫غريا لنا‪ ،‬ألن بقايا األطعمة‬ ‫السنوات الخمسين اآلخيرة ُم ً‬ ‫جيدا لغذائنا‪ .‬باإلضافة إلى‬ ‫التي تلقى منها تكون‬ ‫مصدرا ً‬ ‫ً‬

‫ذلــك تقــوم بعض أنواعنا بالبحــث عن غذائها في أعماق‬

‫المياه‪ .‬فالبطرس ذو الرأس الرمادي ‪-‬على سبيل المثال‪-‬‬ ‫يغطــس حتى ســتة أمتــار ليصل إلى فريســته‪ ...‬والبطرس‬

‫عمــق‬ ‫الســخامي ذو المعطــف يســتطيع أن يصطــاد فــي‬ ‫ٍ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يحتاجه جنســنا من أنشــطة وأعمال بإذنه ســبحانه وحده‪.‬‬

‫إن سألتم عن عدونا األكبر‪ ،‬فهو اإلنسان مع األسف في‬ ‫ظل العديد من الشركات التي تتعقبنا في سبيل الحصول‬ ‫على ريشنا‪ ،‬ثم بيعها بأثمان باهظ ٍة للمترفين من األغنياء‬ ‫ليحشــوا بها وســائدهم أو فرشهم‪ .‬وبســبب ذلك أوشك‬ ‫البطــرس ذو الذيــل القصيــر علــى االنقــراض‪ ،‬وقــد ُقتــل‬ ‫مئــات اآلالف مــن إخوانــي خــال األربعينيــات مــن‬ ‫القرن العشــرين‪ ،‬مع أن اهلل ســبحانه قد َي َّســر لكم القطن‬ ‫والصــوف‪ .‬وبســبب هــذا التــرف‪ ،‬بتنــا اليــوم نحــن طيور‬ ‫مهددين باالنقراض والغياب عن مسرح الحياة‪.‬‬ ‫البطرس َّ‬ ‫كما أن تلوث البحر بالنفايا النفطية‪ ،‬وتسرب البترول‬ ‫نتيجة الحوادث التي تتعرض لها ناقالت النفط والمنشآت‬ ‫النفطيــة البحريــة‪ ،‬أدى كل ذلك إلى فســاد غذائنا بشــكل‬ ‫علمــت‬ ‫مخيــف وبالتالــي إلــى مــوت الكثيــر منــا‪ ...‬وقــد‬ ‫ُ‬ ‫مؤخــرا مــن علمائكــم المتخصصيــن بأبحــاث البيئــة‪ ،‬أن‬ ‫ً‬ ‫عدد الموتى من إخواني الذين علقوا بشباك صيد السمك‬ ‫أو ُقتلــوا برصــاص بنــادق الصيادين‪ ،‬بلــغ ‪ 44‬ألف طير‪.‬‬ ‫قدر بمليوني زوج‪ 600 ،‬ألف زوج‬ ‫إن عددنــا اليــوم ُي َّ‬ ‫مــن هــذا العــدد‪ ،‬من البطــارس ذات األرجل الســوداء‪...‬‬ ‫زوج‬ ‫نوعــا بمعدل ‪ 20‬ألف ٍ‬ ‫كمــا تتــوزع األخرى إلى ‪ً 14‬‬ ‫نوع‪ ،‬تسعى جميعها إلى هجرة دائمة من محيط إلى‬ ‫لكل ٍ‬ ‫محيط لتبقى على قيد الحياة‪.‬‬ ‫آمــل فــي تكاثــر عــدد الذين يؤمنــون بأن‬ ‫ولكــن كلُّنــا ٌ‬ ‫هــذه الطبيعــة أثــر مــن آثــار الصانــع الخبيــر ذي القــدرة‬ ‫المطلقة؛ ستســتيقظ اإلنســانية من سباتها العميق وتنهض‬ ‫مــن جديد‪ ...‬وعندها تنجــو الطبيعة من التخريب وينجو‬ ‫نسلنا من االنقراض إن شاء اهلل‪.‬‬ ‫(*) جامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬


‫كثيرا‪.‬‬ ‫جسمي الثقيل أثناء الطيران ً‬

‫غدة إفراز الملح‬

‫ترتيبنا في شجرة الطيور‬

‫غدة الملح‬

‫نحــن مــن طيــور العواصــف (‪ ،)Procellariiformes‬ننتمــي‬

‫تكــون فصيلــة "‪،"Diomedeidae‬‬ ‫إلــى األنــواع األربعــة التــي ِّ‬ ‫ــت أنــواع مــن فصيلــة "�‪Dio‬‬ ‫نوعــا‪ِ .‬س ُّ‬ ‫المتوزعـ�ة إلـ�ى ‪ً 21‬‬

‫فتحة األنف لطرح الملح‬

‫تشــكل كبــرى أنواعنــا‪ .‬فأنــا البطــرس الجوال‪،‬‬ ‫‪"medeidae‬‬ ‫ّ‬

‫أ‪-‬مصفاة الملح في األنف‬

‫فجوة قُنيّات اإلفراز‬

‫جناحــي المبســوطين ‪ 340‬ســم‪ .‬وقد تبلغ‬ ‫يبلــغ مســافة‬ ‫َ َّ‬ ‫الم ِس ّــنين ‪ 363‬سم‪ .‬و ِت ْس ٌع من‬ ‫هذه المســافة عند ذكورنا ُ‬ ‫أنواعنــا صغيرة الحجــم تنتمي إلى جنــس "‪،"Thalassarche‬‬ ‫كما ينتمي أربع أنواع لنا إلى الـ"‪ ،"Phoebastria‬وتعيش في‬

‫المحيط الهادئ االستوائي أو الشمالي‪.‬‬

‫ُّتقطر الملح المطروح من المنقار‬ ‫الور‬ ‫يانيديالوريدي‬ ‫الشريانالشر‬ ‫الشريان الشعري‬

‫العرق النابض‬

‫قناة اإلفراز‬ ‫الملح‬

‫أما المســافة بين الجناحين المبســوطين عند البطرس‬

‫أســود الحاجبيــن فتبلغ ‪ 230‬ســم‪ ،‬وتبلغ عنــد البطرس‬ ‫ِ‬ ‫الم ِلك ‪315‬‬ ‫ذي الســاق الســوداء م ْترين‪ ،‬وعند البطــرس َ‬ ‫الســخامي بذيلــه القصير‪،‬‬ ‫ســم‪ .‬هــذا وقد يتميــز البطرس ُّ‬ ‫يعد‬ ‫وجناحيــه اللذيــن ال يتجــاوزا ‪ 215‬ســم‪ ،‬كما أنــه ال ّ‬ ‫َ‬ ‫من فصيلة الـ"‪."Diomedea‬‬

‫عائلة نموذجية‬

‫التعرف على اإلناث التي‬ ‫مناقيرنا من أجل‬ ‫نقوم بطقطقة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ســنختارها رفيقــة لنــا فــي الحيــاة‪ .‬تقــوم األنثى التــي ُتعِ ُّد‬ ‫نفســها لألمومة بإقامة عشــها على شــكل طاســ ٍة تفرشــها‬

‫بالطين والطحالب واألعشاب‪.‬‬

‫ذكــور البطــرس أوفيــاء ألزواجهــم‪ .‬فاالفتــراق ال‬

‫يحــدث إال فــي حالة عــدم اإلنجاب‪ ،‬وإن ثمــن االفتراق‬ ‫باهــظ للغايــة‪ ،‬إذ تحتــاج األنثــى بعــده إلى عــام أو عامين‬

‫للزواج مرة أخرى‪.‬‬

‫حين تبيض األنثى بيضة واحدة نتناوب نحن اإلثنين‬

‫مجرى الدم‬ ‫الخاليا الظهارية اإلفرازية التي تفرز الماء‬ ‫ج ــ‪ -‬انتقــال الملــح فــي الــدم العابــر مــن الشــعيرات‬ ‫الدموية إلى قناة اإلفراز‪.‬‬

‫قناة الطرح المركزي‬ ‫ب ــ‪ -‬طريقــة تصفيــة الملــح مــن الــدم بعــد انتقاله إلى‬ ‫قنوات غدد الملح عبر الشرايين‪.‬‬

‫علــى حراســتها واحتضانهــا‪ ،‬إن نمــو الفراخ عنــد أنواعنا‬

‫الضخمة يحتاج إلى فتر ًة أطول من فراخ أنواعنا األخرى؛‬

‫إذ تبلــغ فتــرة احتضــان البيضــة عند أنواعنــا الصغيرة ‪65‬‬

‫يومــا‪ .‬ويتراوح وزن‬ ‫يومــا‪ ،‬بينمــا تصل عنــد الضخام ‪ً 85‬‬ ‫ً‬ ‫المر َّقطــة بالنقــاط الحمــراء مــا بيــن ‪510-200‬‬ ‫البيضــة ُ‬

‫جراما‪ ،‬وذلك يساوي نسبة ‪ %10-5‬من وزن األم‪.‬‬ ‫ً‬

‫العناية بالفراخ‬

‫يوما‪ ،‬ثم‬ ‫يعتنــي الزوجان بصغيرهما أثنــاء احتضانه ‪ً 356‬‬ ‫ســنة واحــدة أخــرى حتــى ينتهي مــن تبديل رشــيه‪ .‬وهذا‬

‫يعني أننا نقضي عامين كاملين برعاية صغيرنا حتى يغدو‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪27‬‬


‫عشــه في‬ ‫يعيــش فــي جــزر غاالباغــوس (‪ )Galapagos‬يبنــي ّ‬ ‫منطقــة اإلكــوادور في أمريكا الجنوبية ليضع فيه بيضاته‪.‬‬

‫حياة تقوم على الحركة‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫َن ْع ُبــر المحيطــات علــى شــكل مجموعــات كبيــرة النتقاء‬ ‫الجــزر التي نضع فيها بيضاتنــا‪ .‬والطيران الجماعي هذا‬ ‫يمنحنا فائدة كبيرة‪ .‬فمعظم أنواعنا تعيش بين خطَّ ي عرض‬ ‫‪ 700-450‬من ناحية الجنوب للكرة األرضية التي تكثر‬ ‫ال عن أنواعنا التي تعيش في‬ ‫فيها رياح المحيطات‪ .‬وفض ً‬ ‫الميــاه الدافئــة في النصــف الجنوبي من الكــرة األرضية‪،‬‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫تعيــش ثالثــة أنواع منا في شــمال المحيــط الهادئ ً‬ ‫أمــا طائــر البطــرس المتمــوج (‪ )Phoeabastria irrorata‬الــذي‬

‫‪26‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫شــمال األطلنطــي‪ .‬أمــا أنا ‪-‬البطرس الجــوال‪ -‬وصديقي‬ ‫البطرس الملك‪ ،‬فإننا نبني أعشاشنا في الجزر القريبة من‬ ‫دائرة القطب الجنوبي وجنوب المحيط األطلنطي‪ .‬أقوم‬

‫بالتجــول فــي جنــوب المحيــط بالقــرب من خــط عرض‬ ‫‪ 300‬درجــة خــارج فترة التكاثر‪ .‬أما الحكمة في متابعتي‬

‫التيــارات الكبيــرة للمحيطــات‪ ،‬هــي كثــرة األمطــار التــي‬

‫الــرزاق تعالــى على أمريــكا الجنوبية‪ ،‬وأســترالية‪،‬‬ ‫ينزلهــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ونيوزيالندة‪.‬‬

‫أبطال التحليق‬

‫ال يأخذ بكم الظن أن أبداننا الضخمة تعيق علينا التحليق‬

‫فــي الســماء و ُتجبرنــا علــى اســتهالك طاقــة كبيــرة‪ ...‬فقد‬ ‫ربنا‬ ‫وزود تجاويف‬ ‫ً‬ ‫جوفة من الداخل‪ّ ،‬‬ ‫خلــق لنا ّ‬ ‫عظامــا ُم َّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫نظام‬ ‫أنوفنــا نحن طيور البطرس َ‬ ‫اســتقالب يص ّفــي أمــاح الميــاه التــي‬ ‫ٍ‬ ‫نشــربها‪ .‬وذلــك أننــا عندمــا نقــوم بــأكل مــا اصطدناه من‬ ‫البحر‪ ،‬تدخل مياه البحر إلى معدتنا شــئنا أم أبينا‪ ،‬ولكن‬ ‫نتجــاوز هذه المشــكلة بســهولة بفضل نظام االســتقالب‬ ‫التي وضعه اهلل تعالى في أنوفنا‪.‬‬ ‫ثم إن الخاليا التي تتشكل منها غدد الملح في أنوفنا‬ ‫عبر الدم‪ ،‬وعندما تتراكم‬ ‫تقــوم‬ ‫ّ‬ ‫بمــص الملح الوارد إليها ْ‬ ‫ويلقى‬ ‫كميــة الملح عليهــا وتتكاثف‪ ،‬تبدأ عمليــة الطرح ُ‬ ‫الملح من فتحات أنوفنا إلى الخارج‪ .‬إنها عملية تستحق‬ ‫ســمعت مــن علمائكم‬ ‫فكثيرا ما‬ ‫الدراســة أليــس كذلك؟‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وهــم يتحدثــون عــن أزمــة ميــاه الشــرب فــي المســتقبل‪،‬‬ ‫وجــود ٍ‬ ‫أنفقــت المبالــغ الضخمــة‬ ‫دول‬ ‫علمــت‬ ‫وبالتالــي‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫لتصفيــة ميــاه البحــر واســتعمالها فــي الشــرب‪ ...‬لذلــك‬ ‫جيدا لتكتشــفوا ســر نظــام التصفية‬ ‫أدعوكــم إلــى التأمــل ً‬ ‫َّ‬ ‫الموضــوع فــي أنفي‪ ،‬ولتقيموا المصانــع التي تنتج لكم‬ ‫أقل بكثير مما تنفقونها‪.‬‬ ‫المياه الصالحة للشرب وبتكلفة ّ‬

‫وال يوجــد أي نــوع مــن البطارس تبني أعشاشــها في‬

‫أجســامنا بأكيــاس الهــواء كمــا عند ســائر الطيــور‪ ،‬ولكن‬

‫ميزتنــا هــي العضــات التــي تمكننــا مــن بســط أجنحتنــا‬

‫وإبقائهــا مبســوطة أثنــاء الطيــران‪ ،‬والتــي تســاعدنا علــى‬ ‫الســماء ســاعات طويلة بال تعــب‪ ،‬إذ نكون‬ ‫التحليــق فــي َّ‬ ‫قد استثمرنا تيار الهواء في أجواء المحيط‪ ،‬وركبنا الهواء‬ ‫ســاعات طويلــة‪ .‬إن الطــرف األمامــي من‬ ‫ــي أطول‬ ‫َ‬ ‫جناح َّ‬

‫ممــا عنــد فصائــل الطيــور األخــرى؛ فبينمــا يتألــف جناح‬

‫الطيور األخرى من ‪ 10‬إلى ‪ 12‬ريشة‪ ،‬يتراوح عدد هذه‬ ‫الريشــات لدينــا مــن نــوع إلــى آخــر مــا بيــن ‪ 25‬إلــى ‪34‬‬

‫ريشــة‪ .‬وبفضــل أجنحتنــا الطويلــة والضيقة هــذه‪ ،‬نتمكّ ن‬

‫وإن كان التيــار فيــه خفي ًفا‪ .‬وأما‬ ‫مــن التحليــق فــي الهــواء ْ‬

‫فأفضل‬ ‫يتنســم فيها الهــواء ّ‬ ‫فــي األجــواء الســاكنة التــي ال ّ‬

‫الســباحة علــى ســطح الميــاه‪ ،‬كــي ال أعانــي مــن حمــل‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫ملك املحيطات‪ ..‬البطرس‬ ‫ســمحت‬ ‫مرحبــا أيهــا اإلنســان‪ ...‬إذا‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫وأقــدم‬ ‫أريــد أن أتحــدث إليــك قليــاً‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫معلومــات عــن نفســي كطائر مــن الطيور‬

‫الكبيــرة‬ ‫حجمــا‪ ...‬أنا البطــرس‪ ...‬أقضي معظم حياتي ما‬ ‫ً‬ ‫بيــن طيــران وســباحة‪ ...‬أقتات على الســمك وغيرها من‬ ‫الحيوانــات البحريــة‪ ...‬وألني أقوم باالصطياد في البحار‬

‫زودنــي ربــي بمنقــار طويل‬ ‫ثــم أعــود فأطيــر فــي الهــواء‪ّ ،‬‬ ‫يتمتع بفتحتين على شكل أنبوبين طويلين‪.‬‬

‫البر إال في أوقات‬ ‫ال نخرج نحن طيور البطرس إلى ِّ‬

‫اإلنجــاب والتكاثــر‪ ،‬إذ أمضــي ‪ %70‬مــن حياتــي فــي‬ ‫تلبي حاجتي إلى الماء‪ .‬إن‬ ‫البريــة والثدييــات بآلية عجيبة ّ‬ ‫ّ‬

‫جميــع الحيوانــات البرية ‪-‬كمــا تعلمون‪ -‬تشــرب المياه‬ ‫الح ْلــوة‪ .‬وكذلــك بنــو جلدتكــم يشــربون الميــاه الحلوة‪،‬‬ ‫ُ‬

‫علمــا بــأن الذين يلجؤون إلى شــرب ميــاه البحر المالحة‬ ‫ً‬ ‫باستمرار‪ ،‬يموتون بعد فترة نتيجة ذلك؛ ألن كمية الملح‬

‫أجهزة معالجة المياه المالحة‬

‫ٍ‬ ‫زود كل‬ ‫مخلوق بجهازِ‬ ‫إن صاحب الرحمة األبدية الذي َّ‬ ‫وضع في‬ ‫طرح للفضالت وف ًقا للمحيط الذي يعيش فيه‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫الســباحة والطيران‪ ...‬لذلك َم َّيزني ربي عن ســائر الطيور‬

‫فــي دمائكــم وفــي ســوائل أجســامكم أنتم البشــر‪ُ ،‬تضبط‬ ‫وإن تناولتــم الطعام‬ ‫عــن طريــق ُ‬ ‫أي ْ‬ ‫الكلى بشــكل دقيــق‪ْ ،‬‬ ‫نظم من ِق َبل أقسام‬ ‫مالح‪ ،‬فإن كمية الملح ُت َّ‬ ‫مالحا أو غير ٍ‬ ‫ً‬ ‫الكلية إما بامتصاص الكمية المطلوبة لتوازن الجسم‬ ‫في ُ‬ ‫أو بإمســاكها ثــم طرحهــا إلــى الخــارج‪ .‬إن الملــح فــي‬ ‫علما بأن توازن المحلول الكهربائي‬ ‫الجسم مهم للغاية‪ً ،‬‬ ‫هامــا فــي‬ ‫دورا ًّ‬ ‫داخــل الخليــة وخارجهــا والــذي يلعــب ً‬ ‫حركة األعصاب والعضالت‪ ،‬يتحقق باســتخدام أيونات‬ ‫الصوديوم والكلور الكائنة في الملح الذي تناولتموه‪ .‬لذا‬ ‫اختــل التوازن في كمية األمالح بشــكل مفرط زياد ًة‬ ‫فــإن‬ ‫َّ‬ ‫وإن لــم تتمكــن أجهــزة طــرح الفضــات من‬ ‫أو نقصا ًنــا‪ْ ،‬‬ ‫تحقيق التوازن المطلوب‪ ،‬يفقد الجســم توازنه الداخلي‪،‬‬ ‫ويؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى موت الكائن الحي‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫ونهاهــم عــن التعــاون علــى اإلثــم والعــدوان‪ ،‬يقــول اهلل‬

‫او ُنــوا‬ ‫الت ْق َــوى َو َ‬ ‫ِــر َو َّ‬ ‫ال َت َع َ‬ ‫‪‬و َت َع َ‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫او ُنــوا َع َلــى ا ْلب ِّ‬ ‫ــم َوا ْل ُع ْد َو ِ‬ ‫ان‪(‬المائــدة‪ ،)2:‬ويقــول تعالــى‪ِ  :‬إ َّن َمــا‬ ‫َع َلــى ا ِ‬ ‫إل ْث ِ‬ ‫ــون إ ِْخ َو ٌة‪(‬الحجــرات‪ .)10:‬وهــذه األخــوة التــي‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ‬

‫جعلهــا اهلل بيــن المؤمنيــن قرينــة الواليــة المتبادلــة بينهم‪:‬‬ ‫ون‬ ‫ــم َأ ْو ِل َي ُاء َب ْع ٍ‬ ‫ــض َي ْأ ُم ُر َ‬ ‫‪‬وا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ‬ ‫ــون َوا ْل ُم ْؤ ِم َن ُ‬ ‫َ‬ ‫ــات َب ْع ُض ُه ْ‬ ‫بِا ْلم ْعــر ِ‬ ‫ــن ا ْل ُم ْن َك ِر‪(‬التوبــة‪ ،)71:‬وقــد تضمن‬ ‫وف َو َي ْن َه ْــو َن َع ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫تشريع اإلسالم ما يكفل قيام األخوة والوالية المتبادلة‪.‬‬

‫هالك الروح‬

‫األمن االجتماعي على ُس َّلم أولويات الدعوة والسعي‬

‫تعم‬ ‫إن األمن مطلب لإلنسان الذي كرمه اهلل‪ ،‬وهو نعمة ّ‬ ‫جميعــا فــي المجتمع المســلم‪ .‬فأحكام اإلســام‬ ‫النــاس‬ ‫ً‬ ‫المنزلــة مــن اهلل تعالــى‪ ،‬والمبينــة بســنة رســوله ‪ ،‬تــدل‬ ‫علــى أن أمــن غيــر المســلم ‪-‬الــذي يعيش فــي المجتمع‬ ‫المســلم‪ -‬علــى نفســه ومالــه وعرضــه‪ ،‬مضمــون مــا دام‬

‫ملتزمــا بمــا تقضــي به األحكام‪ ،‬ال ُيمــس إال بحق‪ .‬وهي‬ ‫ً‬ ‫المتبادلــة بيــن المســلمين وغيــر المســلمين‪ ،‬ولــم تلزمنــا‬

‫بهــا قواعــد القانــون الدولــي أو المعاهــدات بيــن الــدول‬ ‫اإلســامية وغيرهــا؛ ألن هــذه األحــكام جانــب مهــم من‬

‫شــريعة اإلســام الكاملــة‪ ،‬يجــب على الدولة اإلســامية‬ ‫تطبيقــه والعمــل بــه‪ ،‬فهــو واجــب دينــي قبــل أن يكــون‬

‫دوليا‪.‬‬ ‫مصلحة سياسية أو‬ ‫ً‬ ‫التزاما ًّ‬

‫راقيا تحكمه شريعة‬ ‫مجتمعا‬ ‫إن اإلسالم يقيم‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫إنسانيا ً‬

‫جميعا على‬ ‫إلهيــة‪ ،‬وهــو لذلــك يقيم العالقــة بين النــاس‬ ‫ً‬

‫أســس وطيــدة مــن العــدل والبــر والرحمــة‪ .‬ونجــد ‪-‬كما‬ ‫ســبق معنــا‪ -‬فــي القرآن الكريم آيات عديدة‪ ،‬وفي الســنة‬

‫النبوية أحاديث كثيرة‪ ،‬تؤســس كلها لكرامة اإلنســان من‬

‫حيث كونه إنسا ًنا‪ ،‬وتقرر كلها حق البشر ‪-‬على اختالف‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫األجنــاس واأللــوان والمذاهب والعقائد‪ -‬فــي حياة آمنة‬

‫‪24‬‬

‫المنزع اإلنساني النبيل في صدارة‬ ‫فلنجعل هذا‬ ‫مســتقرة‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫خطابنــا اإلســامي في هــذا الزمان‪ ،‬ولنجعلــه على رأس‬

‫أولويــات دعوتنــا وســعينا إلصــاح مجتمعاتنــا‪ ...‬واهلل‬ ‫المستعان‪ ،‬وال حول وال قوة إال به جل وعال‪.‬‬

‫(*) رئيس مجمع الفقه اإلسالمي ‪ /‬السودان‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أحكام واضحة أوجبها اإلســام‪ ،‬ولــم توجبها المصالح‬

‫متيض إىل أين؟‬ ‫تقطع الفيايف والقفار‪،‬‬ ‫والتيه والضياع‪...‬‬ ‫يا قاتل نفسه‪،‬‬ ‫يا هالك روحه!‬ ‫رجع وا ْلتمس نو ًرا‪،‬‬ ‫اِ ْ‬ ‫واصطحب ول ًّيا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وكن له وف ًّيا‪،‬‬ ‫َت ْن ُج مهد ًّيا‪...‬‬ ‫***‬


‫بالمدينــة؛ آمــن‪ ..‬إال مــن ظلــم وأثــم‪ ،‬وأن اهلل جــار لمــن‬

‫ميثــاق األمــم المتحــدة بالعــدوان وال باالســتيالء علــى‬ ‫ُ‬

‫في العهد النبوي‪ ،‬يتحقق األمن لجميع المسلمين وغير‬

‫الحق فــي رد العدوان عن الدولة‬ ‫ضــد أي دولــة‪ ،‬ويعطي‬ ‫َّ‬

‫بــر واتقــى‪ ،‬ومحمــد رســول اهلل"‪ .‬وبمقتضى هذا الشــرط‬

‫أراضــي الغيــر بالقــوة‪ ،‬وال باألعمــال العدوانيــة الموجهة‬

‫المســلمين‪ ،‬في خروجهم وبقائهم من غير ظلم وال إثم‪.‬‬

‫المعتدى عليها بكل الوسائل‪ ،‬بما في ذلك تعاون الدول‬

‫عســكريا في التصدي للعــدوان الذي يقع على‬ ‫األخــرى‬ ‫ًّ‬

‫كان هــذا هــو أمــن المدينــة عنــد قيــام الدولــة اإلســامية‬

‫دولــة عضــو في األمم المتحدة طب ًقا للفصل الســابع من‬

‫فيهــا‪ ،‬وقــد أمــن المســلمون علــى دينهم‪ ،‬وعلى أنفســهم‬

‫الميثــاق‪ .‬ولكــن المواثيــق الدوليــة وحدهــا ال تكفــي من‬

‫أيضا لغير‬ ‫وأعراضهــم وأموالهــم‪ .‬وكان هــذا األمن ح ًّقــا ً‬ ‫المســلمين مــن أهــل الكتــاب علــى دينهــم ودنياهــم‪ ،‬مــا‬

‫ولي األمر أسباب‬ ‫وجهة النظر اإلسالمية‪ ،‬فالبد أن يهيئ ُّ‬

‫دامــوا مســالمين‪ ،‬وكانــت أنفســهم وأعراضهــم وأموالهم‬

‫القــوة التــي تحمــي الدولــة اإلســامية وأفرادهــا‪ ،‬وتمنع‬ ‫انتهــاك حدودهــا أو اإلضــرار بمصالحها‪ ،‬وهذا ما أوجبه‬

‫مصونــة بذمة اإلســام‪ ،‬حتى ظهر اإلثــم والغدر بالعهود‬

‫اهلل تعالــى علــى الدولــة المســلمة والمجتمــع المســلم‬ ‫ــن رِ َب ِ‬ ‫ِ‬ ‫اط‬ ‫‪‬و َأ ِع ُّ‬ ‫ــو ٍة َو ِم ْ‬ ‫بقولــه‪َ :‬‬ ‫ــم َمــا ْ‬ ‫اس َــت َط ْع ُت ْم م ْن ُق َّ‬ ‫ــدوا َل ُه ْ‬ ‫ــد َّو ا ِ‬ ‫ين ِم ْن ُدو ِنهِ ْم‬ ‫ا ْل َخ ْي ِ‬ ‫ــل ُت ْر ِه ُب َ‬ ‫هلل َو َع ُد َّو ُك ْم َو َ‬ ‫ون ِب ِه َع ُ‬ ‫آخ ِر َ‬ ‫ِيل‬ ‫ــم َو َما ُت ْن ِف ُقوا ِمن ش‬ ‫َ‬ ‫ــي ٍء ِفي َســب ِ‬ ‫ــم ا ُ‬ ‫هلل َي ْع َل ُم ُه ْ‬ ‫ال َت ْع َل ُمو َن ُه ُ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ون‪(‬األنفــال‪ .)60:‬فاألمــن‬ ‫ــم َ‬ ‫ال ُت ْظ َل ُم َ‬ ‫ــم َوأ ْن ُت ْ‬ ‫اهلل ُي َــو َّف ِإ َل ْي ُك ْ‬

‫منهم‪ ،‬وهددوا أمن المسلمين في المدينة بمعاونة العدو‪،‬‬ ‫ونشروا األكاذيب عن المسلمين‪ ،‬ولم يكن بد من حفظ‬

‫أمــن المجتمــع المســلم بطردهم‪ ،‬وإنفاذ حكــم اهلل فيهم‬

‫طائفة بعد أخرى‪.‬‬

‫الحفاظ على األمن من الضرورات الخمس‬

‫وماله‪ ،‬وقد جعلت الشريعة اإلسالمية الحفاظ على هذه‬

‫الضروريــات مــن أهم مقاصدهــا‪ .‬إن األمن الفردي ‪-‬أي‬

‫أمن اإلنســان على نفســه وماله وعرضه‪ -‬ضد أي اعتداء‬ ‫يقــع عليــه من غيره‪ ،‬مكفــول عن طريــق تطبيق األحكام‬ ‫الشرعية التي تحمي األنفس واألعراض واألموال‪.‬‬

‫فالعدوان كما يقع من فرد على آخر داخل المجتمع‬

‫المســلم‪ ،‬قــد يقــع علــى المجتمــع المســلم ُج ْملــ ًة مــن‬

‫مجتمــع آخر‪ ،‬وقــد تتعدد صور هذا العدوان الذي يهدد‬ ‫الدولة اإلسالمية والمجتمع المسلم‪.‬‬

‫ومن واجب ولي األمر أن ينهض بحماية المســلمين‬

‫ومصالحهم ومجتمعهم من كل صور التهديد والعدوان‪،‬‬

‫حتى يتحقق للمجتمع المسلم أمنه في جميع مجاالت‬ ‫حياتــه‪ .‬وفــي التنظيــم الدولــي الحديــث‪ ،‬حيــث يكــون‬

‫المجتمع في رعاية دولة لها حدودها ولها سيادتها على‬ ‫المسلمين في الدولة اإلسالمية‪ .‬وتكفل المواثيق الدولية‬ ‫‪-‬ومنهــا ميثــاق األمــم المتحــدة‪ -‬لــكل دولــة الحــق فــي‬

‫والحق في رد العدوان عنها‬ ‫العيش آمنة داخل حدودها‪،‬‬ ‫َّ‬

‫إذا وقع من دولة أخرى أو جماعة مســلحة‪ ،‬وال َيســمح‬

‫وهــذه األهميــة البالغة لألمن في المجتمع المســلم‪،‬‬

‫وكــون توافــره العامــل المهــم فــي ســعي المجتمــع إلــى‬ ‫النمــو واالرتقاء في جميــع المجاالت‪ ،‬هي التي جعلت‬ ‫اإلخالل باألمن محاربة هلل ورســوله‪ ،‬وكانت عقوبته من‬

‫وحســما في اإلســام‪ ،‬إذ إن عقوبة‬ ‫أشــد الحدود صرامة‬ ‫ً‬

‫هــذا اإلخالل الخطير‪ ،‬تتراوح بين القتل والصلب‪ ،‬وبين‬

‫قطــع األطــراف والنفــي‪ ،‬وكلها عقوبات جســمية جعلها‬ ‫الشــارع للزجــر عــن ارتــكاب الجريمــة‪ ،‬وللــردع عنــد‬

‫ارتكابهــا‪ ،‬فهي لشــدتها تــؤدي إلى الوقاية قبــل ارتكابها‪،‬‬ ‫وإلى العقاب العادل عند وقوعها‪.‬‬

‫األمن االجتماعي عافية بنيان المجتمع‬

‫ويحتــاج المجتمــع المســلم إلى األمــن االجتماعي وهو‬

‫تعبيــر حديث‪ ،‬لكنه يعبر عن معنى إســامي أصيل‪ ،‬وهو‬ ‫أن يكــون المجتمــع المســلم كالبنيــان المرصوص يشــد‬ ‫واضحا أشــد الوضوح‬ ‫بعضــا‪ .‬ونجد هــذا المعنى‬ ‫بعضــه ً‬ ‫ً‬ ‫توادهــم‬ ‫"م َثــل المســلمين فــي ّ‬ ‫فــي الحديــث الشــريف‪َ :‬‬ ‫كم َثــل الجســد الواحــد إذا اشــتكى منه عضو‬ ‫وتراحمهــم َ‬

‫والحمى" (متفق عليه)‪.‬‬ ‫تداعى له سائر األعضاء بالسهر‬ ‫ّ‬

‫وقــد أمــر اهلل المؤمنيــن بالتعــاون على البــر والتقوى‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫إقليمهــا‪ ،‬يكــون األمــن الوطنــي مــن أول مهــام ولــي أمر‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يحتاج الفرد في حياته إلى األمن على نفسه ودينه وعرضه‬

‫الوطني مسؤولية إسالمية‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫ويلزمهم بحكم عقيدتهم‪ .‬ولم يترك اإلسالم العالقة مع‬

‫إليــه المــال‪ .‬وعقــد األمــان في الشــريعة اإلســامية يمثل‬

‫التعصــب العرقــي أو اللونــي‪ ،‬أو الدينــي‪ .‬ولــم يتغافــل‬

‫جميعا‪.‬‬ ‫المسلمين من خالل عالقات متنوعة مع الناس‬ ‫ً‬

‫التســامح اإلســامي علــى حقيقتــه‪ ،‬في التعامــل مع غير‬

‫غيــر المســلمين لتقلبــات المصالح واألهــواء‪ ،‬ولنزعات‬

‫وفــي الوقــت الحاضر‪ ،‬يتم إعطاء األجنبــي إذ ًنا بالدخول‬

‫اإلسالم عن وجود "اآلخر" وأهمية التعامل معه‪ ،‬فوضع‬

‫واإلقامــة بحســب األنظمــة المتبعة في الدول اإلســامية‬

‫القواعد التي تضمن حق المسلمين في المجتمع‪ ،‬وحق‬

‫لدخول األجانب‪.‬‬

‫دائمــا أو بصفــة مؤقتــة‪ ،‬ولم‬ ‫اآلخريــن الذيــن يعايشــونهم ً‬

‫األمان لغير المســلم‪ ،‬وجب على‬ ‫ومتــى منــح اإلمــام‬ ‫َ‬

‫معهودا في الممالك واإلمبراطوريات القديمة‬ ‫يكن ذلك‬ ‫ً‬

‫جميعــا احترامه وعدم انتهاكــه‪ ،‬ألن اإلمام أو‬ ‫المســلمين‬ ‫ً‬

‫قبل اإلسالم‪.‬‬

‫الثانــي‪ :‬أن القواعــد التــي وضعهــا اإلســام لتنظيــم‬

‫للمســتأمن‬ ‫نائبــه‪ ،‬صاحــب الحق في ذلــك‪ ،‬فيثبت األمن‬ ‫َ‬

‫تتميز بالسماحة واليسر‪ ،‬وحفظ الحقوق‪ ،‬وتجنب الظلم‬

‫لــه فــي نفســه وماله وولده‪ ،‬ويســري األمان إلــى الزوجة‪.‬‬

‫على حياته وماله وعرضه‪ ،‬ويحرم على المسلم التعرض‬

‫العالقــة بيــن المســلمين وغيرهم في المجتمع المســلم‪،‬‬

‫فتجــب لهــم العصمــة فــي دار اإلســام‪ ،‬وتجــري علــى‬

‫لمجــرد االختــاف فــي الديــن‪ .‬فهنــاك حــد أدنــى يجــب‬

‫المســتأمنين أحكام اإلسالم في أثناء إقامتهم ‪-‬في حدود‬

‫الحفاظ عليه حتى في حالة العداء أو القتال‪ ،‬وهو الكرامة‬

‫يعيش في مجتمع المسلمين في حياته الدائمة والمستقرة‬ ‫بين أسرته‪ ،‬وفي مقر عمله الذي يتكسب منه ‪-‬وهي حالة‬

‫وثيقة المدينة دستور النبي لدولته‬

‫إذن لــم يقتصــر األمــن علــى المســلمين‪ ،‬بــل إن غيــر‬

‫المســلمين كان لهــم نصيبهــم مــن األمــن علــى أنفســهم‬

‫الذمييــن‪ -‬وإنمــا تجــاوزت ذلــك إلــى حمايــة المخالــف‬

‫مؤقتا بانتهاء العمل أو قضاء‬ ‫األمر فيها‪ ،‬ويكون حضوره ً‬

‫ومــن أهــم مبــادئ تلــك الصحيفة أو الوثيقــة‪ ،‬أن ذمة‬

‫فــي الديــن‪ ،‬الــذي يحضر إلى بــاد المســلمين للعمل أو‬ ‫ٍ‬ ‫بــإذن مــن ولي‬ ‫التجــارة أو لشــأن مــن الشــؤون المباحــة‪،‬‬

‫أفراده من المسلمين بغيرهم من أهل الكتاب‪.‬‬

‫المصلحــة التــي يبتغيهــا‪ .‬لقد وفرت الشــريعة اإلســامية‬

‫اهلل واحــدة‪ ،‬يجيــر علــى المســلمين أدناهم‪ ،‬والمســلمون‬

‫منا‪ ،‬ومعرفتنا‬ ‫الشــؤون المباحــة‪ ،‬ويدخل إلى ديارنــا بإذن ّ‬

‫بحقيقة أمره‪ ،‬واطمئناننا إلى مقاصده المباحة‪ ...‬إذ يجوز‬ ‫لإلمــام أو نائبــه أن يعطــي األمــان لغيــر المســلمين علــى‬

‫أنفســهم وأموالهــم لمصلحــة تعود على المســلمين وهو‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫حاجة مؤقتة ثم يرجعون إلى ديارهم‪.‬‬

‫وأعراضهــم وأموالهــم‪ ،‬وقــد تــم ذلــك بـ"الصحيفــة" التي‬ ‫تنظم أمور المجتمع المسلم وعالقات‬ ‫كانت أول وثيقة ِّ‬

‫حماية للمســتأمن الذي يفد إلى بالد اإلســام لشــأن من‬

‫‪22‬‬

‫ذلــك ال يجعلهــم مــن أهل دار اإلســام‪ ،‬ألنهــم يقضون‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪‬و َل َق ْــد َكر ْم َنا‬ ‫التــي وهبهــا اهلل لبنــي آدم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬ ‫َّ‬ ‫اهم ِفي ا ْلب ِر َوا ْلب ْح ِر َور َز ْق َن ُ ِ‬ ‫الط ِيب ِ‬ ‫ات‬ ‫َب ِني َ‬ ‫َ‬ ‫آد َم َو َح َم ْل َن ُ ْ‬ ‫اه ْم م َن َّ ّ َ‬ ‫َّ َ‬ ‫اه ْم َع َلى َك ِثيرٍ ِم َّم ْن َخ َل ْق َنا َت ْف ِض ًيل‪(‬اإلسراء‪.)70:‬‬ ‫َو َف َّض ْل َن ُ‬ ‫ولذا‪ ،‬لم تقتصر الشــريعة اإلســامية على حماية من‬

‫ما خوطب به المســلمون من أحكام الشــريعة‪ -‬وإن كان‬

‫أمر واقع في العصر الحديث‪.‬‬

‫موالــي بعــض مــن دون النــاس‪ ،‬وأن مــن تبــع‬ ‫بعضهــم َ‬ ‫المؤمنيــن مــن يهــود‪ ،‬فــإن لهــم النصــرة واألســوة غيــر‬ ‫مظلوميــن وال متناصريــن عليهــم‪ .‬ونظمــت الوثيقــة‬

‫النبويــة التعــاون بيــن المســلمين وغيرهــم‪ ،‬فينفــق اليهود‬ ‫مــع المؤمنيــن مــا دامــوا محاربيــن‪ ،‬مــع أن علــى اليهود‬ ‫نفقتهم وعلى المســلمين نفقتهم‪ .‬وأوردت الوثيقة أنه ال‬

‫وإذا وقــع األمــان بشــروطه‪ ،‬وجــب على المســلمين‬

‫يخــرج أحــد من يهــود المدينة إال بإذن الرســول ‪ .‬وأن‬

‫شــيء مــن مالهــم إال بــإذن شــرعي‪ ،‬وال أذيتهــم بغيــر‬

‫يثرب‪ ،‬ومعنى ذلك التعاون في رد العدوان عن الجميع‪.‬‬

‫للمؤمنيــن‪ ،‬فال يجوز أســرهم وال أخذ‬ ‫جميعــا الوفــاء بــه‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫المؤمــن في دار اإلســام فماله‬ ‫وجــه شــرعي‪ .‬وإذا مــات‬ ‫َّ‬

‫لوارثــه إن كان معــه‪ ،‬وإذا لــم يكــن وارثــه معــه أُرســل‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بيــن أهلهــا مــن اليهود والمســلمين النصر علــى من َداهم‬ ‫وثمــة نــص واضــح وصريــح في الوثيقــة يتعلــق باألمن‪،‬‬

‫وهــو مــن بيــن بنودها العامة‪" :‬من خــرج؛ آمن‪ ،‬ومن قعد‬


‫إن القواعد التي وضعها اإلسالم لتنظيم العالقة‬

‫اإلســامية قد تســقط أو تزول كدولة بالغزو العســكري‪،‬‬ ‫محكومــا بقوانينــه‬ ‫ولكــن المجتمــع يظــل فــي حياتــه‬ ‫ً‬ ‫اإلسالمية في معامالته وعالقاته ‪-‬ربما عشرات السنين‪-‬‬ ‫حتى تقوم الدولة من جديد‪ ،‬وهي تجربة مرت بها الدول‬ ‫اإلسالمية التي خضعت لالستعمار عشرات السنين‪.‬‬

‫بني املســلمني وغريهم يف املجتمع املســلم‪،‬‬ ‫تتميز بالســاحة واليرس‪ ،‬وحفظ الحقوق‪ ،‬وتجنب‬ ‫الظلم ملجرد االختالف يف الدين‪ .‬فهناك حد أدىن‬ ‫يجب الحفاظ عليه حتى يف حالة العداء أو القتال‪،‬‬ ‫وهو الكرامة التي وهبها الله لبني آدم‪.‬‬

‫األمن في خبرة الدولة النبوية‬

‫جميعــا فــي دولــة اإلســام منذ‬ ‫كيــف كان األمــن للنــاس‬ ‫ً‬ ‫ظهرت إلى الوجود في المدينة المنورة؟‬ ‫لقد كان األمن بمفهومه الشامل‪ ،‬هو أول أهداف الدولة‬ ‫منذ قيامها‪ .‬فقد آخى النبي ‪ ‬بين المهاجرين واألنصار‪،‬‬ ‫إذ كان األولــون قــد تركــوا ديارهــم وأموالهــم ليكونــوا‬ ‫مــن رعايــا ومواطنــي أول دولة إســامية‪ ،‬وكانت المدينة‬ ‫بالنســبة لهم دار غربة في أول األمر‪ ،‬وكان موقف انصار‬ ‫معبرا عن أخوة‬ ‫رسول اهلل ‪ ‬بالنسبة إلخوانهم في الدين‪ً ،‬‬ ‫اإليمان واإلســام‪ ،‬وعن النفوس الزكية بخلق اإلســام‪.‬‬

‫شاكرا هلل‪ .‬ولم ترق دماء كثيرة في فتح مكة‪،‬‬ ‫خاشعا‬ ‫مكة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫فقد أعطى الرســول ‪ ‬األمان ألهل مكة‪" :‬من دخل دار‬ ‫أبي سفيان فهو آمن‪ ،‬ومن أغلق عليه داره فهو آمن‪ ،‬ومن‬

‫دخل المسجد فهو آمن" (رواه أبو داود)‪ .‬وهكذا كان األمان‬

‫ال لمن لم يقاتل أو لزم داره‪ ،‬أو دخل دار أبي سفيان‪،‬‬ ‫شام ً‬ ‫وأمنــا‪.‬‬ ‫أو البيــت الحــرام الــذي جعلــه اهلل مثابــة للنــاس ً‬ ‫وحيــن تــم النصر والفتــح‪ ،‬عفا الرســول ‪ ‬عن أهل‬

‫مكــة عندمــا اجتمعــوا إليــه قــرب الكعبة ينتظــرون حكمه‬ ‫فيهــم‪ ،‬فقــال الرســول ‪" :‬مــا تظنــون أنــي فاعــل بكــم؟"‬

‫خيــرا‪ ،‬أخ كريــم وابــن أخ كريــم‪ ،‬فقــال الرســول‬ ‫فقالــوا‪ً :‬‬

‫وذكر الرســول ‪ ‬المســلمين‬ ‫‪" :‬اذهبوا فأنتم الطلقاء"‪ّ .‬‬

‫المنتصرين بحرمة مكة‪ ،‬وحرم القتل والسبي فيها‪ ،‬وأبقى‬ ‫َّ‬ ‫على الناس أموالهم‪ ،‬وحفظ حقوقهم‪ ،‬حتى أدى مفاتيح‬ ‫البيت الحرام إلى من تحملوا شرف الحفاظ عليها‪.‬‬

‫وهكــذا كان األمــان للجميــع‪ ،‬وكان األمــن الشــامل‬

‫للناس في عهد النبوة‪ ،‬سواء في دولة اإلسالم في المدينة‪،‬‬

‫أفواجا‪،‬‬ ‫أم في مكة التي دخل أهلها بعد الفتح في دين اهلل‬ ‫ً‬ ‫وأصبحــت أقــدس مدينــة فــي تاريــخ اإلســام والحــرم‬ ‫وأمنــا‪.‬‬ ‫األول للمســلمين‪ ،‬الــذي جعلــه اهلل مثابــ ًة للنــاس ً‬

‫أيضا في الدولة النبوية‬ ‫األمن حق لغير المسلمين ً‬

‫إن اإلســام يتميــز فــي خصــوص التعامــل مــع غيــر‬

‫المسلمين بأمرين مهمين‪:‬‬

‫جــزءا ال يتجزأ من شــريعته‬ ‫يعــد‬ ‫نظامــا ّ‬ ‫ً‬ ‫األول‪ :‬أن لــه ً‬

‫دائمــا‬ ‫المتكاملــة‪ ،‬وهــو نظــام للمســلمين يعملــون بــه ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫ســاطعا فــي الســنة المطهــرة لقيمــة األمن في‬ ‫ال‬ ‫نجــد مثــا ً‬ ‫ً‬ ‫اإلســام‪ .‬فقد أقام الرســول ‪ ‬الدولة اإلســامية األولى‬ ‫فــي المدينــة‪ ،‬ولــم َت ْســ َلم هــذه الدولة الناشــئة مــن مكايد‬ ‫ال بيــن‬ ‫المشــركين واليهــود‪ ،‬حيــث دارت المعــارك ســجا ً‬ ‫دولــة الحق وشــراذم الباطل وأعوانهــم‪ ،‬وكتب اهلل النصر‬ ‫ِ‬ ‫الســ ْلم بيــن دولــة‬ ‫للمســلمين فــي هــذه المعــارك‪ .‬وظــل ّ‬ ‫محكومــا بهدنــة‬ ‫اإلســام األولــى وبيــن مشــركي مكــة‬ ‫ً‬ ‫الحديبيــة التــي عقدهــا الرســول ‪ ‬مــع المشــركين فــي‬ ‫مكــة‪ ،‬حتــى نقضــوا عهدهــا وانتهكــوا شــروطها بإعانتهم‬ ‫حلفاءهم على حلفاء النبي ‪ ‬من بني خزاعة‪ ،‬فاستنصر‬ ‫وفاء بالعهد‪ .‬وقبل أن‬ ‫بنو خزاعة رســول اهلل ‪ ‬فنصرهم ً‬ ‫يدخل الرســول ‪ ‬إلى مكة‪ ،‬جاءه نفر من وجهاء قريش‬ ‫فأعلنوا إســامهم وكان منهم بعض أعداء اإلســام كأبي‬ ‫ســفيان بن حرب‪ ،‬وعبد اهلل بن أمية‪ ،‬ولما أســلموا كانت‬ ‫لهم مواقف ومشاهد تك ِّفر عنهم ماضيهم في الجاهلية‪.‬‬ ‫وعنــد فتــح مكــة علــى أيــدي مــن آذتهــم قريــش‬ ‫ومشركوها أشد األذى‪ ،‬قال سعد بن عبادة ‪ ‬حامل راية‬ ‫األنصار في جيش المســلمين‪ :‬اليوم يوم الملحمة‪ ،‬اليوم‬ ‫تســتحل الكعبة‪ ،‬فقال الرسول ‪" :‬كذب سعد‪ ...‬ولكن‬

‫العوام)‪ .‬ودخل الرســول صلى اهلل عليه وعلى آله وســلم‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فتح مكة ٌ‬ ‫ساطع على مركزية األمن‬ ‫مثال ٌ‬

‫هــذا يــوم يعظم اهلل فيــه الكعبة" (رواه البخــاري)‪ ،‬وأخذ الراية‬ ‫منــه ودفعهــا إلــى ابنه قيــس (و ِقيــل‪ :‬دفعها إلــى الزبير بن‬

‫‪21‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عصام أحمد البشير*‬

‫األمن يف السنة النبوية‬ ‫إن اإلسالم رفع راية السالم منذ اللحظة‬

‫حربا إال إذا‬ ‫األولــى لميــاده‪ ،‬ولم يعلــن ً‬

‫دفعا‪ .‬ولقد ظل ثالث‬ ‫كان قــد ُدفع إليها ً‬

‫ال نشــر دعوتــه في ظل‬ ‫عشــرة ســنة بيــن ربــوع مكة محاو ً‬

‫اضطهادا لم يســبق‬ ‫الســام فما اســتطاع‪ ،‬واضطهد أتباعه‬ ‫ً‬

‫لــه مثيل في تاريخ البشــرية‪ ،‬ولكنه ‪-‬مــع هذا‪ -‬كان يأمر‬ ‫أتباعه بالجنوح إلى السلم واألخذ بالعفو واإلعراض عن‬

‫الجاهلين‪ .‬فليس هناك دين دعا إلى السالم كما دعا إليه‬

‫اإلســام‪ ،‬وال مذهــب من المذاهب القديمــة أو الحديثة‬ ‫أســهم فــي تدعيــم أســس الســام كمــا أســهم اإلســام‪.‬‬

‫فالسالم في األرض هو هدفه ودعوته‪ ،‬وأنشودة رسالته‪،‬‬ ‫ولم تكن حروبه في الواقع إال وسيلة إلقرار هذا السالم‬ ‫في األرض‪.‬‬

‫األمن منظومة متكاملة‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫إن األمن معنى شامل في حياة اإلنسان‪ ،‬وال يتوفر األمن‬

‫‪20‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لإلنســان بمجــرد ضمــان أمنــه علــى حياته فحســب‪ ،‬فهو‬ ‫كذلــك يحتــاج إلــى األمن علــى عقيدتــه التي يؤمــن بها‪،‬‬ ‫وعلى هويته الفكرية والثقافية‪ ،‬وعلى موارد حياته المادية‪.‬‬ ‫ال عن الحفاظ على‬ ‫والشــعوب والدول تحتــاج ‪-‬فض ً‬ ‫أمنها الخارجي‪ -‬إلى ضمان أمنها السياسي واالجتماعي‬ ‫واالقتصــادي ودون أن يتحقــق لهــا ذلــك ال تتمكــن مــن‬ ‫هيمنا‬ ‫النهوض والتطلع إلى المستقبل‪ ،‬بل يظل الخوف ُم ً‬ ‫ومقي ًِدا لتطلعاتها‪.‬‬ ‫على خطواتها‬ ‫ّ‬ ‫ولذلك‪ ،‬فإن تكامل عناصر األمن في مجتمع معين‪،‬‬ ‫هو البداية الحقيقية للمستقبل األفضل‪ ...‬وتوفير عناصر‬ ‫األمــن الديني واالجتماعي واالقتصادي والثقافي وبقاؤه‬ ‫في المجتمع‪ ،‬ضمان له الستعادة أمنه الخارجي حتى لو‬ ‫فقده بصفة مؤقتة أو عارضة‪.‬‬ ‫ال‬ ‫وقيما وأصو ً‬ ‫ويمثل التزام اإلســام عقيد ًة وشــريعة ً‬ ‫اجتماعية‪ ،‬أهم عناصر األمن في المجتمعات اإلسالمية‪.‬‬ ‫يقــول الكاتــب األمريكــي برنــارد لويــس‪ :‬إن الدولــة‬


‫هــذه العناصــر من أهــم المخلفات الصناعيــة ومن أخطر‬

‫مستقبل وتحديات‬

‫تقد ًما ملحوظً ا في الســنوات‬ ‫حققــت الكيميــاء الخضــراء ّ‬

‫الملوثــات‪ ،‬ذلــك كلــه بســبب طريقة تعامل اإلنســان مع‬

‫العضويــة التقليدية في التصنيع وطرق الفصل الكيميائي‬

‫الكيميائية من البنى البسيطة إلى المعقدة‪ .‬وقد كان ذلك‬

‫هــذه المــواد‪ ،‬إذ إنــه أوجــد طر ًقا مختلفــة لتصنيع المواد‬

‫األخيــرة‪ ،‬حيــث أصبــح مــن الممكن اســتبدال المذيبات‬

‫تطورا‬ ‫وتحديا يشهد له‪ ،‬لكن بأسلوب مختلف عن ذلك‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫بمذيبــات خضــراء صديقة للبيئة‪ .‬ومــن األعمال المتميزة‬ ‫فــي هــذا المجــال‪ ،‬اســتخدام ثانــي أكســيد الكربــون فــي‬

‫الحالــة المائعــة عنــد درجــة الحــرارة فــوق الحرجــة فــي‬ ‫التصنيــع والفصــل الكيميائــي‪ .‬ومــن أهم مميزاتــه أنه ال‬ ‫يتأكســد فــي هــذه الظــروف‪ ،‬ممــا يجعــل اســتخدامه فــي‬

‫تفاعــات األكســدة ذا قيمــة كبيرة‪ ،‬اســتخدام المخلفات‬ ‫النباتيــة إلنتــاج مادة الليجنين المســتخدمة في العديد من‬

‫تطبيقات الكيمياء‪ .‬وبذلك نجعل مخلفات اليوم‪ ،‬مصادر‬ ‫لمــواد أوليــة آمنــة لصناعــات الغــد‪ ،‬كمــا نضيــف جهــود‬

‫الكيميائييــن الباحثيــن فــي تطويــر طــرق كيميائيــة نظيفــة‪،‬‬ ‫كتقنيــة الميكروويــف‪ ،‬والموجــات فــوق الصوتيــة فــي‬ ‫اقتصــاد الذرات والفعاليــة الذرية‪ ،‬كما أن التفاعالت تتم‬ ‫في وقت قصير ‪-‬أو يمكن القول في مدة خيالية من دقيقة‬ ‫كبيرا بالمقارنة‬ ‫إلى عشــر دقائق‪ -‬ويكون مــردود التفاعل ً‬ ‫مــع الطــرق التقليدية‪ .‬التأســيس لسياســة تعليمية لتعليم‬ ‫الكيمياء الخضراء في الجامعات‪ ،‬وإدخالها في البحوث‬

‫العلميــة األكاديميــة‪ ،‬وربــط هــذه األخيــرة مــع االقتصاد‬

‫ومتطلبات الصناعة والســوق‪ ،‬باإلضافة إلى إيجاد بدائل‬ ‫صديقــة للبيئــة ذات كفــاءة عاليــة تســاعد علــى التخلــص‬

‫النهائــي مــن المواد الكيميائية الخطرة وتراعي ‪-‬في نفس‬

‫الوقــت‪ -‬الجانــب االقتصــادي‪ ،‬وهــذا كلــه يعــد مــن أهم‬ ‫التحديــات التــي يواجههــا الكيميائيون في هــذا المجال‪.‬‬

‫الحاجة إلى محاكاة الطبيعة‬

‫تعرض اإلنســان‬ ‫لقد كانت الطرائق الكيميائية ومخلفاتها ِّ‬ ‫المركبــات الكيميائيــة كونها خطرة‪ ،‬لكن العيب في طرق‬ ‫تصنيعهــا واســتخداماتها ومصيرهــا النهائــي فــي الطبيعــة‬

‫كمخلفــات‪ .‬المعــادن الثقيلــة والمركبــات الكيميائيــة‬ ‫خطرا على اإلنسان‬ ‫يوما‬ ‫الموجودة في الطبيعة‪ ،‬لم تشكل ً‬ ‫ً‬

‫والبيئــة إال خــال المئ َتــي ســنة األخيرة‪ ،‬حيــث أصبحت‬

‫أما ًنا للعيش‪.‬‬

‫(*) كاتبة وباحثة جزائرية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫والبيئــة لمخاطــر ال تعــد وال تحصــى‪ .‬ليــس العيــب فــي‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التصنيع الكيميائي‪ .‬هذه التقنيات تعمل على تحقيق مبدأ‬

‫األسلوب المثالي المتقن الذي تتبعه الطبيعة‪.‬‬ ‫إن التفاعــات والتحــوالت الكيميائيــة التــي تحــدث‬ ‫فــي الطبيعــة ‪-‬منــذ أن خلــق اهلل األرض‪ -‬صممها اهلل ‪‬‬ ‫بطريقة قمة في اإلبداع واإلتقان كما يقول ‪ ‬في القرآن‬ ‫‪‬ص ْن َع ا ِ‬ ‫هلل ا َّل ِذي َأ ْت َق َن ُك َّل َشــي ٍء‪(‬النمل‪ .)88:‬من‬ ‫المجيد‪ُ :‬‬ ‫ْ‬ ‫هنا وجب التأمل في خلق اهلل ‪ ‬واستخالص ِ‬ ‫الع َبر من‬ ‫أدق المخلوقــات مــن البكتيريا إلــى النباتات ‪-‬وهي مثال‬ ‫للمختبرات الخضراء‪ -‬إلى الشــمس‬ ‫أشــهر مفاعل نووي‬ ‫ِ‬ ‫طبيعي خلقه اهلل ‪.‬‬ ‫مــن أجــل ٍ‬ ‫غــد أفضــل‪ ،‬شــهد العالــم قفــزة نوعيــة في‬ ‫المجــال العلمــي مــع نهايــة القــرن التاســع عشــر وبداية‬ ‫القرن العشــرين؛ حيث ســعى العلماء والباحثون لتسخير‬ ‫العلــوم وشــحذ الطاقــات لتطويــر التكنولوجيــا وتحقيــق‬ ‫وســائل العيــش المريحــة‪ .‬ومن أجل ٍ‬ ‫غــد أفضل البد من‬ ‫إعــادة النظــر في الطرائــق الكيميائية وجعلهــا أكثر‬ ‫تواؤما‬ ‫ً‬ ‫مــع البيئــة‪ ،‬وكمــا قــال نويــوري‪" :‬يجــب أن تكــون آمنــة‬ ‫صديقــة للبيئــة ومعقولــة من ناحيــة تكلفة المــواد األولية‬ ‫والطاقة المستخدمة‪ ،‬ودون إعطاء أهمية لما يسمى اآلن‬ ‫بالكيميــاء الخضــراء‪ ،‬فإن الصناعات الكيميائية ســتصبح‬ ‫غير آمنة خالل القرن الحالي"‪.‬‬ ‫تبــدو الكيميــاء الخضــراء شــديدة المثاليــة والجمال‪،‬‬ ‫وهــذا مــا يجعل المجتمــع الكيميائي يعيد رســم مالمح‬ ‫جديــدة للكيميــاء مــن خــال الكيميــاء الخضــراء‪ ،‬وذلك‬ ‫بتحقيــق تطبيقــات أنيقة للعمليات الكيميائيــة تترافق فيها‬ ‫ال‬ ‫الفعاليــة واألمــان‪ .‬إن المجتمــع الكيميائــي يعلــق آمــا ً‬ ‫كبيــرة علــى الكيميــاء الخضــراء‪ ،‬وذلــك بتغييــر النظــرة‬ ‫التقليديــة للكيميــاء علــى أنهــا مصــدر للتلوث‪ ،‬بــل ورقة‬ ‫رابحــة يراهــن عليهــا الكيميائيون اليوم لضمــان بيئة أكثر‬

‫‪19‬‬


‫وهــذا مــا يمثــل نقطة اختالف بــارزة ما بين كيميــاء البيئة‬

‫مبادئ الكيمياء الخضراء‪ ،‬والتي لخصها الكيميائي "بول‬

‫وسياســات الكيميــاء الخضــراء فــي الواليــات المتحــدة‬

‫نظرية وتطبيق"‪.‬‬

‫أطلقــت كل مــن إيطاليــا والمملكــة المتحــدة برامجهــا‬

‫على معالجتها والتخلص منها بعد تشكيلها‪.‬‬

‫السابقة خالل النصف الثاني من نفس العشرية‪.‬‬

‫تجعــل جميــع المواد المتفاعلة تدخل في تركيب الناتج‬

‫والكيمياء الخضراء‪ .‬وفي سنة ‪ 1991‬بدأ اعتماد برنامج‬

‫مبــدءا فــي كتابــه "الكيميــاء الخضــراء‬ ‫أناســتاس" فــي ‪12‬‬ ‫ً‬

‫األمريكيــة‪ ،‬أمــا في بداية النصف األول من ســنة ‪،1990‬‬

‫‪ -1‬مــن األفضــل المنــع أو التقليــل مــن المخلفــات‬

‫األولــى‪ ،‬باإلضافــة إلــى اليابــان التي انضمــت إلى الدول‬

‫‪ -2‬مــن األفضــل تصميــم طــرق التحضيــر بصــورة‬

‫ال‬ ‫لقد وضع المختصون في هذا المجال تعري ًفا شام ً‬ ‫ركبــات‬ ‫الم َّ‬ ‫للكيميــاء الخضــراء‪ ،‬بأنهــا تحقيــق وتصميــم ُ‬

‫المراد تحضيره‪.‬‬

‫‪ -3‬يجــب تصميــم طرق تحضير آمنــة‪ ،‬بحيث تكون‬

‫والطــرق الكيميائيــة للتخفيــف أو منــع اســتخدام وإنتاج‬

‫ــمية أو غير‬ ‫المواد المســتخدمة أو المخلفة منخفضة ُّ‬ ‫الس ّ‬

‫مواد خطرة‪.‬‬

‫سامة بالنسبة لإلنسان والبيئة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ربمــا يتســائل البعــض لمــاذا هــذا التوقيــت المتأخــر‬

‫‪ -4‬يجــب أن يكــون المركــب الكيميائــي الناتــج‪ ،‬ذا‬

‫التشــريعات والقوانين التي ُوضعت الستخدامات المواد‬

‫‪ -5‬يجب االستغناء عن مواد مثل المذيبات العضوية‬

‫لظهــور الكيميــاء الخضــراء؟ والتفســير الوحيــد هــو أن‬

‫كفاءة عالية وذا ُس ّمية منخفضة‪.‬‬

‫الكيميائية لم تكن موجودة قبل ستينيات القرن الماضي‪،‬‬

‫ناضجا‪،‬‬ ‫علمــا‬ ‫ً‬ ‫حيــث أصبــح علــم الكيميــاء بكل فروعــه ً‬

‫والمكتبــات العلميــة اليــوم تتوفــر علــى عــدد كبيــر مــن‬ ‫المراجع واألبحاث العلمية التي تدرس ُس ِّمية المركبات‬ ‫ممكنا‪ .‬كما أن‬ ‫الكيميائيــة مــا يجعل تجنب اســتخداماتها‬ ‫ً‬ ‫توجــه المجتمــع الكيميائــي نحــو إيجــاد طــرق كيميائيــة‬ ‫لمعالجــة النفايــات وتخفيــف األثر البيئــي للملوثات‪ ،‬لم‬

‫البيئــي واالقتصــادي‪ ،‬ويجــب أن يقلــل منــه أو القيــام‬

‫بالتفاعالت في درجات الحرارة االعتيادية‪.‬‬

‫‪ -7‬يفضــل اســتخدام المادة األوليــة القابلة للتجديد‪،‬‬

‫على استخدام مواد غير متجددة‪.‬‬

‫‪ -8‬يجــب التقليــل مــن عمليــات االشــتقاق علــى‬

‫الجزيئــات والتغييرات في الطرائق الفيزيائية والكيميائية‪،‬‬ ‫ألن ذلك ُينتج مخلفات ضارة‪.‬‬

‫ومتخصصا‬ ‫اختياريا‬ ‫‪ -9‬يجب أن يكون عامل الحفز‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫الحــل األقــل تكلفة مــن الناحيــة االقتصادية‪.‬‬ ‫دائمــا‬ ‫ّ‬ ‫يكــن ً‬ ‫الخضراء ومبادئها التي بإمكانها تحقيق "تصنيع كيميائي‬

‫‪ -10‬يجــب أن تصمــم المركبــات المنتجــة بحيث ال‬

‫مثالــي" كما يشــير إلى ذلــك "جايمس كالرك" في إحدى‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫‪ -6‬اســتخدام الطاقــة يجــب أن يراعــى فيــه الجانــب‬

‫بشــكل كبيــر أفضــل مــن اســتخدام كميــات متكافئــة‬

‫كثيــرا الكفــ َة لصالــح الكيميــاء‬ ‫هــذه اإلشــكالية رجحــت‬ ‫ً‬

‫‪18‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وكذلــك المعرفــة الدقيقــة ببنيــة المركبــات الكيميائيــة‬ ‫ُ ِ‬ ‫ــم َّيتها‪ ،‬وإمكانيــة تصميــم طــرق وجزيئــات كيميائيــة‬ ‫وس ّ‬ ‫خضــراء صديقــة للبيئــة‪ ،‬لــم تكن مكتملة كمــا هي اليوم؛‬

‫عامل االستخالص أو استخدام مواد أخرى أقل ُس ّمية‪.‬‬

‫للمتفاعالت‪.‬‬

‫تتراكــم فــي المحيط بعــد أداء وظيفتها وتتفكك إلى مواد‬

‫ورقاته العلمية المنشورة في مجلة الكيمياء الخضراء‪.‬‬

‫بسيطة غير مضرة بالبيئة‪.‬‬

‫إن الحاجــة الملحــة لتحقيــق تفاعــات وطرائــق كيميائية‬

‫أي مادة سامة‬ ‫التفاعالت‬ ‫لحظيا والتحكم بها قبل تشكل ّ‬ ‫ًّ‬

‫فــي آن واحــد‪ ،‬أخضعــت الكيميــاء ‪-‬بمختلــف فروعها‪-‬‬

‫‪ -12‬يجــب أن ال تكــون المــواد المســتخدمة أو‬

‫المبادئ ‪ 12‬للكيمياء الخضراء‬

‫أكثر أما ًنا وأقل كلفة من الناحية االقتصادية وصديقة للبيئة‬ ‫قبل على مدى‬ ‫لتحســينات وتعديالت لم تطرأ عليها من ُ‬

‫تاريخهــا الحافــل‪ ،‬فاتجــه المجتمــع الكيميائــي إلى تب ّني‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪ -11‬يجــب تطوير طرائق التحليل الكيميائي لمراقبة‬

‫أو خطرة‪.‬‬

‫المخلفــة خــال العمليــة الكيميائية خطــرة أو ينجم عنها‬

‫حوادث كاالنفجار أو الحرائق‪.‬‬


‫إن املجتمــع الكيميــايئ يعلق آمــا ً‬ ‫ال كبرية عىل‬

‫ولكنهــا موجــودة‪ ،‬هــي أن الطبيعــة ال يمكــن إخضاعها"‪.‬‬

‫الكيمياء الخرضاء‪ ،‬وذلك بتغيــر النظرة التقليدية‬

‫وكان ذلك منشــأ الحــركات والمنظمات المنادية بحماية‬

‫للكيمياء عىل أنها مصدر للتلــوث‪ ،‬بل ورقة رابحة‬

‫البيئــة‪ ،‬لكــن كل الجهــود والطــرق المقترحــة لــم تكــن‬

‫يراهن عليهــا الكيميائيون اليوم لضامن بيئة أكرث‬

‫كافيــة للحد من الوضــع الكارثي الذي ينذر بأن األرض‬

‫أمانًا للعيش‪.‬‬

‫لــن تكــون مكا ًنــا آم ًنــا للعيــش خــال هــذه األلفيــة‪ .‬إن‬ ‫الفجــوة العميقــة الموجودة بين الوضــع البيئي والوضع‬

‫الصناعــي واالقتصــادي‪ ،‬ال يمكــن الحــد منهــا وتقليصها‬

‫رائعا في الحصول على‬ ‫في النباتات التي تضرب لنا مث ً‬ ‫ال ً‬

‫إال مــن خــال تطوير وتب ّني علم جديد ســمي بـ"الكيمياء‬

‫نتائــج مبهــرة فــي هذا المجــال‪ ،‬وذلك بتصنيــع مركبات‬

‫الخضــراء"‪ ،‬الــذي مــن شــأنه البحــث عــن وســائل نظيفة‬

‫كيميائيــة ابتــداء من طرق ومواد بســيطة كما يبدو"‪ .‬يقول‬

‫وصديقة للبيئة للحيلولة دون زيادة تردي الوضع البيئي‪.‬‬

‫أيضــا فــي هــذا الصــدد‪" :‬إن فهــم آليــة وكيفيــة حــدوث‬ ‫ً‬

‫حاليا‪ ،‬توفير هذه االحتياجات‬ ‫وإن المنتظر من هذا العلم ًّ‬

‫التفاعــات الكيميائيــة فــي النباتــات‪ ،‬ســيكون مــن شــأنه‬

‫دون اإلضرار بالبيئة واإلنسان‪.‬‬

‫إحــداث ثــورة وتقدم في أنشــطة الصناعــات الكيميائية"‪.‬‬ ‫هــذا العا ِلــم كان ســاب ًقا لعصــره‪ ،‬وتبنــى مبــادئ الكيميــاء‬

‫المرحلة الجنينية‬

‫مــرت الكيميــاء الخضــراء بمراحــل عديــدة‪ ،‬لكــن قبــل‬

‫الخضراء ‪-‬وهو الملقب بأبي الكيمياء الضوئية‪ -‬كان يرى‬

‫الكثيــر مــن الدراســات التــي شــكلت األساســات المتينة‬

‫فــي الطبيعــة‪ ،‬وقد نجح في تصنيع العديد من المركبات‬

‫ظهورهــا الفعلــي فــي تســعينيات القــرن الماضي‪ ،‬ســبقها‬

‫البدايات المبكرة للكيمياء الخضراء‪.‬‬

‫إن ظهور فرع جديد في الكيمياء المسمى بـ"الكيمياء‬

‫الضوئية" على يد العالم "جياكومو سيامســيان" ودراساته‬ ‫حــول اســتبدال المــواد الكيميائيــة المســتخدمة فــي بــدء‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التي بني عليها هذا العلم الجديد‪ ،‬والتي نرى بأنها كانت‬

‫بأنــه يجــب أن نحاكي التفاعــات الكيميائية كما تحدث‬ ‫ضوئيــا‪ .‬لكــن يبــدو أن العا َلــم ‪-‬والمجتمــع‬ ‫الكيميائيــة‬ ‫ًّ‬

‫الكيميائي بالخصوص‪ -‬انتظر مدة قرن وأربعة ســنوات‪،‬‬

‫ليعيــد النظــر في سياســات التصنيــع واالســتهالك طالما‬

‫اعتبــرت األرض كمصدر أساســي للثــروات غير النافذة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وكمحطــ ٍة لتخزيــن المخلفات في آن واحد‪ ،‬دون مراعاة‬

‫تحديا في نهاية القرن‬ ‫التفاعالت باألشــعة الضوئية‪ ،‬كان‬ ‫ً‬

‫العواقب الوخيمة الناتجة عن ذلك‪.‬‬

‫بعين االعتبار في تدريس وتطبيقات الكيمياء‪ .‬ففي رسالة‬

‫البدايات األولى‬

‫جدا لتؤخذ دراساته‬ ‫التاسع عشر‪ ،‬إذ التوقيت كان‬ ‫مبكرا ًّ‬ ‫ً‬

‫لــه إلــى الجمعيــة الكيميائيــة الفرنســية ســنة ‪1908‬يقــول‬

‫سيامســيان‪" :‬إنــه ال مجــال للشــك في أن اإلنســان يمكنه‬

‫القيــام بالتفاعــات الكيميائيــة فــي المختبر كمــا تقوم بها‬

‫الطبيعــة وفي شــروط مشــابهة‪ ،‬فــي حين يظــن المجتمع‬ ‫الكيميائــي بــأن إنجــازات الكيميــاء الحديثة تــم الوصول‬ ‫"إن هــذا االعتــراض على اســتخدام الكيماويات والطاقة‬ ‫الكبيرة لحدوث التفاعالت لهو اعتراض مشروع‪ ،‬حيث‬ ‫إن اســتخدام التســخين عنــد درجــات حــرارة مرتفعــة‪،‬‬

‫واســتعمال مــواد خطــرة‪ ،‬ال يمكن تجنبه فــي المختبرات‬

‫حاليا‪ ،‬على عكس ما يحدث في عالمنا وخاصة‬ ‫الكيميائية ًّ‬

‫إلــى بدايــة تســعينيات القــرن الماضي‪ ،‬فلم يظهر مســمى‬

‫"الكيميــاء الخضــراء" فــي الكتــب واألدبيــات قبــل إثنــي‬ ‫وعشــرين ســنة مــن اآلن‪ .‬ويعتبــر مؤتمــر "منــع التلــوث"‬

‫المنعقــد ســنة ‪ 1990‬فــي الواليــات المتحــدة األمريكية‪،‬‬

‫نقطة انطالق للكيمياء الخضراء وتطبيقاتها‪ ،‬حيث كانت‬ ‫أهــم المشــاكل المطروحــة هــي كيفيــة الحد مــن التلوث‬ ‫بأشــكاله المختلفــة‪ .‬ومــن بيــن النتائــج التي خلُــص إليها‬

‫الباحثــون أن‪" :‬أفضــل طريقــة للقضــاء علــى التلوث‪ ،‬هو‬

‫القضــاء عليــه خــال أو بعــد تشــكله في أول ظهــور قبل‬ ‫انتقاله إلى البيئة حيث يصبح من الصعب القضاء عليه"‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫إليهــا بعــرض مفــرط للقــوة"‪ ...‬وليكــون منص ًفــا يضيف‪:‬‬

‫يعــود ظهــور أولــى أفــكار ومبــادئ الكيميــاء الخضــراء‬

‫‪17‬‬


‫علوم‬

‫إيمان أحمد*‬

‫الكيمياء الخرضاء‬

‫حتمية القرن الواحد والعرشين‬

‫ما يشهده العالم اليوم من تلوث بأشكاله‬

‫لـ"راشــيل كارســن" تحت عنــوان "الربيع الصامت" ســنة‬

‫الكربــون إلى اســتنزاف طبقــة األوزون‪،‬‬

‫ــم ّية المركبــات الكيميائية وخطرها على‬ ‫بعيــن االعتبار ُس ِّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫المختلفــة؛ مــن انبعاث غاز ثاني أكســيد‬

‫‪16‬‬

‫إلــى االحتبــاس الحــراري والتغير المناخي ومــا نتج عنه‬ ‫مــن كــوارث طبيعيــة‪ ،‬جعــل الباحثيــن يدرســون كيفيــة‬

‫التخفيــف مــن أضــرار الملوثات‪ ،‬وخاصة تلــك المتعلقة‬

‫بالصناعــات الكيميائيــة‪ ،‬ووضــع تشــريعات وقوانيــن‬

‫الســتخدام أمن للمواد الكيميائية‪ .‬يعد الكتاب المنشــور‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫جــرس إنــذار مبكر للمجتمــع الكيميائي لألخذ‬ ‫‪َ ،1962‬‬

‫اإلنســان وعلى األنظمة البيئية‪ ،‬تقول راشــيل كارســن في‬ ‫كتابهــا‪" :‬إن المخاطــرة بالكثير في إطار جهودنا المبذولة‬

‫إلخضــاع الطبيعــة لرضانــا‪ ،‬والفشــل فــي تحقيــق هدفنــا‪،‬‬ ‫ســيكون هــو الســخرية األخيــرة‪ ،‬ومــع ذلــك يبــدو أن‬ ‫نــادرا ما ُتذكر‬ ‫هــذا هــو وضعنــا‪ ،‬وهذه هي الحقيقــة التي ً‬


‫إن أثــر "توحيد العقيدة لله" موجــود يف "توحيد‬

‫عن منهج ربها وتلوذ بالمناهج الوضعية فتذوق مرارتها‬

‫االتجاه" ً‬ ‫أيضا يف املجتمع اإلســامي‪ ،‬فالكل فيه‬

‫ويلسعها لهيبها الكاوي المؤلم‪ ،‬فيكون رجوعها إليه عن‬

‫"عباد لله" يخضعون لــه وينقادون‪ ،‬ويتجهون إليه‬

‫أبدا أن‬ ‫تهيؤ وتفكير واســتعداد وظمأ وشــوق‪ .‬وال شــك ً‬

‫ويســتمدون منه منهج حياتهــم‪ ...‬وحني يكونون‬

‫األمة اإلســامية صائرة إلى اإلسالم‪ ،‬وعائدة إليه بعد أن‬

‫كذلك يستحقون رحمته ورأفته‪.‬‬

‫أوصــدت اليــوم في وجهها األبواب‪ ،‬وازدادت الضربات‬ ‫االســتعمارية عليهــا‪ ،‬فلــم يبــق لهــا إال اإلســام تحتمــي‬

‫بحمــاه وتلوذ بــه‪ ،‬لتســتعيد حريتها وكرامتها واســتقاللها‬

‫وفكرهــا وســلوكها وأنمــاط حياتهــا ونمــاذج قدوتهــا‪،‬‬

‫ودورهــا الحضــاري التاريخــي‪ .‬وهــذا يلقي بالمســؤولية‬

‫فعاشــت في حيرة واضطراب وتشويه وتناقض‪ .‬ووقعت‬

‫الضخمــة علــى كواهــل العلمــاء والدعاة في هــذه الحقبة‬

‫الطامــة الكبــرى حيــن اعتمدت فــي خطابهــا للناس على‬

‫التاريخيــة المصيريــة‪ ،‬ألنهــم الورثــة الحقيقيــون لألنبياء؛‬

‫هــذه الثقافــة الهشــة المبنيــة علــى االستنســاخ مــن غيــر‬

‫ورثــوا العلــم والدعــوة والرســالة والصبــر علــى مشــاق‬

‫وعــي وتصويــب واختيــار للمناســب والمالئــم‪ .‬وأغلــب‬

‫الطريــق وأشــواكه‪ ،‬فهــم يحملــون لهــذه األمــة العطشــى‬

‫المــدارس والجامعــات اإلســامية‪ ،‬تقــدم اإلســام ال‬

‫المتعبة الزاد بيد‪ ،‬والعالج باليد األخرى‪ ...‬إنها مسؤولية‬

‫فالناس بفطرتهم السليمة يتأثرون بالواقع الحي أكثر من‬ ‫تأثرهم بالنظريات المثالية المجردة‪ ...‬وأن تكون حياتهم‬

‫عمليــا لما يدعون إليــه في صفاء عقيدتهم ونقائها‬ ‫ا‬ ‫تأويــ ً‬ ‫ًّ‬ ‫واستقامة سلوكهم وطهارته‪ ،‬وفي خوفهم وخشيتهم من‬ ‫اهلل‪ ،‬وفــي غايتهــم الفــوز بالجنــة والنجــاة من النــار‪ ،‬وفي‬

‫جمعهــم بيــن العقيدة والســلوك‪ ،‬وفي التــوازن بين الدين‬ ‫والدنيــا فــي خطابهــم واعتمادهــم العقالنيــة فــي خطــاب‬

‫الناس والبعد عن الخرافات والحكايات المضرة بالعقول‬

‫والعالقــات اإلنســانية‪ ،‬والحرص علــى النهوض بالوطن‬

‫واألمــة‪ ،‬وبــث روح ثقافــة المقاومــة لالحتــال والحض‬ ‫على العمل وبعث األمل فيها‪ ،‬ومحاربة الجهل وتيارات‬ ‫الخيانة واإلرجاف واإلحباط والتيئيس فيها وغير ذلك‪.‬‬

‫معرفية متخلفة‪ .‬لذلك غابت الصورة الحقيقية للمجتمع‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال نماذج‬ ‫ضخمــة ملقاة عليهم‪ ،‬تقتضــي أن يكونوا هم أو ً‬ ‫ــون َع َلــى ا َ‬ ‫ض َه ْو ًنا‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ين َي ْم ُش َ‬ ‫حيــة لعبــاد الرحمــن ‪‬ا َّل ِذ َ‬ ‫اطب ُهــم ا ْل َج ِ‬ ‫ا ًما‪(‬الفرقان‪ ...)63:‬وأن‬ ‫ــون َقا ُلوا َســ َ‬ ‫اه ُل َ‬ ‫َو ِإ َذا َخ َ َ ُ‬ ‫ال؛‬ ‫واقعــا ال خيــا ً‬ ‫يتمثلــوا صفاتهــم ‪-‬التــي تقــدم ذكرهــا‪ً -‬‬

‫بروحــه اإليجابية الحضارية‪ ،‬وإنما بروح ســلبية وأدوات‬ ‫اإلســامي بمقوماتــه األصليــة‪ ،‬وأهدافــه الســامية النبيلة‪،‬‬ ‫فلــم نعــد نجنــي منــه الثمــار اليانعــة الجديدة كتلــك التي‬

‫أينعــت فــي دمشــق وبغــداد والقاهــرة واألندلــس‪ ،‬والتــي‬

‫وعزا ومكانة وســيادة في تلك‬ ‫علما وحضارة ًّ‬ ‫قطفنا منها ً‬

‫األيام الماضية‪.‬‬

‫نحــن بحاجــة اليــوم إلى تقويم حياتنا اإلســامية بغية‬

‫التصويــب والتســديد للوصول إلى "الصواب" في مســار‬

‫األفــراد‪ ،‬وفــي اتجــاه المجتمــع واألمــة‪ .‬والخطــوة التــي‬ ‫علينا أن نبتدئ منها هي العودة إلى النبع الصافي والنور‬

‫الفيــاض وأعنــي بهمــا "الكتــاب والســنة"‪ ،‬فهمــا المــاذ‬ ‫واألمــان وحبــل النجــاة مــن اآلراء الدخيلــة‪ ،‬واألهــواء‬

‫الممزقــة للصف المرصــوص والخرافات المذلة للعقول‬

‫والنفــوس‪ .‬إن طريــق الخــاص مــن هــذا التيه وســنوات‬ ‫الضيــاع والتشــتت‪ ،‬ال يكــون إال بإحيــاء نمــوذج "عبــاد‬

‫صورا مشــوهة عن اإلســام استمدت‬ ‫نادرا‪ -‬فال نرى إال‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫كثيــرا‪ ،‬وتنهض من كبوتها لتســتأنف مســيرتها الحضارية‬ ‫ً‬

‫والمثــال والقــدو ُة عــن حياتنا اإلســامية ‪-‬إال‬ ‫المطلــوب‬ ‫ُ‬ ‫ثقافتهــا وعلمهــا ونمــط حياتهــا مــن عصــور الضعــف‬ ‫والتخلــف‪ ،‬فلــم تعــد إلى النبــع الصافي الخالــد "القرآن‬ ‫الكريم" الذي يهدي للتي هي أقوم‪ ،‬تســتمد منه عقيدتها‬

‫أصعــدة الحيــاة حتى تصحو األمة من غفوتها التي طالت‬

‫وتجربتها اإلنسانية الرائدة‪.‬‬

‫(*) جامعة حلب‪ ،‬كلية اآلداب والشريعة ‪ /‬سوريا‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫وتعظــم مشــكلتنا وتتفاقــم حيــن يغيب هــذا النموذج‬

‫الرحمن"‪ ،‬والتحلي بصفاته الســامية الحضارية على كافة‬

‫‪15‬‬


‫اب َج َه َّن َم إ َِّن َع َذ َاب َها‬ ‫ين َي ُقو ُل َ‬ ‫‪‬وا َّل ِذ َ‬ ‫اص ِر ْف َع َّنا َع َذ َ‬ ‫ون َر َّب َنا ْ‬ ‫َ‬

‫وأدى دوره التاريخــي والحضاري كأي مجتمع تاريخي‬

‫ينمي ضمير اإلنسان‬ ‫إن تربية النفس على "التقوى هلل" ّ‬

‫اإلنســانية الحيــة‪ ،‬ونظامــه الواقعي المتــوازن الذي نحس‬

‫نحــو الخيــر والصالح واإلصالح والبنــاء‪ .‬وهذا ما جعل‬

‫صفوفنا في ظله من جديد بعد عصور الضياع والشتات‪.‬‬

‫ان َغ َر ًاما‪(‬الفرقان‪.)65:‬‬ ‫َك َ‬

‫ثــم ولّــى وزال مــن الوجــود‪ ،‬وإنمــا نتحــدث عــن مبادئــه‬

‫ويقويــه ويغذيــه‪ ،‬ليقوم بدوره في تنبيه اإلنســان وتوجيهه‬

‫اليوم بحاجتنا إليه لحل مشــكالتنا المســتعصية‪ ،‬وتوحيد‬

‫الفتاة المســلمة في عهد عمر بن الخطاب ‪ ‬ترفض أن‬

‫إن المســلمين اليــوم‪ ،‬يعانــون مــن التمــزق واالســتعمار‬

‫ش الحليب بالماء في بيتها وفي جنح الظالم الســاتر‪،‬‬ ‫َت ُغ ّ‬

‫والضيــاع‪ ،‬كمــا يعانــون مــن خيبــة األمــل واإلحبــاط مــن‬

‫خو ًفــا مــن اهلل وليس خو ًفا من رقابة عمر وعقوبته‪ .‬وهذا‬

‫مشــاريع النهضــة التــي أخفقــت فــي تحقيــق آمــال األمة‬

‫أيضــا خليفــة المســلمين عمــر بــن الخطاب ‪‬‬ ‫مــا دفــع ً‬

‫وطموحاتهــا فــي ردم الهــوة الســحيقة بيــن األمــة العربية‬

‫لخشــيت أن‬ ‫أن يقول‪" :‬لو أن شــاة بأرض العراق َع َثرت‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫مهد لهــا الطريــق"‪ .‬فالتقوى‬ ‫ــم ُأ ِّ‬ ‫يحاســبني اهلل عليهــا ل َ‬ ‫ــم َل ْ‬ ‫أيقظت حس عمر ‪ ‬وشــعوره وضميره‪ ،‬فجعلته يشــعر‬

‫مشــاريع للنهضــة والتقــدم إلــى هــدف آخــر‪ ،‬يســعى إلى‬

‫أساســه "العدل" وتقديم‬ ‫كــرس حياته من أجله‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نهضــوي ّ‬

‫االستعمار الحديث بكل أشكاله وألوانه وآثاره‪.‬‬

‫واإلسالمية وبين األمم المتقدمة األخرى‪ .‬وتغير أهداف‬

‫المشــاريع المطروحــة وتراجعهــا بين األمــس واليوم من‬

‫بمســؤوليته تجــاه اإلنســان والحيــوان والبيئة في مشــروع‬

‫تقديم مشــروع حقيقــي لمقاومة االحتــال‪ ،‬والتحرر من‬

‫"الخدمــات" للنــاس وتوفيــر "البنى التحتيــة للدولة"‪ ،‬مثل‬ ‫مؤسســات المجتمــع المدنــي‪ ،‬لتقوم بدورهــا الفعال في‬ ‫"المتقي" في المجتمع‬ ‫نهضــة األمــة وتقدمها‪ .‬إنه نموذج‬ ‫ّ‬

‫اإلســامي الــذي يقــوم علــى فكــرة التــوازن بين أشــواق‬

‫ال‬ ‫من الشــرق والغــرب‪ ،‬فازدادت بها شــقاء‬ ‫وتمز ًقا وجه ً‬ ‫ّ‬ ‫وتخ ّل ًفــا‪ ،‬ألنهــا حاولــت "اســتنبات تلك البــذور" الغريبة‬ ‫عــن أرضهــا وتاريخها وحضارتها‪ ،‬ففشــلت عند التطبيق‬

‫أي التــوازن بيــن‬ ‫الــروح وحاجــات الحيــاة وضروراتهــا‪ْ ،‬‬ ‫وهذا التوازن هو غاية "اســتخالف" اإلنســان في األرض‬ ‫مــن ِق َبــل اهلل لتعميرهــا واســتخراج كنوزهــا وخيراتهــا‪،‬‬ ‫واعتبار ســعيه فيها عبادة هلل وقربة منه ســبحانه‪ .‬فال فصل‬

‫عــن هويــة األمــة العربيــة واإلســامية وخصوصيتهــا‬ ‫النمــوذج اإلســامي في صياغة اإلنســان وبناء المجتمع‬

‫دنيــوي وعمــل أخــروي‪ ،‬ألن الدنيــا هــي مــادة "العبادة"‪،‬‬

‫اإلســامي" األساســية في الجمع بين العقيدة والسلوك‪،‬‬

‫هذه هي صورة التقوى في المجتمع اإلســامي كما‬

‫والعدل والسالم‪ ،‬واألمن والنظام‪ ،‬والصبر على المكاره‬

‫ودين ودنيا بتوازن واعتدال‪ ،‬كما نصت‬ ‫وعقيد ٌة وسلوك‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الد ْن َيا َح َس َن ًة َو ِفي‬ ‫‪‬ر َّب َنا آ ِت َنا ِفي ُّ‬ ‫اآلية الكريمة على ذلك‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫النارِ ‪(‬البقرة‪.)201:‬‬ ‫اب َّ‬ ‫اآلخ َر ِة َح َس َن ًة َو ِق َنا َع َذ َ‬

‫الجهود والطاقات البشــرية في جرائم القتل والفواحش‪،‬‬ ‫إنســانية ثابتــة ال تتغيــر بتغيــر الزمــان والمــكان‪ ،‬يحتاجها‬

‫عندمــا نتحــدث عــن مجتمــع "عبــاد الرحمــن" فنحــن ال‬

‫وسليما من الهزات والكوارث‬ ‫من األطماع والمصالح‪،‬‬ ‫ً‬

‫تربتنــا النقيــة األصليــة رفضت قبولهــا وحضانتها لغرابتها‬

‫الحضاريــة‪ .‬ولــم يبــق أمــام المســلمين إال العــودة إلــى‬

‫فــي حــس المســلم وشــعوره بين الديــن والدنيــا أو عمل‬

‫علــى ضوء صفات "عباد الرحمن" ومقومات "المجتمع‬

‫ولوالها ما كانت اآلخرة والجزاء والمثوبة‪.‬‬

‫والعبــادة والعمــل‪ ،‬والقلــب والعقل‪ ،‬والجديــة واالتزان‪،‬‬

‫وخــوف ورجاء‪،‬‬ ‫إيمــان وعمل‪،‬‬ ‫يقدمهــا القــرآن الكريــم؛‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫نظما مستعارة‬ ‫وطبقت ً‬ ‫عدة استوحتها من هنا ومن هناك‪ّ ،‬‬

‫علــى الرغــم مــن الحراثــة العنيفــة وحماســة زراعها‪ ،‬ألن‬

‫الدين والدنيا فال تميل كفة على حساب الكفة األخرى‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تمهيــد الطرقــات وتعبيدهــا‪ ،‬إنشــاء الدواوين‪ ،‬وبنــاء بقية‬

‫جربــت هذه األمة في تاريخها الحديث تجارب‬ ‫وقــد ّ‬

‫طريق الخالص‬

‫نتحــدث عــن مجتمــع قديــم بائد ظهر في حقبــة تاريخية‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ومشــقات العمــل‪ ،‬ونبــذ اللغــو والعبثيــة والفســاد‪ ،‬وهدر‬

‫وضيــاع الحقــوق والتكبــر وإيــذاء النــاس‪ .‬إنهــا مبــادئ‬ ‫خاليا‬ ‫بنــاء‬ ‫ً‬ ‫النــاس فــي كل العصــور لبناء حياتهم ً‬ ‫صحيحا ً‬

‫واالســتغالل‪ .‬وألمــر يريــده اهلل ســبحانه‪ ،‬أن َت ْشــرد األمة‬


‫نحن بحاجة اليوم إىل تقويم حياتنا اإلسالمية بغية‬

‫المجتمــع‪ ،‬وتطــور وســائله وأدواتــه في تأميــن ضروراته‬

‫التصويب والتســديد للوصــول إىل "الصواب" يف‬

‫وحاجاتــه وكمالياتــه‪ .‬لكــن العبــث فــي ثوابتــه الكليــة‬

‫مسار األفراد‪ ،‬ويف اتجاه املجتمع واألمة‪ .‬والخطوة‬

‫أساســا لحمايــة الحياة من الخلــل والعيوب‪،‬‬ ‫الموضوعــة‬ ‫ً‬

‫التي علينا أن نبتــدئ منها هي العودة إىل النبع‬

‫جميعا بال محاباة أو استغالل‪،‬‬ ‫ولتحقيق مصلحة األحياء‬ ‫ً‬

‫الصــايف والنور الفياض وهام "الكتاب والســنة"‪.‬‬

‫وتدميرا‬ ‫معا‪ ،‬وشقاء لإلنسان‬ ‫يعد‬ ‫ّ‬ ‫تدميرا للحياة واألحياء ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫لخصائصه اإلنسانية ً‬

‫ال‪ -‬مبــدأ ثابت من المبادئ الكلية‬ ‫إن "الشــورى" ‪-‬مث ً‬

‫ومحارب ِة االنغالق الذهني واالستنســاخ الثقافي‪ ،‬من غير‬

‫التــي ال تســتقيم الحيــاة بدونــه وقد قــرره القــرآن الكريم‬

‫وعي وتمييز وتقويم‪.‬‬

‫فــي إطــاره العام‪ ،‬أما وســائل تطبيقاتــه وأدواته الضرورية‬

‫إن الســمة الغالبة في المجتمع اإلســامي هي ســمة‬

‫لتحقيقــه‪ ،‬فقــد ُتركــت لنمــو المجتمــع ونضجــه وتطــور‬

‫"التقــوى" بمعناهــا الشــامل لألعمــال كلهــا والســلوك‬ ‫يــن إ َِم ًاما‪(‬الفرقــان‪)74:‬؛‬ ‫اج َع ْل َنــا ِل ْل ُم َّت ِق َ‬ ‫‪‬و ْ‬ ‫اإلنســاني كلــه‪َ :‬‬ ‫التقــوى فــي العقيــدة والفكــر‪ ،‬والتقــوى فــي الشــعور‬

‫وســائله فــي تحقيق مبادئــه الكلية الثابتــة‪ .‬من هنا نالحظ‬ ‫هــذا الوصــف العام لـ"عباد الرحمــن" من غير تفصيل في‬

‫رســم معالــم المجتمــع اإلســامي بأهدافــه وخصائصــه‬

‫والســلوك‪ ،‬والتقــوى فــي العمــل واإلنتــاج‪ ،‬والتقــوى في‬

‫العامــة‪ ،‬ليمنحــه مرونــة الحركــة واإلبــداع‪ ،‬ويبعــده عــن‬

‫األقــوال واألفعال‪ ،‬والتقوى فــي تربية األوالد واألحفاد‪،‬‬

‫التحجــر والجمــود‪ .‬وتبــرز آثــار "عقيــدة التوحيــد" فــي‬

‫والســماحة بيــن أفراده‪ ،‬واالتجاه فيه نحــو البناء والتعمير‬ ‫النافــع المفيــد مــن األفــكار واألعمــال‪ ،‬والبعــد عــن‬ ‫هــدر األوقــات والطاقــات البشــرية فــي لغــو المجالــس‬ ‫واألحاديــث المعروفــة والســائدة فــي المجتمعــات‬

‫المتخ ّلفــة‪ ،‬والبعــد عــن الفســاد الخ ُلقــي والعالقــات‬ ‫غيــر الشــرعية‪ ،‬وفــي نظامه االقتصــادي الــذي يقوم على‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫نظامــه االجتماعي‪ ،‬في حركة الرفق والتواضع والســام‬

‫والتقــوى فــي القيــام والنهــوض‪ ...‬لتحقيق أهــداف األمة‬

‫فــي التقــدم والتحــرر‪ ،‬ونبــذ الكســل والقعــود والتخلف‪.‬‬ ‫ونمــوذج ذلــك هو‬ ‫"المتقــي" في مجتمع عبــاد الرحمن‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ألنــه يقــي المجتمــع من شــرور نفســه‪ ،‬ويقيه مــن نزواته‬

‫وشــهواته وأطماعــه‪ ،‬ويتقي عــذاب ربه بقيامــه بطاعة اهلل‬ ‫واجتنــاب نواهيــه‪ ،‬كمــا يتقيــه بحــب النــاس وخدمتهــم‬ ‫وتقديــم المســاعدة لهــم‪ ،‬ويتقيه بالعلــم والعمل واإلنتاج‬ ‫والسعي للنهوض بوطنه وأمته‪ .‬وهذا ما دعى إليه الرسول‬

‫"التوازن" في اإلنفاق والمصروفات على مستوى األفراد‬ ‫ان‬ ‫ين ِإ َذا َأ ْن َف ُقوا َل ْم ُي ْس ِر ُفوا َو َل ْم َي ْق ُت ُروا َو َك َ‬ ‫‪‬وا َّل ِذ َ‬ ‫والدولة‪َ :‬‬ ‫ــك َق َو ًاما‪(‬الفرقــان‪)67:‬؛ إنــه نظــام وســطي متــوازن‪،‬‬ ‫ــن َذ ِل َ‬ ‫َب ْي َ‬ ‫ينفق في اتجاه الخير وتحقيق أهدافه المرسومة عن وعي‬

‫البنــاءة‪ ،‬ال في صورتها‬ ‫"التقــوى" فــي صورتهــا اإليجابية ّ‬

‫فائدة‪ .‬فهو ال يشــبه النظام الرأســمالي في إسرافه ورعونة‬

‫النمــوذج المتقي هلل ‪ ،‬هــو وليد مجاهدة طويلة للنفس‬

‫وتخطيط وتوفير للطاقات والموارد أن تضيع ســدى بال‬ ‫اســتهالكه وهــدر طاقاتــه‪ ،‬وتدميــر خصائــص اإلنســان‬

‫وتعاســته وشــقائه واضطرابه وحيرته‪ ...‬وال يشــبه النظام‬

‫توجيــه نبوي نحو التكافل االجتماعي المنبثق من مفهوم‬

‫السلبية التي عليها بعض المسلمين اليوم‪ .‬إن وجود هذا‬ ‫البشــرية‪ ،‬ومراقبــة دائمــة هلل ‪ ‬فــي األقــوال واألفعــال‪،‬‬ ‫والظاهــر والباطــن‪ ،‬والســر والعالنيــة‪ .‬فتبقــى النفــس بين‬ ‫خــوف ورجــاء‪ ،‬تخشــى عــذاب ربهــا وترغــب فــي جنتــه‬

‫والمــوارد فــا يســتفاد منها فــي الطريق الصحيــح‪ ،‬وهذا‬

‫بتــوازن واعتــدال‪ ،‬فــا يطغــى الخــوف على الرجــاء‪ ،‬وال‬

‫النظــام المســرف ولــو بعــد حيــن‪ ...‬وفــي نظامــه العلمي‬

‫فــي ســلوك األفــراد‪ ،‬وفــي اتجــاه المجتمــع اإلســامي‬

‫ســيعجل في ســقوط‬ ‫عجل في ســقوطه وانهياره‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫ما ّ‬

‫والثقافــي فــي إطــاق طاقــات "العقــل" ليعمــل ويبــدع‪،‬‬

‫الرجــاء علــى الخوف‪ ،‬ليبقى "التوازن" هو الســمة البارزة‬

‫المميِــز له عن بقيــة المجتمعات األخرى‪:‬‬ ‫وطابعــه العــام‬ ‫ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫أيضــا فــي بخلــه وشــحه وتجميــده للطاقــات‬ ‫الشــيوعي ً‬

‫‪ ‬بقولــه‪" :‬اتقوا النار ولو بشــق تمــرة" (رواه البخاري)؛ فهذا‬

‫‪13‬‬


‫يقيِد‬ ‫معيــن يحققــه القــرآن الكريــم‪ .‬وليس معنى هذا أنــه ّ‬ ‫ّ‬ ‫مــن حركــة أفراده في تلبية ضروراتهم وحاجاتهم‪ ،‬بل إنه‬

‫قبل ومن‬ ‫واحــد ال شــريك لــه‪ ،‬لــه الحكــم وله األمر مــن ُ‬

‫مجتمع "مدني" بمؤسســاته ونشــاطاته وإبداعه وخدماته‬

‫القلــوب والمشــاعر والعواطــف هلل وحــده‪ ،‬وفــي اتجــاه‬

‫الخاليــة من شــوائب الوثنية والشــرك‪ ،‬والمتجهــة إلى إله‬

‫دفعا‪ .‬فهو‬ ‫يدعوهــم إلــى تحقيقها وتلبيتهــا ويدفعهم إليها ً‬

‫بعد‪ ،‬يتســاوى فيها البشــر في التوجه واالتجاه؛ في توجه‬ ‫ُ‬

‫أيضا‪ ،‬وبذلك يتحرر اإلنســان من‬ ‫اإلنتــاج واألعمال إليه ً‬

‫وتنظيماتــه اإلداريــة وغيــر ذلــك‪ ...‬ولكــن بمرجعيــة‬ ‫"دينيــة" تضبــط حركتــه الســلوكية ضمــن ثوابت الشــريعة‬

‫العبوديــة لغير اهلل فال يحس بمشــاعر الــذل والمهانة أمام‬ ‫اآلخرين‪ ،‬بل يشــعر بإنســانيته ومســاواته وحريته وكرامته‬

‫اإلســامية‪ ،‬فتبقــى هــذه الحركة االجتماعيــة الناهضة فيه‬

‫فــا يســاوم علــى حريتــه‪ ،‬وال يتخلــى عــن كرامتــه مهمــا‬

‫تــدور حــول هــذه الثوابت األساســية‪ ،‬وضمــن إطار مرن‬ ‫يتســع للمتغيرات العصرية واالجتهاد الدؤوب المستمر‬

‫اشتدت عليه وطأة الظروف واألوضاع‪.‬‬

‫بغيــة الوصــول بالمجتمع إلى "المعاصــرة" مع احتفاظه‬

‫إن أثــر "توحيــد العقيدة هلل" نراه فــي "توحيد االتجاه"‬

‫أيضــا فــي المجتمــع اإلســامي‪ ،‬فالــكل فيــه "عبــاد هلل"‬ ‫ً‬

‫بثوابتــه وأصالته‪ ،‬وهذان العامــان (األصالة والمعاصرة)‬ ‫أساســيان فــي نهضتــه وتقدمــه وحضارتــه‪ ،‬ويســاعد على‬

‫يخضعــون لــه وينقــادون‪ ،‬ويتجهــون إليه ويســتمدون منه‬

‫ذلــك أن األعمــال المدنيــة والدنيويــة تعد فــي المجتمع‬

‫منهج حياتهم‪ ...‬وحين يكونون كذلك يستحقون رحمته‬

‫اإلســامي عبادة هلل ‪ ،‬ووســيلة تقرب إلى اهلل ‪‬؛ ألن‬

‫ورأفتــه‪ ،‬وإضافتهــم إلــى رحمته "وعبــاد الرحمن"‪ ،‬وهذا‬

‫مهمة اإلنســان في هذا المجتمع‪ ،‬تســخير الكون وتعمير‬

‫سعيه في هذا االتجاه عبادة هلل سبحانه‪ .‬إن هذا المجتمع‬ ‫دقيــق فــي بنائه‪ ،‬متكامــل بخصائصه وأركانــه‪ ،‬وكل صفة‬

‫فيــه وكل جزئيــة من الجزئيات متناســقة ومترابطة بعضها‬

‫إســاميا‬ ‫مجتمعــا‬ ‫ببعــض‪ ،‬حتــى تكــون فــي مجموعهــا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫متميــزا بســماته ومقوماته وطبيعتــه واتجاهه‪ ،‬يتم فيه ربط‬ ‫ً‬ ‫العقيــدة بالعمــل‪ ،‬والعبــادة بالســلوك‪ ،‬واآلخــرة بالدنيــا‪،‬‬

‫فــي تفاعــل اجتماعــي متجــه إلــى اهلل ‪ ‬بــكل نشــاطاته‬

‫"وضعي" من صنع البشــر‬ ‫المنهج‬ ‫المجتمعــات األخرى‬ ‫ُ‬ ‫ٌّ‬

‫ومــن اختــراع البشــر وفق األهــواء واألمزجــة‪ ،‬والمحاباة‬ ‫للذيــن يضعونه لتحقيــق مصالحهم أو مآرب َمن يلوذون‬

‫بهــم أو يتقربــون إليهــم‪ ،‬فيشــقى النــاس من هــذه األهواء‬ ‫المتق ّلبــة فــي المنهج الوضعــي المتغير باســتمرار‪ ،‬لكثرة‬ ‫المنافسة والصراع على تبديلها وتغييرها لتحقيق مصالح‬

‫وأطمــاع جديــدة لمخترعيهــا والذيــن يســتفيدون من هذا‬ ‫التبديل والتغيير‪.‬‬

‫أمــا المنهــج اإللهــي فهــو يرجــع إلــى اهلل ‪ ‬الــذي‬

‫وتكوينــه‪ ،‬نلمــس آثارهــا فــي بقيــة المكونــات لــه‪ ،‬وفــي‬

‫ويصلحــه ويصلــح أســرته ومجتمعــه وحياتــه‪ .‬وقــد تثــار‬

‫نظامــه االجتماعــي واالقتصــادي والسياســي والثقافــي‪.‬‬ ‫إنــه مجتمــع متكامــل ال ُتفصــل فيه العقيــدة والعبادة عن‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫"إلهي"‪ ،‬وفي‬ ‫المنهج‬ ‫األخرى‪ .‬ففي المجتمع اإلسالمي‬ ‫ُ‬ ‫ٌّ‬

‫وأعماله وعواطفه وغاياته‪ .‬ونقطة البدء في ذلك "توحيد‬ ‫ــع ا ِ‬ ‫هلل ِإ َل ًهــا‬ ‫يــن َ‬ ‫ال َي ْد ُع َ‬ ‫‪‬وا َّل ِذ َ‬ ‫العقيــدة" هلل وحــده‪َ :‬‬ ‫ــون َم َ‬

‫آخ َر‪(‬الفرقــان‪ ،)68:‬وهــذه هــي القاعــدة األساســية في بنائه‬ ‫َ‬

‫‪12‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الحيــاة وتحقيــق االســتخالف المنوط بــه‪ ،‬وبذلك يكون‬

‫مفــرق الطريــق بيــن المجتمــع اإلســامي والمجتمعات‬

‫خلــق اإلنســان والحيــاة‪ ،‬وهــو أعلــم بمــا يفيــده ويســعده‬ ‫شبهة في الذهن بأن المنهج اإللهي ثابت والحياة متغيرة‬ ‫متجــددة‪ ،‬وال يمكــن لهــذا "المنهــج الثابــت" أن يتحكــم‬

‫الســلوك االجتماعــي‪ ،‬كمــا ال يمكن فيــه فصل الدين عن‬

‫بأوضــاع النــاس المتغيــرة وحاجاتهــم المتجــددة‪ .‬وتزول‬

‫وصــف أفــراده وتحديــد مقوماتــه ومعالمــه‪ .‬فالتوجــه في‬

‫يقــرر "المبادئ الكلية األساســية" التــي تبنى عليها أصول‬

‫أنشــطة الحياة المختلفة‪ ،‬وقد تبين ذلك ‪-‬فيما تقدم‪ -‬في‬

‫المجتمــع اإلســامي‪ ،‬إلــى اهلل وحــده ال إلــى األربــاب‬ ‫ين‬ ‫‪‬وا َّل ِذ َ‬ ‫واألوثان بمختلف ألوانها وأشكالها وصورها‪َ :‬‬ ‫ــع ا ِ‬ ‫آخ َــر‪‬؛ فهــذه العقيــدة النقيــة‬ ‫َ‬ ‫ال َي ْد ُع َ‬ ‫هلل ِإ َل ًهــا َ‬ ‫ــون َم َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هــذه الشــبهة مــن األذهان حيــن نعلم أن المنهــج اإللهي‬

‫الحياة‪ ،‬مثل العدل والشورى والمساواة واإلخاء والعمل‬

‫والتعاون والســام واالســتقامة‪ ...‬وترك لنــا حرية اختيار‬

‫الوسائل واألدوات لتحقيق هذه المبادئ الكلية وفق نمو‬


‫دراسات إسالمية‬

‫د‪ .‬عبد السالم الراغب*‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫فظننت اإلساءة منهم إليك تأتي‪..‬‬ ‫روحك‬ ‫فظننت بالمؤمنين ش ًّرا‪،‬‬ ‫َق َسا قل ُبك‬ ‫وغلظت ُ‬ ‫وسواس‬ ‫إذا كان هذا اعتقادك فأين ظن َُّك بالمؤمنين خي ًرا؟ اشح ْذ عق َلك‪ ،‬وتخ ّلص من ْ‬ ‫والتمس لك ر ّبان ًّيا يه ُّز قل َبك ويسيل دمعك‪.‬‬ ‫زح ثقل روحك‪،‬‬ ‫نفسك‪ ،‬وأَ ْ‬ ‫ْ‬

‫املوازين‬

‫نحو جيل قرآين جديد‬

‫مجتمع عباد الرحمن‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫إن الخاصية األساسية لـ"مجتمع عباد الرحمن" أنه مجتمع‬ ‫يســتمد مقومــات وجــوده وخصائصــه‬ ‫"ربانــي"؛ بمعنــى أنــه‬ ‫ّ‬ ‫من "العقيدة اإلســامية" وثوابت "الشــريعة"‪ ،‬وأن البشــر فيه‬ ‫تلقيا كما في الكتاب والســنة‪ ،‬وينحصر‬ ‫يتلقون هذه العقيدة وهذه الشــريعة ً‬ ‫عملهــم فــي هــذا التلقــي والنمــو فــي هــذه الحــدود‪ .‬فهــو مجتمع مــن نتاج‬ ‫محدد المقومات والخصائص‪ ،‬وال دخل للبشر في وضع‬ ‫العقيدة والشريعة ّ‬ ‫إخراجا وفق نموذج إنساني‬ ‫تصوراته وقيمه ونظامه االجتماعي‪ ،‬وأنه ُأخرج‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪11‬‬


‫أعلــى يعــوض نجــوم الغناء الــرديء والفــن الهابط الذي‬

‫يســتحوذ علــى أغلــب الفضائيــات العربيــة؟ هــل غرســنا‬

‫محبــة القــراءة فــي أبنائنا وجعلناها عادة تالزم شــبابنا في‬ ‫مختلف الفضاءات؟ هل استطاعت أحزابنا أن تسعى من‬ ‫خــال تطبيــق فعلــي عملــي لبرنامجها السياســي في هذا‬

‫وإعالميا؟ هل عملنا‬ ‫واجتماعيا‬ ‫تربويا‬ ‫االتجاه تتم أجرأته‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫وج ْعله فــي المتناول‬ ‫علــى تقريــب الكتــاب مــن القــارئ‪َ ،‬‬

‫االنبعاث الثاين‬

‫ومنهجــا حتــى يســتوعب تبايــن المســتويات‬ ‫ونوعــا‬ ‫كمــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫الفكريــة والذوقيــة والمزاجيــة والفنيــة للقــارئ؟ وبالتالي‬ ‫هــل جعلنــا مضاميــن الكتــب فــي مجتمعاتنا تتماشــى مع‬

‫الملحــة والتحديــات المؤرقــة لشــبابنا حتــى‬ ‫الحاجيــات‬ ‫ّ‬ ‫نبعدهــم مــن منزلقــات وأخطــار البحث عــن إجاباتها في‬ ‫بعد للتفكير بجدية‪،‬‬ ‫األماكــن المظلمــة؟ ألم َي ِحن الوقــت ُ‬

‫وتكثيف الجهود للقيام بمبادرة خطة إستراتيجية شمولية‬ ‫تعمل على النهوض بالقراءة من خالل األسرة والمدرسة‬

‫والمنافسة الحضارية العالمية؟‬ ‫ِ‬ ‫ننمي بربيعها‬ ‫ألم َيحن الوقت إلعالن ثورة ربيع ثقافي ّ‬ ‫مجتمعنا‪ ،‬ونعمل على تقريب الكتاب من القارئ‪ ،‬وذلك‬ ‫بجعلــه فــي المتنــاول بتأثيــث فضــاءات األحيــاء والقــرى‬ ‫بمنتدى ثقافي أو مكتبة أو نا ٍد ودار للشباب ومهرجانات‬

‫للقراءة والمطالعة؟‬

‫وهنــاك مقــوالت لعلمــاء عظــام تبيــن أهميــة القــراءة‬

‫والمطالعة الحرة أذكر منها‪:‬‬

‫‪ -‬اإلنسان القارئ تصعب هزيمته‪.‬‬

‫‪ -‬إن قراءتــي الحــرة ع ّلمتنــي أكثــر مــن تعليمــي فـــي‬

‫المدرسة بألف مرة‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫كثيــرا؟ فقال‪:‬‬ ‫ســئل أحــد العلماء العباقــرة‪ :‬لماذا تقرأ‬ ‫ً‬

‫‪10‬‬

‫ألن حيــاة واحــدة ال تكفيني" فالقــراءة هي المفتاح الذي‬ ‫يدخل بواسطته أي شخص إلى مجاالت العلوم والعوالم‬

‫المختلفة‪.‬‬

‫(*) كليــة اآلداب والعلــوم اإلنســانية‪ ،‬جامعــة ابــن طفيــل بـ"القنيطــرة" ‪/‬‬ ‫المغرب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بوابتنــا نحــو المســتقبل‬ ‫واإلعــام والمجتمــع‪ ،‬باعتبارهــا ّ‬

‫الزمن يأكل بعضُ ه بعضً ا‪،‬‬ ‫واملكان يطوي بعضُ ه بعضً ا‪...‬‬ ‫واإلنسانية عىل مفتـرق الطرق‪،‬‬ ‫حائرة ذاهلة؛‬ ‫ُت َرى هل د َّق ْت ساعة العامل‪،‬‬ ‫ونهايته اقرتبت‪ ،‬وقيامته أزِفت؟!‬ ‫إنْ مل يحدث هذا‪،‬‬ ‫فانبعاثنا الثاين قادم إذن‪،‬‬ ‫وزماننا السعيد ٍ‬ ‫آت‪...‬‬ ‫واإلنسانية إىل النجاة سائرة‪...‬‬ ‫***‬


‫القــراءة هي الوســيلة املثىل التي ركــز عليها‬

‫ال في جدول أعمال معظم أفراد مجتمعاتنا؟ أهو‬ ‫بندا مهم ً‬ ‫ً‬

‫القــرآن الكريــم يف أول ســورة نزلت‪ ،‬لتؤســس‬

‫الوقــت والعــدو وراء لقمــة العيــش‪ ،‬أم التقنيــات الحديثة‬

‫األداة املعرفية العملية لتَع ُّلم اإلنســان وتحريره‬

‫كالقنــوات الفضائية والفيديو والكمبيوتر واإلنترنت؟ هل‬

‫من الجهل والتقليد والركــود الذهني والنفيس‬

‫هــو غيــاب دور األســرة في التوجيــه والترشــيد والتحفيز‬

‫والعميل واإلنتاجــي يف دورة الحياة والحضارة‪،‬‬

‫للقــراءة‪ ،‬أم أن العثــور علــى كتــاب ّقيــم يجــذب القــارئ‬

‫ومــن خاللهــا يســتطيع اإلنســان فهــم نفســه‬

‫بالشكل والمظهر والمضمون أصبح صعب المنال؟‬

‫ومجتمعه وتطوير عقله‪.‬‬

‫هــل هــو ســعر الكتــاب الــذي ال يتناســب مــع دخــل‬

‫األســرة الهزيــل‪ ،‬أم هــي ال مباالة وشــيوع ثقافة االتكالية‬

‫قــل االهتمام‬ ‫مــع الوقــوف عند فتــرات التقليد والجمود‪ّ ،‬‬

‫واالســتهالك والتسطيح المعرفي‪ ،‬وضعف تكوين األسر‬

‫بالعلــم وبالقــراءة وبالبحــث العلمــي‪ ،‬وصــار موضــوع‬

‫والمناهج التربوية وطرق التدريس التقليدية غير المحفزة‬

‫القــراءة هــو "ألف" "بــاء" مجتمعاتنا‪ .‬فتطــور المجتمعات‬

‫علــى الســؤال والنقــد واإلبــداع واالنفتــاح والمعرفــة‬

‫تقــدم العلــم وتفعيــل‬ ‫األوربيــة مــا كان ليتحقــق لــوال ّ‬ ‫النهــوض الثقافي‪ .‬وهذا يعني أن القارئ األجنبي ليســت‬

‫واالستيعاب؟ واألهم من هذا كله‪ُ ،‬ترى هل ع َّل ْمنا أبناءنا‬ ‫ُ‬ ‫سرا وأساتذة ومؤسسات تربوية واجتماعية وإعالمية‪-‬‬ ‫أ ً‬‫أن يجعلوا من القراءة متعة؟‬

‫لديه ســمات بيولوجية تجعله أكثر قدرة على القراءة من‬

‫تعود‬ ‫القــارئ فــي المجتمعــات العربية‬ ‫عمومــا‪ ،‬وإنما هو ُّ‬ ‫ً‬

‫هذه مجموعة أســئلة وأخرى تطرح نفســها بشــدة إذا‬

‫المطالعة في مجتمعنا‪.‬‬

‫حيــن نتحــدث عــن الربيــع العربــي‪ ،‬ينبغي أن نفرشــه‬

‫بأزهار الربيع الثقافي التي تذبل أمام انخفاض مستويات‬ ‫القــراءة والمطالعــة بيــن شــبابنا‪ ،‬فإحصائيــات بعــض‬

‫كتابا‬ ‫المؤشرات تتحدث عن أن ‪ 300‬ألف عربي يقرؤون ً‬

‫ومعدل ما‬ ‫كتابا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫واحدا‪ ،‬ونصيب كل مليون عربي هو ‪ً 30‬‬ ‫ســنويا هو عشــر‬ ‫يخصصه المواطن العربي للقراءة الحرة‬ ‫ًّ‬

‫دقائق فقط‪ ،‬ومعدل القراءة السنوية للشخص الواحد في‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أردنــا مقاربة زوايا آليــات النهوض بتفعيل موضوع حب‬

‫علــى ممارســة تؤكــد هــذا االنطبــاع‪ .‬فاألوربيــون ‪-‬علــى‬ ‫ســبيل المثال‪ -‬عندما يكونون في طريقهم إلى العمل أو‬

‫هــدرا‪ ،‬إنما‬ ‫فــي وقــت الفــراغ‪ ،‬فــإن هذا الوقــت ال يضيع‬ ‫ً‬

‫يســتثمرونه في قراءة الصحف أو أي كتاب يكون معهم‪،‬‬ ‫كنــت أتألــم لحــال بعضهم فــي ميتروهــات لندن‬ ‫لدرجــ ٍة‬ ‫ُ‬ ‫ساعة الدروة‪ ،‬وهم يمسكون بيد في عمود الميترو حتى‬

‫أرضــا‪ ،‬ويســتعملون اليــد األخــرى فــي تصفح‬ ‫ال يقعــون ً‬ ‫وجدب وزحم ٍة مــن دون أي انزعاج أو‬ ‫شــد‬ ‫ٍ‬ ‫الكتــاب مع ٍّ‬

‫تراجع عن استمتاعهم بالقراءة والمطالعة‪.‬‬

‫الوقت في‬ ‫أظن أنه عندما يستطيع المجتمع أن يضع‬ ‫َ‬

‫العالم أربعة كتب‪ ،‬وفي العالم العربي ربع صفحة‪ .‬وحين‬ ‫تكــون هــذه المؤشــرات نابعــة من أمــة "اقرأ"؛ األمــ ِة التي‬

‫مجتمعيا بأهميته‪ ،‬يمكن أن يمارس‬ ‫وعيا‬ ‫ًّ‬ ‫مكانه ويؤسس ً‬

‫وأسس لها دعائم لبناء عمارة األرض والكون بأداة القلم‬

‫وإحياء قيمة الوقت واستثمارها في المعرفة والتعلم؟‬

‫أخرجهــا اإلســام من زمــن الجاهلية إلى زمــن المعرفة‪،‬‬

‫الســلوكيات نفســها‪ .‬فكيــف الســبيل إلــى إعــادة اعتبــار‬ ‫فماذا قدمنا في مجتمعنا‪ ،‬في مدارسنا‪ ،‬في مؤسساتنا‬

‫اإلنسان ما لم يعلم‪ ،‬نفهم وقتها أن مستوى‬ ‫التي ع ّلم بها‬ ‫َ‬ ‫محد ًدا في إكســاب األفراد‬ ‫دورا ِّ‬ ‫تطــور المجتمــع‪ ،‬يلعب ًَ‬ ‫سمات معينة في الحياة من بينها عملية القراءة والتثقيف‪.‬‬

‫المعرفــة بشــتى تالوينهــا وتخصصاتهــا ومواضيعها؟ هل‬

‫الفلســفة اليونانيــة واالنفتــاح علــى الثقافــات والمعــارف‬

‫عن تساؤالت عصرهم؟ هل أعدنا االعتبار للثقافة الراقية‬

‫وتطويــرا‪ ،‬فحققــت‬ ‫وتجديــدا‬ ‫وتحليــا‬ ‫األخــرى قــراءة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫العصر الذهبي للحضارة اإلســامية‪ .‬لكن‬ ‫هذه الشــعوب‬ ‫َ‬

‫احترمنا عقولهم بتقديم منتوج يتميز بالمصداقية ويجيب‬ ‫والمثقــف الحقيقــي الذي يجب أن يتــم الترويج ألفكاره‬

‫ال‬ ‫وأعمالــه عبــر كل القنــوات اإلعالميــة حتــى يصبــح مث ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫وانكبوا على ترجمة‬ ‫لذلك أدرك المســلمون هذا الدور‪،‬‬ ‫ّ‬

‫التربوية‪ ،‬لتشجيع شبابنا على القراءة واستثمار الوقت في‬

‫‪9‬‬


‫ثقافة وفن‬

‫د‪ .‬مريم آيت أحمد*‬

‫ربيع الشباب الثقايف‬ ‫إىل أين؟‬ ‫مــن المتفــق عليــه أن أزمــة الثقافــة أزمــة عالميــة‪ ،‬تتداخل‬

‫فــي وجودهــا أســباب عديــدة قــد يكــون التقــدم العلمــي‬

‫التكنولوجي في مقدمتها‪ .‬لكن يأخذ الحديث منحى آخر‬

‫عندمــا نتحــدث عن الثقافة في المنطقة العربية عامة وفي المغرب خاصة‪،‬‬ ‫حيــث ال توجــد إحصائيــات لمعرفة عالقة الشــباب بالقراءة بشــكل دقيق‪،‬‬

‫لذا يبقى األمر ضمن حدود التصورات الشــخصية القائمة بشــكل أساســي‬ ‫على المالحظة والتحليل الشــخصي‪ ،‬كتقييم لبعض المؤشــرات التي تفيد‬

‫بأن الشــباب المغربي في حالة عزوف عن القراءة‪ ،‬من بينها أرقام مبيعات‬

‫الكتــب فــي المعارض أو حتى عدد النســخ الموزعة من الكتب وحســاب‬ ‫النسبة التقريبية للشباب من بين المشترين‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫القــراءة إذن هــي الوســيلة المثلــى التــي ركــز عليهــا القــرآن الكريم في‬

‫‪8‬‬

‫أول سورة نزلت‪ ،‬لتؤسس األداة المعرفية العملية َلتعلُّم اإلنسان وتحريره‬

‫مــن الجهــل والتقليــد والركــود الذهنــي والنفســي والعملــي واإلنتاجي في‬ ‫دورة الحياة والحضارة‪ ،‬ومن خاللها يستطيع اإلنسان فهم نفسه ومجتمعه‬

‫وتطويــر عقلــه‪ .‬لكن لماذا تحاول المجتمعات الراقية المتعلمة اإلفاد َة من‬ ‫كثيــرا وأصبحت‬ ‫وقــت فراغهــا بالقــراءة‪ ،‬بينمــا تراجعت فــي بالدنا القراء ُة‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫الحصول على الهدف المطلوب‪.‬‬

‫باللــون البرتقالي مع اإلضاءة بالفلورســنت‪ ،‬فإنه‬

‫‪-9‬فســر علمــاء مركــز بوســطن ذلــك‪ ،‬بــأن‬ ‫ّ‬ ‫الخاليا التالفة تخضع لهذا التفاعل الذي يســبب‬

‫وطريقــة العــاج باأللــوان تعتمد علــى اختيار‬

‫خاليــا جديــدة ســليمة‪ ،‬وأشــاروا إلــى أن نتائجها‬

‫مكانيــا بالجلــوس فيه أو بارتداء مالبس من نفس‬ ‫ًّ‬

‫انفصالهــا وتســاقطها لمــدة أســبوع ليحــل محلهــا‬ ‫ليســت مثيرة كنتائج عملية إعادة تســطيح الجلد‬

‫عكسيا لسلوك التالميذ‪.‬‬ ‫أثرا‬ ‫ًّ‬ ‫يحدث ً‬

‫اللــون المناســب للمــرض وإحاطــة الجســم بــه‬

‫اللــون‪ ،‬وتأملــه أثنــاء تركيــز العقــل علــى الجــزء‬

‫بديل‬ ‫بالليــزر‪ ،‬لكــن مدة التعافي فيها أقصر‪ ،‬وهي ٌ‬ ‫ــس جــود ِة عمليــات التقشــير الكيمــاوي‪ ،‬وقــد‬ ‫َبن ْف ِ‬

‫نفســيا بــل‬ ‫رؤيــة عيــن اإلنســان لأللــوان‬ ‫وصحيــا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫وإيالمــا‪ .‬وأبــان الخبــراء أن هــذه التقنيــة المضادة‬ ‫ً‬

‫إلى تأثير مباشر وآخر غير مباشر‪.‬‬

‫تكــون أفضــل منهــا كونهــا أبســط وأقــل عدوانيــة‬

‫للشــيخوخة مكلفــة للغايــة‪ ،‬حيــث يصــل ســعر‬

‫الجلســة الواحــدة منهــا إلــى ‪ 800‬دوالر‪ ،‬كما أن‬

‫بعد‪ ،‬ألنها‬ ‫آثارهــا على المــدى الطويل لم تتضح ُ‬ ‫ما زالت حديثة‪.‬‬

‫المصــاب مــن الجســم‪ .‬وبذلــك اتضــح أنــه تؤثر‬

‫عليه‪ .‬إن لأللوان تأثير سيكولوجي والتي تصنف‬ ‫‪ -13‬يؤكــد المعالجــون باأللــوان أن جســم‬

‫اإلنســان يعــرف بفطرتــه أهميــة األلــوان‪ ،‬لذلــك‬ ‫عندما تصيبه الكآبة نراه يرتاح إذا نظر إلى السماء‬

‫والبحر أو للخضرة واألشجار‪.‬‬

‫طــور بعــض األطبــاء بحو ًثــا ودراســات‬ ‫‪ّ -10‬‬

‫ولعل الزمن القادم يفصح عن بعض األسرار‬ ‫ّ‬

‫بوضــع المنطقــة المصابــة تحــت ضــوء ملفــوف‬

‫مــن بديــع صنــع اهلل وقدرته وآالئــه‪ ،‬وما أودعها‬

‫المرضــى أن األلــم قــد خــف بصورة أســرع‪ .‬كما‬

‫وأخيرا يكفي أن نعلم أنه من غموض األزرق‬ ‫ً‬

‫الجهــاز الهضمــي والجهــاز التنفســي والمغــص‬

‫ومن خير الغابات الخضراء تع ّلم اإلنســان األول‬

‫هدفــت إلــى عــاج الحــروق باأللــوان‪ ،‬وذلــك‬

‫التــي كشــفها القرآن العظيم عن األلــوان وما فيها‬

‫باللــون األخضــر‪ ،‬وكانــت النتيجــة لــدى كثير من‬

‫‪ ‬من أسراره ولطائفه‪.‬‬

‫اســتخدم األطباء ألوا ًنــا أخرى لعالج الربو وآالم‬

‫خلــف الســماء وتحــت البحــر ولــدت الفلســفة‪،‬‬

‫والقرحة وغيرها‪.‬‬

‫العطاء قبل األخذ وهو يقطف ثمار األشجار‪.‬‬

‫‪ -11‬ثبــت‬ ‫علميــا أن َو ْضــع األشــخاص‬ ‫ًّ‬ ‫الذيــن يميلون إلى العنــف في غرفة مطلية باللون‬

‫أحــس بالــدفء واألمــان من الوحوش المفترســة‬

‫واسترخاء‪ ،‬والسبب هو التأثير الفسيولوجي الذي‬

‫المعيشــة على األرض‪ ،‬ومن وحي الطبيعة اختار‬

‫ومــن وهج النار عرف ألــم االحتراق‪،‬‬ ‫وأيضا‬ ‫ً‬

‫تحدثــه طاقــة الكهرومغناطيســية لهــذا اللون على‬

‫ألوا ًنا للحب وأخرى للحرب‪.‬‬

‫العاطفية المختلفة‪.‬‬

‫متخصصــة للعــاج باأللــوان؟ وهــل ســيصبح‬

‫إفــراز الغــدد التــي تؤثر مباشــرة علــى االنفعاالت‬

‫أيضــا أن طــاء ُحجــرات‬ ‫‪ -12‬وقــد ثبــت ً‬ ‫الدراســة باللــون األزرق الفاتــح مــع وضــع‬ ‫مصابيح إضاءة عادية‪ ،‬يجعل التالميذ أكثر‬ ‫انتباها‬ ‫ً‬ ‫ويقلــل ســلوكهم العدوانــي‪ ،‬أمــا طــاء الجــدران‬

‫ُترى‪ ،‬هل سيأتي اليوم الذي سنجد فيه معاهد‬

‫العالج باأللوان هو صيحة القرن القادم؟‬

‫(*) استشــاري فــي طــب وجراحــة العيــون‪ ،‬وعضــو الجمعيــة‬ ‫الرمدية المصرية‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫الــوردي الفاتح لفترة قصيرة يجعلهم أكثر‬ ‫هدوءا‬ ‫ً‬

‫مــن ســواد الليــل‪ .‬فمــع األلــوان تعلــم اإلنســان‬

‫‪7‬‬


‫بالغا‪ .‬ومن الطبيعي‬ ‫تأثيرا ً‬ ‫إليه‪ ،‬وهي تؤثر في كياننا ً‬ ‫أننــا نتأثــر ونســتخدم األلــوان فــي حياتنــا‪ ،‬فنحــن‬

‫نتعرض لها في كل حين بصورة تلقائية ودون وعي‬

‫منا‪ .‬وكما يقول الدكتور "غوش"‪" :‬كلما استخدمنا‬ ‫وعيِنا لهذا‬ ‫األلــوان بوعــي زاد تناغمنا معها"‪ .‬وبعد ْ‬ ‫العلــم نجد أننا في تجدد‪ ،‬وأننا نســير باتجاه شــفاء‬

‫أجســادنا وتقويــة أعصابنــا‪ .‬لقــد بدأنــا نــدرك بــأن‬ ‫صحتنــا وحيويتنــا تعتمــدان ‪-‬إلــى حد كبيــر‪ -‬على‬

‫األلــوان واألشــعة الشمســية طالمــا أن حياتنــا تبــدأ‬

‫بالنور ويمدها هذا النور بالحياة والنشاط‪.‬‬

‫والحــق كما يقــول الدكتور "غوش"‪" :‬إن الذين‬

‫بــدأوا َي ُعــون أهمية األلوان والنور أخــذوا بالتزايد‪،‬‬

‫وأن مسألة مساعدة أنفسنا غدت تعني أننا أصبحنا‬ ‫وعيا ألنفسنا وللعالم الضوئي الذي يحيط بنا"‪.‬‬ ‫أكثر ً‬

‫نماذج للعالج باأللوان‬

‫‪ -1‬اســتخدم الفراعنــة اللــون فــوق األخضر داخل‬ ‫األهرامــات لمقاومــة الجراثيــم وقتــل البكتيريــا‬

‫وبالتالي المحافظة على المومياوات‪.‬‬

‫وأظهــرت البحــوث الحديثــة أن االســتخدام‬

‫الصحيح لأللوان‪ ،‬يمكن أن يزيد التركيز والنشاط‬ ‫والقدرة على التعلم والفهم والتذكر بنحو ‪ 55‬إلى‬ ‫‪ 78‬بالمئة‪.‬‬

‫‪ -2‬دراســة أخرى أجريت عام ‪ 1982‬في كلية‬

‫التمريض بـ"سان دييجو" تم فيها تعريض ‪ 60‬امرأة‬

‫فــي متوســط العمــر يعانيــن مــن التهــاب المفاصــل‬ ‫الروماتيزمــي‪ ،‬للــون األزرق لـــ‪ 15‬دقيقــة‪ ،‬فشــهدن‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫تحس ًــنا‬ ‫ملحوظا في شــدة األلم الذي خف بدرجة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫‪6‬‬

‫كبيرة عن ذي قبل‪.‬‬

‫‪ -3‬بينــت دراســة أجريــت عــام ‪ 1990‬تم فيها‬

‫تســليط أضواء حمــراء اللون على عيــون مجموعة‬

‫مــن المرضى يعانون من الصداع النصفي في بداية‬

‫ظهــور النوبــة‪ ،‬فتعافى نحو ‪ 93‬بالمئة منهم بشــكل‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫جزئــي نتيجــة هــذا العــاج‪ ،‬وأرجــع المعالجــون‬ ‫الســبب في ذلك إلى أن اللون األحمر يزيد ضغط‬ ‫الدم الشرياني ويوسع األوعية الدموية‪.‬‬ ‫تأثيرا‬ ‫‪ -4‬كمــا بينت التجارب أن لأللوان ً‬ ‫أيضا ً‬ ‫في مدى إحساســنا بالحرارة‪ ،‬حيث أجريت دراسة‬ ‫فــي النرويــج ُعــرف مــن خاللهــا أن وجــود الناس‬ ‫فــي غرفة مطلية باللــون األزرق‪ ،‬يدفعهم إلى رفع‬ ‫مؤشــر التدفئــة المركزيــة ثــاث درجــات أعلى من‬ ‫أفراد يجلسون في غرفة مطلية باللون األحمر‪.‬‬ ‫‪ -5‬وأثبتــت دراســات أخــرى أن خفــة األلــوان‬ ‫ودكانتهــا ‪-‬بعمقهــا وتدرجها‪ -‬تؤثر في دقة إدراكنا‬ ‫للوقت‪ ،‬كما يؤثر في قدرتنا على التركيز والتذكر‪.‬‬ ‫‪ -6‬قــام عالــم دانمركــي يدعــى "نيــل فنســين"‬ ‫باســتعمال الضــوء األحمــر فــي عــاج الجــدري‪،‬‬ ‫وأثبتــت التجــارب أن اللون األحمــر يمنع وصول‬ ‫األشــعة فوق البنفســجية إلى الجلد المصاب‪ ،‬كما‬ ‫يمنع حدوث التشوهات‪.‬‬ ‫‪ -7‬هنــاك معتقــد أن ضــوء الشــمس بما فيه من‬ ‫ســرعة "ألوان الطيف"‪ ،‬له قدرة على إنتاج فيتامين‬ ‫"د" تحــت الجلــد‪ ،‬وهــذا الفيتاميــن يقــل فــي حالــة‬ ‫اإلصابة للين العظام‪ ،‬حيث تعد من أهم الفلسفات‬ ‫في تكوين العظام‪.‬‬ ‫‪ -8‬كمــا كشــف أخصائــي الجلديــة فــي مركــز‬ ‫النقاب عن أن‬ ‫بوســطن الطبي بالواليات المتحدة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫حزمــة من الضــوء األزرق قد تعيد نضارة الشــباب‬ ‫وجمال‪.‬‬ ‫إلى البشرة وتزيد الوجه تأل ًقا‬ ‫ً‬ ‫ووجــد هــؤالء فــي دراســة‪ ،‬أن العــاج بالضوء‬ ‫ال لمعالجة اآلفات‬ ‫األزرق الــذي ُصــو ِدق عليه أص ً‬ ‫الجلديــة الســرطانية فــي الوجــه‪ ،‬يزيــل التجاعيــد‬ ‫والخطوط الخفيفة والبقع البنية الداكنة من الوجه‪.‬‬ ‫وأوضــح الخبــراء أن الضــوء األزرق يتفاعــل‬ ‫مــع محلــول خاص يوضــع على الوجــه‪ ،‬وخالل‬ ‫‪ 16‬دقيقة تحته وبعد أســبوع واحد من النقاهة يتم‬


‫القيمــة الغذائيــة لهــذا الغــذاء‪ ،‬والتــي ال يمكــن إهمالهــا‪.‬‬

‫البنجر‬ ‫ومــن أمثلة األغذيــة المحتوية على اللــون الواحد‬ ‫ُ‬ ‫والبطيخ وكلها يتوافــر بها اللون األحمر‪ ،‬أما‬ ‫والطماطــم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الجزر والبرتقــال والمانجو‪،‬‬ ‫فــي‬ ‫فنجده‬ ‫البرتقالــي‬ ‫اللــون‬ ‫َ‬ ‫فيما يحتوي التوت والعنب على اللون البنفسجي‪.‬‬ ‫الطريقــة التقليديــة التي ُتســعمل بها األلــوان للعالج‪،‬‬

‫يشــع عبر مرشــح‬ ‫تتمثل في "اســتحمام" المريض بضوء‬ ‫ّ‬

‫(فلتــر) ذي لــون معين لفترة محــددة‪ ،‬حيث تكون حجرة‬ ‫العــاج مطفــأة النــور باســتثناء الضــوء اللونــي العالجي‪،‬‬ ‫شــيئا ملو ًنا مثل بطاقة فوق‬ ‫وقد يحمل بعض المعالجين ً‬

‫ثيــاب مــن لــون معيــن‪ .‬وفــي إحــدى الطــرق التــي تعرف‬ ‫تخي َل ٍ‬ ‫لون ما‪،‬‬ ‫باســم "تنفس اللون"‪ُ ،‬يطلب من المريض ُّ‬ ‫ويطلــب منه أن يقوم بـ"استنشــاق" هواء ذلك اللون‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬

‫أيضا المريض بتناول أطعمة من لون‬ ‫يوصــي المعالجون ً‬ ‫مرشح أو‬ ‫وش ْــرب ماء َتشــرب‬ ‫ضوء الشــمس عبر ّ‬ ‫معين‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬

‫والجســمي‪ ،‬إذ اكتشــف العلــاء وجــود مجــال‬ ‫كهرومغناطييس حــول كل كائن حي‪ ،‬يعمل عىل‬ ‫امتصــاص الضوء وتحليله إىل ألــوان الطيف التي‬ ‫تبدأ باألحمر وتنتهي بالبنفسجي‪.‬‬

‫لوحة أو شاشة ملونة‪ ،‬أو ُش ْرب عصير من لون معين‪.‬‬

‫العالج باأللوان وأشعة الشمس‬

‫أصبــح الكثيــر من األطباء والعلمــاء يتجهون إلى العالج‬ ‫باأللــوان وأشــعة الشــمس‪ِ ،‬لمــا لهــا مــن تأثير قــوي على‬

‫اإلنسان أكثر من العالج بالمواد الكيميائية‪.‬‬

‫وللدكتــور "قيــس غــوش" كتــاب بعنــوان "العــاج‬

‫باأللوان وأشــعة الشــمس"‪ ،‬وملخص فكــــرة الكتاب هو‬ ‫كشــف عالقــة األلــوان وأشــعة الشــمس بصحة اإلنســان‬

‫وســلوكه‪ ،‬وأنهــا تمنحنا العــاج عندما نشــعر أننا بحاجة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫منطقــة معينــة مــن الجســم‪ ،‬أو يوصــون المريــض بارتداء‬

‫العالج باأللوان وسيلة من وسائل العالج النفيس‬

‫‪5‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬محمد السقا عيد*‬

‫العالج باأللوان‬

‫صيحة جديدة يف عامل الطب‬ ‫العالج باأللوان وسيلة من وسائل العالج‬ ‫النفســي والجسمي‪ ،‬فقد اكتشف العلماء‬

‫وجــود مجال كهرومغناطيســي حول كل‬

‫كائــن حــي‪ ،‬يعمــل علــى امتصاص الضــوء وتحليلــه إلى‬ ‫ألــوان الطيــف التــي تبــدأ باألحمــر وتنتهــي بالبنفســجي‪.‬‬

‫أيضــا‪ ،‬أن أنســجة الجســم المختلفــة تأخــذ من‬ ‫ووجــدوا ً‬

‫طاقة هذا الطيف‬ ‫حاجتها‪ ،‬مما يؤدي إلى صحتها وتعزيز‬ ‫َ‬ ‫قدرتها على أدائها البيولوجي‪ .‬وهذا يعني أن هناك حاجة‬ ‫بيولوجية لألنســجة من األلوان‪ ،‬فإذا ما غابت أو نقصت‬

‫تعرض هذا النسيج للضعف والمرض واالضطراب‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الحقائق‬ ‫هــذه‬ ‫خدمت‬ ‫اســت‬ ‫وقــد‬ ‫عالجيــا‪ ،‬فأصبح من‬ ‫ُ‬ ‫ًّ‬ ‫الممكــن إعطــاء المريــض جرعــة من األلــوان كما تعطى‬ ‫جرعــة مــن الــدواء أو الغــذاء‪ ،‬إذ أصبــح اللون‬ ‫جــزءا من‬ ‫ً‬

‫العالج باألشعة‪.‬‬

‫مــدى‬ ‫َيســتخدم المعالجــون‬ ‫واســعا مــن األســاليب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لمعالجــة مرضاهــم‪ ،‬تشــمل تغطيتهم بأوشــحة ملونة‪ ،‬أو‬

‫تســليط أضواء ملونة على أجزاء مختلفة من أجســامهم‪،‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫أو عرض ألوان معينة عليهم‪ ،‬أو تدليكهم بزيوت ملونة‪،‬‬

‫‪4‬‬

‫أو إضافة مالبس مختلفة األلوان لخزانة الثياب‪.‬‬

‫طورهــا علماء‬ ‫وتعتمــد هــذه التقنيــة العالجيــة ‪-‬التــي ّ‬

‫أعصــاب أمريكيــون‪ -‬على حزم ضيقة من الضوء الملون‬ ‫تســتخدم لتنشــيط الخاليا المســتقبِلة للضــوء التي تعرف‬ ‫بالعصويات والمخروطيات الواقعة خلف العين في عدة‬

‫جلسات تستغرق كل منها ‪ 20‬دقيقة‪ ،‬وذلك بهدف إعادة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التوازن للجهاز العصبي الذاتي‪.‬‬ ‫ويــرى المعالجــون أن هــذه التقنيــة إذا لــم تعالــج‬ ‫الحــاالت المرضيــة‪ ،‬فإنهــا تســاعد فــي تحســين الصحــة‬ ‫النفسية للمريض بشكل عام؛ فعلى سبيل المثال‪ ،‬يمكنها‬ ‫تخفيف حاالت التوحد النفسي والعدوانية عند األطفال‪،‬‬ ‫كمــا تســاعد في تحقيــق الدعم والراحة النفســية لمرضى‬ ‫السرطان وتحسين نوعية حياتهم‪.‬‬ ‫وأشــار الخبــراء إلــى تزايــد إقبــال اآلبــاء علــى‬ ‫اســتخدام الصناديــق الضوئية الملونة ‪-‬التي تعرف باســم‬ ‫"لوماتــرون"‪ -‬لمعالجــة أطفالهــم المصابيــن بمشــكالت‬ ‫مرضيــة تتــراوح مــن التوحــد إلــى عســر القــراءة وخلــل‬ ‫التناســق وعســر االنســجام‪ ،‬وذلــك بعــد أن حقــق هــذا‬ ‫العالج نتائج ممتازة في هذا الصدد‪.‬‬

‫كيفية تطبيق العالج باللون‬

‫ال توجــد فحــوص خاصة في الطب التقليدي لتشــخيص‬ ‫"نقــص" لــون معيــن داخــل الجســم‪ ،‬وبالتالــي فالعــاج‬ ‫باأللــوان ليــس لــه قواعــد محــددة فــي هــذا الطــب‪ ،‬أمــا‬ ‫عــن كيفيــة تزويــد الجســم بتلك "األلــوان الناقصــة" التي‬ ‫يحتاجها‪ ،‬فإن ذلك يتم عن طريق ممارسة بعض وسائل‬ ‫الطب البديل‪ ،‬مثل "اليوجا" و"التصور" و"التأمل"‪،‬‬ ‫ولكل‬ ‫ٍّ‬ ‫منها أسلوب مختلف‪.‬‬ ‫وحتــى يتــم "العــاج باأللــوان" بصــورة صحيحــة‬ ‫المســتخدم فــي عملية‬ ‫وســريعة‪ ،‬يجــب أن يتوافــر اللــون‬ ‫َ‬ ‫العالج في غذاء الشخص اليومي‪ ،‬مع األخذ في االعتبار‬


‫‪hiramagazine.com‬‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬أورخان محمد علي (رحمه اهلل)‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬نشر هذا المقال في مجلة "سيزنتي" التركية‪ ،‬العدد‪ ،٧٣:‬سنة ‪.١٩٨٥‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫ســحيقة‪ ،‬عليهــا أن تتجاوزهــا‪ ،‬لذا فقــد أخذت هذا األمر‬ ‫في حسبانها وتهيأت له‪ .‬فال تستطيع المشاكل المفاجئة‪،‬‬ ‫وال المخاطــر العديــدة التــي تقطــع عليهــم الطريــق أن‬ ‫تحيرهــم‪ ،‬وال أن تبعــث الشــكوك فــي نفوســهم حــول‬ ‫يوما سيأتي يزول فيه كل‬ ‫دعوتهم‪ .‬فهم على يقين من أن ً‬ ‫خطــر‪ ،‬وتنفتــح فيه كل الطــرق لتقلب االســتحاالت إلى‬ ‫أمور ممكنة‪ ،‬فعزمهم ال يفتر‪ ،‬وأملهم ال يخبو‪.‬‬ ‫لــذا ال ينجرفــون إلــى اليــأس والقنــوط أمــام أكثــر‬ ‫الحــوادث بع ًثــا لليأس وأكثر الظــروف قتامة‬ ‫وظالما‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫يتخطون العقبات بسرعة البرق ويتوجهون نحو أهدافهم‬ ‫مسرعين الهثين‪.‬‬ ‫تراهــم علــى ُأ ْه َبــة االســتعداد لما يــدور حولهم بكل‬ ‫دقــة وحساســية‪ ،‬ال ســيما مــا له عالقــة بد ْنيــا أفكارهم‪...‬‬ ‫يمتزجون مع المجتمع الذي يعيشــون فيه‬ ‫قويا؛‬ ‫امتزاجا ًّ‬ ‫ً‬ ‫فــردا قــد انحــرف عــن الطريق الســوي‪ ،‬أو أســرة‬ ‫إن رأوا ً‬ ‫تــكاد روابطهــا‬ ‫تنحــل‪ ،‬أو قيمــة معنويــة ُتســ ِند المجتمــع‬ ‫ّ‬ ‫أياما وتقلبوا على‬ ‫قــد تضــررت‪ ،‬تطاير النوم من عيونهــم ً‬ ‫فراش األلم واألنين‪.‬‬ ‫أكثر ما ينفرون منه الالمباالة‪ ،‬فهم يحسون بمشاكل‬ ‫كل شــرائح المجتمــع وأوجاعــه وكأنهــا خنجــر مغــروز‬ ‫وي ْط ُــوون صدورهــم علــى آالم مجتمعهم‪.‬‬ ‫فــي قلوبهــم‪َ ،‬‬ ‫كــم مــن ٍ‬ ‫ليال مضت عليهــم نبضت قلوبهــم فيها باآلالم‬ ‫وكاد الصداع يفتك برؤوسهم‪ ،‬يعيشون وسط حشود من‬ ‫الناس في وحدة وغربة‪.‬‬ ‫تطوف الحســرات أرجــاء لياليهم طوال أعمارهم‪ ،‬ال‬ ‫يحس بهذا أحد غيرهم‪ ،‬أو على حد قول الشاعر "باقي"‪:‬‬ ‫ال يــدري راصــد النجــم وال حاســب األوقــات ضنى‬ ‫الليالي السود الثقيلة‪،‬‬ ‫لــذا فاســأل المكــروب ذا الهــم‬ ‫والمغمــوم كم ســاعة‬ ‫َ‬ ‫تمتد تلك الليالي الطويلة‪.‬‬ ‫يرتبــط اإلنســان بمبــدأ ّما بقــدر إيمانه بــه وتغلغله في‬ ‫قلبــه‪ .‬وبنســبة ارتباطــه هذا يحــس بالفرح مــرة وبالعذاب‬ ‫واألســى مــرة أخرى‪ .‬وحســب هــذا المقيــاس فهناك من‬ ‫يوما أو‬ ‫شهرا أو سنة‬ ‫ً‬ ‫يصرف في ســبيل دعوته ً‬ ‫أســبوعا‪ً ...‬‬ ‫أو ســنوات‪ .‬وهنــاك مــن يجعــل مــن دعوتــه هــدف عمره‬ ‫وحياتــه‪ ،‬فلــو كان لــه من الــرؤوس عدد ما في رأســه من‬

‫رأســا‬ ‫الشــعر‪ُ ،‬‬ ‫وطلــب منــه في ســبيل دعوته كل يوم منها ً‬ ‫ــن منــه وال أذى‪ .‬وقــد كان ســيد‬ ‫ّ‬ ‫لقدمــه بــا تــردد وبــا َم ٍّ‬ ‫الرســل واألنبيــاء ‪ ‬ذروة فــي هذا األمــر حتى خاطبه اهلل‬ ‫ال‪َ  :‬ف َل َع َّل َك َب ِ‬ ‫ــك َع َلــى آ َثارِ ِه ْم إ ِْن َل ْم‬ ‫اخ ٌع َن ْف َس َ‬ ‫تعالــى قائ ً‬ ‫ُي ْؤ ِم ُنوا ب َِه َذا ا ْل َح ِد ِ‬ ‫يث َأ َس ًفا‪(‬الكهف‪.)6:‬‬ ‫وكــم مــن أفــذاذ اقتفــوا هــذه الفطــرة الســامقة التي ال‬ ‫مثيل لها قضوا حياتهم يتنفســون اآلالم ويقاسون تباريح‬ ‫الفكر‪ ،‬مع األوجاع كان قيامهم وقعودهم‪ .‬وشدة اآلالم‬ ‫ســم ّوهم وعظمتهم‬ ‫عند هؤالء تتناســب‬ ‫ًّ‬ ‫طرديا مع درجة ُ‬ ‫الروحيــة‪ ،‬فكلمــا قاســوا ارتفعــوا‪ ،‬وكلما ارتفعوا قاســوا‪،‬‬ ‫لغــزا مــن ألغــاز‬ ‫تطهــروا مــن كل ذنــب وأصبحــوا ً‬ ‫حتــى ّ‬ ‫يطهر اإلنســان مــن ذنوبه‬ ‫الســماء‪ .‬أجــل‪ ،‬ليــس هنــاك مــا ّ‬ ‫ــمو بــه مثــل المعانــاة فــي ســبيل الحــق تعالى‬ ‫وين ّقيــه َ‬ ‫وي ْس ُ‬ ‫وفــي ســبيل صــاح األمــة‪ .‬وقــد ورد فــي الحديــث‪" :‬إن‬ ‫ذنوبــا ال تك ّفرهــا الصــاة وال الصيــام وال‬ ‫مــن الذنــوب ً‬ ‫الحــج وال العمــرة‪ ،‬تك ّفرهــا الهمــوم في طلب المعيشــة"‬ ‫(كنــز العمــال)‪ .‬فما بالك بمعاناة اآلالم في ســبيل إنقاذ األمة‬ ‫وإنقاذ المجتمع الذي نعيش فيه!‬ ‫إن أشــد مــا نحتــاج إليــه اليــوم ليــس هــذا أو ذاك‪ ،‬بل‬ ‫نحــن فــي أمــس الحاجــة إلــى مــن يقــول‪" :‬إننــي أرضــى‬ ‫في ســبيل ســعادة أمتــي الماديــة والمعنويــة أن ُأحرق في‬ ‫لهيــب النيــران"‪ ...‬إلــى مــن يفنــي نفســه فــي ســبيل الحق‬ ‫ضاربا عرض الحائــط بمنافعه وبمصالحه‬ ‫تعالــى واألمــة‬ ‫ً‬ ‫ويتــأوه‪...‬‬ ‫يتلوى بــآالم المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫الشــخصية‪ ...‬إلــى مــن ّ‬ ‫إلى من يحمل في يده شــعلة ِ‬ ‫العلم ليشــعل في كل مكان‬ ‫وأنوارا تطارد الجهل والسفاهة وتطردهما‪ ...‬إلى‬ ‫أقباســا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من يهرع بكل عزم وإيمان إلى الذين ضاعوا بين الطرق‬ ‫ويمــد لهــم يــد العــون والمســاعدة‪ ...‬إلى من يســتمر في‬ ‫ّ‬ ‫طريقــه كجــواد أصيــل دون أن يشــكو من الصعــاب التي‬ ‫ٍ‬ ‫أبطال‬ ‫تعتــرض طريقــه ودون أن يتأفــف أو ييــأس‪ ...‬إلى‬ ‫وفضلوا عليها لذة‬ ‫نســوا أذواق العيش والحياة ألنفســهم ّ‬ ‫خدمة اآلخرين في عيشهم وحياتهم‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح الله كولن‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫النفوس املكابدة‬

‫‪2‬‬

‫ِ‬ ‫ممز ًعا‪،‬‬ ‫قلبا ّ‬ ‫ل َل ْحن األنين ُر ْم ً‬ ‫ِــح ِّــر العــويل كيــانه‬ ‫وامـــأل ب َ‬ ‫إن الذين وهبوا قلوبهم للمبادئ السامية‬ ‫وتحملــوا آالمهــا وأوجاعهــا‪ ،‬يقضــون حياتهــم كمبخــرة‬ ‫تضطــرم فتنشــر روائــح زكيــة‪ .‬تولــد الشــمس وتغــرب‪،‬‬ ‫موسما إثر‬ ‫وتتتابع األسابيع واألشهر‪ ،‬وتتوالى المواسم‬ ‫ً‬ ‫موسم‪ ،‬وهكذا تمضي‪ ...‬وكذا يبقى هؤالء وهم يبحثون‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ربيــع آخــر‪ ...‬يعيشــون موســم‬ ‫فــي ضــوء مبادئهــم عــن‬ ‫ٍ‬ ‫الخريف على الدوام ويســمعون أغانيه الحزينة‪ ،‬ولكنهم‬ ‫ال يشــكون مــن حالهــم وال مــن أحــد‪ ،‬يتحملــون كل ألم‬ ‫وعــذاب فــي ســبيل دعوتهــم الســامية التي أقســموا على‬ ‫نصرتها وساروا في دربها‪ ،‬ال يصيبهم سأم وال ملل‪.‬‬ ‫هذه األرواح النيرة العاشــقة لغايتها الجياشة بالبشائر‬ ‫صعابــا جمة فــي طريقهــا‪ ،‬ووديا ًنا‬ ‫تعلــم مســب ًقا أن هنــاك‬ ‫ً‬


‫المحتويات‬

‫‪2‬‬ ‫ النفوس المكابدة  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫‪4‬‬ ‫العالج باأللوان‪ ..‬صيحة جديدة في عالم الطب  ‪ /‬د‪ .‬حممد السقا عيد (علوم) ‬ ‫‪8‬‬ ‫ ربيع الشباب الثقافي إلى أين؟  ‪ /‬د‪ .‬مرمي آيت أمحد (ثقافة وفن) ‬ ‫‪10‬‬ ‫االنبعاث الثاني  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫ نحو جيل قرآني جديد‪ ..‬مجتمع عباد الرحمن  ‪ /‬د‪ .‬عبد السالم الراغب (دراسات إسالمية) ‪11‬‬ ‫‪16‬‬ ‫الكيمياء الخضراء‪ ..‬حتمية القرن الواحد والعشرين  ‪ /‬إميان أمحد (علوم) ‬ ‫‪20‬‬ ‫ األمن في السنة النبوية  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عصام أمحد البشري (قضايا فكرية) ‬ ‫‪24‬‬ ‫هالك الروح  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل )‬ ‫‪25‬‬ ‫ ملك المحيطات‪ ..‬البطرس  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫‪29‬‬ ‫البناء والتقدم بين تعظيم الدنيا وتعظيم اآلخرة  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬لطف اهلل خوجه (قضايا فكرية) ‬ ‫‪32‬‬ ‫ سلوك المحتسبين  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املوشور) ‬ ‫‪34‬‬ ‫اإلسالم والمسألة األخالقية  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية) ‬ ‫‪38‬‬ ‫ من مظاهر التسامح في اإلسالم  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬حممد بركات مراد (ثقافة وفن) ‬ ‫‪42‬‬ ‫الرماة  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (تربية) ‬ ‫ت ّلة ُّ‬ ‫‪44‬‬ ‫ الجمال االبتالئي والجمال التعبدي  ‪ /‬د‪ .‬إدريس الرتكاوي (قضايا فكرية) ‬ ‫‪48‬‬ ‫هل هناك ما يسمى طبًّا إسالميًّا؟  ‪ /‬د‪ .‬خالد عمارة (علوم) ‬ ‫‪53‬‬ ‫ طاغية  ‪ /‬د‪ .‬سلمان العودة (قضايا فكرية) ‬ ‫‪55‬‬ ‫سننية التغيير بين اإلعمال واإلهمال  ‪ /‬د‪ .‬سعيد شبار (قضايا فكرية) ‬ ‫‪59‬‬ ‫ الفراغ الرهيب  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫‪60‬‬ ‫فرسان "الخدمة" وفيالق العبور إلى النور  ‪ /‬د‪ .‬فؤاد البنا (قضايا فكرية) ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫حراء‬

‫عباقرة اآلالم‬

‫في المقال االفتتاحي لهذا العدد من "حراء" يصف‬

‫ولكــن تاريخهــا ودينهــا يقول غير‬ ‫أو االنفــكاك عنــه‪...‬‬ ‫ّ‬

‫بقولــه عنهــم‪" :‬فكلمــا قاســوا ارتفعــوا‪ ،‬ولكمــا ارتفعوا‬

‫األحــزان‪ ،‬لكنهــا لــن تمــوت‪ ،‬بل هي تقــوم في كل مرة‬

‫األســتاذ "فتــح اهلل كولــن" األجيــال مــن عباقــرة اآلالم‬ ‫أن يقــول إن أصحــاب النفــوس‬ ‫قاســوا"؛ فكأنــه يريــد ْ‬ ‫العظيمــة واألفــكار الســامية مــن أصحــاب الدعــوات‪،‬‬

‫ويص ّفيهــم ويكشــف عــن جوهرهم‬ ‫غربلهــم ُ‬ ‫ال شــيء ُي ْ‬

‫النقــي غيــر اآلالم‪ ،‬وال شــيء يرفعهم إلى عوالم الطهر‬

‫والسمو مثل المقاساة والمعاناة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫فهناك ارتباط جدلي بين اآلالم واألحزان من جهة‪،‬‬

‫وبين العلو واالرتفاع من جهة آخرى‪ ،‬فكلما‬ ‫اشــتدت‬ ‫ْ‬ ‫الســمو‬ ‫الســمو‪ .‬فهــذا‬ ‫اشــتد العلــو وارتفــع‬ ‫وزادت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يظل يأكل في األجساد حتى‬ ‫الحزين واألسى العلوي‪ّ ،‬‬ ‫ــل وقــد تمــرض‪ ،‬فهذا النحــول والمــرض إنما هو‬ ‫َت ْن َح َ‬ ‫زكاة عبقرية صاحبها‪.‬‬

‫وج ْدبه‪ ،‬فتنفض عنها الرماد‬ ‫من بين رماد زمانها و َق ْفره َ‬

‫وتزيــح عنهــا اليــأس والقنــوط‪ ،‬وتعود اآلمــال تحفزها‬ ‫للقيــام مــن جديــد‪ ،‬وألخــذ زمــام المبــادرة والعــودة‬

‫الستئناف حياة إيمانية جديدة ودورة حضارية جديدة‪.‬‬

‫فمن أجل انبعاث هذا األمل يكتب "كولن" ويكتب‬

‫"كتــاب حــراء"‪ ...‬فمــن أوجب ما أوجبــت "حراء"‬ ‫كلُّ َّ‬ ‫علــى نفســها‪ ،‬هــو ابتعــاث هذا األمــل‪ ...‬فكل ما ُينشــر‬

‫علــى صفحاتهــا إنمــا هو فــي المحصلــة النهائيــة بارق ُة‬ ‫أمــل‪ِ ،‬‬ ‫وه ّــزة انبعــاث‪ ،‬ورفــع لع َلم الرجــاء في حومات‬ ‫ٍ‬ ‫اليأس والقنوط‪.‬‬

‫وقد عقدت هذه األمة آمالها على شبابها الناهض‪،‬‬

‫ومع ذلك فهذه األجيال ماضية في طريقها‪ ،‬موفية‬

‫المفعــم الحيويــة‪ ،‬الطامــح إلــى العــاء‪ ،‬المتســامي‬

‫الجانحــة التــي ال تعرف التوقف أو النكوص‪ ،‬وماضية‬

‫حامــا رســالة اإليمــان‪ ،‬حامي حمــى الروح‪،‬‬ ‫األرض‪،‬‬ ‫ً‬

‫بعهدها الذي قطعته على نفسها‪،‬‬ ‫تركب َم ْتن اإلرادات‬ ‫ُ‬

‫فــي اســتنهاض العزائــم الفوالذيــة ‪-‬التي يليــن الفوالذ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )43‬‬

‫ذلــك‪ ،‬يقــول‪ :‬إن هذه األمة قد تســحقها اآلالم وتفريها‬

‫وهــي ال تليــن‪ -‬للوصول إلى مبتغاهم وتحقيق آمالهم‬ ‫ٍ‬ ‫إنسان أفضل وعا َل ٍم أطهر‪.‬‬ ‫في‬ ‫وأمتنــا اليــوم هــي حليفــة حــزن‪ ،‬وخدينــة آالم‪،‬‬

‫وصاحبــة فواجــع داميــة‪،‬‬ ‫ظن‬ ‫ٍ‬ ‫ومــآس ســاحقة‪ ،‬حتــى َل ُي ّ‬ ‫قدرها الالزب‬ ‫ّ‬ ‫أن هــذا الــذي هــو عليهــا اليوم إنما هــو َ‬ ‫بيــن أقــدار األمــم‪ ،‬وأنهــا لــن تســتطيع الخــاص منــه‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فــوق اآلالم‪ ،‬النــاذر نفســه لدينــه وإيمانــه‪ ،‬الضارب في‬ ‫والمبشر باألخالقية العالية‪ ،‬والناشر لقيم الحق والعدل‬

‫والجمــال‪ ،‬صاحــب الروحانيــة العاليــة‪ ،‬والعقالنيــة‬ ‫الراشدة‪ ،‬العامل بصمت‪ ،‬ال جعجعة له من غير طحن‪،‬‬

‫وال ثرثــرة مــن غيــر فكــر‪ ،‬ال يلغو وال يصخــب‪ ،‬بفارغ‬ ‫الــكالم ال يأبــه‪ ،‬أبجديتــه "ال قــول بال عمــل‪ ،‬وال عمل‬ ‫مــن غيــر هــدى"‪ .‬وهذا هو مــا تحتاجه األمــة في يومها‬

‫هذا العصيب‪.‬‬


‫‪43‬‬

‫مجلة علمية فكرية ثقافية‬

‫دورية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . co m‬‬

‫السنة التاسعة ‪( /‬يوليو ‪ -‬أغسطس) ‪2014‬‬

‫فجر األمل‬ ‫إذا الصحراء له ُبها اشت َّد‪ ،‬ورملها استعر؛‬ ‫ن َّثت القدر ُة نَدى الفج ِر‪..‬‬ ‫فالمس َ‬ ‫الروح ب َع َث ْت‪..‬‬ ‫الرمل‪ ،‬وبه َ‬ ‫َ‬ ‫بدت في الظاهر‬ ‫والحيا ُة وإنْ ْ‬ ‫بطيئة الحركة لِ َس ْطح ّيي ال َّن َظر‪..‬‬ ‫غير أنها للبصائر واضحة األثر‪..‬‬ ‫***‬

‫‪2‬‬

‫النفوس المكابدة‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫‪34‬‬

‫اإلسالم والمسألة األخالقية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي‬

‫‪60‬‬

‫فرسان "الخدمة"‬ ‫د‪ .‬فؤاد البنا‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.