إشراقة آية

Page 1

‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الكريم ّ‬ ‫بكار‬ ‫أ‪.‬د ‪.‬عبد الكريم ّ‬ ‫بكار‬

‫ال �أ�ستطيع �أن �أقول ‪� :‬إن ما كتبته يف هذا الكتاب هو من قبيل‬ ‫التف�سري �أو ال�شرح لبع�ض �آيات الذكر احلكيم‪ ،‬و�إمنا هو نوع من‬ ‫االنغما�س يف �ضيائه ونوع من احلوم حول حماه امل�صون‪ ،‬و�إننا‬ ‫�ستظل ننهل من فيو�ض القر�آن الكرمي‪ ،‬و�سنظل نقب�س من مفاهيمه‬ ‫و�إ�شاراته‪ ،‬كما �أنه �سيظل فيه ما ينقع الغلة ‪ ،‬وي�شفي ال�صدر‪ ،‬وينري‬ ‫الطريق ما تعاقب الليل والنهار‪ ،‬وال حاجر على ف�ضل اهلل وكرمه‪.‬‬ ‫�إنني حني �أتدبر �شيئاً من الكتاب العزيز �أ�شعر بدرجة عالية من الثقة‬ ‫علي �سوى �أن‬ ‫والطم�أنينة‪ ،‬و�أ�شعر �أنني �آوي �إىل ركن �شديد‪ ،‬ولي�س َّ‬ ‫�أم ِّتع القلب والوجدان ب�شالالت �أنواره املتدفقه ومعانيه ال�سامية‪...‬‬ ‫كلما ن�ضجنا �أكرث وعرفنا �أكرث وجدنا �أنف�سنا �أقدر على فهم القر�آن‬ ‫الكرمي واال�ستفادة من بركاته‬

‫مؤسسة اإلسالم اليوم ‪ /‬إدارة اإلنتاج والنرش‬ ‫اململكة العربية السعودية‬ ‫الرياض ص‪.‬ب‪ 28577 .‬الرمز ‪11447 :‬‬ ‫هاتف ‪ 012081920 :‬فاكس ‪012081902 :‬‬

‫للح�صول على هذا الكتاب ميكنكم‬ ‫التوا�صل عرب املوقع ‪:‬‬ ‫‪www.drbakkar.com‬‬

‫� ‪10/05/2010 12:26:09‬‬

‫في إشراقة آيه‬

‫واهلل ويل التوفيق‬ ‫د عبد الكرمي بكار‬

‫‪www.wojoooh.com‬‬

‫اململكة العربية السعودية ‪ -‬الرياض‬ ‫ت‪ 4918198 :‬فاكس‪ :‬حتويلة ‪108‬‬ ‫للتواصل والنرش‪:‬‬ ‫‪wojoooh@hotmail.com‬‬

‫‪���� �� ������ ���.indd 1‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬ ‫�أ‪.‬د عبد الكرمي بكار‬ ‫الطبعة الثانية‬ ‫جمادي الأوىل ‪ 1431‬هـ‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:05‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 3‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫م�ؤ�س�سة الإ�سالم اليوم‬ ‫�إدارة الإنتاج والن�شر‬ ‫اململكة العربية ال�سعودية الريا�ض‬ ‫�ص‪.‬ب‪ 28577 .‬الرمز‪11447 :‬‬ ‫هاتف‪012081920 :‬‬ ‫فاك�س‪012081902 :‬‬ ‫جدة‪:‬‬ ‫هاتف‪026751133 :‬‬ ‫هاتف‪026751144 :‬‬ ‫بريدة‪:‬‬ ‫هاتف‪063826466 :‬‬ ‫فاك�س‪063826053 :‬‬ ‫‪info@islamtoday.net‬‬ ‫‪www.islamtoday.net‬‬

‫التنفيذ الفني والن�شر والتوزيع‬

‫في إشراقة آية‬

‫‪www.wojoooh.com‬‬

‫�أ‪.‬د عبد الكرمي بكار‬

‫اململكة العربية السعودية ‪ -‬الرياض‬ ‫ت‪ 4918198 :‬فاكس‪ :‬حتويلة ‪108‬‬ ‫للتواصل والنرش‪:‬‬

‫الطبعة الثانية‬ ‫جمادى الأوىل ‪ 1431‬هـ‬ ‫جميع احلقوق حمفوظة‬

‫‪wojoooh@hotmail.com‬‬

‫‪4‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:05‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 4‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪5‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:05‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 5‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪6‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:05‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 6‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫مقدمة الطبعة الثانية‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه‬ ‫�أجمعني وبعد‪:‬‬ ‫فهذه هي الطبعة الثانية من كتاب (( يف �إ�شراقة �آية )) وقد �صدرت الطبعة‬ ‫الأوىل منه عام ‪ 1417‬هـ عن دار هجر يف �أبها ـ وكان هناك �أمل ب�أن تقوم الدار‬ ‫املذكورة بطباعته مرة �أخرى‪ ،‬لكن لظروف �صعبة �أغلقت الدار �أبوابها‪ ،‬وتوقفت عن‬ ‫الن�شر‪ ،‬ومن ثم فقد عزمت على �إعادة النظر فيما مت ن�شره‪ ،‬ورفده مبقاالت جديدة‪،‬‬ ‫بع�ضها ُن�شريف جملة البيان و(امل�سلمون) ال�صادرة يف لندن و جملة املعرفة ‪ ...‬وبع�ضها‬ ‫مل ي�سبق ن�شره من قبل ‪ .‬و�إذا عدنا �إىل الطبعة الأوىل‪ ،‬ف�سنجد �أنها ا�شتملت على‬ ‫(خم�س وع�شرين مقالة )‪� ،‬أما هذه الطبعة فقد ا�شتملت على ( �أربع وثالثني مقالة )‬ ‫يعب عن ر�ؤيته ونظرته للحياة والأ�شياء‪ ،‬ف�إين �أحب �أن �أكون‬ ‫ومبا �أن ما يكتبه الإن�سان رِّ‬ ‫�أميناً مع قرائي‪ ،‬ولهذا فقد تفح�صت هذه املقاالت مرة �أخرى لأرى مدى متثيلها‬ ‫لر�ؤيتي اليوم‪ ،‬وذلك لأن بني �أول مقال منها و�آخر مقال ما يزيد قلي ًال على ع�شرين‬ ‫‪7‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:05‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 7‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫عاماً‪ ،‬وهي مدة كافية لأن يح�صل لدى �أي كاتب الكثري من التجديد والتطوير يف‬ ‫مقوالته ور�ؤاه‪ ،‬و�إن يف �إمكاين �أن �أ�شري يف هذا ال�صدد �إىل ثالثة �أمور �أ�سا�سية ‪:‬‬ ‫‪1‬ـ وجدت �أن اخلطوط العري�ضة يف فكري مل تتغري‪ ،‬بل زادت ر�سوخاً‪ ،‬وزادت‬ ‫لدي على �صوابها ور�شدها‪ ،‬وهذا يف اجتهادي طبعاً ‪.‬‬ ‫الرباهني َّ‬ ‫وتلك اخلطوط تتمثل يف الرتكيز على التغيري ال�سلمي البعيد عن الق�سر والعنف‬ ‫والإكراه واملعتمد على املنطق والوعي واجلاذبية والإجناز وامل�شروعية ‪.‬‬ ‫وقد زاد يقيني خالل هذه املدة ب�أن م�شكلة امل�سلمني داخلية‪ ،‬وتلك امل�شكلة‬ ‫تتمثل يف �ضعف االلتزام و�ضعف الوعي و�ضعف التنظيم والفاعلية بالإ�ضافة �إىل‬ ‫انت�شار الف�ساد و�ضياع احلقوق‪.‬‬ ‫‪2‬ـ مل�ست يف املقاالت القدمية بع�ض الأمور التي ال متثِّل اليوم �أ�سلوبي وذوقي يف‬ ‫الكتابة ومنهجيتي يف معاجلة الأمور‪ ،‬ولعل منها ما يلي ‪:‬‬ ‫�أـ �أ�شعر �أنني كنت يف بع�ض الأحيان �أكرث حزماً وح�سماً يف الربط بني بع�ض‬ ‫الأ�سباب وامل�سببات‪ ،‬مما يجعلني �أظهر وك�أنني �صاحب تفكري حتمي �آيل‪ ،‬واليوم‬ ‫�أرى �أن الظواهر الكربى تت�أثر بعوامل كثرية‪ ،‬ونحن ال ندري بال�ضبط حجم ت�أثري‬ ‫كل عامل‪ ،‬وهذا يتطلب منا الت�سامح يف ربط املقدمات بالنتائج‪ ،‬وال�صريورة �إىل‬ ‫ا�ستخدام لغة �أكرث مرونة و�أرحب يف دالاللتها ‪.‬‬ ‫ب ـ وجدت يف مراجعتي �أنني م َّيال �إىل الت�شكيك فيما لدى الآخرين والتقليل‬ ‫من �ش�أنه‪ ،‬وهذا يجعلني �أبدو وك�أنني �أبخ�سهم �أ�شياءهم يف بع�ض الأحيان‪ ،‬وهذا‬ ‫ما ال �أراه اليوم‪ ،‬ف�أنا �أعتقد �أن جزءاً من حلول م�شكالتنا موجود لدى �أعدائنا‪ ،‬كما‬ ‫�أن بع�ض ما يخفف من م�شكالتهم موجود لدينا‪ ،‬وهذا ال يعني �أبداً �أنني ال �أدرك‬ ‫‪8‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:05‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 8‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫امل�سافات الثقافية الفا�صلة بيننا وبني الأمم وامللل الأخرى‪ ،‬كما ال يعني �أنني غافل‬ ‫عن الأذى الذي ي�س ِّببونه لنا ‪.‬‬ ‫جـ ـ الحظت �أنني رمبا �أكون �أ�سرفت يف �إطالق بع�ض العبارات الرنانة ان�سياقاً‬ ‫وراء فخامة الألفاظ �أو حدة املعاين‪ ،‬وهذا ما ال �أراه اليوم حيث �أعتقد �أن علينا �أن‬ ‫نكون �أكرث حر�صاً على الدقة و�أكرث حتفظاً يف ا�ستخدام التعبريات ذات الدالالت‬ ‫ال�ضخمة �أو العائمة ‪.‬‬ ‫د‪� -‬سيالحظ القارئ الكرمي وجود تكرار بع�ض الأفكار واال�ست�شهادات‪ ،‬وهذا‬ ‫ب�سبب تباعد تواريخ كتابة هذه الإ�شراقات‪ ،‬ف�أرجو املعذرة‪.‬‬ ‫‪3‬ـ �أود �أن �ألفت الأنظار �إىل �أنني وجدت بع�ض املقاالت املن�شورة على ال�شابكة‬ ‫( الإنرتنت ) حتت عنوان (يف �إ�شراقة �آية ) وتلك املقاالت ن�س َبها بع�ض النا�س �إ َّيل‪،‬‬ ‫وهي لي�ست مما كتبته‪ ،‬و�إن �أدنى نظر فيها يدل على �أنها ال تن�سجم مع منهجيتي كما‬ ‫�أن �أ�سلوبها مغاير لأ�سلوبي ‪.‬‬ ‫هذا و�إين لأ�س�أل اهلل ـ تعاىل ـ ب�أ�سمائه احل�سنى و�صفاته العليا �أن يتقبل هذا‬ ‫اجلهد‪ ،‬و�أن ينفع به �إخواين القراء‪� ،‬إنه ويل ذلك‪ ،‬والقادر عليه‪.‬‬ ‫و�صلى اهلل على عبده ونبيه حممد وعلى �آله و�صحبه و�سلم ‪.‬‬ ‫امل�ؤلف‬ ‫الريا�ض يف ‪ 1431 /4 /22‬هـ‬

‫‪9‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:05‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 9‬‬


�� ������ ���.indd 10

29/04/2010 11:09:05 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ‬ ‫ق�صة الب�شرية هي ق�صة البحث عن طريق ال�سعادة والأمن واال�ستقرار‪ ...‬وق�صة‬ ‫البحث عن الفهم والو�ضوح‪ ،‬وحماربة (العماء) و (الالتك ّون) لكن نتائج ذلك كثرياً‬ ‫ما تكون مو�ضوعاً حمزناً للقراءة!‬ ‫وهذه الآية املباركة تفتح �أعيننا على ال�سبب اجلوهري لذلك؛ �إنه بحث الب�شرية‬ ‫عن جناتها بعيداً عن هدي اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬وبعيداً عن �سبيله الذي َّ‬ ‫و�ضحه لعباده يف‬ ‫كتبه‪ ،‬وعلى ل�سان ر�سله و�أنبيائه ـ عليهم ال�صالة وال�سالم‪ -‬ولعلنا نقف مع هذه الآية‬ ‫الكرمية بع�ض الوقفات التي ن�ستجلي من خاللها َ‬ ‫بع�ض ما ت�ش ِّعه من معان ومفاهيم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وبع�ض ما ترتب على ا َحل ْيدة عن �سبيل اهلل من م� ٍآ�س ومهلكات‪ ،‬وذلك من خالل‬ ‫احلروف ال�صغرية الآتية‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرر هذه الآية املباركة �أن �سبيل الهداية هو ال�سبيل الوحيد الذي على الب�شرية‬ ‫�أن ت�سلكه‪ ،‬ويف حال تنكبه‪ ،‬فلي�س هناك �سبل �أخرى للنجاة والفوز والنجاح‪.‬‬ ‫ومعنى الآية‪� :‬أن من ي�ضلله اهلل فلي�س له طريق ي�صل به �إىل احلق يف الدنيا‪ ،‬و�إىل‬ ‫‪11‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 11‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫اجلنة يف الآخرة‪ ،‬لأنه قد ُ�س َّدت عليه �سبل النجاة‪� .‬إن ال�ضال يجد �سب ًال كثرية‪ ،‬لكنها‬ ‫جميعاً تو�صله �إىل غري ما ي�ؤ ِّمله‪ ،‬و�إىل غري ما يحقق من خالله ذاتيته ووجوده‪ ،‬وهذا‬ ‫هو الذي ُيفهم من قوله ‪َّ -‬‬ ‫جل وعال‪ :‬ﱹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ‬ ‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﱸ الأنعام‪.153 :‬‬ ‫ويف حديث ابن ماجه عن جابر ‪ -‬ر�ضى اهلل عنه ‪ -‬قال‪( :‬كنا عند النبي × فخط‬ ‫خطاً‪ ،‬وخط خطني عن ميينه‪ ،‬وخط خطني عن ي�ساره‪ ،‬ثم و�ضع يده يف اخلط الأو�سط‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫هذا �سبيل اهلل‪ ،‬ثم تال هذه الآية‪ :‬ﱹﭺ ﭻ ﭼ ﭽﱸ(‪.)1‬‬ ‫�إن هناك دائماً الكثري من �إمكانات احلركة‪ ،‬والكثري من اجتاهات ال�سري‪ ،‬لكن‬ ‫عدم وجود (الهداية) الربانية يجعل تلك الإمكانات وبا ًال على الب�شرية‪ ،‬وهذا هو‬ ‫احلا�صل الآن‪.‬‬ ‫‪ -2‬يلم�س كل من ُيعمل فكره يف واقع الب�شرية وجود مفارقة عجيبة بني ما تحُ رزه‬ ‫يف م�ضمار االكت�شاف والتقنية والتنظيم وال�سيطرة على البيئة‪ ،‬وبني ما حترزه من‬ ‫تقدم على ال�صعيد النف�سي واالجتماعي والأخالقي والإن�ساين ‪ -‬عامة ‪ -‬حيث �إن‬ ‫التقدم الرتاكمي املطرد على ال�صعيد الأول‪ ،‬ال يكاد يوازيه �سوى احلرية واالرتباك‪،‬‬ ‫وات�ساع اخلروق على ال�صعيد الثاين‪ ،‬وهذا مع �أن النا�س ي�ؤملون دائماً �أن ينعك�س‬ ‫توفر و�سائل الراحة والرفاهية على و�ضعهم الروحي والنف�سي واالجتماعي‪ ،‬لكن‬ ‫ذلك ‪ -‬مع الأ�سف ‪� -‬أمنية مل تتحقق!‬ ‫يف الغرب ت�سا�ؤالت كثرية اليوم عن �سبب هذه الظاهرة املزعجة‪ ،‬وتف�سريات‬ ‫يوجه من �إمكاناته وطاقاته البحثية ما يكفي ل�سرب‬ ‫عديدة لها‪ ،‬فمن قائل‪� :‬إن العامل مل ِّ‬ ‫‪� -1‬أحمد‪ ،‬ح ‪.14853 /‬‬ ‫‪12‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 12‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫غور الأبعاد الإن�سانية واالجتماعية املختلفة؛ وما ُبذِ ل من جهد يف هذه املجاالت �أقل‬ ‫بكثري مما بذل يف املجاالت الفلكية والطبية والفيزيائية والكيميائية‪ ،...‬ولذلك فالنتائج‬ ‫مل تكن غري متوقعة‪ ،‬ومن قائل‪� :‬إن امل�شكلة تعود �إىل طبيعة العلوم االجتماعية‪ ،‬فهي‬ ‫على درجة من الهالمية جتعلها تت�أبى على الت�شكيل‪ ،‬ومهما حاولنا تقنني �أ�ساليب‬ ‫التعامل معها‪ ،‬ف�إن النتائج التي ميكن �أن نتو�صل �إليها �ستظل ظنية واحتمالية‪ ،‬ومن‬ ‫املنهج املالئم لبحث ق�ضاياها وم�شكالتها‪ ،‬والأدوات املعرفية‬ ‫قائل‪� :‬إننا مل نكت�شف َب ُعد َ‬ ‫امل�ستخدمة الآن يف املجاالت االجتماعية �أكرثها م�ستعار من منهجيات البحث واملعاجلة‬ ‫يف املجاالت العلمية‪ ،‬ولذا‪ ،‬ف�إنها �ستظل حمدودة الفاعلية‪ ...‬وهكذا‪ ،‬فالتحليالت كثرية‪،‬‬ ‫لكن ال يبدو �أن هناك �سبي ًال للخروج من امل�أزق!‬ ‫وعندي �أن التقدم يف جماالت العلوم الطبيعية‪ ،‬يعود �إىل �أ�سباب عدة‪� ،‬أهمها‪:‬‬ ‫توفر الإطار الذي تتفاعل فيه اخلربات والإجنازات يف املجاالت املختلفة‪ ،‬مما يجعل‬ ‫التقدم الأفقي يف املجاالت العلمية املختلفة ي�ساعد على التقدم الر�أ�سي يف كل‬ ‫جمال على حدة‪ .‬وقد�أمكن التقدم يف بلورة هذا الإطار‪ ،‬ويف حتديد املبادئ الأ�سا�سية‬ ‫للعمل فيه ل�سببني �أ�سا�سيني‪:‬‬ ‫يعود الأول منهما �إىل �أن العلم حمدود الطموحات‪ ،‬وي�شتغل باجلزئيات؛ فكثافة‬ ‫�إجنازاته من توا�ضع طموحاته‪.‬‬ ‫ويعود الثاين �إىل �ضعف �صلته مب�سائل الوحي والروح واالعتقاد‪ ،‬فك�أن الإجناز فيه‬ ‫يف الأ�صل جزء من �سنة االبتالء يف هذه احلياة‪ ،‬والذي على النا�س �أن ي�ستخدموا‬ ‫فيه كل مواهبهم و�إمكاناتهم للنجاح‪� .‬أما يف جمال العلوم االجتماعية‪ ،‬فالأمر خمتلف‬ ‫متاماً‪ ،‬فمهما بذل النا�س من جهود‪ ،‬ومهما اكت�شفوا من مناهج‪ ،‬ف�إنهم لن ي�ستطيعوا ‪-‬‬ ‫‪13‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 13‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫مث ًال ‪ -‬حتديد الغاية النهائية للوجود‪ ،‬كما �أنهم لن ي�ستطيعوا توفري املقدمات الكافية‬ ‫لتحديد ما يحتاج �إليه العقل من م�سارات حتى يقوم ب�أعمال اال�ستنتاج والتوليد‪،‬‬ ‫كما �أنهم �سيجدون �أنف�سهم م�شتتني حيال تقومي التجارب الكلية‪.‬‬ ‫العقل الب�شري ‪ -‬على ما يتمتع به من طاقات هائلة ‪ -‬تظل وظيفته عند بحث‬ ‫الق�ضايا الكربى �أ�شبه بوظيفة (املدير التنفيذي) الذي يج ِّهز كل �أدوات الرحلة‬ ‫يحدد �أهدافها ووجهتها؛ فذاك من مهام (القائد) الذي يتج�سد‬ ‫وو�سائلها‪ ،‬لكنه ال ِّ‬ ‫هنا يف املنهج الرباين املع�صوم‪ .‬وممن انتهى �إىل هذه النتيجة (�أن�شتاين) وهو من �أكرب‬ ‫عباقرة القرن الع�شرين عندما قال‪�( :‬إن ح�ضارتنا متلك معدات كاملة‪ ،‬لكن الأهداف‬ ‫الكربى غام�ضة)‪.‬‬ ‫‪ -3‬حني �أعر�ض الغرب عن (�سبيل اهلل) �أخذ يبحث بجدية نادرة عن ال�سبيل‬ ‫البديلة التي ميكن �أن تو�صله �إىل كل �أمنياته‪ ،‬وحتقّق له كل رغباته‪ ،‬وقد كان (القرن‬ ‫التا�سع ع�شر) قرن التفا�ؤل الكبري؛ �إذ حقق العلم انت�صارات كبرية‪ ،‬واعتقد النا�س‬ ‫يف الغرب عندئذ �أن (العلم) �سيكون قادراً على حتقيق كل �شيء ِّ‬ ‫وحل كل مع�ضلة‪،‬‬ ‫و�سيطرت من ج َّراء ذلك النزعة الو�ضعية �أو العلمية املتطرفة التي اعتقد �أ�صحابها‬ ‫�أنهم قادرون على حل لغز الكون والإجابة على كل الأ�سئلة التي يطرحها الإن�سان‪،‬‬ ‫وامل�س�ألة م�س�ألة وقت لي�س �أكرث‪ .‬وانتهى بهم الأمر �إىل االعتقاد بالت�ضاد بني (العلم)‬ ‫و(الإميان) ف�إما �أن تكون عاملاً غري م�ؤمن‪� ،‬أو م�ؤمناً غري عامل!‬ ‫يف الن�صف الثاين من القرن الع�شرين ‪ -‬على نحو �أكرث و�ضوحاً ‪ -‬بد�أت النظرة‬ ‫تختلف(‪ ،)1‬حيث �شهد هذا القرن حربني عامليتني �إىل جانب �أكرث من‪ 130‬حرباً‬ ‫‪ -1‬انظر كتاب العلم والإميان يف الغرب احلديث‪ 7 ،6 :‬ت�أليف‪ :‬ها�شم �صالح‪� ،‬ضمن �سل�سلة كتاب (الريا�ض) عام‬ ‫‪14‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 14‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�صغرية‪ ،‬وحيث �صارت البيئة الطبيعية يف حالة يرثى لها‪ ،‬و�أخذت البنى االجتماعية‬ ‫املختلفة بالتداعي واالنهيار‪ ،‬وتبني ل�صفوة من علماء الغرب عظم اخلط�أ الذي ارتكبه‬ ‫الغربيون حني ردوا على انحرافات الكني�سة بالإحلاد وت�أليه (العلم)‪ ،‬كما تبني لهم �أن‬ ‫العلم �أعجز من �أن يدل على طريق النجاة‪ .‬يقول (بيري كاريل)(‪( :)1‬العلم يهدف �إىل‬ ‫متكيننا من معرف ٍة �أف�ضل بالعامل وعالقتنا به‪ ،‬كما �أن العلم ينري لنا الطريق يف �صدد‬ ‫ما ميكن فعله‪ ،‬وبخ�صو�ص الو�سائل والإمكانات املتاحة‪� ،‬أو الرهانات واملخاطر‪� .‬أما‬ ‫يقدم لنا الغاية من‬ ‫(الإميان) فيقول لنا ما ينبغي فعله لكي نعطي حلياتنا معنى‪� ،‬إنه ِّ‬ ‫الوجود والقيم و�أ�سباب الأمل والعمل)(‪.)2‬‬ ‫هذه الأفكار �صارت من جملة معتقدات بع�ض �صفوة العلماء واملفكرين يف‬ ‫الغرب‪ ،‬لكنها لي�ست يف واقع الأمر �سوى خطوات قليلة يف طريق طويل‪ ،‬والتخريب‬ ‫الذي �أحدثته (العلمانية) يف بنى احلياة الغربية على مدى ثالثة قرون �شديد االنت�شار‬ ‫والعمق؛ والأمل يف الإ�صالح على املدى املنظور �ضئيل للغاية!‬ ‫‪� -4‬إن �أمة الإ�سالم ما زالت تنعم ‪ -‬بف�ضل اهلل ‪ -‬بالهداية ومعرفة (�سبيل اهلل)‬ ‫وهذا ما يوفر للم�سلمني اليوم متيزاً‪ ،‬ال َي ْ�ش َركهم فيه �أحد‪ ،‬كما �أنه يخفِّف الكثري من‬ ‫لأواء احلياة وم�شاقها‪ .‬و�أكرب دليل على هذا عدم وجود ظاهرة (االنتحار) يف �أي‬ ‫جمتمع �إ�سالمي‪ ،‬على حني �أنها تنت�شر يف �أكرث دول العامل تقدماً ورفاهية‪ .‬لكن ال‬ ‫ينبغي لنا �أن نطمئن كثرياً �إىل ما نحن فيه‪ ،‬فهذا الفي�ض من الأفكار وال�صور والنظم‬ ‫والنماذج التي يبثها يف كل اجتاه �أكرث من خم�سمائة قمر �صناعي تدور حول الأر�ض‬ ‫‪1998‬م‪.‬‬ ‫‪� -1‬أ�ستاذ ف�سيولوجيا الأع�صاب وع�ضو �أكادميية العلوم منذ عام ‪ 1979‬م‪.‬‬ ‫‪ -2‬ال�سابق‪.63 :‬‬ ‫‪15‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 15‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�أربك (الوعي) لدى كثري من امل�سلمني‪ ،‬وبتنا نرى الكثري من الثقافات املحلية‬ ‫العميقة اجلذور �آخذ ًة يف التحلل والتفكك واالنكما�ش ل�صالح رموز احلداثة القادمة‬ ‫من الغرب‪ ،‬وهذا ُي ْفرِغ الكثري من الأطر والقوالب الإ�سالمية من م�ضامينها‪ ،‬و ُي ِ‬ ‫دخل‬ ‫جمتمعاتنا يف امتحان لي�ست م�ستعدة له!‬ ‫�إن الذي يقر�أ التاريخ ب�شفافية يجد �أن التقدم العمراين كثرياً ما يكون م�صحوباً‬ ‫بانخفا�ض يف وتائر التدين و�سو ّيات االلتزام‪ ،‬فالقرن الرابع الهجري ‪ -‬مث ًال ‪ -‬كان قمة‬ ‫يف التقدم العلمي والعمراين‪ ،‬لكن االلتزام بتعاليم ال�شريعة مل يكن كذلك‪ ،‬فقد‬ ‫كان يف القرون التي �سبقته �أف�ضل و�أر�سخ‪ .‬وهذا معنى حتذير النبي × لأمته من‬ ‫االنبهار واالفتتان بزخارف الدنيا‪ ،‬وخوفه من �أن تعجز عن �إقامة �أمر اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬يف‬ ‫ظروف الرخاء والرفاهية‪.‬‬ ‫�إن املنتجات التقنية ‪ -‬بالإ�ضافة �إىل هيمنة (نظام التجارة) ‪� -‬أخذت تعيد ت�شكيل‬ ‫حياتنا على نحو ال يعب�أ كثرياً مبقت�ضيات التدين احلق‪ ،‬و�صار من الواجب علينا �أن‬ ‫نتدبر �أمرنا‪ ،‬ونرفع درجة ح�سا�سيتنا للوافدات اجلديدة‪ ،‬و�إال فقد ن�ستيقظ بعد فوات‬ ‫الأوان‪� .‬إن على مثقفي الأمة ‪ -‬على اختالف تخ�ص�صاتهم ‪� -‬أن ينه�ضوا مب�س�ؤولياتهم‬ ‫والوفاء بالعهد امل�أخوذ عليهم يف هذا ال�ش�أن‪ ،‬فالثقافة لي�ست وجاهة فح�سب‪ ،‬و�إمنا‬ ‫ريادة وم�س�ؤولية يف �آن واحد‪.‬‬ ‫وهلل الأمر من قبل ومن بعد‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 16‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯓﯔﭶﭷ‬ ‫يقول اهلل ‪:‬‬

‫ﱹﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ‬

‫ﭻ ﭼ ﱸ احل�شر‪.9 :‬‬ ‫هذه �آية جليلة ال�ش�أن يف كتاب اهلل ـ تعاىل ـ وهي ت�ضع �أيدينا على حقيقة كربى‬ ‫من حقائق هذا الوجود‪ ،‬ومتنحنا ا�ستب�صاراً ب�ش�أننا العام‪ ،‬ال يليق بنا �أن نتجاوزه دون‬ ‫�أن ميلأ حياتنا مبعنى جديد!‬ ‫ولعلنا يف ال�صفحات التالية نقتب�س من نور هذه الآية‪:‬‬ ‫‪� -1‬إن ن�سيان اهلل ‪ -‬تعاىل‪ -‬يكون على م�ستويني‪ :‬م�ستوى �ضعف �صلة امل�سلم‬ ‫به‪ ،‬وتبلد �أحا�سي�سه وم�شاعره نحو خالقه ‪ ‬وم�ستوى الإعرا�ض عن هديه‬ ‫وا�ستدبار منهجه‪.‬‬ ‫حتث‬ ‫ويف �إطار امل�ستوى الأول جند �أن لدينا الكثري الكثري من الن�صو�ص التي ُّ‬ ‫امل�سلم على �أن يكون كثري الذكر واملراقبة هلل ـ تعاىل ـ حتى ي�صل �إىل مرحلة احلب له‬ ‫‪17‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 17‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وفرح الوعي به‪ ،‬واال�ستئنا�س بذكره‪ ،‬وقد قال �سبحانه‪ :‬ﱹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ‬ ‫ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﱸ الأحزاب‪ 42-41 :‬وقال‪ :‬ﱹﯪ ﯫ‬

‫ﯬ ﱸ العنكبوت‪.45 :‬‬

‫(‪)1‬‬

‫ويف احلديث ال�صحيح‪( :‬مثل الذي يذكر ربه‪ ،‬وال يذكره كمثل احلي وامليت)‬ ‫ولو رجعنا �إىل ما حثت عليه الن�صو�ص من الذكر‪ ،‬مما ي�سمى بعمل اليوم والليلة‪ ،‬لوجدنا‬ ‫�أن االلتزام بذلك يجعل امل�سلم ال يكاد ينفك عن ت�سبيح وحتميد وتهليل وا�ستغفار‬ ‫وت�ضرع ودعاء‪ ،‬ما دام م�ستيقظاً‪� .‬إن كرثة ذكر هلل تعاىل تو ّلد لدى امل�سلم احليا َء منه‬ ‫وحبه‪ ،‬وتن�شّ طه لل�سعي يف مر�ضاته‪ ،‬كما متلأ قلبه بالطم�أنينة والأمان وال�سعادة؛ ل َي ْن َع َم‬ ‫بكل ذلك يف �أجواء احلياة املادية ال�صاخبة‪.‬‬ ‫�إن الفكر ير�سم امل�سار‪ ،‬وير�شد �إىل الطريق الأ�صلح للحركة والعمل‪ ،‬لكنه ال‬ ‫يكون �أبداً منبعاً للطاقة والعزمية والإرادة ال�صلبة‪ ،‬و�إن ال�صلة باهلل ـ تعاىل ـ والتي هي‬ ‫لباب كل عبادة هي التي تمَ ُّدنا بكل ذلك‪ ،‬و�إن املعاناة التي ي�شعر بها امل�سلم اليوم من‬ ‫جراء االنف�صال بني قيمه و�سلوكه‪ ،‬مل تتجذر يف حياة كثري من امل�سلمني �إال ب�سبب‬ ‫ما ي�شعرون به من العجز عن االرتفاع �إىل �أفق املنهج الذي ي�ؤمنون به؛ وذلك العجز‬ ‫مل يرت�سخ‪ ،‬ويت�أ�صل �إال ب�سبب ن�ضوب ينابيع امل�شاعر الإميانية يف داخلنا!‬ ‫�إن تيار ال�شهوات واملغريات الذي يجتاج كل ما يجده �أمامه اليوم‪ ،‬ال يقا َوم‬ ‫يعب منه امل�سلمون ما ي�سمو بهم عن �أوحال امللذات‬ ‫�إال بتيار روحي فيا�ض‪ُّ ،‬‬ ‫واملتع الدنيوية‪ ،‬ويعو�ضهم عن ن�شوتها‪ .‬ولذا ف�إن (�أدب الوقت) يقت�ضي من‬ ‫‪� -1‬أخرجه البخاري‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 18‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫املربني والعلماء النا�صحني و�أهل الف�ضل التوجي َه �إىل �إثراء حياة ال�شباب والنا�شئة‬ ‫بالأعمال الروحية‪ ،‬وعلى ر�أ�سها الذكر‪ ،‬حتى ال يقعوا يف م�صيدة الن�سيان واللهو‬ ‫والإعرا�ض عن اهلل؛ تعاىل‪.‬‬ ‫�إن مما �صار �شائعاً �أن ترى بع�ض العاملني يف حقل الدعوة‪ ،‬وقد �شُ غلوا ب�ضروب‬ ‫من �أعمال اخلري‪ ،‬لكن اجلانب الروحي لديهم �صار ذاب ًال‪ ،‬و�أقرب �إىل اجلفاف ب�سبب‬ ‫�إفراغ طاقاتهم يف ال�سعي �إىل حتقيق �أهداف عامة‪ ،‬كنفع النا�س‪� ،‬أو الدعوة �إىل اهلل ‪-‬‬ ‫تعاىل‪ -‬دون �أن ي�ستح�ضروا النية‪ ،‬ودون �أن يطبعوا على ذلك ا�سم اهلل تعاىل ودون �أن‬ ‫يعطروه ب�شذى من ال�صلة به‪ ،‬والإح�سا�س العميق باالمتثال لأمره‪.‬‬ ‫وكانت نتيجة ذلك �أن فقدت تلك الأن�شطة نكهتها وت�أثريها‪ ،‬وق َُ�صرت عن بلوغ‬ ‫�أهدافها‪ ،‬بل �صار ت�سرب حظوظ النف�س �إليها �أمراً قريباً و وارداً‪� .‬إن البنية العميقة‬ ‫للثقافة الإ�سالمية متمحورة على نحو �أ�سا�سي حول تعظيم اهلل ومر�ضاته‪ ،‬و�إن امل�سلم‬ ‫�إذا فقد قوة ال�شعور باالرتباط بذلك‪ ،‬لن ي�سعى يف �إعمار الأر�ض‪ ،‬و�إذا فعل ذلك ف�إن‬ ‫عمله لن يكون له �أدنى متيز‪ ،‬و�سيتخبط‪ ،‬ويرتع كما يفعل غريه!‬ ‫‪ -2‬هناك م�ستوى �آخر من ن�سيان اهلل ـ جل �ش�أنه ـ يتمثل يف تخطيط �ش�ؤون احلياة‬ ‫بعيداً عن االهتداء بكلماته‪ ،‬والتقيد بالقيود التي فر�ضها على حركة عباده‪ .‬وهذا يف‬ ‫احلقيقة هو الن�سيان الأكرب‪ ،‬وعند تقليب النظر يف واقع �أمة الإ�سالم اليوم جند �أن‬ ‫ن�سبة حمدودة من املن�سوبني لهذه الأمة تلتزم على نحو كلي بفعل الواجبات‪ ،‬وترك‬ ‫املحرمات‪ .‬ومبا �أن الإح�صاء حول �أي �شيء لي�س مرغوباً فيه لدى جهات عديدة‪،‬‬ ‫ف�إننا ال نعرف‪ ،‬وال نحزر االجتاه الذي ت�سري فيه تلك الن�سبة املحدودة من امللتزمني‪:‬‬ ‫هل هو النمو‪� ،‬أو هو االنكما�ش واالنح�سار؛ لكن من الوا�ضح �أن العديد من القيم‬ ‫‪19‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 19‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫والأخالق الإ�سالمية العتيدة بد�أ يفقد الت�أثري يف �ضبط ال�سلوك‪ ،‬وتكوين املواقف‬ ‫لأ�سباب عديدة‪ ،‬لي�س هنا مو�ضع �شرحها‪ .‬وحني ت�سمع لكالم كثري من ذوي النفوذ‬ ‫والثقافة يف ال�ساحات الإ�سالمية ال جتد يف �أحاديثهم وخطابهم العام ما يدل يف‬ ‫ال�شكل �أو يف الروح على �أنهم على �شيء من ذكر اهلل والدار الآخرة‪� ،‬أو �أنهم مت�أثرون‬ ‫ب�شيء من منهجيات هذا الدين و�أدبياته‪ ،‬على الرغم من �أنهم ُيذ َكرون يف عداد‬ ‫امل�سلمني! و�إن مما يالحظ يف هذا ال�سياق �أن تطوراً ُمريعاً قد اجتاح لغة اخلطاب‬ ‫لدينا خالل ال�سنوات الع�شر املا�ضية‪ ،‬فقد كانت لدينا قيم مو�ضوعية ثابتة‪ ،‬على‬ ‫من ي�ستحق الثناء �أن يتخلق بها‪ ،‬وقد كان النا�س يقولون‪ :‬فالن طيب‪ ،‬ابن حالل‪،‬‬ ‫خلوق‪� ،‬صالح‪ ،‬م�ستقيم‪ ،‬تقي‪ ،‬متوا�ضع‪� ..‬أما اليوم ف�إن �ألفاظ املديح تتمحور حول عدد‬ ‫من املزايا ال�شخ�صية املرتكزة على مهارات معينة‪ ،‬وعلى عالقات اجتماعية وا�سعة‪،‬‬ ‫هي �أ�شبه مبا على (مندوبي املبيعات) �أن يتقنوه! و�صار يقال‪ :‬فالن ناجح‪� ،‬شاطر‪،‬‬ ‫اجتماعي (دبلوما�سي) َحرِك‪َ ،‬مرِن‪� ،‬أثبت ذاته‪ ،‬وحقق وجوده‪ ،‬ويف اعتقادي �أن‬ ‫مثل هذا التطور �سوف يجعل املجتمع ميوج بالل�صو�ص واملرت�شني واملحتالني ما دام‬ ‫النجاح‪ ،‬ال الفالح‪ ،‬هو ِّ‬ ‫نعد هذا من �أ�سو�أ ما‬ ‫املنظم اخلفي للرتاتيبية االجتماعية! وقد ُّ‬ ‫�شاهدناه من �أ�شكال التطور الأخالقي واالجتماعي والرتبوي‪ ،‬و�سوف تكون له �آثار‬ ‫بعيدة املدى يف البنية الأ�سا�سية لل�شخ�صية امل�سلمة على مدى عقود عديدة قادمة!‬ ‫‪� -3‬إن الآية الكرمية �صريحة يف �أن ن�سيان اهلل ‪ -‬تعاىل كان �سبباً مبا�شراً يف جعل‬ ‫املرء ين�سى نف�سه‪ ،‬وك�أن الذي ي�ض ّيع نف�سه يف عاجلها و�آجلها‪ ،‬ي�ض ّيع الدنيا فتلفه‬ ‫امل�شكالت من كل �صوب‪ ،‬وي�ض ِّيع الآخرة بخ�سران النجاة والفوز باجلنة‪.‬‬ ‫�إن ن�سيان النف�س لي�س على درجة واحدة‪ ،‬و�إن ال�ضرر الذي �سيلحق النا�س‬ ‫‪20‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 20‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�سيكون بالتايل متفاوتاً‪ ،‬وعلى مقدار الن�سيان والت�ضييع لأمر اهلل ـ تعاىل ـ �سيكون‬ ‫الت�ضييع للنف�س والدنيا والآخرة‪.‬‬ ‫�إن خ�سران الآخرة للذين ين�سون اهلل‪ ،‬وا�ضح املعامل‪ ،‬وي�ستوي يف معرفته العامة‬ ‫لدينا واخلا�صة‪ ،‬لكن الت�ضييع لأمر الدنيا هو الذي يحتاج �إىل نوع من البيان‪ ،‬ولعلنا‬ ‫جنلوه يف النقطتني التاليتني‪:‬‬ ‫ �إن ع�صر املعلومات الذي يظ ّلنا الآن �سيكون ‪ -‬واهلل �أعلم ‪� -‬أق�صر الع�صور‬‫احل�ضارية‪ ،‬و�سوف يعقبه ع�صر �آخر‪ ،‬هو ع�صر (الفل�سفة) وبحث امل�سائل الكلية‪،‬‬ ‫و�س ُتط َرح الأ�سئلة الكربى‪ :‬من �أين جئنا‪ ،‬وملاذا نحن هنا‪ ،‬و�إىل �أين امل�صري‪ ،‬ما حدود‬ ‫الطبيعة الب�شرية‪ ،‬وما ماهية اخلري وال�شر‪..‬؟ و�إمنا نقول ذلك؛ لأن قراءة التعاقبات‬ ‫التاريخية‪ ،‬تنبئنا �أنه حني ت�صل حالة ما �إىل حدود متقدمة‪ ،‬تبزغ من الطبيعة الب�شرية‬ ‫حالة م�ضادة لها؛ فحني ت�شتد العقالنية �أو التقن ّية يف �أمة‪ ،‬ف�إن �أ�شواقاً تنبعث لك�سرها‪،‬‬ ‫والفكري‪� ،‬إنه �أحد مظاهر ُ�س ّنة‬ ‫الفل�سفي‬ ‫التقني‬ ‫ين‬ ‫فينبثق من العقال ّ‬ ‫ّ‬ ‫العاطفي‪ ،‬ومن ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫التوازن التي بثها اخلالق ‪ ‬يف هذا الكون! ولذا ف�إن الهمج ّيني و�سوقة ال�سوقة‬ ‫وحدهم‪ ،‬هم الذين ال يت�ش ّوفون �إىل معرفة م�صريهم النهائي‪ ،‬و�إىل معرفة الغايات‬ ‫الكربى للوجود!‬ ‫حني ت�صري الب�شرية �إىل هذه املرحلة‪� ،‬سيكت�شف الذين ن�سوا اهلل‪� ،‬أنهم ال ميلكون‬ ‫�أي جواب جازم‪� ،‬أو ُم ْقنع على الأ�سئلة الكربى املثارة ب�إحلاح‪ ،‬بل �سيجد الغرب على‬ ‫عد امل�صدر الوحيد‬ ‫نحو خا�ص �أنه قد �أحرق كل �سفن العودة �إىل (الوحي) الذي ُي ُّ‬ ‫الذي يجيب على تلك الأ�سئلة‪.‬‬ ‫�إن كل �إ�صالح ل�ش�ؤون البيئة واالقت�صاد‪ ،‬و�إن �أي نوع من املحافظة على منجزات‬ ‫‪21‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 21‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الب�شرية‪� ،‬سيقت�ضي من اليوم ف�صاعداً تقدماً ملحوظاً على �صعيد (الإن�سان) وما‬ ‫مل يحدث هذا التقدم‪ ،‬ف�إن كل �شيء �سيكون يف مهب الريح! واملالحظ بقوة �أن‬ ‫احل�ضارة احلديثة ب�صبغتها املادية‪ ،‬قد نقلت جمال ال�سيطرة من الإن�سان �إىل الأ�شياء‪،‬‬ ‫حيث �أ�ضعفت �إرادة الب�شر‪ ،‬و�أحاطتها بكل ما يخل بتوازنها‪ ،‬وهذا يعني �أن احل�ضارة‬ ‫الغربية ببنيتها احلا�ضرة لي�ست م�ؤهلة للنهو�ض بالإن�سان‪� .‬إذا كنا نعتقد �أن الطبيعة‬ ‫الب�شرية واحدة‪ ،‬فهذا يعني �أن غايات وجودها يجب �أن تكون واحدة‪ ،‬وهذا هو منطوق‬ ‫الوحي‪ ،‬وهذا ما ال يب�صره الإن�سان العلماين اليوم! لن تكون الأ�سئلة املثارة �أ�صيلة‬ ‫�إال �إذا كان لها �أجوبة موجودة عند جه ٍة ما وهذه اجلهة لن تكون �أبداً الإن�سان‪ ،‬فمن‬ ‫تكون �إذن ؟‬ ‫�إن اهلل ـ تعاىل ـ خلق العقل الب�شري ليكون يف الأ�صل عق ًال عملياً‪ ،‬وهو يف عمله‬ ‫ي�شبه (احلا�سوب)‪ ،‬وهو كاحلا�سوب ال ي�ستطيع �إدخال حت�سينات جوهرية على املدخالت‬ ‫التي ُيغذى بها‪ ،‬و�سيكون الأمر م�ضحكاً �إذا عمدنا �إىل ت�شغيل العقل الب�شري وحت�سني‬ ‫طروحاته وعمله ب�شيء من منتجاته التي تولىّ تنظيمها الفال�سفة‪ ،‬وهم الذين مل يفلحوا‬ ‫يف االتفاق على �أي �شيء!‪� .‬إن كل �شيء اليوم يتقدم �إال الإن�سان ف�إنه يف تدهور م�ستمر‪،‬‬ ‫و�إن مما يثري ال َف َزع �أنه على مدار التاريخ كان التقدم املادي والعمراين م�شفوعاً بانخفا�ض‬ ‫يف وتائر التدين وال�سمات الإن�سانية الأ�صيلة‪ ،‬مما يدل على �أن الإن�سان ال ي�ستطيع �أن‬ ‫يوازن بني مطالبه الروحية واجل�سدية‪ ،‬دون عون من خالقه‪ ،‬ولكن امل�ؤ�سف مرة �أخرى‬ ‫�أننا ال نريد �أن نعرتف بذلك؛ لأن ذلك يقت�ضي منا تغيرياً هائ ًال‪ ،‬نحن غري م�ستعدين‬ ‫الآن لدفع تكاليفه! �إن ن�سيان اهلل ‪ -‬تعاىل‪ -‬قد �أف�سد الن�سيج الإن�ساين كله‪ ،‬وحني‬ ‫يف�سد الن�سيج العام‪ ،‬فلن يكون ثمة فائدة تذكر من وراء التعليم والتدريب والرتبية‪،‬‬ ‫‪22‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:06‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 22‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وكيف ميكن �إ�صالح خبز �أو كعك �أو فطري ف�سد طحينه ؟!‬ ‫�إن �ضعف الإن�سان على مدار التاريخ كان من عوامل ا�ستمرار بقائه‪� ،‬أما اليوم فقد‬ ‫اجتمع للب�شرية القوة الغا�شمة مع الطي�ش ال�شديد و�ضعف الوازع الداخلي‪ ،‬وهذا‬ ‫ما �سي�س ِّبب الكوارث ما مل يحدث انعطاف كبري يف اجتاه الر�شد‪ ،‬والهداية‪ ،‬والتدين‬ ‫املب�صر الأ�صيل‪.‬‬ ‫ب ‪� -‬إن املهمة الأ�سا�سية للر�سل ـ عليهم ال�سالم ـ �أن يب�صِّ روا النا�س مبا يجب‬ ‫عليهم جتاه خالقهم‪ ،‬و�أن ّ‬ ‫يذكروهم الدار الآخرة ومطالب الفوز فيها‪:‬ﱹﯜ ﯝ‬ ‫ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﱸ غافر‪.15 :‬‬ ‫ومهمة امل�صلحني �إذا ما �أرادوا اال�ستجابة لدعوتهم �أن ين�ضحوا من التعاليم‬ ‫الإ�سالمية �شيئاً ميزجونه باخليال اخل�صب واخلربة الب�شرية واملالحظات الذكية‪،‬‬ ‫من �أجل توفري الظروف التي جتعل النا�س �أقرب �إىل االلتزام‪ .‬و�إن هذه الدنيا دار‬ ‫ابتالء‪ ،‬ولذا ف�إن علينا دائماً �أن نختار ما ُي�صلح �أحوالنا‪ ،‬و�إن لكل ع�صر اختياراته‬ ‫واجتهاداته‪ .‬وامل�شكلة �أن الف�ضائل والقيم والنظم ال يتفق بع�ضها مع بع�ض اتفاقاً‬ ‫كلياً‪ ،‬بل �إن �إقامة كثري منها قد يتطلب الت�ضحية ببع�ضها الآخر‪� :‬إذا اخرتنا احلرية‬ ‫الفردية‪ ،‬فقد يقت�ضي ذلك الت�ضحية ب�شكل تنظيمي نحن يف �أم�س احلاجة �إليه‪ ،‬و�إذا‬ ‫اخرتنا العدالة‪ ،‬فقد ُنر َغم على الت�ضحية بالرحمة‪ ،‬و�إذا اخرتنا امل�ساواة‪ ،‬فقد ن�ضحي‬ ‫بقدر معني من احلرية الفردية‪..‬‬ ‫ومن وجه �آخر هل ي�صح �أن نعذب �أطفا ًال كي ننتزع منهم معلومات عن خونة �أو‬ ‫جمرمني خطرين ؟ وهل للمرء �أن يقاوم حاكماً ظاملاً‪ ،‬ولو �أدى ذلك �إىل مقتل والديه‬ ‫�أو �أطفاله ؟ كل هذا ال ي�ستطيع العقل �أن يعطي �أجوبة وا�ضحة‪ ،‬وقاطعة عنه‪ .‬وننتهي‬ ‫‪23‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 23‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫من هذا �إىل �أن كل جمتمع يحتاج �إىل مقدار ما من تلك الف�ضائل والنظم‪ ،‬كي يجعل‬ ‫حياته متوازنة ومت�سقة‪ ،‬فكيف يتم حتديد ذلك املقدار؟‬ ‫�إن املنهج الرباين ال يحدد لنا على نحو دقيق القدر املطلوب من التماثل‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وال القدر املطلوب من احلرية الفردية‪� ،‬أو العدل �أو الرحمة‪ ..‬لكنه‬ ‫ي�ض ِّيق دوائر االختيار‪ ،‬وم�ساحات البحث واالجتهاد؛ والفارق بني املهتدي بنور اهلل‬ ‫واملحروم منه كالفارق بني من يبحث عن �إبرة يف �صحراء‪ ،‬ومن يبحث عنها يف غرفة‪.‬‬ ‫على اجلميع �أن يبحث‪ ،‬ولكن حظوظ العثور على املطلوب متفاوتة تفاوتاً عظيماً‪ ،‬كما‬ ‫�أن �إمكانات الوقوع يف اخلط�أ‪ ،‬هي الأخرى متفاوتة كذلك‪� .‬إن العقل بطبيعة تركيبه‬ ‫ال ي�ستطيع �أن يعمل يف �أي جمال‪ :‬فل�سفي �أو تنظيمي �أو تقني �إال �إذا �أُ�س ِعف ب�إطار‬ ‫املدخالت ال�ضرورية‪ ،‬و�إن املنهج الرباين عقيد ًة‬ ‫توجيهي يهيئ له بع�ض املقدمات و َ‬ ‫و�شريع ًة هو الذي يوفر ذلك الإطار‪ .‬يف جمال الرتبية االجتماعية مث ًال جند �أن ال�شريعة‬ ‫حددت لنا حماور �أ�سا�سية‪ ،‬يجب �أن ترتكز عليها �أن�شطتنا الرتبوية‪ ،‬وهي ما‬ ‫الغراء َّ‬ ‫�سماه �أهل الأ�صول بالكليات �أو ال�ضرورات اخلم�س‪ ،‬وهي حفظ الدين والنف�س‬ ‫والعقل والعر�ض واملال‪ ،‬وقد تكفّل الفقه الإ�سالمي بتوفري الأحكام والأدبيات التي‬ ‫تر�سم حدود احلركة الرتبوية يف ظل هذه املحاور اخلم�سة‪ ،‬وتو�ضيح املرتبية التي يجب‬ ‫اتباعها عند �ضرورة الت�ضحية ببع�ضها حلفظ الآخر‪ ،‬على ما هو معروف يف كتب‬ ‫الأ�صول والفقه؛ فال�ش�أن الرتبوي لدينا على عالته �أف�ضل مما هو موجود لدى دول‬ ‫كثرية متقدمة عمرانياً؛ وذلك ب�سبب وجود هذا الإطار التوجيهي‪ ،‬وهذا كله مع �أن‬ ‫�أكرث ال�شعوب الإ�سالمية تعاين من �أو�ضاع معي�شية قا�سية‪ ،‬وال نن�سى �أن اجلرائم‬ ‫الأخالقية لدينا �أقل‪ ،‬والتما�سك الأُ ْ�سري واالجتماعي �أف�ضل‪.‬‬ ‫‪24‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 24‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫بعد‪ ،‬ولكن �إذا و�صل النمو‬ ‫�إن حمنة العقل الذي ن�سي اهلل مل يحن �أوانها ُ‬ ‫االقت�صادي �إىل حدوده الق�صوى‪ ،‬وانت�شرت البطالة‪ ،‬وعم �ضنك العي�ش‪ ،‬ف�سوف يرى‬ ‫كل املعر�ضني عن دين اهلل �أن الليربالية والر�أ�سمالية لي�ست �أف�ضل ما �أنتجه العقل‬ ‫الب�شري‪ ،‬و�أن اخلال�ص يتطلب مراجعة جذرية‪ ،‬من �أجل العودة �إىل �سبيل الر�شاد‪.‬‬ ‫الإجنازات احل�ضارية و�سعادة الأفراد‪ ،‬ووحدة الكيان احل�ضاري‪ ،‬كل ذلك �سيكون‬ ‫على حافة الهاوية �إذا مل ي�ضئ كل منعطفات الطريق �شعاع من الغاية الكربى‪ ،‬و�إذا‬ ‫مل تتلفع جميعاً بهدي من هدي اهلل؛ واهلل غالب على �أمره‪.‬‬

‫‪25‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 25‬‬


�� ������ ���.indd 26

29/04/2010 11:09:07 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮉﮊﮋ‬

‫يقول اهلل‬

‫‪:‬ﱹﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ‬

‫ﮕﮖﮗﮘﮙ ﮚﮛ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ‬

‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﱸ هود ‪.113-112‬‬ ‫ق�ضية اال�ستمرار يف االمتثال لأمر اهلل ـ تعاىل ـ يف املن�شط واملكره من الق�ضايا‬ ‫اجلوهرية يف الت�صور الإ�سالمي‪ ،‬ومن الق�ضايا اجلوهرية كذلك يف بنية الت�شريع و�أدبياته‪،‬‬ ‫ولي�س �أدل على ذلك من و�صية اهلل ـ تعاىل ـ لنبيه × يف هذه الآية ويف غريها بـ‬ ‫(اال�ستقامة)‪ ،‬التي هي‪( :‬املداومة على فعل ما ينبغي فعله‪ ،‬وترك ما ينبغي تركه)‪.‬‬ ‫وقد قام × ب�إ�سداء الن�صح بلزومها ملن �س�أله عن قولٍ ف�صل ُي�ص ِلح به جماع‬ ‫�أمره‪ ،‬حيث جاء يف ال�صحيح‪� :‬أن �سفيان بن عبد اهلل (ر�ضي اهلل عنه) قال‪ :‬قلت‪:‬‬ ‫(يا ر�سول اهلل‪ ،‬قل يل يف الإ�سالم قو ًال ال �أ�س�أل عنه �أحداً غريك‪ ،‬قال‪ :‬قل‪� :‬آمنت‬ ‫(‪.)1‬‬ ‫باهلل‪ ،‬ثم ا�ستقم)‬ ‫‪� -1‬أخرجه م�سلم‪.‬‬ ‫‪27‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 27‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ولنا مع هذه الآيات املباركة الوقفات التالية‪:‬‬ ‫‪� -1‬إن يف قوله ‪ ‬ﱹ ﮏ ﮐ ﱸ‪ ،‬وقوله‪:‬ﱹﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ‬ ‫ﮝ ﱸ �إ�شارة وا�ضحة �إىل ما يعرت�ض �سبيل اال�ستقامة من مالب�سات ال�س ّراء وال�ض ّراء‪،‬‬ ‫وقد �أخربنا ربنا ‪� ‬أن من طبيعة الب�سط والتمكن ا�ستدعا َء البغي والطغيان‪ ،‬حيث‬ ‫قال ‪� -‬سبحانه ‪ :-‬ﱹﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﱸ ال�شورى‪.27 :‬‬ ‫البغي هو جماوزة احلد‪ ،‬وهو يتج�سد يف �صور متعددة‪ :‬فبغي القوة‪:‬البط�ش‬ ‫بال�ضعفاء‪ ،‬وبغي اجلاه والنفوذ‪:‬الظلم و�أكل احلقوق‪ ،‬وبغي العلم‪ :‬اعتماد العامل على‬ ‫ما لديه من �شهرة ومكانة؛ مما يدفعه �إىل القول بغري دليل‪ ،‬ورد �أقوال املخالفني من غري‬ ‫حجة وال برهان‪ ،‬وطغيان املال‪ :‬التبذير والإ�سراف والتو�سع الزائد يف املتع واملرفهات‪.‬‬ ‫والعار�ض الثاين لال�ستقامة على خالف الأول‪ ،‬حيث تدفع الطموحات‬ ‫والتطلعات امل�صلحية وال�ضعف والظروف ال�صعبة �إىل م�صانعة الظاملني ومداهنتهم‬ ‫و�إ�شعارهم بالر�ضا عما هم فيه‪ ،‬واال�ستفادة من قوتهم وما لديهم من متاع يف حت�سني‬ ‫الأحوال وحتقيق املكا�سب‪ ...‬مع �أن طبيعة اال�ستقامة وااللتزام يف هذه احلال تقت�ضي‬ ‫املنا�صحة‪ ،‬والهجر‪ ،‬وال�ضغط الأدبي‪ ،‬والتحذير من التمادي يف ذلك‪ ،‬وهذا كله ٍ‬ ‫مناف‬ ‫للركون؛ لكن ال�شيطان يربهن دائماً على �أنه ميلك خربات مم َّيزة يف تزيني الباطل‬ ‫والتلبي�س على اخللق‪ ،‬فهو ُين�سيهم �أحكاماً ومواعظ و�أدبيات ومواقف وجتارب‪ ،‬ويدفع‬ ‫بهم بعيداً عن كل ذلك!‬ ‫‪� -2‬إن اال�ستقامة يف التحليل النهائي لي�ست �سوى متحور امل�سلم حول مبادئه‬ ‫ومعتقداته‪ ،‬مهما ك َّلف ذلك من َع َنت وم�شقة‪ ،‬ومهما ف َّوت من فر�ص ومكا�سب‪.‬‬ ‫وينبغي �أن يكون وا�ضحاً �أن املرء �إذا �أراد �أن يعي�ش وفق مبادئه‪ ،‬ورغب �إىل جانب‬ ‫‪28‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 28‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ذلك �أن يحقق م�صاحله �إىل احلد الأق�صى‪ ،‬ف�إنه بذلك يحاول اجلمع بني نقي�ضني‪،‬‬ ‫و�سيجد �أنه ال بد يف بع�ض املواطن من الت�ضحية ب�أحدهما حتى ي�ستقيم �أمر الآخر‪.‬‬ ‫عد انت�صاراً ل�شهوة �أو م�صلحة �آن ّية‪� ،‬أما‬ ‫�إن حتقيق امل�صلحة على ح�ساب املبد�أ ُي ُّ‬ ‫االنت�صار للمبد�أ على ح�ساب امل�صلحة ف�إنه مبثابة (الرتبع) على قمة من ال�شعور‬ ‫بال�سعادة والر�ضا والن�صر واحلكمة واالن�سجام والثقة بالنف�س‪ ،‬وقد �أثبتت املبادئ �أنها‬ ‫قادرة على �أن تكرر االنت�صار املرة تلو املرة‪ ،‬كما �أثبت اجلري خلف ال�شهوات دون‬ ‫يرتد على‬ ‫قيد وال رادع �أنه يحقق نوعاً من املتع واملكا�سب الآن ّية‪ ،‬لكنه ال يفت�أ �أن َّ‬ ‫�صاحبه بالتدمري الذاتي‪ ،‬حيث ينمو الظاهر على ح�ساب الباطن‪ ،‬ويت�أ ّلق ال�شكل‬ ‫على ح�ساب امل�ضمون!‬ ‫�إن املبد�أ �أ�شبه �شيء بـ (النظارة) �إذا و�ضعناها على �أعيننا‪ ،‬ف�إن كل �شيء يت ّلون‬ ‫بلونها‪ ،‬ف�صاحب املبد�أ له طريقته اخلا�صة يف الر�ؤية والإدراك والتقومي‪� ،‬إنه حني يرى‬ ‫النا�س يت�سابقون على اال�ستحواذ على من�صب ي�ستغرب من ذلك‪ ،‬ويرتفّع؛ لأن‬ ‫مبد�أه يقول له �شيئاً �آخر غري ما تقوله الغرائز للآخرين‪ ،‬و�إذا ر�أى النا�س يخبطون يف‬ ‫املال احلرام تقززت نف�سه؛ لأنه يعلم �ضخامة العقوبة التي تنتظر �أولئك‪ ،‬و�إذا �أ�صيب‬ ‫مب�صيبة ف�إنه يتجلد وي�صرب؛ لأنه يرجو عليها املثوبة من اهلل؛ تعاىل‪.‬‬ ‫�إذا ق ّلبنا النظر يف اهتمامات النا�س ومنا�شطهم اليومية‪ ،‬ف�إن من ال�سهل الوقوف‬ ‫على املحور الذي يع ِّلقون عليه توازنهم العام‪ ،‬ويدورون بالتايل يف فلكه‪ ،‬وهناك ت�شاهد‬ ‫هم ُه الأكرب النجاح يف عمله واملحافظة على �سمعته فيه‪ ،‬كما ت�شاهد من يتمحور‬ ‫من ُّ‬ ‫حول املتعة‪ ،‬فهو يبحث عنها يف كل نا ٍد وواد‪ ،‬ومن يتمحور حول املال‪ ،‬فهو يجوب‬ ‫العامل بحثاً عنه‪ ،‬ومن يبحث عن ال�سيطرة والنفوذ‪ ،‬فهو م�ستعد لأن يفعل �أي �شيء‬ ‫‪29‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 29‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫يف �سبيل التمكن والتحكم‪ ..‬وجتد ثلة قليلة بني هذا الطوفان من الب�شر ا�ستهدفت �أن‬ ‫حتيا هلل‪ ،‬و�أن تبحث عن ر�ضوانه‪ ،‬ومن ثم‪ :‬ف�إنه ميكن تف�سري كل �أن�شطتها ومقا�صدها‬ ‫النبي × �أن يف�صح عن حمورها‬ ‫يف �ضوء هذا املحور‪ ،‬وهذه الثلة هي التي �أُ ِمر ّ‬ ‫بو�صفه رائدها وهاديها‪ :‬ﱹﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬ ‫ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﱸ الأنعام‪.163 ،162 :‬‬ ‫�إن الذين يعلنون الوالء للمبادئ كثريون‪ ،‬بل هم ُج ُّل �أهل الأر�ض‪ ،‬ولكن ال‬ ‫برهان على ذلك لدى �أكرثهم‪ ،‬وميكن �أن يقال‪� :‬إن لأكرث النا�س دينني‪ :‬ديناً مع َلناً‬ ‫ودين املرء احلقيقي هو الذي يك ِّر�س حياته من �أجله‪.‬‬ ‫وديناً حقيق ّياً‪ُ ،‬‬ ‫�إن من طبيعة املبد�أ �أنه ميد من يتمحور حوله بقوى و�إمكانات خارقة وخارجة‬ ‫عن ر�صيده الفعلي‪ ،‬ولذا‪ :‬ف�إن الت�ضحيات اجلليلة ال ت�صدر �إال عن �أ�صحاب املبادئ‬ ‫وااللتزام‪ ،‬وهم �أنفع النا�س للنا�س؛ لأنهم يرثون احلياة دون �أن ي�سحبوا من ر�صيدها‬ ‫احليوي‪ ،‬حيث �إنهم ينتظرون املكاف�أة يف الآخرة‪.‬‬ ‫التمحور حول املبد�أ هو الذي مينح احلياة معنى‪ ،‬ويجعلها تختلف عن حياة‬ ‫ال�سوائم الذليلة التي حتيا من �أجل التكاثر وجمرد البقاء!‬ ‫املبد�أ هو الذي ُي�ضفي على ت�صرفاتنا االن�سجام واملنطقية‪ ،‬ويجعلها وا�ضحة مفهومة‪.‬‬ ‫نحن ال ننكر �أن الظروف ال�صعبة تُو ِهن من �سيطرة املبد�أ على ال�سلوك‪ ،‬لكن تلك الظروف‬ ‫هي التي متنحنا العالمة الفارقة بني �أنا�س ت�ش َّبعوا مببادئهم؛ حتى اختلطت بدمائهم‬ ‫وحلومهم‪ ،‬و�أنا�س ال متثل املبادئ بالن�سبة �إليهم �أكرث من تكميل �شكلي لب�شريتهم(‪.)1‬‬ ‫‪-1‬انظر يف ميزات التمحور حول املبد�أ‪ :‬العادات ال�سبع للقادة الإداريني‪� ،‬ص ‪.120‬‬ ‫‪30‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 30‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وال�سنن‬ ‫‪ -3‬ال مياري �أحد يف �أن الإن�سان اكت�شف يف الع�صر احلديث من الآيات ُّ‬ ‫ما مل يكت�شف ع�شر مع�شاره يف تاريخ الب�شرية الطويل‪ ،‬لكن مع هذا فعن�صر املخاطرة‬ ‫والإمكانات املفتوحة ما زال قائماً؛ حيث يتحكم يف الظاهرة الواحدة ع�شرات الألوف‬ ‫من العالقات التي ي�صعب معها التنب�ؤ بنتائج االجتهادات والأن�شطة املختلفة‪ ،‬وال‬ ‫�سيما يف الق�ضايا الكربى‪ ،‬كم�صائر الأمم واحل�ضارات‪ ،‬وق�ضايا التقدم والتخلف‪ ،‬وما‬ ‫تنطوي عليه من تفاعالت وتغريات‪ ،‬و�إن اهلل ‪ ‬قد �ضمن لنا نتائج اال�ستقامة يف‬ ‫الدنيا والآخرة‪ ،‬فهي بوجه من الوجوه وعلى نحو من الأنحاء ال تكون �إال خرياً‪ ،‬و�إال‬ ‫يف �صالح الإن�سان‪ ،‬وقد قال اهلل �سبحانه‪ :‬ﱹ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬ ‫ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﱸ الأعراف‪،128 :‬‬ ‫وقال‪ :‬ﱹ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﱸ طه‪ ،132 :‬وقال‪ :‬ﱹ ﭑ‬ ‫ﭒﭓﭔ ﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝﭞ‬

‫ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﱸ الأعراف‪.96 :‬‬ ‫�أما من ي�سلك دروب املعا�صي والفجور‪ ،‬ويتبع مغريات الأهواء وال�شهوات‪ ،‬ف�إنه‬ ‫يظل يتوج�س خيفة من �سوء العاقبة‪ ،‬لكنه ال يعرف �شكل العقوبة‪ ،‬وال طريقة نزولها‬ ‫وال توقيتها؛ وبهذا ي�صبح ال�شك والغمو�ض واخلوف َ‬ ‫عاجل جزائه‪ ،‬ومقدم ًة للبالء‬ ‫الذي ينتظره‪ ،‬ثم تكون اخليبة الكربى واخل�سارة العظمى!‬ ‫�إن هناك فرتة �سماحات تطول‪� ،‬أو تق�صر بني االنحراف وعواقبه‪ ،‬وهذا هو الذي‬ ‫جعل االبتالء تا ّماً‪ ،‬كما �أنه هو الذي ج ّر�أ �أهل املعا�صي على التماري يف غيهم‪ ،‬لكن‬ ‫العاقل احل�صيف ينظر دائماً �إىل الأمام‪ ،‬ويتح�س�س ما هو � ٍآت‪ ،‬وي�ضغط على واقعه من‬ ‫�أجل ال�سالمة يف م�ستقبله‪.‬‬ ‫‪31‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 31‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪ -4‬علينا �أن جنمع بني الن�صو�ص التي تدل على �ضرورة اال�ستقامة وااللتزام‬ ‫باملنهج الرباين‪ ،‬والن�صو�ص التي تفيد رفع احلرج والعنت عن هذه الأمة‪ ،‬من مثل‬ ‫قوله ‪ :‬ﱹﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﱸ احلج‪ ،78 :‬وقوله‪ :‬ﱹﯗ‬ ‫ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﱸ البقرة‪ ،286 :‬وقوله‪ :‬ﱹ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬ ‫ﯝ ﯞ ﱸ البقرة‪ ،185 :‬و�إذا فعلنا ذلك‪ ،‬ف�إننا �سنفهم من جمموعها �أمرين‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬هو �ضرورة تزويد امل�سلمني بثقافة �شرعية تت�ضح فيها حدود الواجبات‬ ‫واملباحات واملحظورات‪ ،‬مبا ِّ‬ ‫ي�شكل خارطة فكرية وا�ضحة ملا ينبغي �أن يكون عليه‬ ‫�سلوك امل�سلم وعالقاته‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬توفري الظروف وال�شروط املو�ضوعية التي جتعل التزام امل�سلم بدينه‬ ‫مي�سوراً‪ ،‬وبعيداً عن احلرج وامل�شقة التي ال تحُ تمل؛ �إذ �إنه ال يكفي �أن تكون التعاليم‬ ‫الإ�سالمية �ضمن الطوق‪ ،‬بل ال بد �إىل جانب ذلك من �أن تكون الظروف املعي�شية‬ ‫وم�شجعة على االلتزام‪� .‬إنه كلما تعقدت الظروف‬ ‫العامة التي يحيا فيها امل�سلم منا�سبة ِّ‬ ‫املطلوبة للعي�ش الكرمي ّقل عدد �أولئك الذين يت�صرفون �ضمن مبادئهم ويلتزمون حدود‬ ‫ال�شرع‪ ،‬فحني يكون املر َّتب ال�شهري للموظف غري ٍ‬ ‫كاف ل�سداد �أجرة البيت الذي‬ ‫ي�سكنه‪ ،‬ف�إن �شريحة كبرية من املوظفني �سوف تلج�أ �إىل طرق غري م�شروعة يف ت�أمني‬ ‫احتياجاتها اليومية‪ ،‬و�آنذاك �سي�شعرون �أن االلتزام التام ال يخلو من العنت‪ ،‬وحينئذ‬ ‫�سيكون عدد امللتزمني بالطرق ال�شرعية يف الك�سب حمدوداً‪.‬‬ ‫�إن احل�ضارة احلديثة �أ�ضعفت الإرادة مبا �أوجدته من �صنوف اللهو واملتع‪ ،‬وجعلت‬ ‫ال�شروط املطلوبة للحد الأدنى من العي�ش الكرمي فوق طاقة كثري من النا�س‪ ،‬كما �أنها‬ ‫�أوجدت من الطموح �إىل الكماليات و�أ�شكال املر ِّفهات ما يتجاوز بكثري الإمكانات‬ ‫‪32‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 32‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫املتاحة‪ ،‬وهذا كله جعل اال�ستقامة على ال�شرع احلنيف بحاجة �إىل منط راقٍ من‬ ‫الرجال‪ ،‬كما جعل من الواجب على الأمة �أن تفكر مل ّياً يف توفري ظروف ت�ساعد على‬ ‫اال�ستقامة‪ ،‬وحتفز عليها‪.‬‬ ‫�إن املنهجية الإ�سالمية تقوم دائماً على ما ميكن �أن ن�سِّ ميه بـ (احللول املركبة)؛‬ ‫�إذ �إن هناك من الن�صو�ص والأحكام ما يرفع الوترية الروحية للم�سلم‪ ،‬كما �أن هناك‬ ‫ما يزيد يف ب�صريته‪ ،‬وهناك ما يدعوه �إىل ال�صرب واجللد‪ ،‬وهناك ما يحفزه على حت�سني‬ ‫ظروف عي�شه و�أدائه‪ ،‬وال بد �أن مننح الفاعلية ِّ‬ ‫لكل ذلك حتى ميكن جت�سيد املنهج‬ ‫الرباين يف حياة النا�س‪� ،‬إن الفكر مهما كان قو ّياً‪ ،‬و�إن الوعي النقدي مهما كان‬ ‫عظيماً‪ ،‬ف�إن �سلوك النا�س لن يتغري كثرياً ما مل تن�ش�أ ظروف و�أو�ضاع جديدة حتملهم‬ ‫حم ًال على التحول �إىل �سلوك الطريق الأقوم والأر�شد‪.‬‬ ‫وي�ؤ�سفني القول‪� :‬إننا مل ن�ستطع �إىل الآن �أن نبلور نظرية �إ�صالحية �إ�سالمية‬ ‫معا�صرة ومتعمقة يف تلم�س �شروط اال�ستجابة لأمر اهلل والظروف ال�صحيحة واملثلى‬ ‫لها‪� ،‬إىل جانب تلم�س جممل احل�سا�سيات والرتابطات والتداعيات التي ت�شكل‬ ‫املناخ املطلوب لقيام حياة �إ�سالمية را�شدة!‪.‬‬ ‫�إن جل اهتمامنا ين�صب على بيان ما يجب عمله‪� ،‬أما الربامج والكيفيات‬ ‫والإجراءات والأطر وال�سيا�سات التي يجب اتباعها وت�أ�سي�سها من �أجل حتويل املبد�أ‬ ‫�إىل واقع معي�ش‪ ..‬ف�إنها ال تلقى ما ت�ستحقه من اهتمام ومتابعة‪ ،‬واخلربات لدينا يف‬ ‫ذلك ما زالت �ضئيلة‪ ،‬بل �إن هناك َمن ي�ستوح�ش من اخلو�ض يف غمار مثل هذا النوع‬ ‫عد التعمق يف ذلك �ضرباً من (اال�ستغراب) �أو اجلنوح نحو املادية!‪،‬‬ ‫من البحث‪ ،‬و َي ُّ‬ ‫ومن الدعاة من يدعي �أنه عارف بكل ذلك‪ ،‬لكن لو نظرت يف �إنتاجه املعريف مل تقف‬ ‫‪33‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 33‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫له يف هذه ال�سبيل على كتاب �أو ر�سالة‪ ،‬بل على خاطرة �أو فكرة‪.‬‬ ‫العر�س لوال النفقة)!‬ ‫(وما �أطيب َ‬ ‫وهلل الأمر من قبل ومن بعد‪.‬‬

‫‪34‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:07‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 34‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯻﯼﯽﯾﯿ‬ ‫ﰀ ﰁﰂ‬ ‫يف هذه الآية الكرمية �إخبار عن قاعدة من قواعد اخللق‪ ،‬ونامو�س من نوامي�س‬ ‫الوجود؛ وهي يف الوقت نف�سه‪ :‬دليل على �أن القر�آن من عند اللطيف اخلبري الذي‬ ‫�أحاط بكل �شيء علماً‪.‬‬ ‫�إن املعرفة والتقدم العلمي الذي كان متوفراً يف زمان النبي × ِّ‬ ‫الميكن على �أي‬ ‫نحو من الك�شف عن قاعدة (الزوجية) يف الوجود‪ ،‬بل �إن ما كان يف حوزة النا�س‬ ‫�آنذاك من ا�ستقراء واطالع مل يكن كافياً للك�شف عن ظاهرة (الزوجية) يف (الأحياء)‬ ‫ف�ض ًال عن ميادين الوجود املختلفة‪ ،‬و�إن الك�شوفات الكونية املت�سارعة؛ تمُ يط اللثام يف‬ ‫كل يوم عن �أ�شكال من التزاوج واالقرتان واالرتباط يف ميادين احلياة كافة‪ ،‬وعلى‬ ‫م�ستويات خمتلفة‪ ،‬ابتدا ًء بالذرة‪ ،‬وانتها ًء باملجرة؛ مما ُي�ضيف �شواهد جديدة على‬ ‫�صدق حممد ×‪.‬‬ ‫ولنا مع هذه الآية وقفات عدة‪ ،‬نو�ضحها يف احلروف ال�صغرية الآتية‪:‬‬ ‫‪� -1‬إن َف ْطر اهلل ‪ ‬للكون على املزاوجة دليل �إ�ضايف على املغايرة بني املخلوق‬ ‫‪35‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 35‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫واخلالق املتفرد يف ذاته و�صفاته و�أفعاله؛ حيث �إن ما يرت�سخ يف اخلربة الب�شرية على‬ ‫الدوام من �أن اخللق واحد‪ ،‬ويخ�ضع لقوانني واحدة‪ ،‬وحتكم حرك َته ومنوه وانهياره‬ ‫قواعد واحدة‪� ..‬إن كل ذلك يدل على وحدانية اخلالق (جل ثنا�ؤه) الذي �أوجد كل‬ ‫ُ‬ ‫ذلك التنظيم الدقيق املعجز‪.‬‬ ‫ويف ختم الآية بقوله ﱹ ﰀ ﰁ ﰂﱸ �إ�شارة وا�ضحة �إىل هذا املعنى‪ ،‬حيث‬ ‫يدرك النا�س تفرد اخلالق و�أَ َحديته من خالل ما ي�شاهدون من ظواهر تزاوج الأ�شياء‬ ‫وتركيبها‪ ،‬وارتباطاتها‪ ،‬وتوازناتها على نحو ي�ستحيل معه العبث‪ ،‬واالرجتال وامل�صادفة‪.‬‬ ‫وك�أن يف الآية بعد هذا وذاك �إيحا ًء �إىل �أهمية ا�ستثمار املعرفة ب�سنن اهلل يف اخللق يف‬ ‫غر�س الإميان وتقويته‪ ،‬واالرتقاء يف �إدراك واجبات العبودية و�آدابها‪.‬‬ ‫‪� -2‬إن ظاهرة الزوجية لي�ست دلي ًال على وحدانية اخلالق ‪ ‬فح�سب‪ ،‬و�إمنا‬ ‫هي دليل على نق�ص املخلوقات وافتقارها لغريها‪ ،‬حيث ال تتحدد معاين الأ�شياء‬ ‫وقيمها احلقيقية من خالل ذواتها‪ ،‬و�إمنا من خالل كونها �أجزا ًء يف تركيبات �أعم‪،‬‬ ‫ويف هذا ال�صدد ميكن القول‪� :‬إنه عند تدقيق النظر ال يخلو �شيء عن تركيب!‬ ‫لوال معرفة النا�س بالقبح ملا كان للجمال �أي معنى �أو قيمة �إ�ضافية؛ ولذا قالوا‪� :‬إن‬ ‫لل�شوهاء ف�ض ًال على احل�سناء؛ �إذ لوالها ملا ُعرف ف�ضل احل�سناء‪ .‬ما ف�ضل التنظيم‬ ‫لوال الفو�ضى‪ ،‬والذكاء لوال الغباء‪ ،‬والغنى لوال الفقر‪ ،‬والف�ضيلة لوال الرذيلة‪ ،‬والنهار‬ ‫لوال الليل‪ ،‬واحللو لوال املر‪� ...‬أ�شياء ال ح�صر لها‪ ،‬ال ت�ستمد قوامها من ذاتها‪ ،‬و�إمنا من‬ ‫خالل غريها! وهكذا فاخللق‪ ،‬وما َي َت َغ ّن ْونَ به من خ�صائ�ص فقراء فقراً مزدوجاً‪ ،‬فقراً‬ ‫�إىل اخلالق املوجد‪ ،‬وفقراً �إىل خملوق �آخر‪ ،‬يجعل له معنى!‬ ‫ومن وجه �آخر‪ :‬ف�إن طبيعة العالقة الزوجية متيل �إىل املرونة‪ ،‬وذات �أو�ساط‬ ‫‪36‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 36‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫متدرجة؛ فالغنى درجات‪ ،‬وكذلك الفقر‪ ،‬وقل نحو ذلك يف الذكاء والغباء‪ ،‬واجلمال‬ ‫والقبح‪ ،‬واال�ستقامة واالنحراف‪ ...‬حيث تالم�س �أدنى درجات الأول �أعلى درجات‬ ‫الثاين؛ مما ِّ‬ ‫ي�شكل مناطق برزخية مت�أرجحة‪ ،‬هذه الوظيفة للعالقات الزوجية تك�سر‬ ‫من حدة تفرد كل طرف‪ ،‬وجتعل اخل�صائ�ص الفائقة ن�سبية‪ ،‬فتتطامن‪ ،‬وجوانب‬ ‫النق�ص اعتبارية‪ ،‬فت�شمخ‪ ،‬وك�أنها بذلك تتهي�أ للتعاون واالندماج عو�ضاً عن التناف�س‬ ‫وال�صدام‪ ،‬وك�أن ذلك يوحي �إلينا ب�أهمية �إيجاد الأر�ضيات امل�شرتكة‪ ،‬والعدول عن‬ ‫النفخ يف اخل�صو�صيات االجتهادية الذي يحولها �إىل حواجز منيعة وقواطع حقيقية‬ ‫بني �أبناء التيار الواحد‪ ،‬والأمة الواحدة!‪ ،‬وهكذا ف�إذا كنا عاجزين عن �أن ن�ست�شف‬ ‫من الن�صو�ص ما ي�ساعدنا على �صياغة عالقات ومواقف جيدة ومنتجة‪ ..‬ف�إن علينا �أن‬ ‫نتعلم من �إيحاءات ال�سنن الكونية ما ُن�صلح به حياتنا االجتماعية‪ ،‬وعالقاتنا الأخوية؛‬ ‫حيث �إننا يف نهاية الأمر جزء من الظاهرة الكونية الكربى‪.‬‬ ‫‪ -3‬الإخ�صاب �أو�ضح نتائج التزاوج بني الأ�شياء‪ ،‬وهو �أو�ضح ما يكون يف التقاء‬ ‫الأزواج من الإن�سان واحليوان؛ فمن خالل لقاء الزوجني يتم حفظ النوع و�إغنا�ؤه‬ ‫بن�سل على درجة كبرية من التنوع والتعدد‪ ،‬وال ّ‬ ‫يقل الإخ�صاب يف الأ�شياء املعنوية‬ ‫واملادية عنه يف الكائنات احلية؛ فمن عنا�صر الأر�ض التي ال تزيد على املئة �إال قلي ًال‬ ‫يوجد بني �أيدي النا�س اليوم ما يزيد على مليونني من امل�صنوعات!‪ ،‬وعلى الرغم‬ ‫من �صرامة القوانني واخل�صائ�ص الكيميائية يوجد يف الأ�سواق ما يزيد على ثمانني‬ ‫�ألف نوع من املركبات الكيميائية‪ ،‬كما �أنه ُيط َرح منها يف الأ�سواق َّ‬ ‫كل عام �أك ُرث من‬ ‫�ألفي نوع جديد!‪.‬‬ ‫هذه اخل�صوبة الهائلة هي نتيجة مبا�شرة لألوان التزاوج التي تتم بني العنا�صر‬ ‫‪37‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 37‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫املختلفة‪ ،‬ومما ال ينبغي �أن يعزب عن البال �أن اللقاء ال�سعيد بني العنا�صر املختلفة‬ ‫يجب �أن يت�سم باملزيد من العناية والدقة والتجربة‪� ،‬إذا ما �أردنا �إجناباً وخ�صوبة على‬ ‫م�ستوى عالٍ من اجلودة؛ ولهذا ال�سبب �أخذ التقدم يف علوم الكيمياء يعتمد على‬ ‫الريا�ضيات �أكرث ف�أكرث‪ ،‬وقد كان من قبل يعتمد على التجربة‪ ،‬حيث متنح الريا�ضيات‬ ‫م�ستويات من الدقة‪ ،‬ال توفرها التجربة‪ ،‬وقد �أ�صبح من مقايي�س التقدم العلمي‬ ‫ال�شائعة‪ :‬قدرة دولة من الدول على �إنتاج (املواد اجلديدة) ذات املوا�صفات الفائقة‪،‬‬ ‫واملواد اجلديدة ال تتخلق �إال من خالل التزاوج بني عنا�صر مل ي�سبق لقا�ؤها على‬ ‫النحو اجلديد‪ ،‬وبالن�سب اجلديدة‪.‬‬ ‫اللقاء بني الأفكار والثقافات ال َي ِق ُّل خ�صوبة عن اللقاء بني العنا�صر الطبيعية‪ ،‬وهو‬ ‫ما�سة �إىل وعي وفطنة وحذق‪ ،‬حتى يكون منجباً‪ ،‬والقاعدة يف هذا‪� :‬أنه‬ ‫يحتاج حاجة ّ‬ ‫�إذا التقت فكرتان �ضمن �شروط �إيجابية‪ ،‬ف�إنه ينتج عن ذلك اللقاء فكرة ثالثة‪ ،‬هي‬ ‫�أرقى منهما جميعاً؛ حيث ت�ؤدي املزاوجة بينهما �إىل ن�ضج وتبلور كل منهما‪ ،‬وحيث‬ ‫يتخل�ص كل منهما من �أجزائه املعطوبة من خالل املقارنة ومنو الوعي النقدي‪ ،‬لكن‬ ‫ذلك ال يتم �إال �إذا ا ّت�سم حاملو الفكرتني بالكثري من املو�ضوعية وال�شفافية والهدوء‬ ‫واملرونة الذهنية والر�ؤية املركبة‪ ...‬ونحن نالحظ يف هذا ال�سياق �أن �أكرث من يذهب‬ ‫من �إخواننا للدرا�سة يف الغرب ينق�سمون �إىل فريقني‪:‬‬ ‫فريق ُيف َت نَت مبا يراه هناك من تنظيم وتقدم �صناعي ورعاية حلقوق الإن�سان‪ ،‬في�شغله‬ ‫ذلك عن �إدراك بذور االنهيار يف تلك املجتمعات‪ ،‬وجوانب التخلف فيها‪ ،‬وي�ؤدي‬ ‫ذلك به �إىل الزهادة فيما لديه‪ ،‬واال�ستحياء من طرحه على م�سامع القوم‪.‬‬ ‫ِداع من الكرب �أو اخلوف ينغلق على نف�سه‪ ،‬ويتتبع بجدية‬ ‫�أما الفريق الثاين‪ :‬ف�إنه ب ٍ‬ ‫‪38‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 38‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫نادرة كل اجلوانب ال�سلبية لديهم‪ ،‬لكنه يعجز عن تلم�س �أ�سرار النهو�ض واخليوط‬ ‫الدقيقة التي متد التقدم املادي الهائل الذي �أحرزوه باحليوية واال�ستمرار‪ ،‬ويعود‬ ‫هذا ال�صنف يف العادة ب ُن َتف من املعلومات واملقوالت واخلربات التي ال تتكاف�أ �أبداً‬ ‫مع اجلهد واملال اللذين ُبذال خالل �سنوات عدة‪ ،‬وال يالم�س هذا ال�صنف �أبداً‬ ‫�آفاق املنهجية الفكرية والتنظيمية والأخالقية والثقافية التي تقف خلف (احل�ضارة‬ ‫الغربية)‪ ،‬فك�أنه ما �سافر وال اطلع وال تعلم! �إن احتكاك الثقافات والأفكار واملناهج‬ ‫املختلفة قديكون عامل انح�سار وهدم ومتزيق‪ ،‬وقد يكون عامل �إثراء وت�صحيح وتطوير‪،‬‬ ‫واملهم يف ذلك �أبداً هو �شروط ذلك االحتكاك واخللفيات‪ ،‬والأ�س�س التي يقوم‬ ‫عليها‪� ..‬إن العزلة واالنغالق ال يكونان �أبداً خياراً جيداً �إال �إذا كانت �شروط التزاوج‬ ‫�سيئة وغري متكافئة‪ ،‬و�إذا ما ا�ستطعنا توفري ال�شروط اجليدة لذلك‪ ،‬ف�إن يف تالقح‬ ‫الأفكار والثقافات من عوامل التجديد والنفع والغنى ما ي�صعب التعبري عنه!‪.‬‬ ‫‪� -4‬إن قاعدة اللقاء يف ظاهرة الزوجية الكونية هي التخالف‪ ،‬ولي�ست التوافق‪،‬‬ ‫فاللقاء اخل�صب املنجب يجب �أن يتم بني متخالفني ومتباينني‪ ،‬ومن ثم ف�إن العالقة بني‬ ‫الرجل واملر�أة تقوم على التخالف‪ ،‬على امل�ستويات الع�ضوية والعقلية والنف�سية‪ ،‬وهذا‬ ‫التخالف هو ال�شرط الأ�سا�س لوجود ظاهرة (التكامل) والتعاون‪ ،‬حيث يظهر لكل‬ ‫واحد من الزوجني �أن كمال البنية امل�شرتكة بينهما ـ وهو الأ�سرة ـ ال ي�أتي من � ٍّأي‬ ‫منهما على انفراد‪ ،‬و�إمنا من خالل اللقاء الإيجابي بينهما‪ ،‬وتكميل �أحدهما للآخر‪.‬‬ ‫لي�س �إدراك التكامل يف ظاهرة الزوجية يف اخللق متي�س َر الإدراك واللم�س يف كل‬ ‫وقت؛ �إذ كثرياً ما تغلب علينا النظرة الأحادية‪ ،‬فنتعامل مع الأ�شياء على �أنها عنا�صر‬ ‫مفردة‪ ،‬ونغفل عن كونها عنا�صر يف تراكيب �أعم!‬ ‫‪39‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 39‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ولن�ضرب لذلك بع�ض الأمثلة‪:‬‬ ‫�أ ‪� -‬إن ت�ضخم اجلانب العاطفي لدى املر�أة على النحو املعروف ُينظر �إليه عادة‬ ‫على �أنه احللقة الأ�ضعف يف تركيبها النف�سي‪ ،‬كما �أننا ننظر النظرة نف�سها �إىل ما‬ ‫نح�سه من ت�ضخم (عقالنية) الرجل وبرودة عواطفه‪ ،‬ف�إذا نظرنا �إىل كل منهما على‬ ‫ّ‬ ‫�أنه طرف يف تركيب واحد هو الأ�سرة �أدركنا �أن ما خلناه نق�صاً هو يف احلقيقة مظهر‬ ‫كمال‪ ،‬وعامل توازن وان�سجام‪� ،‬إذ �إن طبيعة وظيفة املر�أة يف رعاية الأطفال ذوي‬ ‫ال�شفافية والرهافة العالية‪ ..‬تتطلب م�شاعر وعواطف كالتي عند املر�أة‪ ،‬وطبيعة وظيفة‬ ‫الرجل يف قيادة الأ�سرة‪ ،‬ومعاناة طلب الرزق‪ ،‬وخو�ض املواقف ال�صعبة‪ ..‬تتطلب‬ ‫من قوة ال�شكيمة ومتا�سك ال�شخ�صية كالذي جنده عند الرجل‪� ،‬إن دعاة حترير املر�أة‬ ‫مل ينظروا هذه النظرة‪ ،‬فدفعوها �إىل املطالبة بامل�ساواة مع الرجل‪ ،‬و�أدى ذلك �إىل‬ ‫الإخالل بالتوازن الأ�سري‪ ،‬وكرثت حوادث الطالق‪ُ ،‬وك ِّلفت املر�أة بالقيام ب�أعمال‬ ‫ال يتحملها تكوينها وال جملتها الع�صب ّية‪ ،‬والأخطر من ذلك انت�شار مظاهر ال�شذوذ‬ ‫وا�ستغناء الن�ساء بالن�ساء!‬ ‫ب‪� -‬إننا كثرياً ما ن�ص ِّور (القلق) على �أنه مر�ض نف�سي ‪ -‬وهو كذلك عندما‬ ‫يتجاوز حدوداً مع َّينة ‪ -‬لكن يختلف الأمر حني نتذكر �أن الطم�أنينة كثرياً ما تكون‬ ‫زائفة ومبنية على معطيات موهومة‪ ،‬وهي حينئذ تكون �أخطر من القلق و�أ�شد فتكاً‬ ‫بوجود الإن�سان‪ ،‬ولذا‪ :‬ف�إن بع�ض �صور القلق‪ ،‬وال �سيما (القلق املعريف) تكون �ضرورية‬ ‫لتوازن ال�شخ�صية وللوعي بامل�صري وتدارك الأخطار قبل فوات الأوان‪.‬‬ ‫ج‪� -‬إذا نظرنا نظرة �أحادية �إىل ثبات املبادئ والت�شبث ال�شديد بها‪ ،‬ف�سوف نراه‬ ‫جموداً وعائقاً يف �سبيل التطور‪ ،‬ورمبا دفع ذلك ببع�ض النا�س �إىل التفريط بها �أو �إىل‬ ‫‪40‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 40‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الثورة عليها‪ ،‬و�إذا نظرنا �إىل (التطور) على �أنه جمموعة من التغريات امل�ستقلة‪ ،‬ف�سوف‬ ‫نراه (تفلتاً) وطي�شاً وخيانة للأ�صالة‪ ...‬ولكن حني ن�سلك ك ًال من الثبات والتطور يف‬ ‫ظاهرة (الزوجية) الكونية‪ ،‬ف�سوف يتبني لنا �أن ثبات الأ�صول واملبادئ والنوامي�س‬ ‫لي�س جموداً وال عائقاً للتغري املطلوب‪ ،‬و�إمنا هو �سمة �أ�سا�سية لطبيعتها؛ �إذ ال ي�ستطيع‬ ‫املبد�أ �أداء وظيفته �إال من خالل ثبوته وا�ستمراره‪ ،‬كما �أننا �سنجد �أن جمود املبادئ‬ ‫�شرط �أ�سا�س جلعل التطور ذا معنى‪ ،‬ولإبقائه حتت ال�سيطرة‪ ،‬ويف االجتاه ال�صحيح‪.‬‬ ‫والتطور يف الأدوات والأ�ساليب واخلطط والأ�شكال لي�س تفلتاً‪ ،‬بل �إنه �ضروري‬ ‫للمحافظة على املبد�أ واجلوهر والهدف؛ �إذ �إن تعاقب الأيام والليايل يعطب بع�ض‬ ‫جوانب املناهج واخلطط والأ�شياء‪ ،‬ولي�س هناك ّ‬ ‫حل لذلك �سوى التخلي عن‬ ‫بنى ثبوتية يف �سياق‬ ‫الأجزاء املعطوبة‪ ،‬و�إحالل غريها حملها‪ ،‬و�إن حتويل الأ�شياء �إىل ً‬ ‫و�سط مائج بالتغري والتطور ال يعني �سوى الت�ضحية بالأ�صل والفرع‪ ،‬واجلوهر واملظهر‪،‬‬ ‫واملبد�أ والو�سيلة‪ ...‬وهكذا فما ُيظن نق�صاً يف بع�ض الأ�شياء يتحول �إىل �ضرب من‬ ‫�ضروب الكمال �إذا ما نظرنا �إليه على �أنه جزء من كل‪ ،‬وعن�صر يف تركيب �أ�شمل‪.‬‬ ‫‪َ -5‬خ َلق اهلل (جل ثنا�ؤه) الدنيا داراً لالبتالء‪ ،‬فوفَّر فيها َّ‬ ‫كل �شروط االبتالء‪،‬‬ ‫ومن ثم‪ :‬ف�إنه حيث يكون �أمام املرء جمال لالختيار‪ ،‬يكون يف احلقيقة منغم�ساً يف‬ ‫حالة ابتالء‪� ،‬سواء �أ�أخذ ب�أحد اخليارات‪� ،‬أو ظل عاط ًال عن اتخاذ قرار‪ ،‬وكثرياً ما‬ ‫تتيح ظاهرة (الزوجية) جماالت لالختيار واالبتالء‪ ،‬وكثرياً ما يجد الإن�سان نف�سه‬ ‫م�أموراً بالتوازن الدقيق يف التعامل مع الظواهر الزوجية؛ لأن الإخالل به يعني‬ ‫خروجاً عن املنهج الرباين‪ ،‬وقد يعني ظلماً للنف�س �أو تفويت م�صلحة كربى‪ ،‬وحتى‬ ‫يكون االبتالء تا ّماً‪ ،‬ف�إن اهلل ‪ ‬قد فطر الإن�سان على قابلية قوية لالجنذاب نحو‬ ‫‪41‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 41‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�أحد املتقابالت و�إهمال غريه؛ مما يجعلني �أذهب �إىل �أن الإخالل بالتوازن املطلوب‬ ‫يف هذه امل�س�ألة‪ ،‬يكاد يكون �أ�ص ًال! ومن هنا ف�إن املوقف ال�صحيح كثرياً ما يتطلب‬ ‫نوعاً عالياً من اليقظة الفكرية وال�شعورية و�إال فما �أ�سهل االجنراف �إىل طرف على‬ ‫ح�ساب طرف �آخر! عند تقليب النظر يف واقعنا التاريخي‪ ،‬وواقعنا املعي�ش‪ ،‬جند �أن‬ ‫عدم �إقامة التوازن بني الأ�شياء املتزاوجة كان �سبباً النحرافات كثرية‪� ،‬إذ كثرياً ما نرى‬ ‫جماعة تهتم بالفكر والتنظري ور�سم اخلطط والتحليل ال�سيا�سي‪ ،‬لكنها تهمل جانب‬ ‫الروح والأخالق وجانب ال�سلوك؛ مما جعلها فقرية يف جنود التنفيذ و�أرباب الهمم‬ ‫العالية‪ ،‬وجعلها بالتايل قليلة العطاء والت�ضحية!‪ ..‬وجند يف املقابل‪ :‬جماعات تركز‬ ‫على م�سائل �صفاء القلوب وح�سن ال�سلوك‪ ،‬لكنك ال جتد عندها �أدنى وعي ب�أدب‬ ‫الوقت ومتطلبات الع�صر‪ ،‬وقد يكون عدد �أتباعها ع�شرات الألوف‪ ،‬ثم �إنك ال تعرث‬ ‫فيهم على مفكر واحد مرموق!‪ ،‬وكثرياً ما يقودها ذلك �إىل �أن تكون �ألعوبة يف يد‬ ‫القوى املتنفذة‪ ،‬مما يدفعها �إىل حتفها وقد ي�صبح �ضررها �أعظم من نفعها!‪.‬‬ ‫يف املا�ضي البعيد قامت مزاوجة يف بنية الرتبية والتعليم بني علوم ال�شريعة‬ ‫والعلوم احلياتية والكونية‪ ،‬وقد �أجنب ذلك االقرتانُ ح�ضارة �إ�سالمية زاهية باهرة‪ ،‬ثم‬ ‫�أخذت علوم احلياة تن�سحب من املناهج وا ِحل َلق الدرا�سية �شيئاً ف�شيئاً‪ ،‬حتى جهلت‬ ‫الأمة �أبجديات املعرفة يف الطبيعة والكون وال�صناعة‪ ،‬وو�صلت �إىل احل�ضي�ض‪ ،‬واليوم‬ ‫ترتكب الأمة اخلط�أ نف�سه على نحو معكو�س‪ ،‬حيث َت َراجع ن�صيب العلوم ال�شرعية‬ ‫يف املناهج الدرا�سية يف �أكرث البلدان الإ�سالمية‪ ،‬كما تراجعت املفردات القيمية‬ ‫والأخالقية يف لغة الرتبية والإعالم‪ ،‬وكان ح�صاد ذلك‪� :‬أعداداً كبرية من الب�شر‬ ‫حتيط بالكثري من املعارف املختلفة‪ ،‬لكنها جتهل بدهيات و�أ�سا�سيات يف عباداتها‬ ‫‪42‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 42‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫كم هائل من املفردات التي حتث على الن�شاط والفاعلية‬ ‫ومعامالتها! و�صار لدينا اليوم ّ‬ ‫والنجاح والتنظيم وحيازة الرثوة وحتقيق الذات‪ ..‬على حني تنو�سيت املفردات التي‬ ‫تغر�س �أخالق ال�صالح واال�ستقامة والبعد عن احلرام‪ ،‬والإقبال على الآخرة‪ ..‬وال‬ ‫بد �أن النا�س بد�ؤوا ي�شعرون بعواقب هذا اخللل من خالل انت�شار الل�صو�صية ـ وهي‬ ‫�أ�صناف و�أ�شكال‪ -‬والر�شوة‪ ،‬وال�شره املادي‪ ،‬والأنانية‪ ،‬واالنغما�س يف ال�شهوات‪،‬‬ ‫وقطع الأرحام‪ ،‬ون�سيان اهلل والدار الآخرة‪.‬‬ ‫‪� -6‬إذا كانت (الزوجية) متثل قاعدة مهمة من قواعد خلق الوجود‪ ،‬ف�إن ذلك‬ ‫يعني �أن نن�سجم نحن مع تلك القاعدة‪ ،‬ونحاول �أن منتلك ر�ؤية ّ‬ ‫مركبة للأ�شياء‪ ،‬ما دام‬ ‫لي�س هناك �شيء ال ينتمي �إىل َّ‬ ‫مركب ما على وجه من الوجوه‪ ،‬وامتالك هذه الر�ؤية‬ ‫�سيكون �ضرور ّياً للمحافظة على توازننا العقلي والنف�سي‪ ،‬و�ضرور ّياً لو�ضع الأمور يف‬ ‫ن�صابها ال�صحيح‪ ،‬وعلى �سبيل املثال‪ :‬ف�إنه مهما بلغ �صالح الأفراد واجلماعات‪ ،‬فال‬ ‫ينبغي �أن نف�سِّ ر ما نراه من ت�صرفاتهم على �أ�سا�س املبادئ وحدها‪ ،‬فهناك مبادئ‪،‬‬ ‫وهناك م�صالح �أي�ضاً‪ ،‬ولي�س يف هذه الأر�ض من ي�ستطيع غ�ض الطرف عن م�صاحله‬ ‫على نحو كامل‪ ،‬ويف مقابل هذا‪ :‬ف�إن ال�سواد الأعظم يحاولون حتقيق م�صاحلهم يف‬ ‫�إطار املبادئ التي ي�ؤمنون بها‪ ،‬ما وجدوا �أن ذلك ممكن‪ ،‬ومبا �أن املبادئ وامل�صالح‬ ‫طرفان يف تركيب زوجي واحد‪ ،‬ف�إن احتمال جور الإن�سان على �أحدهما حل�ساب‬ ‫الآخر‪ ،‬يظل �أمراً وارداً‪ ،‬بل يكون يف كثري من الأحيان �أمراً ال مفر منه‪ ،‬ول�ست �أق�صد‬ ‫من وراء هذا �شيئاً �سوى اال�ستب�صار يف فهم �سلوك النا�س‪ ،‬وفهم خلفياته‪ ،‬وحماولة‬ ‫تف�سريه على �أنه يتم وفق موازنات‪ ،‬ويف �سياق �ضرورات وطموحات‪ ،‬وحتت �ضغوط‬ ‫و�أحياناً تهديدات‪ ،‬وهذا مهم يف االقتداء والإعذار و�أمور �أخرى‪..‬‬ ‫‪43‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 43‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الر�ؤية املركبة جتعلنا نب�صر الق�صور الذاتي �إىل جانب الت�آمر اخلارجي‪ ،‬و�إعطاء ٍّ‬ ‫كل‬ ‫منهما وزنه وت�أثريه احلقيقي‪ ،‬كما �أنها جتعلنا ن�شعر بنعمة الرخاء وفيو�ض النعم �إىل‬ ‫جانب الإح�سا�س باحل�ساب وال�س�ؤال عنها يوم القيامة‪ .‬بالر�ؤية املركبة ندرك ال�صرب‬ ‫وعواقبه‪ ،‬والظلم وم�آالته‪ ،‬وبذلك يتم لنا تو�سيع جمال الر�ؤية؛ لنقف على طريف‬ ‫املوازنة وعن�صري املزاوجة‪ ،‬وبذلك جن�سِّ ر العالقة بني الأطراف املتناف�سة واملتحالفة‪،‬‬ ‫ونحاول �أن نرى الأر�ضية امل�شرتكة التي جتمع بينها‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 44‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯩﯪﯫﯬﯭ‬ ‫ﯯ‬ ‫ﯮ ﯰ‬ ‫ﯱﯲﯳﯴﯵﯶ‬ ‫ت�شعر �أمة الإ�سالم اليوم بغربة حقيقية بني الأمم املعا�صرة‪ ،‬وجتد نف�سها فريدة‬ ‫ومتميزة على م�ستوى املبادئ واملفاهيم والأهداف؛ وهذا التميز والت�أبي على ال�سري‬ ‫يف ركاب القوى العظمى ج َّر عليها �ضغوطاً �أدبية ومادية‪ ،‬هي �أكرب بكثري مما نظن‪.‬‬ ‫�إن �أدبياتنا تع ِّلمنا �أن الأ�سلوب ال�صحيح يف مواجهة �ضغوط اخلارج‪ ،‬وحتدياته‬ ‫اليكمن يف الت�شاغل بالرد عليها؛ مما قد يجرنا �إىل معارك خا�سرة‪ ،‬و�إمنا يتمثل يف‬ ‫االنكفاء على الداخل بالإ�صالح والتنقية والتدعيم‪ ...‬وال ريب �أن ذلك �شاقٌ على‬ ‫والنحات يف �آن واحد!‬ ‫النف�س؛ لأن املرء �آنذاك ينقد نف�سه‪ ،‬ويجعل من ذاته احلجر ّ‬ ‫والآية الكرمية التي نحن ب�صددها َم ْعلم بارز يف الت�أ�صيل لهذا االنكفاء‪ ،‬ولعلنا‬ ‫نقتب�س من الدوران يف فلكها الأنوار التالية‪:‬‬ ‫يوجهنا نحو االنكفاء على الداخل يف مواجهة اخلارج‬ ‫‪� -1‬إن كثرياً من الن�صو�ص ِّ‬ ‫بالنقد والإ�صالح والتقومي والتح�سني‪ ،‬و�إن املتتبع للمنهج القر�آين يف َق�صِّ ه �أحوال الأمم‬ ‫ال�سابقة يجد �أن ما ذكره القر�آن الكرمي من �أ�سباب انقرا�ضها واندثار ح�ضاراتها ال يعود‬ ‫‪45‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 45‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�أبداً �إىل ق�صور عمراين‪� ،‬أو �سوء يف �إدارة املوارد وا�ستغاللها؛ و�إمنا يعود �إىل ق�صور داخلي‪،‬‬ ‫يتمثل يف الإعرا�ض عن منهج اهلل ‪ ‬وا�ستدبار ر�ساالت الأنبياء (عليهم ال�صالة‬ ‫وال�سالم)‪ ،‬وهذه احلقيقة بارزة يف جميع �أخبار الأمم ال�سابقة؛ وذلك حتى يت�أ�صل يف‬ ‫ح�س القارئ للكتاب العزيز �إعطاء الأولوية ل�صواب املنهج قبل �أي �شيء �آخر‪ ،‬وحني‬ ‫ِّ‬ ‫ح ّلت الهزمية بامل�سلمني يف �أحد‪ ،‬وقال بع�ض ال�صحابة (ر�ضوان اهلل عليهم)‪ :‬كيف‬ ‫نُه َزم ونحن جند اهلل؟! جاء اجلواب‪ :‬ﱹ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﱸ �آل عمران‪ 165 :‬فالهزمية‬ ‫وقعت ب�سبب خلل داخلي‪ ،‬ولي�س ب�سبب �شرا�سة الأعداء‪ ،‬وكرثة عددهم وعتادهم؛‬ ‫�إذ ال ينبغي ت�ضخيم العدو �إىل احلد الذي يجعل ت�صور هزميته �شيئاً بعيداً؛ فالعدو َب�شَ ر‬ ‫له �أحا�سي�سه‪ ،‬وله موازناته وم�شكالته‪ ،‬وبالتايل �إمكاناته �أي�ضاً‪ ،‬ويف هذا يقول �سبحانه‪:‬‬ ‫ﱹ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ‬

‫ﯣ ﯤ ﯥﱸ الن�ساء‪.104 :‬‬ ‫‪ -2‬ترمي الآية الكرمية �إىل تدعيم (الذاتي) يف مقابل (املو�ضوعي)؛ �إذ تع ِّلم‬ ‫امل�سلم �أنه �إذا �ساءت الظروف ف�إن عليه �أن ُيح�سِّ ن من ذاته؛ لأن من املعروف �أنه‬ ‫حني ت�سوء الظروف‪ ،‬ف�إن الغالب �أن ي�سوء الإن�سان نف�سه‪ ،‬ولذلك ف�إنه يحدث يف‬ ‫حاالت الفقر ال�شديد نوع من التحلل اخللقي من نحو‪ :‬ال�سرقة والر�شوة و�س�ؤال‬ ‫النا�س والذل والتحايل والغ�ش والبخل وقطيعة الرحم‪ ...‬واملطلوب من امل�سلم‬ ‫�آنذاك‪� :‬أن يقف (وقفة رجل) في�ضغط على نف�سه‪ ،‬وي�ضبط �سلوكه و ُيلغي �أوي�ؤجل‬ ‫بع�ض رغائبه‪ ،‬ويقت�صد يف نفقاته‪ ،‬حتى متر العا�صفة‪ ،‬وينتهي الظرف اال�ستثنائي‪ ،‬ومن‬ ‫الن�صو�ص الوا�ضحة يف تدعيم ال�شخ�صية عند �صعوبة الظروف قوله ×‪(( :‬يا مع�شر‬ ‫ال�شباب‪ :‬من ا�ستطاع منكم الباءة‪ ،‬فليتزوج؛ ف�إنه �أغ�ض للب�صر و�أح�صن للفرج‪ ،‬ومن‬ ‫‪46‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:08‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 46‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫مل ي�ستطع فعليه بال�صوم ف�إنه له وجاء))(‪.)1‬‬ ‫مل نكن على مدار التاريخ منتلك الوعي الكايف بهذه احلقيقة‪ ،‬فبدل �أن نلج�أ �إىل‬ ‫الرتبية والتوجيه والتعا�ضد والرتاحم‪ ،‬واكت�ساب عادات جديدة‪ ،‬واقتالع امل�شكالت‬ ‫من جذورها‪ ..‬كنا نواجه التف�سخ االجتماعي واالنحراف ال�سلوكي ب�أمرين‪ :‬القوة‪،‬‬ ‫ومزيد من القوانني‪ ،‬حيث كانا �أقرب الأ�شياء �إلينا تناو ًال‪ ،‬و�أقلها تكلفة ح�سب ما يبدو؛‬ ‫وقد رّعب عمر بن عبد العزيز (رحمه اهلل) عن هذه احلقيقة حيث قال‪( :‬يحدث للنا�س‬ ‫من الأق�ضية على مقدار ما ُيحدثون من الفجور)‪ ،‬ونحن نقول‪� :‬إن �شيئاً من التو�سع يف‬ ‫الأنظمة والت�شريعات الرادعة يحدث عند جميع الأمم‪ ،‬حني يقع تهديد خطري لأمن‬ ‫النا�س وحقوقهم‪ ،‬لكن اجلزاءات والعقوبات هي �أ�شبه �شيء بالتداخل اجلراحي يف‬ ‫العالج الطبي‪ ،‬فهو �آخر احللول‪ ،‬وعند اللجوء �إليه ينبغي �أن يتم يف �أ�ضيق احلدود‪.‬‬ ‫دت ملن فاتتهم التن�شئة االجتماعية القومية؛‬ ‫�إن العقوبات الرادعة �إمنا ُوجِ ْ‬ ‫والعقوبات ال تن�شئ جمتمعاً لكنها حتميه‪ .‬وهذه ر�ؤية �إ�سالمية جلية‪ ،‬ف�آيات‬ ‫الأحكام ـ والعقوبات جزء منها ـ ال ت�شكل �أكرث من ُع ْ�شر �آيات القر�آن الكرمي‪� ،‬أما‬ ‫الباقي فكان ي�ستهدف البناء الإيجابي للإن�سان من الداخل‪� .‬إن التجربة ع َّلمتنا �أن‬ ‫كرثة القوانني وتعقيدها ت�صب دائماً يف م�صلحة الأقوياء‪ ،‬وتزيد يف قيود ال�ضعفاء!‪،‬‬ ‫و�إن البط�ش ال يحل امل�شكالت‪ ،‬لكن ي�ؤجلها‪ ،‬فيكون حال املجتمع كمن ي�أكل عن‬ ‫الدين‪ ،‬فهو ينتقل من �س ِّيئ �إىل �أ�سو�أ!‬ ‫طريق َّ‬ ‫�إن الدولة الفا�ضلة هي التي تدير جمتمعها ب�أقل قدر ممكن من العنف وا�ستخدام‬ ‫‪�-1‬أخرجه البخاري يف كتاب النكاح‪.‬‬ ‫‪47‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 47‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫القوة؛ لأنها ِّ‬ ‫ترتكز �أ�سا�ساً على ا�ستخدام الأ�ساليب والأدوات ال�سلمية يف ال�ضبط‬ ‫والإدارة‪� .‬إن الآية الكرمية تع ِّلمنا مرة �أخرى‪� :‬أن الن�صر اخلا�ص ي�سبق الن�صر العام‪،‬‬ ‫و�أن الأمة املنت�صرة على �أعدائها هي �أمة حققت ن�صراً داخل ّياً �أو ًال‪ ،‬وحقَّق كثري من‬ ‫خا�صاً على �صعيده ال�شخ�صي قبل كل ذلك‪.‬‬ ‫�أفرادها ن�صراً ّ‬ ‫‪ -3‬ال ينبغي لنا �أن نفهم ّن�صاً من الن�صو�ص مبعزل عن املنظومة التي ينتمي �إليها‪،‬‬ ‫ويعالج معها م�شكلة واحدة؛ والن�ص الكرمي هنا يوجهنا �إىل �أمرين‪ :‬ال�صرب‪ ،‬والتقوى‪.‬‬ ‫ويعني ال�صرب‪ :‬احتمال امل�شاق والدميومة يف ت�أدية التكاليف الربانية‪ ،‬مهما كانت‬ ‫الظروف قا�سية؛ لأن ذلك ن�صف الن�صر‪� ،‬إذ �إن ن�صف الفوز ي�أتي من جهودنا‪ ،‬وقبله‬ ‫من توفيق اهلل (تعاىل) لنا‪ ،‬والن�صف الثاين ي�أتي من �أخطاء �أعدائنا‪� .‬إن ال�صرب ال‬ ‫يعني اال�ست�سالم للأحوال ال�سيئة ـ كما هو مفهوم العوام ـ لكنه يعني عدم اللجوء‬ ‫�إىل احللول ال�سريعة‪ ،‬وقد جرت العادة �أن النا�س حني يرون �إن�ساناً متفوقاً يطلبون‬ ‫منه حلو ًال �سريعة مل�شكالتهم املتخمرة واملت�أ�سنة؛ واحللول ال�سريعة تف�ضي يف كثري‬ ‫من الأحيان �إىل الي�أ�س والإحباط‪� ،‬أو �إىل االندفاع والتهور؛ مما يعقِّد امل�شكلة �أكرث مما‬ ‫يحلها!‪� ،‬إن من املهم �أن ندرك �أن ثمة �أو�ضاعاً كثرية ال ن�ستطيع �أن نفعل حيالها الآن‬ ‫�شيئاً‪ ،‬لكن �إذا قلنا‪ :‬ماذا ن�ستطيع �أن نفعل جتاهها خالل ع�شرين عاماً‪ ،‬ف�سوف نرى‬ ‫جداً‪ ،‬فك�أن ال�صرب ا�ستخدام للوقت يف اخلال�ص‬ ‫�أننا ن�ستطيع �أن نفعل �أ�شياء كثرية ّ‬ ‫من �أو�ضاع ال ن�ستطيع الآن �أن ننجح يف اخلال�ص منها‪.‬‬ ‫حقيق ُة �ضرورة اقرتان ال�صرب بالعمل واحلركة للخال�ص من الأو�ضاع ال�صعبة حقيقة‬ ‫قر�آنية المعة‪ ،‬نطق بها الكثري من الآيات القر�آنية‪ ،‬مثل قوله (�سبحانه)‪ :‬ﱹﯚ ﯛ‬

‫ﯜ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯥﯦﯧ‬ ‫‪48‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 48‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﱸ النحل‪ ،110:‬وقوله (�سبحانه)‪:‬‬ ‫ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﱸ البقرة‪ ،153 :‬وقوله تعاىل‪ :‬ﱹ ﰌ ﰍ‬ ‫ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﱸالإن�سان‪� ،24 :‬إن احتمال املعاناة دون حركة للخال�ص‬ ‫من م�س ِّبباتها قد يكون �ضرباً من الي�أ�س واال�ست�سالم‪ ،‬وقد يكون �ضرباً من العجز �أو ق َِ�صر‬ ‫النظر �أو �ضيق الأفق‪ ...‬وهذا ما ال ير�ضاه اهلل ‪ ‬لعباده امل�ؤمنني‪.‬‬ ‫�أما التقوى فتعني هنا ب�صورة �أ�سا�سية‪ :‬نوعاً من احل�صانة الداخلية من الت�أثر بالظروف‬ ‫ال�سيئة املحيطة؛ �إذ �إن الهزائم الع�سكرية والظروف االجتماعية واالقت�صادية القا�سية‪..‬‬ ‫كل ذلك حمدود ال�ضرر ما مل ي�ؤثر يف املبادئ والأخالق والنفو�س وال�سلوك‪ ،‬بل �إنها‬ ‫ت�ص ِّلب روح املقاومة‪ ،‬و ُتك�سب اخلربة‪ ،‬وتك�شف عن الأجزاء الرخوة يف البناء الداخلي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وحتطم هيبة العدو يف النفو�س‪ ،‬وقد م ّرت �أمم كثرية ب�أق�سى مما منر به‪ ،‬لكنها ا�ستطاعت عن‬ ‫طريق االنتفا�ضة النف�سية وال�شعورية‪� ،‬أن تتجاوز املحن‪ ،‬وتنبعث من جديد!‪.‬‬ ‫‪� -4‬إن املفهوم الأ�سا�سي لل�صرب والتقوى هنا هو‪ :‬تهذيب الذات وحت�سينها‬ ‫وتدعيمها والرقي بها؛ وهذا التدعيم ي�أخذ �أ�شكا ًال كثرية‪ ،‬منها‪ :‬املزيد من االلتزام‬ ‫ال�صارم‪ ،‬ومقاومة ال�شهوات‪ ،‬والتعاون‪ ،‬واملفاحتة و املراجعة‪ ،‬والت�ضحية واملوا�ساة‬ ‫بع�ضنا لع�ض‪ ،‬واحلفاظ على ر�أ�س املال الوطني‪ ،‬واالقت�صاد يف اال�ستهالك‪� ..‬إنه يعني‬ ‫اكت�ساب عادات جديدة‪ ،‬من نحو تكثيف القراءة اجليدة‪ ،‬والنظر دائماً �إىل امل�ستقبل‬ ‫بعقل مفتوح‪ ،‬وحت�سني العالقات مع الآخرين‪ ،‬والإكثار من املعروف والنوافل‪� ،‬إىل‬ ‫جانب التخل�ص من �أكرب قدر ممكن من العادات ال�سيئة‪ ،‬مثل عدم الدقة وخلف‬ ‫الوعد وت�أجيل �أعمال اليوم �إىل �أوقات �أخرى‪...‬‬ ‫‪ِّ -5‬‬ ‫يركز اخلطاب الإ�سالمي ب�صورة عامة على تدعيم الذات يف كل الأحوال‪،‬‬ ‫ﱹﯰ ﯱ ﯲ‬

‫‪49‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 49‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وقلما يتطرق �إىل عالج الظروف العامة التي يعي�ش فيها امل�سلم‪ ،‬ومن ثم‪ :‬ف�إننا جنده‬ ‫ي� ِّؤكد على ال�صالح وا�ستقامة ال�سلوك واالنتهاء عن املناهي‪...‬‬ ‫�أما تناول ال�شروط املو�ضوعية ال�ضرورية ال�ستجابة امل�سلم للدعوة ف�إنه �ضعيف‪،‬‬ ‫وعلى بع�ض الأ�صعدة معدوم‪ ،‬وهو على كل حال فقري‪ ،‬وتنق�صه اخلربة اجليدة‪.‬‬ ‫�إن بني الإن�سان والظروف والأو�ضاع احلياتية العامة التي يعي�شها عالقة جدلية فهو‬ ‫ي�ؤثر فيها‪ ،‬ويت�أثر بها‪ ،‬وال بد للدعاة من �أن يدركوا �أن الفرد امل�سلم ال ي�ستطيع �أن يبتعد‬ ‫م�سافات كبرية عن الو�ضعية العامة للمجتمع‪ ،‬وذلك التباعد مرهق ومكلف؛ فحني‬ ‫يكون ك�سب القوت ال�ضروري ال يت�أتى لل�سواد الأعظم من النا�س �إال عن طرقٍ حمرمة‬ ‫�أو ملتوية مث ًال ف�إن الذين �سوف ي�ستجيبون لنداء (اللقمة احلالل) �سيكونون قلة‪ ،‬و�سوف‬ ‫تظل مبادئهم يف حالة اختبار دائم‪ ،‬ورمبا �أدخلهم ذلك يف م�شكالت مع �أقرب النا�س‬ ‫�إليهم‪ .‬ولهذا‪ :‬فكما �أن حماوالت حت�سني امل�ستوى ال�شخ�صي للم�سلم تظل �ضرور َّية‬ ‫وحيو َّية‪ ،‬ف�إن حت�سني املناخ العام ينبغي �أن يظل مو�ضع عناية واهتمام؛ �إذ لي�س املطلوب‬ ‫حتقيق �شروط الدعوة اجليدة فح�سب‪ ،‬و�إمنا حتقيق �شروط اال�ستجابة الناجحة �أي�ضاً‪.‬‬ ‫وهلل الأمر من قبل ومن بعد‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 50‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯩﯪﯫﯬ ﯭ ﯮ‬ ‫ﯯ‬ ‫يقول اهلل َّ‬ ‫(جل وعال)‪ :‬ﱹ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬

‫ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﱸالبقرة‪.269 :‬‬ ‫وردت كلمة (حكمة) يف موا�ضع عديدة من الكتاب العزيز‪ ،‬وذهب املف�سرون �إىل‬ ‫بال�س َّنة‪،‬‬ ‫حتديد معناها يف كل مو�ضع بح�سب ال�سياق الذي وردت فيه‪ ،‬فتارة ُت َّ‬ ‫ف�سر ُّ‬ ‫وتارة باملوعظة‪ ،‬وتارة بالقر�آن‪...‬‬ ‫�أما يف هذا املو�ضع الذي نحن ب�صدده‪ ،‬ف�إن للعلماء يف تف�سريها �أقوا ًال كثرية‪،‬‬ ‫منها‪ :‬النبوة‪ ،‬والفقه يف القر�آن‪ ،‬واملعرفة بدين اهلل‪ ،‬والفقه فيه‪ ،‬واالتباع له‪ ،‬واخل�شية‪،‬‬ ‫والورع(‪...)1‬‬ ‫وروى ابن وهب عن مالك �أنه قال يف (احلكمة)‪� :‬إنها املعرفة بالدين‪ ،‬والفقه يف‬ ‫الت�أويل‪ ،‬والفهم الذي هو �سجية‪ ،‬ونور من اهلل؛ تعاىل(‪.)2‬‬ ‫‪-1‬اجلامع لأحكام القر�آن‪ :‬ج‪� ،3‬ص‪.330‬‬ ‫‪ -2‬ال�سابق‪ :‬ج‪� ،2‬ص‪.131‬‬ ‫‪51‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 51‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ولعل هذا القول هو �أقرب الأقوال ال�سابقة �إىل ال�صواب‪ .‬والذي يبدو يل‪� :‬أن‬ ‫احلكمة تتجاوز املعلومات اجلزئية �إىل املفاهيم الكلية مع نوع من التطابق بني معارف‬ ‫احلكيم مواقفه العملية له؛ ومن ثم قيل‪� :‬إن احلكمة تعني‪ :‬و�ضع ال�شيء يف مو�ضعه؛‬ ‫و�إن كنا نرى �أن ذلك �أحد جتليات احلكمة‪ ،‬ولي�س جزءاً منها‪ ،‬لكنهم ملحوا �أن املواقف‬ ‫ال�صحيحة املالئمة هي التي تك�شف عن حكمة احلكماء‪ ،‬ولعلنا نحاول احلوم حول‬ ‫حمى احلكمة‪ ،‬وحول بع�ض جتلياتها وجت�سيداتها يف املفردات التالية‪:‬‬ ‫‪� -1‬إن تاريخ الإن�سان هو مكافحة (العماء) والغمو�ض يف داخل نف�سه ويف خارجها؛‬ ‫فهو يحاول �أبداً �صياغة املفهومات والر�ؤى التي ّمتكنه من فهم مركزه يف هذا الكون‪،‬‬ ‫ومعرفة املحيط الذي يعي�ش فيه بغية فهم املوقف ال�صحيح واخلطوة املنا�سبة‪.‬ومهما‬ ‫بذل الإن�سان من جهود يف �سبيل الو�صول �إىل ذلك‪ ،‬ف�إن جناحه يظل ن�سب ّياً‪ ،‬كما �أن‬ ‫تقدير النا�س لذلك النجاح �سوف يظل متفاوتاً؛ حيث �إن مبادئ الإن�سان ومعارفه‬ ‫تتحكم دائماً يف بلورة ر�ؤيته للأ�شياء؛ ومن ثم ف�إن موقفاً ما قد يكون يف نظر واحد منا‬ ‫حكيماً‪ ،‬على حني ينظر �إليه �آخرون على �أنه طائ�ش وخائب؛ �إال �أن الأيام مبا جت ِّليه من‬ ‫عواقب ونتائج‪ ،‬ومبا تركمه من مناذج ت�ساعدنا على نوع من توحيد الر�ؤية والفهم‪.‬‬ ‫‪� -2‬إذا كنا نختلف حول تعريف احلكمة‪ ،‬ف�إنه �سيظل بالإمكان حتليلها �إىل العنا�صر‬ ‫اللماح‪،‬‬ ‫املك ِّونة لها‪ ،‬وهي على ما يبدو يل ثالثة‪ :‬الذكاء‪ ،‬واملعرفة‪ ،‬والإرادة؛ فالذكاء َّ‬ ‫ال�صلبة تك ّون معاً‪( :‬احلكمة)‪ ،‬وعلى مقدار كمال هذه‬ ‫واملعرفة الوا�سعة‪ ،‬والإرادة ُ‬ ‫العنا�صر يكون كمالها‪.‬‬ ‫الذكاء مبفرده ال يجعل الإن�سان حكيماً؛ �إذ من امللمو�س �أن الذكاء دون قاعدة‬ ‫جيدة من العلم واخلربة ينتج فرو�ضاً ومعرفة (�شكلية)‪ ،‬كما �أن املعرفة دون ذكاء جتعل‬ ‫‪52‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 52‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ا�ستفادة �صاحبها منها حمدودة‪ ،‬وجتعل وظيفته جمرد احلفظ والنقل‪ ،‬دون التمكن‬ ‫من غربلة املعرفة �أو الإ�ضافة �إليها‪ .‬والأهم من هذا وذاك‪� :‬أن املعرفة دون ذكاء ت�ؤخر‬ ‫والدة املوقف احلكيم‪ ،‬وجتعل الواحد منا ي�أتي بعد احلدث ب�سبب �ضعف البداهة‪،‬‬ ‫اللماح‪ ،‬وال اخلربة الوا�سعة يف جعل الإن�سان حكيماً ما مل ميتلك‬ ‫وال يكفي الذكاء ّ‬ ‫قوة الإرادة؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي التي جتعلنا نن�صاع لآمر اخلربة‪ ،‬وهي التي‬ ‫ُتنتج �سلوكاً يختفي فيه الفارق بني النظرية والتطبيق‪.‬‬ ‫الذكاء موهبة من اهلل (تبارك وتعاىل)‪ ،‬واملعرفة الوا�سعة ك�سب �شخ�صي‪ ،‬والإرادة‬ ‫يحدد العتبة وال�سقف املطلوبني‬ ‫القوية هدية املجتمع الناجح لأبنائه الربرة؛ فهو الذي ّ‬ ‫للعي�ش فيه بكرامة على م�ستوى الإرادة‪ ،‬وعلى م�ستوى القدرة‪ ،‬وهو ال مينح القدرة‪،‬‬ ‫والكف من خالل مناذجه الراقية‪ ،‬ومن خالل (املراتبية‬ ‫لكنه مينح �أفراده �إرادة الفعل ِّ‬ ‫االجتماعية )التي ي�صوغها ت�أ�سي�ساً على اال�ستجابة لأوامره‪.‬‬ ‫‪� -3‬إن املعرفة مهما كانت وا�سعة ال تعدو �أن تكون �إحدى مك ِّونات (احلكمة)‪ ،‬ومن‬ ‫ث ََّم ف�إن هناك فارقاً بني العامل واحلكيم‪ ،‬فقد يكون املرء قمة يف تخ�ص�ص من التخ�ص�صات‪،‬‬ ‫لكنه ال ُي ّعد حكيماً‪ ،‬كما �أنَّ احلكيم قد ال يكون عاملاً متبحراً يف �أي علم من العلوم‪.‬‬ ‫العلم يفكك املعرفة من �أجل ا�ستيعابها‪ ،‬فيقوم بتنظيمها وتوزيعها على م�ساقات‬ ‫كثرية‪� ،‬أما احلكيم‪ :‬ف�إنه يقوم برتكيب املعرفة النظرية مع اخلربة العملية من �أجل بناء‬ ‫وت�شكيل املفهومات العامة يف �سبيل الو�صول �إىل ر�ؤية �شاملة تندغم فيها معطيات‬ ‫املا�ضي واحلا�ضر من �أجل امل�ستقبل‪.‬‬ ‫لكن احلكمة جتعلنا نعرف متى‬ ‫العلم ِّميكننا من �صنع الدواء‪ ،‬و�صنع ال�سالح‪َّ ،‬‬ ‫‪53‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 53‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫نداوي‪ ،‬ومتى نحارب‪ ،‬العلماء كرث‪ ،‬واحلكماء نادرون؛ لأن حتليل املعرفة �أ�سهل من‬ ‫تركيبها‪ ،‬والعمل الدعوي اليوم لي�س فقرياً يف االخت�صا�صيني‪ ،‬لكنه حمتاج حاجة‬ ‫ما�سة �إىل احلكماء العظام الذين ميزجون بني العلوم والثقافات املختلفة‪ ،‬ويخل�صون‬ ‫ّ‬ ‫منها �إىل َّ‬ ‫حمكات نهائية يف الإ�صالح والنه�ضة ومداواة العلل امل�ستع�صية‪...‬‬ ‫�إن احلكمة �أُم الو�سائل والأ�ساليب‪ ،‬لكنها �أكرب من �أن تحُ ْ َ�صر يف �أي منهج من‬ ‫املناهج‪� ،‬إنها معرفة تت�أبى على التنظيم‪ ،‬فهي دائماً مرفرفة‪ ،‬على حني �أن العلم معرفة‬ ‫َّ‬ ‫منظمة‪ ،‬وكل العلوم يبد�أ تفتحها على �أنها حكمة‪ ،‬وتنتهي �إىل �أن تكون ف ّناً‪� ،‬أي‪:‬‬ ‫�إنها تفقد طاقتها على التجدد بعد �أن يتم �سجنها يف قوالب جاهزة‪ ،‬وت�صبح بحاجة‬ ‫ما�سة �إىل �أن ترفرف من جديد‪ ،‬وذلك من خالل تطعيمها باحلكمة‪ ،‬ومن ثم‪ :‬ف�إن‬ ‫ّ‬ ‫احلكمة تت�أبى على اال�ستنفاد‪ ،‬ولذا‪ :‬ف�إنها اخلري الكثري الفيا�ض املتجدد الذي يهيئه‬ ‫اهلل ‪ -‬تعاىل‪ -‬ملن �شاء من عباده‪.‬‬ ‫‪ -4‬جفل الوعي الإ�سالمي قدمياً من (الفل�سفة)؛ لأن �أكرث فال�سفة امل�سلمني‬ ‫�أخرجوا الفل�سفة من �إطار الوحي و�إطار الن�صو�ص واملعطيات ال�شرعية العامة‪ ،‬ف�صارت‬ ‫املفاهيم الفل�سفية غريبة عن البنية الثقافية الإ�سالمية‪ ،‬بل م�صا ِدمة لها‪ ،‬ويف الع�صر‬ ‫احلديث‪ :‬مل تن�ش�أ لدينا مدار�س فل�سفية‪ ،‬و�إمنا �أتباع لفال�سفة الغرب‪ ،‬ومر ِّوجون‬ ‫لفل�سفة مادية �أجنبية حمورها الأ�سا�س‪ :‬هدم عقيدة الألوهية وتدعيم الإحلاد‪...‬‬ ‫فا�ستمر اجلفاء بني االخت�صا�صيني (العلماء) وبني ذوي النظر الكلي والر�ؤية العامة‪.‬‬ ‫�إن الناظر يف الآيات الكرمية التي وردت فيها كلمة (احلكمة)‪ :‬يجد �أنها ما اقرتنت‬ ‫بذكر (الكتاب) �إال كانت تالية له‪ ،‬وك�أن يف ذلك �إ�شارة �إىل �أن احلكمة مبا هي مفاهيم‬ ‫ونظر كلي ال ي�صح �أبداً �أن تت�شكل خارج مبادئ الكتاب ومعطياته الكربى؛ �إنه‬ ‫‪54‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 54‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الق ّيم واملهيمن عليها‪ ،‬ولي�س يف ذلك حد من عطاء احلكمة وانطالقها‪ ،‬ولكنه �إم�ساك‬ ‫بها كي ال تفقد اجتاهها وحمورها؛ فالعقل الب�شري على �سعة �إمكاناته ال ي�ستطيع �أن‬ ‫يعمل بكفاءة �إال داخل �إطار توجيهي مينحه �شيئاً من الثوابت و�صالبة اليقني‪ ،‬وقد‬ ‫�آن الأوان لتن�شيط حركة علمية ال تغرق يف التخ�ص�صات‪ ،‬لكنها ت�ستفيد منها جميعاً‬ ‫يف تن�سيق الواقع يف �ضوء املثال‪ ،‬ويف �إدراك العالقات اخلطية واجلدلية التي تربط‬ ‫بني الأ�شياء‪ ،‬ويف معرفة �سنن اهلل (تعاىل) يف اخللق‪�...‬آن الأوان لرتك التقدم العلمي‬ ‫لأهل التخ�ص�صات يغو�صون على مفردات العلوم‪ ،‬و ُي�ضيفون �إىل فروع املعرفة كل‬ ‫يوم جديداً‪ ،‬وال�سعي �إىل تكوين جيل جديد من احلكماء وامل�صلحني ذوي النظر‬ ‫الكلي والثقافة‪ ،‬الذين ي�ستخدمون املعارف املختلفة يف بناء النماذج احل�ضارية اخلا�صة‬ ‫وامل�شروعات النه�ضية ال�شاملة‪ ،‬ويف اعتقادي �أن احلاجة �إىل (احلكماء) �سوف تزداد؛‬ ‫�إذ �إن املعرفة الب�شرية على و�شك �إكمال دورتها‪ ،‬وع�صر ثورة املعلومات الذي بزغ‬ ‫فجره �سوف يكون �أق�صر الع�صور احل�ضارية‪ ،‬ثم ي�أتي زمان الأ�سئلة الكربى‪� :‬أ�سئلة‬ ‫ال ُهو َّية‪ ،‬وعلل الوجود‪ ،‬وامل�صري‪ ،‬وطبيعة الكينونة الب�شرية وحدودها‪ ،‬وحقوقها‪� ..‬أي‪:‬‬ ‫�إن الفل�سفة قد ت�ستعيد جمدها القدمي‪ ،‬لكن �ضمن معطيات وم�ساقات جديدة‪ ،‬وبلغة‬ ‫نح�ضر �أولئك‪ ،‬الذين ي�ستطيعون فهم �أ�سئلة‬ ‫�شديدة التعقيد‪ ،‬وعلينا منذ الآن �أن ّ‬ ‫الع�صر القادم‪ ،‬و ُيح�سنون اجلواب عليها‪.‬‬ ‫ال�صلبة مك ِّون �أ�سا�س من مكونات (احلكمة) كما ذكرنا‪ ،‬وهي‬ ‫‪ -5‬الإرادة ُ‬ ‫(الإك�سري) الذي يحيل املعرفة النظرية �إىل مناذج متحققة يف الواقع املح�سو�س‪� ،‬إن‬ ‫احلكمة نور داخلي ي�شكل مفهومات كثرية متباينة‪ ،‬ويدجمها يف نظم �أ�شمل‪ ،‬فتبدو‬ ‫من�سجمة متنا�سقة‪ ،‬لكن احلكيم ال يبدو كذلك‪ ،‬فهو طراز فريد‪ ،‬ومنوذج خا�ص‪،‬‬ ‫‪55‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 55‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ي�صعب تقنني عطاءاته وتوجهاته ومواقفه؛ لأن طبيعة احلكمة تت�أبى على التحقق‬ ‫الكامل‪ ،‬ومن ثم‪ :‬ف�إنها تلوح يف بع�ض املواقف وال�سلوكات لتدل على ف�ضل اهلل‬ ‫(تعاىل) على �أ�صحابها وتوفيقه لهم‪ .‬وتلك املواقف تفوق احل�صر والعد‪ ،‬لكن نذكر‬ ‫بع�ضها من �أجل التقريب‪:‬‬ ‫�أ‪ -‬احلكمة من ٌّو دائم‪ ،‬فاملزج الفاعل بني الذكاء واخلربة والإرادة يجعل مفهومات‬ ‫احلكيم يف نوع من احلركة الدائبة؛ مفهوم يكرب‪ ،‬و�آخر ي�ضمر‪ ،‬ونقطة تزداد تف�صي ًال‪،‬‬ ‫و�أخرى تزداد تركيزاً‪� ،‬أفكار جديدة لديه تفقد بريقها ب�سرعة‪ ،‬و�أفكار قدمية تنبعث‬ ‫حية لتخط ّ‬ ‫خطاً جديداً‪ ...‬هذه الو�ضعية جتعل احلكيم يف حالة من الت�ألق الدائم‪،‬‬ ‫يف�سر لدى الكثريين على �أنه تناق�ض وا�ضطراب‪ ،‬على حني �أنه نوع‬ ‫وهذا الت�ألق قد َّ‬ ‫من اال�ستجابة الناجحة للمرونة الذهنية العالية‪ ،‬والروافد الثقافية الرث َّية‪ ،‬والإرادة‬ ‫التبدل‪.‬‬ ‫ال�صلبة‪ ،‬لكن كل ذلك ي�أخذ �سمة التغيرّ ‪ ،‬ال ّ‬ ‫احلرة ُ‬ ‫ب‪� -‬إيثار الآجل على العاجل‪ ،‬والدائم على الآين‪ ،‬وما ميليه ذلك من مواقف‬ ‫توجه النا�س‬ ‫والتزامات‪� :‬أكرب �سمة من �سمات (احلكيم)‪ ،‬وال�شرائع ال�سماوية كلها ّ‬ ‫نحو هذه الف�ضيلة‪ ،‬لكن �إغراءات املنافع وامللذات العاجلة �صرفت ّ‬ ‫جل النا�س عن‬ ‫اال�ستجابة ﱹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﱸ القيامة‪ ،21 ،20 :‬وعدم حتقق هذه‬ ‫الف�ضيلة يف حياة كثري من النا�س‪� ،‬سببه �ضعف يف اخلربة‪� ،‬أو �ضعف يف الإرادة‪� ،‬أو‬ ‫فيهما معاً‪ ،‬واحلكمة جتعل احلكيم يف من�أى عنهما‪ ،‬وموقف احلكيم هنا يثري لدى‬ ‫النا�س الده�شة؛ حيث يجدونه زاهداً م ْعرِ�ضاً عما يتقاتلون عليه‪ ،‬ورمبا اتهموه بالعجز‬ ‫�أو الك�سل �أو الق�صور‪ ،‬وهو يف الوقت نف�سه ي�ضحك يف داخله من جهادهم يف غري‬ ‫عد ّو وحماوالت قب�ضهم على ال�سراب!‬ ‫‪56‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 56‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫يكف �أبداً عن عمليات‬ ‫ج‪ -‬داخل احلكيم �ساحة َم ّوارة باحلركة والن�شاط‪ ،‬فهو ال ّ‬ ‫املقارنة‪ ،‬واملوازنة‪ ،‬والتحليل‪ ،‬والرتكيب‪ ،‬واال�ستنتاج‪ ،‬والت�شذيب‪ ،‬والإ�ضافة‪� ،‬إنها‬ ‫�أمواج وتيارات يف �أعماق املحيط‪� ،‬أما ال�سطح ف�إنه هادئ تعلوه ال�سكينة والوقار‪.‬‬ ‫�إن من مالمح الأذكياء �سرعة البديهة‪ ،‬و�إطالق الأحكام‪ ،‬و�سرعة ت�شكيل املواقف‪،‬‬ ‫لكن احلكيم طراز �آخر من النا�س‪ ،‬فهو بطيء يف تكوين معتقداته‪ ،‬و�صياغة مقوالته؛‬ ‫�إذ �إنه ميلك قدرة خا�صة على �ضرب كل �أ�شكال املعرفة واخلربة يف بع�ضها بع�ضاً‪،‬‬ ‫ليخرج يف النهاية بزبدة تتميز عنها جميعاً‪ ،‬لكنها منها جميعاً!‪ ،‬ويف�سِّ ر بع�ض النا�س‬ ‫ذلك بالعي وا َحل َ�صر‪ ،‬لكن الأيام ُتثبِت �أن مقوالت احلكماء هي بنات عوا�صف‬ ‫فكرية و�شعورية هائلة‪ ،‬لكنها غري منظورة!‪.‬‬ ‫د ‪ -‬من �أهم جتليات احلكمة‪� :‬إدراك حجوم الق�ضايا على وجهها ال�صحيح؛‬ ‫فاحلكيم يرى الأ�شياء الكبري َة كبريةً‪ ،‬كما يرى الق�ضايا ال�صغري َة �صغري ًة كما هي‪،‬‬ ‫وتقدير الق�ضايا ب�صورة �صحيحة من �أخطر امل�شكالت التي ظ َّلت تواجه الب�شر على‬ ‫مدار التاريخ‪ ،‬وهل ُد ّمرت احل�ضارات �إال من وراء م�شكالت و�أخطاء ظنها النا�س‬ ‫تافهة‪ ،‬ف�إذا هي عوا�صف هوجاء تد ِّمر كل ما ت�أتي عليه!‪.‬‬ ‫احلكيم‪ :‬رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة‪ ،‬وي�ست�شرف ما بعدها‪ ،‬وهو ال يرى‬ ‫ن�سقاً �أو نظاماً من التداعيات الرتابطية‪ ،‬لكنه يرى �أن�ساقاً ونظماً تتوازى‪ ،‬وتتقاطع‪،‬‬ ‫يح�س بالعا�صفة قبل هبوبها‪ِّ ،‬‬ ‫فيحذر قومه وينذرهم‪ .‬كلنا نرى الق�ضايا‬ ‫وتت�صادم‪� ،‬إنه ّ‬ ‫بحجمها احلقيقي‪ ،‬لكن بعد فوات الأوان!‪ ،‬وبعد �أن نكتوي بنارها‪ ،‬وتفوتنا فر�صها‬ ‫الذهبية‪ ،‬لكن احلكيم ي�أتي يف الوقت املنا�سب‪ ،‬كما قال �سفيان الثوري‪�» :‬إذا �أدبرت‬ ‫الفتنة عرفها كل النا�س‪ ،‬و�إذا �أقبلت مل يعرفها �إال العامل«!‪.‬‬ ‫‪57‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 57‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫العامل (احلكيم) هو من و�صفناه‪� ،‬أما �أهل االخت�صا�ص‪ ،‬الذين �أذهبوا العمر يف‬ ‫تفتيق املعرفة حول �شيء بالغ ال�صغر‪� ،‬أو حول (ال �شيء)‪ :‬فه�ؤالء جنود التقدم‬ ‫العلمي‪ ،‬لكن حظوظهم من �إ�شراقات احلكماء حمدودة للغاية!‪.‬‬ ‫والبم‬ ‫هـ ترتفع درجة املرارة يف داخلنا على مقدار فقدنا للحكمة؛ والنزق رَ َ‬ ‫الذي ُنبديه حول كل ما ال يعجبنا‪� ،‬سببه جهلنا بالأ�سباب واجلذور وال�سنن وطبائع‬ ‫الأ�شياء ومنطق �سريورتها‪� .‬أما احلكيم‪ :‬ف�إن مرارته ال تنبع من مفاج�آت الأحداث‬ ‫لقيت عليهم‪ ،‬ونبهتهم‬ ‫وفواجعها‪ ،‬و�إمنا من غفلة النا�س وا�ستخفافهم باملواعظ التي �أُ ْ‬ ‫�إىل النهايات املحتومة التي يندفعون �إليها دون �أي ح�ساب‪� ،‬أو تقدير لفداحة اخلطب‬ ‫الذي �سيواجهونه‪� .‬إن الآالم التي ن�شعر بها عند ظهور بع�ض النتائج تكون مكافئة يف‬ ‫العادة للم�سرات التي ع�شناها يوم كانت (عقولنا م�سرتيحة) وم�شاعرنا غارقة يف عامل‬ ‫امللذات والأوهام!‪.‬‬

‫‪58‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 58‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ‬ ‫ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ‬ ‫خلق اهلل ‪ ‬الدنيا لتكون داراً لالبتالء واالختبار‪ ،‬ومن ث ََّم ف�إنه جعل الإن�سان‬ ‫يتق َّلب فيها بني املن�شط واملكره‪ ،‬والرخاء وال�شدة‪ ،‬واخلري وال�شر؛ لريى �سبحانه كيف‬ ‫ي�صنع ه�ؤالء العباد‪ ،‬وكيف يطلبون مرا�ض َيه يف جميع الأحوال‪ ،‬ﱹﯺ ﯻ ﯼ‬ ‫ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﱸالأنبياء‪ :‬الآية‪.35‬‬ ‫ولعلنا نقب�س من نور هذه الآية املباركة عرب الوقفات التالية‪:‬‬ ‫‪ -1‬الناظر يف ال ُن ُظم العامة التي حتكم م�سرية احلياة يجد �أن جوهر (االبتالء)‬ ‫يقوم على (الت�شتيت بني املتقابالت) حيث ي�ؤدي عدم القيام بحق احلالة الراهنة‬ ‫�أو ما ّ�سماه القدماء ب�أدب الوقت �إىل الإخفاق يف االمتحان الذي يعني حتول اخلري‬ ‫�إىل �شر �أو ارتفاع وترية ال�شر والتدهور‪ ،‬ولعلنا منيط اللثام عن هذا املعنى من خالل‬ ‫منوذجني اثنني‪:‬‬ ‫(�أ) ي�سعى كل جمتمع �إىل �إيجاد �أكرب قدر ممكن من التماثل بني �أفراده بن َّية‬ ‫املحافظة على قيمه وخ�صو�صياته وزخمه احلركي‪ ،‬وهذا التماثل من اخلري‪ ،‬وال ريب‬ ‫‪59‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:09‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 59‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫لأن البديل عنه هو ال�شقاق واالحرتاب الداخلي لكن التجربة االجتماعية �أثبتت‬ ‫�أن احلر�ص على التماثل التام بني �أفراد املجتمع ي�ؤدي �إىل انق�سامه على نف�سه‪ ،‬حيث‬ ‫يت�شوف �أع�ضا�ؤه ـ وال�سيما ال�صفوة منهم ـ �إىل النفاذ �إىل واقع املجتمع على نح ٍو‬ ‫منفرد‪ ،‬ومنعهم من ذلك ي�ؤدي �إىل التوتر االجتماعي‪ ،‬ويجعل (التماهي) الظاهر‬ ‫عبارة عن �شكل فارغ من امل�ضمون‪ ،‬فينت�شر النفاق االجتماعي واالزدواجية يف‬ ‫ال�سلوك‪ ،‬ومن ثم ف�إن املطلوب هو قدر من التنوع االجتماعي واحرتام اخل�صو�صيات‬ ‫يف �إطار النظم الكربى للمجتمع ويف �إطار �أهدافه ومبادئه العامة‪.‬‬ ‫(ب) حث الإ�سالم على �صلة الرحم و�أداء حقوق القرابة‪ ،‬ور َّتب يف ذلك‬ ‫�أحكاماً و�آداباً عديدة‪ ،‬وااللتزام بها ورعايتها من اخلري العظيم‪ ،‬لكن ذلك البد �أن‬ ‫يتوقف عند حدود من �أجل رعاية م�سائل �أخرى‪ ،‬ال تقل �أهمية وحيوية من مثل‬ ‫احرتام النظم التي تتوىل توزيع وترتيب احلقوق والواجبات يف املجتمع‪ ،‬حيث ال‬ ‫مي�س العدالة االجتماعية‪� ،‬أو ي�ضغط عليها‪ .‬امللحوظ �أن ما‬ ‫ي�صح لعامل القرابة �أن َّ‬ ‫ي�سمى بـ (�سيادة القانون) مل ت�أخذ �أبعادها ب�شكل جيد يف الع�صور احلديثة �إال حيث‬ ‫ا�ضمحلت العالقات الأ�سرية والقرابية كما هو ال�ش�أن يف املجتمعات الغربية‪� ،‬أما‬ ‫يف املجتمعات الإ�سالمية حيث التوا�صل الأ�سري والعائلي �أمنت و�أف�ضل‪ ،‬ف�إن من‬ ‫امللحوظ �أنه يتم الكثري من التجاوز والتفلت من النظم العامة يف �سبيل �إعطاء الأقرباء‬ ‫ما لي�س لهم من مكت�سبات ظناً �أن يف ذلك �صلة للرحم! لكن هذا يعني عدم النجاح‬ ‫يف االبتالء والت�شتت بني املتقابالت‪� ،‬إن �إكرام الأقرباء ال ينبغي �أن يتم على ح�ساب‬ ‫الآخرين وال بخرق النظام العام‪ ،‬و�إال كان �شراً وبال ًء‪ ،‬ولعلنا ال نبالغ �إذا قلنا‪� :‬إن‬ ‫من �أ�شد ما عاناه التمدن الإ�سالمي يف تاريخنا الطويل كان نقل العرب من مرحلة‬ ‫‪60‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 60‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫(القبيلة) �إىل مرحلة (الدولة) حيث يتم الف�صل �شبه الكامل بني العالقات واحلقوق‬ ‫ال�شخ�صية وغري ال�شخ�صية‪ ،‬وجند �إىل جانب هذا يف �سرية النبي × و�سلوك �أ�صحابه‬ ‫الكرام موازنة دقيقة يف هذا ال�ش�أن‪ ،‬فالنبي × هو الذي قال‪(( :‬يا فاطمة بنت حممد‬ ‫�سليني من مايل ما �شئت‪ ،‬ف�إين ال �أغني عنك من اهلل �شيئاً))(‪ )1‬وهو الذي قال‪:‬‬ ‫لقطعت يدها))(‪.)2‬‬ ‫((‪ ....‬لو �أن فاطمة بنت حممد �سرقت‬ ‫ُ‬ ‫‪ -2‬النجاح يف االبتالء يقت�ضي نوعاً من اليقظة جلميع قوانا العقلية والروحية‪،‬‬ ‫حتى ال نقع يف �أ�سر اللحظة احلا�ضرة ون�ست�سلم خلريها و�شرها و رخائها وكربها‪ ،‬وهذا‬ ‫يعني نوعاً من اال�ستعالء على الواقع‪ ،‬وعدم الركون �إليه‪ ،‬والذوبان فيه‪ ،‬وذلك �إمنا‬ ‫يقع عند الغفلة عن (نواة) االبتالء الكامنة فيه‪ ،‬على نحو ما حدث من غفلة الرماة‬ ‫يوم �أحد عن نواة االبتالء يف �أمر النبي × لهم بالبقاء يف مواقعهم مهما كان اجتاه‬ ‫املعركة‪ ،‬ف�أدى ذلك �إىل حتويل الن�صر الذي كان يلوح يف م�ستهل املعركة �إىل هزمية!‬ ‫لكن النبي × مل َي َد ِع امل�سلمني ي�ست�سلمون ملرارة الهزمية‪ ،‬ويغرقون يف التالوم‬ ‫والندم‪ ،‬و�إمنا اندفع بهم �إىل �ساحة ابتالء جديد ب�أمره لهم بالتوجه �إىل حمراء الأ�سد‬ ‫حيث حتولت م�شاعر الف ّر واالنك�سار �إىل م�شاعر املباد�أة واملطاردة للعدو!(‪.)3‬‬ ‫ولعل مما يع�صم من الغرق يف احلالة الراهنة تع ُّود اال�ستب�صار وتقليب النظر يف‬ ‫احلالة الراهنة خريها و�شِّ رها‪ ،‬وحماولة فهم املنطقية والآلية التي �أدت �إىل والدتها‬ ‫وجت�سدها‪ ،‬و�إذا ما مت ذلك �أمكن �أن ن�سيطر على تلك احلالة‪ ،‬ونن�صرف �إىل اجتاهات‬ ‫‪�-1‬أخرجه البخاري‪.‬‬ ‫‪�-2‬أخرجه البخاري‪.‬‬ ‫‪-3‬انظر الرحيق املختوم‪.318 :‬‬ ‫‪61‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 61‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�سريها وتطورها‪ ،‬ف�إذا كان االبتالء عبارة عن خري�أ�صابه امل�ؤمن ثمر ًة جلهده وكفاحه‬ ‫وجب عليه �أن ي�ستمر يف ذلك اجلهد على نف�س الوترية التي كان عليها‪ ،‬و�إذا كان‬ ‫قد �أ�صابه من غري تعب كمن ورث ما ًال وفْراً وجب عليه �أن ي�شكر اهلل على ذلك‬ ‫�أو ًال‪ ،‬و�أن يقوم ثانياً ببحث الأ�سباب والعوامل التي ت�ؤدي �إىل املحافظة عليه‪ ،‬وتنميته‬ ‫وتزكيته‪ ،‬حتى ال ي�شعر يوماً ما �أن النعمة التي هبطت عليه مل يكن ي�ستحقها!‪.‬‬ ‫و�إذا كان ما �أ�صاب امل�ؤمن من �شر وحمنة ب�سبب �أخطائه وخطاياه‪ ،‬ف�إن النجاح يف‬ ‫ي�ستحق تغيري‬ ‫مواجهة ذلك االبتالء ال يكون �إال باخلال�ص مما اقرتفت يداه‪ ،‬وبذلك‬ ‫ُّ‬ ‫اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬له كما قال �سبحانه‪ :‬ﱹ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗﱸ‬ ‫الرعد‪ ،11 :‬و�إذا كان ما �أ�صابه ب�سبب ما جناه غريه ف�إن عليه �أن ي�صرب‪ ،‬ويحاول �أن يتجاوز‬ ‫يعم ب�سبب‬ ‫ما هو فيه من بالء بتحوله من (�صالح) �إىل (م�صلح) لأن البالء حني ُّ‬ ‫انت�شار الف�ساد ال يت�أهل للنجاة منه �إال الذين ي�سعون �إىل حتجيمه وتطهري املجتمع منه‪،‬‬ ‫كما قال �سبحانه‪ :‬ﱹ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ‬ ‫ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﱸ الأعراف‪ ،165 :‬والبد للتوطئة لكل‬ ‫ذلك من �سيادة روح املفاحتة واملكا�شفة والنقد املن�صف الب ّناء حتى ال تندغم الذات‬ ‫يف املو�ضوع‪ ،‬ون�صبح كمن كان يدفع العجلة �إىل �أن �أ�صبح يجري وراءها م�ست�سلماً‬ ‫لقوة اندفاعها‪.‬‬ ‫‪� -3‬إن مبد�أ (الزوجية) ملحوظ يف الكثري الكثري من املخلوقات واملوجودات‪،‬‬ ‫وهذا املبد�أ كما �أنه �سبب يف تكاثر الكائن احلي ومنو النوع كذلك هو �سبب يف حتول‬ ‫حاالت الرخاء وال�شدة‪ ،‬ففي رحم ِّ‬ ‫كل رخاء (نواة) ملحنة‪ ،‬كما �أن يف �أح�شاء كل‬ ‫�شدة نواة لرخاء ومنحة وهذا وا�ضح يف قوله ‪ :‬ﱹ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬ ‫‪62‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 62‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯟ ﯠﱸ ال�شرح‪� .6 ،5 :‬إن فهم هذه امل�س�ألة يقت�ضي منا �أن ن�ضع احلالة الراهنة التي‬ ‫نعي�شها يف ال�سياق التاريخي وال�سببي‪ ،‬حتى يتبني لنا �أنها لي�ست �أكرث من حلقة يف‬ ‫�سل�سلة غري متجان�سة من النجود والوهاد والنجاحات والإخفاقات‪.‬‬ ‫�إن هذه الدنيا لي�ست هي الظرف املنا�سب لتمو�ضع (الأحوال النهائية) يف خري �أو‬ ‫�شر‪ ،‬و�إمنا هناك دائماً خلف الباب حمنة تنتظر �إذا ما نحن �أ�س�أنا الت�صرف بالإمكانات‬ ‫تفجر روح املقاومة والإ�صرار والعناد‪،‬‬ ‫التي بني �أيدينا‪ ،‬ويف املقابل ف�إن ال�شدائد واملحن ّ‬ ‫تلك الروح التي كثرياً ما تظل هاجعة خامدة �إىل �أن ت�أتيها �صدمة قوية توقظها من‬ ‫�سباتها‪ ،‬وهكذا فاملطلوب دائماً �أن نكون يف املوقع ال�صحيح ملواجهة االبتالء‪.‬‬ ‫�إن طبيعة االبتالء تقوم على قاعدة من التوازنات العميقة والدقيقة‪ ،‬والإن�سان‬ ‫املبتلى ي�شبه يف كثري من الأحيان الذي ي�سري على حبل م�شدود‪ ،‬فهو مطالب حتى‬ ‫ال يقع ب�أن ي�ستخدم كل قواه العقلية واجل�سمية على نحو دقيق ومتوازن و�إال‪...‬‬ ‫‪ -4‬متتلك �أمة الإ�سالم بحمد اهلل عدداً من املنظومات املعيارية والرمزية التي‬ ‫ِّمتكنها من اخرتاق احلالة التي تعاي�شها ومعرفة �أوجه االبتالء فيها‪ ،‬بل ِّمتكن ال�صفوة‬ ‫املمتازة من �أبنائها من معرفة ِن َ�سب اخلري وال�شر وحجم الإيجابيات وال�سلبيات‬ ‫يف الواقع املعي�ش‪ ،‬وهذه املعرفة تنظم �أي�ضاً ردود �أفعالنا على الطوارئ والوافدات‬ ‫اجلديدة رف�ضاً ومدافعة وتعدي ًال وتهذيباً وقبو ًال وترحيباً‪ ،‬وهذا يعني �أن كل ابتالء‬ ‫جديد ال يدخل يف حياة الأمة (احلية) �إال بعد �أن مير مب�صفاة قيمها ومبادئها و‬ ‫(عقيدتها االجتماعية)(‪� )1‬أي�ضاً‪ ،‬وكلما كان وقع االبتالء اجلديد حاداً ومك�شوفاً‬ ‫‪ -1‬العقيدة االجتماعية عبارة عن جماع املبادئ وامل�صالح ومركز التوازن بينهما‪.‬‬ ‫‪63‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 63‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ا�ستطاع �أن ي�ستفز ردود �أفعال الأمة عليه ب�صورة قوية و�سريعة‪ ،‬فظاهرة الردة الأوىل‬ ‫كانت ابتالء كبرياً جداً واجهته دولة اخلالفة الوليدة يف زمان �أبي بكر ر�ضي اهلل عنه‬ ‫بالقوة وال�سرعة املكافئة‪ ،‬لكن (االبتالء املتدرج) الذي ح�صل بعد ذلك يف �صورة‬ ‫ِف َرق وعقائد فا�سدة وانحرافات �سلوكية ويف �صورة جتديد �أطر الدولة وفق ات�ساع‬ ‫�أمة الإ�سالم مل ي�ستفز الطاقات الكامنة يف الأمة‪ ،‬فلم تقم بواجبها جتاهه‪ ،‬ولعل‬ ‫هذا يدفعنا �إىل القول‪� :‬إن �أخطر ما يغ ِّيب الإح�سا�س باالبتالء على م�ستوى الفرد‬ ‫واجلماعة معاً لي�س الكوارث الكربى وال اجلوائح العظيمة و�إمنا (التغريات البطيئة)‬ ‫التي تدخل من �أ�ضيق امل�سام‪ ،‬فتتكيف الأمة معها �سلبياً على �سبيل التدرج‪ ،‬وهذا‬ ‫ما ح�صل بالن�سبة �إىل �أمة الإ�سالم وما حدث لدول عظمى يف ع�صرنا احلديث‪ ،‬فقد‬ ‫بد�أت بريطانيا العظمى ترتاجع عن مركزها العاملي‪ ،‬وبد�أت ال�شيخوخة تدب يف‬ ‫�أو�صالها منذ �أكرث من قرن‪ ،‬لكن ذلك مل يظهر �إال يف احلرب العاملية الثانية‪ ،‬ومن‬ ‫الطريف �أن بع�ض علماء (الأحياء) جاءوا ب�ضفدع‪ ،‬وو�ضعوه يف �إناء و�أوقدوا حتته‬ ‫ناراً هادئة‪ ،‬ف�صارت درجة حرارة املاء ترتفع مبنتهى البطء‪ ،‬وكان امل�أمول �أن يقفز‬ ‫يح�س ب�سخونة املاء لكن حدوث الت�سخني على نحو بطيء �أدى‬ ‫ال�ضفدع عندما ّ‬ ‫(خمدر) وكانت النتيجة �أن ال�ضفدع ان�سلق دون‬ ‫�إىل �أن يتحول (املح ِّر�ض) �إىل ِّ‬ ‫�أن ُيبدي �أية مقاومة! هنا تربز مهمة العلماء الربانيني العظام واملفكرين املبدعني‬ ‫الذين ميتلكون حا�سة (اال�ست�شعار عن بعد) حيث يرون عواقب الأمور قبل فوات‬ ‫الأوان‪ ،‬ويقومون مبا ت�ستحقه من مواجهة وعمل‪ ،‬وحتى ننجح يف مواجهة ابتالء‬ ‫ات(التغريات البطيئة) ف�إن علينا �أن نقوم ب�أمرين‪:‬‬ ‫�أ‪ -‬االن�شداد �إىل الأ�صول والثوابت يف املن�شط واملكره‪ ،‬والت�أبي على ان�صهار‬ ‫‪64‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 64‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫منهجيتنا وحا�ستنا النقدية يف املعطيات اجلديدة مع حماولة ا�ستيعاب ت�أثري امل�ستجدات‬ ‫يف تلك الأ�صول‪ ،‬وحماولة �إيجاد التكييفات والتوظيفات التي تر�سِّ خها‪ ،‬وجتعلها ت�ؤتي‬ ‫�أكلها كل حني ب�إذن ربها‪.‬‬ ‫ب‪ -‬املتابعة اجلادة والدقيقة ملجمل التغريات التي تطر�أ على حياتنا ال من خالل‬ ‫احلد�س والتخمني واملالحظة العامة‪ ،‬و�إمنا من خالل ( الرقم ) والأ�ساليب الكمية‪،‬‬ ‫حتى نتعرف بدقة على �سريورة �أحوالنا املختلفة‪ ،‬وامل�آالت ال�صائرة �إليها‪ ،‬وهذا لن‬ ‫يتم �إال من خالل �إعادة تنظيم حياتنا وم�ؤ�س�ساتنا املختلفة على �أ�س�س جديدة بحيث‬ ‫تخ�صِّ �ص كل جهة �أو م�ؤ�س�سة ق�سماً �أو موظفاً يتوىل جمع املعلومات اخلا�صة بها ون�شرها‬ ‫حتى ينمو �إح�سا�س النا�س ب (الكم) وطريقة قيا�سه‪ ،‬ولي�س من امل�ستغ َرب اليوم‬ ‫ذلك التالزم التام واملطلق بني درجة حت�ضر الدولة‪ ،‬ودرجة تقدم الإح�صاء فيها‪.‬‬ ‫�إن على امل�سلم �أن يظل يكافح ويجاهد يف �سبيل التعرف على مرا�ضي اهلل ـ‬ ‫تعاىل ـ يف كل حالة من �أحواله‪ ،‬وي�ست�شرف بعد ذلك عاقبة املتقني‪.‬‬

‫‪65‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 65‬‬


�� ������ ���.indd 66

29/04/2010 11:09:10 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﭥﭦﭧ‬ ‫املح َكمة الدقيقة‪ ،‬هذا‬ ‫الإن�سان هذا املخلوق العجيب هو �صنعة اهلل ‪-‬تعاىل‪ْ -‬‬ ‫الإن�سان الذي يبدو للوهلة الأوىل يف منتهى الب�ساطة‪ ،‬م�شتمل على كل �أ�شكال‬ ‫التعقيد‪� ،‬إنه يبدو قوياً خميفاً مع �أنه يف حد ذاته �ضعيف يف كل جانب من جوانب‬ ‫�شخ�صيته �ضعفاً ال يوازيه �شيء �سوى ما يدعيه من القوة والعزة وال�سطوة!‬ ‫�إن هذه الكلمات القر�آنية الثالث ّخل�صت لنا جوهر الإن�سان‪ ،‬لكن دون �أن ت�ضع‬ ‫لنا الإ�صبع على مفردات ذلك ال�ضعف‪ ،‬ومظاهره‪ ،‬ليظل اكت�شافها التدريجي عبارة‬ ‫عن درو�س وعظات م�ستمرة ِّ‬ ‫تذكر الإن�سان بحقيقته‪ ،‬و�سوف ينفد العمر دون �أن‬ ‫نحيط بحقيقة �أنف�سنا‪ .‬وميكن �أن ن�سلط ال�ضوء على بع�ض ما �أدركناه من �ضعفنا‪،‬‬ ‫وبع�ض ما يجب علينا جتاه ذلك يف الكلمات التالية‪:‬‬ ‫ب�صر بني الإن�سان ـ على الرغم من التقدم املعريف الكبريـ ب�أج�سامهم مازال‬ ‫‪َ -1‬ت ُّ‬ ‫حمدوداً �إىل يوم النا�س هذا‪ ،‬فهناك �أجزاء من �أج�سامنا مازالت مناطق حم َّرمة‪ ،‬فعلم‬ ‫الدماغ مازال علم �إ�صابات �أكرث من �أن يكون علم وظائف وت�شريح‪ّ ،‬‬ ‫ومركبات الأن�سجة‬ ‫‪67‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 67‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وال�سوائل املختلفة يف �أج�سامنا وتفاعلها مع بع�ضها مازال الكثري منها جمهوال ً‪ ،‬ف�إذا‬ ‫ما دلفنا �إيل مناطق امل�شاعر والإدراك و�صالتها وتفاعالتها باجلوانب الع�ضوية‪ ،‬وجدنا‬ ‫�أن كثرياً مما لدينا ظنون وتخر�صات �أكرث من �أن يكون حقائق‪ ،‬ف�إذا ما خطونا خطوة‬ ‫�أخرى نحو العامل الوجداين والروحي وجدنا �أنف�سنا يف متاهات و�سراديب‪ ،‬حتى �إن‬ ‫الفردية لتطبع كل ذرة من ذرات وجودنا املعنوي‪ ،‬مما يجعل �إمكانات الفهم‪ ،‬وو�ضع‬ ‫النوامي�س والنظم العامة �أموراً قليلة الفاعلية‪ ،‬حمدودة النجاح‪.‬‬ ‫�إن الباحثني يف جماالت علوم الإن�سان يجدون الطرق مت�شعبة ملتوية كلما‬ ‫تقدموا نحو الأمام‪ ،‬على حني �أن الباحثني يف علوم الطبيعة ي�ستفيدون من �أنواع‬ ‫وتقد�س‬ ‫التقدم املعريف الأفقي يف �إ�ضاءة ما بقي مظلماً من م�سائل الطبيعة واملادة‪ّ .‬‬ ‫اهلل ـ تعاىل ـ �إذ يقول‪ :‬ﱹﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬ ‫ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﱸ الإ�سراء‪.85 :‬‬ ‫ويزداد ظهور �ضعف الإن�سان حني يدخل يف �صراع بني عقله وم�شاعره حيث‬ ‫يجد نف�سه عاجزاً عن دفع م�شاعره واخلال�ص من و�ساو�سه والتغلب على خماوفه‪� ،‬أو‬ ‫معرفة م�صدرها يف بع�ض الأحيان‪ ،‬ليدرك املرة تلو املرة �أنه مع طموحه �إيل ال�سيادة‬ ‫على الأر�ض وغزو الف�ضاء قا�صر عن ال�سيطرة على نف�سه!‬ ‫‪ -2‬هذا الإن�سان ال�ضعيف ال ي�ستطيع �أن يب�صر الأمور �إال �ضمن �شروط ومعطيات‬ ‫وحمددة‪ ،‬فهو ال ي�ستطيع �أن يتخل�ص من حمدودية‬ ‫زمانية ومكانية وثقافية خا�صة َّ‬ ‫الر�ؤية و�ضرورة النظر من زاوية معينة‪ ،‬وهذا هو ال�س ّر الأكرب يف �أننا ال منلك �أن نتفق‬ ‫حول كثري من امل�سائل والق�ضايا املطروحة‪� .‬إن خ�صو�صية تكويننا وظروفنا وم�شاعرنا‬ ‫تدفع مواقفنا و�آراءنا �إىل التفرد‪ ،‬ومن ثم ف�إننا نعجز عن توحيد الر�ؤية وب�سط الر�أي‬ ‫‪68‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 68‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الواحد يف معظم �ش�ؤوننا‪.‬‬ ‫‪ -3‬نحن عاجزون عن �إدراك الأ�شكال النهائية لأكرث حقائق هذا الكون دفعة‬ ‫واحدة‪ ،‬فاحلقائق ال ُت�سفِر لنا عن كل �أبعادها و�أطوارها �إال على �سبيل التدرج‪ ،‬ومن ث ََّم‬ ‫ف�إن الإن�سان ال�ضعيف يظل يكت�شف عجزه با�ستمرار‪ ،‬وك�أنَّ ما ُيحرزه من التقدم اليوم‬ ‫لي�س �إال عنواناً على ما كان يجهله بالأم�س‪ ،‬وما �سي�صل �إليه غداً لي�س �إال رمزاً على‬ ‫ما يجهله اليوم‪ ،‬ومن ثم ف�إن التغيري والتطوير يظالن مالزمني لكل �إنتاجاتنا و�إبداعاتنا‬ ‫علي مقدار ما نحرزه من تقدم يف العلم والفهم‪ ،‬و�إن املقولة التي ال يفت�أ هذا املخلوق‬ ‫ال�ضعيف يرددها‪ :‬لو ا�ستقبلت من �أمري ما ا�ستدبرت لفعلت كذا‪ ،‬ولقلت كذا‪..‬‬ ‫وانطالقاً من هذا ف�إن من �سمات النظريات العلمية الناجحة �أن تكون منفتحة وذات‬ ‫قابلية جيدة للإ�ضافات التي ت�أتي بها حركة ك�شف احلقائق و�إدراك املجهوالت‪.‬‬ ‫‪ -4‬هذا الإن�سان ال�ضعيف ال ي�ستطيع �أن يجزم ب�شيء مقطوع من حوادث‬ ‫امل�ستقبل‪ ،‬فمهما �أدرك املرء الظروف والعوامل وامل�ؤثرات التي حتيط به مل ي�ستطع �أن‬ ‫يعرف ماذا �سيحدث له بعد �شهر �أو يوم �أو �ساعة‪ ،‬و�أعظم �أطباء الدنيا ال ي�ستطيع �ضمان‬ ‫ا�ستمرار حياته �أو حياة غريه �ساع ًة من زمان‪ ،‬ومن ّثم ف�إن القلق واخلوف من امل�ستقبل‬ ‫هما الهاج�س اجلاثم فوق �صدر الإن�سان احلديث الذي فقد الإميان وف�ضيلة الدمج بني‬ ‫احلياة الدنيا والآخرة‪ ،‬و�إن املت�أمل يف كثري من الأقوال والت�صريحات والدرا�سات يجد‬ ‫�أن خرباء اال�سرتاتيجية هم �أكرث النا�س جمازفة‪ ،‬وال �سيما عندما ي�شرعون يف �سرد‬ ‫التفا�صيل للأحداث املتوقعة‪ ،‬حيث تق�صر طاقات الب�شر و�إمكاناتهم عن التنب�ؤ بها(‪.)1‬‬ ‫‪-1‬اقر�أ �إن �شئت ما كتبه (نيك�سون) يف كتابه (ن�صر بال حرب) عن امل�ستقبل الذي يتوقعه لرو�سيا ثم ما �آلت �إليه الأمور!‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 69‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪� -5‬أكرث ما ُي َظن فيه عجز الإن�سان و�ضعفه‪ ،‬هو الإمكانات التي ميتلكها لفهم‬ ‫الواقع املعي�ش بكلياته وجزئياته وم�شكالته وخباياه‪ ،‬وقد كرثت يف �أيامنا هذه الدعوة‬ ‫�إىل فهم الواقع وفقهه‪ ،‬وهي دعوة مهمة‪ ،‬لكنها ُتخفي يف طريقة طرحها نوعاً من‬ ‫التب�سيط للم�س�ألة‪ ،‬حيث �إن فهم الواقع �أو مقاربته م�س�ألة من �أعقد ما يواجهه العقل‬ ‫الب�شري‪ ،‬فالقيم التي ن�ؤمن بها تتحكم �إىل حد كبري يف ر�ؤيتنا لذلك الواقع‪ ،‬وكثرياً‬ ‫ما ِّ‬ ‫ت�شكل حائ ًال بيننا وبني ر�ؤية حقيقة ما يجري فيه‪ .‬والعقل الإن�ساين حتى يالم�س‬ ‫الواقع ف�إنه يفرت�ض ثباته وجموده‪ ،‬على حني �أن الواقع يظل َّ‬ ‫حمطة لتدفق التحوالت‬ ‫امل�ش َّعثة الكثرية‪ ،‬واحلادة �أحياناً مما يجعل �إدراكنا قا�صراً عن مالحقته‪ ،‬وبالتايل ف�إن‬ ‫�أحكامنا ت�صدر على �أ�شياء فائتة ومنتهية‪ ،‬ومن هنا ف�إنه البد من بناء (�إ�شكالية)‪،‬‬ ‫يتم من خاللها تق�سيم الواقع �إىل ق�ضايا ميكن حتديدها وتقدمي �إجابات وحلول لها‪،‬‬ ‫والنمط الذي �سن�ص ِّور الواقع من خالله هو عبارة عن �صورة عقلية َّ‬ ‫مركبة تدخل‬ ‫فيها ر�ؤانا العقدية �إىل جانب العنا�صر املعرفية والقيم االجتماعية التي تر�شِّ د حركة‬ ‫املجتمع‪ ،‬ومادام كل ذلك متفاوتاً عند النا�س‪ ،‬ف�إن عجزنا عن ِّمل اخلالف �سوف‬ ‫يظهر �أكرث و�أكرث عندما نحاول تقومي الواقع‪ ،‬و�إ�صدار الأحكام عليه‪ ،‬وهذا ما �سي�ؤدي‬ ‫بالتايل �إىل اختالفات كثرية يف مناهج الإ�صالح وم�شروعات النهو�ض احل�ضاري‪،‬‬ ‫وهنا يظهر مرة �أخرى م�أزق وهن الإن�سان حيث �إن التقدم العلمي ال يتحقق دون‬ ‫يقدم الأدوات‬ ‫الإغراق يف التخ�ص�ص‪ ،‬والتقدم ي�ستمد م�شروعيته و�أهميته من كونه ِّ‬ ‫التي ت�ساعد على �إ�صالح �ش�أن الإن�سان وتر�شيد قراراته‪ ،‬لكن الإغراق يف التخ�ص�ص‬ ‫يحول دون فهم الواقع ودون فهم حاجات الإن�سان املختلفة من منظور �شامل‪� ،‬إذ �إن‬ ‫جمال التخ�ص�صات هو اجلزئيات‪ ،‬وفهم الواقع الإن�ساين يحتاج �إىل ر�ؤى ونظريات‬ ‫‪70‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 70‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫كلية ال تتوفر عادة عند االخت�صا�صيني‪ ..‬ومن هنا ندرك ملاذا نرى تقدم املعرفة وت�أخر‬ ‫الإن�سان وانحداره �شيئاً ف�شيئاً نحو الرببرية! �إننا عاجزون عن رعاية �ش�ؤوننا �إذا ما‬ ‫ابتعدنا عن االنتفاع بالهداية الربانية‪.‬‬ ‫املوقف املو�ضوعي مما �سبق‪:‬‬ ‫�إذا كان الإن�سان على ما ذكرنا من العجز والق�صور‪ ،‬ف�إن عليه �أن يطامن من نف�سه‪،‬‬ ‫ويخ�ضع لقيوم ال�سموات والأر�ض خ�ضوع العارف ب�ضعته املدرك لعظمة خالقه متخذاً‬ ‫من ذلك باباً للأوبة والتوبة الدائمة‪ ،‬وعلى الإن�سان مع ذلك �أن يحرتم عقله وقدراته‬ ‫يزج به يف جماهيل وغيوب ال ميلك �أدنى مقدمات للبحث فيها‪ ،‬حتى ال يتناق�ض‬ ‫فال ّ‬ ‫واقعه مع ذاته‪ ،‬و�إن من املنهجية القومية �أن نع ِّلم �أنف�سنا ال�صرب على اال�ستقراء والت�أمل‬ ‫وعدم امل�سارعة �إيل �إطالق الأحكام الكبرية قبل الت�أكد من �سالمة املقدمات التي‬ ‫ت�ستند �إليها‪ ،‬وحني ن�صل �إيل حكم ظ ِّني ف�إن علينا �أن ن�صوغة بطريقة ُت�شعر املطلع‬ ‫عليه بذلك‪ ،‬فال ن�سوق القطعيات م�ساق الظنيات‪ ،‬وال الظنيات م�ساق القطعيات‪.‬‬ ‫ومما يروى عن الإمام مالك ـ رحمه اهلل ـ �أنه كان كثرياً ما ير ِّدد قوله تعاىل‪:‬ﱹ ﰜ‬ ‫ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣﱸ اجلاثية‪ 32 :‬وذلك عندما ُي�ستفتى ف ُيفتي‪ ،‬وقد‬ ‫عتب الإمام اجلويني على املاوردي �أنه كان يف كتابه (الأحكام ال�سلطانية) ي�سوق‬ ‫املظنونات والقطعيات على منهاج واحد«(‪ .)1‬مع �أن الن�صو�ص يف جماالت (ال�سيا�سة‬ ‫ال�شرعية) قليلة‪ ،‬و�أكرث امل�سائل فيها مبنية على االجتهاد‪.‬‬ ‫�إن الو�ضعية التي و�ضع اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬فيها الإن�سان حت ِّتم �أن نظل يف حالة من‬ ‫‪ -1‬انظر الغياثي‪ 142 :‬حتقيق د‪ .‬عبد العظيم الديب‪.‬‬ ‫‪71‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:10‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 71‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫اال�ستعداد الدائم لقبول احلق �أياً كان م�صدره‪ ،‬والرتاجع عن اخلط�أ وتعديل الر�أي‬ ‫وامتالك ف�ضيلة املرونة الذهنية‪ ،‬وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل‪.‬‬

‫‪72‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 72‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮰ ﮱﯓ ﯔ‬ ‫�إن املراد بـ (ال�سِّ لم) هنا‪( :‬الإ�سالم) على ما ّرج َحه عدد من املف�سرين و�إن (كافّة)‬ ‫(ال�سلم) على ما نرجحه‪ ،‬ويكون املراد �آنذاك‪ :‬الأمر بالأخذ بتكاليف‬ ‫حال من ّ‬ ‫الإ�سالم جميعها‪ :‬ما متيل �إليه النف�س منها‪ ،‬وما يخالف هواها‪ ،‬وت�ص ِّرح الآية الكرمية‬ ‫ب�أن يف عدم الأخذ بالإ�سالم كام ًال نوعاً من اتباع ال�شيطان‪ ،‬حيث �إن املنهج الرباين‬ ‫يباين ال�سبل الأخرى يف فل�سفتها العامة‪ ،‬و�إن التفريط ب�شيء من ذلك املنهج �سيكون‬ ‫فيه اتباع (�آيل) ل�سبيل ال�شيطان حيث ال يوجد خيار ثالث‪.‬‬ ‫وميكن �أن ن�ستب�صر يف �إ�شراقة هذه الآية املباركة املفردات التالية‪:‬‬ ‫‪� -1‬إن املنهج الرباين يت�سم ب�سمتني �أ�سا�سيتني هما‪ :‬التكامل والتفرد‪ ،‬فهو نظراً‬ ‫لتكامله ال يف�سح املجال لعنا�صر �أخرى منافية جلوهره‪ ،‬و�أما تفرده عن املناهج الأخرى‬ ‫ف�إنه مينحه نوعاً من احل�سا�سية اخلا�صة التي جتعل �أي انحراف عنه‪� ،‬أو به عن مقا�صده‬ ‫وغاياته بال َغ ال�ضرر على �أدائه و�إ�صالحه لل�ش�أن الإن�ساين كله‪ ،‬فال�صفاء الكلي لي�س‬ ‫مطلباً من مطالب الإميان النظري‪ ،‬ولكنه مطلب من مطالب توظيف املنهج ور�سم دوائر‬ ‫‪73‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 73‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫حيويته وفاعليته‪ ،‬وذلك نظراً للعالقة اجلدلية بني النظرية والتطبيق‪ ،‬ف�سالمة الإميان على‬ ‫م�ستوى االعتقاد تت�أثر �إىل حد بعيد بالأخذ اجلزئي للإ�سالم على م�ستوى التطبيق!‪.‬‬ ‫وقد ّ‬ ‫حذر القر�آن الكرمي النبي × من مطاوعة امل�شركني يف الإعرا�ض عن بع�ض‬ ‫املنهج الرباين حني قال‪ :‬ﱹﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‬

‫ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﱸ املائدة‪49 :‬‬

‫‪� -2‬إن خ�صال اخلري يف هذا الدين كثرية‪ ،‬وعلى مقدار ما ي�أخذ امل�سلم منها يكون‬ ‫كمال �إميانه و�إ�سالمه‪ ،‬لكن مبا �أن العمر حمدود والطاقات حمدودة ف�إن على امل�سلم‬ ‫�إذا �أخذ ب ُع ُمد الإ�سالم‪ ،‬واهتدى بهديه العام‪ ،‬وقب�س من كماالته‪� ،‬أن يبحث عن‬ ‫املجال احليوي املنا�سب ال�ستعداداته وظروفه وطاقاته‪ ،‬كي يتخذ منه حمراباً لتعبده‬ ‫وتقربه �إىل اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬حتى نحفظ للمجتمع الإ�سالمي توازنه ون�سد ثغراته‪ ،‬ومن‬ ‫هنا ف�إن عبادة طالب العلم حماولة النبوغ‪ ،‬و�إتقان التخ�ص�ص حتى نحقق للأمة‬ ‫االكتفاء الذاتي‪ ،‬ولو يف حده الأدنى على ال�صعيد العلمي والفني‪ ،‬وعبادة علماء‬ ‫ال�شرع القيام بالتبليغ و�إحياء ال�سنن والأمر باملعروف‪ ،‬والنهي عن املنكر‪ ،‬وجتديد‬ ‫وظائف التدين والتب�صر يف واقع الأمة‪ ،‬و�إن عبادة احلكام �إقامة العدل‪ ،‬ورعاية �ش�ؤون‬ ‫الأمة وحماية البي�ضة‪ ،‬والتعفف عن الأموال العامة ون�شر الدعوة‪ ،‬وعبادة اجلندي‬ ‫دوام التمر�س بفنون القتال‪ ،‬وا�ستيعاب الأ�سلحة اجلديدة وا�ست�شراف ال�شهادة‪،‬‬ ‫�سد حاجة الفقراء‬ ‫واال�ستعداد الدائم للبذل والفداء‪ ،‬و�إن عبادة الأغنياء وذوي اجلاه ُّ‬ ‫وم�ساعدة ال�ضعفاء على حل م�شكالتهم والو�صول �إىل حقوقهم‪ ،‬والبذل يف ت�شييد‬ ‫املرافق العامة‪ ،‬وهكذا‪...‬‬ ‫و�إن خروج كل واحد من ه�ؤالء عن جماله احليوي �سيحرمه‪ ،‬ويحرم الأمة من‬ ‫‪74‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 74‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫هم العامل‬ ‫خري عظيم‪ ،‬بل قد ي�ؤدي �إىل �أ�ضرار بالغة ووخيمة العواقب‪ ،‬ف�إذا �صار ُّ‬ ‫امتالك املال بنية �إعمار امل�ساجد مث ًال تقل�صت جهوده يف ميدانه احلقيقي الذي ينبغي‬ ‫عليه املجاهدة فيه‪ ،‬و�إذا ان�شغل احلاكم ب�أعمال خريية �أو �أداء النوافل عن واجباته‬ ‫الأخرى‪ ،‬مل يكن ذلك مو�ضع مدح وال نفع ذي �ش�أن للأمة امل�سلمة‪ ،‬وهكذا‪ ...‬وهذا‬ ‫كله يحتاج �إىل نوع من الب�صرية النافذة بغية و�ضع الأمور يف ن�صابها‪.‬‬ ‫يكمل بع�ضها بع�ضاً‪ ،‬كما يف ّعل بع�ضها بع�ضاً‪ ،‬ومن ث ََّم ف�إن‬ ‫‪� -3‬إن �أنظمة الإ�سالم ِّ‬ ‫�أي خلل �أو �ضعف يف نظام من تلك النظم ي�ؤ ِّثر بال�سلب يف �أداء باقيها‪ ،‬وهذا يعود �إىل‬ ‫ما ذكرناه �آنفاً من ميزة (التكامل) التي ميتاز بها املنهج الرباين‪ ،‬ونظراً لأهمية هذه امل�س�ألة‬ ‫و�ضعف الإدراك لها �سنفي�ض القول فيها ع�سى �أن ن�شعر �أننا نقف على �أر�ض �صلبة‪.‬‬ ‫يف البداية �أقول‪� :‬إن مبادئ الإ�سالم ومنظوماته املختلفة تن�ضوي حتت ر�ؤية واحدة‬ ‫مما يجعل التخلي عن �أي منها هدماً جلزء من الر�ؤية الكونية الإ�سالمية‪ ،‬وي�ستوي‬ ‫حينئذ على ال�صعيد العملي على الأقل اجلهل بذلك اجلزء مع جتاهله �أو جحده‪،‬‬ ‫غب�ش يف الر�ؤية على امل�ستوى النظري‪ ،‬واختالل يف التوازنات‬ ‫والنتيجة واحدة‪ ،‬وهي ٌ‬ ‫العميقة على م�ستوى ال�شعور‪ ،‬وا�ضطراب �أنظمة احلياة الإ�سالمية على م�ستوى‬ ‫الفعل والواقع املعي�ش‪ ،‬و�سن�ضرب العديد من الأمثلة جلالء هذه احلقيقة‪:‬‬ ‫�أ‪ -‬الزكاة جزء من النظام االقت�صادي الإ�سالمي‪ ،‬وعدم القيام بهذه ال�شعرية‬ ‫ي�ؤدي �إىل �ضعف كفاية ذلك النظام؛ كما ي�ؤدي �إىل �إحلاق ال�ضرر بالنظام االجتماعي‬ ‫والأخالقي �أي�ضاً‪ ،‬فاملقدار املفرو�ض من الزكاة يف الأموال وعرو�ض التجارة هو اثنان‬ ‫ون�صف يف املئة‪ ،‬وهذا القدر كاف ل�سد العديد من حاجات املجتمع الإ�سالمي على‬ ‫مقت�ضى احلكمة الإلهية البالغة‪ ،‬لكن ذلك �سيكون يف الأحوال العادية والطبيعية‬ ‫‪75‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 75‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ويف غري الأحوال الطارئة كما هو ال�ش�أن يف حاالت الزالزل والفي�ضانات‪ ،‬وذلك �أي�ضاً‬ ‫فيما �إذا التزم �أغنياء امل�سلمني ب�إخراجها‪ ،‬و�إذا ا�ستمر ذلك االلتزام حقبة منا�سبة من‬ ‫جمتمع‬ ‫الزمن‪ ،‬فلو قدرنا �أن ‪ %30‬من الأغنياء �أخرجوا الزكاة و�أن التزامهم ب�أدائها يف‬ ‫ٍِ‬ ‫ما مل مي�ض عليه �سوى �سنتني‪ ،‬ف�إن الزكاة �آنذاك ال تقوم مبهامها على الوجه املطلوب‪،‬‬ ‫احلد الذي ال‬ ‫حيث �إن احلالتني اللتني ذكرناهما جتعالن الفقر يرتاكم‪ ،‬ويتفاقم �إىل ِّ‬ ‫تفي �أموال الزكاة بالتخل�ص منه‪ ،‬ثم �إن نظام الزكاة ي�ؤدي مهامه يف ظل فعالية الأنظمة‬ ‫الأخرى‪ ،‬ف�إذا كانت موارد القطر �شحيحة جداً‪� ،‬أو كان النظام ال�سيا�سي فيه خمت ًال‪،‬‬ ‫و�أدى ذلك �إىل انت�شار البطالة والعطالة عن العمل‪ ،‬ف�إن نظام الزكاة بالتايل ال يو�صلنا‬ ‫�إىل الأهداف املن�شودة منه‪ ،‬وباعتبار الزكاة جزءاً من النظام االقت�صادي الإ�سالمي‪،‬‬ ‫ف�إنها �أي�ضاً ال ت�ؤدي وظائفها �إال بفاعلية النظام الذي تنتمي �إليه‪ ،‬فمث ًال‪( :‬القر�ض‬ ‫احل�سن) جزء من ذلك النظام‪ ،‬و�إعرا�ض الدولة �أو ال�شعب عنه ي�ؤدي �إىل نوع من‬ ‫تعطيل حركة املال‪ ،‬وتداوله مما يف�ضي بالتايل �إىل �ضعف حركة التنمية واال�ستثمار‪،‬‬ ‫وقلة فر�ص العمل وكرثة الفقراء واملعوزين‪ ،‬ومرة �أخرى ف�إن فاعلية نظام الزكاة‬ ‫ترتبط جزئياً بقيام الدولة بواجباتها من �ضمان احلد الأدنى من املعي�شة للفقري‬ ‫بالقدر الذي يحفظ كرامته‪ ،‬ويجعله يف و�ضع منتج مثمر‪ ،‬ف�إذا عجزت الدولة عن‬ ‫ق�صرت فيه‪ ،‬ف�إن �آلية (نظام ال�سوق) �ستوجِ د �شريحة وا�سعة من املحتاجني‬ ‫ذلك �أو َّ‬ ‫الذين ال ميكن �أن تقوم بهم �أموال الزكوات والنذور والكفارات‪ ...‬وينفعل كل‬ ‫ذلك‪ ،‬ويت�أثر بقوة النظام القيمي وفاعليته‪ ،‬ف�إذا كان نَ ِ�شطاً اندفع النا�س �إىل التطوع‬ ‫بكثري من الأعمال اخلدمية‪ ،‬واندفع كثري من الفقراء �إىل العمل واحلركة مع ح�سن‬ ‫التدبري والتعفف عن �أموال الآخرين مما يخفف من غلواء احلاجة‪.‬‬ ‫‪76‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 76‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ب‪ -‬ال�ضبط االجتماعي يف الإ�سالم يقوم على ركنني �أ�سا�سيني‪ :‬الأ�سرة واملجتمع‬ ‫العام مبا فيه من و�سائل تثقيف وتعليم ورقابة‪ ...‬و�إن اخللل يف � ٍّأي من هذين الركنني‬ ‫�سي�ؤدي �إىل �شيوع اخللل يف �أداء الركن الآخر‪ .‬ووا�ضح �أن مهمة الأ�سرة �أن ت�صقل‬ ‫الفرد من داخله مبا تغر�سه من قيم و�آداب ومبا ُّ‬ ‫تخطه يف ذهنيته وم�شاعره من خطوط‬ ‫عميقة‪ ،‬كما �أن مهمة املجتمع الأرحب القيام بالرقابة على ت�شجيع القيم الإيجابية‪،‬‬ ‫وحماية �أفراده من ال�سقوط فيما يعترب �أعما ًال ُم�شينة �أو مخُ ِ َّلة‪ ،‬واحلالة النموذجية يف‬ ‫هذا تتجلى يف عموم الإميان بالقيم والنظم‪ ،‬وتوحد الرتبية الفردية مع معايري ال�ضبط‬ ‫االجتماعي على مقت�ضى ذلك الإميان‪ ،‬ف�إذا ما افرت�ضنا وجود تباين بني القيم الأ�سرية‬ ‫والقيم التي يبثها الإعالم �أو تلقنها املدر�سة �أو ُي�شيعها ال�شارع‪ ،‬ف�إن النتيجة هي متزق‬ ‫�شخ�صية الطفل بني خمتلف هذه امل�ؤثرات‪ ،‬وحينئذ ف�إن الرتبية ال ْأ�سرية تتعر�ض‬ ‫للخطر من قبل املجتمع الأو�سع �أو ي�أتيه اخلطر مما مت التوا�ضع عليه من قبلها‪ ،‬هذا من‬ ‫جهة‪ ،‬ومن جهة �أخرى ف�إن الطفل ُيخفي يف البيت ما تلقفه من املدر�سة �أو ال�شارع‪،‬‬ ‫و ُيخفي فيهما ما ُل ِّق َن ُه يف البيت‪ ،‬والنتيجة هي االزدواجية واحلرية وانطفاء الفاعلية‪� ،‬أي‬ ‫�إجها�ض عمل اجلهات الرتبوية املختلفة‪ ،‬وترك النا�شئ ملوجات الظروف‪.‬‬ ‫ج‪ -‬احلدود يف الإ�سالم و�سائل للردع‪ ،‬وهي مبثابة العمل اجلراحي الذي ي�أتي‬ ‫ترتيبه يف التطبب مت�أخراً‪ ،‬وت�ؤدي احلدود مهماتها يف جمتمع يتمتع بالعي�ش يف �أو�ضاع‬ ‫مقبوله‪ ،‬حيث يتوفر فيه احلد الأدنى من اال�ستقرار والعدل وفر�ص العمل املنا�سبة‬ ‫وانعدام املغريات بالفاح�شة وان�سجام الرتبية البيتية مع معايري ال�ضبط االجتماعي‬ ‫وانت�شار العلم‪ ...‬و�إذا ما فر�ضنا وقوع خلل فيما �سبق �أو بع�ضه‪ ،‬ف�إن كفاءة احلدود‬ ‫يف توفري الأمن للمجتمع �سوف ترتاجع على مقدار الق�صور احلا�صل يف الأنظمة‬ ‫‪77‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 77‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الأخرى‪ ،‬وهذا كله يجعل م�س�ؤولية �أمن املجتمع وا�ستقراره م�س�ؤولية عامة يتحملها‬ ‫كل فرد يف املجتمع‪ ،‬كما تتحملها الدولة على مقدار املُ ْك َنة والتخ�ص�ص‪.‬‬ ‫‪� -4‬إذا كانت �أنظمة الإ�سالم متفردة يف ر�ؤيتها الكونية ويف منطلقاتها و�أهدافها‪ ،‬ف�إن‬ ‫مما ي�ضر بتما�سكها الداخلي �إدخال العنا�صر البعيدة عن طبيعتها عليها‪ ،‬وهذا ما ميكن‬ ‫�أن ن�سميه بـ (التلفيق)‪ ،‬و�إن الثقافة الإ�سالمية تقبل من اجلديد ما ين�شِّ ط وظائفها‪� ،‬أو‬ ‫ِّ‬ ‫يوظف مبادئها‪� ،‬أو ميلأ فراغات وهوام�ش �أوجدتها خا�صية املرونة فيها‪ ،‬ف�إذا جتاوز الأمر‬ ‫ذلك �إىل اجلوهر والأنظمة الأ�سا�سية‪ ،‬ف�إن النتيجة هي �ضرب التوازنات العميقة لتلك‬ ‫هاجم وتفرز‬ ‫الثقافة مما يجعلها تنكم�ش كما هو امل�ألوف يف �ش�أن الكائن احلي حني ُي َ‬ ‫نوعاً من العطالة ال�ضرورية كيما حتافظ على وجودها وان�سجامها‪� ،‬إن ثقافتنا الإ�سالمية‬ ‫متر مبرحلة ع�صيبة ال �سابق لها يف تاريخها املديد حيث ميتلك زما َم تثقيف الأمة �أنا�س‬ ‫كثريون يجهلون ثقافة الأمة‪ ،‬بل �إنهم ر�ضعوا لبان الثقافة املعادية‪ ،‬ول�سنا هنا ب�صدد‬ ‫بيان ذلك وال �أ�سبابه‪ ،‬لكن ما ن�شاهده اليوم من عمليات التلفيق والتهجني الثقايف‬ ‫كان ح�صاد مراحل الركود الفكري واحل�ضاري ب�صورة عامة‪ ،‬و�إذا كان التجديد �سنة‬ ‫من �سنن الكائن احلي ف�إنه �إذا مل يت َول التجديد �أهله تواله غريهم‪ ،‬فالإن�سان بطبعه‬ ‫ال ي�صرب على طعام واحد‪ ،‬وهو ي�ستهلك ال�شعارات والأفكار والنظم ال�صغرى‪ ،‬ف�إذا‬ ‫مل نقم ب�إثراء ثقافتنا بالدرا�سات واخلربات وجتديدها وحتريرها من عوادي االنحراف‬ ‫واجلمود والتقليد فعل ذلك من ال ُيح�سنه‪ ،‬و�صار االن�سجام والتجديد عبارة عن‬ ‫�سمات ظاهرة جوفاء‪� ،‬أما اجلوهر في�شوبه التناق�ض والت�آكل الداخلي‪.‬‬ ‫وهلل الأمر من قبل ومن بعد‪.‬‬ ‫‪78‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 78‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ‬ ‫ﮖ‬ ‫كان من م ّنة اهلل تعاىل على هذه الأمة �أن �شرع لها من الدين ما ُي�صلح �أمر دنياها‬ ‫و�آخرتها‪ ،‬وكان من �أهم ما �شرعه �صوم �شهر رم�ضان املبارك‪ .‬والعبادات يف الإ�سالم‬ ‫تكاليف ابتالء‪ ،‬ومقيا�س يك�شف عن مدى متكن الإميان و�أَلقَه يف نف�س امل�سلم‪ ،‬وهي‬ ‫يف الوقت ذاته و�سائل لتمكني ذلك الإميان‪� ،‬إنها له مبثابة املاء لل�شجر والنبات‪ .‬و�آيات‬ ‫ال�صيام مل ت ِّعدد لنا �أنواع اخلريات التي �سنح�صل عليها من وراء هذه العبادة؛ ليظل‬ ‫عطاء هذه العبادة مفتوحاً متنوعاً تظهره التجربة التاريخية االجتماعية‪ ،‬والواقع املعي�ش‪،‬‬ ‫ون�ستطيع اليوم من خاللهما �أن نتلم�س وجوهاً من ذلك اخلري يف املفردات التالية‪:‬‬ ‫‪� -1‬إن ال�صيام و�سيلة ف َّعالة لرتبية الإرادة احلرة‪:‬‬ ‫تكف امل�سلم عن �شهواته وملذاته‬ ‫من الوا�ضح �أنه ال توجد عبادة من العبادات ُّ‬ ‫مدة مت�صلة من الزمان كهذه العبادة‪ ،‬فهي تدريب لإرادة امل�سلم على مقاومة الأهواء‬ ‫وامللذات ومغريات احلياة‪ .‬واملت�أمل فيما يتفاوت فيه النا�س يف هذا الوجود يجد‬ ‫�أن حمور التفاوت هو الإرادة ال القدرة‪ ،‬فالقدرات الفطرية لدى النا�س متقاربة‪،‬‬ ‫‪79‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 79‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وتوجهها‬ ‫و تفاوتهم الأ�سا�سي يكون يف مدى �صالبة الإرادة التي تُ�سخِّ ر القدرة ِّ‬ ‫والتي تعني على �ضبط الوقت‪ ،‬وتكبح جماح الهوى‪ ،‬وتع�صم من الركون �إىل الدعة‬ ‫لينمي تلك الإرادة ول ُي َع ِّو َدها التوجه‬ ‫و�سفا�سف الأمور‪ ،‬ومن هنا ف�إن ال�صيام جاء ِّ‬ ‫�إىل اخلري ومقاومة نزوات النف�س؛ ولذا ف�إن تفريط امل�سلم يف �أداء هذه ال�شعرية �صار‬ ‫نق�ص يف رجولته‪ ،‬وهذا هو تف�سري �أداء كثري من‬ ‫لدى العامة من امل�سلمني م�ؤ�شراً �إىل ٍ‬ ‫امل�سلمني لل�صيام مع تفريطهم يف ال�صالة‪ ،‬مع �أن �أهميتها يف الإ�سالم �أعظم! ويذكر‬ ‫لنا ابن اجلوزي (ت ‪ 597‬هـ) �أن فى زمانه �صنفاً من النا�س لو ُ�ضرب بال�سياط على‬ ‫�أن يفطر رم�ضان ما �أفطره‪ ،‬ولو �ضرب على �أن ي�صلي ما �صلى! وما ذلك �إال لأن‬ ‫يعدوا ال�صالة كذلك‪ ،‬ويف قوله �سبحانه‪:‬‬ ‫عدوا الإفطار نق�صاً يف الرجولة‪ ،‬ومل ُّ‬ ‫النا�س ُّ‬ ‫( و�أن ت�صوموا خري لكم ) يف �أعقاب ذكر الرخ�صة للمري�ض وامل�سافر بالفطر �إمياءة‬ ‫للم�سلم ب�أنه من الأف�ضل له �أن ي�صوم مع املر�ض املح َتمل وال�سفر غري ال�شاق‪ ،‬ليكون‬ ‫يف حتقيق �إرادته نوع من املكابدة واملعاناة يف �سبيل اهلل ‪ ،‬وحتى ال ي�صري بع�ض‬ ‫النا�س �إىل البحث عن الرخ�ص والتذرع بها للفرار من الواجبات‪.‬‬ ‫‪-2‬كيف كان ال�صيام عبادة �سلبية؟‪.‬‬ ‫�إن ال�صيام هو امتناع عن �أنواع املفطرات‪ ،‬ومن ث ََّم ف�إنه بعيد عن الرياء‪ ،‬وخرق‬ ‫تلك العبادة �أمر مي�سور يف ال�سر ملن �أراد ذلك‪ ،‬ومن هنا ف�إن �صيام رم�ضان فر�صة‬ ‫لتنمية الوازع الداخلي لدى امل�سلم‪ ،‬هذا الوازع الذي ُتعد تنميته حمور الرتبية‬ ‫الفردية الناجحة‪ ،‬و من امللمو�س �أن تعاظم هذا الوازع ال يتم �إال من خالل الثقة به‬ ‫واالعتماد عليه يف �ش�ؤون عديدة‪ ،‬فهو يف ذلك �أ�شبه �شيء بع�ضالت اجل�سم يف �أن‬ ‫منوها يف ا�ستخدامها وحتريكها واالعتماد عليها؛ ولذا ف�إننا نرى �ضعف الوازع الداخلي‬ ‫‪80‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 80‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫لدى �أولئك الذين ميار�سون الف�ضائل‪ ،‬ويقومون بالواجبات من خالل ق�سر الأبوين �أو‬ ‫املجتمع‪ ،‬فهم يفعلون ما يفعلونه نتيجة �ضغط خارجي‪ ،‬ف�إذا ما �ضَ ُع َف ذلك ال�ضغط �أو‬ ‫تال�شى �أتوا من الرذائل والقبائح و�أنواع التحلل ما يتنا�سب طرداً مع حجم ال�ضغوط‬ ‫التي تعر�ضوا لها فيما م�ضى؛ وهذا يجعلنا ن�ساوق بني الرقابة االجتماعية وتنمية‬ ‫الوازع الداخلي من خالل الرتبية البيتية القومية‪.‬‬ ‫‪ -3‬يف ال�صيام فوائد طبية واقت�صادية وا�ضحة‪:‬‬ ‫و ذلك لأنه يخ ِّل�ص اجل�سم من بع�ض ما تراكم فيه من الدهون‪ ،‬ويريح املعدة‬ ‫من العمل ال�شاق الذي تقوم به على مدار ال�سنة مع فوائد طبية �أخرى معروفة‪..‬‬ ‫ويف ال�صيام توفري �إجباري لنحو ‪ % 40‬من ا�ستهالك الأطعمة والأ�شربة الذي تعوده‬ ‫النا�س يف �أيام الفطر‪ ،‬ويف هذا نوع من التعظيم للمالية الإ�سالمية ونوع من املحافظة‬ ‫على املوارد الغذائية للأمة امل�سلمة‪.‬‬ ‫‪ -4‬من خريات رم�ضان �أنه �أ�ضحى ظرفاً لأداء �أنواع من القربات هلل‪:‬‬ ‫قد جتاوز �صيام هذا ال�شهر مفهوم التلب�س بعبادة من العبادات‪ ،‬لي�صبح نوعاً من‬ ‫االمتثال ملفردات كثرية يف املنهج الرباين‪ ،‬ففيه قيام الليل والإكثار من قراءة القر�آن‬ ‫واالعتكاف يف امل�ساجد‪ ،‬ولزوم اجلماعات من ِق َبل كثري من امل�سلمني‪ ،‬و�إخراج‬ ‫�صدقة الفطر‪ ،‬واال�ستب�شار بعفو اهلل وكرمه مبا ُتظهِ ره الأمة من البهجة وال�سرور يف يوم‬ ‫عيدها‪ ،‬فك�أن �شهر رم�ضان منا�سبة الزدحام العبادات والقربات يف حياة امل�سلم على‬ ‫نحو ال يتوافر يف �أي وقت �آخر‪.‬‬ ‫‪ -5‬ميثل ال�صيام نوعاً من االت�صال والتوا�صل االجتماعي‪:‬‬ ‫تر�سم الظروف اليومية وامل�صالح والأو�ضاع االجتماعية‪ ،‬والطموحات اخلا�صة‬ ‫‪81‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 81‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫جمموع ًة من الأطياف العازلة لكل �إن�سان عن غريه‪ ،‬مما ي�ؤدي �إىل فقد االت�صال‬ ‫�أو �ضعفه‪ ،‬وفقد االت�صال يف جمتمع ما من �أكرب املعوقات له عن النمو والتجان�س‬ ‫وال�صمود يف وجه الكوارث و�ألوان العدوان اخلارجي‪ ،‬ومن ث ََّم ف�إن امتناع �أبناء‬ ‫املجتمع امل�سلم عن الطعام يف وقت واحد مهما كانت �أو�ضاعهم االجتماعية وتناولهم‬ ‫حمدد‪� ،‬إىل جانب ال�شعائر اجلماعية الأخرى التي تعودها امل�سلمون‬ ‫له يف وقت �آخر َّ‬ ‫يف هذا ال�شهر املبارك ـ من �أهم ما مينح ال�شعور بالتجان�س‪ ،‬ومن �أهم ما ُيزيل احلواجز‬ ‫التي تو ِّلدها الظروف املختلفة‪.‬‬ ‫ال�صيام اليوم‪:‬‬ ‫وتوجهها وفق م�ضامينها ومعطياتها‪،‬‬ ‫�إن مهمة املبادئ العليا �أن تك َّيف حياة النا�س ِّ‬ ‫لكن تلك املباديء ال تعمل يف فراغ‪ ،‬و�إمنا ت�شتبك مع �أمور عديدة‪ ،‬من جملتها‬ ‫العادات املوروثة والظروف ال�ضاغطة والأهواء وال�شهوات اجلاحمة والت�أويالت‬ ‫والأفهام اخلاطئة للمنهج واملباديء‪ ،‬وهذا كله ينتهي �إىل �ش�أن اجتماعي معي�ش‬ ‫يلخ�صه ميل النا�س ب�صورة دائمة �إىل جعل املنهج الرباين جزءاً من ثقافتهم‪ ،‬وقد‬ ‫يكون جزءاً �صلباً‪ ،‬وقد يكون جزءاً رخواً على مقدار �إقبال النا�س على الإ�سالم مع‬ ‫�أن املطلوب هو �أن جنعل املنهج موجهاً للثقافة ومهيمناً عليها‪ .‬ومن هنا ف�إن �أخطر علل‬ ‫التدين هي تلك التي ت�صيب الأمة يف مكانة منهجها ومبادئها من ثقافتها العامة‪،‬‬ ‫فتكف املبادئ عن توجيه الفعل‪� ،‬أو تنحرف عن غاياتها ومقا�صدها‪ ،‬فال حتقق الحِ َكم‬ ‫املق�صودة من ت�شريعها‪ ،‬ويكون اجلهاد الدائم هو حماولة الإبقاء على املنهج الرباين‬ ‫�ساطعاً مت�ألقاً متميزاً عما تواط�أ عليه النا�س من عادات وتقاليد‪.‬‬ ‫ومازال بحمد اهلل يف جمتمعنا امل�سلم من يحر�ص على ال�صيام على الوجه الأكمل‪،‬‬ ‫‪82‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 82‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫لكن الأكرثية الكاثرة من هذه الأمة انحرفت بال�صيام عن‬ ‫وهم يف تزايد م�ستمر‪َّ ،‬‬ ‫مقا�صده التي ذكرنا �أهمها �آنفاً‪ ،‬فعلى حني كان ال�سلف يعدون رم�ضان فر�صة �سانحة‬ ‫يغتنمونها يف �صنوف الطاعات‪ ،‬جند كثرياً من امل�سلمني ي�سهرون الليل يف �ضروب‬ ‫خمتلفة من اللهو حتى �إذا اقرتب وقت ال�سحر تناولوا ما َّلذ وطاب من الأطعمة‪،‬‬ ‫ثم ناموا قبل �أداء �صالة الفجر‪ ،‬و�إذا كان هذا النائم موظفاً ف�إن وقت بداية العمل يف‬ ‫رم�ضان يكون مت�أخراً‪ ،‬فيقوم متثاق ًال �إىل عمله ليكمل نومه هناك! و�إن كان غري موظف‬ ‫ف�إن رم�ضان عنده هو �شهر النوم‪ ،‬في�ستغرق يف نومه �إىل ما قبل املغرب‪ ،‬فيف ِّوت عليه‬ ‫�أكرث من فري�ضة �صالة!! ومع هذا ف�إن ال�شعار املرفوع لدى كثري من املوظفني هو �أن‬ ‫رم�ضان �شهر عبادة‪ ،‬ولي�س �شهر عمل (العبادة التي قدمنا �صورة منها! )‪.‬‬ ‫فحدث عن هذا وال حرج‪ ،‬حيث �إن التجار‬ ‫�أما تهذيب النف�س من خالل اجلوع ِّ‬ ‫وتقدر بع�ض‬ ‫ي�شرعون يف الإعداد مل�ستلزمات رم�ضان قبل جميئه بنحو �شهرين‪ِّ ،‬‬ ‫اجلهات �أن ما ي�ستهلكه كثري من امل�سلمني يف رم�ضان ي�صل �إىل ثالثة �أمثال ما‬ ‫ي�ستهلكونه يف غري رم�ضان! وقد �صار رم�ضان عبئاً ثقي ًال على احلكومات التي تو ِّفر‬ ‫ال�سلع املدعومة ملواطنيها!‬ ‫وقد كان ال�سلف يدعون اهلل ـ تعاىل ـ �ستة �أ�شهر �أن يب ِّلغهم رم�ضان‪ ،‬ف�إذا ان�صرم‬ ‫دعوا اهلل �ستة �أ�شهر �أخرى �أن يتقبل منهم �أعمالهم فيه‪� ،‬أما اليوم ف�إن كل و�سائل‬ ‫الإعالم يف العامل الإ�سالمي ُت ْ�ش ِعر النا�س ب�أن رم�ضان �ضيف ثقيل‪ ،‬فك�أنه �شر البد‬ ‫منه‪ ،‬ومن ثم ف�إن كثرياً من الربامج ين�صرف �إىل الرتفيه عن النا�س مبا يجوز ومبا ال‬ ‫يجوز‪ ،‬وانقلب ال�شهر املبارك بذلك �إىل مو�سم للهو واللعب!‬ ‫وما يحدث لكثري من امل�سلمني يف هذا ال�شهر �أمر مفهوم‪ ،‬حيث �إن الأمة‬ ‫‪83‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 83‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫تكف مبادئها عن الفعل‪ ،‬وت�سيطر عليها‬ ‫حني متر بحالة من الركود احل�ضاري ُّ‬ ‫ال�شكليات والعادات‪ ،‬فجيو�شها ال تقاتل‪ ،‬ومبدعوها ال ُيع َرفون والف�ضائل فيها‬ ‫�شعارات‪ ،‬والعبادات عادات‪ ..‬وت�ستمر يف ذلك حتى تندثر باعتبارها �أمة متميزة‬ ‫�أو يبعثها اهلل بعثاً جديداً‪ ،‬يحيي ما اندر�س من �سابق عهدها؛ وما ذلك على اهلل‬ ‫بعزيز‪.‬‬

‫‪84‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:11‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 84‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮮ ﮯﮰﮱﯓﯔ‬

‫ق�ص اهلل ‪ ‬علينا خرب مو�سى مع �شعيب ‪-‬عليهما ال�سالم‪ -‬حني جاء مدين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ووجد ابنتني ل�شعيب قد منعتا غنمهما من الورود بانتظار ذهاب الرعاء وفراغ املكان‪،‬‬ ‫وما حدث من تطوع مو�سى بال�سقيا لهما‪ ،‬وما كان من �أمر �شعيب حني بلغه ما قام‬ ‫به مو�سى حيث �أر�سل له يطلبه؛ ليجزيه على ذلك‪ ،‬وذكر لنا القر�آن الكرمي كذلك‬ ‫ن�صيحة ابنة �شعيب لأبيها با�ستئجاره‪ ،‬وع َّللت ذلك بقوة مو�سى و�أمانته‪ ،‬ويذكر‬ ‫املف�سِّ رون �أن �شعيباً ‪-‬عليه ال�سالم‪� -‬أثارت حفيظته الغرية من كالمها‪ ،‬فقال‪ :‬وما‬ ‫علمك بقوته و�أمانته ؟ فذكرت له �أن مو�سى حمل حجراً من فوق فوهة البئر‪ ،‬ال‬ ‫يحمله يف العادة �إال النفر من النا�س‪ ،‬وتلك قوته‪ ،‬و�أنه حني ذهبت تكلمه �أطرق‬ ‫ت�صيب الريح ثياب َها‬ ‫ر�أ�سه‪ ،‬ومل ينظر �إليها‪ ،‬كما �أنه �أمر املر�أة �أن مت�شي وراءه‪ ،‬حتى ال َ‬ ‫فت�صف ما ال حتل له ر�ؤيته‪ ،‬وتلك �أمانته‪ ،‬وقد �صدق حد�سها فهي ما ر�أت �إال نبياً‬ ‫َ‬ ‫من �أويل العزم امل�ؤمتنني على الوحي‪ ،‬الأ�شداء الأقوياء! وقد قيل‪� :‬إن �أفر�س النا�س‬ ‫ثالثة‪ :‬بنت �شعيب و�صاحب يو�سف حني قال ﱹﯚ ﯛ ﯜﱸ يو�سف‪ ٢١:‬و�أبو بكر‬ ‫‪85‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 85‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫حني اختار عمر لإمارة امل�ؤمنني(‪ ،)1‬وقد جمعت ابنة �شعيب يف تعليلها املخت�صر ذاك‬ ‫بني �أمرين عظيمني‪ ،‬ين�ضوي حتتهما معظم الكماالت الإن�سانية‪ ،‬وهما الأمانة والقوة‪،‬‬ ‫وهذه وقفات �سريعة معهما‪:‬‬ ‫‪ -1‬لي�ست الأمانة هنا �إال رمزاً ملا ي�ستلزمه الإميان باهلل ـ تعاىل ـ من املحامد‬ ‫والكف عن املحرمات؛‬ ‫كالإخال�ص والأمانة وال�صدق وال�صرب واملروءة‪ ،‬و�أداء الفرائ�ض ِّ‬ ‫وقد قال �أكرث املف�سرين يف قوله �سبحانه‪ :‬ﱹﯟ ﯠ ﯡ ﱸ الأحزاب‪� :72:‬إن املراد‬ ‫(‪)2‬‬ ‫طر َفه‪،‬‬ ‫بها التكاليف ال�شرعية عامة ‪ ،‬وقد و�صفت ابنة �شعيب مو�سى بالأمانة لغ�ضِّ ه ْ‬ ‫وم�شيه �أما َمها‪.‬‬ ‫�أما القوة فهي رمز ملجموع الإمكانات املادية واملعنوية التي يتمتع بها الإن�سان‪.‬‬ ‫‪ -2‬الأمانة والقوة لي�ستا �شيئني متوازيني دائماً‪ ،‬فقد يتحدان‪ ،‬وقد يتقاطعان‬ ‫فال�صرب جزء من الأمانة؛ لأنه قيمة من القيم‪ ،‬وهو يف ذات الوقت قوة نف�سية‬ ‫�إرادية‪ ،‬و�إذا كان العلم من جن�س القوة‪ ،‬ف�إنه يو ِّلد نوعاً من الأمانة؛ �إذ �أهله �أوىل‬ ‫النا�س بخ�شية اهلل‪ ،‬ﱹ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﱸ‬ ‫�سورة فاطر‪ 28:‬والإميان � ُّ‬ ‫أجل القيم الإ�سالمية‪ ،‬فهو من جن�س الأمانة‪ ،‬ومع ذلك ف�إنه‬ ‫يو ِّلد لدى الفرد طاقة روحية هائلة جتعله ي�صمد �أمام ال�شدائد �صمود اجلبال‪ ،‬ومن‬ ‫ثم كانت الظاهرة الإ�سالمية العاملية؛ ظاهرة (امل�سلم ال ينتحر)!‪� .‬إن هذا التالقي‬ ‫بني الأمانة والقوة ميثِّل بع�ض الأر�ضية امل�شرتكة لتالقي �أهل الأمانة و�أهل القوة‪،‬‬ ‫كما يجعل التحقق من �إحداهما امل ْع رَ َب للتحقق من الأخرى‪.‬‬ ‫‪-1‬الك�شاف ‪.163 :3‬‬ ‫‪ -2‬انظر البحر املحيط ‪.253 :7‬‬ ‫‪86‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 86‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪� -3‬سوف يظل النمط الذي يجمع بني القوة والأمانة نادراً يف بني الإن�سان‪،‬‬ ‫والقوي الذي ال ي�ؤمتن‪،‬‬ ‫وكلما اقرتبا من الكمال يف �شخ�ص �صار وجوده �أكرث ندرة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫واملوثوق العاجز هم �أكرث النا�س‪ ،‬والذين فيهم �شيء من القوة و�شيء من الأمانة‬ ‫كثريون‪ ،‬وقد روي عن عمرـ ر�ضي اهلل عنه ـ �أنه قال‪� :‬أ�شكو �إىل اهلل َج َلد الفاجر‬ ‫وعجز الثقة‪ٌّ ،‬‬ ‫فكل منهما ال ميثِّل امل�سلم املطلوب‪ ،‬ودخل عمر �أي�ضاً على لفيف من‬ ‫ال�صحابة يف جمل�س لهم فوجدهم يتمنون �ضروباً من اخلري‪ ،‬فقال‪� :‬أما �أنا ف�أمتنى �أن‬ ‫يكون يل ملء هذا البيت من �أمثال �سعيد بن عامر اجلمحي‪ ،‬ف�أ�ستعني بهم على‬ ‫�أمور امل�سلمني!‪.‬‬ ‫‪ -4‬العمل املقبول يف املعايري الإ�سالمية هو ما توفر فيه الإخال�ص وال�صواب‪،‬‬ ‫والإخال�ص �ضرب من الأمانة‪ ،‬وال�صواب ـ وهو هنا موافقة ال�شريعة ـ �ضرب من‬ ‫القوة‪ ،‬هذا ب�صورة عامة‪ ،‬لكن يف �أحيان كثرية يكون ما ُي ْطلب من �أحدهما �أكرث مما‬ ‫يطلب من الآخر؛ فالثواب يتعلق بالإخال�ص �أكرث من تعلقه بال�صواب‪ ،‬فاملجتهد‬ ‫امل�ؤهل ينال �أجراً �إذا ا�ستفرغ و�سعه و�إن كان اجتهاده خاطئاً‪ ،‬لكن ال ثواب �ألبتة‬ ‫على عمل ال يراد به وجه اهلل ـ تعاىل ـ �أما النجاح والو�صول �إىل الأهداف املر�سومة‬ ‫يف الدنيا ف�إنه مرتبط بال�صواب �أكرث من ارتباطه بالإخال�ص‪ ،‬فكم من م�ؤ�س�سة يديرها‬ ‫�أكفاء لي�س عندهم �شيء من الأمانة‪ ،‬ثم حققت �أهدافها املادية كاملة وكم من‬ ‫م�ؤ�س�سة �أدارها �أخيار غري م�ؤهلني‪ ،‬ف�أعلنت �إفال�سها! وقد ذكر ابن خلدون �أن للنا�س‬ ‫مذهبني يف ا�ستخدام الأكفاء غري الثقات وتقدميهم على الثقات غري الأكفاء‪ ،‬واختار‬ ‫هو ا�ستخدام غري الثقات �إذا كانوا م�ؤ َّهلني؛ لأن يف الإمكان و�ضع بع�ض التدابري التي‬ ‫‪87‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 87‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫امل�ستخدم ال يح�سن �شيئاً فماذا نعمل به(‪ )1‬؟‪.‬‬ ‫حتد من �سرقاتهم‪� ،‬أما �إذا كان‬ ‫َ‬ ‫وقد ولىَّ النبي × �أهل الكفاية احلربية من �أ�صحابه مع �أن فيهم من هم �أتقى‬ ‫منهم و�أورع؛ لأن القوة (الب�سالة وح�سن التخطيط) ُتطلب يف قيادة اجلي�ش �أكرث من‬ ‫الأمانة‪ ،‬مع �أنهم كانوا بكل املقايي�س من الأمناء الأخيار‪ ،‬وطلب بع�ض ال�صحابة ممن‬ ‫ُعرفوا بالزهادة والورع الوالي َة على بع�ض �أمور امل�سلمني‪ ،‬فحجبها عنهم ل�ضعفهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬نحن يف مراجعة �أخطائنا ِّ‬ ‫نركز على جانب الأمانة‪ ،‬ونهمل جانب القوة‪ ،‬ف�إذا‬ ‫عمل ما قلنا‪ :‬نحن بحاجة �إىل تقوى و�إخال�ص‪ ،‬و�إن اتباع الأهواء هو‬ ‫ما �أخفقنا يف ٍ‬ ‫ال�سبب يف ذلك‪ .‬وال ريب �أن الإخال�ص مفتاح القبول والتوفيق‪ ،‬و�أن التقوى مما‬ ‫ي�ستنزل ال َف َرج‪ ،‬لكن ما هي املعايري التي متكننا من قيا�س درجة التقوى ومقدار‬ ‫الإخال�ص املوجود �إذا ما �أردنا التحقق منه؟ وكيف ن�ستطيع التفريق بني عمل دفع‬ ‫�إليه الهوى و�آخر دفع �إليه االجتهاد ؟ كل ذلك مما ي�ستحيل قيا�سه‪ ،‬وبالتايل ف�إنه ال‬ ‫ميكن حتديده‪ ،‬وما ال ميكن حتديده‪ ،‬ال ي�صلح لأن يكون هدفاً‪.‬‬ ‫�إن يف �إمكان النا�س �أن يقولوا �إىل ما �شاء اهلل‪ :‬نحن �أتباع هوى دون �أن ت�ستطيع‬ ‫�أن ترد على �أحد منهم رداً �شافياً قاطعاً‪ ،‬على حني �أن قيا�س القوة ممكن‪ ،‬واخللل فيها‬ ‫يكون عادة ظاهراً ميكن و�ضع الإ�صبع عليه‪ ،‬فحني ي�أتي خطيب ليتوىل �إدارة جي�ش‪� ،‬أو‬ ‫التخطيط ملعركة‪ ،‬وحني يتوىل ر�سم �سيا�سات العمل ٌ‬ ‫رجل ال يعرف الواقع‪ ،‬فال يقر�أ‬ ‫جريدة وال ي�ستمع �إىل ن�شرة �أخبار‪ ،‬وال ُيح�سن قراءة �أي �شيء يحيط به‪ ،‬ف�إن اخللل‬ ‫�شرحه النتائج!‪ .‬وحني يت�صدى لالجتهاد‬ ‫ال يحتاج �إذ ذاك �إىل �شرح حيث تتوىل َ‬ ‫يف �أمور خطرية �أ�شخا�ص ال ميلكون احلد الأدنى من املعلومات حولها‪ ،‬وترتتب على‬ ‫‪-1‬انظر مقدمة ابن خلدون ‪.279 :2‬‬ ‫‪88‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 88‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫اجتهاداتهم فواجع �أكرب من �أي جرمية ماذا تكون احلال ؟! قد �آن الأوان لو�ضع‬ ‫الأمور يف ن�صابها‪ ،‬بت�أهيل ال�شخ�ص قبل �إيجاد العمل الذي �سيعمل فيه‪ ،‬بد ًال من‬ ‫�أن يتم �إيجاد املن�صب ثم ُيبحث عمن ي�سد الفراغ لي�س �أكرث!‬ ‫‪ -6‬عاملنا الإ�سالمي منوذج مثايل للقوى الكامنة‪ ،‬فكل ما عندنا (خام)‪ :‬الإن�سان‬ ‫والطبيعة واملوارد‪ ،‬ولعل هلل يف ذلك حكمة بالغة؛ �إذ �إن ت�شكيل الإن�سان امل�سلم لو مت‬ ‫قبل بزوغ ال�صحوة املباركة لكان �أكرث �ضرراً من بقائه على حاله‪ ،‬هذه القوى الكامنة‬ ‫�ستظل ثغرات يف حياتنا ـ �أياً كان موقعها ـ يف ظل التكالب العاملي على ال�صعيد‬ ‫الثقايف واالقت�صادي‪ ،‬وهذه القوى الكامنة حتتاج �إىل تفجري و�إىل �إخراج يف �شكل‬ ‫جديد مينحها وزنها احلقيقي‪ ،‬و�إن �إخراج القوة هو مهمة الدولة �أو ًال؛ فهي امل�س�ؤولة عن‬ ‫تفجري الطاقات كافة وتوجيهها‪ ،‬ومهمة �صفوة ال�صفوة من �صانعي املبادرات اخليرّ ة‪،‬‬ ‫الذين ميتد ب�صرهم دائماً �إىل م�ستوى �أعلى من امل�ستوى الذي تعي�ش فيه �أمتهم‪،‬‬ ‫فيوجِ دون با�ستمرار الأفكار والأطر والأجواء والآليات التي ُتف ِّعل القوى اخلامدة‬ ‫املجهولة للنا�س حتى حامليها‪ ،‬واليهود هم من �أ�ساتذة العامل يف (�إخراج القوة)‬ ‫وتوظيفها وا�ستغاللها‪ ،‬و�صحيح �أن ديننا يحول بيننا وبني و�سائل كثرية ا�ستخدموها‬ ‫حتى و�صلوا �إىل ما و�صلوا �إليه‪ ،‬لكنني �أعتقد �أنه مازال يف هذا العامل مكان ف�سيح‬ ‫للم�سلم املب�صر الأريب‪ ..‬وقد بد�أت الأمة يف امتالك القوة‪ ،‬وبد�أ املارد الذي نام قروناً‬ ‫ي�صحو‪ ،‬وهو الآن يتفقد �أع�ضاءه وحوا�سه‪ ،‬ويحاول �أن يتعلم امل�شي يف (حارة) الكرة‬ ‫الأر�ضية‪ ،‬لكن بع�ضاً منا بد�ؤوا يخبطون مينة‪ ،‬وي�سرة قبل �أن يفتحوا عيونهم‪ ،‬وقبل‬ ‫�أن يعقلوا الأجواء التي ي�صحون فيها؛ ليغروا العدو بتوجيه الر�صا�صة القاتلة قبل �أن‬ ‫يقفوا على �أقدامهم!‪.‬‬ ‫‪89‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 89‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�إن فهم احلياة املعا�صرة �شرط �أ�سا�سي يجب توفريه عند كل �أولئك الذين يريدون‬ ‫توجيهها والت�أثري فيها‪ ،‬ولن يكون ذلك ممكناً ما مل نكن نحن من امل�شاركني يف �صناعة‬ ‫قراراتها وخياراتها‪..‬‬ ‫‪ -7‬الأمانة قيد على القوة‪ ،‬فهي التي حتدد جماالت ا�ستخدامها وكيفياته‪ ،‬والقوة‬ ‫الآن يف يد الآخرين على ما نعرف‪ ،‬والقيود الأخالقية عندهم �آخذة يف ال�ضعف‬ ‫يوماً بعد يوم؛ لأنها ال تعتمد على �إطار مرجعي �أعلى مينحها الثبات‪ ،‬ومن ثم ف�إن‬ ‫القوة لي�ست يف طريقها �إىل االنطالق من �أي �ضابط �أو رقيب‪ ،‬لكنها يف طريقها �إىل‬ ‫�صنع قيودها بنف�سها ِ‬ ‫ال�صناع َة التي ِمتك َّنها من مزيد من االنطالق‪ ،‬وهي بذلك جتعل‬ ‫الآخرين يتوهمون �أنها قيود؛ حتى ال ي�شعر �أحد �أن هناك فراغاً �أخالقياً يجب مل�ؤه!‬ ‫وما النظام العاملي اجلديد �سوى الأحرف الأوىل يف �أبجديات القيود اجلديدة! وهذا‬ ‫يوجب علينا املزيد من التفكري والت�أمل فيما يجب عمله‪ ،‬ونحن مع �ضعفنا قادرون يف‬ ‫هذا امل�ضمار على عمل الكثري الكثري �إذا فهمنا لغة الع�صر‪ ،‬و�أح�سنا �إدارة ال�صراع؛‬ ‫�إننا منلك القيود (الأمانة)‪ ،‬وهم ميلكون القوة‪ ،‬فهل ن�سعى �إىل امتالك القوة املق َّيدة‬ ‫حتى ي�صطلي العامل بالنار دون �أن يحرتق ؟؟‬

‫‪90‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 90‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯟﯠﯡﯢ‬ ‫�أنزل اهلل ‪ ‬يف املنافقني �سورة ُ�سميت با�سمهم‪ ،‬تف�ضح بع�ض مواقفهم‪ ،‬و ُتخرب‬ ‫عن بع�ض �صفاتهم‪ ،‬وكان من جملة ما نَ َع َت ُه ْم اهلل ـ تعاىل ـ به قوله‪ :‬ﱹ ﯟ ﯠ‬ ‫ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ‬

‫ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻﱸ املنافقون‪.4:‬‬ ‫عجب بجمال �أج�سامهم‪ ،‬ومن‬ ‫فقد و�صفهم اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬ب�أن الناظر �إليهم ُي َ‬ ‫ي�سمعهم ُي�ؤخذ بف�صاحة �أل�سنتهم‪ ،‬لكنهم كالهياكل الفارغة‪� ،‬أ�شباح بال �أرواح‪،‬‬ ‫و�أج�سام بال �أحالم‪ ...‬وهذه ال�صفات تتنا�سب مع حالة النفاق‪� ،‬إذ �إن ظاهر املنافق‬ ‫دائماً خري من باطنه‪ ،‬فظاهره الإميان‪ ،‬وباطنه الكفر‪ ،‬وهو ذلق الل�سان‪ ،‬لكنه يقول‬ ‫غري ما يعتقد؛ فهو كذاب‪ ،‬وهو جميل ال�صورة‪ ،‬لكنه عاطل من ال�صفات النبيلة‬ ‫كالإميان واملروءة والرجولة‪ ،‬وكل ما ي ِّزين الباطن‪ ،‬وقد روي عن ابن عبا�س ‪ -‬ر�ضي‬ ‫اهلل عنهما ‪� -‬أنه قال‪» :‬كان عبد اهلل ابن �أُ ّبي (ر� ُأ�س النفاق) و�سيماً ج�سيما �صحيحاً‬ ‫‪91‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 91‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�صبيحاً ذلق الل�سان‪ ،‬ف�إذا قال �سمع النبي × مقالته«(‪.)1‬‬ ‫القوي يف الت�أثري‪ ،‬وانتزاع الإعجاب ع َّلم النبي × �أ�صحابه‬ ‫وملّا كان للظاهر �سلطانه ُّ‬ ‫�ضرورة جتاوزه �إىل املعاين الباطنة؛ لأنها هي الفي�صل احلقيقي يف تقييم الرجال؛ وقد‬ ‫ورد يف احلديث ال�صحيح‪� :‬أن رج ًال م َّر على النبي × فقال‪ :‬ما تقولون يف هذا؟‬ ‫حري �إن خطب �أن ُينكح‪ ،‬و�إن �شفع ُي�شف َّع‪ ،‬و�إن قال �أن ُي�ستمع‪ ،‬ف�سكت ر�سول‬ ‫قالوا‪ٌّ :‬‬ ‫حري �إن‬ ‫اهلل × فمر رجل من فقراء امل�سلمني‪ ،‬فقال‪ :‬ما تقولون يف هذا؟ قالوا‪ٌّ :‬‬ ‫خطب �أال ُينكح‪ ،‬و�إن �شفع �أال ُي�شفَّع‪ ،‬و�إن قال �أال ي�ستمع‪ ،‬فقال ر�سول اهلل ×‪:‬‬ ‫هذا خري من ملء الأر�ض َ‬ ‫فف�ضل النبي × الفقري على الغني‪ ،‬وذلك‬ ‫مثل هذا(‪َّ )2‬‬ ‫ال يلزم منه تف�ضيل كل فقري على كل غني‪� ،‬إمنا �أراد �أن يع ِّلمهم �أن التفا�ضل ال‬ ‫يقوم �أبداً �إال على املعاين الباطنية‪ ،‬وما يتبعها من �أعمال‪ ،‬وتطرح هذه الآية الكرمية‬ ‫م�س�ألة خطرية يف حياة الإن�سانية عامة وحياة امل�سلمني خا�صة‪ ،‬هي ق�ضية العالقة بني‬ ‫ال�شكل وامل�ضمون‪� ،‬أو اجلوهر واملظهر(‪.)3‬‬ ‫ونعني باجلوهر ابتدا ًء‪ :‬جمموع اخل�صائ�ص ا ُخل ُل ِق َّية والنف�سية وال�صور الذهنية‪،‬‬ ‫واخلربات واملوازنات العميقة للفرد‪.‬‬ ‫�أما املظهر‪ :‬ف�إنه جمموع ما يحمله الفرد من ال�صفات اجل�سمية‪ ،‬وما ميتلكه من‬ ‫الأ�شياء‪ ،‬وما َي ْ�شغَله من وظائف‪ ،‬مما ال ُي َع ُّد على �صلة مبا�شرة بكينونته الذاتية‪.‬‬ ‫يف البداية لي�س اجلوهر واملظهر �شيئني منف�صلني انف�صا ًال تاماً‪ ،‬بل بينهما عالقة‬ ‫‪ -1‬تف�سري القرطبي ‪.124 / 18‬‬ ‫‪� -2‬أخرجه البخاري‪.‬‬ ‫‪ -3‬نن�صح بالرجوع �إىل كتاب الإن�سان بني اجلوهر واملظهر ال�صادر �ضمن �سل�سلة عامل املعرفة يف الكويت وقد �أفدت منه‬ ‫هنا يف بع�ض ما كتبت‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 92‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ت�أثر وت�أثري و�أخذ وعطاء‪ ،‬وقد ورد ما يدل على هذا فقد كان النبي × مي�سح مناكب‬ ‫فتختلف قلوبكم«(‪ .)1‬واملرء حني‬ ‫�أ�صحابه يف ال�صالة‪ ،‬ويقول‪» :‬ا�ستووا‪ ،‬وال تختلفوا‬ ‫َ‬ ‫ين�شرح �صدره يظهر ذلك على محُ ّياه‪ ،‬ومن ثم قيل‪» :‬من كرثت �صالته بالليل �ضاء‬ ‫وجهه يف النهار«‪ ،‬و�إذا كان بني الظاهر والباطن مثل هذا التجاذب والتالزم ف�إن‬ ‫من البدهي �أال يز ِّهد الإ�سالم النا�س يف ال�شكل؛ فال�صالة موقف روحي بحت‪،‬‬ ‫ومع ذلك حر�ص النبي × على انتظام ال�صفوف فيها‪ ،‬والأمر قريب من ذلك يف‬ ‫�صفوف القتال‪ ،‬وحث الإ�سالم على النظافة‪ ،‬كما ام َّنت اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬علينا مبا ن�شعر‬ ‫به من الت�أنق عند غد ِّو الأنعام ورواحها‪ ،‬حيث قال �سبحانه‪ :‬ﱹ ﯣ ﯤ ﯥ‬ ‫ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﱸ النحل‪ ،)2( 6 :‬وتلك م�س�ألة �شكلية‪ .‬والأمثلة على‬ ‫هذا �أكرث من �أن تحُ �صى‪.‬‬ ‫�إذن ما هي امل�شكلة ؟‬ ‫تكمن امل�شكلة يف اختالل التوازن بني اجلوهر واملظهر‪� ،‬أو بني امل�ضمون وال�شكل؛‬ ‫فالب�شر متفقون على �أن اللباب هو الأ�صل‪ ،‬و�أنه ينبغي �أن ُيعطى من االهتمام والعناية‬ ‫والبلورة َ‬ ‫الق�سط الأكرب لأن كل الإجنازات احلقيقية التي تتم على ال�سطح نابعة �أ�سا�ساً‬ ‫من �إجنازات متت على م�ستوى الكينونة واجلوهر‪ ،‬وهذا يتنا�سب مع حقيقة ت�سخري‬ ‫الكون الذي حبا اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬به الإن�سان؛ كيما يظل حراً طليقاً‪ ،‬يحكم وي�أمر دون‬ ‫�أن ُي َك َّبل ب�شيء �إال �شيئ َا ي�صنعه بيديه!‬ ‫وللمجتمع وما يقره من �أعراف �سلطانٌ كبري على النا�س‪ ،‬وملا كان احلكم االجتماعي‬ ‫‪�-1‬أخرجه م�سلم وغريه‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫ومثل هذا قوله �سبحانه‪ :‬ﱹ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﱸ‬

‫‪93‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 93‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫من�صباً على ال�شكل كان االنحدار نحو االهتمام بال�شكل هو الأمر الطبيعي املتبا َدر‬ ‫�إليه‪� ،‬أما العناية باجلوهر فيمكن �أن تنمو عن طريق الرتبية اخلا�صة يف الأ�سرة �أو‬ ‫املدر�سة‪ ،‬لكن ذلك �سيظل �ضعيف الت�أثري ما مل يكن املجتمع كله خا�ضعاً ملبادئ‬ ‫عليا خارجة عن �إنتاجه‪ ،‬ولن يكون م�صدر تلك املبادئ حينئذ الأر�ض‪ ،‬و�إمنا ال�سماء!‬ ‫لكن حني يكون الدين عبارة عن بع�ض الر�ؤى الغيبية‪� ،‬أو الدغدغات العاطفية ـ‬ ‫كما هو ال�ش�أن عند بع�ض امللل ـ ف�إنه ال ي�صنع �شيئاً يف مواجهة التيارات االجتماعية‬ ‫العاتية؛ لأنه ال يعدو �آنذاك �أن يكون عن�صراً رخواً من عنا�صر الثقافة! و�إن الدين‬ ‫يوجه‪ ،‬ويقاوم هو الذي ُنكر�س حياتنا من �أجله!‬ ‫الذي ِّ‬ ‫حني ي�ضعف الوازع الديني لدى امل�سلم ف�إن امليزان مييل مبا�شرة ل�صالح املظهر‪.‬‬ ‫ومبا �أننا نعي�ش يف ع�صر نت�أثر فيه �أكرث مما ن�ؤثِّر فقد �أ�ضيف �إىل �ضعف الوازع الديني‬ ‫عند �أكرث النا�س الوقوع حتت ت�أثري الفل�سفة الغربية يف جوانب احلياة املختلفة‪ ،‬تلك‬ ‫الفل�سفة التي َّ‬ ‫�شكلت من الإنتاج غري املحدود واحلرية غري املحدودة وال�سعادة غري‬ ‫املتناهية ديناً جديداً ا�سمه التقدم! واقت�ضى ذلك توجهاً كلياً نحو الطبيعة ال�ستثمار‬ ‫كل �شيء فيها! ثم ا�ستهالكه ب�صورة ج�شعة مل ي�سبق لها مثيل نا�سني �أن موارد‬ ‫الطبيعة حمدودة‪ ،‬و�أن الطبيعة �سوف ترد على ذلك‪ ،‬بل �إنها بد�أت بالرد فع ًال! وعلى‬ ‫�صعيد الرمز فقد كان البطل امل�سيحي ي�ستوحي �شخ�صية ال�شهيد‪ ،‬وهو عي�سى ـ‬ ‫عليه ال�سالم ـ حيث وهب حياته من �أجل غريه ‪-‬حني ُ�صلب‪ -‬كما يزعمون ـ‬ ‫ثم انقلبت الأمور ر�أ�ساً على عقب‪ ،‬حيث �صار العامل الغربي ي�ستوحي �شخ�صية‬ ‫البطل الوثني‪ ،‬كما يتج�سد يف �أبطال الإغريق والرومان‪ ،‬ذلك البطل الذي يغزو‪،‬‬ ‫وينت�صر‪ ،‬ويدمر‪ ،‬وي�سرق‪ ،‬وينهب‪ ...‬و�شتان ما بني �شخ�صية ال�شهيد الذي يهب‬ ‫‪94‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 94‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫حياته من �أجل غريه‪ ،‬وبني املقاتل الذي غايته ال�سيطرة على الآخرين وت�ضخيم‬ ‫احلياة ال�شخ�صية!‬ ‫وكانت النتيجة والدة جمتمعات تعاين من الوحدة‪ ،‬والقلق‪ ،‬واالكتئاب‪ ،‬والنزوع‬ ‫التدمريي‪ ،‬واخلوف من امل�ستقبل‪ ،‬والأنانية ال�شخ�صية‪ ،‬والتفكك الأ�سري‪...‬‬ ‫ت�أثرنا ‪ -‬نحن امل�سلمني ‪ -‬بهذا كله من حيث ندري‪ ،‬وال ندري‪ ،‬وتوجهت قوانا‬ ‫الفاعلة نحو اخلارج‪ ،‬و�أهملنا اجلوهر‪ ،‬وكانت حالتنا يف بع�ض النواحي �أ�سو�أ ممن ت�أثرنا‬ ‫بهم؛ لأن القوم �صاروا �إىل ال�شكل بعد �أن حققوا ذواتهم بطريقة ف َّعالة و�إن كان‬ ‫انحراف احل�ضارة يحمل يف النهاية بذرة موتها؛ �أما نحن فقد غادرنا اجلوهر لغمر‬ ‫�أنف�سنا بال�شكليات! والناظر يف �سرية النبي × واحلياة العامة ل�صحابته ‪ -‬ر�ضوان‬ ‫اهلل عليهم ‪ -‬يجد �أن ال�سيطرة كانت للكينونة الداخلية‪ ،‬ولي�س ملا ميتلكه النا�س من‬ ‫�أ�شياء؛ لأن املحور الأ�سا�سي للحياة االجتماعية كان الإن�سان‪ ،‬ولي�س الأ�شياء؛ �أما‬ ‫الآن فقد �صارت (امللكية) هي املحور‪ ،‬ويتجلى ذلك وا�ضحاً يف �أمور عديدة منها‪:‬‬ ‫‪ - 1‬تناق�صت الألفاظ امل�ستعملة يف الداللة على اجلوهر‪ ،‬يف حني زاد تداول‬ ‫الألفاظ الدالة على الأ�شياء‪ ،‬فحديث املجال�س مل يعد يتمحور حول البطوالت‪،‬‬ ‫والإجنازات‪ ،‬واملواقف الكرمية‪ ،‬وال�صفات احلميدة‪ ،‬و�إمنا حول العقارات‪ ،‬وال�سيارات‪،‬‬ ‫و�أ�سعار ال�سلع‪ ،‬و�أثاث البيوت‪ ،‬والأر�صدة املالية‪...‬‬ ‫‪ - 2‬الرغبة يف مزيد من الإنتاج لتحقيق مزيد من اال�ستهالك جعلت اعتماد النا�س‬ ‫مكم ًال‬ ‫على الآلة يتزايد يوماً بعد يوم‪ ،‬و�صار الإن�سان تر�ساً من ترو�سها‪ ،‬و�صار دوره ِّ‬ ‫لدورها؛ ومن طبيعة هذا ال�ش�أن �أن يزيد اهتمامنا باملظاهر‪ ،‬وي�شغلنا عن احلقائق‪.‬‬ ‫م�ستمدة مما ُيح�سن ويتقن‪ ،‬و�صارت املعادلة‬ ‫‪ - 3‬كانت قيمة وجود الإن�سان‬ ‫َّ‬ ‫‪95‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:12‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 95‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫اجلديدة‪ :‬قيمة وجودي م�ستمدة من مقدار ما �أملك‪ ،‬ومقدار ما � ُ‬ ‫أ�ستهلك! وهذا و َّلد‬ ‫اخلوف الدائم من ذهاب امللكية؛ لأن ذهابها ذهاب ملالكها؛ واقت�ضى ذلك مزيداً من‬ ‫ال�شح َ‬ ‫والأ َث َرة والتقاطع‪...‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪ - 4‬عالقتنا باملعرفة تبدلت؛ فقد كان حب العلم واكت�ساب املعرفة من �أجل‬ ‫الفقه يف الدين وتنمية ال�شخ�صية ومعرفة احلياة‪ ...‬وكانت العملية التعليمية عبارة‬ ‫عن اندماج بني العلم وطالبه‪� ،‬أما الآن فقد �صارت عالقة طالب العلم مبا يطلب عالقة‬ ‫جتارية بحتة‪ ،‬فهو يتعلم لينال ال�شهادة؛ وحفظه للمعلومات ظاهري ينتهي عند �إفراغها‬ ‫على الورق يف االمتحان!‬ ‫‪ - 5‬ال�سمات الأ�سا�سية للإن�سان املهتم باجلوهر هي‪ :‬اال�ستقاللية‪ ،‬واحلرية‪،‬‬ ‫وح�ضور العقل النقدي‪ ،‬واال�ستخدام املثمر للطاقة الإن�سانية‪ ،‬والنمو‪ ،‬والتدفق‪ ،‬لكن‬ ‫العالقات االجتماعية‪ ،‬وال�سيا�سية‪ ،‬واالقت�صادية اجلديدة جعلت �أن�شطة الإن�سان‬ ‫ويحد من‬ ‫عبارة عن ان�شغال دائم مف�صول متاماً عن قواه الروحية‪ ،‬بل يقف �ضدها‪ُّ ،‬‬ ‫فاعليتها يف كثري من الأحيان؛ مما �أدى �إىل االتكالية وال�س�أم والتذمر‪ ،‬وجعل احلياة‬ ‫تفقد طعمها احلقيقي ب�شكل عام!‪.‬‬ ‫‪ - 6‬كان من عواقب االجتاه �إىل ال�شكل والتغافل عن امل�ضمون ك ِرث ُة اللذائذ‬ ‫وانعدام ال�سعادة! واللذة �إ�شباع الرغبة على نحو ال يتطلب ن�شاطاً‪ ،‬مثل لذة احل�صول‬ ‫على مزيد من الربح‪� ،‬أو هي‪ :‬جتربة حلظة من حلظات الذروة يعقبها يف الغالب نوع من‬ ‫الك�آبة‪ ،‬وال �سيما حني تكون غري م�شروعة‪ ،‬حيث يبد�أ التقريع الداخلي‪.‬‬ ‫�أما ال�سعادة فهي‪� :‬شعور م�صاحب للن�شاط الإن�ساين؛ وهي �أقرب �إىل �أن تكون‬ ‫وهج لكينونة الإن�سان‪ ،‬ون�شاطه‬ ‫حالة من الوجود املت�صل على ربوة رحبة؛ لأنها ٌ‬ ‫‪96‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 96‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الداخلي‪ ،‬وميكن القول‪� :‬إن ال�سعادة يف مقيا�سنا الإ�سالمي تتعاظم كلما ردم‬ ‫امل�سلم من الفجوة القائمة بني معتقداته و�سلوكياته‪ ،‬حيث ير�ضى امل�سلم عن‬ ‫�أدائه‪ ،‬وي�ست�شرف عاقبة املتقني‪.‬‬ ‫كل هذه التحوالت باجتاه ال�شكليات جعلت كثرياً من �أمة الإ�سالم قوة عددية‬ ‫لي�س غري؛ لأن الذي يفقد ال�صلة مبكوناته الأ�سا�سية البد �أن ي�صبح �شكلياً‪ .‬فهل تعيد‬ ‫ال�صحوة املباركة الأمر �إىل ن�صابه ب�إعادة التوازن من جديد بني ال�شكل وامل�ضمون‪،‬‬ ‫واجلوهر واملظهر لن�ست�أنف ر�سالتنا احل�ضارية ؟ هذا ما نرجوه؛ وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل‪.‬‬

‫‪97‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 97‬‬


�� ������ ���.indd 98

29/04/2010 11:09:13 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﭝﭞ ﭟﭠﭡ‬

‫�أكرم اهلل ‪� -‬سبحانه وتعاىل ‪ -‬اخللق‪ ،‬ف�أر�سل لهم الر�سل ترتى حتى تظل �أعالم‬ ‫الهداية من�شورة‪ ،‬وحتى ال يكون لأحد على اهلل حجة بعد �إر�سال الر�سل‪ .‬وينق�سم‬ ‫�صدق‪ ،‬وفريق ِّ‬ ‫يكذب‪ ،‬وكانت حجة‬ ‫النا�س �إزاء كل ر�سالة يف العادة �إىل فريقني فريق ُي ِّ‬ ‫املكذبني اجلاحدين ما حكى اهلل عنهم‪ :‬ﱹﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬ ‫ﭚ ﭛﭜ ﭝﭞ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩ ﭪ‬

‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﱸ الزخرف‪.24 -23:‬‬ ‫وظاهر هذه الآية �أن الر�ؤ�ساء والوجهاء واملرتفني هم ‪ -‬يف الغالب ‪ -‬الذين قاوموا‬ ‫دعوات الر�سل؛ لأن �أية ر�سالة �ستحدث تغيرياً يف القيم ال�سائدة والأحوال املعي�شة‪،‬‬ ‫�سيم�س م�صاحلهم ومكا�سبهم‪ ،‬ومن ث ََّم ف�إن موقفهم هو الت�أبي واملعاندة‪.‬‬ ‫وهذا التغيري‬ ‫ُّ‬ ‫ومبا �أن احلياة اجلمعية ال ميكن �أن ت�ستقيم‪ ،‬وتنتظم من غري �ضوابط عرفية ت�ؤ ِّمن نوعاً‬ ‫من التعاون‪ ،‬وتحَ ُ ول دون بغي اخللطاء بع�ضهم على بع�ض كان اجلواب دائماً‪� :‬أن‬ ‫ما تقوم عليه حياتهم االجتماعية هو ما َورِثوه عن �آبائهم و�أجدادهم من الأعراف‬ ‫‪99‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 99‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫والعادات والتقاليد‪ ،‬وما حياتهم �إال ا�ستمرار حلياة �سلفهم الذين يفاخرون بهم‪،‬‬ ‫أ�صم عن ال�سلف‪ ،‬لكنه ين�شئ من الفل�سفات‬ ‫واخللف ال يكتفي عادة بالتلقي ال ّ‬ ‫واملقوالت واخلرافات ما مينح ما ورثه ‪ -‬من تقاليد ‪ -‬القدا�س َة واالحرتام مما يجعلها‬ ‫حموراً للمنظومات العقدية والفكرية والرمزية والتاريخية! وهذا كله طبيعي؛ لأنه يف‬ ‫حالة اندرا�س معامل املنهج ت�صبح ال�سوابق التاريخية هي املنهج‪ ،‬ومن ثم كان من‬ ‫مهمات امل�صلحني و�ضع ال�سوابق التاريخية يف �إطارها ال�صحيح‪.‬‬ ‫ماذا تعني الآبائية ؟‬ ‫لي�س كل ما يرثه املرء عن �آبائه و�أجداده رديئاً ‪ -‬لأنه ال يوجد جيل خمت�ص‬ ‫بالرذائل ‪ -‬لكن الرديء هو �أن نفقد القدرة على احلكم على تلك املوروثات‪ ،‬و ُنحلها‬ ‫يف ِّ‬ ‫تب�صر وال‬ ‫حمل القبول واالقتداء! و�إذا ت�أملنا ق�ضية التقاليد املوروثة وقبولها دون ُّ‬ ‫متييز وجدنا �أنها تعني �أموراً عديدة منها‪:‬‬ ‫ �إن الإن�سان قادر على امتالك منهج ُي َ�س رِّي حياته من خالل خربته الرتاثية‬‫دون مر�شد خارج عن حدود ذاته‪ ،‬وهذا ما جنده وا�ضحاً يف جواب املترَ فني للر�سل‬ ‫حني قالوا لهم‪ :‬ﱹ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﱸ الزخرف‪ ،24:‬وكان‬ ‫اجلواب‪:‬ﱹ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﱸ الزخرف ‪ .24‬ويف هذا اجلواب القاطع اخلايل‬ ‫من �أي تدليل �أو برهان تو�صيف �آخر للآبائية‪ ،‬هو �أن التقليد و�إن بنى حوله بع�ض‬ ‫الفل�سفات الت�سويغية �إال �أنه يظل مع الدليل والربهان على طريف نقي�ض‪ ،‬فهو‬ ‫ظاهرة ال دليل لها �سوى وجودها فح�سب! ومما تعنيه الآبائية �أن الب�شر امتلكوا‬ ‫نا�صية احلقيقة كاملة فيما يتعلق ب�ش�ؤون حياتهم االجتماعية؛ وال�شعور بامتالك‬ ‫احلقيقة مع �أنه غري �صحيح �إال �أنه يدفع �إىل اجلمود؛ لأن حركة الفكر والعلم ال تن�شط‬ ‫‪100‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 100‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�إال عند الإح�سا�س ب�أن هناك حقائق خافية �أو م�شكالت حتتاج �إىل ّ‬ ‫حل‪ ،‬ومن هنا‬ ‫كانت متابعة الآباء والأجداد من غري ميزان عبارة عن حركة �إىل الوراء ت�صادم منطق‬ ‫التاريخ‪ ،‬وجتعل �أ�صحابها متخلفني بكل ما حتمله هذه الكلمة من معنى! و�إذا كان‬ ‫املنهج احلق ي�سعى �إىل جتديد ذوات معتنقيه ونقدها وا�ستيعاب العظات والعرب من‬ ‫حياة الأولني ف�إن الآبائية تعني تعطيل تراكم اخلربة الب�شرية وتقوميها؛ لأن ذلك ُي ِخ ُّل‬ ‫باملكانة التي �أنزلوا �آباءهم فيها!‬ ‫ومتحجر‪،‬‬ ‫وتعني الآبائية �أي�ضاً �إحالة العادات والأخالق �إىل �إطار مرجعي ال منطقي ّ‬ ‫يحكم النا�س يف حاالت اجتماعهم‪ ،‬ويتيح لهم االنطالق احلر يف خلواتهم‪� ،‬أي‪:‬‬ ‫ي�ؤ�سِّ �س احلياة على نوع من االزدواجية‪ ،‬على حني �أن الدين يجعل الوازع الداخلي‬ ‫�أ�سا�ساً لالن�ضباط الفردي واجلماعي‪� .‬إن التقليد امل�ستمر يف كل �ش�ؤون احلياة يجعل‬ ‫تقليد الآباء فارغاً من م�ضامينه يف �أحيان كثرية‪ ،‬ف�إذا كان الآباء يتقلدون ال�سيف ‪-‬‬ ‫مث ًال ‪ -‬ملواجهة حيوان مفرت�س‪ ،‬فما معنى حمل الأبناء له وهم يركبون الطائرة ؟! و�إن‬ ‫الآبائية بعد هذا �أو ذاك توجِ د نوعاً من االنحبا�س االجتماعي امل�صادم ل�س ّنة التغيري‬ ‫التي بثها اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬يف الكون‪ ،‬ومن ث ََّم ف�إن االنغالق على مواريث بالية البد �أن‬ ‫يعقبه انفالت غري متزن يطيح ب�صالح املوروثات وطاحلها‪.‬‬ ‫امل�صلحون والآبائية‪:‬‬ ‫ال ن ُب ِعد النجعة �إذا قلنا‪� :‬إن الآبائية هي �أخطر م�شكلة واجهت الأنبياء ‪ -‬عليهم‬ ‫ال�صالة وال�سالم ‪ -‬وواجهت �أتباعهم من امل�صلحني على مدار التاريخ حيث متتلئ‬ ‫ال�ساحات االجتماعية برتكة الآباء وخم َّلفات الأجداد مما يجعلهم يحتاجون �إىل تزييف‬ ‫املوروثات �أو ًال‪ ،‬ثم �إحالل املنهج الرباين حملها‪ .‬و�إن َح َملة الهدى الرباين ي�صطدمون‬ ‫‪101‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 101‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫بالآبائيني �صداماً مبا�شراً حيث يرون �أن ما ب�أيديهم من الهدى يجعل الرتاث مملوكاً‬ ‫خا�ضعاً للمحاكمة على حني يرى الآبائيون �أن الرتاث هو مالكهم والقا�ضي يف‬ ‫حياتهم ال املتهم! لكن ال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه هو هل ب�إمكان الب�شر الفرار من‬ ‫االرتهان للما�ضي بدون منهج منف�صل عن خربة الإن�سان‪� ،‬أي‪ :‬ال زماين؟ الوا�ضح‬ ‫�أن ذلك �صعب؛ لأننا باعتبا ٍر ما جزء من املا�ضي ومكوناتنا الثقافية �أكرثها موروث‪،‬‬ ‫فنقده وجتاوزه مببادئ و�أدوات منه ع�سري جداً‪ .‬ونحن حينئذ ن�شبه اجل َّراح الذي مهما‬ ‫كان ماهراً ف�إنه عاجز عن ا�ستئ�صال زائدته �أو مرارته بنف�سه! وعلى املهتمني ب�صالح‬ ‫الأمة الغيورين على م�ستقبلها �أن يخو�ضوا معركتني يف �آن واحد‪ :‬معركة احلياة العامة‬ ‫وتنقيتها من الروا�سب وال�شوائب التي تو ِّلدها حركة الأيام‪ ،‬ومعركة داخلية يف جمال‬ ‫احلياة الفكرية‪ ،‬وما فيها من م�شكالت التجديد والتقليد واالجتهاد وغمو�ض حدود‬ ‫�سلطان العقل والنقل الخ‪..‬‬ ‫�إن معامل املعركة الأوىل تتمحور حول (مفا�صل) التقاليد وال�سنن والتوزيع‬ ‫ال�صحيح لالهتمام مبفرادت التكاليف ال�شرعية‪ ،‬وما يت�صل بها مما يحفظ كيان الأمة‪.‬‬ ‫وعلى هذا ال�صعيد نالحظ �أن امل�سلمني منت�شرون يف بقاع الأر�ض؛ ولذا ف�إنهم يعي�شون‬ ‫يف ظروف �شديدة االختالف ت�ؤدي �إىل تفاوت عظيم يف معرفتهم بالدين‪ ،‬كما �أن‬ ‫الثقافات الأجنبية التي ت�أثروا بها خمتلفة �أي�ضاً‪ ،‬وامل�ؤثرات املدر�سية واملناهجية التي‬ ‫تعر�ضوا لها متفاوتة‪ ،‬وهذا كله يجعل �إمكانات �إقامة التوازن بني متطلبات الدين‬ ‫ومتطلبات الدنيا خمتلفة‪ ،‬كما يجعل حترير اخلالف وترجيح ال�صواب خمتلفاً �أي�ضاً!‬ ‫وال نن�سى يف هذا ال�سياق الآثار الكثرية التي ترتكها توجهات احلكومات املختلفة‬ ‫يف �إبراز �أجزاء من الدين و�ضمور �أجزاء �أخرى بح�سب امل�صلحة! ون�ستطيع القول‪:‬‬ ‫‪102‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 102‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�إنه كلما خمدت حركة الفقه يف دين اهلل‪ ،‬زحفت العادات والتقاليد‪ ،‬والبدع لتحل‬ ‫مكانه يف حياة النا�س‪ ،‬ذلك لأن من �ش�أن الب�شر �أن يجعلوا الدين ‪ -‬الذي هو منهج‬ ‫املوجه‬ ‫رباين مطلق فوق الزمان واملكان ‪ -‬واحداً من عنا�صر ثقافتهم بدل �أن يكون ِّ‬ ‫لتلك الثقافة واحلاكم عليها‪ ،‬وذلك مي�سور عليهم‪ ،‬وال �سيما حني تكون هناك بع�ض‬ ‫املالب�سات بني العادات وحقائق الدين يف ُ‬ ‫الك ْن ِه �أو املظهر‪ ،‬ويف زماننا �صار �إنكار النا�س‬ ‫لتعدد الزوجات يف كثري من بالد امل�سلمني �أعظم من �إنكارهم للزنا! كما �أن يف زماننا‬ ‫من ي�ستغرب من �إقبال ال�شباب على امل�ساجد‪ ،‬لأن امل�ساجد خُ لقت ملن �أكل الدهر‬ ‫عليهم و�شرب‪ ،‬على ما تعودوه يف عقود م�ضت‪ .‬ويف زماننا ُت ْ�س َت ْن َك ُر الفاح�شة من البنات‬ ‫ُّ‬ ‫ويغ�ض النا�س الطرف عنها �إذا وقعت من الرجال‪ ،‬وال �سيما ال�شباب!‬ ‫ويزداد الطني ب َّلة حني ُي�سهم يف هذا اخللل �أ�شخا�ص تثق بهم العامة ملا عندهم‬ ‫من العلم والتقوى‪ ،‬والعامة ال تقوى على مناق�شة الأفكار‪ ،‬وال التمييز بني الأدلة؛‬ ‫مما يجعلهم تبعاً للأعلى �صوتاً والأكرث تابعاً‪ .‬وهذا كله يجعل م�س�ألة حتجيم الآبائية‬ ‫�أكرث �صعوبة وتكلفة‪ ،‬لكن ال خيار‪ :‬ف�إما املنهج و�إما املنهج‪ ،‬و�إال فكيف يكون خلود‬ ‫الر�سالة‪ ،‬وكيف ت�ستمر �أنوار النبوة يف العاملني ؟‬ ‫املعركة الثانية ال تبتعد يف منطلقاتها وعقابيلها عن املعركة الأوىل؛ �إذ �إنّ تقدي�س‬ ‫القدمي ملجرد �أنه قدمي هو الطاقة املحركة لأبطالهما‪ ،‬لكن اخل�صوم يختلفون‪ ،‬ف�إذا كان‬ ‫اخل�صوم يف معركة احلياة االجتماعية من العامة والدهماء و�أن�صاف املتنورين‪ ،‬فهم يف‬ ‫الثانية ممن يحمل العلم‪ ،‬ويح�سب نف�سه من امل�صلحني ‪ -‬وقد يكون كذلك ‪ -‬لكن‬ ‫ُب َنى ثقافت ِه العميقة ال تختلف كثرياً عما لدى العامة!‬ ‫هذه املعركة هي معركة االجتهاد والتقليد؛ واالجتهاد هو بذل اجلهد ملد �سلطان‬ ‫‪103‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 103‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الن�صو�ص �إىل ِّ‬ ‫امل�ستجدة امل�شابهة يف علة احلكم حلاالت ورود‬ ‫كل احلوادث واحلاالت‬ ‫َّ‬ ‫يحجم من فاعلية الن�صو�ص‪،‬‬ ‫الن�ص وتطبيقاته لدى ال�سلف‪ ،‬على حني �أن التقليد ِّ‬ ‫ويجعل جماالت االهتداء بها تت�ضاءل يوماً بعد يوم‪ ،‬ذلك لأن �أية مرحلة �سابقة ال‬ ‫َت َّت ِ�سع يف تنظيماتها و�آلياتها ومعطياتها اجلزئية ملرحلة الحقة‪ ،‬وهذا ما دعا ال�صحابة‬ ‫والتابعني من بعدهم �إىل االجتهاد‪ ،‬وهو ما يدعونا �أي�ضاً �إليه‪ ،‬لعل نقطة اخلالف‬ ‫تكم ُن‬ ‫الأ�سا�سية لي�ست يف جتويز االجتهاد والتقليد ل�شرائح حمددة من الأمة‪ ،‬و�إمنا ُ‬ ‫يف نزع (�صفة دوام ال�صواب) عن املجتهد‪ ،‬ومع �أن اجلميع ُي َ�ص ِّرحون ب�أن املجتهد‬ ‫ُيخطئ‪ ،‬و ُي�صيب‪� ،‬إال �أننا جند يف املمار�سة العملية مواقف ال حت�صى ال ّ‬ ‫تدل �إال على‬ ‫اعتقاد �أ�صحابها الع�صمة يف بع�ض الأئمة واملجتهدين‪ ،‬وذلك العتقادهم �أن �إحاطة‬ ‫�أولئك الأئمة بالأدلة َو ِح َّدة ذكائهم وفهمهم مع ما �أكرمهم اهلل به من التوفيق‪ ،‬يجعل‬ ‫وقوع اخلط�أ منهم نادراً �أو معدوماً! وقد ر�أينا كثرياً من طالب العلم يلتزم الواحد منهم‬ ‫مذهباً واحداً يف كل دقائقه‪ ،‬ويحاول الدفاع عن ذلك بكل ما �أوتي من قوة‪ ،‬وهو‬ ‫يظن �أنه يخو�ض معرك ًة ِل ُن�صرة دين‬ ‫يوايل و ُيعادي يف ذلك‪ ،‬ويخ�سر �إخوة يف اهلل‪ ،‬وهو ّ‬ ‫جهل فا�ضح يف العملية االجتهادية املعقَّدة‪ ،‬والتي تلتحم فيها‬ ‫اهلل! وهذا يدل على ٍ‬ ‫عنا�صر �أربعة‪ ،‬هي جمال رحب‪ ،‬لالختالف بني املجتهدين‪ ،‬هذه العنا�صر هي‪:‬‬ ‫الإمكانات الذهنية التي �أكرمنا اهلل بها والن�صو�ص والأدلة املتعلقة بالق�ضية‬ ‫مو�ضع االجتهاد واخللفية الثقافية للمجتهد (وهي ما كان ُي ْ�س ّمى بالأهلية) بالإ�ضافة‬ ‫�إىل الواقعة نف�سها والظروف واخللفيات املحيطة بها‪ .‬وتمَ َُّك ُن املجتهدين من كل ذلك‬ ‫حد بعيد‪ ،‬وهذا كله ينفي عن املجتهد دوام ال�صواب يف ّ‬ ‫كل ما ينظر فيه‪.‬‬ ‫متفاوت �إىل ٍّ‬ ‫و�إن من املفيد �أن ننظر �إىل املجتهد بعيون �أبناء زمانه حيث �إنهم يف الغالب يكونون‬ ‫‪104‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 104‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫قد تخل�صوا من َو ْه ِم التقدي�س ب�سبب املعا�صرة واملعا�شرة ومعرفة اخلفايا والإمكانات‬ ‫لبع�ضهم بع�ضاً‪.‬‬ ‫�إننا �إذا مل نتمكن من التجديد الذاتي ف�سنع ِّر�ض �أنف�سنا �إىل غزو من اخلارج‪� ،‬أو‬ ‫انحبا�س داخلي يعقبه انفجار ال ينفع معه الرتقيع! و�إنِّ جتاو َزنا ملعطيات مراحل عديدة‬ ‫ٍ‬ ‫يف حياة املتقدمني‪ ،‬لنلت�صق بالأدلة يف �إطا ٍر من مقا�صد ال�شريعة العامة �أمر حيوي‬ ‫للغاية؛ حتى ال نق َع �ضحي ًة للغرق يف مراحل االنحطاط والتدهور التي مرت بها هذه‬ ‫الأمة يف قرونها املت�أخرة؛ وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل‪.‬‬

‫‪105‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 105‬‬


�� ������ ���.indd 106

29/04/2010 11:09:13 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮟﮠ ﮡ ﮢﮣﮤﮥ ﮦ‬ ‫ق�ص اهلل ‪ -‬تعاىل‪ -‬علينا يف كتابه العزيز نب�أ لقاء مو�سى بالعبد ال�صالح اخل�ضر‬ ‫ّ‬ ‫عليهما ال�سالم‪ ،‬وما جرى بينهما من �إخبار اخل�ضر ملو�سى بعدم �صربه على ما �سرياه‬ ‫من �أعماله‪ ،‬وتع ُّهد مو�سى بال�سمع والطاعة وعدم العجلة حتى يكون اخل�ضر هو الذي‬ ‫يخربه بكنه ما يراه وعواقبه‪ ،‬كما ت�ضمنت الق�صة عدم متكن مو�سى ‪-‬عليه ال�سالم‪-‬‬ ‫من ال�صرب الذي التزم مبكابدته‪ ،‬ويف ثنايا هذه الواقعة ِع رَ ٌب ودرو�س عديدة جنلوها يف‬ ‫النقاط التالية‪:‬‬ ‫‪� -1‬أراد اهلل ‪-‬تعاىل‪� -‬أن ُيع ِّلم مو�سى وجوب تفوي�ض ما ال يعلمه �إليه؛ فقد ورد‬ ‫يف ال�صحيح �أن رج ًال �س�أل مو�سى على ملأٍ من بني �إ�سرائيل‪ :‬هل تعلم �أحداً �أعلم‬ ‫منك؟ قال‪ :‬ال‪ .‬ف�أوحى اهلل �إليه‪ :‬بل عبدنا خ�ضر �أعلم منك(‪ .)1‬ويف هذا �إر�شاد لأويل‬ ‫فنبي اهلل مو�سى كان ر�سو ًال من �أويل‬ ‫النهي �أن يقفوا املوقف املنهجي مما ال يعرفونه؛ ُّ‬ ‫العزم‪ ،‬وهو كليم اهلل ومب ِّلغ ر�سالته‪ ،‬ومع هذا بينَّ اهلل له وجوب تفوي�ض ما ال يعلمه‬ ‫‪� -1‬أخرجه البخاري يف �أحاديث الأنبياء‪.‬‬ ‫‪107‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 107‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫خ�ص اهلل به من �شاء من عباده‪،‬‬ ‫�إليه؛ فهو مل يجتمع بكل الب�شر‪ ،‬ومل يعرف مقادير ما َّ‬ ‫ويف هذا الزمان ت�شعبت العلوم‪ ،‬وتفرعت حتى �صار من الع�سري على الواحد منا �أن‬ ‫يحيط بفرع من فروع املعرفة ف�ض ًال �أن يحيط بها جميعاً‪ .‬و�أمانة العلم تقت�ضي الرتيث‬ ‫بالفتوى والتحرز من التطاول على ما ال ُن ِ‬ ‫ح�سن حتى‪ ،‬ال جتتاحنا الفو�ضى العلمية‪..‬‬ ‫‪ -2‬يف هذه الرحلة املباركة وقف مو�سى موقف املتعلم‪ ،‬ووقف اخل�ضر يف موقف‬ ‫الأ�ستاذ‪ ،‬مع �أنه ال خالف يف �أن مو�سى �أف�ضل من اخل�ضر‪ ،‬وهذا يدل على �أن‬ ‫الأف�ضلية العامة ال تقت�ضي التفوق يف العلم‪ ،‬وهذا يحثنا على �أن نرجع �إيل �أهل‬ ‫االخت�صا�ص يف اخت�صا�صاتهم‪ ،‬و�أال نرهق �أهل الف�ضل بال�س�ؤال عما ال يعرفونه‪ ،‬وال‬ ‫يح�سنونه في�سقطون من �أعيننا لعدم معرفتهم‪� ،‬أو ي�سقطون و ُي�سقطوننا معهم �إذا ما هم‬ ‫قالوا بغري علم! ورحم اهلل الإمام مالكاً حني كان يقول‪� ( :‬إن من �شيوخي من �أطلب‬ ‫منه الدعاء‪ ،‬وال �أقبل روايته )‪.‬‬ ‫‪ -3‬التزم مو�سى ‪ -‬عليه ال�سالم ‪ -‬يف البداية بال�صرب على ما يراه وعدم الع�صيان‬ ‫حني قال‪ :‬ﱹ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﱸ الكهف ‪.69‬‬ ‫وهذا االلتزام كان بناء على ما يعرفه من نف�سه من احلر�ص على طلب العلم‪ ،‬ومعرفة‬ ‫اخلري‪ ،‬وكان ت�أكيد اخل�ضر له �أنه لن ي�صرب معه على ما يراه ملا يعرف عنه من احلر�ص‬ ‫وااللتزام مبا �شرع اهلل من حرمة الأنف�س والأموال‪ ،‬وكانت النتيجة �إنكار مو�سى على‬ ‫اخل�ضر‪ ،‬كما توقع اخل�ضر‪ .‬وموقف مو�سى كان على النهج العام الذي ينبغي على‬ ‫امل�سلم اتباعه‪ ،‬وهو �إنكار ما خالف ال�شرع‪ ،‬وعدم ال�سكوت عليه ما دام ذلك ممكناً‪،‬‬

‫‪108‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 108‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وال يعكر �صفو هذا خ�صو�صية املوقف واحلادثة(‪.)1‬‬ ‫وقد �أنكر مو�سى على اخل�ضر مع علمه بقدره وعلمه‪ ،‬لأن املنهج فوق الأ�شخا�ص‬ ‫�أياً كانوا‪ .‬وقد ابتليت هذه الأمة يف تاريخها املديد ب�أقوام �أ�صيبوا بداء تقدي�س‬ ‫الأ�شخا�ص و�إقامة الرباهني على خريية ما يفعلونه وت�سويغ ما يرتكبونه من مناكر‬ ‫وخمالفات قطعية التحرمي ملا يعتقدونه فيهم من ال�صالح!‪ .‬و�أدى ذلك �إىل غب�ش‬ ‫عظيم يف الر�ؤية‪ ،‬وقد ُّ‬ ‫حطوا من قدر املنهج املع�صوم على قدر ما رفعوا من �ش�أن من‬ ‫ِّ‬ ‫يعظمون! وما زال ذلك م�ستمراً �إىل يوم النا�س هذا؛ واهلل امل�ستعان‪.‬‬ ‫‪ -4‬كان اخل�ضر موقناً بعدم �صرب مو�سى على ما يراه منه‪ ،‬وع َّلل لذلك بقوله‪:‬‬ ‫ﱹﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﱸ الكهف ‪ .68‬وهذا ي�شري �إىل ظاهرة ثابتة يف‬ ‫حياة الب�شر‪ ،‬هي عدم ال�صرب على ر�ؤية �أحداث و�أعمال تخالف ما ا�ستقر عندهم‬ ‫من �أعراف ومعايري‪� ،‬أو على بذل جهود ال يرون لها نتائج تن�سجم معها‪ ،‬وقد‬ ‫وقف ال�صحابة ‪ -‬ر�ضوان اهلل عليهم ‪ -‬موقفاً م�شهوراً من �شروط �صلح احلديبية‬ ‫التي كانت يف ظاهرها خمالفة مل�صالح امل�سلمني‪ ،‬ولوال �أن الذي ارت�ضى تلك‬ ‫ال�شروط هوالنبي × امل�ؤ َّيد بالوحي لكان لهم �ش�أن �آخر‪ .‬لكن اهلل ‪ -‬تعاىل ‪-‬‬ ‫جعل فيها من اخلري والربكة ما حمل �أكرث املف�سرين على القول‪� :‬إن املراد بالفتح‬ ‫يف قوله ‪� -‬سبحانه ‪ :-‬ﱹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﱸ الفتح ‪ 1:‬هو �صلح احلديبية‬ ‫(‪ .)2‬و�سبب ذلك املوقف �أن ال�صحابة ما كانوا قادرين على �إب�صار م�آالت تلك‬ ‫املعاهدة ونهاياتها‪ ،‬واليوم جند رغبة جاحمة لدى كثري من الدعاة والعاملني يف حرق‬ ‫لق�ص اهلل علينا من �أمرهما‪.‬‬ ‫‪ -1‬ورد يف البخاري �أن النبي ‪ - × -‬قال‪ :‬يرحم اهلل مو�سى لو كان �صرب ّ‬ ‫‪ -2‬انظر فتح القدير‪.‬‬ ‫‪109‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:13‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 109‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫املراحل والقفز فوق احلواجز بدافع من ال�صدق والإخال�ص‪ ،‬وال�سبب يف ذلك �أنهم ما‬ ‫�أحاطوا خُ رْباً بجوانب العملية التغيريية الكربى التي يت�صدون للقيام بها‪ ،‬وجند ذلك‬ ‫ب�شكل وا�ضح لدى ال�شباب الذين يغلي يف دمائهم حب هذا الدين والغرية على‬ ‫هذه الأمة‪ ،‬و�سبب اال�ستعجال عند ال�شباب يعود ‪ -‬يف �أكرث الأمر ‪� -‬إىل �أن كثرياً‬ ‫من قادة الدعوات يوهمون ال�شباب ب�أن التمكني يف الأر�ض وب�سط �سلطان الدين هو‬ ‫قاب قو�سني �أو �أدنى‪ ،‬وذلك رغبة يف ك�سبهم و�إغرائهم بالعمل الدعوي‪ ،‬حتى �إذا‬ ‫مرت ال�سنني تلو ال�سنني �أدرك �أولئك ال�شباب �أن الطريق �أطول بكثري مما قيل لهم‪،‬‬ ‫في�ؤدي ذلك ‪ -‬عند �أية هزة ‪� -‬إىل الإحباط واالنزواء وال�سلبية �أو �إىل ت�سفيه القيادات‬ ‫واتهامها بالق�صور وجتاوز املرحلة لها‪ ،‬ثم االندفاع خلف قيادات �شابة تفتقر يف �أكرث‬ ‫الأوقات �إىل احلكمة واخلربة والعلم‪ ،‬والنتيجة يف هذه احلالة معروفة! و�سبب ذلك �أن‬ ‫ال�شيوخ ما َّب�صروا ال�شباب بطبيعة طريق الدعوة وتكاليفه وم�شا ِّقه‪ ،‬مع �أن الن�صو�ص‪،‬‬ ‫الواردة يف ذلك كثرية جداً‪.‬‬ ‫�أما اجلوانب التي مل نحط بها خُ رْباً فهي عديدة‪ ،‬نذكر منها ما يلي‪:‬‬ ‫�أ‪ -‬املنهج الرباين الذي نحمله‪ ،‬منهج م�شتمل على �أجزاء �صلبة را�سخة ال يجوز‬ ‫غ�ض الطرف عن �شيء منها‪ ،‬وذلك كي ت�ؤدي وظائفها يف الهداية‬ ‫�أن تتطور �أو ُي َّ‬ ‫والإ�صالح‪ ،‬وفيه �أجزاء مرنة تقبل �شيئاً من املوازنة لتحقيق خري اخلريين ودفع �شر‬ ‫ال�شرين؛ وكل �أجزاء املنهج خري‪ ،‬ومطلوب التحقق بها؛ لكن الظرف هو الذي يعطي‬ ‫ترجح‬ ‫الأولوية لبع�ضها على بع�ض؛ ف�أعمال اخلري كثرية جداً لكن احلال املعي�شة ِّ‬ ‫�شيئاً على �شيء‪ ،‬ف�إذا كانت يف امل�سلمني جماعة كان جمال �إطعام الطعام �أوىل بالبذل‬ ‫من جمال التنفل باحلج والعمرة‪ ،‬و�إذا اجتاح العد ُّو بال َد امل�سلمني كان جتهيز املقاتلني‬ ‫‪110‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 110‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�أوىل من بناء م�سجد �أو ت�أثيث مكتبة عامة وهكذا‪ ..‬و�إذا كان املري�ض الذي نعاجله‬ ‫ي�شكو من �أمرا�ض عديدة وجب �أن نبد�أ بالأخطر منها‪ ،‬كالنزيف مث ًال‪.‬‬ ‫ب ‪ -‬ومما مل نحط به خُ رْباً على الوجه املطلوب الواقع الذي نتحرك فيه‪ ،‬وهو واقع‬ ‫م ِف َعم بامل�ؤثرات املختلفة حيث �صار من غري املمكن معاجلة �أية ق�ضية من ق�ضايانا الكربى‬ ‫على �أنها �ش�أن حملي خا�ص‪ ،‬فو�سائل االت�صال العجيبة املتاحة‪ ،‬وت�شابك امل�صالح‬ ‫وتداخلها‪ ،‬ونفوذ الثقافة العاملية‪ ،‬كل �أولئك يجعل ما نظنه داخلياً خا�ضعاً العتبارات‬ ‫دولية و�إقليمية �إيل جانب االعتبارات املحلية‪ .‬وفهم تلك االعتبارات ما عاد ممكناً‬ ‫عن طريق الت�أمل وا َحل ْد�س‪ ،‬و�إمنا عن طريق الدرا�سات املتقَنة وال�صالت والعالقات‬ ‫واملعاي�شات الداخلية‪ ..‬وفهم طريقة التفكري ل�صانعي اخليارات والقرارات‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬مما مل نحط به خُ رْباً الإن�سان مو�ضع الدعوة‪ ،‬وهذا الإن�سان �صار يخ�ضع‬ ‫ملزيج كبري من امل�ؤثرات الثقافية املت�ضادة ‪ -‬يف كثري من الأحيان ‪ -‬مما يجعل تفكريه‬ ‫خمتلفاً عن تفكريه يف القرن املا�ضي‪ ،‬ومفاتيح اهتمامه �أي�ضاً تبدلت‪ ،‬والطريق �إىل‬ ‫حفز م�شاعره �صارت �أكرث التواء‪ ،‬ومل ي�صاحب ذلك التعقيد ما يحتاجه من الفهم‬ ‫العميق القائم على معرفة النف�س الب�شرية وال�سنن الإلهية التي حتكمها‪ .‬و�آية ذلك‬ ‫جمود خطاب كثريين منا دون �أدنى حت�سني �أو حتوير‪.‬‬ ‫د‪ -‬مما مل نحط به خُ رْباً �سنن اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬يف تغري املجتمعات‪ ،‬ذلك التغري‬ ‫الذي ال يتوقف �أبداً‪ ،‬لكنه ال يخرج عن الأحكام والأنظمة الإلهية التي ت�سريه‪ ،‬وهو‬ ‫تغري �أ�سا�سه احلركة البطيئة التي �إن ت�سارعت مل ت�صل �أبداً �إىل حد الطفرة املنا ِق�ضة‬ ‫للفطرة‪ .‬ومبا �أن عمر الإن�سان ق�صري فهو مت�شوق �أبداً �إىل معرفة نتائج �أعماله وجمهوداته‬ ‫قبل �أن يرحل عن هذه الدنيا‪ ،‬لكن �سنن اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬ال تخ�ضع للرغبات والأهواء‪،‬‬ ‫‪111‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 111‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ومن ثم ف�إن اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬قال لنبيه‪ :‬ﱹ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬

‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﱸ الرعد ‪ ،46‬و�إذا كان الوقوف على مفاتيح‬ ‫�شخ�صية الفرد �صار معقداً‪ ،‬ف�إن الوقوف على مفاتيح �شخ�صية املجتمع �أكرث تعقيداً؛‬ ‫لأن �أبناءه ينتمون �إىل �شرائح متعددة‪ ،‬وكل �شريحة منها تخ�ضع مل�ؤثرات مغايرة‪ ،‬وهذا‬ ‫يجعل التعامل معه غاية يف التعقيد!‬ ‫�إن احلل الوحيد حلاالت اال�ستعجال على قطف الثمار قبل ن�ضجها هو الإحاطة‬ ‫املب�صرة بكل جوانب التغيري املن�شود و�آلياته‪ ،‬و�إال ف�إن كثرياً من اجلهود �سيكون جهاداً‬ ‫يف غري عدو‪ ،‬بل �سيكون �أخطر على الدعوة من �أعدائها!‬ ‫�إن فقه التحرك باملنهج �أ�شق من فقه املنهج نف�سه؛ لأنه يقوم على ركائز عائمة‪ ،‬وتراكم‬ ‫اخلربة فيه �ضعيف لتنوع �أحواله وكرثة خ�صو�صياته‪.‬‬

‫‪112‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 112‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮄﮅﮆﮇ ﮈﮉ‬ ‫ﮊﮋﮌ‬ ‫يقول اهلل ‪�-‬سبحانه وتعاىل‪ :-‬ﱹ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ‬ ‫ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬

‫ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﱸ البقرة ‪،249‬‬ ‫ُت�س ِّلط الآية الكرمية ال�ضوء على ق�ضية مهمة يف حياتنا‪ ،‬هي ق�ضية (الكم والكيف)‪،‬‬ ‫وعلى العالقة اجلدلية بينهما؛ فحني خرج طالوت حلرب جالوت خرجت معه الألوف‬ ‫امل�ؤلفة من اجلند (كم) ف�أراد �أن يعرف نوعية الرجال الذين �سيقاتل بهم فابتالهم‬ ‫بال�شرب من النهر‪ ،‬ف�شرب منه ال�سواد الأعظم منهم‪ ،‬ومل ينجح يف ذلك االمتحان‬ ‫�سوى ما يزيد قلي ًال على ثالثمائة رجل ‪ -‬كعدة �أ�صحاب بدر ‪ -‬وكان موقف هذه‬ ‫القلة القليلة من جي�ش جالوت املوقف الذي يتنا�سب مع كيفهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬ﱹ ﮄ‬ ‫ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﱸ هذه الفئة القليلة هي الغالبة ملا‬ ‫نالت من ت�أييد اهلل ون�صره؛ ب�سبب ا�ستحواذها على �شروط الن�صر‪.‬‬ ‫ويف ختم الآية‪ :‬ﱹﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﱸ �إ�شارة �إىل �أن هذه الفئة كانت‬ ‫‪113‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 113‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫تتحلى‪ -‬يف جملة ما تتحلى به ‪ -‬بال�صرب ال�ضروري ملجالدة العدو‪� ،‬إن للكيف �ش�أناً‬ ‫و�أي �ش�أن يف �أوقات الأزمات عامة وم�صارعة الأعداء خا�صة؛ حتى �إن الرجل ليغالب‬ ‫الع�شرة من الرجالﱹ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﱸ الأنفال ‪ .65‬وهذه‬ ‫الدنيا دار ابتالء‪ ،‬ومن ثم ف�إن بني الب�شر حماطون بكل ما من �ش�أنه �أن يكون ابتال ًء‬ ‫لهم‪ :‬الزمان واملكان والأ�شياء والأفكار والأعرا�ض؛ و �إن كل �شي نرتكه غف ًال على‬ ‫(كم) يتحدى‪ ،‬وي�ضايق‪ ،‬وقد ي�شوه‪ ،‬ويقتل!! ومن ثم ف�إننا منتلك‬ ‫حالته الفطرية هو ٌّ‬ ‫من القدرة واحلرية على مقدار ما نك ِّيفه من تلك الفطريات‪ ،‬ونحن بني الب�شر حمدودو‬ ‫الكم ال بد �أن يكون على‬ ‫الطاقات والإمكانات والأعمار‪ ،...‬ومن ثم ف�إن تو�سعنا يف ِّ‬ ‫ح�ساب الكيف‪ ،‬كما �أن التو�سع يف الكيف ال بد �أن يكون على ح�ساب التو�سع يف‬ ‫الكم‪ ،‬وهذا يوجب علينا �أن نتعلم كيف نركز على الكم‪ ،‬وكيف ِّ‬ ‫نركز على الكيف‪،‬‬ ‫ومتى يكون هذا‪ ،‬ومتى يكون ذاك ؟ و�إال فرمبا ذهب كثري من جهدنا هبا ًء! وعلى‬ ‫�سبيل املثال ف�إن الظواهر االجتماعية تتكون على �سبيل التدرج‪ ،‬و�إذا ما ا�ستقرت‪،‬‬ ‫و�صارت عرفاً �ضغطت على النا�س �ضغطاً �شديداً‪ ،‬وهي ال تعتمد يف �سريورتها على‬ ‫الكيف‪ ،‬لكن على الكم‪ ،‬ومن ثم ف�إن القول ال�سائر يف �صددها يكون با�ستمرار‪:‬‬ ‫النا�س يعيبون هذا‪ ،‬والنا�س يحبون هذا‪ ،‬بقطع النظر عن نوعية القائلني‪ ،‬ومن هنا جاء‬ ‫احلديث ال�شريف‪ ( :‬من كثرَّ �سواد قوم فهو منهم )(‪ )1‬حيث �إن تكثري ال�سواد يف بع�ض‬ ‫املواقف‪ ،‬كامل�ؤمترات والتظاهرات ‪ -‬مث ًال ‪ -‬يكون هو الهدف مهما كان الق�صد! وهذا‬ ‫يعني �أن جهداً كبرياً ينبغي �أن ُيبذل يف اجتاه جعل الدين ثقافة عامة للنا�س ي�ؤ�صلون‬ ‫�أعرافهم عليها؛ فال ي�صبح املعروف منكراً وال املنكر معروفاً‪ ..‬وعلى �صعيد الكيف‬ ‫‪ -1‬من حديث البن م�سعود يرفعه انظر فتح الباري ‪.37/13‬‬ ‫‪114‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 114‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ف�إن باحثاً واحداً يعد مرجعاً يف فرع من فروع املعرفة �أجدى على التقدم العلمي من‬ ‫الوظائف الإدارية والقيادية العليا‪ ،‬ف�إن موهوباً‬ ‫ُ‬ ‫�ألوف امللقنني املدر�سيني‪ .‬ونح ٌو من هذا‬ ‫واحداً م�ؤ َّه ًال �أنفع من مئات الأ�شخا�ص (اخلام) الذين يحتاجون �إىل من ي�ص ِّرف‬ ‫�أمورهم‪ ..‬ويف ق�ضايا الفكر والر�أي وااللتزام قد ننظر للكم تارة‪ ،‬وقد ننظر للكيف‬ ‫تارة �أخرى؛ ف�إذا كان احلق الذي نتبعه قطعياً ‪� -‬أي لي�س مناطاً لالجتهاد ‪ -‬ف�إن الكم‬ ‫مهدور حينئذ‪ ،‬وهذا معنى قول ابن م�سعود ـ ر�ضي اهلل عنه‪ :-‬اجلماعة �أن تكون على‬ ‫احلق‪ ،‬ولو كنت وحدك‪ .‬وحني يكون احلق اجتهادياً ف�إن الكم حينئذ معترب‪ ،‬ومن هنا‬ ‫ن�ش�أت �أهمية كلمة (جمهور) عند الفقهاء وغريهم‪.‬‬ ‫نق�ص يف (الكم) على �أي �صعيد من ال�صعد‪ ،‬لكنها‬ ‫�إن �أمتنا اليوم ال تعاين من ٍ‬ ‫تعاين من نق�ص �شديد يف (الكيف)؛ فنحن اليوم �أكرث من خم�س العامل‪ ،‬و�أرا�ضينا‬ ‫وا�سعة �شا�سعة وخرياتنا كثرية وفرية‪ ،‬لكننا �إىل جانب هذا يف حالة معي�شية م�أ�ساوية‬ ‫على �أكرث الأ�صعدة‪ ،‬ف�أكرث بلدان العامل الإ�سالمي م�ص َّنفة مع البلدان الفقرية‪،‬‬ ‫وكثري من �شعوبنا يعي�ش حتت م�ستوى الفقر! و�أعلى ن�سبة للأمية موجودة عندنا!‬ ‫�أما الوزن الدويل فنحن جميعاً على الهام�ش موزعون ما بني �شرق �أو�سط و�أق�صى‬ ‫و�أدنى‪� ،‬أي �أننا ُن�ص َّنف با�ستمرار تبعاً ملوقعنا من املركز! ومع �أن الوحدة ظلت املحور‬ ‫الذي يجذب م�شاعرنا و�أدبياتنا‪� ،‬إال �أن حالتنا الراهنة تتجه با�ستمرار �إىل مزيد من‬ ‫التمزق والتفكك‪ ،‬هذا مع �أن العامل من حولنا ي�سري �إىل التوحد واالندماج! �أما‬ ‫حقوقنا وكرامتنا و�أرا�ضينا‪ ،‬فو�ضعنا وو�ضع العامل منها يلخِّ �صه املثل العربي القدمي‪:‬‬ ‫(�أو�سعتهم �سباً و�أودوا بالإبل)!‪ ،‬وال �أريد �أن �أمتادى يف (النب�ش) وتتبع املواجع حتى‬ ‫ال نقع فري�سة الي�أ�س القاتل لكن ما �أريد �أن �أقوله هو �أن و�ضعنا احلايل قد جاءت به‬ ‫‪115‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 115‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫النذارة يف ن�صو�ص كثرية منها‪ :‬حديث (‪ )1‬الق�صعة املعروف‪ ،‬والذي و�صف حالة‬ ‫الأمة بالغثائية‪ ،‬والت�ضا�ؤل على امل�ستوى الظاهري‪( :‬غثاء كغثاء ال�سيل)‪ ،‬وعلى‬ ‫م�ستوى امل�ضمون (الوهن)‪( :‬حب الدنيا وكراهية املوت)‪ ،‬وللغثاء �سمتان �أ�سا�سيتان‪:‬‬ ‫خفة الوزن وعدم الرتابط‪ ،‬ويرتتب عليهما نتيج ٌة خميفة‪ ،‬هي فقد االجتاه احلر‪ ،‬فالغثاء‬ ‫ي�ساق دائماً �إىل حيث يريد‪ ،‬و�إىل حيث ال يريد؛ ويف موازين عديدة ُي َع ُّد فقد االجتاه‬ ‫فقداً للوجود ذاته! وهذا كله يعني �أن �أحوالنا الثقافية وال�سلوكية واالقت�صادية �إذا‬ ‫ظ َّلت على ما هي عليه فلن تفرز �إال التبعية للآخرين‪ ،‬والتي �ستفرز من جهتها‬ ‫با�ستمرار �صراعات يف ُبنانا العميقة ت�ؤكد الغثائية وت�ؤِّ�صلها!‬ ‫كيف نح ِّول الكم �إىل كيف ؟‬ ‫نحن يف حركتنا اليومية نقوم با�ستمرار بتحويل (الكم) �إىل (كيف) فال م�شكلة‬ ‫يف املمار�سة العملية‪ ،‬لكن الإ�شكال يكمن يف فقد التوازن بني الكم والكيف‪،‬‬ ‫�أو بعبارة �أخرى يف الكم الهائل الذي مل ن�ستطيع تكييفه؛ مما يح ِّوله �إىل عبء‬ ‫ثقيل وعقبة ك�أداء يف طريق جناحنا؛ فالأمي واجلائع واملري�ض واملنحرف والفو�ضوي‬ ‫ي�شدون الأمة بعنف نحو الوراء‪ ،‬ويقفون يف وجهها‪ ،‬وهي‬ ‫والك�سول‪ ،‬كل �أولئك ُّ‬ ‫تخطو نحو اخلال�ص من الغثائية‪ ،‬ولي�س هذا فح�سب بل �إن هذه الهالميات ت�ستطيع‬ ‫�أن تت�أبى على �أي قالب ت�شكيل ت�صادفه‪ ،‬مما يجعلها دائماً نقاط �ضعف يف ج�سم‬ ‫الأمة ونقاط ارتكاز ور�ؤو�س ج�سور للمرتب�صني بها الدوائر! ويكون ال�س�ؤال حينئذ‪:‬‬ ‫كيف نحد من ن�سبة ه�ؤالء لتكون قريبة من الطبيعية ؟ �إن هناك كالماً كثرياً ميكن‬ ‫�أن نقوله يف هذا ال�ش�أن‪ ،‬لكنني �أود �أن �أ�شري �إ�شارة عابرة �إىل حماور �أربعة‪� ،‬أح�سبها‬ ‫‪�-1‬أخرجه �أحمد و�أبو داود‪.‬‬ ‫‪116‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 116‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫منطلقات مهمة يف هذه ال�سبيل‪:‬‬ ‫‪� -1‬أن ن�شيع يف الأمة روح التوحد على الأ�صول واحلق القطعي‪ ،‬وذلك ي�ستلزم‬ ‫جهوداً دائمة يف بلورة ذلك؛ و�أن ن�شيع �إىل جانب ذلك روح التعاذر يف الفروع واحلق‬ ‫االجتهادي‪ ،‬ون�ضرب للنا�س الأمثلة العملية التي تنري لهم ال�سبيل‪ ،‬و�أن ُنبقي يف‬ ‫احلالتني هام�شاً للتوا�صل والتب�شري والإنذار‪.‬‬ ‫‪� -2‬أن نو�سِّ ع يف تربيتنا وحياتنا اليومية من مفاهيم العبادة لت�شمل جماالت‬ ‫النفع العام‪ ،‬كالأخذ بيد �أولئك الذين قعدت بهم ظروفهم و�إمكاناتهم عن �أن‬ ‫يعي�شوا حياة كرمية طبيعية‪( ،‬ال�ساعي على الأرملة وامل�سكني كاملجاهد يف �سبيل‬ ‫اهلل �أو القائم الليل ال�صائم النهار)(‪ )1‬وذلك بغية التخفيف من املعاناة التي‬ ‫يكابدها كثريون من �أفراد الأمة‪.‬‬ ‫‪ -3‬رعاية النابهني و�إعطا�ؤهم ما ي�ستحقونه من االهتمام واملتابعة والبذل‪،‬‬ ‫والنابهون هم �أولئك الذين �آتاهم اهلل ‪� -‬سبحانه ‪ -‬من املكنة ما جعلهم حماور يدور يف‬ ‫فلكهم الآخرون‪ ،‬والنابه قد يكون طالباً عبقرياً‪ ،‬وقد يكون وجيهاً ي�أمتر ب�أمره كثريون‪،‬‬ ‫وقد يكون واحداً من ذوي ر�ؤو�س الأموال الطائلة‪ ،‬وقد يكون ويكون‪ ،...‬وهذا من‬ ‫باب �إنزال النا�س منازلهم‪.‬‬ ‫‪� -4‬إقامة امل�ؤ�س�سات الكربى على خمتلف ال�صعد‪ ،‬وتلك امل�ؤ�س�سات ت�ؤ�صل فينا‬ ‫روح الفريق‪ ،‬كما توفر الأطر الإدارية والفنية والعملية لأولئك الذين ميلكون روح‬ ‫الإخال�ص والعطاء‪� .‬إن امل�ؤ�س�سات متثل مهمة املحرك لل�سفينة تارة ومهمة املرا�سي‬ ‫تارة �أخرى‪� ،‬أي‪ :‬ت�ؤ ِّمن حركة را�شدة متزنة‪.‬‬ ‫‪�-1‬أخرجه ال�شيخان وغريهما‪.‬‬ ‫‪117‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 117‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫و�إذا ما فعلنا ذلك �أو بع�ضه نكون قد �ساعدنا الأمة يف اخلروج من نفق‬ ‫(الغثائية الكمية) املظلم‪ ،‬ودفعناها نحو تبوء املكانة التي تليق بها؛ وعلى اهلل‬ ‫ق�صد ال�سبيل‪.‬‬

‫‪118‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 118‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯜ ﯝﯞ ﯟ‬ ‫يف هذه الآية خري عظيم‪� ،‬إذ فيها الب�شارة لأهل الإميان ب�أن للكرب نهاية مهما‬ ‫طال �أمده‪ ،‬و�أن الظلمة حتمل يف �أح�شائها الفجر َ‬ ‫املنتظر‪ .‬وتلك احلالة من التعاقب‬ ‫بني الأطوار والأو�ضاع املختلفة تن�سجم مع الأحوال النف�سية واملادية لبني الب�شر‪،‬‬ ‫والتي تت�أرجح بني النجاح واالنك�سار والإقبال والإدبار‪ ،‬كما تن�سجم مع �صنوف‬ ‫االبتالء الذي هو �شرعة احلياة ومي�سمها العام‪ .‬وقد بثت هذه الآية الأمل يف نفو�س‬ ‫ال�صحابة‪ -‬ر�ضوان اهلل عليهم‪ -‬حيث ر�أوا يف تكرارها توكيداً لوعود اهلل ‪ -‬عز وجل‬ ‫ بتح�سن الأحوال‪ ،‬فقال ابن م�سعود‪ :‬لو كان الع�سر يف ُج ْحر لطلبه الي�سر حتى‬‫يدخل عليه‪ .‬وذكر بع�ض �أهل اللغة �أن (الع�سر) مع َّرف ب�أل‪ ،‬و (ي�سراً) َّ‬ ‫منكر‪ ،‬و�أن‬ ‫العرب �إذا �أعادت ذكر املعرفة كانت عني الأوىل‪ ،‬و�إذا �أعادت النكرة كانت الثانية غري‬ ‫(‪.)2‬‬ ‫الأوىل (‪ .)1‬وخ َّرجوا على هذا قول ابن عبا�س‪ :‬لن يغلب ع�سر ي�سرين‬ ‫‪ -1‬انظر البحر املحيط ‪.488/8‬‬ ‫‪ -2‬ال�سابق ‪ ,‬وبع�ض املحدثني يرفعه �إىل النبي؛ ×‪.‬‬ ‫‪119‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 119‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ويف الآية �إ�شارة بديعة �إىل اجتنان الفرج يف ال�شدة والكربة‪ ،‬مع �أن الظاهر �أن‬ ‫الرخاء ال يزامن ال�شدة‪ ،‬و�إمنا يعقبها‪ ،‬وذلك لتطمني ذوي الع�سرو البالء وتب�شريهم‬ ‫بقرب اجنالء الكرب‪ ،‬ونحن اليوم �أحوج ما نكون �إىل اال�ستب�شار بهذه الآية حيث‬ ‫يرى امل�سلمون الكثري من �صنوف الإحباطات والهزائم و�ألوان القهر والنكد؛ مما‬ ‫�أدى �إىل �سيادة روح الت�شا�ؤم والي�أ�س‪ ،‬و�صار الكثريون ي�شعرون بانقطاع احليلة‬ ‫واال�ست�سالم للظروف واملتغريات‪ ،‬و�أفرز هذا الو�ضع مقوالت ميكن �أن ن�سميها بـ (‬ ‫�أدبيات الطريق امل�سدود)! هذه الأدبيات تتمثل بال�شكوى الدائبة من كل �شيء‪:‬‬ ‫من خذالن الأ�صدقاء‪ ،‬ومن ت�آمر الأعداء‪ ،‬و من تركة الآباء والأجداد‪ ،‬و ت�صرفات‬ ‫الأبناء والأحفاد! وه�ؤالء امل�أزومون ي�س ِّلطون �أ�شعة النقد دائماً نحو اخلارج؛ فهم يف‬ ‫ذات �أنف�سهم على مايرام‪ ،‬وغريهم هو الذي يفعل كل ما يحدث لهم! و�إذا ر�أوا من‬ ‫يتجه �إىل ال�صيغ العملية بعيداً عن الر�سم يف الفراغ �أطف�ؤوا حما�سته بالقول‪ :‬لن‬ ‫يدعوك تعمل‪ ،‬ولن يدعوك تربي‪ ،‬ولن يدعوك مت�سي عمالقاً‪ ،‬ولن يدعوك‪ ...‬وكل‬ ‫ذلك يف�ضي �إىل متحارجة تنطق بال�صريورة �إىل العطالة والبطالة‪� ،‬إىل �أن ي�أتي املهدي‪،‬‬ ‫فيكونوا من �أن�صاره �أو يحدث اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬لهم من �أمرهم َف َرجاً وخمرجاً!‬ ‫ولعلنا نلخ�ص الأ�سباب الدافعة �إىل تلك احلالة البائ�سة فيما يلي‪:‬‬ ‫‪ -1‬الرتبية اخلا�صة الأوىل التي يخ�ضع لها الفرد‪:‬‬ ‫قد تقوم الرتبية ببث روح الت�شا�ؤم والي�أ�س يف نف�س الفرد من �صالح الزمان‬ ‫و�أهله‪ ،‬كما تقوم ببث نوع من العداء بينه وبني البيئة التي ينتمي �إليها‪ ،‬ف�إذا ما‬ ‫قطع �أ�سبابه بها وانعزل �شعورياً بحث عن نوع من االنتماء اخلا�ص �إىل �أ�سرة �أو بلدة‬ ‫�أو جماعة حتى ينفي عنه ال�شعور باالغرتاب‪ .‬لكن يكت�شف �أن ما كان يعتقد فيه‬ ‫‪120‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 120‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫املثالية‪ ،‬ويت�شوق �إىل حتقيق �أماله من خالله ال يختلف عن غريه كثرياً‪ ،‬مما يورثه‬ ‫الإحباط والي�أ�س حيث يفقد الثقة بكل ما حوله‪ ،‬وتكون النتيجة الربم والت�أفف من‬ ‫كل �شيء وردود الأفعال ال�سلبية جتاه التحديات املختلفة‪.‬‬ ‫‪ -2‬التعامل مع الواقع على �أنه كتلة �صلدة‪:‬‬ ‫مييل �أكرث النا�س �إىل النظرة التب�سيطية التي ال ترى لكل ظاهرة �إال �سبباً واحداً‪،‬‬ ‫وال ترى يف تركيبها �إال عن�صراً واحداً‪ ،‬وهذه النظرة اخلاطئة تف�ضي �إىل مع�ضلة منهجية‬ ‫كربى‪ ،‬هي عدم القدرة على تق�سيم امل�شكلة مو�ضع املعاناة �إىل �أجزاء رئي�سة و�أخرى‬ ‫ثانوية‪ ،‬كما ت�ؤدي �إىل عدم القدرة على �إدراك عالقات ال�سيطرة يف الظاهرة الواحدة‪،‬‬ ‫وعدم القدرة بالتايل على تغيريها �أو تبديل مواقعها‪ ،‬والنتيجة النهائية هي الوقوف‬ ‫م�شدوهني �أمام م�شكلة متكل�سة م�ستبهمة ال نرى لها بداية وال نهاية‪ ،‬وعاقبة ذلك‬ ‫هي اال�ست�سالم لل�ضغوط وانتظار املفاج�آت‪ ،‬مع �أننا لو با�شرنا العمل باملمكن اليوم‬ ‫ل�صار ما هو م�ستحيل اليوم ممكناً غداً‪.‬‬ ‫‪ -3‬عدم االنتباه للعوامل الداخلية للم�شكلة‪:‬‬ ‫يندر �أن نرى ظاهرة كربى ال تخ�ضع يف وجودها وا�شتدادها واجتاهها لعدد من‬ ‫العوامل الداخلية واخلارجية‪ ،‬ويظل العامل اخلارجي حمدود الت�أثري ما مل ي�ستطع‬ ‫�إزاحة �أحد العوامل الداخلية واحللول حمله‪ ،‬ون�ستطيع �أن نطبق ذلك على �أية‬ ‫م�شكلة كربى نواجهها اليوم‪ ،‬وقد �أ�شار القر�آن الكرمي �إىل هذه احلقيقة الباهرة حني‬ ‫قال‪ :‬ﱹ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﱸ �آل عمران ‪.120‬‬ ‫والذي يحدث �أننا كثرياً ما نب�صر امل�ؤثرات اخلارجية ‪ -‬وهي م�ؤثرات قوية حقاً ‪-‬‬ ‫ونغ�ض الطرف عن العوامل الداخلية؛ فنحن مث ًال ال منلك �إقناع الأعداء ب�أن يخفِّفوا‬ ‫‪121‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:14‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 121‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫من غلوائهم يف عدائنا‪ ،‬كما ال ميلك بنو الب�شر جميعاً �أن مينعوا الثلوج من الت�ساقط؛‬ ‫لكن الذي ن�ستطيعه هو تقوية �أنف�سنا حتى ال نكون لقمة �سائغة‪ ،‬كما يفعل النا�س يف‬ ‫مواجهة ظروف املناخ‪ ،‬لكن امل�شكلة �أن �أ�صعب �أنواع املواجهات هو مواجهة الذات‪،‬‬ ‫كما �أن �أرقى �أنواع االكت�شاف هو اكت�شاف الذات!‬ ‫‪ -4‬عدم �إدراك حركة اجلدل بني الأحوال‪:‬‬ ‫تتعاقب الأحوال كما يتعاقب الليل والنهار‪ ،‬وما بعد ر�أ�س القمة �إال ال�سفح‪ ،‬وما‬ ‫بعد ال�سفح �إال القاع‪ .‬و�إن دفع �أية ق�ضية �إىل حدودها الق�صوى �سي�ؤدي يف النهاية‬ ‫�إىل ك�سر ثورتها �أو �إنهائها ب�صورة تامة‪ .‬وحني ت�صل جتربة �أو نظرية �أو منهج �إىل طريق‬ ‫م�سدود ف�إن النا�س لن يتلبثوا �إال قلي ًال حتى يجدوا املخرج الذي قد يكون منا�سباً‪،‬‬ ‫وقد ال يكون‪،‬‬ ‫وهنا ي�أتي دور الثالثي ال ّن ِكد من الأذكياء والعمالء والبلهاء الذين يحاولون ‪-‬‬ ‫على اختالف الق�صود ‪ -‬عدم و�صول �أي م�شكلة �إىل مرحلة االنفجار حتى تظل‬ ‫م�ستمرة �إىل ما ال نهاية! وامل�شكالت يف عاملنا الإ�سالمي مل تدم تلك القرون املتطاولة‬ ‫�إال نتيجة الهند�سة الإخراجية لذلك الثالثي! وهنا ي�أتي �أي�ضاً دور املفكرين الذين‬ ‫ح�س النا�س‬ ‫ميتلكون ر�ؤية نقدية �شاملة ينقلون من خاللها م�شكالت جمتمعاتهم �إىل ِّ‬ ‫و�أع�صابهم حتى ال يتكيف النا�س معها �سلبياً‪ ،‬وحتى يتاح بالتايل جتاوزها‪.‬‬ ‫ﱹﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﱸ و�إن الن�صر مع ال�صرب و�إن ال َف َرج مع‬ ‫الكرب‪ ،‬و�إن يف رحم كل �ضائقة �أج َّنة انفراجها ومفتاح حلها‪ ،‬و�إن جلميع ما نعانيه من‬ ‫�أزمات حلو ًال منا�سبة �إذا ما توفر لها عقل املهند�س ومب�ضع اجلراح وحرقة الوالدة‪..‬‬ ‫وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل‪.‬‬ ‫‪122‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 122‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯶ ﯷﯸﯹﯺ‬

‫بث فيه �سنناً تت�سم‬ ‫كان من جملة ت�سخري اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬الكونَ لهذا الإن�سان �أن ّ‬ ‫باالطراد والثبات وال�شمول‪ .‬وهذه ال�سنن مبثوثة يف الأ�شياء والأنف�س واملجتمعات‪.‬‬ ‫و�إن وجود ال�سنن رحمة من اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬بنا؛ �إذ �إننا نتمكن ب�سببها من اخت�صار‬ ‫كثري من اجلهود التي كان علينا �أن نبذلها لفهم ما حولنا والتعامل معه‪ .‬ولنت�صور �أن‬ ‫قانون �إحراق النار‪� ،‬أو قانون اجلاذبية‪� ،‬أو قانون تغري الأو�ضاع �إىل الأح�سن �أو الأ�سو�أ‬ ‫تبعاً جلهد الإن�سان و�سلوكه مل يكن ثابتاً وال َّمطرداً‪ ،‬فكيف �ستكون احلال �إذن ؟!‬ ‫وثمة مظهر �آخر للرحمة يف اطراد ال�سنن هو �أن التحول يف �أكرث الظواهر‬ ‫االجتماعية يتم ببطء؛ وعمر الإن�سان ق�صري �إذا ما قي�س بعمر احل�ضارات؛ مما يجعله‬ ‫ُيب�صر مقدمات احلدث دون نتائجه‪ ،‬ونتائجه دون مقدماته و�أ�سبابه‪ ،‬وحينئذ ف�إن من‬ ‫ال�سهولة مبكان �أن ي�صاب املرء بغب�ش الر�ؤية و�ضالل الأحكام‪ ،‬وال�سنة بتج�سريها‬ ‫للعالقة بني املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل جعلت يف �إمكان امل�سلم �أن يعرف النتائج من‬ ‫خالل الوقوف على الأ�سباب‪ ،‬و يعرف املقدمات من خالل ر�ؤية نتائجها‪� ،‬أي جعلت‬ ‫‪123‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 123‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الأزمنة كتلة واحدة‪ ،‬وهي بهذا االعتبار تكون قد �أ َّمنت للم�سلم نوعاً من التوا�صل‬ ‫عرب حقب الزمان املختلفة‪ ،‬فاملا�ضي مل يغادرنا حتى ترك يف حا�ضرنا ثقافة ع�صرنا‬ ‫و�صفات وراثية حمددة وظروفاً ت�ؤطر م�ساحات حركتنا اليوم‪� .‬إن املا�ضي �سيظل يظهر‬ ‫يف احلا�ضر ب�صور ٍة ما‪ ،‬و�إن احلا�ضر �سيظل يظهر يف القابل ب�صور ٍة ما‪ ،‬و�إن فيزياء التقدم‬ ‫عبارة عن حديث احلا�ضر مع املا�ضي عن امل�ستقبل‪.‬‬ ‫ال�س َّنة‪� :‬إلتحام بكل الأبعاد‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�سنة هي النامو�س العام الذي ي�ؤ ِّمن اال�ستقرار واالن�سجام بني جزئيات‬ ‫�إذا كانت ُّ‬ ‫الظاهرة الواحدة �إذا ما توفرت بع�ض ال�شروط املو�ضوعية‪ ،‬ف�إن هذا يعني �أن امل�سلم م�أمور‬ ‫بعبور املا�ضي ليفهم حا�ضره‪ ،‬وم�أمور بتجاوز احلا�ضر ليمد النظر نحو امل�ستقبل؛ كيما‬ ‫يفقه اخلطوة املنا�سبة‪ .‬وجند ن�صو�صاً كثرية يف هذا الأمر‪ ،‬كقوله �سبحانه‪ :‬ﱹ ﮖ ﮗ ﮘ‬ ‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﱸ �آل عمران‪.137 :‬‬ ‫وقوله �سبحانه‪ :‬ﱹ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ‬ ‫ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﱸ العنكبوت‪� .20 :‬إنها دعوة لل�سري يف الأر�ض‬ ‫واخلروج من �سجن املكان امل�ألوف لر�ؤية خلق اهلل و�إب�صار �سننه فيه‪ .‬ومبا �أن املكان يرث‬ ‫دائماً الزمان‪ ،‬ف�إننا �سوف نب�صر من خالل ال�سري يف الأمكنة الكثري من الأزمنة املا�ضية‪،‬‬ ‫وما خ َّلفته لنا من �آثار خلق اهلل؛ تعاىل‪ ،‬وقد كانت هذه الأمة حتتل يف يوم من الأيام‬ ‫مكان ال�صدارة بني الأمم؛ ف�إذا بها تبحث عن مكان يف الذيل‪ ،‬فال جتد! واخلطوة الأوىل‬ ‫نحو ا�ستعادة بع�ض ما فات تتمحور حول بحث الأ�سباب التاريخية التي �أدت بنا �إىل‬ ‫هذه احلالة املنكورة‪ ،‬وهذا يعني �أن علينا �أن نثابر يف قراءة التاريخ املرة تلو املرة حتى‬ ‫نقف على جذور الواقع الذي نعي�شه �إذا ما كنا جادين يف تغيريه نحو الأح�سن‪.‬‬ ‫‪124‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 124‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�إن ظواهر كثرية يف حياتنا �ستظل غري مفهومة ما مل نعد �إىل جذورها العميقة‬ ‫ال�ضاربة يف ال ِق َدم؛ ف�إذا ما نظرنا ‪ -‬مث ًال ‪ -‬يف ظاهرة »ذل امل�سلم وخ�ضوعه« مل ن�ستطع‬ ‫�أن نفهمها ما مل نعد �إىل املا�ضي‪ ،‬ف�إذا عدنا ر�أينا ما ي�س ِّوغ ذلك‪ ،‬فقد ُ�ص َّب عليه‬ ‫من �صنوف التعذيب النف�سي واجل�سدي‪ ،‬ومن �صنوف الإذالل والإهانة و�سيا�سة‬ ‫»ا�سحق الذبابة باملطرقة« ما ال يفرز �إال م�سلم اليوم!‬ ‫وقد كان ذلك با�ستمرار با�سم امل�صلحة العامة و�أمن الأمة واال�ستقرار العام!!‬ ‫لكن ال بد من القول �إن انفتاح العامل بع�ضه على بع�ض حتى حتول �إىل »قرية‬ ‫�إعالمية« ‪ -‬كما يقولون ‪ -‬قد جعل فهم الواقع اليوم �أكرث تعقيداً‪ ،‬وال�سبب �أن جزءاً‬ ‫م�سه‪� ،‬أما الباقي فجذوره وخيوطه رمبا كانت خارج‬ ‫من هذا الواقع هو الذي ميكن ُّ‬ ‫�أرا�ضي امل�سلمني كلها!‬ ‫ال�سنة تر�سم لنا امل�سار العام �إن مل ُت ْتحفنا‬ ‫لكن مهما يكن من �أمر ف�إن ُّ‬ ‫بالتفا�صيل‪.‬‬ ‫ال�سنة وعلوم امل�ستقبل‪:‬‬ ‫يف الغرب اليوم حركة حممومة لدرا�سة امل�ستقبل‪ ،‬حتى �صار لديهم علم ا�سمه‬ ‫»علم امل�ستقبليات«‪ .‬وهم ي�صنفون امل�ستقبل �إىل مبا�شر‪ ،‬وهو يغطي م�ساحة زمنية قدرها‬ ‫عام‪ ،‬وم�ستقبل �أقرب وهو يغطي م�ساحة قدرها خم�سة �أعوام‪ ،‬وم�ستقبل قريب يغطي‬ ‫م�ساحة قدرها ع�شرون عاماً‪ ،‬وم�ستقبل بعيد ميتد �إىل نحو خم�سني عاماً‪ ،‬وم�ستقبل �أبعد‬ ‫يتجاوز اخلم�سني‪ .‬وهم خلربتهم احل�سنة بالواقع ي�ستطيعون مد الب�صر نحو امل�ستقبل يف‬ ‫املجاالت التقنية والتنموية املادية ب�صورة خا�صة‪ .‬لكن العتقادهم �أن العلم هو الذي‬ ‫يك ِّيف �سلوك الب�شر‪ ،‬ولي�س الدين‪ ،‬ف�إن كثرياً من توقعاتهم �سوف يكون خم ِّيباً للآمال‪.‬‬ ‫‪125‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 125‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وتاريخ الب�شرية هو تاريخ الر�ساالت وال�شرائع وما حتدثه من دوائر اال�ستجابة وردود‬ ‫الفعل؛ و�سيظل م�ستغلق الفهم على من نظر �إليه انطالقاً من غري ذلك‪ ،‬و�إذا كانت‬ ‫وظيفة الإن�سان يف احلياة هي االلتزام ب�شرع اهلل والقيام ب�إعمار الأر�ض‪ ،‬ف�إن القر�آن‬ ‫الكرمي يحدثنا �أن هالك الأمم املا�ضية مل يكن يف �أي ع�صر ب�سبب الق�صور العمراين‪،‬‬ ‫و�إمنا ب�سبب التق�صري يف جانب العبودية هلل ‪-‬تعاىل‪ -‬واالنحراف عن منهجه‪ .‬وهذا ما ال‬ ‫ي�ستطيع الغربيون اليوم فهمه؛ ومن ثم ف�إن كثرياً من درا�سات امل�ستقبل لديهم �سيظل‬ ‫جهاداً يف غري عدو! ون�ستطيع القول‪� :‬إن الإ�سالم يربي امل�سلم على النظر دائماً نحو‬ ‫الأمام؛ فهو منذ البلوغ �إىل �أن يلقى اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬يرنو نحو م�ستقبله الأخروي ‪ -‬بل يجعله‬ ‫َح َكماً يف حا�ضره بكل حركاته و�سكناته‪ .‬وهناك ن�صو�ص كثرية تتحدث عن امل�ستقبل‪،‬‬ ‫وهذه الن�صو�ص منها ما ُيقدِّ م الإطار العام كقوله ‪� -‬سبحانه ‪ :-‬ﱹ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬ ‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﱸ الرعد‪ .11 :‬وكقوله ‪� -‬سبحانه ‪ :-‬ﱹﯼ ﯽ ﯾ ﯿ‬ ‫ﰀ ﰁﰂ ﭑ ﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚ ﭛﭜ‬

‫ﭝ ﭞ ﭟﱸ نوح‪.12-10 :‬‬ ‫ومنها ما يقدم بع�ض التف�صيالت ك�إخباره × عن �أن الفتنة �ست�أتي من قبل‬ ‫امل�شرق‪ ،‬و�إخباره عن ف�شو الأمرا�ض الغريبة يف الذين تف�شو فيهم الفاح�شة (‪� )1‬إلخ‪..‬‬ ‫وقد �أوجدت معرفة ال�سنن عند ال�سلف ح�سِّ اً خا�صاً بالتعامل مع الواقع من خالل‬ ‫�إفرازاته امل�ستقبلية؛ فهذا �أبو بكر ‪ -‬ر�ضي اهلل عنه ‪ -‬يقول‪:‬‬ ‫»ال تغبطوا الأحياء �إال على ما تغبطون عليه الأموات« وهذا تعبري َّ‬ ‫ينم عن‬ ‫مركز ُّ‬ ‫ر�ؤية الأ�شياء ونهاياتها يف حلظة واحدة! وهذا عمر ‪ -‬ر�ضي اهلل عنه ‪ -‬ي�أتيه خرب فتح‬ ‫‪-1‬انظر هذه الأخبار وكثرياً نحوها يف كتاب الفنت من �صحيح البخاري ‪.‬‬ ‫‪126‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 126‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫خرا�سان‪ ،‬فيقول للنا�س يف املدينة‪» :‬ال تبدلوا‪ ،‬وال تغريوا‪ ،‬في�ستبدل اهلل بكم غريكم‪،‬‬ ‫ف�إين ال �أخاف على هذه الأمة �إال �أن ت�ؤتى من قبلكم«(‪ .)1‬وهذا هو ي�ؤتى �إليه بغنائم‬ ‫»جلوالء«‪ ،‬فريى ياقوته وجوهره‪ ،‬فيبكي‪ ،‬فيقول له عبد الرحمن بن عوف ‪ -‬ر�ضي‬ ‫اهلل عنه ‪ :-‬ما ُيبكيك يا �أمري امل�ؤمنني وهذا موطن �شكر ؟! فيقول عمر‪» :‬واهلل ما ذاك‬ ‫ُيبكيني‪ ،‬وتاهلل ما �أعطى اهلل هذا �أقواماً �إال حتا�سدوا وتباغ�ضوا‪ ،‬وال حتا�سدوا �إال �ألقى‬ ‫اهلل ب�أ�سهم بينهم«(‪ !)2‬وقد كان ما خافه رحمه اهلل!‬ ‫ملاذا التعرف على ال�سنن؟‬ ‫ال�سنن ما�ضية قاهرة‪ ،‬ونحن ال نتعلمها من �أجل تغيريها �أو حتييدها‪ ،‬و�إمنا من‬ ‫�أجل االن�سجام معها والعمل مبقت�ضاها‪ ،‬وتاليف اال�صطدام بها‪ .‬وال�سنن مع جربيتها‬ ‫ال متنعنا من احلركة؛ �إذ �إن بني جربية ال�سنن وو�سع امل�سلم وطوقه م�ساحات وا�سعة‬ ‫ت�صلح للتحرك والعمل؛ فالقوانني الفيزيائية والكيميائية ثابتة‪ ،‬لكننا من خالل فهمها‬ ‫ا�ستطعنا �إيجاد مئات الألوف من ال�صناعات الكيميائية والفيزيائية م�ستغلني ما بينها‬ ‫من خالف وتنوع‪.‬‬ ‫وم�شكلتنا يف هذه الق�ضية ذات ر�ؤو�س متعددة‪ :‬فهناك من هو غارق يف املا�ضي‬ ‫غريب عن احلا�ضر‪ ،‬فهو يرى مقدمات الأحداث وجذورها‪ ،‬دون �أن يرى النتائج‪ ،‬فهو‬ ‫مغرتب �أبداً‪.‬‬ ‫وم ِّنا من غرق يف احلا�ضر دون �أن يعرف عن بدايات اخللق لأزماته وم�شكالته‬ ‫�شيئاً؛ فهو يدور يف حلقة مف َرغة ال يرى خمرجاً‪ ،‬وال يهتدي �سبي ًال‪ ،‬وم ِّنا من �شهد‬ ‫‪ -1‬الطربي ‪. 173/4‬‬ ‫‪ -2‬ال�سابق ‪. 30/4‬‬ ‫‪127‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 127‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫جربية ال�سنن‪ ،‬ومل ي�شهد م�ساحات التكليف و�إمكانات احلركة‪ ،‬فوقف عاط ًال عن‬ ‫العمل هاجعاً يف �إجازة مفتوحة‪ ،‬لكنه �أثرى �أدب ال�شكوى من الزمان والظروف‬ ‫وتواط�ؤ الأعداء مبا ال مزيد عليه! وم َّنا من غرق يف الأحالم الوردية؛ فهو ال يرى ما‬ ‫هو كائن لينطلق به �إىل ما ينبغي �أن يكون؛ فهذا �شاق‪ ،‬ويقت�ضي عم ًال‪ ،‬فوجد �أن‬ ‫التعامل مع ما حوله على ما ينبغي �أن يكون �أ�سهل و�أجمل ف�صار �إليه! ومنا من مل‬ ‫ي�سمع بال�سنن فتفكريه �إىل اخلرافة �أقرب‪ ،‬وعلمه بالإرادة الكونية والإرادة ال�شرعية‬ ‫هباء‪ ،‬واحلياة �أمامه ُب ْع ٌد واحد‪ ،‬ينتهي بطريق م�سدود!‬ ‫واجبنا اليوم‪:‬‬ ‫‪ - 1‬الرتكيز يف معارفنا العامة على الدرا�سات التاريخية والنف�سية والرتبوية‬ ‫واالجتماعية؛ لنتمكن من ا�ستجالء �أكرب عدد ممكن من �سنن اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬يف‬ ‫الأنف�س واملجتمعات(‪.)1‬‬ ‫‪ -2‬بلورة مناهج للعمل الدعوي تتنا�سب مع تلك ال�سنن يف �أ�ساليبها و�أدواتها‪.‬‬ ‫‪ -3‬تربية �أبنائنا وطالبنا على التفكري ال�سنني؛ ليحل حمل الأوهام واخلرافات‬ ‫التي ع�ش�شت يف �أذهان كثري منهم‪.‬‬ ‫‪ - 4‬حماولة القيام بتقومي �سنني للأحداث الكربى يف تاريخنا واملعامل البارزة يف‬ ‫واقعنا املعي�ش‪.‬‬ ‫‪ -5‬القيام بدرا�سات علمية م�ستقبلية تعتمد على ما فقهناه من �سنن اهلل ‪-‬تعاىل‪-‬‬ ‫يف حركة الفرد واملجتمع‪.‬‬ ‫‪ -1‬للم�ؤلف حماولة متوا�ضعة يف هذا حيث �صدر له كتاب بعنوان‪ :‬هي هكذا "كيف نفهم الأ�شياء من حولنا"‪ .‬‬ ‫‪128‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 128‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫و�إذا ما فعلنا ذلك ف�سوف جند اخلال�ص من كثري من م�شكالتنا‪ ،‬كما �سنجد‬ ‫�ساحات ودروباً للحركة والعطاء‪.‬‬ ‫وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل‪.‬‬

‫‪129‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 129‬‬


�� ������ ���.indd 130

29/04/2010 11:09:15 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯟﯠ‬

‫خلق اهلل تعاىل اجلنة داراً لتكرمي �أوليائه‪ ،‬فوفَّر فيها كل �شروط التكرمي‪ ،‬وخلق النار‬ ‫داراً لإهانة �أعدائه‪ ،‬فوفَّر فيها كل �شروط الإهانة‪ ،‬وخلق الدنيا داراً البتالء الفريقني‪،‬‬ ‫فوفَّر فيها كل �شروط االبتالء‪� ،‬إن هذا الدين يع ِّلمنا �أن كل ما يحيط بنا يف دائرتي‬ ‫الزمان واملكان ميثل بالن�سبة �إلينا �ضرورة تتحدانا‪ ،‬وعلينا �أن نعيه‪ ،‬ونت�صرف معه‬ ‫الت�صرف الالئق بالإن�سان املك َّرم املبتلى‪.‬‬ ‫�إن كل حلظة متر على الإن�سان يف هذه احلياة هي حلظة اختبار‪ ،‬وهي يف الوقت ذاته‬ ‫�ضرورة تتحدى‪ ،‬وهي (كم) يتطلب منا تكييفاً منا�سباً‪ ،‬ف�إذا مل ن�ستطع تكييف تلك‬ ‫اللحظة م�ضت تاركة وراءها قيداً على حرياتنا ووجودنا! و�إن التكييف يف موازين‬ ‫هذا الدين ال�سمح قد ي�أخذ يف بع�ض الأحيان �صورة اعتبارية حم�ضة‪ ،‬كما هو ال�ش�أن‬ ‫مع الذي يبادر �إىل فرا�شه كيما يتمكن من ح�ضور �صالة الفجر مع اجلماعة؛ ف�إنه قد‬ ‫ك َّيف كل حلظه نوم مبا انطوت عليه �سريرته من ق�صد‪ ،‬وعلى هذا ف�إن البطالة والنوم‬ ‫ غري املكيف ‪� -‬ضربان من �ضروب العبودية املك َّبلة بالأغالل!‬‫‪131‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 131‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�إن كل ما حولنا من فكر ومادة و�ضرورات هي الأخرى تنادي الإن�سان املبتلى‬ ‫كي يتحرر من قيودها بتكييفها‪� .‬إن الفكرة ال�صحيحة تتحدانا كي نعممها‪ ،‬و�إن‬ ‫الفكرة اخلاطئة تتحدانا كي نفندها ونحجمها‪ ،‬و�إن الفكرة الغام�ضة تتحدانا؛ لننفذ‬ ‫�إىل جوهرها‪ ،‬كما �أن الفكرة القا�صرة تتحدانا لنطورها‪� ،‬إن الأر�ض تتحدانا لنزرعها‪،‬‬ ‫ف�إذا قب�ضنا على منتوجها حتدانا هو الآخر كي ن�ص ِّنعه على الوجه الأمثل‪� .‬إن نديف‬ ‫القطن يتحدى الن�ساجني‪ ،‬ف�إذا ما �صار قما�شاً دخل يف طور من التحدي جديد‪،‬‬ ‫فلئن كان الن�ساجون قد حترروا من قيود النديف فقد وقع اخلياطون يف �ضرورة الن�سيج‬ ‫�إىل �أن يحيلوه ثوباً جمي ًال‪ .‬ف�إذا ما عجزت �أمة عن �أن تخيط ن�سيجها بيديها‪� ،‬أو تزرع‬ ‫�أر�ضاً خ�صبة متلكها حت َّول ذاك وهذا �إىل قيود على حريتها ووجودها‪ ،‬و�إن من القيود ما‬ ‫يقتل‪ ،‬ومنها ما ي�شل‪ ،‬ومنها ما ي�ش ِّوه‪ ...‬ولي�س انتقال الإن�سان من �ضرورة �إىل �أخرى‬ ‫انتكا�ساً �أو زجاً له يف دائرة مغلقة ‪ -‬كما قد يتوهم ‪ -‬فنحن �إذ نرتدد بني م�شكالتنا‬ ‫وحلولها �إمنا من�ضي يف حركة لولبية �صاعدة متنحنا املزيد من احلرية والقدرة والت�أنق‪.‬‬ ‫�إن كل �سلعة م�ص َّنعة ن�ستوردها هي عبارة عن �ضرورة نطوق بها �أعناقنا‪ ،‬و�إن �أ�شد‬ ‫امل�ستوردات خطراً على حريتنا تلك التي تكون �أكرث �إلغاء للعمل عند م�ستوردها؛‬ ‫لأن العمل هو احلرية‪ ،‬والذي يلغيه يلغي احلرية؛ ذلك لأن ال�سلعة امل�ص َّنعة كانت‬ ‫من ُ‬ ‫قبل مادة غف ًال وكان يف �إمكاننا �أن منار�س حريتنا يف ت�صنيعها وحتويلها‪ ،‬وقد‬ ‫�صودرت هذه احلرية حني قام بت�شكيلها غرينا‪ ،‬وقد �أدركت الأمم املتقدمة هذه احلقيقة‬ ‫فت�سابقت �إىل ا�سترياد املواد اخلام‪ ،‬وو�ضعت القيود على ا�سترياد ال�سلع امل�صنعة؛‬ ‫فهي ال تبادل الدول الأخرى منها �إال ْقدراً ب ْقدر حتى متار�س حريتها كاملة؛ وترى‬ ‫ثمار ما عملته �أيديها‪..‬‬ ‫‪132‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 132‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�إن حرية الفرد يف املجتمع على قدر عمله‪ ،‬ف�إذا ما �أخذ من الآخرين �أكرث مما يعطيهم‬ ‫َفقَد من حريته على مقدار ما يزيد لهم عنده‪ .‬و�إن �أق�سى ما يواجهه احلر الكرمي �أن‬ ‫يرى نف�سه غارقاً يف عطاء الآخرين دون �أن يكون لديه ما يعطيهم؛ ل�شعوره ب�أن ذلك‬ ‫على ح�ساب حريته‪� ،‬أي‪ :‬على ح�ساب وجوده! �إن العمل هو طريق اخلال�ص‪ ،‬وهو‬ ‫طريق حتقيق الذات؛ ولكن هل كل حركة بركة‪ ،‬وهل كل عمل هو ك�سر للقيود‬ ‫و�إعتاق للرقاب ؟‬ ‫الريب �أن الأمر لي�س كذلك‪ ،‬فال�سكون يف �أيام الفنت ‪ -‬مث ًال ‪ -‬خري من احلركة‪،‬‬ ‫متعجلة ُق ِ�صد منها ك�سب احلرية �أدت �إىل الر�سف يف �أغالل العبودية‬ ‫ورب حركة ِّ‬ ‫�سنني طويلة‪ ،‬ذلك لأن العمل عبارة عن غزو ال�صورة للمادة‪ ،‬و�إذا ما ُ ِّ‬ ‫�شكلت ماد ٌة‬ ‫ما على �صورة خاطئة ف�إن هذا قد يعني احلرمان منها باعتبارها كماً‪ ،‬وباعتبارها كيفاً؛‬ ‫لأن �أ�شياء كثرية قد ال تقبل �أن تت�شكل �إال مرة واحدة! �إنه ال بد من توفر �شرطني‬ ‫�أ�سا�سيني يف العمل الكرمي‪ ،‬هما ال�صواب والإخال�ص‪� ،‬أي القوة والأمانة‪� ،‬أو القدرة‬ ‫والإرادة‪ ،‬و�إن كان بع�ض الأعمال يعتمد على �أحدهما �أكرث من اعتماده على الآخر؛‬ ‫ف�أعمال الآخرة تعتمد على الإخال�ص �أكرث من اعتمادها على ال�صواب‪ ،‬و�إن يكن‬ ‫ال�صواب �أ�سا�سياً‪ .‬و�أعمال الدنيا تعتمد على ال�صواب �أكرث من اعتمادها على‬ ‫الإخال�ص‪ ،‬فكلما كان الإخال�ص �أعظم كانت املثوبة �أكرب‪ ،‬وكلما كان ال�صواب‬ ‫�أكرب كان النجاح �أكرب‪ ،‬تلك هي �سنة اهلل‪ ،‬وتقا�س حيوية املجتمع بقدر ما ميور به‬ ‫من حركة الفكر واليد؛ وعلى هذا ال�صعيد فقد َّفجر الإ�سالم طاقات امل�سلم على‬ ‫م�ستوى القيم‪ ،‬وعلى م�ستوى الأداء ب�صورة َّقل نظريها يف التاريخ‪ ،‬ف�شيد امل�سلمون‬ ‫يف قرن من الزمان ح�ضارة زاهرة ظلت تعطي وتقاوم عوامل الفناء نحواً من ع�شرة‬ ‫‪133‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:15‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 133‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫قرون‪ ،‬ثم �صارت املجتمعات الإ�سالمية‪ ،‬من �أقل جمتمعات الأر�ض حراكاً وعطاء‪،‬‬ ‫فماال�سبب الذي �أف�ضى �إىل هذه احلالة املنكورة ؟‬ ‫يف مقاربة �أولية للوقوف على جواب هذا الت�سا�ؤل الكبري‪ ،‬ميكن �أن نقول �أو ًال‪� :‬إن‬ ‫ف�سر بعامل واحد؛ ولكن ب�إمكاننا‬ ‫ظاهر ًة كربى كظاهرة الركود احل�ضاري �أكرب من �أن ُت َّ‬ ‫�أن ن�سلط ال�ضوء على عامل نح�سب �أنه كان على جانب كبري من الت�أثري يف هذه‬ ‫الظاهرة‪ ،‬هذا العامل هو انخفا�ض م�ستوى الإميان باهلل ‪ -‬تعاىل ‪� -‬أو انخفا�ض جوهر‬ ‫ال�سلم‬ ‫ذلك الإميان‪� ،‬أعني (ال�صلة باهلل تعاىل)‪ .‬حقاً لقد ظلت قيمة الإميان يف �أعلى ُّ‬ ‫القيمي للم�سلمني‪ ،‬ولكن ذلك وحده غري ٍ‬ ‫كاف لإطالق الطاقات وتوجيهها نحو ب�ؤرة‬ ‫حمددة ما مل تتوفر �شروط مو�ضوعية يف الإميان نف�سه‪ ،‬ويف البيئة التي يعمل فيها‪.‬‬ ‫و�إمنا كان ذلك هو ال�سبب يف ت�صورنا‪ ،‬لأن العالقات تتمحور داخل بنية الثقافة‬ ‫الإ�سالمية حول ثالثة �أقطاب هي‪ :‬اهلل ‪� -‬سبحانه ‪ ،-‬الإن�سان‪ ،‬الطبيعة‪ ،‬و�إذا �أردنا‬ ‫تكثيف هذه العالقات حول قطبني اثنني لكانا‪ ( :‬اهلل ‪ /‬الإن�سان )‪.‬‬ ‫و�أما الطبيعة ف�إنها هام�شية ن�سبياً حيث �إن وظيفتها ترتكز يف كونها �إحدى‬ ‫الدالئل على وجود اهلل‪ ،‬وكونها جما ًال لالبتالء؛ فامل�سلم يكت�شفها ويعمرها امتثا ًال‬ ‫لأمر اهلل ـ تعاىل ـ وهذا على خالف ما هو م�ستقر يف العقل اليوناين الأوربي الذي‬ ‫تتمحور العالقات فيه على (الإن�سان والطبيعة)‪� .‬أما فكرة (الإله) فيه فهي عون‬ ‫على ك�شف الطبيعة‪� ،‬أي �إنها تقوم بالوظيفة نف�سها التي تقوم بها الطبيعة يف الثقافة‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬ومن هنا ف�إن تعامل امل�سلم مع الطبيعة لي�س مبا�شراً‪ ،‬ونظرته �إليها معيارية‬ ‫قيمية؛ فعلى مقدار ما يتوهج الإميان يف �صدره يكون تفاعله مع الطبيعة‪ ،‬ويكون عطا�ؤه‬ ‫احل�ضاري‪ ،‬ف�إذا ما خبا الإميان يف �صدره ‪ -‬ل�سبب من الأ�سباب ‪ -‬انحب�س جهده يف‬ ‫‪134‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 134‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫البناء احل�ضاري‪� ،‬أو فرت‪ ،‬ولي�س كذلك ال�ش�أن عند �أهل احل�ضارة املادية‪ .‬وال يكفي �أن‬ ‫يتوهج الإميان يف �صدور �أفراد قليلني يف املجتمع الإ�سالمي ال�ستئناف م�سرية احل�ضارة‬ ‫الإ�سالمية؛ لأن احل�ضارة ظاهرة اجتماعيه‪ ،‬ال ظاهرة فردية‪ ،‬ونلمح هذا املعنى �شائعاً‬ ‫يف اخلطاب القر�آين كله؛ فكثرياً ما تفتتح �آيات الأوامر والنواهي بـ ﱹ ﯓ ﯔ‬ ‫ﯕ ﱸ وكثرياً ما ُتخ َت َتم بـ ﱹ ﯳ ﯴ ﯵ ﱸ ﱹﮔ ﮕ ﱸ؛ تذكرياً ب�أن‬ ‫االميان املت�ألق هو الذي ُيطلق طاقات امل�سلم‪ ،‬ويف ِّعل القيم لديه‪ ،‬ومل ت�شذ الآية الكرمية‬ ‫التي نحن ب�صددها عن هذا الن�سق حيث يقول �سبحانه‪ :‬ﱹ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬ ‫ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﱸ‬

‫فقد ربطت العمل بر�ؤية اهلل ـ تعاىل ـ لهذا العمل وجمازاته عليه يف الآخرة‪.‬‬ ‫وقد �أدى ال�ضعف يف فاعلية امل�سلم وحركته اليومية �إىل وجود خلل كبري يف‬ ‫حياة امل�سلمني‪ ،‬ف�صارت بالدهم �أفقر بالد اهلل‪ ،‬كما �أن نظامهم الرمزي الذي كان‬ ‫يف يوم من الأيام �أغنى نظم العامل بالأبطال العظام �صار اليوم جمدباً على م�ستوى‬ ‫الكم والكيف! ومل يقت�صر الأمر على هذا‪ ،‬بل �إن الأزمة على �صعيد الفعل �أدت‬ ‫�إىل وجود �أزمة خطرية على �صعيد (الفكر)؛ ذلك لأن العقل عقالن على حد تعبري‬ ‫(الالند) عقل فاعل وعقل �سائد‪� .‬أما العقل الفاعل فهو الن�شاط الذهني الذي‬ ‫يقوم به الفكر حني البحث والدرا�سة‪ ،‬وهو الذي ي�صوغ املفاهيم ويقرر املبادئ‪ .‬و�أما‬ ‫العقل ال�سائد فهو جمموع القواعد واملبادئ التي ن�ستخدمها يف ا�ستدالالتنا؛ فلي�س‬ ‫العقل ال�سائد �شيئاً غري الثقافة‪ .‬والعقل الفاعل �أ�شبه �شيء بالرحى‪ ،‬والعقل ال�سائد‬ ‫�أ�شبه �شيء بالقمح ُيلقى فيها؛ وماذا ت�صنع رحى ال قمح فيها ؟! ومن �أين �ست�أتي‬ ‫الثقافة لأمة ال حترك يداً ؟ وال تبني منوذجاً �إال يف نطاق ال�ضرورات ؟ �إن كل انحبا�س‬ ‫‪135‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 135‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫يف حركة اليد �سي�ؤدي اىل انحبا�س يف حركة الفكر‪ ،‬وكل انخفا�ض يف وترية الإميان‬ ‫�سي�ؤدي ‪ -‬لدى امل�سلم ‪� -‬إىل انخفا�ض يف تردد اليد‪ .‬فهل كتبنا احلرف الأول يف‬ ‫�أبجدية البداية؟‬

‫‪136‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 136‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮧﮨﮩﮪ‬

‫طاملا وقفت خا�شعاً يف حمراب هذه الآية‪ ،‬وطاملا غمرين �ضيا�ؤها ب�أ�شعته الهادية‬ ‫حيث �أودع الرحمن ‪ ‬يف كلمات قليلة من املعاين الكرمية الفيا�ضة ما ميدنا باملفاهيم‬ ‫النرية كلما ات�سعت م�ساحات الوعي لدينا‪ ،‬وكلما تعاظم ر�صيدنا من التجارب‪.‬‬ ‫و�س�أقف مع القارئ الكرمي وقفات عدة يف �إ�شراقة هذه الآية لنغرف من معينها‬ ‫النمري‪:‬‬ ‫الوقفة الأوىل‪:‬‬ ‫متثل هذه الآية مظهراً من مظاهر رحمة اهلل ـ تعاىل ـ بعباده حني ر�ضي منهم‬ ‫�أن يطيعوه على قدر طوقهم وقدرتهم؛ وهذا الأمر �أحد �أهم الأ�س�س التي يقوم عليها‬ ‫الت�شريع الإ�سالمي‪ ،‬وهو يف الوقت ذاته �أحد دعائم خلود ال�شريعة الغراء؛ �إذ �إن تعاقب‬ ‫الأيام والليايل ي�أتي مبا ال ُيح�صى من الظروف والأحوال‪ ،‬وحينئذ ف�إن قدرات النا�س‬ ‫على القيام ب�أمر اهلل تتفاوت تفاوتاً كبرياً‪ ،‬خا�صة تلك الأحداث التي ال يجد املفتي‬ ‫‪137‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 137‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫حكماً تف�صيلياً يغطيها‪ ،‬وت�أتي هذه الآية لتمثل املنطلق الرحب والنامو�س الأعلى‬ ‫الذي يحكم فقه ال�ضرورات‪ ،‬وفقه ارتكاب �أخف ال�ضررين ودفع �شر ال�شَّ رين‪ ،‬و ُت�شعر‬ ‫امل�سلم الذي وقع يف ظروف حرجة �ضاغطة بالطم�أنينة من الوقوع‬ ‫هذه الآية الكرمية َ‬ ‫يف الإثم ما دام قد اتقى اهلل ما ا�ستطاع‪ ،‬كما �أنها ت�ستنه�ضه ملقاومة الظرف الطارئ‪،‬‬ ‫وبذل الو�سع يف االقرتاب من املركز �أكرث ف�أكرث‪،‬وهو �إذ يفعل كل ذلك ي�شعر برقيب‬ ‫ذاتي‪ ،‬منب ُع ُه خ�شية اهلل؛ �سبحانه وتعاىل‪.‬‬ ‫الوقفة الثانية‪:‬‬ ‫�إن دوائر اال�ستطاعة تت�سع على �صعيدي القيم والعمل كلما ا�ستطاعت الأمة �أن‬ ‫ترقى ُ�ص ُعداً يف �سلم احل�ضارة‪� .‬أما على �صعيد القيم ف�إن التقدم املادي والتقني يهيئ‬ ‫الظروف املنا�سبة لن�شر القيم وحملها‪ ،‬و�إذا �أخذنا قيمة (احلرية) باعتبارها واحدة من‬ ‫�أخطر القيم املتفق عليها ب�شكل عام لوجدنا �أن هذه القيمة لي�ست حالة يت�صف‬ ‫بها الفرد‪� ،‬أو دعوى يطلقها‪ ،‬و�إمنا هي عملي ُة موا َكبة للإمكانات التي يح�صل عليها؛‬ ‫ف�إذا ما امتلك الواحد منا ثروة كبرية من املفردات اللغوية وجد نف�سه حراً يف اختيار‬ ‫الألفاظ والأ�ساليب املتعددة التي ِّمتكنه من نقل املعلومة التي يريد �إي�صالها ملخاطبيه‬ ‫مهما تفاوتت م�ستوياتهم الثقافية‪ .‬ومن توفرت يف بالده فر�ص كبري للعمل ب�شروط‬ ‫مي�سرة وجد نف�سه قادراً على رف�ض ما ميكن �أن يتعر�ض له من ظلم �أو حيف من‬ ‫َّ‬ ‫يعده مهنة �شاقة �أو غري منا�سبة‪ ،‬وهو بذلك يجد �أمامه‬ ‫�أرباب العمل‪ ،‬وعلى رف�ض ما ُّ‬ ‫جماالت وا�سعة للحركة وقدراً �أكرب من اخليارات املريحة‪ ،‬وقد رَّعب العرب قدمياً عن‬ ‫هذه احلالة مبثل �شائع حني قالوا‪( :‬من �أخف�ض تخيرّ )‪.‬‬ ‫‪138‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 138‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫يف املقابل كيف ميكن ملن بحث عن فر�صة للعمل �سنوات عدة حتى عرث عليها‬ ‫�أن يت�صرف كما ت�صرف الأول‪ ،‬و�أن ي�شعر ب�أنه قادر على �أن يكون حراً ي�أبى الظلم‬ ‫ويعي�ش بعيداً عن الق�سر والقهر ؟‍‍‬ ‫و�أما على ال�صعيد العملي ف�إن كثرياً من املخرتعات �أعطت جوارح الإن�سان نوعاً‬ ‫من االمتداد يف �سلطانها وقدراتها؛ فالآلة مدت يف �سلطان اليد والطائرة يف �سلطان‬ ‫الرجل والهاتف يف �سلطان ال�سمع و(الرائي) يف �سلطان العني والأذن وهكذا‪..‬‬ ‫ويرتتب على ات�ساع دوائر اال�ستطاعة تعاظم امل�س�ؤولية ووجود �إمكانات جديدة‬ ‫للمزيد من التقوى‪ ،‬وبهذا االعتبار ف�إن العمل لتح�سني املناخ العام الذي يعي�ش فيه‬ ‫امل�سلم عبادة هلل ـ تعاىل ـ يه ِّيئ النا�س ملزيد من الطاعات والعبادات‪ ،‬و�إذا ما حدث‬ ‫خلل يف االرتباط بني اال�ستطاعة والتقوى‪ ،‬ف�إن ذلك يعني نوعاً من البغي املمقوت‬ ‫الذي يخل بالتوازنات العميقة للفرد‪ ،‬كما ي�ستنزل له املحن والعقوبات‪.‬‬ ‫وقد �أ�شار النبي × �إىل عقوبة �شيء من ذلك اخللل حني ذكر امللك الكذاب يف‬ ‫جملة من ال يكلمهم اهلل يوم القيامة وال يزكيهم‪ ،‬وال ينظر �إليهم‪� :‬إذ �إن ال�سلطان ذو‬ ‫قدرات كبرية ف�إذا مل يواكبها ال�صدق �أحدث من ال�ضرر ما ال تنفع معه رقابة الرقباء‪،‬‬ ‫ولذلك ا�ستحق العقوبة التي تتنا�سب مع فعله‪.‬‬ ‫الوقفة الثالثة‪:‬‬ ‫ولكل منا طموحاته و�أهدافه التي يرمي �إىل حتقيقها‬ ‫لكل منا طاقات حمدودة‪ٍ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يف هذه احلياة قبل �أن يرحل‪ ،‬وتنتهي الإمكانات والطموحات؛ ومهما كانت قدرات‬ ‫الإن�سان كبرية فهي حمدودة‪ ،‬ون�شاهد يف كثري من الأحيان �أن طموحاتنا �أكرب من‬ ‫‪139‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 139‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫طاقاتنا‪ ،‬وكثري م ِّنا ي�صابون حينذاك بالعجز والإحباط‪ ،‬وي�ؤدي بهم هذا �إىل البقاء يف‬ ‫�إجازة مفتوحة! وهذا مع علمنا �أن التكليف على قدر الو�سع‪ ،‬ولو �أننا با�شرنا ما هو‬ ‫ممكن اليوم ل�صار ما هو م�ستحيل اليوم ممكناً غداً‪ ،‬ولنو�ضح هذا مبثال �صغري‪ ،‬فلو �أننا‬ ‫عمدنا �إىل طفل يف اخلام�سة من عمره مل يدخل املدر�سة‪ ،‬وطلبنا منه كتابة ا�سمه‬ ‫لوجد �أن ذلك بالن�سبة �إليه م�ستحيل‪ ،‬ف�إذا ع َّلمناه كتابة حروف ا�سمه حرفاً حرفاً‪ ،‬ثم‬ ‫ع َّلمناه الو�صل بينها لوجد �أن ما كان م�ستحي ًال قبل �ساعة �صار الآن ممكناً وهكذا‪...‬‬ ‫ونحن يف كثري من الأحيان نطوف يف املجل�س الواحد يف �أنحاء العامل الإ�سالمي‬ ‫ينف�ض املجل�س عن نحو‬ ‫مت�أملني ملا يحدث للم�سلمني‪ ،‬و�شاكني من الت�آمر عليهم‪ ،‬ثم َّ‬ ‫ما انعقد عليه دون �أن ي�ستفيد م�سلم من �شيء مما قلناه‪ ،‬وذلك لأننا مل نبا�شر املمكن‪،‬‬ ‫و�إمنا �أذهبنا �أوقاتنا يف احلديث عن �أمور ال حول لنا‪ ،‬وال طول يف الت�أثري فيها‪ ،‬ولو �أننا‬ ‫حتدثنا مبا ُي�ص ِلح �أمراً من �أمور احلي �أو يف كيفية جعل فالن من النا�س يرتاد امل�سجد‬ ‫لكان ذلك �أنفع للم�سلمني‪ ،‬و�أبر�أ للذمة من �شيء م�شغولة به‪.‬‬ ‫الوقفة الرابعة‪:‬‬ ‫�إن النبي × تركنا على املحجة البي�ضاء‪ ،‬ووقع التكليف من اهلل ‪-‬تعايل‪ -‬باتباع‬ ‫ذلك املنهج والتزامه على قدر الو�سع والطاقة‪ ،‬وهذا التكليف �سنة اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬يف‬ ‫الأنبياء ‪-‬عليهم ال�سالم‪ -‬و�سنة �أممهم؛ فقد مكث نوح ‪-‬عليه ال�سالم‪ -‬يدعو قومه �ألف‬ ‫�سنة �إال خم�سني‪ ،‬وكانت ح�صيلته يف ذلك ما ذكره اهلل ـ تعاىل ـ بقوله ﱹﮇ ﮈ‬ ‫ﮉ ﮊ ﮋ ﱸ هود‪ 40:‬نعم �إنهم قليل حملتهم �سفينة واحدة‪ ،‬ومع ذلك ف�إن نوحاً‬ ‫ظل ر�سو ًال من �أويل العزم الأبرار‪ ،‬ذلك لأن املنزلة على مقدار اجلهد املوافق للمنهج‬ ‫‪140‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 140‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫املن َّزل‪ ،‬ولي�س على مقدار ما يتحقق من جناح وفالح‪ ،‬ولكن الذي يحدث يف بع�ض‬ ‫الأحيان �أننا ن�ضع �أهدافاً مع َّينة نريد الو�صول �إليها عاج ًال‪ ،‬ولو كانت هذه الأهداف‬ ‫ت�ستدعي ال�ضغط على املنهج �أو القفز عليه �أو االنحراف عنه‪ ،‬وحني يحدث ذلك‬ ‫تفقد الدعوة ان�سجامها الذاتي كما تهتز الفل�سفة النظرية التي ت�ستند �إليها؛ ورمبا �أدى‬ ‫ذلك �إىل ا�ستعمال و�سائل غري م�شروعة‪ ،‬وال يعني هذا �أن نعفي �أنف�سنا من عمليات‬ ‫املراجعة‪ ،‬بل يعني �أن املراجعة املطلوبة هي الت�أكد من موافقة �أ�ساليبنا وو�سائلنا‬ ‫للمنهج الرباين الذي تع َّبدنا اهلل تعاىل باتباعه واحلركة على هديه بالإ�ضافة �إىل‬ ‫مراجهة الفاعلية التي �صاحبت ا�ستخدام تلك الأ�ساليب والو�سائل‪.‬‬

‫‪141‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 141‬‬


�� ������ ���.indd 142

29/04/2010 11:09:16 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯼﯽﯾﯿﰀ‬

‫�سيظل للكلمة �أثرها الفعال يف تغيري �أفكار النا�س و�أمزجتهم وم�شاعرهم‬ ‫وواقعهم‪ ،‬وذلك �إذا ا�ستوفت �شروطاً معينة‪ .‬ولي�س �أدل على رفعة مكانة الكلمة يف‬ ‫حياة الب�شر من �أن الأنبياء‪ -‬عليهم ال�صالة وال�سالم ‪-‬كانوا يجيدون ا�ستخدامها يف‬ ‫التعبري عن احلقائق الرا�سخة‪ ،‬والربط بينها وبني واقع الب�شر ور�صيد الفطرة املتبقي‬ ‫�ضج قومه من ذلك‬ ‫لديهم‪ ،‬فهذا نوح ‪-‬عليه ال�سالم ‪ -‬يجادل قومه با�ستفا�ضة‪ ،‬حتى َّ‬ ‫حني قالوا‪ :‬ﱹﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﱸ هود‪ ،32:‬وهذا �إبراهيم ‪-‬‬ ‫عليه ال�سالم‪ُ -‬يك ِّرمه اهلل ـ تعاىل ـ فيهبه من قوة احلجة ما يفحم به قومه‪ :‬ﱹ ﭝ‬ ‫ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﱸ‬

‫الأنعام‪ .83 :‬وهذا مو�سى ‪-‬عليه ال�سالم‪ -‬يقول‪:‬ﱹﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ‬

‫ﯨﱸ طه‪ ،28 ،27 :‬ثم يطلب من اهلل ـ تعاىل ـ �أن يتف�ضل عليه ب�إ�شراك هارون معه يف‬ ‫التبليغ لف�صاحة ل�سانه حني يقول‪ :‬ﱹﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ‬ ‫ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﱸ الق�ص�ص‪ .34 :‬واهلل ـ تعاىل‪ -‬يقول خلامت‬ ‫‪143‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 143‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�أنبيائه‪ :‬ﱹ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﱸ الن�ساء‪ .63:‬وكل هذا قب�س مما‬ ‫ن�سبه الباري َّ‬ ‫جل وعال‪ -‬لنف�سه حني قال‪ :‬ﱹﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬‫ﮐ ﮑﱸ الأنعام‪ 149:‬وحجج النبيني وم�ضامني خطابهم للخلق‪-‬يف الأ�صول ‪-‬‬ ‫واحدة �أو تكاد‪ ،‬مما يجعل جذور الكلمة الطيبة �ضاربة يف �أعماق الزمن من لدن نوح‬ ‫عليه ال�سالم‪� -‬إىل خامتهم حممد ×‪ ،‬وهذا يجعل حركة التاريخ كلها يف �سياقٍ‬‫عام ٍ‬ ‫واحد‪ ،‬هو‪ :‬الت�أكيد على �أهمية الكلمة الطيبة يف �إنقاذ الب�شرية من ال�ضاللة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ن�ستخف بقيمة الكلمة‪ ،‬ومع �أهمية العمل �إال �أن لكل‬ ‫نحن يف كثري من الأحيان‬ ‫ُّ‬ ‫منهما جماله الذي ال ي�صلح فيه غريه‪ ،‬وفى تاريخنا الإ�سالمي �أمثلة كثرية جداً‬ ‫غيرَّ ت فيها الكلمة م�سار �شخ�ص �أو مدينة‪ ،‬بل قا َّرة‪ ،‬ومما يذكرونه يف هذا ال�صدد �أن‬ ‫حاجاً‪ ،‬فالتقى بالإمام مالك ابن �أن�س‬ ‫وفداً من بع�ض بالد �أفريقية قدم �إىل احلجاز ّ‬ ‫�صاحب املذهب؛ ف�أثنى مالك على وايل ذلك البلد خرياً‪ ،‬ومتنى لو ُ رزِقت املدينة‬ ‫مثله يف عدله و�صالحه‪ ،‬فبلغ ثنا�ؤه وايل ذلك البلد الإفريقي‪ ،‬ف�أمر بتدري�س كتب‬ ‫مالك يف بلده‪ ،‬و�أدى ذلك �إىل انت�شار املذهب املالكي يف �أرجاء �أفريقية!‪ .‬وما �أظن‬ ‫�أن ما حدث كان يخطر للإمام على بال! وقد ُتغني الكلمة الواحدة غناء جي�ش �أو‬ ‫جيو�ش‪ ،‬كما حدث يف غزوة الأحزاب حني �أ�سلم نعيم بن م�سعود‪ ،‬وا�ستخدم عدم‬ ‫علم امل�شركني بذلك يف تبديد الثقة بني قري�ش واليهود على ما هو م�شهور‪ .‬وقد‬ ‫�أدركت ال�شركات وامل�ؤ�س�سات التجارية قيمة الكلمة يف الت�أثري على امل�شرتي ودفعه‬ ‫�إىل �شراء ما ال يحتاج له‪ ،‬حتى قال �أحدهم‪ :‬لو كان ىل ع�شرة دوالرات لتاجرت‬ ‫ٍ‬ ‫بواحد و�أنفقت الت�سعة الباقية يف الدعاية ملا �أتجَّ ر به‪.‬‬ ‫و�إذا �أردت �أن َّ‬ ‫�شخ�ص ما‪ ،‬فيكفى �أن تقنعه‪� :‬أن عمله غري ذي فائدة‪.‬‬ ‫ت�شل فاعلية ٍ‬ ‫‪144‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 144‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫والآية التي نحن ب�صددها زاخرة باملعاين وال�صور التي جتعل الكلمة يف �أرقى‬ ‫حال جما ًال وكما ًال ونفعاً‪ .‬ولنقر�أ الآية وما تالها لنقتب�س �شيئاً من نورها‪ ،‬قال‬ ‫اهلل ‪ :‬ﱹ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ‬ ‫ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ‬

‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﱸ �إبراهيم‪ ،25-24 :‬لقد �ش َّبه الباري ‪-‬عز‬ ‫ا�سمه ‪ -‬الكلمة الطيبة ب�شجرة طيبة‪ ،‬وهذه ال�شجرة الطيبة تت�صف بثالث �صفات‬ ‫�أ�سا�سية‪ :‬ثبات �أ�صلها وعمق جذورها‪ ،‬ثم ذهاب فروعها و�أفنانها يف ال�سماء‪ ،‬ثم‬ ‫نفعها الدائم للخلق با�ستمرار �أكلها وثمارها‪ .‬وهذا تف�صيل للقول يف تنزيل هذه‬ ‫ال�صفات على الكلمة الطيبة‪:‬‬ ‫‪ - 1‬ثبات الأ�صول‪:‬‬ ‫حني نعرف �أن �أ�صول دعوات الأنبياء ‪-‬عليهم ال�سالم‪ -‬واحدة‪ ،‬تركزت يف‬ ‫الدعوة �إىل التوحيد اخلال�ص وعبادة اهلل تعاىل و�إقامة احلق والعدل يف الأر�ض‬ ‫و�إعمارها مبا ي�سمح ب�إقامة جمتمع التوحيد؛ ندرك �أي جذور �ضاربة متتلكها الكلمة‬ ‫الطيبة على ات�ساع �أمداء الزمان واملكان‪ ،‬وندرك �أي ر�صيد من املنطق العام الذي‬ ‫بناه الأنبياء ت�ستند �إليه‪ ،‬و�أي ر�صيد �ضخم من الفطرة ي�ؤازرها يف عملية البالغ‬ ‫املبني‪ ،‬وقد �أخرج البخاري عن �أبي هريرة ‪ -‬ر�ضي اهلل عنه‪ -‬قال‪ :‬قال ر�سول‬ ‫اهلل ×‪� (( :‬أنا �أوىل النا�س بعي�سى ابن مرمي يف الدنيا والآخرة‪ ،‬والأنبياء �إخوة‬ ‫لعلاّ ت‪� ،‬أمهاتهم �شتى ودينهم واحد ))‪ .‬قال ابن حجر‪ :‬ومعنى احلديث �أن �أ�صل‬

‫‪145‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:16‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 145‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫دينهم واحد‪ ،‬وهو التوحيد و�إن اختلفت فروع ال�شرائع(‪ ،)1‬فالكلمة الطيبة �إرث‬ ‫موروث مت�صل بالأنبياء ‪-‬عليهم ال�صالة وال�سالم‪ -‬ولكن امل�شكلة �أن التفريق بني‬ ‫الأ�صول والفروع قد ال يتهي�أ لكل النا�س مما يجعل اخللط بينهما وارداً‪ ،‬وحينئذ فقد‬ ‫يجمد ما ينبغي �أن يتطور‪ ،‬وقد يتطور ما ينبغي �أن يثبت‪ ،‬واليوم نتيجة لعلميات‬ ‫ال�ضغط الفكري التي متار�سها التيارات املادية‪ ،‬جند �أن كثرياً من الك َّتاب واملفكرين‬ ‫الذين لهم �صبغة �إ�سالمية بد�ؤوا يتزحزحون عن كثري من مواقعهم‪ ،‬م�صطحبني‬ ‫معهم �أفكاراً �أو �أحكاماً‪ ،‬عليها الإجماع‪� ،‬أو ال�سواد الأعظم من علماء امل�سلمني‪ ،‬بل‬ ‫بع�ض الأ�صول التي لي�ست مو�ضع نزاع‪ ،‬ويح�ضرين هنا ما كتبه �أحد الذين لهم‬ ‫نَفَ�س �إ�سالمي عن لقائه مع بع�ض الق ُ​ُ�س�س الذين يعي�شون يف �أحد بلدان العامل‬ ‫الإ�سالمي‪ ،‬حيث �أثنوا على كتاباته‪ ،‬و�س�ألوه عن الو�ضع الذي ينبغي �أن يكونوا‬ ‫عليه وهم يعي�شون بني امل�سلمني ؟ وقد �أجابهم بقوله‪� :‬أول ما نطلبه من الن�صراين‬ ‫الذي يعي�ش بيننا �أن يتم�سك بن�صرانيته…! وهذا املطلب عجيب غريب‪ ،‬وهو‬ ‫غني عن كل تعليق‪ .‬فهل ي�صح لهذا و �أ�ضرابه �أن يدعي �أنه يكمل مهمة نبيه ×‬ ‫يف تبليغ الر�سالة وهداية اخللق ؟!‪.‬‬ ‫وقريب من هذا الفتاوى التي �صفّق لها كثرياً الذين يف قلوبهم مر�ض‪ ،‬من‬ ‫�أمثال‪� :‬إباحة الربا الذي تتعامل به البنوك اليوم‪ ،‬ومن مثل‪ :‬القول بعدم وجود‬ ‫حد للردة يف ال�شريعة…‪ .‬الخ‪ .‬و�إذا ا�ستمر هذا النهج على ما هو عليه اليوم‬ ‫ف�سنجد �أنف�سنا �أمام دين يقبل كل �إ�ضافة‪ ،‬كما يقبل �أي حذف‪ ،‬وي�صبح قاب ًال‬ ‫للت�شكيل على ما ي�شتهي �أهل الأهواء وال�شهوات‪ ،‬لأنه �صار �شيئاً لي�س بذي طعم‬ ‫‪ -1‬فتح الباري ‪6/489‬‬ ‫‪146‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 146‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وال لون وال رائحة… ولكن ذلك لن يكون ‪-‬ب�إذن اهلل‪ -‬مادام هناك من ين�شط يف‬ ‫تو�ضيحه والذود عن حيا�ضه‪.‬‬ ‫‪ - 2‬مرونة الأ�ساليب وتنوعها‪:‬‬ ‫على مقدار ما تكون جذور الكلمة الطيبة و�أ�صولها را�سخة ثابتة تكون �أ�ساليبها‬ ‫مرنة نامية من َّوعة‪ ،‬وهذا يف حد ذاته �أحد مقت�ضيات ثبات الأ�صول؛ ف�أحوال الب�شر‬ ‫و�أفهامهم خمتلفة‪ ،‬ولذلك تعدد الأنبياء ‪-‬عليهم ال�صالة وال�سالم‪ -‬وتنوعت‬ ‫�شرائعهم‪ ،‬و�صدق اهلل العظيم �إذ يقول‪:‬ﱹﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ‬ ‫ﮝ ﮞﱸ �إبراهيم‪ ،14 :‬فالر�سول ُيك ِّلم النا�س بلغتهم التي يتكلمون بها على‬ ‫�أو�سع ما حتمله هذه الكلمة من دالالت‪ ،‬والهدف هو‪� :‬أن يبني لهم ما يدعو �إليه‪،‬‬ ‫وقد �أخذ الأ�سلوب القر�آين من العرب كل م� ٍ‬ ‫أخذ‪ ،‬وحتداهم‪ ،‬وطاولهم يف التحدي‪،‬‬ ‫و�أقام عليهم احلجج الدامغة التي تنا�سب �أو�ضاعهم الفكرية �آنذاك‪ .‬اللغة يف �أب�سط‬ ‫تعريفاتها هي‪ :‬جمموعة الإمكانات التعبريية ال�سائدة يف بيئة من البيئات‪ ،‬وهذه‬ ‫الإمكانات التعبريية تت�سع بات�ساع ح�ضارة الالغني بها‪ ،‬وات�ساع غنى اخللفيات‬ ‫الثقافية لديهم‪ ،‬وهذه الإمكانات دائمة التغري والت�شكل‪ ،‬ومتر بعني الأطوار التي‬ ‫مير بها الكائن احلى من الوالدة �إىل املوت وما بينهما من مراحل‪ ،‬ولغتنا الف�صحى‬ ‫تنمو �ضمن �أطر �صارمة‪ ،‬فالفاعل لن يتطور لي�صبح جمروراً‪ ،‬وامل�ضاف �إليه لن يتطور‬ ‫ليكون مرفوعاً‪ ،‬ولكن بني تلك الأطر م�ساحات وا�سعة �شا�سعة تتحرك فيها اللغة على‬ ‫م�ستوى الرتاكيب والدالالت والأ�صوات‪ ،‬وتلك احلركة ت�ساير وتناغم �شالالت‬ ‫ثقافة الأمة يف تنوعها ودرجة عنفها‪.‬‬ ‫‪147‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 147‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫لغة الع�صر‪:‬‬ ‫لنوع �أو لأنواع من العلم‬ ‫من �سمات حركة التاريخ �أن دور العبادة تظل كهوفاً ٍ‬ ‫مهما �ساءت �أحوال الأمة الثقافية‪ ،‬وعلى امتداد تاريخنا الإ�سالمي كان علماء ال�شرع‬ ‫ي�شِّ كلون ال�سواد الأعظم من الك ّتاب والباحثني واملفكرين‪ ،‬مما جعل اللغة التي يتكلم‬ ‫بها ال�صفوة من النا�س هي عني اللغة التي يتحدث بها الدعاة‪ ،‬لأنهم هم الذين‬ ‫َّ‬ ‫�شكلوها‪ ،‬وعلى �أل�سنتهم تطورت ومنت‪ ...‬ولكن الزمان قد اختلف‪ ،‬حيث �إن اللغة‬ ‫التي تتكلم بها النخبة اليوم تكونت من جهد ثقايف متنوع ف�أجهزة الإعالم واجلرائد‬ ‫واملجالت والق�ص�ص والروايات والكتب التي �صنفها باحثون تنوعت ثقافاتهم على‬ ‫م�ستوى امل�ضامني والأ�ساليب �أ�سهمت يف تلك اللغة‪ ،‬وبفعل و�سائل االت�صاالت‬ ‫احلديثة �صار العامل مبثابة قرية �صغرية تكثفت فيها الآراء واالجتاهات والثقافات‪...‬‬ ‫وقد �أ�صبح يف هذا ٍ‬ ‫حتد عظيم لكل من يريد خماطبة النا�س والت�أثري فيهم‪� ،‬إذ‬ ‫�إنَّ اخللفية الثقافية للمخاطبني �صارت �أكرث تعقيداً ب�سبب ثراء ال�ساحة الثقافية‬ ‫وتنوعها‪ ،‬مما �أ�سفر عن وجود حواجز كثرية‪ ،‬على الكلمة �أن تتجاوزها قبل اال�ستقرار‬ ‫يف الذهن �أو العاطفة‪ ،‬كما �صار التزام الدقة يف �أداء الكلمة �شرطاً �أ�سا�سياً للحيلولة‬ ‫دون وقوع الإ�ساءة يف فهمها‪،‬كما �صار اختيار العبارات املنا�سبة للحقيقة التي ُيراد‬ ‫�إي�صالها للمخاطب �أمراً �ضرورياً جداً‪ ،‬ف�إذا كانت احلقيقة التي نريد تو�صيلها �أدبية �أو‬ ‫ح�ضارية‪ ،‬ف�إن العبارة القادرة على اخرتاق احلجب هي التي حتمل يف تركيبها قابلية‬ ‫تعدد املعاين عند خمتلف الدار�سني‪ ،‬بحيث يكون لكل منهم فيها حظه من التف�سري‬ ‫و الت�أويل‪ ،‬ب�شرط �أن يكون ذلك �ضمن طاقة الرتكيب اللغوي الذي بني يديه‪� .‬أما‬ ‫احلقيقة العلمية و الكونية والعقدية و الفقهية‪ ،‬فينبغي �أن ت�صاغ بعبارة غاية يف الدقة‬ ‫‪148‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 148‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ال تدع جما ًال �إال ملعنى واحد‪ ،‬كما �أن ذلك املعنى ال يجد دقة �صياغته �إال يف تلك‬ ‫العبارة‪ ،‬ف�إذا مل يراع املتحدث �أو الكاتب هذا �أحدثت عباراته للنا�س فتناً‪ ،‬و�أوقعته‬ ‫يف الريبة مع �سالمة ق�صده‪ ،‬وفتحت عليه من نوافذ النقد ما ال ِقبل له به‪.‬‬ ‫من خ�صائ�ص لغة الع�صر‪:‬‬ ‫يتمخ�ض عن تالطم الأفكار والثقافات املختلفة قناعات ومفاهيم يف �أذهان ال�سواد‬ ‫الأعظم من النا�س‪ ،‬وهذه املفاهيم قد تكون �صحيحة‪ ،‬وقد ال تكون‪ ،‬لأنها ال ترتكز‬ ‫يف �أكرث الأمر على حقائق مو�ضوعية بقدر ما تنبع من قوة الف َّعاليات على ال�ساحات‬ ‫الثقافية والفكرية‪ ،‬وهذه القناعات ت�شكل مفردات الرتكيب الذهني لدى النا�س‪،‬‬ ‫مما يجعل امت�صا�صهم للمعلومات التي يطلعون عليها ذا �سمات خا�صة تن�سجم مع‬ ‫ذلك الرتكيب‪ ،‬وحينئذ ف�إن الداعية مطالب مبعرفة تلك القناعات واملفاهيم‪ ،‬كما �أنه‬ ‫مطالب بتح�س�س الرتكيب الذهني ال�سائد يف ع�صره حتى يخاطب النا�س بل�سانهم‪،‬‬ ‫ومن تلك ال�سمات‪:‬‬ ‫�أ‪ -‬اعتماد الإح�صاء عو�ضاً عن الفل�سفة‪:‬‬ ‫كانت الفل�سفة ت�سمى ملكة العلوم‪ ،‬وذلك ب�سبب ت�أثري منهج �أر�سطو يف منحنيات‬ ‫الفكر الب�شري وم�ساراته‪ ،‬وقد كان النا�س �إىل عهد قريب ي�سمون من �أوتي فيهم‬ ‫مقدرة خا�صة على التعبري بـ (الفيل�سوف)‪ ،‬بل �إن بلداً مثل بريطانيا مازال ي�ستخدم‬ ‫كلمة (فل�سفة) يف �شهادات التخ�ص�صات العليا لديه‪ .‬وقد ت�أثر الفكر الإ�سالمي قدمياً‬ ‫باملنطق الأر�سطالي�سي‪ ،‬وت�سربت مقوالته و�أقي�سته �إىل كثري من كتب الأ�صول والفقه‬ ‫والعربية‪ ،‬بل العقيدة‪ ،‬ذلك الفكر الذي ال يقيم للتجربة �أدنى وزن‪ ،‬ومن الطرائف‬ ‫املتناقلة يف هذا �أن �أر�سطو كان يزعم �أن �أ�سنان الرجل �أكرث من �أ�سنان املر�أة! ولو �أن‬ ‫‪149‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 149‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وعد �أ�سنانها لعرف �أن زعمه حديث خرافة‪ ..‬وقد �أدركت �أوربة‬ ‫زوجته فتحت فمها َّ‬ ‫يف �أوائل ع�صر نه�ضتها �أن ال نه�ضة وال تقدم قبل نبذ الفكر الأر�سطي القيا�سي‪ ،‬ثم‬ ‫االجتاه �إىل التجريب لتتويجه ملكاً على العلوم املادية‪ ،‬ومن ذلك اليوم بد�أت قناعات‬ ‫النا�س تنحو منحى لغة الرقم ال�ستفتائها والبناء عليها‪ ،‬وهذه نقطة �إيجابية �إذا �أح�س ّنا‬ ‫التعامل معها‪ ،‬ولكن كثريين م َّنا مازالوا غري واعني بهذه احلقيقة‪ ،‬مما يجعلهم ي�ستمرون‬ ‫يف �سوق احلجج العقلية مع توفر �أرقام واقعية تدعم قولهم‪ ،‬وت�ؤيده‪ ،‬وعلى �سبيل املثال‬ ‫حمددة على ما ميكن �أن ينتج من الأمن والرخاء‬ ‫ف�إن تقدمي مناذج واقعية ذات �أرقام َّ‬ ‫نتيجة تطبيق احلدود والنظام االقت�صادي الإ�سالمي �أجدى و�أجنع بكثري من �سرد‬ ‫جملدات من العلل واحلجج العقلية التي ت�شرح فوائد االلتزام بالإ�سالم‪� ،‬أو تلك‬ ‫التي تو�ضِّ ح �سلبيات الربا وتطبيق القوانني الو�ضعية‪.‬‬ ‫ومن املفيد هنا �أن نقول‪� :‬إن �أر�سطو �أن�ش�أ فن اجلدل لي�سد الثغرات التي يرتكها‬ ‫ن�شئت فل�سف ُة التاريخ فيما بعد لت�سد‬ ‫اال�ستقراء الناق�ص للأحداث والأفكار؛ كما �أُ ْ‬ ‫النق�ص يف التفا�صيل التاريخية‪� ،‬أما اليوم فقد �أ�ضحى الإح�صاء �أحد �أهم ال�سمات‬ ‫البارزة لع�صرنا‪ ،‬مما ي�س ِّهل ا�ستخدامه حتى نخفف من اجلدل واملماحكات اللفظية‬ ‫العقيمة‪.‬‬ ‫ب‪ -‬رف�ض التعميم‪:‬‬ ‫قد تعقدت احلياة‪ ،‬وكرثت التفا�صيل فيها �إىل درجة جعلت تعميم الأحكام‬ ‫يف �أكرث الأحيان �أمراً بعيداً عن احلقيقة؛ و�صار التعميم يف لغتنا �أحد �أهم الثغرات‬ ‫التي ينفذ منها اخل�صم لهدم ما نقوله‪ ،‬ومتييع الق�ضايا التي نعرِ�ضها‪ .‬على �أن التعميم‬ ‫مرفو�ض يف املنهج الإ�سالمي ب�صورة عامة‪ ،‬ومن ثم كرثت الآيات الكرميةالتي ترد فيها‬ ‫‪150‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 150‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫كلمة (�أكرث)‪ ،‬وكلمة (كثري) مبعنى �أكرث‪ ،‬كما �أن يف ال�سنة ما ين�سجم مع هذا من مثل‬ ‫قوله ×‪�( :‬إن �أعظم النا�س فرية ٌ‬ ‫لرجل هاجى رج ًال فهجا القبيلة ب�أ�سرها)(‪.)1‬‬ ‫واملحدثون الذين يت�سم عملهم بالدقة والإتقان كانت لهم تفريقات رائعة يف‬ ‫ِّ‬ ‫�أبواب نقد الرجال واحلكم على الأحاديث من مثل قول مالك ‪ -‬رحمه اهلل ‪�(:-‬إن‬ ‫من �شيوخي من �أتربك بدعائه‪ ،‬ولكن ال �أقبل روايته )‪ ،‬ومن مثل قولهم‪ :‬فالن‬ ‫�صدوق �إال �أنه غري �ضابط‪..‬‬ ‫فالتعبري بـ (االجتاه العام‪� ،‬أو االنطباع العام‪� ،‬أو الأقرب �أو الأكرث) هو الأدنى من‬ ‫احلق والأكرث ان�سجاماً مع لغة الع�صر‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬النفور من الوعظ املبا�شر‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫عكر الن�سيج الثقايف القائم اليوم الر�ؤي َة عند كثري من النا�س‪ ،‬كما �أف�سد الكثري من‬ ‫الفطر ال�سليمة‪ ،‬كما �أدى منو اخل�صائ�ص الفردية يف �صورة م َر�ضية يف بع�ض الأحيان‪،‬‬ ‫�إىل ت�ضخيم اخل�صو�صيات لتن�سحب على كثري من �ش�ؤون احلياة العامة التي هي‬ ‫�أقرب �إىل العموميات‪ ،‬وقد �أدى ذلك كله �إىل تكوين مزاج ال يرتاح للوعظ املبا�شر‪،‬‬ ‫و�صار ُينظر �إليه يف بع�ض الأحيان على �أنه خروج عن اللباقة والآداب االجتماعية‬ ‫املرعية‪� ،‬أ�ضف �إىل هذا �أن انخفا�ض نوعية بع�ض الدعاة ‪ -‬كما هو �ش�أن �أكرث الأمة‪-‬‬ ‫يف جانب االلتزام يجعل قبول النا�س للموعظة �أمراً غري �سهل‪ ،‬ومن ثم فالبد من‬ ‫االعتماد على الإيحاء والتلميح و�ضرب الأمثال وغريها �أ�سلوباً للخطاب و�إنِّ زكانة‬ ‫الداعية تفتح له يف كل يوم �آفاقاً جديدة يف هذا‪.‬‬ ‫‪� 1‬أخرجه ابن ماجه والبيهقي قال الهيثمي‪ :‬رجاله ثقات و�إ�سناده �صحيح ‪.‬‬ ‫‪151‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 151‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫د ‪ -‬االخت�صار‪:‬‬ ‫النا�س اليوم يف عجلة من �أمرهم؛ حيث �إن امل�ستوى املادي الذي يطمحون �إليه‬ ‫جعل الوقت ي�ضيق عن ال�شروح الطويلة وتكرار البدهيات وا�ستخدام املرتادفات‪ ،‬مما‬ ‫يقت�ضي الإيجاز ‪ -‬غري املخل ‪ -‬يف �إي�صال الأفكار واملعلومات �إليهم‪ ،‬و�صار الإطناب‬ ‫من ف�ضول القول‪.‬‬ ‫هـ ‪ -‬ال�ضيق باملبالغات‪:‬‬ ‫مرت على �أمتنا بع�ض الفرتات التاريخية التي �سادت فيها املح�سِّ نات البديعية‪،‬‬ ‫و�صار �إطالق الألقاب الفخمة يجري دون �أي اعتبار �أو حتاكم �إىل الواقع‪ ،‬ويقف املرء‬ ‫على هذا يف مقدمات بع�ض الكتب‪ ،‬وما ُيط َّرز به �أ�سماء م�ؤلفيها من ال�صفات التي‬ ‫تبتعد عن احلقيقة قلي ًال �أو كثرياً؛ لأنها ال ت�ستند �إىل قاعدة من املعلومات ال�صحيحة‬ ‫املجدد جمال الدين‪ ،‬فريد ع�صره‪ ،‬ووحيد دهره الذي‬ ‫كما يف قولهم‪ :‬البحر ال َع َلم ِّ‬ ‫مل تقع العني على مثله‪ ...‬وتطلق هذه الأو�صاف على ع�شرات من العلماء الذين‬ ‫يعي�شون يف ع�صر واحد‪� ،‬أو يف بلد واحد يف بع�ض الأحيان‪ .‬وكانت هذه الإطالقات‬ ‫جمافية ملا عرف عن �سلف هذه الأمة‪ ،‬بل ملا عرف عن منهجه × حيث �أثنى‬ ‫على كثري من �أ�صحابه‪ ،‬وو�صفهم ب�صفات حمددة‪ ،‬فواحد �أعلمهم بالقراءة‪ ،‬و�آخر‬ ‫بالق�ضاء‪ ،‬وثالث باحلالل واحلرام‪ ،‬وهكذا‪ ..‬ومل تقت�صر املبالغة على �إطالق الألقاب‪،‬‬ ‫بل جتاوزت ذلك �إىل �أن �أ�صبحت جزءاً من االعتبارات الذهنية والعلمية عند كثري‬ ‫من النا�س‪ ،‬وقد عاد الأمر �إىل ن�صابه يف لغة الع�صر‪ ،‬و�صارت املبالغة مملولة ممجوجة‪.‬‬ ‫و ‪ -‬التجديد‪:‬‬ ‫كان من خُ لق بني �إ�سرائيل �أنهم ال ي�صربون على طعام واحد‪ ،‬وقد ان�سحب هذا‬ ‫‪152‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 152‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫اخل ُلق اليوم على كثري من جوانب احلياة يف امل�سكن وترتيب �أثاثه‪ ،‬واملالب�س و�أ�شكال‬ ‫تف�صيلها‪ ،‬واملراكب و�أنواعها‪ ،‬و�ش�أن النا�س يف الق�ضايا املعنوية نح ٌو من هذا‪ ،‬فهم‬ ‫تواقون �إىل اجلديد من املعاين والأفكار والأ�ساليب‪ ،‬ولديهم �شعور بجمود وق�صور من‬ ‫ال يواكبهم يف ذلك‪ ...‬ولي�س يف التجديد ما ُي َذ ُّم �إذا َّمت مع املحافظة على الأ�صول‬ ‫والثوابت‪ ،‬بل قد ال تتم املحافظة على الأ�صول �إال من خالل التجديد يف الو�سائل‬ ‫والأ�ساليب‪ ،‬حيث ُتعر�ض ب�أ�شكال تن�سجم مع روح الع�صر‪.‬‬ ‫ز‪ -‬املعاجلة العملية‪:‬‬ ‫تقدم العلوم على ال�صعد العملية َّ‬ ‫ح�س النا�س ومنطقهم العام يف امليل‬ ‫ُّ‬ ‫�شكل َّ‬ ‫�إىل الواقعية واالرتياح �إىل ال�صيغ العملية‪ ،‬ونظام اخلطوات املتتابعة‪ ،‬التي ت�سلم كل‬ ‫واحدة منها �إىل الأخرى يف طريق الو�صول �إىل هدف �أو حل م�شكلة‪ ،‬و�صارت‬ ‫ملحة �إىل (كيف)‪ ،‬ومل يعد طرح املبادئ كافياً وحده‪ ،‬حيث مل يعد جمدياً‬ ‫احلاجة َّ‬ ‫الرتديد لنحو‪ :‬البد من رفع امل�ستوى اخللقي لدى الفرد‪� ،‬أو البد من ن�شر الدعوة‬ ‫بني النا�س‪ ،‬بل �أنت مطالب ب�أكرث من هذا‪ ،‬مطالب ببيان الإمكانات املتاحة‪ ،‬ثم بيان‬ ‫املنهج واخلطط والأدوات التي ميكن ا�ستخدامها يف اال�ستفادة من تلك الإمكانات؛‬ ‫وذلك لأن تعقد الأ�شياء وت�شابكها يحتاج �إىل نوع مكافئ من تعقد الفاعلية على‬ ‫م�ستوى اخلطط والأ�ساليب والأدوات‪.‬‬ ‫ح ‪-‬عدم قبول تف�سري الظواهر الإن�سانية بعامل واحد‪:‬‬ ‫الإن�سان ذو �أبعاد ف�سيحة و�أغوار عميقة‪ ،‬وكل الظواهر التي تت�صل به على درجة‬ ‫عالية من التعقيد على م�ستوى الأفكار واملبادئ واملواقف والعادات‪ ،‬يف االجتماع‬ ‫واالقت�صاد‪ ...‬كل �أولئك يت�شكل ويتبلور نتيجة ن�سيج معقد من العوامل‪ ،‬و�إذا كان‬ ‫‪153‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 153‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫هذا هو الواقع ف�إن تف�سري �أية ظاهرة �إن�سانية وتعليلها بعلة مفردة غري �صحيح وال دقيق؟‬ ‫ي�صح �أن يقال مث ًال‪� :‬إن ال�شعب الأفغاين �صمد يف وجه املحتلني ب�سبب �إميانه �أو‬ ‫فال ُّ‬ ‫ب�سبب �صعوبة ت�ضاري�س �أر�ضه من جبال وكهوف‪� ،‬أو ب�سبب ر�صيد الفطرة لديه‪� ،‬أو‬ ‫ب�سبب العون اخلارجي‪� ..‬إنه مل ينفرد �سبب واحد من هذه الأ�سباب بوالدة ظاهرة‬ ‫ال�صمود‪ ،‬بل �إنها جميعاً مع �أ�سباب �أخرى �أ�سهمت يف �إيجاد و�ضع متميز ي�ستمد‬ ‫متيزه من خ�صو�صية �شروطه و�أ�سبابه‪ ،‬وهكذا‪...‬‬ ‫كيف منتلك لغة الع�صر ؟‬ ‫يف العامل اليوم ما ي�سمى بثورة املعلومات‪ ،‬مما يفر�ض على املثقف امل�سلم �أن ير�سم‬ ‫لنف�سه خطة تثقيفية خا�صة تنا�سب رغباته واخت�صا�صه العلمي‪ ،‬واملهمة التي ندب‬ ‫نف�سه �إليها‪ .‬وامل�شكلة الكربى تكمن يف عزوف كثري من النا�س عن القراءة ف�أمة‬ ‫(اقر�أ) مل تعد تقر�أ‪ ،‬مما �أوجد نوعاً من اخللخلة الثقافية يف �ساحتنا الفكرية‪ ،‬وجعل‬ ‫كثرياً من �أهل اخلري عاجزين عن فهم لغة الع�صر‪ ،‬و�إذا عزم املرء على القراءة فالبد‬ ‫له من القراءة الوا�سعة يف �شتى �أنواع العلوم‪ ،‬وعليه �أن يقر�أ لكل املدار�س حتى ال‬ ‫يقع فري�سة لالنغالق الفكري �أو �ضحية للأفكار الفقرية التي تظهر يف �أ�ساليب �شتى‪،‬‬ ‫والبد ملن يريد �أن ي�سري يف طريق االنفتاح الثقايف من ثقافة �شرعية �أ�سا�سية يتمكن‬ ‫بها من حتديد الثوابت‪ ،‬والتي من �أكرب ف�ضائلها دوا ُمها وا�ستقرارها‪ -‬حتى ال ينجرف‬ ‫مع نتاج املدار�س والتيارات التي يقر�أ لها‪ ،‬كما البد له من حماولة امتالك منهج يف‬ ‫التفكري ي�ستند �إىل وعي �صحيح ب�أحداث املا�ضي‪ ،‬ووعي جيد بظروف احلا�ضر‪ ،‬حتى‬ ‫يتمكن من امتالك ر�ؤية وا�ضحة لكيفية عمل �سنن اهلل يف الأنف�س والآفاق‪� .‬إن الذي‬ ‫ميلك �شذرات من املعلومات كمن ميلك ِقطعاً من الذهب‪� ،‬أما الذي ميلك منهجاً‬ ‫‪154‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 154‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ذا مناذج خا�صة‪ ،‬ف�إنه ميتلك مفتاح منجم من الذهب‪ ،‬ف�إذا ح�صل على هذا وذاك‬ ‫ف�إن االنفتاح يف االطالع يكون خرياً كله‪ ،‬وحينئذ يتجاوز الداعية مرحلة ال�سيطرة‬ ‫على اللغة لي�صبح من مطوريها‪ ،‬لكن البد قبل االنهماك يف القراءة من اختيار ما‬ ‫يقدرون م�س�ؤولية الكلمة‪ ،‬والذين ال يدفعون‬ ‫نقر�أ‪ ،‬فلنقر�أ للعباقرة‪ ،‬ولأولئك الذين ِّ‬ ‫بكتابهم �إىل املطبعة �إال بعد االعتقاد ب�أنه ي�شكل �إ�ضافة جديدة للفكر الإن�ساين‪.‬‬ ‫‪ - 3‬دوام نفعها‪:‬‬ ‫�إن ال�شجرة الطيبة التي �ضربها اهلل ـ تعاىل ـ مث ًال للكلمة الطيبة دائمة الثمار‪،‬‬ ‫ودميومة عطائها نابعة من تنا�سق ال�صفتني ال�سابقتني‪ :‬ثبات اجلذور‪ ،‬وب�سوق فروعها‬ ‫يف جو ال�سماء‪ ،‬والكلمة التي ال جذور لها ال ت�ستطيع �أن ت�صنع �شيئاً‪ ،‬والأفكار التي‬ ‫تبثها تكون ق�صرية العمر كزهور الربيع؛ والكلمة التي ال تن�سجم مع لغة الع�صر ال‬ ‫ت�ستطيع مالم�سة �أعماق الإن�سان الذي تقرع �سمعه‪ ،‬والذي و�صفناه ب�أنه بالغ التعقيد‪.‬‬ ‫املقيا�س الذي نتعرف به على الكلمة الطيبة‪ ،‬وهذا‬ ‫وقد م َّلكتنا هذه الآيات الكرمية‬ ‫َ‬ ‫املقيا�س هو‪ :‬ﱹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﱸ‪ ،‬فنحن �إذا �أردنا من هذا املنظور‬ ‫�أن نقي�س �أداء خطب اجلمعة يف عاملنا الإ�سالمي و�آثارها يف ترقية فهم النا�س للإ�سالم‬ ‫والتزامهم به وجدنا �أن �أطناناً من الورق تكتب �أ�سبوعياً دون �أن ت�ؤتي الثمار التي‬ ‫تتنا�سب مع حجم ذلك اجلهد املبذول‪ ،‬وذلك ب�سبب الق�صور يف الأ�سلوب‪.‬‬ ‫�إن من مهمات املثقَّف امل�سلم �أن يعي�ش ع�صره‪ ،‬ويكون م�ؤثراً ال مت�أثراً‪ ،‬و�أن‬ ‫يكون له دور يف �صياغة لغة الع�صر‪.‬‬

‫‪155‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 155‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪156‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 156‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯡﯢﯣ‬ ‫هذه �آية جليلة ال�ش�أن يف الكتاب العزيز �سرت م�سرى املثل‪ ،‬وذاعت على الأل�سنة‬ ‫والأقالم؛ لأنها تعني وجوب اال�ستفادة من تراكم اخلربات الب�شرية‪ ،‬و�أخذ العظة والعربة‬ ‫من �أحوال الأمم ال�سابقة‪ ،‬واملعا�صرة توفرياً للجهد‪ ،‬واخت�صاراً للطريق‪ ،‬وفراراً من عذاب‬ ‫ق�ص اهلل ـ تعاىل ـ علينا يف �سورة احل�شر ق�صة جالء بني الن�ضري من‬ ‫اهلل؛ تعاىل‪ ...‬وقد َّ‬ ‫املدينة �إىل خيرب وال�شام مبيناً وقوع ما لي�س يف احل�سبان‪ ،‬فقال تباركت �أ�سما�ؤه‪:‬ﱹ ﮘ‬ ‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ‬

‫ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ‬

‫ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﱸ احل�شر‪.2 :‬‬ ‫قد كان خروج بني الن�ضري يف تلك ال�صورة املهينة الذليلة حدثاً بعيداً عن‬ ‫�أذهانهم و�أذهان امل�سلمني لأن الأ�سباب املادية التي �أخذ بها القوم كانت على درجة‬ ‫من الإتقان والإحكام حتول دون ت�صور ما وقع‪..‬‬ ‫ولكن العزيز اجلبار الذي ال را َّد لأمره‪ ،‬وال معقِّب حلكمه �أتاهم من حيث مل‬ ‫‪157‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 157‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫يحت�سبوا‪� :‬أتاهم من الداخل‪ ،‬ف�ألقى يف قلوبهم الرعب‪ ،‬فخارت عزائمهم‪ ،‬و�أدركوا‬ ‫�أنَّ ق َّوتهم ما عادت تغني عنهم �شيئاً‪ ،‬وما �أ�شبه الليلة بالبارحة!فهذه هي النظرية‬ ‫ال�شيوعية تنهار اليوم يف �أ�سرع مما كان يدور يف خلد الب�شر‪ ،‬وهذه هي مئات الألوف‬ ‫من الكتب واملجلدات التي ُ�س ِّطرت يف فل�سفة النظرية وترويجها وتكييف الب�شر معها‬ ‫تغدو رماداً ت�سفوه رياح التغيري العاتية يف وجوه ال�سدنة والكهنة‪ ..‬قد كان �سقوط‬ ‫النظرية ال�شيوعية �أمراً ال مفر منه‪ ،‬ولكن املذهل هو انهيار البناء الذي �أنفق فيه‬ ‫ثالثة �أرباع القرن من الزمن مع �إزهاق ماليني الأنف�س‪ ،‬وما ال يح�صى من الآالم‬ ‫والعذابات و�صنوف املعاناة الإن�سانية يف �أ�سرع من ملح الب�صر!‬ ‫قد كانت �أفكار (كارل مارك�س) رد فعل حلرمان طويل ومعاناة �شخ�صية قا�سية‪،‬‬ ‫والنامو�س العام لردود الأفعال البعد عن املو�ضوعية وفقدان االتزان‪ ،‬وقد قبل �أفكار‬ ‫(كارل مارك�س) يف البداية �صنفان من الب�شر‪� :‬صنف طحنه الظلم واحلرمان‪ ،‬وتق َّلب‬ ‫دهراً يف التعا�سة‪ ،‬وطرق كل باب للخروج من نفق الظلمات الذي ولد فيه ف�إذا‬ ‫فهب �إىل‬ ‫بنظرية تعده بج َّنة على الأر�ض ُتن�سيه طعم كل ما م�ضى من العناء والبالء‪َّ ،‬‬ ‫اعتناقها والرتويج لها على �أنها احلل الأخري واملخرج الوحيد‪ ،‬وال�صنف الآخر ‪ -‬وهم‬ ‫الكرثة من الأ�شياع ‪ -‬وجد يف ال�سلطات املطلقة التي تركزها النظرية يف قب�ضة احلزب‬ ‫ال�شيوعي والدولة املارك�سية ما يلبي من خالله كل طموحاته ال�شخ�صية من اجلاه‬ ‫واملال والت�سلط‪ ،‬وما يتفرع عن ذلك من �شهوات‬ ‫وملذات وم�صالح‪ ..‬ومل مي�ض وقت طويل حتى �أدرك الذين كانوا يحلمون‬ ‫بالفردو�س �أن ا ُخلرب غري ا َخلرب و�أن املح�صول غري امل�أمول‪ ..‬ولكن �إدراك ال�شعوب كثرياً‬ ‫ما ي�أتي مت�أخراً بعد فوات الأوان‪ ..‬فقد ركزت احلكومات البل�شفية املتعاقبة على �صناعة‬ ‫‪158‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 158‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ال�سالح دون باقي ال�صناعات حتى تتمكن من ك�سر �شوكة �أي معار�ضة حمتملة للثورة‬ ‫على حني �أنها مل توفر ل�شعوبها �أحذية جيدة تنتعلها‪ ..‬وجمعت �إىل ذلك جتنيد ع�شرات‬ ‫الألوف من املخربين ال�سريني الذين يح�صون �أنفا�س ال�شعوب وي َّعدون نب�ضات قلوبهم‪،‬‬ ‫وجل�أت ال�شعوب �إىل �سالحها املا�ضي وحيلتها الأخرية‪ ،‬ف�شرعت يف املقاومة ال�سلبية‪،‬‬ ‫و�أدارت ظهرها خلطط التنمية املتعاقبة التي كانت ت�ضعها احلكومات ال�شيوعية‪ .‬ومن‬ ‫البدهي �أن احلكومة تخطط‪ ،‬و�أن ال�شعب ينفِّذ ف�إذا مل ينفِّذ ال�شعب كانت اخلطط حرباً‬ ‫على ورق �أو �صرخة يف واد‪ ،‬وهذا ما جرى‪ ،‬فكان كل عام مير يعنى مزيداً من الفروق‬ ‫املعي�شية واحل�ضارية بني �أتباع ال�شيوعية و�أتباع الر�أ�سمالية‪ ،‬وحني انهار جدار (برلني)‬ ‫�أدرك الأملان ال�شرقيون ‪ -‬الذين كانوا ُيد ُّلون ب�أنف�سهم على �أ�شياعهم من �أبناء �أوربا‬ ‫ال�شرقية‪ -‬الفجوة ال�ضخمة التي تف�صلهم عن الأملان الغربيني‪ ،‬فالدخل عند الغربيني‬ ‫ع�شرة �أ�ضعاف الدخل عند ال�شرقيني‪ ،‬والهواتف ع�شرة �أ�ضعاف و�أعداد ال�سيارات‬ ‫م�ضاعفة‪ ،‬وهكذا �أ�شياء كثرية على هذه الالزمة‪..‬‬ ‫وفى اعتقادي �أن الأحزاب ال�شيوعية انهارت بهذه ال�صورة؛ لأنها عجزت عن بناء‬ ‫ح�ضارة منا�سبة للع�صر‪ُ ،‬تغني �شعوبها عن تكفف الآخرين‪ ،‬وتوجِ د الثقة بالأ�س�س‬ ‫النظرية التي قامت عليها‪ ،‬و�أ�سباب �أخرى من هذا القبيل‪ ،‬ال نق�صد هنا �إىل تعدادها‪.‬‬ ‫هل من معترب ؟‬ ‫كانت الأحزاب ال�شيوعية واحلكومات التابعة لها بحاجة �إىل نوعني من املراجعة‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬مراجعة �أ�صول النظرية وقواعدها الأ�سا�سية والتي �أثبتت ال�سنني �أنها‬ ‫خيالية ومتناق�ضة‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬قيا�س �أداء النظرية من خالل الواقع الذي �أفرزته التجربة الطويلة‪ ،‬ملعرفة‬ ‫‪159‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:17‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 159‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫مكامن اخللل وموا�ضع الداء يف النظرية والتطبيق‪ .‬ومع �أن (برجنيف) كان يقول‪:‬‬ ‫�إذا مل ن�ستطع ك�شف الأخطاء َق َتلتنا‪ ،‬ف�إن �سدنة الأحزاب ال�شيوعية بدءاً بقائل‬ ‫هذه احلكمة مل ي�ستطيعوا الك�شف عن �أي خط�أ ذي �ش�أن ف�ض ًال عن القدرة على‬ ‫�إ�صالحه‪ .‬وكان ال�شغل ال�شاغل هو التربير والدفاع‪ ،‬والثناء باجلملة على الو�ضع‬ ‫القائم‪ ،‬وفى عاملنا الإ�سالمي اليوم الكثري الكثري من الأخطاء و�أ�صناف الق�صور على‬ ‫امل�ستويات كافة‪ ،‬ووجود الأخطاء �أمر طبيعي؛ ذلك لأن حركة الزمن تدع الكثري‬ ‫من اجلديد بالياً‪ ،‬وتوجِ ب ا�ستمرار االجتهاد والتكييف بني املبد�أ وامل�صلحة‪ ،‬وبني‬ ‫الو�سائل والغايات‪ ،‬وبني الأ�ساليب والأهداف‪ ،‬وخالل عمليات التكييف هذه‬ ‫حت�صل مفارقات تحُ �سب للأمة تارة‪ ،‬وعليها تارة �أخر ى‪.‬‬ ‫والأمة احلية اليقظة ال تكف �أبداً عن عمليات املراجعة وقيا�س �أداء املناهج‬ ‫والأ�ساليب والأ�صول‪ ،‬كما ال متل من بحث امل ِّعوقات وطرح احللول لها‪ ،‬و�إذا كان‬ ‫الآخرون يحتاجون �إىل نوعني من املراجعة ف�إننا بحمد اهلل ن�سري يف طريق الحبة‬ ‫ر�سمها الأ�صفياء الأولون من ر�سل اهلل و�أوليائه‪ ،‬ومن ثم ف�إننا يف حاجة �إىل نوع‬ ‫واحد منها‪ ،‬وهو الت�أكد من موافقة خطانا لروح ال�شريعة الغراء ون�صو�صها ومدى‬ ‫توافر ال�شروط النف�سية واالجتماعية التي يجب توافرها يف حياة خري �أمة �أخرجت‬ ‫للنا�س‪.‬‬ ‫وتت�شخ�ص هذه املراجعة يف املفردات التالية‪:‬‬ ‫‪ - 1‬امتالك ال�شجاعة الكافية لالعرتاف بالأخطاء‪ ،‬و�أنواع التق�صري يف م�سريتنا‬ ‫احلياتية‪.‬‬ ‫‪ - 2‬التفريق الدقيق بني الأمرا�ض‪ ،‬و�أعرا�ضها حتى ال نعالج مظاهر املر�ض‬ ‫‪160‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 160‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫و�أعرا�ضه‪ ،‬ونرتك حقيقته‪ ،‬فيكون العالج م�ؤقتاً‪.‬‬ ‫‪ -3‬البحث يف البنى التحتية لتلك الأخطاء للوقوف على عللها الأوىل و�أ�سبابها‬ ‫احلقيقية اهتداء بقوله تعاىل‪ :‬ﱹ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﱸ‬ ‫العنكبوت‪.20 :‬‬ ‫‪ -4‬التغيري يف براجمنا و�أ�ساليبنا مبا يتنا�سب مع نتائج تلك املراجعات‪.‬‬ ‫‪ -5‬و�ضع ِ �ص َمام الأمان الذي يحول دون تكرار الوقوع يف تلك الأخطاء‪.‬‬ ‫‪ -6‬غر�س روح حتمل امل�س�ؤولية يف �أفراد الأمة والرتبية على ال�شجاعة الأدبية‬ ‫الباعثة على حما�صرة اخلط�أ والنقد الب َّناء‪ ،‬وتنمية روح املبادرة الفردية لديهم‪.‬‬ ‫�إذا فعلنا هذا ف�إنا نكون قد �ضم ّنا ا�ستمرار الثقة ب�أ�صولنا االعتقادية والفكرية‪،‬‬ ‫و�أوينا �إىل ركن �شديد يع�صمنا من الأعا�صري العاتية واالنهيارات املدمرة‪.‬‬ ‫ولي�س هذا بعزيز‪ ،‬على وارثة تراث الأنبياء واملك َّلفة بتبليغ كلمة ال�سماءالأخرية‪.‬‬ ‫وهلل الأمر من قبل ومن بعد‪.‬‬

‫‪161‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 161‬‬


�� ������ ���.indd 162

29/04/2010 11:09:18 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﭼﭽﭾﭿ‬ ‫ﮀﮁ‬ ‫ِّ‬ ‫ي�شكل انهيار العالقات االجتماعية واحدة من �أهم امل�شكالت التي تعانى منها‬ ‫وح ِّكمت امل�صالح اخلا�صة يف‬ ‫املجتمعات احلديثة حيث منا ال�شعور بالفردية والتوحد‪ُ ،‬‬ ‫كثري من �شئون احلياة‪ ،‬وقد �أ�صاب �أم َة الإ�سالم �شيء من ذلك‪ ،‬فا�ضمحلت �ضوابط‬ ‫الرتبية االجتماعية التي ت�شكل احل�س اجلماعي لدى الفرد امل�سلم مما �أ�شاع الفو�ضى‬ ‫الفكرية واالجتماعية‪ ،‬وت�ضخمت م�شكالت امل�سلمني االقت�صادية‪ ،‬لأن عمليات‬ ‫التنمية ال تتم على ما ينبغي يف جمتمع واهي الروابط خمتلف الأفكار واملفاهيم‪.‬‬ ‫من هنا �شددت تعاليم الإ�سالم على �ضرورة املحافظة على العالقات االجتماعية‬ ‫و�إقامتها با�ستمرار على هدي الر�سالة اخلامتة التي ُت َع ُّد ا�ستمراراً لدعوات الأنبياء؛‬ ‫ق�ص اهلل تعاىل علينا �أخبار الأمم‬ ‫عليهم ال�صالة وال�سالم‪ ،‬وحتقيقاً لذلك التوا�صل َّ‬ ‫ال�سابقة والعواقب الوخيمة التي انتهوا �إليها حني �شاعت فيهم االنحرافات واملخالفات‬ ‫دون �أن يرفع �أحد منهم ر�أ�ساً‪� ،‬أو يقول كلمة لأولئك الذين ي�ستعجلون �أيام اهلل‬ ‫لأنف�سهم و�أممهم فقال تعاىل‪:‬ﱹ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ‬ ‫‪163‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 163‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬ ‫ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ‬

‫ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﱸ املائدة‪.79-78 :‬‬ ‫فقد �أجرم القوم مرتني‪ :‬مرة حني وقعوا يف الآثام‪ ،‬و�أخرى حني تركوا املعا�صي‬ ‫ت�شيع فيهم دون �أن تتحرك فيهم روح التناهي عنها‪ ،‬وقد جاء يف احلديث ما يف�سر‬ ‫تدرجهم نحو احلال التي ا�ستوجبت لهم اللعن‪ ،‬فقد روى ابن م�سعود عن ر�سول اهلل‬ ‫× �أنه قال‪� ( :‬إن �أول ما دخل النق�ص على بني �إ�سرائيل �أنه كان الرجل يلقى الرجل‬ ‫فيقول‪ :‬يا هذا اتق اهلل ودع ما ت�صنع؛ ف�إنه ال يحل لك‪ ،‬ثم يلقاه من الغد وهو على‬ ‫حاله‪ ،‬فال مينعه ذلك �أن يكون �أكيله و�شريبه وقعيده‪ ،‬فلما فعلوا ذلك �ضرب اهلل قلوب‬ ‫بع�ضهم ببع�ض ثم قال‪ :‬ﱹ ﭩ ﭪ ﭫﱸ (‪ ،)1‬قد طال العهد ب�صاحلي بني‬ ‫�إ�سرائيل‪ ،‬فبد�أت املناكر تزحف �إىل حياتهم عن طريق �أهل الأهواء وال�شهوات‪ ،‬وكان‬ ‫فيهم �صاحلون‪ ،‬فقاموا ونهوا �أ�صحاب املعا�صي ووعظوهم‪ ،‬ولكن ه�ؤالء ت�أ�صل فيهم‬ ‫املنكر‪ ،‬و�صار النزوع عنه �أمراً ع�سرياً‪ ،‬وكان الأمر يتطلب من �صاحليهم َج َلداً و�صرباً‬ ‫ومفا�صلة �إال �أن درجة التوتر احليوي عند �أولئك ال�صاحلني مل تكن كافية بحيث‬ ‫ي�شعرون بالتميز وي�شكلون تياراً نَ�شِ طاً يحا�صر �أولئك الع�صاة‪ ،‬و ُي ْ�شعرهم بال�شذوذ و‬ ‫الوقوع يف الإثم‪...‬وكانت املرحلة التالية �سيطرة �شعور العجز وال�ضعف على �أولئك‬ ‫ال�صاحلني مما جعلهم يخالطون �أهل املعا�صي‪ ،‬وير�ضون عن �أعمالهم‪� ،‬أو يظهر للناظر‬ ‫�أنهم كذلك‪ ،‬ف�ضاعت معامل احلق‪ ،‬وجاءت �أجيال تالية‪ ،‬فن�ش�أت يف االنحراف‪،‬‬ ‫و�شبت فيه‪ ،‬و�صار التفريق بني املعروف واملنكر �أمراً غري متي�سر لكل النا�س‪.‬‬ ‫وح�سنه ‪.‬‬ ‫‪�-1‬أخرجه الرتمذي َّ‬ ‫‪164‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 164‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫بع�ضها ببع�ض‪ ،‬وهذه العبارة يف احلديث‬ ‫وكانت العاقبة �أن �ضرب اهلل قلوبهم َ‬ ‫النبوي ترمز �إىل حالة من الفو�ضى امل�صحوبة بالعذاب حيث فقدت جتمعاتهم‬ ‫ال�شروط ال�ضرورية لبقائهم وا�ستمرارهم املادي واملعنوي‪ ،‬فكانت �أيام اهلل يف خامتة‬ ‫املطاف جزاء ما فعلوا‪.‬‬ ‫�إن كل جمتمع مهما بلغ من الف�ضل والرقي ال ي�ستغنى عن �شريحة تتمثل‬ ‫فيها املثل العليا لذلك املجتمع‪ ،‬حتفظ عليه وجوده املعنوي املتمثل يف عقيدته‬ ‫و�أخالقه و�ضوابط عالقاته‪ ،‬وه�ؤالء ميثلون اخلريية يف ذلك املجتمع كما قال عليه‬ ‫ال�صالة وال�سالم‪» :‬ما من نبي بعثه اهلل يف �أمة قبلي �إال كان له يف �أمته حواريون‬ ‫و�أ�صحاب ي�أخذون ُب�س َّنته ويقتدون ب�أمره‪ ،‬ثم �إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون‬ ‫ماال يفعلون‪� ،)1( «...‬إن ه�ؤالء الآمرين باملعروف الناهني عن املنكر ميلكون من التوهج‬ ‫هم َهم الأكرب‪ ،‬في�سعد بهم‬ ‫هم جمتمعهم َّ‬ ‫يف �أرواحهم واحليوية يف نفو�سهم ما يجعل َّ‬ ‫ذلك املجتمع �إذ يحفظون عليه توازنه وا�ستقامته و�شروط ا�ستمراره‪ ،‬وكما ال ي�شرتط‬ ‫ل�صحة املجتمع ج�سمياً وبيئياً �أن يكون كل �أفراده من الأطباء كذلك ال ي�شرتط يف‬ ‫املجتمع امل�سلم �أن يكون كل �أفراده من الدعاة النا�صحني‪ ،‬ولكن ينبغي �أن تتوفر‬ ‫ن�سبة كافية يف املجتمع م�سموعة ال�صوت وا�ضحة الت�أثري متلأ الفراغ الثقايف‪ ،‬ومتلك‬ ‫من الو�سائل امل�ؤثِّرة ما ي�سمح با�ستمرار و�ضوح جادة احلق واخلري وال�صواب‪ ،‬وي�سمح‬ ‫با�ستمرار �سنة املدافعة بني احلق والباطل على وجه مكافىء‪ ،‬وهذا ما ي�شري �إليه قوله‬ ‫ـ عز ا�سمه‪ :-‬ﱹ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ‬ ‫‪ -1‬رواه م�سلم ‪.‬‬ ‫‪165‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 165‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﱸ �آل عمران‪.104 :‬‬ ‫وقد جرت �سنة اهلل يف االبتالء �أن تلقى هذه الفئة الطيبة اخلرية املُ َحا َربة دائماً‪،‬‬ ‫وتلقى الأذية والعنت‪ ،‬وما ذلك �إال لأنها ت�سري يف االجتاه امل�ضاد لأهل ال�شهوات‬ ‫والأهواء الذين ميكن �أن ن�سميهم بـ ( املختزلة ) حيث يكثِّفون هموم الب�شرية كلها‬ ‫يف هم واحد هو همهم‪ ،‬ويتجاوزون رغبات اخللق‪ ،‬وم�صاحلهم ‪-‬مهما عظمت‪� -‬إىل‬ ‫رغباتهم وم�صاحلهم هم‪ ...‬وعلى كل حال ف�إن الذي يظن �أن يف ا�ستطاعته �أن ي�سري يف‬ ‫دروب الأنبياء ـ عليهم ال�صالة وال�سالم ـ مق ِّوماً للمعوج وحمارباً للأهواء وال�شهوات‬ ‫ونا�صراً للمظلوم‪ ،‬ثم ال يلحقه �شيء مما حلق بهم‪ ،‬فهو واهم يف ذلك‪ ،‬و�إىل هذا �أ�شار‬ ‫لقمان وهو يعظ ابنه حني قال‪ :‬ﱹ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ‬ ‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﱸ لقمان‪ 17 :‬فقد �أ�شعر ابنه مبا ميكن �أن‬ ‫يلحقه من الأذية �إذا هو قام بواجب الأمر باملعروف‪ ،‬والنهي عن املنكر‪ ،‬ولكن نظراً‬ ‫عد قلبها الناب�ض وب�صريتها‬ ‫للأخطار التي تهدد الأمة بخل ِّوها من هذه ال�شريحة املباركة التي ُت ُّ‬ ‫النافذة‪ ،‬ف�إن اهلل ـ تعاىل ـ قرن حماربة هذه الفئة بالكفر به وقتل ر�سله حيث قال ـ َّ‬ ‫جل وعال‪:‬‬ ‫ﱹﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ‬ ‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬

‫ﯫ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﱸ �آل عمران‪.22-21 :‬‬ ‫واليوم والأمة ت�سعى جاهدة �إىل اخلروج من نفق الظلمات ناف�ضة عنها غبار ال�ضعف‬ ‫والفرقة والتبعية والتخلف؛ تكرث امل�شاريع احل�ضارية املطروحة يف البالد الإ�سالمية‬ ‫من قبل �أهل العلم والفكر‪ ،‬كما يكرث ال�ضرب يف الأر�ض لدرا�سة التجارب احل�ضارية‬ ‫احلديثة‪ ،‬واملعا�صرة للأمم الأخرى‪ ،‬والنتيجة امللمو�سة �إىل هذه ال�ساعة من وراء كل‬ ‫‪166‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 166‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ذلك �سلبية‪ ،‬وال�سبب يف ذلك ‪ -‬واهلل �أعلم ‪� -‬أننا ن�أتي البيوت من غري �أبوابها‪ ،‬ذلك‬ ‫لأن التخلف املادي الذي يعاين منه امل�سلمون لي�س هو املر�ض ولكنه من �أعرا�ض‬ ‫املر�ض‪ ،‬واملعاجلة ال�صحيحة تكون بتفح�ص املر�ض و�أ�سبابه وجذوره‪ ،‬ف�إذا عاجلنا املر�ض‬ ‫ذهبت كل �أعرا�ضه‪� ،‬أما املر�ض فهو كامن يف اخللل الذي �أ�صاب ر�ؤية امل�سلمني للدنيا‬ ‫والآخرة‪ ،‬واخللل الذي �أ�صاب �أخالقهم ومقا�صدهم وعالقاتهم بع�ضهم ببع�ض‪ ،‬مما‬ ‫�أوجد مفا�سد جمة‪ ،‬قعدت بال�سواد الأعظم من امل�سلمني عن �أن يكونوا َلبِنات‬ ‫�صاحلة يف �أي بناء ح�ضاري ٍفذ متميزٍ‪ ،‬وغاب عنا روح الفريق حني التفت ٌ‬ ‫كل منا �إىل‬ ‫م�صلحته اخلا�صة �ضارباً ُعر�ض احلائط بكل �شيء وراءها‪ .‬والبد من وقفة مت�أنية عند‬ ‫هذه النقطة نظراً خلطورتها وكرثة امل�شكالت النا�شئة عنها‪� ،‬إن كثرياً من جمتمعات‬ ‫امل�سلمني اليوم ال يتوفر فيه ما يجعله �صاحلاً لإطالق ا�سم (جمتمع) عليه لأن التفلت‬ ‫من الواجبات ال�شرعية والوقوع يف املحظورات ‪ -‬والتي يف جمملها ت�شكل احل�س‬ ‫اجلماعي عند امل�سلمني‪ -‬يجعل �صفة الفردية طاغية على هذه التجمعات‪ ،‬و�إن بدت‬ ‫ح�سب الظاهر يف �صورة جمتمعات منظمة متحدة‪� ..‬إن املجتمع ‪ -‬كما يقول مالك‬ ‫بن نبي ‪ -‬الذي يعمل فيه كل فرد ما يحلو له لي�س جمتمعاً‪ ،‬ولكنه �إما جمتمع يف‬ ‫بداية تكونه و�إما جمتمع بد�أ حركة االن�سحاب من التاريخ‪ ،‬فهو بقية جمتمع‪.‬‬ ‫واليهود حني �أرادوا تدمري املجتمعات الغربية خططوا لت�ضخيم جانب الفردية‬ ‫عدها العرف هناك‬ ‫احل�س اجلماعي حتى كرثت الق�ضايا التي َي ُّ‬ ‫على ح�ساب ّ‬ ‫خ�صو�صيات تخ�ضع ملزاج الفرد وم�صلحته‪ ،‬وكانت النتيجة التي انتهوا �إليها‪ ،‬تفكك‬ ‫تلك املجتمعات على نحو خميف ذهب ب�أمن احلياة وروائها‪ ،‬و�سيع�صف بكل اجلهود‬ ‫العزيزة التي بذلت يف بناء احل�ضارة احلديثة يف يوم من الأيام! وقد انتقلت هذه‬ ‫‪167‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 167‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫العدوى �إىل بالد امل�سلمني‪ ،‬ف�صار كثريون م ّنا غري م�ستعدين لقبول الن�صيحة من‬ ‫يالحظ عليهم يعود �إىل خ�صو�صياتهم التي ال تقبل �أي نوع من‬ ‫�أحد بحجة �أن ما َ‬ ‫التدخل‪ .‬وهذا ال�صنف من النا�س ‪ -‬وهو ميثل اليوم يف امل�سلمني الأكرثية ‪ -‬على‬ ‫غري دراية بفل�سفة هذا الدين يف �إقامة املجتمعات و�إن�شاء احل�ضارات مما يجعل ر�ؤيتهم‬ ‫للحياة كثوب �ضم �سبعني رقعة خمتلفة الأ�شكال والألوان!‬ ‫ويف �إمكان امل�سلم من خالل نظرة �سريعة يف بع�ض الن�صو�ص �أن يتعرف وجهة‬ ‫ال�شريعة يف هذا‪ ،‬و�إليك حديث ال�سفينة الذي و�ضع النقاط على احلروف يف هذه‬ ‫امل�س�ألة ب�صورة مده�شة‪ ،‬فقد روى النعمان بن ب�شريـ ر�ضي اهلل عنه ـ عن النبي ×‬ ‫أنه قال‪َ ( :‬مث َُل القائم يف حدود اهلل والواقع فيها َك َمثَل قوم ا�ستهموا على �سفينة‪،‬‬ ‫ف�صار بع�ضهم �أعالها وبع�ضهم �أ�سفلها‪ ،‬وكان الذين يف �أ�سفلها �إذا ا�ستقوا من املاء‬ ‫مروا على من فوقهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو �أنا خرقنا يف ن�صيبنا خرقاً‪ ،‬ومل ن�ؤذ من فوقنا‪ ،‬ف�إن‬ ‫تركوهم وما �أرادوا هلكوا جميعاً‪ ،‬و�إن �أخذوا على �أيديهم جنوا وجنوا جميعاً) رواه‬ ‫البخاري ‪.‬‬ ‫�إن هذه ال�سفينة متثل املجتمع الإ�سالمي الذي توحدت عقائده وتوحد اجتاه‬ ‫�سريه‪ ،‬وتوحدت غاياته واملخاطر والتحديات التي تواجهه‪ ،‬و�إن القائم يف حدود اهلل ـ‬ ‫تعاىل ـ هو تلك الفئة ال�صاحلة امللتزمة ب�شرع اهلل الآمرة باملعروف الناهية عن املنكر‪،‬‬ ‫و�إن الواقعني فيها هم �أولئك الذين ينتهكون حرمات اهلل برتك الواجبات والوقوع‬ ‫يف املحرمات‪ ،‬واحلديث يق ِّرر �أن ما يتوهمه بع�ض النا�س من خ�صو�صياته لي�س كذلك‬ ‫كما �أن الذين احتلوا �أ�سفل ال�سفينة كانوا واهمني حني ظنوا �أن لهم احلرية الكاملة‬ ‫مي�س م�صالح الذين‬ ‫يف الت�صرف يف �أر�ض ال�سفينة؛ وذلك لأن ت�صرفهم فيها بخرقها ُّ‬ ‫‪168‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 168‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫فوقهم‪ ،‬بل م�صائرهم‪ ،‬ولن�ضرب ملا يتوهمه بع�ض النا�س من خ�صو�صياتهم مث ًال من‬ ‫تعب عن‬ ‫حياتنا املعي�شة حيث وقع يف َخ َلد كثري من النا�س �أن ال�صالة عبادة بدنية رِّ‬ ‫�صلة خا�صة بني العبد وربه‪ ،‬و�أن املق�صر يف �أدائها ال ي�ؤذي جاراً‪ ،‬وال ينتهك ملجتمعه‬ ‫حرمة‪ ،‬وبذا تكون ال�صالة من امل�سائل اخلا�صة باملرء‪ ،‬ي�ؤديها كلما حال له ذلك‪،‬‬ ‫عن له ذلك‪ ،‬ومن ث ََّم ف�إن م�ساءلة النا�س له عنها يعد �ضرباً من الف�ضول‬ ‫ويرتكها كلما َّ‬ ‫الذي ينفر منه ذوق الإن�سان املعا�صر ذي الإح�سا�س املرهف والر�سوم االجتماعية‬ ‫الدقيقة‪ ،‬ولكن الأمر يف نظر ال�شريعة الغراء لي�س كذلك �إذ �إن فقهاء الأمة جممعون‬ ‫على �أن ال�صالة لي�ست من خ�صو�صيات الإن�سان التي يقف املجتمع امل�سلم جتاه‬ ‫تاركها �صامتاً غري مبال وال م�ؤاخذ‪ ،‬لذلك ر�أى بع�ض الفقهاء �أن تاركها (ك�س ًال)‬ ‫�سجن‬ ‫مقراً بفر�ضيتها يقتل كفراً‪ ،‬وبع�ضهم قال يقتل حداً‪ ،‬وبع�ضهم ذهب �إىل �أنه ُي َ‬ ‫�إىل �أن ي�صلي‪ ،‬وهم يف هذا ي�صدرون عن فهم �صحيح لطبيعة عمل هذا الدين يف‬ ‫ت�سيري دفة احلياة االجتماعية‪ ،‬لأن املع�صية حني ت�شيع يف النا�س ي�ستوجبون نزول‬ ‫العقوبة وذهاب الريح‪ ،‬وال ت�شيع الفاح�شة �إال حني يغ�ض املجتمع الطرف عنها‬ ‫وطاملا �أُجهِ�ض اجلهد الإن�ساين ال�ضخم يف �إعمار الأر�ض ب�سبب التق�صري يف جانب‬ ‫العبودية هلل ـ تبارك وتعاىل ـ و�شواهد املا�ضي واحلا�ضر ناطقة بذلك‪ ،‬وكيف ال واهلل‬ ‫ـ تعاىل ـ يقول‪ :‬ﱹﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ‬ ‫ﯾ ﯿﱸ الأنفال‪ .50:‬وكيف ال والر�سول × يقول جميباً ملن �س�أله‪� :‬أنهلك‬ ‫وفينا ال�صاحلون ؟ بقوله‪ ( :‬نعم �إذا كرث اخلبث )(‪ ،)1‬نعم �إن الأمن حني ي�ضطرب‬ ‫‪� -1‬أخرجه ال�شيخان‪.‬‬ ‫‪169‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 169‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫حبله ال ي�ضطرب على الطاحلني وحدهم‪ ،‬و�إن الأ�سعار حني تغلو لتفوق طاقة النا�س‬ ‫ال ترتفع بالن�سبة �إىل الطاحلني فقط‪ ،‬و�إن العدو حني ي�ستبيح احلمى ال ي�ستثنى �أحداً‬ ‫وهكذا‪ ...‬و�إذا كان �أ�صحاب الأهواء وال�شهوات ال يب�صرون �أكرث من مواقع �أقدامهم‪،‬‬ ‫وال يعب�أون بحا�ضر وال م�ستقبل‪ ،‬ف�إن على املجتمع �أن يتحمل امل�س�ؤولية جتاه حا�ضره‬ ‫وم�ستقبله و�آخرته‪.‬‬

‫‪170‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 170‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮊ ﮋ ﮌﮍ‬ ‫هذه �آية عظيمة القدر يف كتاب اهلل ‪ ‬حيث �إنها ت�سهم �إ�سهاماً كبرياً يف‬ ‫ت�شكيل ر�ؤية امل�سلم �إىل �أ�شياء كثرية يف عامل الأحياء‪ ،‬وقد تر َّتب على عدم االهتداء‬ ‫بهدي هذه الآية كثري من اخللل يف حياتنا املعا�صرة‪ ،‬وما اخرتناه ليكون عنوانا لهذه‬ ‫املقالة جزء من �آية‪ ،‬هي قول �شعيب ـ عليه ال�سالم ـ لقومه ﱹﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬ ‫ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ‬

‫ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ‬

‫ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﱸ الأعراف‪ ،85 :‬و�سياق الآية و�إن كان يدل يف ظاهره على‬ ‫�أن املق�صود املبا�شر بـ (�أ�شياءهم) هنا ما يتبادله النا�س يف معامالتهم من املتاع �إال �أن‬ ‫ما ميلكه النا�س ويتمتعون به من �أخالق و�أفكار وتاريخ‪� ...‬أوىل ب�إقامة العدل و�إنزاله يف‬ ‫منازله من غري وك�س وال بخ�س‪ ،‬وال �شطط؛ ملا يرتتب على الإخالل بذلك من احلقد‬ ‫والقطيعة والفرقة وذهاب الريح‪ ...‬وملا كانت �أ�صول دعوات الأنبياء ‪ -‬عليهم ال�سالم‬ ‫ واحدة ف�إن الأمر ب�إقامة املوازين واحلكم بالعدل‪ ،‬والإن�صاف ظل الو�صية اخلالدة‬‫‪171‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:18‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 171‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫التي يوجهها كل نبي �إىل قومه؛ لأنه بالعدل قامت ال�سماوات والأر�ض‪ ...‬وقد �أو�صى‬ ‫اهلل ـ تعاىل ـ ر�سوله حممداً × �أن يعلن لأمته �أم َر اهلل له ب�إقامة العدل فيها‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ﱹ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ‬

‫ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﱸ ال�شورى‪ ،15 :‬و�أو�صى امل�ؤمنني‬ ‫ب�إقامة العدل مع النا�س كافة حتى الأعداء الذين يبغ�ضونهم ويحاربونهم‪ ،‬فقال ـ‬ ‫تعاىل‪ :‬ﱹﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ‬

‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬

‫ﯦﱸ املائدة‪ ،8 :‬وقد كان × يقوم هلل بال�شهادة‪ ،‬فيعطي كل ذي حق حقه‪،‬‬ ‫ويف �سريته العطرة مئات ال�شواهد التي تفيد التزامه املطلق ب�إنزال النا�س منازلهم‪،‬‬ ‫وذكر حما�سنهم وميزاتهم‪ ،‬مهما كان انتما�ؤهم‪ ،‬وحيث كان موقعهم‪ ،‬فهذا هو يقول‪:‬‬ ‫(�أ�صدق كلمة قالها �شاعر كلمة لبيد‪� :‬أال كل �شيء ما خال اهلل باطل)‪ ،‬مع �أن لبيداً‬ ‫وقتها كان كافراً(‪ ،)1‬وكان ب�إمكانه × �أن يثني على �شعر بع�ض �أ�صحابه اململوء حكم ًة‬ ‫وهدى بدافع ح�صر اخلري فيهم‪ ،‬ولكن االلتزام باحلق والإن�صاف وعدم بخ�س �أحد‬ ‫ً‬ ‫رجل كافر‪.‬‬ ‫حقَّه ي�أبى ذلك‪ ،‬ف�أثنى على كالم ٍ‬ ‫ومن اجلدير بالذكر هنا �أن عثمان بن مظعون ـ ر�ضي اهلل عنه ـ �سمع لبيداً ين�شد‬ ‫البيت‪ ،‬فلما قال‪:‬‬ ‫�أال كل �شيء ماخال اهلل ُ‬ ‫باطل‬ ‫قال له عثمان‪� :‬صدقت‪ ،‬فلما قال‪:‬‬ ‫‪ -1‬فتح الباري ‪. 1530/7‬‬ ‫‪172‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 172‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وكل نعيم ال حمال َة ُ‬ ‫زائل‬ ‫قال له عثمان‪ :‬كذبت نعيم اجلنة لي�س بزائل‪.‬‬ ‫و�إن املرء ليعجب لهذا الإن�صاف �أي�ضاً من عثمان املقتبِ�س من مدر�سة النبوة حيث‬ ‫�أثنى يف الن�صف الأول على لبيد‪َّ ،‬‬ ‫وكذبه يف الن�صف الثاين! وجاء امل�سلمون ب�سفَّانة‬ ‫بنت حامت الطائي يف ال�سبي‪ ،‬فذكرت لر�سول × من �أخالق �أبيها ونبله فقال لها‪:‬‬ ‫(يا جارية هذه �صفة امل�ؤمنني حقاً لو كان �أبوك م�ؤمناً لرتحمنا عليه‪ ،‬خ ُّلوا عنها؛‬ ‫يحب مكارم الأخالق‪ ،‬واهلل تعاىل يحب مكارم الأخالق)(‪.)1‬‬ ‫ف�إن �أباها كان ُّ‬ ‫قد وقف ر�سول اهلل × من حامت املوقف الذي متليه �شريعته الغراء التي جاء بها‪،‬‬ ‫ف�أثنى عليه؛ و�أطلق �سراح ابنته‪ ،‬و�أكرمها‪ ،‬ولكنه مل يرتحم عليه لعدم �إميانه لتهتدي‬ ‫الأمة بهذا الهدي النبوي العظيم! ون َّبه × الن�ساء على ما يجري على �أل�سنتهن من‬ ‫ريت النار ف�إذا �أكرث‬ ‫انتقا�ص �أزواجهن وجحد معروفهم عند �أدنى خالف فقال‪�( :‬أُ ُ‬ ‫�أهلها الن�ساء يكفرن‪ ،‬قيل‪� :‬أيكفرن باهلل ؟ قال‪ :‬يكفرن الع�شري‪ ،‬ويكفرن الإح�سان‪ ،‬لو‬ ‫(‪)2‬‬ ‫�أح�سنت �إىل �إحداهن الده َر ثم ر�أت منك �شيئا قالت‪ :‬ما ر�أيت منك خرياً قط)‬ ‫�إن هذا احلديث ُيربز ق�ضية العدل �إبرازاً َّقل نظريه حيث جعل× جحودهن املعروف‬ ‫�سبباً كبرياً لكرثة وجودهن يف النار‪ ،‬وك�أن كفران الع�شري ُيحدث يف احلياة الزوجية‬ ‫من ال�شروخ والندوب ما يوازي اجلرائم االجتماعية الكربى‪ ،‬وعلى هذا املنوال ن�سج‬ ‫ال�صحب الكرام ـ ر�ضوان اهلل عليهم ـ حني كانوا ُي�صدرون الأحكام على اخل�صوم‬ ‫علي ـ ر�ضي اهلل عنه ـ اخلوارج ـ وقاتلوه‪ ،‬ثم‬ ‫ف�ض ًال عن الإخوة والرفاق‪ ،‬فقد قاتل ُّ‬ ‫‪ -1‬البداية والنهاية ‪. 198/2‬‬ ‫‪� -2‬صحيح البخاري ‪. 24/1‬‬ ‫‪173‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 173‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫قتلوه‪ ،‬وملا �سئل من ِق َبل بع�ض النا�س عنهم‪� :‬أم�شركون هم؟ قال‪ :‬من ال�شرك فروا‪،‬‬ ‫فقالوا‪� :‬أفمنافقون ؟ قال‪� :‬إن املنافقني ال يذكرون اهلل �إال قلي ًال ـ �أي ه�ؤالء يذكرون‬ ‫اهلل كثرياً ـ قيل‪ :‬فما هم يا �أمري �أمل�ؤمنني ؟ قال‪� :‬إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم‬ ‫علينا!(‪ ،)1‬فهل بعد �إن�صاف �أبي احل�سن من �إن�صاف ؟ وهل هنالك كالم يقوله �شاهر‬ ‫�سيف �أرق من هذا الكالم ؟! وظل روح العدل والإن�صاف �سارياً يف الأمة قروناً‬ ‫ٍ‬ ‫عديدة‪ ،‬وجتلى ذلك ب�شكل وا�ضح جداً يف القواعد التي �صاغها املحدثون يف اجلرح‬ ‫و�ضحوا اجلوانب املختلفة ل�شخ�صية الراوي‪ ،‬وحكموا على كل زاوية‬ ‫والتعديل حيث َّ‬ ‫على حدة‪ ،‬ثم انتهوا �إىل حكم عام حوله‪ ،‬و�صار من الظواهر امل�ألوفة عندهم �أن يطلب‬ ‫�أحدهم الدعاء من رجل‪ ،‬ف�إذا جاءه حديث عن طريقه حكم على احلديث بال�ضعف‪،‬‬ ‫لأن طلب الدعاء مبني على اعتقاد ال�صالح‪� ،‬أما قبول روايته فيعتمد على �شيء �آخر‬ ‫ك�ضبط الراوي وعلمه ونباهته‪ ،‬وغري ذلك‪ ...‬ولكن تراجعت هذه الر�ؤية املو�ضوعية‬ ‫َّ‬ ‫الفذة فيما تراجع من اجلوانب املختلفة من حياة امل�سلمني‪ ،‬و�صار املن�صفون الذين‬ ‫يجردون ال�شهادة هلل‪ ،‬وي�ضعون الأمور يف موا�ضعها دون بخ�س �أو تزيد من ال ِق َّلة الذين‬ ‫ي�شار �إليهم بالبنان‪ ،‬وهذه بع�ض النماذج التي �ضربت بجذورها يف حياة امل�سلمني‬ ‫اليوم‪ ،‬و�صارت ِّ‬ ‫ت�شكل ظاهرة َم َر�ضية مزمنة‪ ،‬وذلك نتيجة التطفيف يف املكاييل‬ ‫وبخ�س النا�س �أ�شياءهم‪:‬‬ ‫‪ -1‬يقوم �شاعر ماجن �أو ملحد بنظم ق�صيدة ع�صماء تتوفر فيها كل العنا�صر الفنية‬ ‫املجمع عليها‪ ،‬فيت�صدى لنقده واحد من �أهل اخلري‪ ،‬في�سقطه وي�ش ِّنع عليه غا�ضاً الطرف‬ ‫‪-1‬البداية والنهاية ‪. 300/7‬‬ ‫‪174‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 174‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫عن كل �إبداعه الفني‪ ،‬وما ذاك �إال لأن اجتاه ذلك ال�شاعر ال يروقه فاتخذ منه موقفاً‬ ‫مي�س �أ�صولنا االعتقادية‪ ،‬وال م�سلماتنا‬ ‫ثابتاً‪ ،‬حتى لو كان م�ضمون تلك الق�صيدة ال ُّ‬ ‫املذهبية‪ ،‬والواجب يف مثل هذا �أن يثنى على جوانب الإبداع يف الق�صيدة‪ ،‬وينتقد‬ ‫امل�ضمون �إن كان فا�سداً نقداً مو�ضوعياً هادئاً عفيفاً‪ .‬ومن الواجب كذلك �أن ُيف َّرق بني‬ ‫يقدم‬ ‫�إنتاج الرجل الواحد فيكون الثناء على ال�صالح منه‪ ،‬وينتقد ما فيه َد َخن‪ ،‬فقد ِّ‬ ‫�أحد الكتاب �أو ال�شعراء خدمة ُج ّلى للم�سلمني يف كتاب �أو ق�صيدة‪ ،‬ويتعرث يف كتاب‬ ‫كل منها دون بخ�س �أو �شطط‪ ،‬وحني يكون النقد‬ ‫�أو كتب �أخرى‪ ،‬فيعطى حقَّه يف ٍ‬ ‫�أواخلالف يف وجهات النظر على هذا املنهاج يكون �إمكان الإ�صالح �أقوى‪ ،‬ونكون‬ ‫�أقرب من ال�صواب‪ ،‬و�أقرب للتقوى‪ ،‬والر�ؤية التي ِّ‬ ‫ي�شكلها الإ�سالم لدى امل�سلم‬ ‫ي�شجع الأعمال الإيجابية‪ ،‬ويثني عليها‪ ،‬ويكون عوناً فيها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ال�سوي يف مثل هذا هي �أن ِّ‬ ‫ف�إذا ر�أى خل ًال نبه عليه‪َّ ،‬‬ ‫وحذر منه وقام بالبالغ املبني‪ ،‬ولو جرى مثل هذا يف املجتمع‬ ‫ل�ساد االنطباع بالإن�صاف لدى كل الفرقاء‪ ،‬ولأدى ذلك �إىل تفتيت كتل املت�شنجني‬ ‫واملتحازبني الذين ال يرون لغريهم ف�ض ًال‪ ،‬وال يظنون فيمن خالفهم �إال �سوءاً‪.‬‬ ‫‪ - 2‬يت�آخى بع�ض �أهل اخلري يف اهلل‪ ،‬وي�سعون جهدهم خلدمة هذا الدين و�أهله‬ ‫�صفاً واحداً‪ ،‬ثم حتدث اجتهادات �أو �أخطاء ت�ؤدي �إىل تباين وجهات النظر‪ ،‬فتن�ش�أ يف‬ ‫ال�صف الواحد تيارات ومدار�س‪ ،‬وقد يتطور الأمر فيجد بع�ضهم اال�ستمرار م�ستحي ًال‬ ‫مما يجعله يقعد‪� ،‬أو ينحو منحى �آخر يجده �أجدى و�أنفع‪ ،‬و�سرعان ما يختلف اجتاه‬ ‫الرياح‪ ،‬في�صبح الأخ النا�صح �أو القائد املحنك �أو ال�صادق املخل�ص جباناً‪� ،‬أو بخي ًال �أو‬ ‫�صاحب م�صالح‪ ،‬بل قد ي�صبح عمي ًال �أو منافقاً‪� ...‬إىل �آخر ما يجود به قامو�س(عمى‬ ‫الألوان) من الأو�صاف ال�شنيعة واالتهامات املقذعة‪ ،‬وي�صبح اللقاء بني احلميمني‪/‬‬ ‫‪175‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 175‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫العدوين �ضرباً من امل�ستحيل مع �أن نظرة مت�أنية من�صفة يف �ساعة �إنابة هلل ‪ ‬كفيلة‬ ‫خللل يف الرتبية االجتماعية‪،‬‬ ‫بتبديد الغيوم و�إذابة الثلوج‪ .‬و�إمنا يحدث مثل هذا ٍ‬ ‫و�أ�سلوب التلقي‪ ،‬وغياب املناهج‪ ،‬واملعايري الدقيقة التي يتحاكم �إليها املتنازعون‪،‬‬ ‫وما غابت املناهج النرية �إال كان البديل هواالتهام و�سوء الظن وطم�س احلقوق‪� ،‬أو‬ ‫تقدي�س الأ�شخا�ص واملبالغة يف الثناء واملديح‪.‬‬ ‫‪ -3‬قد يحدث �أن ي�سوق اهلل طالب علم �إىل �أحد امل�شايخ‪ ،‬في�أخذ عنه بع�ض‬ ‫ما عنده من العلم يف بع�ض الفنون‪ ،‬وي�شعر الطالب يف بع�ض الأحيان �أن ما عند‬ ‫تخ�ص�ص ما ال ينقع الغلة‪ ،‬وال يروي ال�صادي‪ ،‬فيتجه �إىل �شيخ �آخر‬ ‫هذا ال�شيخ يف‬ ‫ٍ‬ ‫يلتم�س ما عنده‪ ،‬وهنا ي�شعر الأ�ستاذ الأول �أن ما فعله هذا الطالب فيه نوع من �إ�ساءة‬ ‫الأدب وعدم الوفاء‪ ،‬بل قد ي�شعر �أن ت�صرف هذا الطالب يوحي ب�أن ما عند ال�شيخ‬ ‫يف هذا الفن �ضئيل الفائدة‪ ،‬وحينئذ يبد�أ تقطيب الوجه‪ ،‬والت�صريح والتلميح بعدم‬ ‫الوفاء والإ�شادة ب�أقران ذلك الطالب الذين ميثِّلون الأدب‪ ،‬وح�سن العهد والعبقرية‪،‬‬ ‫ثم تكون اجلفوة والقطيعة‪ ....‬ونحن الآن يف زمان ترك فيه احلالق احلجامة‪ ،‬وقلع‬ ‫الأ�ضرا�س‪ ،‬وترك فيه الطبيب الفلك واحل�ساب‪ ،‬بل �إن �إحاطة املرء ب�أي فن من الفنون‬ ‫�صار متعذراً نظراً للرتاكم املعريف العظيم واالنفجار الهائل يف املعلومات‪ ،‬وهذا‬ ‫الداء قدمي عندنا‪ ،‬وما مل تحُ َّرر النيات هلل ـ تعاىل ـ ف�ستقطع رحم العلم‪ ،‬ويحل اجلفاء‬ ‫مو�ضع الدعاء‪ ،‬والإزورار مو�ضع التزاور‪ .‬وكم تختلف ال�صورة لو �أن هذا الأ�ستاذ‬ ‫�أر�شد تالميذه �إىل �أويل االخت�صا�ص ل ُيفيدوا منهم �إذاً لقار�ضه الأ�ستاذ الآخر الثناء‪،‬‬ ‫والت�صلت الأن�ساب العلمية و�أثريت احلياة الثقافية‪ ،‬ويح�صل قبل هذا وذاك االلتزام‬ ‫‪176‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 176‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫مبنهج اهلل ـ تعاىل ـ الذي ال ير�ضى لعباده التباغ�ض والتحا�سد وبخ�س احلقوق‪...‬‬ ‫واخلال�صة �أن هذه الآية الكرمية مما ُع ِّطل به العمل عند كثري من امل�سلمني‪ ،‬ون�ش�أ‬ ‫عن هذا التعطيل مر�ض ا�سمه‪( :‬عمى الألوان) ولكنه يف الب�صرية دون الب�صر‪،‬‬ ‫ف�أطفئت �ألوان كثرية ال تكاد حت�صى كانت تتوهج بني الأبي�ض والأ�سود‪ ،‬وكرث النمط‬ ‫الذي ُيق َّرظ بـ(وحيد دهره وفريد ع�صره) والنمط الذي يقول فيه (الرجال)‪ :‬ما ر�أينا‬ ‫منه خرياً قط‪...‬‬

‫‪177‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 177‬‬


�� ������ ���.indd 178

29/04/2010 11:09:19 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮨﮩ ﮪﮫﮬﮭ‬ ‫ﱹﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬

‫ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﱸ يون�س ‪� 10 :‬إن مو�سى ـ عليه ال�سالم ـ قد‬ ‫َّذكر قومه ب�أن من مقت�ضيات الإميان باهلل ـ تعاىل ـ التوكل عليه وتفوي�ض الأمر �إليه‪،‬‬ ‫فقال قومه‪ :‬على اهلل توكلنا‪ ،‬ثم �س�ألوا اهلل ـ تعاىل ـ �أن ال يجعلهم فتنة للظاملني‪ .‬قال‬ ‫بعذاب من عندك‪ ،‬فيقول‬ ‫جماهد‪(( :‬املعنى‪ :‬ال ُتهلكنا ب�أيدي �أعدائنا‪ ،‬وال تعذبنا ٍ‬ ‫�أعدا�ؤنا‪ :‬لو كانوا على احلق مل ُن�س َّلط عليهم‪ ،‬ف ُيف َتنوا)) وقال �أبو جملز‪( :‬يعني ال‬ ‫ً (‪)1‬‬ ‫ُتظهرهم علينا‪ ،‬فريوا �أنهم خري م ّنا‪ ،‬فيزدادوا طغيانا)‬ ‫ولنا مع هاتني الآيتني املباركتني الوقفات الآتية‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ قد وقف قوم مو�سى ـ عليه ال�سالم ـ املوقف املنهجي الذي ينبغي �أن يقفه‬ ‫كل م�سلم‪ ،‬فقد �أعلنوا توكلهم على اهلل ـ تعاىل ـ و�إذعانهم له وا�ست�سالمهم لأمره‪ ،‬ثم‬ ‫طلبوا منه املعونة يف عالقتهم مع �أعدائهم‪� ،‬إنهم يطلبون من اهلل ـ تعاىل ـ الغلبة عليهم‪،‬‬ ‫‪ 1‬ـ اجلامع لأحكام القر�آن ‪370 :8‬‬ ‫‪179‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 179‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫و�أن ال ِّميكنهم من رقابهم‪ ،‬وامل�سلم حني يطلب من اهلل ـ تعاىل ـ املعونة على �ش�أن‬ ‫من ال�ش�ؤون �أو يف حاجة من احلاجات‪ ،‬ف�إنه يعلم �أن عليه دوراً يقوم به‪ ،‬وهو الأخذ‬ ‫بالأ�سباب‪ ،‬وبذل الو�سع والطاقة يف �سبيل حتقيق ما يطلب املعونة عليه من ربه ف�إذا‬ ‫طلب العبد من اهلل �أن يرزقه رزقاً وافراً‪ ،‬كان عليه �أن يو�سِّ ع ن�شاطه‪ ،‬ويزيد يف حركته‪،‬‬ ‫و�إذا طلب من اهلل ـ تعاىل ـ الن�صر على الأعداء‪� ،‬أخذ يف �إعداد العدة التي يتطلبها‬ ‫الن�صر‪ ،‬و�إذا طلب من اهلل ـ تعاىل ـ �أن ُي ْ�صلح عالقته مع زوجه‪ ،‬ف�إنه يح�سِّ ن عالقته‬ ‫به‪ ،‬وي�سري يف درب الإ�صالح وهكذا‪ ...‬وك�أنَّ امل�سلم حني ي�س�أل اهلل �شيئاً يقوم بفتح‬ ‫وعيه ال�شخ�صي على واجباته ال�شرعية واحل�ضارية‪ ،‬وحني نفهم الدعاء على هذا‬ ‫امل�ستوى من املالحظة‪ ،‬ف�إنه يكون علينا �أن ن�س�أل �أنف�سنا عن اجلهود الذاتية التي قمنا‬ ‫بها من �أجل بلوغ ما ن�س�أل اهلل ـ تعاىل ـ �أن ُيب ِّلغنا �إياه‪ .‬ومن هنا ف�إن على امل�سلم حني‬ ‫يدعو‪ ،‬وال ي�ستجاب له �أن يحا�سب نف�سه على التق�صري يف الأخذ بالأ�سباب عو�ضاً‬ ‫عن الي�أ�س والقنوط‪.‬‬ ‫‪2‬ـ يحتمل قول قوم مو�سى‪(( :‬ال جتعلنا فتنة للقوم الظاملني املعنيني اللذين �أ�شار‬ ‫�إليهما املف�سرون‪ :‬معنى فتنة امل�ؤمنني من خالل انت�صار الكافرين‪ ،‬ومعنى فتنة الكافرين‬ ‫من خالل هزمية امل�ؤمنني ونزول البالء بهم‪ ،‬واملعنى العميق للحالتني واحد‪� ،‬إن النا�س‬ ‫حني ُيه َزمون‪� ،‬أو يعي�شون حالة انحطاط �شامل‪ ،‬يقومون مبراجعات كثرية‪ ،‬وهذه‬ ‫مت�س بع�ض عقائدهم و�أ�صولهم ومناهجهم‪ ،‬ولي�س �أهل الإميان مبنجاة‬ ‫املراجعات قد ُّ‬ ‫من هذا‪ ،‬فامل�ؤمنون يرون �أن اتباعهم لدين �صحيح ٍ‬ ‫كاف لتوفري كل �أ�سباب الن�صر‬ ‫واالزدهار‪ ،‬ف�إذا مل يحدث ذلك ت�س ِّرب ال�شك‪� ،‬أو ما هو قريب من ال�شك �إىل نفو�س‬ ‫بع�ضهم‪ .‬ونحن نرى اليوم ممن ينت�سبون �إىل الإ�سالم من يتحدث عن بع�ض ال�شعائر‬ ‫‪180‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 180‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫والأحكام الإ�سالمية ب�أنها �سبب تخلف امل�سلمني‪ ،‬وما كان لهذا �أن يقال لو كانت‬ ‫الأمة يف حالة نه�ضة وازدهار‪.‬‬ ‫يف املقابل ف�إن هزمية امل�سلمني وانحطاطهم وارتباكهم يف �أمور معا�شهم قد يكون‬ ‫فتن ًة للكافرين والظاملني حني يقارنون �أحوالهم املزدهرة ب�أحوال امل�ؤمنني البائ�سة‪،‬‬ ‫وبذلك يكون �أهل الإميان هم ال�سبب يف افتتان �أهل الكفر ومتاديهم يف طغيانهم‬ ‫لأنهم يعتقدون �أنهم على احلق‪� .‬إذن احلالة ال�سيئة للم�سلمني ميكن �أن ت�ؤذي �أهل‬ ‫لكن عملها يكون بطريقة خمتلفة‪.‬‬ ‫الإميان‪ ،‬وت�ؤذي �أهل الكفر يف �آن واحد‪َّ ،‬‬ ‫‪3‬ـ يف الآية �إ�شارة لطيفة تبدو لنا عند تف�سريها على املعنى الثاين حيث يدعو‬ ‫امل�ؤمنون ربهم �أال يجعلهم �سبباً لإيقاع الظاملني يف الفتنة‪ ،‬وهذا �إن دل على �شيء‪،‬‬ ‫ف�إمنا يدل على النبل الذي ينبغي �أن يكون يف قلب كل م�سلم‪� ،‬إذ �إن نفو�س �أهل‬ ‫الإميان تنطوي على حب اخلري لكل النا�س‪ ،‬و�إن الهداية‪ ،‬و�سلوك ال�صراط امل�ستقيم‬ ‫ومند لهم‬ ‫يف ذروة اخلري واملعروف‪ ،‬وهكذا ف�إن علينا جميعاً �أن ُن ْ�شفق على الآخرين‪َّ ،‬‬ ‫يد املعونة‪ ،‬ونحاول �أال نكون يف و�ضعية ت�ؤدي �إىل �ضاللهم و�إغوائهم‪ ،‬وما �أحوجنا �إىل‬ ‫�إحياء هذا املعنى يف نفو�س الأمة يف هذه الأيام!‪.‬‬ ‫‪4‬ـ �إن حالة التخلف ال�صناعي والعمراين والإداري الذي يعي�ش فيه معظم‬ ‫ال�شعوب الإ�سالمية �أ�ساءت �إ�ساءة بالغة �إىل الإ�سالم‪ ،‬واحلقيقة �أننا نعاين من نوعني‬ ‫من التخلف‪ :‬تخلف عن تعاليم ديننا‪ ،‬فنحن يف حاجة �إىل �أن نتقدم ونرتقي �إليه‪،‬‬ ‫وتخلف عن زماننا‪ ،‬فنحن يف حاجة �إىل م�ساعدات ومنتجات الأمم املتقدمة يف معظم‬ ‫�ش�ؤون حياتنا‪ .‬قد يقول قائل‪ :‬ال ي�صح للآخرين �أن يعتقدوا �أن حال امل�سلمني‬ ‫تعك�س مبادئ الإ�سالم على نحو كامل‪ ،‬فهناك فرق بني الإ�سالم وبني امل�سلمني‪..‬‬ ‫‪181‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 181‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫هذا �صحيح لكن احلقيقة �أن النا�س يف البلدان الأخرى ال يعرفون هذا التف�صيل‪،‬‬ ‫منمق عن مبادئها و�أخالقها‪ ،‬لكن الذي‬ ‫وهم يقولون‪� :‬إن كل الأمم تتحدث بكالم َّ‬ ‫ي�صنع الفرق بني ال�شعوب هو واقعها العملي‪ .‬وقد رَّعب عن هذا املعنى العديد من‬ ‫الغربيني الذين دخلوا الإ�سالم من خالل االطالع على بع�ض الكتب الإ�سالمية‪،‬‬ ‫وال �أ�ستطيع �أن �أن�سى قول �أحدهم بعد �أن جاء �إىل �إحدى الدول العربية‪ :‬احلمد هلل‬ ‫�أنني تعرفت على الإ�سالم‪ ،‬و�أ�سلمت قبل �أن �أختلط بامل�سلمني‪ ،‬و�إال ملا كنت �أ�سلمت‪،‬‬ ‫لأن �أو�ضاع امل�سلمني وتعامالتهم ال تدفع �أحداً يف اجتاه الدخول يف الإ�سالم!‪.‬‬ ‫‪5‬ـ من الذين َي ْظهرون باملظهر الإ�سالمي‪ ،‬ويتم�سكون ببع�ض ال�سنن وال�شعائر‬ ‫الإ�سالمية من يقوم بعملية �إجها�ض منكرة للتعاليم والأخالق الإ�سالمية‪ ،‬فينفِّرون‬ ‫�أقواماً من الدين و�أهله‪ ،‬وي�ش ِّوهون مفاهيم �أقوام �آخرين عن الدين ال�صحيح‪ ،‬هناك‬ ‫فتيات يلب�سن الثياب ال�ضيقة جداً‪ ،‬وي�ضعن على ر�ؤو�سهن قطعة من القما�ش‪ ،‬فيظن‬ ‫بع�ض النا�س �أنهن حمجبات احلجاب ال�شرعي‪ ،‬ثم يجدون بع�ضاً من املحجبات يف‬ ‫اجلامعات يقمن باالختالط بال�شباب واملزاح معهم �إىل حد جتاوز كل حدود الأدب‬ ‫واحل�شمة‪ ،‬مما يجعل ق�سماً من النا�س يرى يف احلجاب ويف املحجبات �شيئاً �سيئاً‬ ‫و�سلبياً! وهناك �شباب وكهول �أطلقوا حلاهم‪ ،‬ثم جتدهم ال يتورعون عن الكذب‬ ‫وخلف املواعيد! وهناك رجال ي�صلون يف ال�صف الأول خلف الإمام وهم ي�أكلون‬ ‫الربا‪ ،‬ومياطلون يف دفع حقوق النا�س‪ ،‬ويحرمون بناتهم من املرياث!‪� .‬إن ه�ؤالء‬ ‫و�أ�ضرابهم يفتنون النا�س‪ ،‬وي�ش ِّوهون �صورة الإ�سالم النقية!‪.‬‬ ‫‪6‬ـ �إذا �أرادت �أمة الإ�سالم �أال تُف َتنت يف �أنف�سها من خالل انت�صار الأعداء عليها‪ ،‬و�أال‬ ‫تكون فتنة لغريها من خالل �سوء �أحوالها‪ ،‬ف�إنه لي�س �أمامها �سوى التم�سك ال�صحيح ب�أهداب‬ ‫‪182‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 182‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الدين‪ ،‬و�سوى �إ�صالح �أو�ضاعها ال�سيا�سية والأخالقية واالجتماعية واالقت�صادية‪� ...‬إنها‬ ‫بهذا وذاك ت�ستحق اخلالفة يف الأر�ض‪ ،‬وت�صبح �أو�ضاعها العامة عوامل جذب للتدين‬ ‫ال�صحيح‪ ،‬كما �أنها حت�صِّ ن نف�سها من خماطر �إيقاع الأعداء لها يف الفتنة‪.‬‬ ‫واهلل من وراء الق�صد‪.‬‬

‫‪183‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 183‬‬


�� ������ ���.indd 184

29/04/2010 11:09:19 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ‬ ‫يقول اهلل ـ تعاىل ـ ﱹ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ‬

‫ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﱸ �سورة الرعد‪ 11 :‬وقال ـ �سبحانه‪ :‬ﱹ ﯩ ﯪ‬

‫ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬ ‫ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ‬

‫ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﱸ �سورة الأنفال‪ 52 :‬ـ ‪.53‬‬ ‫تفيد �آيتا الأنفال املباركتان �أمراً جوهرياً‪ ،‬هو �أن اهلل ـ تعاىل ـ جواد كرمي‪ ،‬حيث‬ ‫تغي تلك الطائفة يف‬ ‫�إنه �إذا �أ�سبغ ف�ضله على طائفة من النا�س‪ ،‬ف�إنه يدمي نعماءه ما مل رِّ‬ ‫�أنف�سها و�سلوكها‪� ،‬أي ما مل تق�صِّ ر يف ال�شكر‪� ،‬أو ت�ستخدم ما �أنعم اهلل ـ تعاىل ـ عليها‬ ‫به يف مع�صيته‪ ،‬ف�إن اهلل حينئذ ينزع تلك النعمة منها‪ .‬ون�ستفيد من �آية الرعد �أن اهلل ـ‬ ‫يغي �أحوال قوم من الأقوام من اخلري والرخاء والعافية �إىل الكرب‬ ‫�سبحانه وتعاىل ـ ال رِّ‬ ‫وال�ضيق والبالء‪ ،‬كما �أنه ال يغري �أحوالهم من الكرب وال�شدة �إىل الرخاء والنعمة �إال‬ ‫�إذا قاموا بتغيري ما ب�أنف�سهم‪ ،‬وما هو انعكا�س ملا يف �أنف�سهم‪ ،‬وهو �سلوكهم ومواقفهم‬ ‫‪185‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:19‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 185‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وعالقاتهم‪ ،‬وهذا دليل عدله ـ �سبحانه ـ فهو يعامل النا�س ب�أعمالهم من خري و�شر‬ ‫دون حماباة لأمة على �أمة‪ ،‬ويف هذا تكرمي عظيم للإن�سان‪ ،‬حيث جعل ما يف بيئته‬ ‫تابعاً له‪ ،‬ف�إن �صلح �أ�صلح له ما يعجز عن �إ�صالحه‪ ،‬وحباه ما لي�س يف متناول يده‪ ،‬و�إن‬ ‫ف�سد‪ ،‬وخان الأمانة رفع يده عنه‪ ،‬ووكله �إىل نف�سه‪ ،‬ونزع منه الكثري من نعمائه‪ .‬ويف‬ ‫هذا �إ�شعار للإن�سان ب�أنه مركز الكون‪ ،‬و َمل ال وهو الذي �سخر اهلل له ما يف ال�سموات‬ ‫وما يف الأر�ض‪ ،‬كما �أن فيه ما يدل على �أن الإن�سان يتحمل م�س�ؤولية �أعماله على نحو‬ ‫كامل‪ ،‬وعليه �أن يت�ص َّرف على هذا الأ�سا�س‬ ‫ولنا مع هذه الآيات املباركة الوقفات التالية‪:‬‬ ‫التغي ي�شتمل‬ ‫‪ 1‬ـ �إنَّ فط َر اهلل ـ تعاىل ـ �ش�ؤون احلياة عامة والإن�سان خا�صة على رِّ‬ ‫على رحمة كربى بالعباد‪ ،‬بل �أرى فيه كر ًة ثانية على �صعيد العدالة الإلهية املطلقة‪،‬‬ ‫�إذ �إن النا�س يولدون يف ظروف متفاوتة تفاوتاً كبرياً‪ ،‬وبع�ض تلك الظروف يكون ممتازاً‬ ‫وحمفِّزاً‪ ،‬وم�ساعداً على االزدهار ونيل ال�سعادة‪ ،‬وبع�ضها يكون م�ؤملاً للغاية كما هو‬ ‫�ش�أن من يولد يف خميم لالجئني‪ ،‬ومن يولد وعنده عاهة دائمة‪ ،‬ومن يولد يف بيت‬ ‫بائ�س ومنق�سم على نف�سه‪ ...‬ولوال ما بثه اهلل ـ تعاىل ـ يف الكون من �سنن التغيري‬ ‫َّ‬ ‫لظل ه�ؤالء يعي�شون حياة مملوءة بالكروب ب�سبب الظروف ال�صعبة التي و ِلدوا فيها‪.‬‬ ‫ال�س َّنة على �أنها مظهر من مظاهر رحمة اهلل ـ تعاىل ـ‬ ‫ومن هنا وجب �أن ننظر �إىل هذه ُّ‬ ‫ت�صوروا معي لو كان املرء ي�ؤخذ بذنبه بعد وقوع الذنب مبا�شرة دون �إتاحة �أي فر�صة‬ ‫للتوبة واملراجعة والتغيري‪ ،‬كم �سيكون الو�ضع �شاقاً وخميفاً ؟!‪.‬‬ ‫‪2‬ـ من الوا�ضح �أن معظم النا�س يعتقدون بوجود �أخطاء يف حياتهم‪ ،‬ووجود‬ ‫عقبات وم�شكالت‪ ،‬وهذه وتلك تكون موجودة ب�سبب ق�صورنا الذاتي وب�سبب‬ ‫‪186‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:20‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 186‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫رعوناتنا و�أهوائنا‪ ،‬وبع�ضها يكون ب�سبب جتاوزات الآخرين‪ ،‬كما �أن بع�ضها يكون ب�سبب‬ ‫الو�ضعية العامة‪� ،‬أي جمهولة امل�صدر‪ ...‬ونحن نالحظ �أننا ماهرون جداً يف ت�شخي�ص‬ ‫امل�شكالت التي �س َّببها لنا الآخرون‪ ،‬لكن الذين يتحدثون عن دورهم ال�شخ�صي يف‬ ‫�أ�شكال معاناتهم يظلون قليلني؛ وهذا لأن ذلك �سوف يجعلهم ُيدِ ينون �أنف�سهم‪ ،‬وتلك‬ ‫الإدانة مع ما فيها من توبيخ للذات‪ ،‬تتطلب جماهدة النفو�س والإقالع عن الأخطاء‬ ‫واخلطايا ال�شخ�صية‪ ،‬وهذا ما ال يريده معظم النا�س؛ لكن الآية التي نحن ب�صددها‪،‬‬ ‫تو�ضِّ ح بجالء �أننا �إذا �أردنا تغيري ظروفنا ونوعية عالقات الآخرين بنا‪ ،‬ف�إن هناك طريقاً‬ ‫نغي ما يف قلوبنا ونفو�سنا‪ ،‬و�أن نغِّري يف �سلوكنا و�أعمالنا‪ ،‬وهذا بيان‬ ‫واحداً لذلك هو �أن رِّ‬ ‫وا�ضح للنا�س‪ ،‬يجعلهم فع ًال �أمام م�س�ؤولياتهم بدقة متناهية!‪.‬‬ ‫وما يقرره اهلل ـ تعاىل ـ يف الآيات املباركة التي نحن يف �صددها هو ما انتهى �إليه زعماء‬ ‫الإ�صالح يف العامل اليوم‪ ،‬كما �أنه ي�شكل العمود الفقري لأدبيات التنمية الب�شرية التي‬ ‫يحتفل العامل بها �أعظم االحتفال يف هذه الأيام؛ ف�سبحان العليم اخلبري!‬ ‫‪3‬ـ �إن الآيات الكرمية التي نحن ب�صددها ت�شري بو�ضوح �إىل �أن ما ننتظره من‬ ‫معونة اهلل ـ تعاىل ـ ون�صره وتوفيقه‪ ...‬ينبغي �أن يرتبط مبا ُنحدثه يف حياتنا من التغيري‬ ‫الإيجابي‪ ،‬والذي يتمثل �أ�سا�ساً يف فعل ما ُير�ضي اهلل ـ تعاىل ـ والكف عما ُيغ�ضبه‪،‬‬ ‫العد َة التي‬ ‫كما يتمثل يف جماهدة الأنف�س والأخذ بالأ�سباب والإعداد لكل �أمر َّ‬ ‫تنا�سبه‪ .‬ف�إذا مل نقم ب�شيء من ذلك فكيف �سيغيرَّ اهلل لنا الأحوال والأو�ضاع العامة؟‬ ‫�إن �شيئاً من ذلك لن يحدث على ح�سب ما نفهم من الآيات التي �أمامنا‪� .‬إن كثرياً‬ ‫من امل�سلمني م�ضى عليهم ع�شرات ال�سنني وهم يطلبون من اهلل ـ تعاىل ـ الن�صر‬ ‫على اليهود وحترير فل�سطني‪ ،‬ومل يحدث �شيء من ذلك‪ .‬وهناك م�سلمون كثريون‬ ‫‪187‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:20‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 187‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫يطلبون ال�سعة يف الرزق منذ �سنوات كثرية‪ ،‬ومل يو�سِّ ع اهلل ـ تعاىل ـ عليهم‪ .‬وهناك‬ ‫وهناك‪ ...‬اهلل ـ �سبحانه وتعاىل ـ رحيم بعباده لطيف بهم‪ ،‬لكن هذه الدار دار �أ�سباب‬ ‫وعمل وابتالء وتكليف‪ ،‬فكيف يكون الن�صر على اليهود ونحن ال نعد العدة املطلوبة‬ ‫للن�صر؟ وكيف يو�سِّ ع اهلل رزق عبد‪ ،‬ال يزيد يف ن�شاطه‪ ،‬وال يعامل النا�س ب�أخالق‬ ‫التاجر ال�صدوق‪ ،‬وال يح�سِّ ن معرفته مبهنته وعمله؟‬ ‫�إن املعا�صي حني ت�شيع يف الأمة‪ ،‬وال يقوم الأخيار من �أبنائها مبحا�صرتها وال ينهون‬ ‫عنها بالقدر الكايف‪� ،‬أي ال ُيحدثون مبادرات تتنا�سب مع الفواح�ش والأخطاء املع َلنة‬ ‫يحرمون �أنف�سهم من بركات الدعاء وا�ستجابة اهلل ـ تعاىل ـ لهم‪ ،‬وقد ورد هذا املعنى يف‬ ‫قوله ×‪(( :‬والذي نف�سي بيده لت�أم ُرنَّ باملعروف ولتنهونَّ عن املنكر‪� ،‬أو َ‬ ‫ليو�شك َّن اهلل‬ ‫�أن يبعث عليكم عذاباً‪ ،‬ثم تدعونه‪ ،‬فال ي�ستجيب لكم))(‪.)1‬‬ ‫‪4‬ـ �إن الآيات الكرمية ن�صت على تغيري ما يف النفو�س‪� ،‬أي تغيري امل�شاعر والتوجهات‬ ‫واالهتمامات وتخلي�ص القلوب من �أمرا�ضها والنفو�س من رعوناتها‪ ،‬وهذا هو التغيري‬ ‫اجلوهري والأ�سا�سي‪ ،‬لأن الأ�صل يف �سلوك الإن�سان �أن يكون �صدى ملعتقداته‬ ‫ومبادئه وروحه ونف�سه‪ .‬ويدلنا القر�آن الكرمي على �أن تغَّريت امل�شاعر ممكن من خالل‬ ‫العديد من الطرق‪ ،‬منها تغيري الأفكار‪ ،‬فاملرء �إذا تغريت �أفكاره حول �شيء تغيرَّ ت‬ ‫م�شاعره‪ ،‬كما حدث لبع�ض الرهبان والق�سِّ ي�سني حني �سمعوا القر�آن الكرمي‪ :‬ﱹ ﭑ‬ ‫ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ‬

‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﱸ �سورة املائدة‪.83 :‬‬ ‫‪ -1‬حديث ح�سن رواه الرتمذي‪.‬‬ ‫‪188‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:20‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 188‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وميكن للنفو�س �أن تتغري وللم�شاعر �أن تتبدل من خالل الإح�سان واملعاملة‬ ‫احل�سنة‪ ،‬على نحو ما جنده يف قوله ـ �سبحانه‪ :‬ﱹﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ‬ ‫ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﱸ �سورة ف�صلت‪ 34 :‬لكن‬ ‫هناك من يجادل يف تغيري الطباع‪ ،‬ويعتقد �أنها ال تتغري‪ ،‬ولهذا فال فائدة من العمل‬ ‫على ذلك‪ .‬ونحن نقول‪� :‬إن تهذيب الطباع الرديئة ممكن ب�إذن اهلل ـ عز وجل ـ �إذا‬ ‫جاهد املرء نف�سه‪ ،‬وجعل وعيه ي�سيطر على �أن�شطته وعالقاته‪ .‬ومن وجه �آخر ف�إن املهم‬ ‫كنت ال �أرتاح ل�شخ�ص من الأ�شخا�ص‪ ،‬وحاولت �أن �أك ِّون �صورة‬ ‫هو ال�سلوك‪ ،‬ف�إذا ُ‬ ‫علي �أال �أغتابه‪ ،‬وال �أ�ؤذيه‪ ،‬و�أن �أ�ساعده �إذا احتاج �إىل‬ ‫�إيجابية عنه‪ ،‬فلم �أ�ستطع‪ ،‬ف�إن َّ‬ ‫امل�ساعدة‪� ...‬إنني �إذا فعلت ذلك �أكون قد فعلت �شيئاً مهماً �أ�ؤجر عليه‪� .‬إذن يكون‬ ‫تغيري ما يف النفو�س باقتالع الأمرا�ض �أحياناً وباملقا�صد احل�سنة والنوايا الطيبة �أحياناً‬ ‫�أخرى‪ ،‬ف�إذا عجز املرء عن �شيء من ذلك‪ ،‬ف�إن عليه �أن يجعل �سلوكه يف معزل عنه‪،‬‬ ‫وهذا ممكن‪ .‬وحني يرى اهلل ـ تعاىل ـ من عبده حر�صه على تغيري نف�سه وبذله جلهده‬ ‫يف ذلك‪ ،‬ف�إنه ُي�سعفه مبعونته‪ ،‬وينزل عليه من توفيقه وبركاته‪ ،‬وهو �أرحم الراحمني‪.‬‬

‫‪189‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:20‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 189‬‬


�� ������ ���.indd 190

29/04/2010 11:09:20 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯝﯞ ﯟﯠ‬ ‫فطر اهلل ـ تعاىل ـ الإن�سان على حب الدنيا والتعلق بها‪ ،‬وال�سعي �إىل اال�ستحواذ‬ ‫على �أكرب قدر منها‪ ،‬ويبدو �أن كل الأ�سوياء من بني �آدم معرتفون بهذه احلقيقة‪،‬‬ ‫وحركتهم اليومية ت�ؤكد هذا املعنى‪ ،‬و�إن كان لدى كثري منا �شعور عميق ب�أن‬ ‫مي�س الكرامة ويجرح املروءة‪ ،‬وقد �أعجبني‬ ‫التهافت على جمع املال ينطوي على ما ّ‬ ‫ما ُنقل عن �أبي الوفاء ابن عقيل من قوله‪ ( :‬من ادعى �أنه ال يحب الدنيا‪ ،‬فهو‬ ‫عندي كذاب �إىل �أن يثبت �صدقه‪ ،‬ف�إذا ثبت �صدقه ثبت جنونه)!‪ .‬ولدينا عدد‬ ‫من الن�صو�ص التي ت�ؤكد حب الإن�سان للمال‪ ،‬منها قول اهلل ـ تعاىل‪ :-‬ﱹ ﮰ‬ ‫ﮱ ﯓ ﯔ ﱸ �سورة العاديات‪ 8 :‬وقوله‪ :‬ﱹ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬ ‫ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﱸ �سورة ف�صلت ‪.49‬‬ ‫وقال ـ �سبحانه وتعاىل‪ :‬ﱹ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ‬ ‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ‬ ‫ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﱸ �سورة �آل عمران‪14 :‬‬

‫ولدينا �أحاديث معروفة‬

‫‪191‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:20‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 191‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وم�شهورة يف بيان تع ِّلق النا�س باملال وعدم �شبعهم منه‪ ،‬ال داعي ل�سوقها‪ .‬ولعلي �أ�شري‬ ‫يف م�س�ألة املال وحبه �إىل املعاين الآتية‬ ‫‪1‬ـ يف زماننا هذا ازدادت حمورية املال يف حياة النا�س‪ ،‬فقد انتهى ع�صر الأ�شياء‬ ‫املجانية‪� ،‬أو كاد‪ ،‬وكما �أن النا�س ي�شرتون املاء النقي من �أجل ال�شرب‪ ،‬فقد ي�شرتون‬ ‫قريباً الهواء النقي من �أجل التنف�س! �أ�سعار كل الأ�شياء يف ارتفاع م�ستمر‪ ،‬و�أحياناً‬ ‫يكون ال�شيء متوفراً‪ ،‬ويرتفع �سعره لأ�سباب غري معروفة‪ .‬هذه الو�ضعية جعلت النا�س‬ ‫و�صاحب هذا تراج ٌع يف‬ ‫يخافون كثرياً من امل�ستقبل‪ ،‬وما ع�سى �أن ت�أتي به الأيام؛‬ ‫َ‬ ‫درجة التكافل والرتابط االجتماعي‪ ،‬مما � َّأكد للنا�س �أن الو�سيلة الوحيدة التي ميكن‬ ‫�أن يواجهوا بها �صعوبات احلياة هي (املال) وهذا �أدى �إىل اندفاع رهيب‪ ،‬ويف كل اجتاه‬ ‫من �أجل احل�صول على �أكرب قدر منه‪ ،‬بقطع النظر عن مدى ما ميكن �أن يكون فيه من‬ ‫حمظور وم�شبوه! وع ّزز هذه الو�ضعية قيام ظاهرة العوملة على نظام التجارة‪ ،‬وقد ثبت‬ ‫�أن هذا النظام هو �أقوى النظم الثقافية على الإطالق‪ ،‬وهو نظام ال يلتفت كثرياً �إىل‬ ‫م�س�ألة احلالل واحلرام‪ ،‬و�إمنا ِّ‬ ‫يركز على احل�صول على �أكرب قدر من الربح‪ ،‬وقد �أ�شاع‬ ‫بع�ض الأخالق ال�سيئة‪ ،‬مثل امل�ساومة والتنازل والكذب يف مديح ال�سلع‪ ،‬والتخلف‬ ‫َ‬ ‫يف �سداد القرو�ض‪ ،‬وما �شابه ذلك!‬ ‫وقد ورد يف احلديث ال�صحيح ما ي�شري �إىل انت�شار ( التجارة ) يف �آخر الزمان و�إىل‬ ‫تقارب الأ�سواق‪ ،‬وقد حدث هذا اليوم بالفعل‪.‬‬ ‫يوجهنا‪ ،‬وي�ؤكد علينا ب�أن كل ما يف �أيدينا من خريات وعطايا‬ ‫‪2‬ـ �إن القر�آن الكرمي ِّ‬ ‫هو �أداة ابتالء لنا‪ ،‬ومنه املال‪ ،‬حيث يقول ـ �سبحانه‪ :‬ﱹ ﭱ ﭲ ﭳ‬ ‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﱸ �سورة الأنفال‪ 28 :‬وقال ـ �سبحانه‪ :‬ﱹ ﯺ‬ ‫‪192‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:20‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 192‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﱸ �سورة الأنبياء‪� 35 :‬إن‬ ‫الإ�سالم يحاول كبح جماح الإن�سان واحلد من حر�صه على اقتناء املال عن طريق‬ ‫تقنني احل�صول عليه‪ ،‬فال ي�صح للم�سلم �أن يكت�سبه عن طريق الربا �أو العقود الفا�سدة‪،‬‬ ‫وال عن طريق الر�شوة �أو الن�صب �أو الكذب �أو التحايل‪ ....‬كما يحاول كبح جماحه‬ ‫عن طريق حتديد قنوات �صرف املال واالنتفاع به‪ ،‬حيث ال يجوز للمرء �أن ينفقه‬ ‫يف �إ�سراف �أو تبذير �أو حم َّرم �أو للح�صول على �أ�شياء غري م�شروعة �أو ريا ًء و�سمع ًة‬ ‫وخميلةً‪ ...‬وكون املال هو �أداة اختبار ُيلقي يف روع امل�سلم م�س َّلمة جوهرية‪ ،‬هي �أن‬ ‫الفرح احلقيقي ال ينبغي �أن يقرتن باحل�صول على املزيد من املال‪ ،‬و�إمنا بالنجاح يف‬ ‫ا�ستخدامه على نحو ٍ يق ِّرب العبد من ربه‪. ،‬‬ ‫‪3‬ـ ما دمنا لن ن�شبع من املال‪ ،‬وما دمنا �سنظل م�شغولني باحل�صول على املزيد‬ ‫منه‪ ،‬ف�إن علينا �إذن �أن ندرك �أن علينا حقوقاً لربنا ولأنف�سنا ولأهلنا وجمتمعاتنا‪ ،‬وال‬ ‫بد من �أداء تلك احلقوق‪� .‬إن االعتدال والتو�سط ومراعاة جوانب احلياة كافة يجعلنا‬ ‫�أكرث حكمة يف التعامل مع املال‪ ،‬وعلى كل من َج َمع ثروة طائلة‪� ،‬أو حقق جناحاً‬ ‫باهراً �أن ي�س�أل‪ :‬على ح�ساب من َّمت ذلك ؟ فقد يكون على ح�ساب الدين وا ُخل ُلق‬ ‫واملروءة‪ ،‬وقد يكون على ح�ساب الأ�سرة والأبوين‪ ،‬وقد يكون على ح�ساب ال�صحة‬ ‫واال�ستقرار‪...‬‬ ‫‪4‬ـ �إن اهلل ‪ ‬ذكر حب الإن�سان للمال يف معر�ض الذم لأن احلب ال�شديد‬ ‫للمال هو يف نهاية املطاف حب للدنيا‪ ،‬وفيه الكثري من االن�شغال عن الآخرة‬ ‫واال�ستعداد لها‪ ،‬ولهذا ف�إن علينا �أن ن�سعى �إىل تخفيف الطلب على املال من خالل‬ ‫‪193‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:20‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 193‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�إنعا�ش اجلانب الروحي لدينا‪ ،‬وتقوية ال�صلة باهلل ـ تعاىل ـ ومن خالل تعزيز الأن�شطة‬ ‫اخلية‪ ،‬حيث �إن اختناق املجتمع يكون ببطء حراكه‬ ‫الدعوية والأدبية واالجتماعية رِّ‬ ‫االجتماعي؛ والنا�س يحبون �أن يحققوا ذواتهم‪ ،‬و�أن ي�شعروا بالتفوق والتقدم‬ ‫والنجاح‪ ،‬وهذا قد يتم عن طريق رئا�سة جمعية �أو منظمة �أو ن�شر فكرة �أو حماربة �آفة‬ ‫من الآفات الأخالقية وال�سلوكية‪ ،‬و�إذا مل يجد النا�س الفر�صة للقيام بذلك‪ ،‬ف�إنهم‬ ‫يتجهون �إىل جمع املال من �أجل ا�ستخدامه يف التفوق على الأقران ومباهاة الزمالء‬ ‫وتوليد الإح�سا�س بالنجاح‪ ،‬وهذا ي�ضاعف امل�شكلة؛ �إذ �إن املال بطبيعته يثري التوتر‬ ‫وال�صدام؛ لأن املعرو�ض منه دائماً �أقل من املطلوب‪ ،‬ف�إذا �صار هو الو�سيلة الوحيدة‬ ‫لل�شعور بالتميز‪ ،‬ف�إن ال�صراع على اقتنائه �سوف يحتدم‪ ،‬و�سوف ي�سلك النا�س كل‬ ‫�سبيل �إىل الو�صول �إليه‪ .‬وقد �صدق من قال‪� :‬إن درهم مال يحتاج �إىل قنطار عقل‪،‬‬ ‫ويحتاج اليوم �إىل قنطار من الدين �أي�ضاً‬ ‫واهلل امل�ستعان‪.‬‬

‫‪194‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:20‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 194‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﭘﭙﭚﭛﭜ‬ ‫ﭝﭞﭟ ﭠ‬ ‫ﭡﭢﭣ‬ ‫ت�شري الآية الكرمية �إىل ما وقع فيه الن�صارى على م�ستوى الكليات حني جعلوا‬ ‫املعبود الواحد ثالثة‪ ،‬ومنحوا الب�شر املخلوقني املحتاجني ما لي�س لهم من العبادة‬ ‫والتقدي�س والدعاء والرجاء‪ ،‬وحني ح َّرموا احلالل‪ ،‬و�أحلوا احلرام‪ ،‬فخرجوا بالر�سالة‬ ‫ال�سماوية عن خطها الأ�صيل املمتد الذي خطه الأنبياء ـ عليهم ال�صالة وال�سالم‪-‬‬ ‫ودعوا النا�س �إليه‪ ،‬وج َّر ذلك عدداً من االنحرافات على العقيدة وال�شريعة وال�سلوك‪،‬‬ ‫وكانت نتيجة ذلك خروجاً عن �سبيل اهلل؛ لي�سلكوا �سب ًال تتوازى معه �أحياناً وتتقاطع‬ ‫�أحياناً �أخرى‪ ،‬وكانت عواقب ذلك بغ�ضاء وعداوة ه َّيجها اهلل ـ �سبحانه وتعاىل ـ‬ ‫بينهم حتى �أ�صبحوا مل ًال وفرقاً‪ ،‬بني كل واحدة والأخرى من البعد واخلالف كما‬ ‫بني �أهل دينني خمتلفني‪ ،‬و�صار كل منهم يتقرب �إىل اهلل مبعاداة الآخر! وملا كانت‬ ‫�سنن اهلل ـ تعاىل ـ ما�ضية يف الأمم جميعاً على نحو واحد دون حماباة لأحد كان علينا‬ ‫�أن نقف �أمام هذه امل�س�ألة وقفة ا�ستب�صار ُنفيد منها يف حياتنا العامة‪ ،‬حتى ال يحيق‬ ‫بنا ما حاق بغرينا‪.‬‬ ‫‪195‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:20‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 195‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫والذي نود �أن نقوله هنا هو‪� :‬أن يف الر�سالة ال�سماوية التي �أكرمنا اهلل ـ تعاىل ـ‬ ‫بها نظاماً للأ�صول والكليات ميثل املدار الأعظم الذي تتحرك يف فلكه اجلزئيات‬ ‫والفرعيات‪ ،‬وهذه الأ�صول لو�ضوحها ور�سوخها وقطعية ثبوتها لي�ست مناطاً لالجتهاد‬ ‫واجلدل والنظر‪ ،‬وهي �أ�صول ال تقبل التطوير والتحوير؛ لأن �أداءها ملهام كثرية �أبدية‬ ‫ي�ستلزم ذلك‪ ،‬و�إال ملا �أمكن ا�ستمرار االنتفاع بها‪ .‬وهذه الأ�صول متثِّل �إطاراً من‬ ‫الثوابت التي ال تقبل احلركة لأن وظيفتها تنظيم حركة الإن�سان وتوجيهها‪ .‬و�إىل‬ ‫جانبها هناك جزئيات وفرعيات كثرية تختلف فيها الأنظار واالعتبارات بني جيل‬ ‫و�آخر‪ ،‬و�أهل بلد و بلد �آخر‪ ،‬والنامو�س العام الذي يحكم هذه وتلك �أن ما ال يختلف‬ ‫مف�ص ًال وا�ضحاً‪ ،‬وهو يت�سم بالثبات النعدام‬ ‫باختالف الزمان واملكان والإن�سان جاء َّ‬ ‫دواعي التغيري‪ ،‬وما كان يختلف باختالف الأزمنة والأمكنة والأ�شخا�ص جاء‬ ‫جمم ًال‪ ،‬لي�س فيه �أكرث من توجيهات عامة هادية‪ ،‬حتى يتاح للمجتهدين امل�سلمني‬ ‫النظر فيه وتف�صيله بح�سب ظروفهم وحاجاتهم املتغرية واملتجددة‪ ،‬وعلى �سبيل املثال‬ ‫ف�إنه لن ي�أتي على النا�س زمان يرون فيه �أنف�سهم حمتاجني لأن ي�ضيفوا �صفة جديدة‬ ‫هلل ـ تعاىل ـ مل ُي َن َّ�ص عليها من قبل‪� ،‬أو �أن ي�ص ُّلوا الظهر �أربع ركعات‪� ،‬أو يقفوا على‬ ‫عرفات يف اليوم العا�شر وهكذا‪ ....‬فو�ضوح الثوابت ي�ساعد يف ر�سم امل�سارات العامة‬ ‫حلياة الأمة‪ ،‬وحتديد ق�ضاياها الكربى‪ ،‬و�إجمال الفرعيات يتيح لها احلركة والتجدد‬ ‫والتكيف و�إعادة ترتيب الأولويات و�إثراء فقه املوازنات‪...‬‬ ‫وهناك اليوم جهود جبارة ُتبذل من قبل فرقاء �أخفقوا يف تقدمي �شيء ذي بال‬ ‫لأمتهم‪ ،‬وعجزوا عن التفاعل مع �أُطرها الثقافية‪ ...‬جهود ُت َبذل للت�شكيك يف تلك‬ ‫الثوابت وطريقة حتديدها وبلورتها من قبل ال�سلف‪ ،‬حتى يتاح لهم �صرف الأمة عن‬ ‫‪196‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:20‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 196‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وجهتها التي والها اهلل �إياها‪ .‬وهم يتذرعون مبقوالت نقد الرتاث وا�ستلهامه و�إعادة‬ ‫قراءته وو�ضعه يف �إطاره التاريخي‪ ..‬وهذه امل�صطلحات كلها حق على م�ستوى النظر‪،‬‬ ‫لكنهم مل يريدوا منها �إال الباطل‪ ،‬و�إذا ما ُكتب لهم النجاح يف ذلك ف�إن هذا يعني‬ ‫�أن الأمة �ستدخل يف نفق مظلم تفقد فيه اجتاهها وان�سجامها مع نظام ثوابتها‪ ،‬و�سيكون‬ ‫ذلك ن�سياناً حلظ عظيم مما ُذ ِّكرت به‪ ،‬و�سيكون العاقبة عداوة وبغ�ضاء و�صداماً‪� ،‬إن‬ ‫كل انحراف على م�ستوى ال�سلوك ميكن تقوميه �إذا �سلمت الأ�صول‪� ،‬أما �إذا �ضاعت‬ ‫الأ�صول‪ ،‬و�أما �إذا حتول املعروف �إىل منكر‪ ،‬وحتول املنكر �إىل معروف‪ ،‬ف�إن اخلالف‬ ‫ي�صبح �ضربة الزب‪� ،‬إذ ينهدم الإطار املرجعي‪ ،‬وامل�ستند الفل�سفي الذي تتحاكم �إليه‬ ‫الأمة يف كل �شئون حياتها! �إن مقاومة تلك اجلهود املخ ِّربة واجب يف عنق كل �أولئك‬ ‫القادرين على مقارعة احلجة باحلجة؛ ولن يكون ذلك باخلطابة ولكن بالطرح املت�أين‬ ‫وبالفكر امل�ستنري املتوقد؛ واهلل امل�ستعان‪.‬‬

‫‪197‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:21‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 197‬‬


�� ������ ���.indd 198

29/04/2010 11:09:21 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮏﮐ ﮑﮒ‬ ‫قال اهلل ـ �سبحانه‪ :‬ﱹ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬

‫مين اهلل ‪ ‬يف‬ ‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﱸ الإ�سراء‪ُّ 70 :‬‬ ‫هذه الآية الكرمية على بني �آدم مبا حباهم �إياه من عل ِّو املنزلة‪ ،‬وتوفر الإمكانات‬ ‫واال�ستعدادات التي حجبها عن غريهم‪ ،‬ومبا ه َّي�أ لهم من �سبل العي�ش الكرمي للتمتع‬ ‫مبا �سخره لهم‪ .‬ولعلنا نوجز هنا بع�ض مظاهر ذلك التكرمي‬ ‫‪1‬ـ � َّأمد اهلل الإن�سان بنعمة العقل الذي هو جمموع الإمكانات الذهنية التي ِّمتكنه‬ ‫من �إدراك الأ�شياء على وجهها ال�صحيح‪ ،‬كما ِّمتكنه من �إيجاد البدائل واخليارات‬ ‫وحل امل�شكالت املختلفة‪....‬‬ ‫‪2‬ـ ميز اهلل الإن�سان عن باقي املخلوقات بالنطق الذي يتمكن به من البيان البليغ‪،‬‬ ‫والتعبري عن م�شاعره و�أفكاره‪ِّ ،‬‬ ‫وميكنه من تبادل اخلربات والتجارب مع �أبناء جن�سه‪.‬‬ ‫‪3‬ـ ملا كان الإن�سان ال ينه�ض بالعقل وحده‪ ،‬وال ميكنه من خالله �إدراك منطق‬ ‫العالقات الكلية يف هذا الكون �أر�سل له الر�سل ترتى‪ ،‬فكان العقل مبثابة العني‬ ‫‪199‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:21‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 199‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫املب�صرة‪ ،‬وكانت الر�ساالت مبثابة ال�ضياء ف�إذا كانت العني �سليمة �أمكنها ر�ؤية كل‬ ‫الأ�شياء التي غمرها النور‪.‬‬ ‫�سخر اهلل ـ �سبحانه ـ للإن�سان كل ما يف الأر�ض‪َّ ،‬‬ ‫ومكنه من �إدراك كثري من‬ ‫‪4‬ـ َّ‬ ‫العالقات القائمة بني الأ�شياء حتى ي�ستطيع ا�ستثمار الطبيعة على الوجه الأكمل‪،‬‬ ‫بث من النوامي�س ما يجعله ي�ستفيد من بع�ض الأجرام ال�سماوية كال�شم�س‬ ‫كما َّ‬ ‫والقمر والنجوم‪ ،‬و َو�ضَ ع ‪�-‬سبحانه‪ -‬من الت�شريعات ما يحفظ الطبيعة من التدمري‬ ‫واال�ستهالك اجل�شع؛ حتى يطول �أمد انتفاع الإن�سان بها؛ فجعل اهلل املبذرين �إخوان‬ ‫ال�شياطني يف �أن ك ًال منهم ُيف�سد‪ ،‬ويهدم ما حوله‪ ،‬ومل يبح قتل احليوان ملن ال يريد‬ ‫االنتفاع به‪ ،‬وحث على االقت�صاد يف املاء مهما كان كثرياً‪ ،‬كما حث على النظافة‬ ‫ال�شخ�صية والعامة؛ حتى ال تتلوث البيئة‪ ،‬وت�صبح غري �صاحلة للعي�ش الكرمي‪.‬‬ ‫‪5‬ـ م َّتع اهلل ـ تعاىل ـ الإن�سان بالإرادة احلرة التي يتمكن بها من اختيار االجتاه‬ ‫املنا�سب له‪ ،‬واخلروج من �أ�سر غرائزه و�شهواته‪ ،‬وبنى على ذلك م�ساءلة الإن�سان عن‬ ‫�أعماله؛ حتى تبتعد حياته عن العبث واللهو والفراغ وال�ضياع والعدوان‪.‬‬ ‫‪6‬ـ ّمد اهلل ـ تعاىل ـ يف وجود الإن�سان‪ ،‬فجعله يتجاوز احلياة الدنيا �إىل الآخرة؛‬ ‫فوجوده لي�س عار�ضاً كوجود اجلماد واحليوان‪ ،‬وع َّزز ذلك بفطره على النزوع �إىل‬ ‫البقاء وحب اخللود؛ فهو مت�ش ِّوف �إليه �أبداً‪ ،‬وم�ستعد لأن يتخلى عن كثري من رغباته‬ ‫العاجلة يف �سبيل الآجل املن َت َظر‪ ،‬مما خفَّف من غلواء التزاحم على متاع الدنيا‪،‬‬ ‫و�أ�شاع نوعاً من الت�سامح يف بع�ض الأمور‪.‬‬ ‫‪7‬ـ ك َّّرم اهلل ـ تعاىل ـ هذا الإن�سان حني راعى �أنواع ق�صوره اجل ِب ِّل ِّي‪ ،‬وحني راعى‬ ‫الطوارئ والعوار�ض التي ُتوقعه يف احلرج‪ ،‬ف�ساحمه مبا يقع منه نتيجة خط�أ �أو ن�سيان‪،‬‬ ‫‪200‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:21‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 200‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫كما خفَّف عنه يف �أحوال اال�ضطرار والإكراه وامل�شقَّة التي ال تحُ تمل‪.‬‬ ‫يحمله عواقب �أخطاء الآخرين‪،‬‬ ‫‪8‬ـ مل ي�ؤاخذ الإن�سان بذنب ارتكبه غريه‪ ،‬ومل ِّ‬ ‫ومع هذا وذاك ترك له �أبواب التوبة والأوبة م�شرعة ِم َّنة منه وكرماً‪ .‬فهل قابل الإن�سان‬ ‫كل �أ�شكال هذا التكرمي مبزيد من العبودية واالنك�سار وااللتزام ؟‬ ‫الواقع �أن �أكرث بني الإن�سان خالفوا �شروط اال�ستخالف و�أهدافه‪ ،‬فعملوا على‬ ‫ا�ستنزاف كل موارد الطبيعة ب�صورة ج�شعة وغري م�س�ؤولة‪ ،‬ول َّوثوا البيئة‪ ،‬و�أ�شاعوا يف‬ ‫الأر�ض الف�ساد‪ ،‬و�أعر�ضوا عما �أو�صتهم به ر�ساالت ال�سماء كافة من القيام ب�أمر اهلل‬ ‫والعمل للدار الآخرة ﱹ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﱸ �إبراهيم‪34 :‬‬ ‫والبد �إن ا�ستمر �أهل الأر�ض على هذا من �أن تنزل بهم ال�سنن التي نزلت مبن‬ ‫قبلهم‪ ،‬فهل من متدب ّر؟ وهل من ِّ‬ ‫متذكر؟‪.‬‬

‫‪201‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:21‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 201‬‬


�� ������ ���.indd 202

29/04/2010 11:09:21 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﭿ‬ ‫قال تعاىل‪ :‬ﱹ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ‬

‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﱸ احلجرات ‪13 :‬‬

‫يف هذه الآية نداء عام �إىل بني الإن�سان ببيان الأ�صل امل�شرتك‪ ،‬فهم ينحدرون من‬ ‫�أب واحد و�أم واحدة‪ ،‬وهم لأ�سباب كثرية متفاوتون يف ق�ضايا متعددة‪ ،‬لكن اخلالف‬ ‫الذي بينهم ميكن اعتباره بوجه من الوجوه تنوعاً‪ ،‬والتنوع يجمعه �إطار عام واحد‪،‬‬ ‫وهو يقت�ضي التكافل‪ ،‬ال التنافر‪ ،‬وهذا وا�ضح من لفظ ( لتعارفوا )‪.‬‬ ‫�إن ذلك التخالف والتنوع بني الب�شر مدعاة جادة �إىل ال�سعي نحو التفاهم‬ ‫والتعاون املثمر كي يتم �إعمار الأر�ض وب�سط �سلطان احلق و�إ�شاعة اخلري فيها‪� .‬إن‬ ‫املنهج العام للإ�سالم ِ ال يحبذ التوتر العاملي‪ ،‬وال ي�سعى �إليه للأ�سباب الآتية‪:‬‬ ‫‪1‬ـ �إن الإ�سالم دعوة لإ�صالح العامل و�إنقاذه‪ ،‬والتوتر عدو لدود النت�شار املبادئ‬ ‫والأفكار‪ ،‬ومن هنا نفهم بع�ض �سر قبول النبي × بال�شروط املجحفة لكفار قري�ش‬ ‫يف �صلح احلديبية‪ ،‬حيث �أراد �أن ُتلقي احلرب �أوزارها‪ ،‬لي َّعم ال�سال ُم احلجا َز‪ ،‬وينخف�ض‬ ‫‪203‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:21‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 203‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫التوتر‪ ،‬وي�صبح هناك جمال لإعادة النظر فيما ُيعر�ض على القبائل هناك من الدينونة‬ ‫لرب العاملني‪ ،‬وهذا الذي حدث‪.‬‬ ‫‪2‬ـ �إن التوتر العاملي يخدم �أ�صحاب القوة‪ ،‬ومل تكن القوة يف يوم من الأيام‬ ‫�أف�ضل ما ميلكه امل�سلمون‪ ،‬و�إمنا املبادئ والأ�س�س والقيم والنظرات ال�شمولية الثاقبة‪..‬‬ ‫ومن هنا دخل من دخل من النا�س يف الإ�سالم عن طريق االقتناع واحلب ال حتت‬ ‫�صليل ال�سيوف‪.‬‬ ‫‪3‬ـ �إن التوتر العاملي ي�ؤدي �إىل انهيار احلياة الفطرية وتدهور البيئات ون�ضوب‬ ‫املوارد على هذا الكوكب‪ ،‬مع �أن الإ�سالم يريد من بني الب�شر �أن ي�سعوا �إىل �إبقائه‬ ‫�صاحلاً حلياة طيبة كرمية ر�ضية‪ ،‬ولهذه الأ�سباب‪ ،‬و�أ�سباب �أخرى يحث الإ�سالم‬ ‫�شعوب الأر�ض على التعارف والتعاون‪ ،‬والبحث عن �أوجه الت�شابه بدل النفخ يف‬ ‫دواعي النزاع وال�شقاق‪ ،‬لكن الإ�سالم مع هذا يرف�ض ب�أن يكون ثمن ال�سالم العاملي‬ ‫ا�ستغالل الأقوياء لل�ضعفاء‪ ،‬وا�ستهالك موارد الطبيعة ب�صورة ج�شعة مل ي�سبق لها‬ ‫مثيل‪� ،‬أو �سيادة �أفكار الفجور واالنحراف والغواية‪ ...‬ومن هنا جاء تذييل الآية الكرمية‬ ‫بقوله �سبحانه‪� (( :‬إن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم )) فالتقوى مبعناها ال�شامل هي التي‬ ‫ينبغي �أن تكون معيار التفا�ضل يف ال�ساحة الدولية‪ ،‬ال القوة وال النفوذ‪� ،‬إن احلاجة‬ ‫�إىل التفاهم العاملي لي�ست مطلباً للفقراء‪ ،‬وال لأبناء الدول النامية‪ ،‬و�إمنا هي حاجة‬ ‫عامة‪ ،‬لأن م�شكالت الت�صحر وتلوث البيئة والهواء وارتفاع درجة حرارة الأر�ض‬ ‫املج َهد‬ ‫ون�ضوب مواردها �ستطال �آثا ُرها العامل كله دون ا�ستثناء‪ ،‬و�إن عامل الفقراء ْ‬ ‫النازف لن يقوى على اال�ستهالك املحفِّز للإنتاج بعد اليوم‪ ،‬وهذا �س ُيلحق �أوخم‬ ‫العواقب باقت�صاديات الدول املتقدمة‪� ،‬إنها لن جتد من ي�ستهلك منتجاتها‪ ،‬ومن ثم‪،‬‬ ‫‪204‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:21‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 204‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ف�إن كل الأنظمة العاملية اجلديدة‪ ،‬والقدمية �سوف ت�صري �إىل الإخفاق والزوال ما مل‬ ‫تراع التعددية واخل�صو�صية الثقافية‪ ،‬وما مل تقم على العدل وحماية احلق و�إن�صاف‬ ‫املظلوم وتر�شيد ا�ستخدام املوارد املتاحة‪ ،‬و�إذا ما مت ذلك ف�إنه �سيكون املدخل‬ ‫ال�صحيح �إىل �سالم عاملي يقرتب من اال�ستفادة من تراث الأنبياء‪ ،‬واالهتداء بخامتة‬ ‫ِّ‬ ‫و�سي�شكل ذلك كله الف�صل الأول من رواية العودة �إىل ريا�ض العبودية‬ ‫الر�ساالت‪،‬‬ ‫لرب العاملني‪.‬‬

‫‪205‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:21‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 205‬‬


�� ������ ���.indd 206

29/04/2010 11:09:21 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮰﮱﯓﯔﯕ ﯖ‬ ‫ﯗﯘﯙﯚ‬ ‫ﯛ ﯜﯝﯞ‬ ‫ذكر اهلل ـ تعاىل ـ هذه الآية يف �سياق احلديث عن املعركة الفا�صلة بني امل�ؤمنني‬ ‫بقيادة طالوت‪ ،‬وبني الكافرين بقيادة جالوت‪ ،‬وما انتهت �إليه من قتل داود جالوت‬ ‫مع �صغر �سن داود وق َّلة عدد جنده‪ .‬وت�شري الآية الكرمية �إىل ُ�سنة من �سنن اهلل يف‬ ‫الكون‪ ،‬هي �سنة ( املدافعة ) هذه ال�سنة التي ال جتعل اخلري خامداً �ساكناً يف ح ِّي ٍز‬ ‫�أوجهة كما ال ت�سمح لل�شر �أن يكون كذلك‪ ،‬فبينهما من التزاحم والتدافع ما ين�شِّ ط‬ ‫احلياة‪ ،‬و ُيطلق الطاقات املذخورة يف عقول الب�شر ودمائهم‪ .‬وقد فهم بع�ض املف�سرين‬ ‫يحجم بع�ضهم بع�ضاً‪،‬‬ ‫�أن التدافع يجري بني �أهل ال�شر والف�ساد فيتحولون �إىل فرقاء َّ‬ ‫وهذا ق�صور؛ �إذ �إن الآيات ال�سابقة على هذه الآية حتكي ق�صة املدافعة بني �أهل اخلري‬ ‫و�أهل ال�شر‪ ،‬بل �إن امل�شاهد يف هذه احلياة �أن �سنة التدافع عامة؛ فهناك تدافع من َّوع‬ ‫ي�شتد كلما ا�شتد اخلالف بني املتدافعني وي�ض ُعف‪ ،‬ويتهم�ش كلما احتدت املنطلقات‬ ‫والأهداف �إىل �أن ترى �شيئاً من التدافع يف نطاق الأ�سرة الواحدة‪ .‬وهذا التدافع‬ ‫�ضروري حلفظ التوازن احليوي على ُ�ص ُع ِد احلياة كافة‪ ،‬فال يطغى جانب على جانب‬ ‫‪207‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:21‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 207‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫وال عن�صر على عن�صر �آخر؛ فمن خالل الفعل ورد الفعل يتم حفظ التوازن‪ ،‬كما يتم‬ ‫ا�ستخراج �أف�ضل الإمكانات املخبوءة‪ ،‬ومن هنا ف�إن �أولئك الذين يح ُلمون بالعي�ش يف‬ ‫عامل ي�سوده ال�سالم والوئام‪ ،‬ويخلو من ال�صراعات‪� ،‬إمنا ميرحون يف حدائق من الوهم‬ ‫و�أحالم اليقظة الوردية؛ فمفرزات العقائد ومعطيات التاريخ وال�صراع على اجلغرافيا‬ ‫و�إغراءات تو�سيع النفوذ‪ ،‬كل �أولئك يجعل من منع ال�صراع �ضرباً من امل�ستحيل‪.‬‬ ‫و�إن العامل اليوم �أ�شبه بكتلة م�ضغوطة ال ميكن جلزء منها �أن يتمدد �إال على ح�ساب‬ ‫جزء �آخر‪ ،‬هذا ال يعني بال�ضرورة ثبات �أ�شكال ال�صراع وال ثبات منطقه و�أدواته‪،‬‬ ‫فلكل ع�صر �صراعه‪ ،‬ولكل �صراع منطقه وحموره‪ ،‬والذين ميلكون القدرة على فهم‬ ‫ع�صرهم وميلكون �آليات �إدارة ال�صراع هم الذين يربحونه‪ ،‬ومن هنا ف�إن الأمة �إذا‬ ‫كان لها �أن تختار �صراعاً من ال�صراعات‪ ،‬ف�إن عليها �أن تختار �ساحة ال�صراع التي‬ ‫متتلك �أدواتها‪ ،‬وتحُ �سن املغالبة فيها‪ ،‬ووا�ضح �أن االقت�صاد هو حمور �صراع هذا الع�صر‪،‬‬ ‫و�أن القادرين على التحكم يف مفا�صل حركته هم الذين ي�صبحون عمالقة‪ ،‬و�إن مل‬ ‫يريدوا؛ �أما �أولئك الفقراء واملحتاجون واجلياع‪ ،‬ف�سيظلون يبحثون عن مكان يف ذيل‬ ‫القافلة �إىل �أن يتبدل حمور ال�صراع‪ ،‬فتولد توازنات جديدة‪ ،‬وتربز قوى جديدة‪.‬‬ ‫فهل لأمتي من خيار ؟‬

‫‪208‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:21‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 208‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﰇﰈﰉﰊﰋ‬ ‫كان من �إكرام اهلل لهذه الأمة �أن بعث فيها ر�سو ًال من �أنف�سها يع ِّلمها‪ ،‬ويزكيها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وي�شكل عقولها على نحو معني ِّميكنها من بناء احلياة الدنيا على منهج اهلل ـ تعاىلـ‬ ‫ومراده‪ .‬والنا�س يف كل زمان ومكان ميالون للتعامل مع احلقائق على غري املنهج‬ ‫املطلوب‪ ،‬فكثري منهم يتيه عن �إدراك احلقيقة ب�سبب نق�ص يف خلفيته الثقافية‪� ،‬أو‬ ‫ب�سبب خلل يف تربيته �أو و�سطه االجتماعي‪�...‬أو‪ ...‬و�إيجاد بدائل عن احلقائق للتعامل‬ ‫معها فن ميار�سه النا�س يف �صور خمتلفة‪ ،‬فقد تكون خوفاً من الأ�شباح‪ ،‬كما قد تكون‬ ‫ت�شا�ؤماً من دار �أو ا�سم �أو رقم‪ ...‬ويف ع�صرنا احلا�ضر تطور الهروب من احلقيقة �إىل‬ ‫�أ�شكال خمتلفة �أكرث تعقيداً‪ ،‬فمن النا�س من يلقي اللوم يف �إخفاقه و�أخطائه على‬ ‫احلظ‪� ،‬أو على الظروف املحيطة‪� ،‬أو على اال�ستعمار والقوى العظمى‪ ،‬وقد �أراد القر�آن‬ ‫الكرمي من امل�سلم �أن يقف وهو يتعامل مع احلقيقة �أمام نف�سه وجهاً لوجه ان�سجاماً‬ ‫مع العامل الذي نعي�ش فيه‪ ،‬وهو عامل الأ�سباب وعامل املقدمات والنتائج‪ ،‬والوقوف‬ ‫�أمام النف�س باملراجعة واملفات�شة يعني بلوغ قمة املو�ضوعية‪ ،‬كما يعني وجود �إمكاني ٍة‬ ‫‪209‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:21‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 209‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ما للإ�صالح‪� ،‬إذ �إن �أدوات املرء التي يحتاجها يف البناء واملدافعة قد تكون ناق�صة‬ ‫�أو غري موجودة‪ ،‬مما يجعل وقوع العطالة �أمراً ال مفر منه‪ ،‬ولكن حني يكون االتهام‬ ‫موجهاً �إىل الق�صور الذاتي‪ ،‬ف�إن الظروف اخلارجية مهما �ساءت يكون ت�أثريها‬ ‫الأول َّ‬ ‫�آنذاك حمدوداً‪ ،‬فقد ال ي�ستطيع املرء يف بع�ض الأحيان �أن يدعو �إىل احلق الذي‬ ‫ي�ؤمن به‪� ،‬أو ال ي�ستطيع �إحالته �إىل واقع يف دنيا النا�س‪ ،‬ولكن ذلك ال مينعه �أبداً من‬ ‫�أن يحيا يف ظالل ذلك احلق يف ذات نف�سه‪ ،‬كما ال يوجد من ي�ستطيع منعه من‬ ‫�أن ميوت يف �سبيله �إذا اقت�ضى الأمر ذلك‪ .‬وحني �أ�صاب امل�سلمني ما �أ�صابهم يوم‬ ‫�أحد قال بع�ضهم‪ :‬ﱹ ﰄ ﰅﰆ ﱸ ؟ متعجبني من حلول الهزمية بهم وهم جند اهلل‬ ‫و�أوليا�ؤه وجاء اجلواب �صريحاً ومبا�شراً‪ :‬ﱹﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﱸ‪ ،‬ب�سبب ع�صيان‬ ‫الرماة لأمر النبي × �أو ب�سبب اخلروج من املدينة‪ ،‬وقد كانت رغبته القتال فيها‪،‬‬ ‫�أو ب�سبب قبول فداء الأ�سرى يوم بدر‪ .‬وكان بالإمكان التعلل ب�أن �أعداد امل�شركني‬ ‫كانت �أكرث من �أربعة �أمثال امل�ؤمنني‪� ،‬أو التعلل ب�أن عدة امل�سلمني �أقل و�أدنى من ِع َّدة‬ ‫امل�شركني‪� ،‬إىل ما هنالك مما ميكن للعقل الب�شري �أن يبتدعه‪ ،‬ولكن القر�آن الكرمي‬ ‫�أراد �أن ُي�شعرهم �أن ما َّ‬ ‫حل بهم كان ب�سبب �ضعف داخلي اعرتاهم يف �صورة من‬ ‫ال�صور‪ ،‬وقد ا�ستفاد امل�سلمون الأوائل من هذا الدر�س الثمني الذي دفعوا ثمنه دما ًء‬ ‫و�أ�شال ًء و�آالماً‪ ،‬و�صار االنكفاء على الذات باملحا�سبة واملراجعة �أحد الأ�س�س التي‬ ‫يقوم عليها الت�صور الإ�سالمي يف التعامل مع الأ�شياء والأحداث‪ ..‬ومن هنا ف�إن عمر‬ ‫ر�ضي اهلل عنه كان يخاف على جيو�شه املعا�صي والذنوب �أ�شد من خوفه عليهم‬ ‫من ُع َدد الأعداء و�أعدادهم‪� ،‬إذ �إن املعا�صي رمز الوهن النف�سي‪ ،‬وامليل �إىل الأهواء‬ ‫وال�شهوات مدعاة لأن َي ِك َل اخلالقُ ‪ ‬النا�س �إىل �أنف�سهم‪ ،‬والذي ينظر يف تاريخ‬ ‫‪210‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 210‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫�سلف الأمة يخرج بانطباع عام‪ ،‬هو �أن َّ‬ ‫جل اهتمامهم كان من�صرفاً لإ�صالح ذواتهم‪،‬‬ ‫ومبا�شرة ما ميكن مبا�شرته من الأعمال ا�ستجابة للمنطق الذي رباهم عليه هذا الدين‬ ‫من التكليف على قدر الو�سع‪ ،‬وعدم ت�ضييع املمكن يف طلب الع�سري �أو امل�ستحيل‪.‬‬ ‫قد تعلم �أولئك الأخيار �أن مبا�شرة املمكنات خري طريق لتذليل الع�سري وفق املقولة‪:‬‬ ‫((�إذا فعلنا ما هو ممكن اليوم �صار ما هو م�ستحيل اليوم ممكناً غداً))‬ ‫وهذا هو القر�آن الكرمي يخاطب امل�صطفى × بقوله‪ :‬ﱹ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ‬ ‫ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﱸ الن�ساء‪84 :‬‬

‫�إنه ت�صور رائع ملا ينبغي �أن يكون عليه امل�ؤمن من وجوب �أداء الواجب و�إبراء‬ ‫الذمة‪ ،‬ولو وقف وحده يعمل ويدفع‪ ..‬وك�أن هذا احل�س َّ الذي ك َّونه الإ�سالم عند‬ ‫ربى اهلل عليه ر�سله الأخيار من قبل‪ ،‬فهذا مو�سى ‪-‬عليه ال�سالم‪-‬‬ ‫امل�سلم امتداد ملا َّ‬ ‫يدعو قومه �إىل دخول الأر�ض املقد�سة‪ ،‬فيدعو اهلل ب�ضراعة م�شوبة باال�ستعداد لتنفيذ ما‬ ‫ميلك تنفيذه حيث يقول‪ :‬ﱹ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬ ‫ﭯ ﭰﱸ املائدة ‪ ،25:‬واليوم كثرياً ما يجتمع �أهل الغرية واخلري فينا‪ ،‬فيتحدثون‬ ‫يف �ش�ؤون العامل الإ�سالمي من �أدناه �إىل �أق�صاه م�ستعر�ضني العذابات والآالم التي‬ ‫ينف�ض املجل�س بعد ذلك عن مثل ما اجتمع عليه دون �أن‬ ‫يعي�شها ذلك العامل‪ ،‬ثم ُّ‬ ‫يكون قد تغري �شيء من ذلك احلال‪ ،‬وهذا يف البداية يدل على �أنه ما زال فينا ـ رغم ما‬ ‫املح�صالت‬ ‫�أ�صابنا ـ بع�ض الأوتار احلية‪ ،‬ولكن النظر ينبغي �أن ين�صرف با�ستمرار �إىل َّ‬ ‫والنتائج حتى ال ينطبق علينا املثل القائل‪� ( :‬أو�سعتهم �س َّباً و�أودوا بالإبل )‪.‬‬ ‫�إننا حني ن�ش ِّرق‪ ،‬ونغ ِّرب نتجاوز �أمرين مهمني‪:‬‬ ‫‪211‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 211‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الأول‪ :‬هو �أنف�سنا‪� ،‬إذ �إن احلقيقة املاثلة �أن امل�سلمني �إن كانوا متخلفني فنحن جزء‬ ‫منهم‪ ،‬و�أعمالنا ومواقفنا جزء من واقع التخلف‪ ،‬ف�إذا �أردنا �أن نقوم بعمل ذي �ش�أن‬ ‫فليتعاقد وليتعاهد الذين يبحثون �ش�ؤون العامل‪ ،‬وهم متكئون على الأرائك الوثرية‬ ‫على حماربة �أمناط من ال�سلوكيات اخلاطئة مثل الرتف والك�سل والفو�ضى وال�سلبية‬ ‫والأنانية �إىل �آخر ما يفي�ض به معجم الوهن من �ألفاظ‪ ...‬فذلك �أجدى من كالم كثري‬ ‫ال ُي�شبع جائعاً‪ ،‬وال يع ِّلم جاه ًال وال يرفع لذليل ر�أ�ساً‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬الو�سط العام ال�ضيق الذي نعي�ش فيه‪ ،‬حيث �إننا دائمو ال�شكوى من‬ ‫تلف العامل الإ�سالمي‪ ،‬وبد ًال من احل�سرة والأمل من كرثة‬ ‫كرثة �أنواع الق�صور التي ُّ‬ ‫�إعرا�ض النا�س عن �صالة اجلماعة ـ مث ًال ـ ب�إمكاننا �أن نزور �أحد جرياننا لنبني معه‬ ‫عالقة اجتماعية طيبة منرر من خاللها عدداً من الأفكار‪ ،‬من جملتها احلر�ص على‬ ‫�أداء ال�صالة مع اجلماعة‪ ،‬ثم متابعة ذلك دون كلل �أو ملل‪ ،‬وبهذا نكون قد �أوقدنا‬ ‫�شمعة‪ ،‬و�أ�ضفنا �إىل ر�صيد امل�سلمني نقطة‪ ،‬وال ينبغي �أن ُيف َهم من هذا �أننا ندعو �إىل‬ ‫عدم االهتمام ب�ش�ؤون امل�سلمني‪ ،‬و�إمنا املراد �أن نركز اهتمامنا على ما ميكن تغيريه نحو‬ ‫املن�شود‪ ،‬وال ينبغي �أن ننهي هذا املقال قبل الوقوف عند احلديث ال�شريف الذي‬ ‫عد معلماً بارزاً يف هذه الفكرة‪� ،‬أال وهو قوله ×‪�(( :‬س�ألت ربي ثالثاً‪ ،‬ف�أعطاين‬ ‫ُي ُّ‬ ‫اثنتني‪ ،‬ومنعني واحدة‪� ،‬س�ألته �أال ي�س ِّلط عليهم عدواً من غريهم‪ ،‬ف�أعطانيها‪ ،‬و�س�ألته‬ ‫�أال يجعل ب�أ�سهم بينهم‪ ،‬فرد علي )) ويف رواية‪ :‬يا حممد �إين �إذا ق�ضيت ق�ضاء ف�إنه ال‬ ‫يرد‪ ،‬و�إين �أعطيت لأمتك �أال �أهلكهم َب�س َن ٍة عامة‪ ،‬و� اَّأل �أ�س ِّلط عليهم عدواً من �سوى‬ ‫�أنف�سهم ي�ستبيح بي�ضتهم‪ ،‬ولو اجتمع عليهم من �أقطارها حتى يكون بع�ضهم ُيهلك‬ ‫‪212‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 212‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫بع�ضاً‪ ،‬وي�سبي بع�ضهم بع�ضاً))(‪.)1‬‬ ‫�إن كل �أنواع االعتداءات التي وقعت على هذه الأمة من خارجها كانت نتيجة‬ ‫ا�ستعداد لدينا لقبول العدوان‪ ،‬و�إن من دولنا و�شعوبنا من ازدادوا �سوءاً بعد خروج‬ ‫امل�ستعمر‪!!..‬‬ ‫�إننا نعاين يف حياتنا العامة من نق�ص يف الفهم ونق�ص يف الرتبية وق�صور يف احليوية‬ ‫وق�صور يف االلتزام‪ ،‬وحني نتالفى هذه الفنون من الوهن وال�ضعف ف�إنه لن ي�ضرنا‬ ‫كيد امل�ستعمرين ولو اجتمعوا من �أقطارها‪ .‬وهلل الأمر من قبل ومن بعد‪.‬‬

‫‪ -1‬رواه م�سلم وغريه بروايات عدة‪.‬‬ ‫‪213‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 213‬‬


�� ������ ���.indd 214

29/04/2010 11:09:22 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﮑﮒﮓ‬ ‫امت اهلل ـ تعاىل ـ على هذه الأمة حني بعث فيها ر�سو ًال من �أنف�سها يدلها على‬ ‫نَّ‬ ‫مرا�شد احلق ومقاطع ال َر�شَ د‪ ،‬و�أنزل عليه كتاباً َي َظ ُّل تذكرة لأوىل الألباب مهما ات�سعت‬ ‫�أمداء الزمان واملكان حيث تعهد بحفظه‪ ،‬فال متتد �إليه يد التغيري والتحريف على نحو‬ ‫ما �أ�صاب الكتب ال�سماوية ال�سابقة‪ ،‬فقال ـ �سبحانه‪ :‬ﱹ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ‬ ‫ﮝ ﮞﱸ احلجر‪ ،9 :‬وال ريب �أن حفظ اهلل ـ تعاىل ـ لكتابه هو الق َ​َدر الأعلى‬ ‫لكن ال�ستار لقدر اهلل ـ تعاىل ـ هم امل�ؤمنون ال�صادقون الذين يحفظون هذا الكتاب‬ ‫يف �صدورهم‪ ،‬و ُي�شيعون تالوته يف امل�ساجد والبيوت امتثا ًال لأمر اهلل بالعناية به‪ ،‬وقد‬ ‫قامت الأمة بجزء من واجبها جتاه الذكر احلكيم حني �أن�ش�أت املدار�س وا ِحل َلق حلفظه‬ ‫و�ضمه �إىل ال�صدور‪ ،‬ف�شاعت بذلك ثقافة قر�آنية عطرة يف �أو�ساط الأ�شبال وال�شباب‪،‬‬ ‫لت يف �سبيل يف ذلك جهود مربورة م�شكورة‪ ،‬و�إننا لننتظر منها املزيد‪ ...‬وهناك‬ ‫و ُب ِذ ْ‬ ‫جانب �آخر من جوانب الثقافة القر�آنية كان حمط �أنظار ال�سلف‪ ،‬بل كان لدى كثري‬ ‫منهم اجلانب الأهم‪ ،‬لكننا مل ُن ِعره االهتمام الكايف يف الع�صور املت�أخرة �أال وهو جانب‬ ‫‪215‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 215‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫( التدبر ) لذلك الكتاب‪ ،‬وحماولة الغو�ص على كنوزه ودرره بغية �إ�ضاءة دروب‬ ‫احلياة ب�أنواره الهادية يف عامل ي�سوده الظالم والتناف�س والتغيري ال�سريع‪� ،‬إن العامل‬ ‫اليوم يغرق يف املاليني من مفردات املعلومات والتفا�صيل ال�صغرية‪ ،‬لكنه فقد يف‬ ‫فقدها‬ ‫املقابل �إحكام الأ�صول والكليات‪ ،‬بل فقد االجتاه والأهداف العليا التي يعادل ُ‬ ‫فقد الوجود ذاته! و�صار الإن�سان احلديث يف ت�أمالته وت�صوراته �أ�شبه مبن حب�س نف�سه‬ ‫َ‬ ‫يف حجرة �صغرية‪ ،‬ثم �شرع يردد النظر يف حمتوياتها حتى �أحاط بها علماً‪ ،‬لكنه يجهل‬ ‫العمارة التي تقع فيها تلك احلجرة‪ ،‬كما يجهل احلي واملدينة والقا َّرة‪ ...‬ومما ي�ؤ�سف‬ ‫له �أن هذه احلالة البائ�سة قد �أ�صابت كثرياً من م�سلمي اليوم حيث حتولت م�شاغل‬ ‫احلياة اليومية ال�صغرية �إىل حماور جذب الهتماماتهم و�أن�شتطهم بعيداً عن الغايات‬ ‫والأهداف العليا التي على امل�سلم �أن يحقِّقها قبل �أن يرحل عن هذه احلياة‪� ...‬إن‬ ‫امل�سلمني مل يكونوا يف يوم من الأيام �أحوج �إىل تدبر القر�آن منهم يف هذه الأيام حيث‬ ‫اختلطت عند كثري منهم الثوابت باملتغريات‪ ،‬فط َّوروا ماح ُّق ُه الثبات‪ ،‬وجمدوا على ما‬ ‫حقه التغيري‪ ،‬وحيث فقد كثري من مبادئهم الفاعلية‪ ،‬فما عادت ِّتكيف حياتهم وال‬ ‫تو ِّلد لديهم طاقة احلركة والعطاء‪.‬‬ ‫التقدم العلمي وتدبر القر�آن‪:‬‬ ‫ال�ص ُعد النف�سية واالجتماعية والطبيعية فر�صاً جديدة‬ ‫�أتاح لنا التقدم العلمي على ُّ‬ ‫لتدبر القر�آن الكرمي على نحو مل يكن متاحاً ملن كان قبلنا‪ ،‬فالرتاكم الثقايف والعلمي‬ ‫�أدى �إىل تعاظم اخللفية الثقافية ومنوها منواً يق ِّرب الأذهان من فهم �إطالقات القر�آن‬ ‫الكرمي وتقييداته و�إمياءاته ب�صورة ح�سنة‪ ،‬و�إمنا قلنا هذا لأن الإن�سان حني يقر�أ ن�صاً ـ‬ ‫�أي ن�ص ـ يقر�ؤه عرب تفاعل ن�شط لإمكاناته الذهنية وخلفياته الثقافية مع الطاقات‬ ‫‪216‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 216‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫حت�سن م�ستمر‪ ،‬كما �أن‬ ‫الداللية للن�ص املقروء‪ ،‬ويف هذا الإطار ف�إن خلفيتنا الثقافية يف ُّ‬ ‫الطاقات الداللية والإيحائية للن�ص القر�آين تتجاوب مع كثري من ذلك النمو‪..‬‬ ‫ال�ص ُعد احلياتية كافة جاءت لت� ِّؤكد �أن‬ ‫�إن كل الإجنازات العلمية واحل�ضارية على ُ‬ ‫القر�آن الكرمي تنزيل من العليم اخلبري‪ ،‬و�صارت تلك املك َت�شفات تقوم مبهام ال�شارح‬ ‫واملف�سِّ ر لقوله ـ �سبحانه ـ ﱹ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬ ‫ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﱸ ف�صلت‪ ،35 :‬لكن متابعة ذلك‬ ‫وتنزيله على القر�آن يحتاج �إىل موازين دقيقة‪ ،‬حتى ال تقع يف ال�شطط‪.‬‬ ‫مت�س احلاجة �إىل تدبره‪:‬‬ ‫منازج مما ُّ‬ ‫ما�سة لتدبر جميع القر�آن الكرمي و�سوره‪ ،‬وامل�ؤ�شِّ رات‬ ‫�إن حاجة امل�سلمني �ستظل َّ‬ ‫الوقتية والظروف احلا�ضرة قد متلي علينا �أن ِّ‬ ‫نركز على بع�ض املحاور القر�آنية فقهاً‬ ‫وت�أم ًال وتدبراً على نحو ما ي�صفه الطبيب من الأدوية يف �أوقات خمتلفة‪ .‬وتواجه �أمتنا‬ ‫اليوم نوعاً من الركود احل�ضاري حيث �ضعفت �إنتاجيتها وطا�شت �أوزانها يف املعايري‬ ‫الدولية‪ ،‬و�صارت نهبة لكل طامع‪ ،‬وهذا يفر�ض علينا �أن نقوم بتحديد الأ�سباب‬ ‫والعوامل التي �أدت بنا �إىل هذه احلال مع وزن ت�أثري كل عامل من تلك العوامل‪ ،‬ثم‬ ‫تو�صيف احللول والعالجات وبيان �أولويات ا�ستخدامها‪ ،‬ويف هذا الإطار جند �أن من‬ ‫الواجب علينا �أن نتد َّبر ما يلي‪:‬‬ ‫‪1‬ـ نتيج ًة لكثري من الت�آمر وكثري من اجلور العاملي على �أمة الإ�سالم �ساد اعتقاد‬ ‫لدى العامة‪ ،‬وكث ٍري من اخلا�صة ب�أن م�صدر م�صائبنا هو العداء اخلارجي الذي نتعر�ض‬ ‫له و�أننا لو ُت ِركنا و�ش�أننا لكنا �شيئاً �آخر‪ ،‬وما دمنا نعي�ش يف دار االبتالء وتنازع البقاء ف�إن‬ ‫‪217‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 217‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫توجه الآخرين �إلينا بالأذية �سيكون مفهوماً‪ ،‬والقر�آن الكرمي ُير�شدنا �إىل �أننا �إذا كنا يف‬ ‫الو�ضع ال�صحيح ف�إن �آثار ت�أمر الأعداء �ستكون حمدودة‪ ،‬ويف هذا يقول ـ �سبحانه ـ ﱹ ﭸ‬ ‫ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﱸ �آل عمران‪ . 111 :‬ويقول‬ ‫ـ �سبحانه‪ :‬ﱹ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬ ‫ﯵ ﯶ ﱸ �آل عمران‪ ،120 :‬والتب�صر يف �آيات القر�آن التي تتحدث يف هذه امل�س�ألة‬ ‫مع التب�صر يف ال�ش�أن العاملي املعي�ش ِّ‬ ‫�سيمكننا من العي�ش يف حالة من التوازن العقلي‬ ‫والنف�سي ونحن نواجه حتديات الداخل واخلارج‪.‬‬ ‫موجهة نحو‬ ‫‪ -2‬مييل كثري من امل�سلمني اليوم �إىل جعل النقد عبارة عن �أ�شعة َّ‬ ‫اخلارج‪ ،‬فكل فئة ُتلقي تبعات امل�شكالت التي تعاين منها على فئة �أخرى‪ ،‬بل �إن‬ ‫جي ًال كام ًال ُيلقي تبعات ما يعانيه من �أزمات على الأجيال ال�سابقة‪ ،‬وعندما ُن ْن ِعم‬ ‫ق�ص علينا العديد من حاالت النقد‬ ‫النظر يف القر�آن الكرمي جند �أن اهلل ـ تعاىل ـ َّ‬ ‫الذاتي الذي مار�سه الأنبياء واملر�سلون ـ عليهم ال�سالم ـ مع ما �أكرمهم اهلل به من‬ ‫الع�صمة‪ ،‬وذلك حتى تت� َّأ�سى بهم الأجيال فتلتفت �إىل معاجلة الأخطاء واخلطايا التي‬ ‫اقرتفتها جتاه ربها و�أنف�سها‪ .‬ومما عر�ضه لنا القر�آن الكرمي يف هذا قول �أبينا �آدم وزوجه‬ ‫بعد الأكل من ال�شجرة‪ :‬ﱹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ‬ ‫ﭜ ﱸ الأعراف‪ .23 :‬وهذا يون�س عليه ال�سالم ي�ستغفر وي�سرتحم‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫ﱹﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬

‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﱸ الأنبياء ‪ ،87‬ويف هذا كله �ضروب‬ ‫من تعليم القر�آن الكرمي لنا وتعميمه لثقافة النقد الذاتي‪ ،‬وعلينا �أن نكت�شف املزيد‬ ‫من تلك الثقافة‪ ،‬و�أن ننفعل بها حتى ال ت�ستم َّر �ألوان االنحرافات وترتاكم‪..‬‬ ‫‪218‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 218‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪3‬ـ تكاليف الإ�سالم كثرية‪ ،‬و�ألوان الق�صور يف حياتنا �أكرث‪ ،‬وقد كرث الدعاة �إىل‬ ‫الإ�صالح‪ ،‬وجنح بع�ضهم �إىل التهويل من خطر االنحراف يف بع�ض الأمور على حني‬ ‫غفلوا عن �إ�صالح االنحراف يف �أمور �أخرى رمبا كانت يف موازين اهلل �أخطر‪ ،‬وميكننا‬ ‫�أن نتعرف على ذلك من خالل اهتمام القر�آن الكرمي نف�سه به وتكراره له يف �أ�ساليب‬ ‫عديدة‪ ،‬لأنه ِّ‬ ‫ي�شكل �أ�ص ًال �إذا ما مت االلتزام به ُح َّلت م�شكالت كثرية مرتبطة به؛‬ ‫ف�إ�سالم الوجه هلل وخوف يوم احل�ساب والإميان وال�صالة والزكاة والعدل والعلم‬ ‫والتقوى و�إ�شاعة اخلري واملعروف بني النا�س �أمور تكررت يف القر�آن الكرمي على وجه‬ ‫غزير الفت للنظر؛ لأنها متثل �أ�صو ًال َي ْ�صلح مبقت�ضاها دين الإن�سان ودنياه‪ .‬و�إذا ما‬ ‫نظرنا يف القر�آن وجدنا �إىل جانب هذا �أن القر�آن الكرمي مل يذكر الغيبة ـ مث ًال ـ �إال‬ ‫مرة واحدة‪ ،‬ومل يذكر ال�سرقة �إال مرتني �أو ثالثاً‪ ،‬وهناك حمرمات مل يرد ذكرها يف‬ ‫القر�آن الكرمي مثل حرمة لب�س الذهب واحلرير على الرجل امل�سلم‪ ..‬وال يعني هذا‬ ‫عدم حر�ص القر�آن الكرمي على �صون �أموال النا�س و�أعرا�ضهم �أو ا�ستهانته بخطر ولوغ‬ ‫امل�سلمني يف الرتف والبذخ مبقدار ما يعني �أن الإميان باهلل ـ تعاىل ـ حني يتمكن يف قلب‬ ‫يكف عن ارتكاب هذه القبائح‬ ‫امل�سلم وي�صحبه تذكر دائم ليوم احل�ساب‪ ،‬ف�إن امل�سلم ُّ‬ ‫وما دونَها‪ ،‬وحني ال تر�سخ تلك الأ�صول يف قلب امل�سلم وحياته اليومية‪ ،‬ف�إن االمتناع‬ ‫عن بع�ض املحرمات ميكن �أن يتم ب�صورة �شكلية ليقع امل�سلم يف بع�ض املعا�صي التي‬ ‫تخالف مقا�صد الت�شريع �أكرث من ذلك املحرم الذي نهى اهلل ‪ -‬تعاىل ـ عنه‪ ...‬ومن‬ ‫هنا ف�إن تدبر القر�آن الكرمي ُي�سعِفنا يف ترتيب �أولويات ما ينبغي عالجه‪ ،‬كما يفيدنا يف‬ ‫�إعطاء كل م�شكلة ما هي جديرة به من العناية والعمل‪.‬‬ ‫‪4‬ـ خلق اهلل ـ تعاىلـ بنى �آدم ليبلوهم �أيهم �أح�سن عم ًال‪ ،‬وذلك االبتالء يتجلى‬ ‫‪219‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 219‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫يف �أمرين �أ�سا�سيني‪ ،‬هما‪ :‬العبودية هلل ‪-‬تعاىل‪ -‬بفعل الأوامر واجتناب النواهي‪،‬‬ ‫و�إعمار الأر�ض من خالل الك�شف عن كنوزها‪ ،‬وتثوير الطاقات الكامنة فيها وك�شف‬ ‫العالقات القائمة التي حتكمها‪ .‬والذي نالحظه اليوم �أن كثرياً من امل�صلحني ان�صرفوا‬ ‫�إىل العناية باجلانب الثاين و�إهمال اجلانب الأول‪ ،‬فحركة الفكر تتجه ب�صورة متزايدة‬ ‫�إىل ت�أ�سي�س ثقافة تتمحور حول ق�ضايا الإعمار والبناء والعمل والرفاهية‪ ...‬على حني‬ ‫�أنه َّقل االهتمام لدى كثري من الباحثني وامل�صلحني بق�ضايا االلتزام وتطوير احلياة‬ ‫لتتكيف مع تعليمات ال�شرع احلنيف‪ ،‬وذلك كله ب�سبب طغيان احل�ضارة املادية‬ ‫احلديثة و�ضغطها على ثقافات �شعوب الأر�ض املختلفة‪ .‬والتدبر للق�ص�ص القر�آين‬ ‫�سينتهي بنا �إىل �أن ا�ستئ�صال الأمم ال�سابقة مل يحدث ب�سبب تق�صريها يف �إعمار‬ ‫الأر�ض والعزوف عن ا�ستنباط خرياتها‪ ،‬و�إمنا كان ب�سبب االنحراف عن منهج اهلل‬ ‫وع�صيان ر�سله! ويف هذا تذكرة لأولئك امل�سلمني الذين مل ُي ْف ِ�سحوا ـ �إن �أف�سحوا ـ‬ ‫يف خططهم احل�ضارية والتنموية للق�ضايا ال�شرعية والأخالقية‪� ،‬إال �أ�ضيق امل�ساحات‬ ‫املتعمد لكل ما يت�صل بجانب املنهج‬ ‫ ب�أن البالء القادم �سيكون من ذلك الإهمال َّ‬‫الرباين من ن�شره‪ ،‬وتربية النا�س على االلتزام به وبناء اخلطط احل�ضارية املختلفة يف‬ ‫هديه!‪.‬‬ ‫�إن حاجتنا �إىل مدار�س ِ‬ ‫وح َلق لتدبر كتاب اهلل ـ تعاىل ـ ال تقل عن حاجتنا �إىل‬ ‫مدار�س حفظ القر�آن الكرمي‪ ،‬و�إننا نتطلع �إىل �أن ينه�ض بع�ض �أهل اخلري يف هذا املجال‬ ‫من �أجل تر�سيخ قيم التدبر وف�ضله؛ وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل‪.‬‬

‫‪220‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 220‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﯷﯸﯹﯺﯻﯼ‬ ‫عد‬ ‫كان �أهل الكتاب يف جزيرة العرب ُيكثرِ ون من الأ�سئلة التي تتعلق ب�أمور ُي ُّ‬ ‫البحث فيها نوعاً من الف�ضول والرتف العلمي‪ .‬وكان مما وجهوه للنبي × من �أ�سئلة‪،‬‬ ‫ا�ستف�سارهم عن ماهية ( الروح) وكنهها على نحو ما ورد يف قوله تعاىل‪ :‬ﱹﯮ‬

‫ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﱸ الإ�سراء‪85 :‬‬

‫�إن املوقف العام للقر�آن الكرمي جتاه �شئون احلياة املختلفة لي�س حجر البحث‬ ‫والنظر وال ت�ضييق اخلناق على العقل‪ ،‬و�إمنا توجيه الإن�سان �إىل البحث واالهتمام‬ ‫مبا يعود عليه بالنفع والفائدة‪،‬وال�سيما �أن �إمكاناته وخرباته حمدودة و�ضئيلة‪ ،‬وهذا‬ ‫التذييل اجلميل للآية بالو�صف بقلة ما �أوتيه النا�س من علم يتنا�سب مع غمو�ض‬ ‫�ش�أن الروح وماهيتها‪ ،‬وتعقد و�صفها وا�ست�شفافها‪ .‬وعلى الرغم من اجلهود احلثيثة‬ ‫التي ُب ِذلت يف حقل الروح ف�إن �أقل ما حازه الإن�سان من العلم‪ ،‬واخلربة هو يف جمال‬ ‫الروح‪ ،‬وما يتعلق بها من �أ�سرار احلياة‪ ،‬وك�أنَّ الن�ص الكرمي يومئ �إلينا �أن ن�ستزيد من‬ ‫العلم ما دامت ب�ضاعتنا منه حمدودة‪ ،‬كما ير�شدنا �إىل �أال نغرت مبا لدينا من املعرفة‬ ‫‪221‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:22‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 221‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫مهما ك رُ َ​َب حجمه يف امل�ستقبل‪ ،‬لأن ذلك �سيظل بالن�سبة �إىل ما جنهله قلي ًال‪ ،‬وهو �إذا‬ ‫ما قورن بعلم خالق ال�سموات والأر�ض ال يعدو �أن يكون قطرة يف بحر‪.‬‬ ‫ويف القرن التا�سع ع�شر منح العلماء للعلم �أهمية بالغة‪ ،‬و�أناطوا به من الآمال‬ ‫العري�ضة ما ال ي�ستطيع حمله‪ ،‬وت�أثر رجال الإ�صالح لدينا �آنذاك بذلك ت�أثراً بالغاً‬ ‫لكن املعطيات العامة للقرن الع�شرين ر�سمت دوائر من ال�شكوك وخيبة الأمل حول‬ ‫كثري مما كان ُي َع ٌّد م�صادر للبهجة والأحالم اجلميلة‪ .‬واخلرباء مبجاري الأمور يدركون‬ ‫اليوم �أكرث من �أي وقت م�ضى َع ْج َز العلم عن الإدراك الكلي ملا ي�ؤدي �إىل تقدم‬ ‫الإن�سان‪ ،‬وفرزه عن العنا�صر التي ت�ؤدي �إىل تقهقره و�شقائه‪ ،‬وهذا �ضرب من �ضروب‬ ‫(قلة العلم ) التي تزداد و�ضوحاً يوماً بعد يوم‪.‬‬ ‫�إن االنتكا�سات التي يالقيها الإن�سان على ُ�ص ُعد عديدة‪ ،‬وال�سيما ال�صعيد‬ ‫حتجم الثقة باخلربات الب�شرية املرتاكمة‪ ،‬وتدفع‬ ‫االجتماعي والأخالقي بد�أت ِّ‬ ‫النا�س �إىل الي�أ�س واحلرية! وقد كانت الفل�سفة �أيام اليونان هي (ملكة العلوم )‪،‬‬ ‫ثم ّ‬ ‫حل الإح�صاء واعتماد لغة الرقم حملها على ما هو م�شاهد اليوم‪ ،‬لكن البنية‬ ‫الذهنية للعامل تتجه الآن نحو الفل�سفة من جديد بعد الت�أزم واالختناق الذي تعاين‬ ‫منه الب�شرية اليوم نتيجة هيمنة املنطق العملي‪ ،‬ورمبا كانت ال�صحوة الدينية العاملية‬ ‫تعبرياً عن بع�ض مالمح التوجه اجلديد‪ ،‬كما �أنها تعبري عن �إفال�س مناهج التقدم‬ ‫التي اعتمدتها احل�ضارة الغربية خالل القرون الثالثة املن�صرمة‪ ،‬وهذا �أي�ضاً من نق�ص‬ ‫علم الإن�سان وعجزه عن اال�ستقالل ب�إدراك ال�صراط امل�ستقيم دون عون وهداية من‬ ‫رب العاملني‪.‬ولعل من �أبرز ما ح�صل يف هذا القرن من ت�شكك يف كفاءة ما ا�ستحوذ‬ ‫عليه الإن�سان من علم ما جرى ( للأملان ) عقب احلرب العاملية الأوىل حيث تطلع‬ ‫‪222‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 222‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫العلماء الأملان �أثناءها �إىل مرحلة ما بعد احلرب على �أمل �أن يتطور العلم وتزدهر‬ ‫التقنية‪ ،‬وتتمتع �أملانيا مبزيد من الهيبة الدولية‪ ..‬لكن الهزمية الكارثية التي حاقت‬ ‫بهم َه َّز ْت �إميان الأملان بالنظام وعقالنية العامل‪ ،‬وبدا �أن ا�سرتداد العافية البد �أن‬ ‫ي�ستند �إىل فل�سفة جديدة تعمل على تقوية البواعث الإن�سانية والوجدانية اجلميلة‬ ‫�أكرث من تلك (اليد امليتة) والنظرة الآلية القدمية التي كانت �سبباً يف الهزمية‪ .‬و�ساد‬ ‫نوع من العداء لفكرة (ال�سببية)‪ .‬وعرب عن الأمل من الثقة الزائدة بالعلم و�أهله (‬ ‫كارل بيكر) وزير التعليم الرو�سي بقوله‪� (( :‬إن املبالغة يف تقومي املثقفني هو ال�شر‬ ‫الأ�سا�سي وما علينا �إال �أن نطالب مرة �أخرى مبا هو غري عقالين ))‪ .‬ونحن نتوقع �أن‬ ‫يح�صل مثل ذلك على ال�صعيد العاملي �إذا ما ا�ستمر الت�أزم يف االقت�صاد‪ ،‬وا�ستمرت‬ ‫احلياة الروحية يف الرتاجع!‬ ‫�إن الأحوال واملظاهر التي ت� ِّؤكد على ( قلة العلم ) لدى الإن�سان كثرية جداً‪،‬‬ ‫لكننا نريد هنا �أن ن�شري �إىل ثالثة �أن�ساق نظن �أنها مهمة يف هذا ال�صدد‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫‪1‬ـ يقولون‪�(( :‬إذا �أردت �أن تعرف امل�ستقبل فانظر �إىل املا�ضي)) ونحن �إذا‬ ‫نظرنا يف تاريخ العلم وجدنا �أنه ـ يف كثري من الأحيان ـ عبارة عن نظريات‬ ‫متنا�سخة‪ ،‬فكل جيل ي�شعر بالده�شة من �سذاجة الأجيال ال�سابقة‪ ،‬و�ضعف‬ ‫ح�صيلتها العلمية وت�سرعها يف �إ�صدار الأحكام الكربى دون مقدمات كافية‬ ‫ت�سندها‪ .‬ونحن نعتقد �أن �أبناء ع�صرنا لي�سوا بدعاً من الب�شر‪ ،‬و�أن �شيئاً مما نقوله‬ ‫عن غرينا �سوف يقال عنا! ومن ثم ف�إن من الأخطاء القاتلة �أن ُن�ضفي �صفة (‬ ‫النهائية ) على ما هو حتت الت�أ�سي�س‪ .‬وعلينا �أن نكون على حذر من ا�ستخدام‬ ‫العبارات الرنانة و�إطالق ال�شعارات الكربى حتى ال يكون م�ستقبلنا عالمة‬ ‫‪223‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 223‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ا�ستهزاء مبا�ضينا‪ ،‬فنحن مل ن�ؤت من العلم �إال قليالً‪.‬‬ ‫‪2‬ـ �إن من قلة علمنا �أن جهلنا �أظهر ما يكون عند البحث يف ال�ش�أن الإن�ساين‬ ‫اخلا�ص‪ ،‬فالباحثون يف علم االجتماع ويف علم النف�س خا�صة يجدون طرق البحث‬ ‫تت�شعب �أكرث ف�أكرث كلما ّ‬ ‫غذوا ال�سري قدماً‪ ،‬وي�شعرون به�شا�شة الأر�ض التي يقفون‬ ‫عليها‪ ،‬ويتوفر عدد �أكرب من االحتماالت كلما توغلوا يف م�سارات النف�س الب�شرية‪،‬‬ ‫على حني �أن الباحثني يف علوم الطبيعة يفيدون من �أنواع االنت�شار الأفقي للمعارف‬ ‫املختلفة يف التقدم الر�أ�سي احلثيث يف جماالت بحوثهم‪ .‬وال�سبب يف ذلك �أن العن�صر‬ ‫والنحات‬ ‫الروحي ما دخل يف �أمر �إال عقِّده مما يجعل املرء ي�شعر �أحياناً ب�أنه احلجر ّ‬ ‫معاً!‪ .‬و�صدق اهلل ـ تعاىل ـ �إذ يقول‪ :‬ﱹ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﱸ الذاريات‪21:‬‬ ‫‪3‬ـ ِّ‬ ‫ي�شكل املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل عنا�صر ( الدميومة ) الثالثة‪ .‬و ُيعذر املرء‬ ‫حني يعجز عن فهم املا�ضي واجرتاح امل�ستقبل لأ�سباب مو�ضوعية معروفة‪ ،‬لكن‬ ‫املده�ش حقاً هو عجز العلم الظاهر عن فهم الواقع و�سرب �أغواره! فالواقع الذي يدعي‬ ‫كل منا فهمه وا�ستيعابه �أكرث تعقيداً مما نت�صور‪ ،‬فنحن ال نفهمه �إال بعد �أن ن�شكله‬ ‫عرب عمليات ذهنية عديدة تقوم على ما لدينا من عقائد وخربات‪ ،‬وعلى العنا�صر‬ ‫املو�ضوعية التي ِّ‬ ‫ت�شكل الواقع‪ .‬و�إذا كانت �صالبة كل ر�أي نابعة من �صالبة العمليات‬ ‫الذهنية التي �أدت �إليه �أدركنا مدى الق�صور وال�ضعف الذي يعرتينا كلما �أردنا القب�ض‬ ‫على هذه املادة الهالمية املتفلتة! وذلك �أي�ضاً من قلة العلم وحمدوديته‪ ،‬مل نرد هنا‬ ‫نزع الثقة من العلم‪ ،‬وال التقليل من �ش�أنه‪ ،‬ولكننا �أردنا �أمرين‪:‬‬ ‫الأول‪� :‬أال نطلب من العلم توليد العقائد الكربى‪ ،‬وال الأهداف العليا للوجود‪،‬‬ ‫فذاك �شيء ذهب به الوحي‪ ،‬والعلم يتعلق باجلزئيات ال بالكليات‪.‬‬ ‫‪224‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 224‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الثاين‪ :‬التعامل املو�ضوعي املرن مع املعطيات العلمية التي ت�شتمل على �أجزاء‬ ‫متحركة‪ ،‬وتلك التي ما زالت يف طور الت�شكل والنمو‪ .‬و�إذا فعلنا ذلك �أمكننا �أن‬ ‫ن�ست�ضئ بالعلم دون �أن نحرتق بناره‪ .‬واهلل �أعلم‪.‬‬

‫‪225‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 225‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪226‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 226‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫ﭷﭸﭹﭺ ﭻ‬ ‫قال اهلل ـ تعاىل ـ‬

‫ﱹﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬

‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬

‫ﭿ ﱸ البقرة‪ ،79 :‬حتكي لنا هذه الآية الكرمية خُ لقاً قدمياً من �أخالق اليهود‪ ،‬وهو‬ ‫خُ ُلق التحريف والتزوير‪ ،‬ويزداد ذلك �شناعة حني يكون يف كالم اهلل الذي �أنزله‬ ‫ليكون هدى للنا�س‪ .‬وقد ذكر بع�ض املف�سرين �أن مما ح َّرفه اليهود يف التوراة تغيريهم‬ ‫بع�ض �صفات حممد × حتى ي�سدوا �سبل الهداية �أمام بني دينهم‪ ،‬وكان الدافع‬ ‫لذلك هو احلر�ص على املكا�سب واالمتيازات التي �ستذهب لو �أن اليهود دخلوا يف‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬فعمد �أحبارهم �إىل التزوير والتحريف‪ .‬وما �أ�شبه اليوم بالبارحة! فقد �شهد‬ ‫ع�صرنا �أكرب عمليات التزوير‪ ،‬ويف كل اجتاه حيث �صار كثري من م�صادر اخلرب وو�سائل‬ ‫انت�شاره يف �أيدي اليهود؛ وهذا ي�شكل حتدياً كبرياً �أمام العرب وامل�سلمني‪.‬‬ ‫وقد ا�ستق َّر كثري من الأعراف الدولية على عدم جواز تدخل دولة يف �ش�ؤون دولة‬ ‫�أخرى‪ ،‬كما ا�ستقرت على �ضمان حرية املعتقد و�ضمان حرية التعبري عن الر�أي لبني‬ ‫‪227‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 227‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الب�شر‪ ،‬ويف هذه الأجواء ف�إن امل�ستعمرين ( اجلدد) ال ي�ستطيعون دخول بلد دون‬ ‫توطئة منا�سبة ودون �إقناع للر�أي العام ب�أخالقية ذلك التدخل‪ ،‬ملا فيه من حفاظ على‬ ‫ال�سلم العاملي‪� ،‬أو ملا فيه من دفع الظلم وال�شر �إلخ‪ ....‬وبالن�سبة �إيل العامل الإ�سالمي‬ ‫فقد اتخذ حتريف مبادئه وواقعه �أ�سلوبني خمتلفني يف ال�شكل‪ ،‬متكاملني يف الطبيعة‬ ‫أ�سا�سه امل�ست�شرقون‪ ،‬ثم تلقفت و�سائل‬ ‫والوظيفة‪� ،‬أما الأ�سلوب الأول فقد و�ضع � َ‬ ‫الإعالم الغربية ح�صيلة البحوث والدرا�سات التي انتهوا �إليها هم‪ ،‬ومن يحطب يف‬ ‫حبالهم لتدجمها يف �أطروحتهم التحليلية والإخبارية املنا�سبة‪ ،‬وم�ضامني هذا الأ�سلوب‬ ‫تتمحور حول ت�شويه حقائق الإ�سالم ومبادئه و�إبرازه على �أنه مناق�ض لكثري من القيم‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬كما تتمحور حول ت�شويه �صورة نبي الإ�سالم × وت�شويه واقع ال�صحوة‬ ‫الإ�سالمية املباركة‪....‬‬ ‫�أما الأ�سلوب الثاين فهو اللعبة املف�ضلة لدى بع�ض من ُين�سب �إىل هذه الأمة حيث‬ ‫ال ي�ستطيعون ت�شويه الإ�سالم‪ ،‬وال القدح يف النبي × وهم يعلنون االنتماء �إليه‪،‬‬ ‫وحيث يحول ال�ضغط ال�شعبي دون ذلك‪ ،‬وهذا الأ�سلوب يقوم يف جممله على اتخاذ‬ ‫ال�صورة التي ر�سمها �أعداء الإ�سالم يف اخلارج له �إطاراً مرجعياً يجب على امل�سلمني �أن‬ ‫يحاكوه ويتماثلوا معه‪ ،‬ومن ثم ف�إن ال�صحوة الإ�سالمية هي غلو وانحراف عن الإ�سالم‬ ‫ال�سمح الكرمي امل�سامل الذي ي�شبه املاء يف �أنه لي�س له طعم وال ريح!!‬ ‫وحني كنت �صغرياً كنت �أعجب من كلمة واحدة يقولها املرء من غ�ضب اهلل‬ ‫فيهوى بها يف النار حيث ورد يف احلديث‪� (( :‬إن العبد ليتكلم بالكلمة من �سخط اهلل‬ ‫ـ تعاىل ـ ال يلقي لها با ًال يهوي بها يف جهنم )) والآن بعد �أن ر�أيت �أثر الكلمة وفنون‬ ‫لدي يقني ب�أن من الكالم ما يجاوز يف فظاعته اجلرائم الكربى!!‪..‬‬ ‫ا�ستخدامها �صار َّ‬ ‫‪228‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 228‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫لأنه ق ََّدم امل�ستند الفل�سفي لها‪� .‬إن بع�ض الك َّتاب �سيبعثون يوم القيامة ويف �صحائفهم‬ ‫رائحة الدم ـ مع �أنهم كانوا يف الدنيا �أجنب من �أن يحملوا �سكيناً ـ مبا كتبت �أميانهم‪،‬‬ ‫ومبا ا�شرتوا من عر�ض الدنيا الفاين‪.‬‬

‫‪229‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 229‬‬


�� ������ ���.indd 230

29/04/2010 11:09:23 �


‫في‬ ‫إشراقة آية‬ ‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫الفهرس‬ ‫مقدمة الطبعة الثانية‬

‫‪7‬‬

‫‪1‬‬

‫ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫‪2‬‬

‫ﯓﯔﭶﭷ‬

‫‪16‬‬

‫‪3‬‬

‫ﮉ ﮊ ﮋ‪.‬‬

‫‪27‬‬

‫‪4‬‬

‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ‪.‬‬

‫‪35‬‬

‫‪5‬‬

‫ﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰ‬ ‫ﯯ‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫‪6‬‬

‫ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‪.‬‬

‫‪51‬‬

‫‪7‬‬

‫ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ‪.‬ﰃ‬

‫‪59‬‬

‫‪8‬‬

‫ﭥ ﭦ ﭧ‪.‬‬

‫‪67‬‬ ‫‪231‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 231‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪9‬‬

‫ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ‪.‬‬

‫‪73‬‬

‫‪ 10‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ‪.‬‬

‫‪79‬‬

‫‪ 11‬ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ‪.‬‬

‫‪85‬‬

‫‪ 12‬ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ‪.‬‬

‫‪91‬‬

‫‪ 13‬ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ‪.‬‬

‫‪99‬‬

‫‪ 14‬ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‪.‬‬

‫‪107‬‬

‫‪ 15‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‪.‬‬

‫‪113‬‬

‫‪ 16‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ‪.‬‬

‫‪119‬‬

‫‪ 17‬ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ‪.‬‬

‫‪123‬‬

‫‪ 18‬ﯟ ﯠ‪.‬‬

‫‪131‬‬

‫‪ 19‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ‪.‬‬

‫‪137‬‬

‫‪ 20‬ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ‪.‬‬

‫‪143‬‬

‫‪ 21‬ﯡ ﯢ ﯣ‪.‬‬

‫‪157‬‬

‫‪ 22‬ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‪.‬‬

‫‪163‬‬

‫‪232‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 232‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪ 23‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ‪.‬‬

‫‪171‬‬

‫‪ 24‬ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‪.‬‬

‫‪179‬‬

‫‪ 25‬ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ‪.‬‬

‫‪185‬‬

‫‪ 26‬ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ‪.‬‬

‫‪191‬‬

‫ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭠ‬ ‫‪27‬‬ ‫ﭡ ﭢ ﭣ‪.‬‬

‫‪195‬‬

‫‪ 28‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ‪.‬‬

‫‪199‬‬

‫‪ 29‬ﭿ ‪.‬‬

‫‪203‬‬

‫‪30‬‬

‫ﮰﮱﯓﯔﯕ ﯖﯗﯘ‬ ‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‪.‬‬

‫‪207‬‬

‫‪ 31‬ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ‪.‬‬

‫‪209‬‬

‫‪ 32‬ﮑ ﮒ ﮓ ‪.‬‬

‫‪215‬‬

‫‪ 33‬ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ‪.‬‬

‫‪221‬‬

‫‪ 34‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ‪.‬‬

‫‪227‬‬

‫‪233‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:23‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 233‬‬


‫في‬ ‫إشراقة آية‬

‫‪234‬‬

‫� ‪29/04/2010 11:09:24‬‬

‫‪�� ������ ���.indd 234‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الكريم ّ‬ ‫بكار‬ ‫أ‪.‬د ‪.‬عبد الكريم ّ‬ ‫بكار‬

‫ال �أ�ستطيع �أن �أقول ‪� :‬إن ما كتبته يف هذا الكتاب هو من قبيل‬ ‫التف�سري �أو ال�شرح لبع�ض �آيات الذكر احلكيم‪ ،‬و�إمنا هو نوع من‬ ‫االنغما�س يف �ضيائه ونوع من احلوم حول حماه امل�صون‪ ،‬و�إننا‬ ‫�ستظل ننهل من فيو�ض القر�آن الكرمي‪ ،‬و�سنظل نقب�س من مفاهيمه‬ ‫و�إ�شاراته‪ ،‬كما �أنه �سيظل فيه ما ينقع الغلة ‪ ،‬وي�شفي ال�صدر‪ ،‬وينري‬ ‫الطريق ما تعاقب الليل والنهار‪ ،‬وال حاجر على ف�ضل اهلل وكرمه‪.‬‬ ‫�إنني حني �أتدبر �شيئاً من الكتاب العزيز �أ�شعر بدرجة عالية من الثقة‬ ‫علي �سوى �أن‬ ‫والطم�أنينة‪ ،‬و�أ�شعر �أنني �آوي �إىل ركن �شديد‪ ،‬ولي�س َّ‬ ‫�أم ِّتع القلب والوجدان ب�شالالت �أنواره املتدفقه ومعانيه ال�سامية‪...‬‬ ‫كلما ن�ضجنا �أكرث وعرفنا �أكرث وجدنا �أنف�سنا �أقدر على فهم القر�آن‬ ‫الكرمي واال�ستفادة من بركاته‬

‫مؤسسة اإلسالم اليوم ‪ /‬إدارة اإلنتاج والنرش‬ ‫اململكة العربية السعودية‬ ‫الرياض ص‪.‬ب‪ 28577 .‬الرمز ‪11447 :‬‬ ‫هاتف ‪ 012081920 :‬فاكس ‪012081902 :‬‬

‫للح�صول على هذا الكتاب ميكنكم‬ ‫التوا�صل عرب املوقع ‪:‬‬ ‫‪www.drbakkar.com‬‬

‫� ‪10/05/2010 12:26:09‬‬

‫في إشراقة آيه‬

‫واهلل ويل التوفيق‬ ‫د عبد الكرمي بكار‬

‫‪www.wojoooh.com‬‬

‫اململكة العربية السعودية ‪ -‬الرياض‬ ‫ت‪ 4918198 :‬فاكس‪ :‬حتويلة ‪108‬‬ ‫للتواصل والنرش‪:‬‬ ‫‪wojoooh@hotmail.com‬‬

‫‪���� �� ������ ���.indd 1‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.