طوق الطهارة رواية لـ محمد حسن علوان

Page 1




‫لوحة الغالف للفنانة الت�شكيلية ال�سعودية تغريد البق�شي‬ ‫‪www.bagshiart.net‬‬



‫© دار ال�ساقي‪،‬‬ ‫جميع احلقوق حمفوظة‬ ‫الطبعة الأوىل ‪2007‬‬ ‫الطبعة الرابعة ‪2013‬‬ ‫‪2013‬‬

‫‪ISBN 978- 1- 85516- 019- 4‬‬

‫دار ال�ساقي‬ ‫بناية النور‪� ،‬شارع العويني‪ ،‬فردان‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫�ص‪.‬ب‪ .5342/113 :.‬الرمز الربيدي‪6114 - 2033 :‬‬ ‫هاتف‪ ،+961- 1- 866442 :‬فاك�س‪+961- 1- 866443 :‬‬ ‫‪e- mail: info@daralsaqi.com‬‬

‫ميكنكم �رشاء كتبنا عرب موقعنا الإلكرتوين‬ ‫‪www.daralsaqi.com‬‬ ‫تابعونا على‬ ‫‪@DarAlSaqi‬‬

‫دار الساقي‬ ‫‪Dar Al Saqi‬‬


‫‪I‬‬ ‫بنيات متعددة‪.‬‬ ‫هذه املرة �أكتب ّ‬ ‫و�أعرف �أن فرق ًا �شا�سع ًا �سي�ؤمل ذهني‪ ،‬ولن ينتبه �إليه �أحد‪� .‬أنا الذي‬ ‫ورق ياب�س‪ ،‬و�أمار�س هذا القمار الثقيل‪ ،‬وقد انق�سم‬ ‫�أكتب الآن على ٍ‬ ‫�إمياين �إىل �أجزاء ال يعرف � ٌّأي منها طريق النافذة‪ ،‬وال �شكل ال�سماء‪.‬‬ ‫مل يبق عندي �إال ن�صف ال�شوق‪ ،‬ون�صف الليل‪ ،‬ون�صف اللغة‪ ،‬بعدما‬ ‫تركتني الأن�صاف الأخرى من �أجل حياة �أكرث جدوى‪ ،‬وطريق �أكرث‬ ‫�أمان ًا‪.‬‬ ‫هذا ما يجعلني بطيئ ًا وخائف ًا؛ �أكتب على مهل مثلما تُنق�ش التوابيت‪،‬‬ ‫و�أراقب يف �سطح ذهني مئات الوجوه التي ال �أعرف �أي ًا منها‪ ،‬ولكنها‬ ‫علي �أن‬ ‫طفرت فج�أة على الورق‪ ،‬مثل جماعات الغجر‪ ،‬و�صار لزام ًا ّ‬ ‫النيات املتعددة‪ ،‬بعد �أن‬ ‫�أرق�ص معها �أو �أموت غريب ًا‪ .‬حا�رصتني هذه ّ‬ ‫أكتب ب�أكرث من نية‪ ،‬مثلما ي�ستحيل �أن �أكتب ب�أكرث‬ ‫علي �أن � َ‬ ‫كان ي�ستحيل ّ‬ ‫من قلم‪ ،‬خ�شية �أن يخرجني هذا من فردية الكتابة‪ ،‬ويجعلني كالر�سامني‬ ‫الذين ير�سمون ب�ألوان كثرية‪ ،‬وال �أ�ستطيع �أن �أقلدهم يف �ضاللهم املتعدد‪،‬‬ ‫فما الذي يحدث الآن يا ترى؟‬ ‫‪5‬‬


‫�رصت مثل الأ�سرتايل الأ�صلي الذي ا�ستيقظ من النوم ليجد العامل‬ ‫ُ‬ ‫قد انتقل �إىل قارته‪ ،‬وقرر �أن ي�شاركه فيها! و�أنا ال �أعرف فن احلرب‪،‬‬ ‫وال حتى فن ال�سلم‪ ،‬وال �أعرف فع ً‬ ‫ال‪ ،‬معنى �أن يكون هناك �آخرون‬ ‫علي‬ ‫على وجه الكتابة‪� ،‬أقا�سمهم الوح�شة والنزق‪ ،‬فال يردون ّ‬ ‫تعودت �أن �أكتب الأحالم‪ ،‬و�أح�رشها يف‬ ‫قمي�صها املفقود‪� .‬أنا الذي‬ ‫ُ‬ ‫وجدت نف�سي هذه املرة‪ ،‬موقوف ًا‬ ‫كب�سولة حتت الل�سان‪ ،‬و�أن�ساها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫على جانب الطريق‪ ،‬متهم ًا بحيازة �أحالم باطلة‪ ،‬وكب�سوالت غري‬ ‫م�رشوعة!‬ ‫كيف ميكن �أن �أحت�سب �أجر هذه ال�ضو�ضاء يف غرفة من الروح‪،‬‬ ‫كانت هادئة‪ ،‬كما يليق بعا�شق �سابق؟ وكيف ميكن �أن يخرج هذا‬ ‫الكتاب ال�صعب من وراء الغياب‪ ،‬لي�ضطرين فج�أة �إىل تغيري عادات‬ ‫�أ�صابعي‪ ،‬و�سكنات يدي‪ ،‬وتقاليد الكلمات‪ ،‬ورائحة الورق‪،‬‬ ‫و ُيدخلني يف جدل طويل مع �ضمائر ال �أعرفها‪ ،‬وقوانني ال �أفهمها‪،‬‬ ‫ونيات ال ت�صلح �أبداً لكتابة كاملة؟‬ ‫ّ‬ ‫تقلقني هذه االنقالبات املفاجئة يف احلرفة التي ركدت داخلي‬ ‫ار�س االنقالبات‪ ،‬ولي�س‬ ‫مثل جدول قدمي‪ ،‬و�أنا ال �أعرف متام ًا كيف تمُ ُ‬ ‫زلت متم�سك ًا بهذا الد�ستور الب�سيط‪،‬‬ ‫يف تاريخي ثورة واحدة‪ .‬ما ُ‬ ‫وثقفت عليه قلبي‪،‬‬ ‫تعودته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وكتابتي ذات النية الواحدة هي كل ما ّ‬ ‫وال �أعرف من طرقاتها املت�شعبة �أكرث من حتديد البقعة املنا�سبة للكتابة‬ ‫فقدت الأر�ض‪ ،‬واجلل�سة املثلى لتخطيط القلب‪� ،‬إذا �أبى �إال �أن‬ ‫�إذا‬ ‫ُ‬ ‫كلمات‬ ‫يقي�س �أوجاعه بعر�ض الورق‪� ،‬أما �أن �أفتح دكان ًا غريب ًا من‬ ‫ٍ‬ ‫أقدم للمجهولني تقارير عن حزن حياتي‪ ،‬وعثارها‬ ‫وبراهني كبرية‪ ،‬و� ّ‬ ‫‪6‬‬


‫الذي ال ينتهي‪ ،‬فهذه ّنيات �صعبة‪ ،‬تعوق يدي‪ ،‬وجتعلها �أق�رص كثرياً‬ ‫مما كانت عليه‪.‬‬ ‫أكتب يف كنف م�صباح‬ ‫يف احلنني املا�ضي كان الأمر خمتلف ًا‪ُ .‬‬ ‫كنت � ُ‬ ‫ويفّ‪ ،‬يعرف وجهي �أكرث مني‪ ،‬ويعرف متى يتواط�أ طوع ًا مع اقرتاب‬ ‫البكاء‪ ،‬ثم ينطفئ عمداً عندما يبد أ� الأمل بجريف خارج الكتابة‪ ،‬والآن‬ ‫أرتكب كتاب ًة ت�شبه الرق�ص الو�ضيع يف �صخب ال�سامعني‬ ‫�رصت �‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الناكرين‪ ،‬وخونة احلكايات‪.‬‬ ‫ثمة ٌ‬ ‫حاولت �أن �أ�رشحه لقلة من‬ ‫فرق بني الكتابتني وال �شك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫النا�س الذين حت ّلقوا حويل ذات جزع‪ ،‬وا�ستجابوا للغناء اخلافت‪،‬‬ ‫وطقطقة احلنني‪ ،‬و�أ�شعلوا معي �أوراق كتابي‪ ،‬وجل�سنا نتدف أ� من‬ ‫الربد امل�شرتك‪ٌ .‬‬ ‫كبري بني الوعي الذي يحا�رصين الآن بقوانني‬ ‫فرق ٌ‬ ‫مريبة‪ ،‬مثل وجود �أنا�س �آخرين‪ ،‬حزانى‪ ،‬وملعونني‪ّ ،‬‬ ‫وقطاع �أمل‪،‬‬ ‫يتقاطعون معي يف ق�ص�ص مت�شابهة‪ ،‬وبكا ٍء باهت‪ ،‬وبني الالوعي‬ ‫اجلميل الذي تعلمته منها �أثناء كتابة النية الواحدة‪ ،‬والذي كان مينح‬ ‫�أوراقي ذات يوم م�ساح ًة ع�ضلية هائلة‪ ،‬ومتارين �شاقة من الأمل‬ ‫املوارب‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫فرق بني الرك�ض يف امل�ضمار الأنيق‪ ،‬ذي امل�سار الذي ال يقا�سمني‬ ‫راك�ض �آخر‪ ،‬وال ير�سلني �إال �إىل قارئة واحدة‪ ،‬وبني الرك�ض يف‬ ‫�إياه‬ ‫ٌ‬ ‫يباب من اجلائعني‪ ،‬واخلائفني‪ ،‬والعا�شقني‪ ،‬واملفقودين‪ .‬جميعهم لهم‬ ‫الأقدام نف�سها‪ ،‬والأوهام نف�سها‪ ،‬ويرك�ضون يف االجتاه ذاته الذي ال‬ ‫يف�ضي �إىل �شيء‪ ،‬وال يعود �إىل نقطة البداية اجلميلة �أبداً‪.‬‬

‫****‬ ‫‪7‬‬


‫لقد كان غريب ًا حق ًا �أنها َن�شرَ ت الكتاب بطريقتها‪ ،‬مثلما رتّبت كل‬ ‫حبنا بطريقتها �أي�ض ًا‪ ،‬وحاكت هذا الفعل من غيابها اخلفي البعيد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لأن الأقدار ال ت�صري �أقداراً �إال �إذا جاءت من البعيد اخلفي �أ�ص ً‬ ‫ال‪ .‬وهي‬ ‫بعيد ٌة‪ ،‬وخفية منذ �سنوات‪ ،‬وهذا الذي جاءين منها الآن‪ ،‬بنا ًء على‬ ‫م�صدره‪ ،‬ثم �أثره‪ ،‬ال ميكن بال ريب‪� ،‬إال �أن يكون قدراً‪ .‬لي�س عندي‬ ‫ٌ‬ ‫احتمال �آخر‪.‬‬ ‫قررت يل هذا‪ ،‬من دون �أن تخربين كيف ميكن �أن �أطرح ال�س�ؤال‬ ‫َّ‬ ‫مت�سو ًال و�أنا �أطرحه‪ ،‬لأن بع�ض الأ�سئلة‬ ‫الب�سيط‪ :‬ملاذا‪ ،‬وال �أبدو‬ ‫ّ‬ ‫الكربونية التي حتمل تاريخ �صالحية حمدوداً‪ ،‬ال تظل �إجاباتها ممكنة‬ ‫بعده‪ ،‬وتتحول �إىل �أ�سئلة غري الئقة‪ ،‬تخد�ش �سطوة الغياب الذي ترتديه‬ ‫هي بكل اقتدار‪ ،‬ومتار�سه ك�أنها مل ت� ِأت �أ�ص ً‬ ‫ال �إال لتغيب‪ ،‬مثلما يفعل‬ ‫التائبون الذين قرروا ا�ستعادة ميدالية الطهارة‪ ،‬بعد دورة حياتية �ضالة!‬ ‫ولهذا ال �أجد �أمامي �إال �أن �أحمل �أدوات الأ�سئلة الأخرى التي‬ ‫عانيت طوي ً‬ ‫ال عدم‬ ‫�رصت خبرياً يف ا�ستخدامها �أخرياً‪� ،‬أنا الذي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وفوجئت بالكتاب من�شوراً مثل‬ ‫أملت من ع�صيان الأ�سئلة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الفهم‪ ،‬وت� ُ‬ ‫�صحيفة عبد يحا�سبه اهلل قبل يوم احل�ساب بوقت طويل‪.‬‬ ‫هكذا رحت �أنقّب يف �صحراء هذا احلدث اجلديد بحث ًا عن‬ ‫�إجابات حمتملة‪ ،‬لأفعال امر�أة مزاجية‪ ،‬وغائبة‪ ،‬وبعيدة‪.‬‬ ‫الأكرث حرية مني كان �أبي الذي مل يفهم كيف �صار ابنه الذي‬ ‫ي�شاركه يف الغداء والع�شاء كل يوم‪ ،‬م�ؤلف ًا‪ ،‬بني ليلة و�ضحاها‪ ،‬بينما‬ ‫يف الأم�س فقط كان ال يهج�س بفكرة كتاب‪ ،‬وال يعرف كيف يرتّب‬ ‫ال عن �أن يرتّب كتاب ًا كام ً‬ ‫جبينه ف�ض ً‬ ‫ال‪ .‬كانت ت�سا�ؤالته �أكرث حمو�ضة‬ ‫‪8‬‬


‫من ك�أ�س الليمون الذي ي�ساعدين على جعل ارجتافات وجهي وتقل�صاته‬ ‫تبدو طبيعية‪ ،‬ومربرة‪ .‬ال�سيما و�أنا �أكذب عليه‪ ،‬كما مل �أفعل من قبل‪.‬‬ ‫بررت لنف�سي هذا االنتهاك‬ ‫ولكنه كذب الوهلة الأوىل‪ ،‬هكذا‬ ‫ُ‬ ‫كنت �أحتاج �أن �أفهم �أنا �أو ًال قبل �أن �أعيد‬ ‫الكبري حلقيقة عالقتي ب�أبي‪ُ .‬‬ ‫تن�سيق احلكاية ب�أكملها له‪ ،‬هو الذي ال يحرتم يف حياته �شيئ ًا �أكرث من‬ ‫الورق املر�صو�ص بني دفتني‪ ،‬ويجمع يف مكتبه‪ ،‬وم�ستودع املنزل‪،‬‬ ‫الوراقني القدماء الذين يفي�ضون احرتام ًا‬ ‫و�سطحه‪� ،‬آالف الكتب‪ ،‬مثل ّ‬ ‫للكتب حد اخلجل من كتابة �أحدها‪ .‬كان من املتوقع �أن يده�شه الآن‪،‬‬ ‫وهو يف ال�سبعني‪� ،‬أن الكتاب الذي مل يكتبه هو قط‪ ،‬كتبه ابنه الوحيد‬ ‫الذي مل تبد على مالحمه من قبل �سيماء الكتابة‪.‬‬ ‫لهذا هو اليوم يتكلم �أ�رسع من املعتاد‪ .‬غابت عني لوهلة نربته‬ ‫البطيئة الهادئة تلك‪ ،‬وراح يمُ ُِّر يل اندها�شه يف حكايات غري �رضورية‪،‬‬ ‫وبع�ض ال�ضحك الق�صري‪ ،‬ثم �أخذين �إىل مكتبه‪ ،‬وهو مي�سك بيدي‬ ‫طوال �صعودنا الدرج‪ ،‬ويفتح الباب‪ ،‬لندلف �إىل املكتب ّ‬ ‫املبطن‬ ‫بالرفوف اخل�شبية‪ ،‬و�أظهر الكتب اجللدية املدموغة بتلك العناوين‬ ‫الذهبية العتيقة‪ .‬تركني �أجل�س‪ ،‬ودار حول مكتبه الكال�سيكي‬ ‫ال�صغري‪ ،‬وراح يخرج من �أدراجه �أوراق ًا مكد�سة‪ ،‬وخمطوطات معدة‬ ‫للن�رش‪ ،‬ومعنونة فع ً‬ ‫ال‪ ،‬وبخط اليد‪ .‬كلها يف هيئة ورقية نهائية‪ ،‬جاهزة‬ ‫لأن تتحول �إىل كتاب حقيقي‪ ،‬ولكنها وقفت دون ذلك‪.‬‬ ‫“كلها من حرب العمر يا ولدي‪ ،‬ولكن �أخاف �أن تخرج �إىل النا�س‪.‬‬ ‫يف الن�رش �شجاعة كبرية‪ ،‬ما �شاء اهلل عليك‪� ،‬أما �أنا‪ ،”...‬وتنهد و�سط‬ ‫ابت�سامة منك�رسة ثم �أ�ضاف “‪ ...‬ال �أعرف هل كنت �س�أت�شجع يوم ًا‬ ‫‪9‬‬


‫على الن�رش �أو ال‪ ،‬حتى الآن‪ ،‬ومنذ زمن طويل‪ ،‬قلم الباركر الأثري‬ ‫الدرج‪ ،‬هو قارئي الوحيد �أي�ض ًا!”‬ ‫هو نا�رشي الوحيد‪ ،‬مثلما �أن هذا ْ‬ ‫وعلى مرمى ب�رصي كانت ملفات �أبي البال�ستيكية املر�صو�صة‬ ‫حتوي كل ما �أراد �أن يكتبه ذات يوم عن جتربته القدمية يف ال�سجن‪:‬‬ ‫ق�صا�صات الورق ال�صغرية الباهتة التي كتبها بنف�سه يف زنزانته الرطبة‬ ‫جدة‪ ،‬ب�أ�سطر مائلة‪ ،‬و�أ�سهم تنظم اجتاهات ال�سري لكلمات تائهة‪،‬‬ ‫يف ّ‬ ‫م�صورة منها هي‬ ‫ولدت يف ورقة �ضيقة جداً‪ ،‬لكنه كان ميتلك ن�سخ ًا‬ ‫ّ‬ ‫مرت‪ ،‬راحت‪ ،‬بوقاحة‪،‬‬ ‫نف�سها‪ ،‬بعد �أن الحظ �أبي �أن ال�سنوات التي ّ‬ ‫حتاول �أن متحو �شيئ ًا من حرب الكلمات الأزرق‪ ،‬وك�أن الزمن الذي‬ ‫�أرداه �سجين ًا مل يكتف بذلك‪ ،‬بل جتاوزه �إىل االعتداء ال�صارخ على‬ ‫ذاكرة ب�ؤ�سه‪ ،‬لي�رسق الأدلة والأحزان‪.‬‬ ‫ملف �آخر‬ ‫كان �أحد امللفات ي�ضم الق�صا�صات اخلم�سني تقريب ًا‪ ،‬بينما ٌ‬ ‫يحوي �أوراق ًا من�سوخة من روايات و�سري عديدة من �أدب ال�سجون‪،‬‬ ‫جمعها �أبي خالل قراءاته عام ًا بعد عام كلما وجد منها ما يتقاطع مع‬ ‫جتربته‪ ،‬ويقع فيها الأمل على الأمل‪ ،‬لعله يح�شد ما ي�ستعني به على كتاب‬ ‫�سنوات طويلة‪ ،‬قبل �أن يتغلب‬ ‫مل يكتبه حتى الآن‪ ،‬وظل يب�شرّ نف�سه به‬ ‫ٍ‬ ‫عليه طابع احلياة الرتيب‪ ،‬وترتاكم �أعوامه على ظهره‪ ،‬ويقرر تدريج ًا �أن‬ ‫يحت�سب عند اهلل �أجر هذا البوح الذي مل يحدث البتة‪.‬‬ ‫ويف ملف �آخر كانت جمموعة من الأ�رشطة ال�صوتية‪ ،‬وبع�ض‬ ‫الأجندات التلفونية ال�صغرية‪ ،‬ووريقات حتمل �أ�سماء �أ�شخا�ص‬ ‫وعناوينهم كان �أبي يرجع �إليها كلما احتاج �إىل ذلك �أثناء الكتابة‪،‬‬ ‫قال يل وهو ي�ضحك بع�صبية‪“ :‬معظمهم ماتوا ومل �أكتب الكتاب‬ ‫‪10‬‬


‫بعد!”‪ ،‬ثم تنهد‪ ،‬وو�ضع يده على كتفي وهو ير ّدد بيت ال�شعر الأثري‬ ‫لديه‪ ،‬والذي يقوله عند كل نازلة‪ ،‬و�أمام كل نعي يقر�أه يف اجلريدة‪،‬‬ ‫�أو ي�سمعه يف الأخبار‪“ :‬ذهب الذين ُيعا�ش يف �أكنافهم‪ ،”...‬و�أ�شاح‬ ‫بوجهه عني‪ ،‬و�أطف�أ نور املكتب ونحن نخرج منه‪ ،‬و�أكمل بقية البيت‬ ‫مت�ص ً‬ ‫وبقيت يف خلف كجلد الأجرب”‪.‬‬ ‫ال بالزفري‪...“ :‬‬ ‫ُ‬

‫****‬ ‫حمراب ال ميكن �أن تخطئه عيناي‪ .‬دائم ًا �أملح طائفة من‬ ‫يف وجهه‬ ‫ٌ‬ ‫الأحزان ت�صلي فيه‪ ،‬وال �أ�ستطيع متييز �أي منها‪ .‬ال يف�صح �أبي عن �أي‬ ‫�ضن بهذا البوح املعتق يف عينيه‪،‬‬ ‫من �أحزانه املنيبة اخلا�شعة‪ ،‬ولطاملا ّ‬ ‫و�أ�شفق عليه من النزول يف �آذان من ال ميلكون �شفاع ًة وال جزا ًء‪،‬‬ ‫وي�ؤمن �أن كل �شكوى ينطق بها يف الدنيا‪ ،‬حترتق‪ ،‬وت�صبح غري �صاحلة‬ ‫للآخرة‪ ،‬وك�أن الآالم �أ�صبحت عملة م�ؤجلة ليوم احل�ساب فقط‪،‬‬ ‫يدخرها لليوم الذي ت�صري فيه �آالمه قابلة للتداول‪ ،‬وت�شرتي‬ ‫ولهذا هو ّ‬ ‫له نعيم ًا وجنة!‬ ‫�شعرت ب�أنه �سيندم قريب ًا على هتكه كل هذه‬ ‫و�أنا �أ�سمع كالم �أبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الأدراج �أمامي بعد �أن يقر أ� كتابي فع ً‬ ‫ال‪ ،‬فال يجده �إال قطع ًا غري مت�صلة‬ ‫حب مل ي�ؤ َّد كما يجب �أن ي�ؤ َّدى احلب‪ ،‬فجاء ناق�ص الفرو�ض‬ ‫من ٍ‬ ‫والأركان‪ ،‬ومات على عجل‪ ،‬لتنب�شه امر�أ ٌة بعد �أن ت�س ّنه يف قربه فع ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫وتُلب�سه الكتاب‪ ،‬وتعيده �إىل النا�س‪ .‬ال ميكن هذا ال�شيخ الكال�سيكي‬ ‫الذي يكتب عن انك�سارات الظالم يف ال�سجن �أن يقبل مثل هذه‬ ‫‪11‬‬


‫الكتابة الدائخة‪ ،‬وال �أعتقد �أن عينيه �ستعربان �أكرث من مرتني كتاب‬ ‫ابنه الطارئ هذا‪.‬‬ ‫– وملاذا مل تخربين �أنك تكتب كتاب ًا؟ كنت �ساعدتك على الأقل‪.‬‬ ‫�أعرف‪ ،‬يف بريوت‪ ،‬وديع جالل‪ .‬جهبذ يف اللغة العربية‪ ،‬و�أعرف‬ ‫�سليم طرياين‪ ،‬عنده دواوين �شعر‪ ،‬وعنده خربة يف‪...‬‬ ‫قاطعته و�أنا �أعرف �أنه يتكلم وفق اعتبارات خمتلفة متام ًا عن حقيقة‬ ‫الأمر‪...‬‬ ‫– مل تكن فكرة جادة يا والدي‪ ،‬كانت جمرد هاج�س بعيد‪ ،‬وعندما‬ ‫التقيت النا�رش �صدفة‪ ،‬وقرر �أن‬ ‫كنت يف بريوت يف املرة الأخرية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يطبع كتابي‪.‬‬ ‫كتابي �أم كتابها؟‬ ‫أ�سميه و�أنا �أن�سبه �إىل نف�سي �أمام �أبي؟‬ ‫ماذا كان يجدر بي �أن � ّ‬ ‫ن�سجت الن�سيج‪ ،‬وهي التي خاطته‪ ،‬فلماذا‬ ‫كنت �أنا الذي‬ ‫ُ‬ ‫�إذا ُ‬ ‫تتحمل م�س�ؤولية �أكرب‪ ،‬وتختزل م�سافة‬ ‫�ألب�سه الآن وحدي‪ ،‬رغم �أنها‬ ‫ّ‬ ‫تد�س ا�سمها ال�شفاف بجوار ا�سمي ما‬ ‫�أبعد؟ �أمل يكن من املنا�سب �أن ّ‬ ‫دامت قد ارت َ​َك َب ْت معي كل �شيء يف الكتاب‪ ،‬ثم � ْأك َم َلت الطريق �إىل‬ ‫نهايته‪ ،‬و َن�شرَ َ ْت وحدها هذا الطل�سم القلبي امل�شرتك‪ ،‬من دون علمي؟‬ ‫تذكرت عندما ا�ستوقفتها ذات مرة‪ ،‬وهي تقلب معي دفرت‬ ‫ُ‬ ‫أنت تن�سقينها مثل‬ ‫خواطرها‪ ،‬ويومياتها غري املنتظمة‪ ،‬قلت لها‪ِ �“ :‬‬ ‫كتاب‪ ،‬حتى �أرقام ال�صفحات!”‪ ،‬واب َت َ�س َم ْت من كالمي ابت�سام ًة ت�شبه‬ ‫ابت�سامة �أبي ال�سابقة‪ ،‬وهزت ر�أ�سها قلي ً‬ ‫ال ف�سقطت خ�صلة كانت‬ ‫معلقة ب�شكل واه خلف �أذنها‪.‬‬ ‫‪12‬‬


‫– كتاب مرة وحدة؟ ال‪� ،‬صعبة‪.‬‬ ‫هكذا �أجابت بخجل‪ ،‬ثم �رصفت الكالم �إىل جمرى �آخر‪.‬‬ ‫كانت �صعبة هي الكتابة كما قالت‪ ،‬ولكن يبدو �أن تن�سيق الكتب‬ ‫الأخرى‪ ،‬والتطويح بها من بعد‪ ،‬لت�صيب حياتي يف ده�شة‪ ،‬مل يكونا‬ ‫بتلك ال�صعوبة ّ‬ ‫قط!‬ ‫عرفت �أن كتاب ًا با�سمي �أ�صبح على قيد احلياة‪،‬‬ ‫مر �أ�سبوعان منذ �أن‬ ‫ُ‬ ‫زلت حتى الآن �أت�ساءل عن مدى قدرتي على‬ ‫ويتداوله النا�س‪ ،‬وما ُ‬ ‫حتمل م�س�ؤولية هذه ال�شهادة احلربية الدكناء‪ .‬مل يكن هذا ما ي�ؤرقني‬ ‫فح�سب‪ ،‬بل ال �أدري �أي�ض ًا هل كانت هي قد فكرت يف احتمال‬ ‫ي�شم �أبي رائحتها يف الكتاب‪ ،‬ويظن �أن قلبي ما زال يفرز حب ًا‪،‬‬ ‫�أن ّ‬ ‫و�شجن ًا‪ ،‬رغم �أنها تركت هذا املنزل منذ ثالث �سنوات على الأقل‪.‬‬ ‫ال �أدري كيف �سيت�رصف �إذّاك‪ ،‬ولكن ما �أعرفه‪� ،‬أنه �سيحزن على‬ ‫ابنه الوحيد الذي ما زال يت�أمل‪ ،‬كما يقول الكتاب‪ ،‬وت�ضيع بذلك‬ ‫كل حماوالتي لإقناعه‪ ،‬طوال هذه ال�سنوات الثالث‪ ،‬ب�أين تغريت‪،‬‬ ‫وجتاوزت الدوخة العابرة‪ ،‬و�رصت �أقوى‪ ،‬و�أكرث حكمة‪.‬‬ ‫و�أفقت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫من حق قلبه ال�سبعيني �أال يدفع �رضائب قلبي الع�رشيني وخيباته‪ ،‬وهي‬ ‫البد �أنها مل تفكر البتة يف هذه ال�ش�ؤون ال�صغرية بني ابن و�أبيه‪ ،‬وال‬ ‫ترتكب كل هذه الفو�ضى فج�أة‪ .‬منذ �أن �شق وجودها‬ ‫�أدري ملاذا‬ ‫ُ‬ ‫نعول عليه‬ ‫ق�رشة هذه الأ�رسة ال�صغرية وهذا الن�سيان البطيء هو كل ما ّ‬ ‫لن�ستعيد حالة بيتنا املعتادة‪.‬‬ ‫حبها‬ ‫ولأننا متفقون على كل �شيء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اتفقت �أنا و�أبي و�أمي على ّ‬ ‫مع ًا‪ ،‬وفرحنا بها مع ًا‪ ،‬والتقيناها مع ًا‪ ،‬وحجزنا مكانها مع ًا‪ ،‬وح�سب‬ ‫‪13‬‬


‫هذا ال�سياق‪ ،‬كان من املحتم �أن نحزن عليها مع ًا‪ ،‬بعد �أن فوجئنا‬ ‫بظروفها ال�صعبة‪ ،‬واحل�صار الذي فر�ضه عليها ّ‬ ‫قطاع الأمل‪ ،‬وت�أملناها‬ ‫وهي تخرج من امل�شهد ببطء مثلما دخلت‪ ،‬و�صار بيتنا مليئ ًا بحزن‬ ‫معقد‪ ،‬يقبل الق�سمة على ثالثة‪ ،‬وال يقل �أبداً‪.‬‬ ‫كان ح�ضورها وغيابها‪ ،‬واالحتمال الفائت الذي كاد �أن يحول‬ ‫عددنا يف البيت �إىل �أربعة‪� ،‬أقوى �رضبة تتلقاها الأ�رسة منذ دخل �أبي‬ ‫ال�سجن‪ ،‬والآن نحن نحاول �أن نطرد من هذا البيت ثالثة �أحزان ذات‬ ‫�أعمار خمتلفة‪ ،‬و�آخر ما يحتاجه هذا البيت‪� ،‬أن �أخون وحدي هذه‬ ‫املحاوالت اجلادة‪ ،‬و�أكتب كتاب ًا!‬ ‫كانا يكربان بهدوء‪ .‬يتحوالن �إىل عجوزين‪ ،‬و�أنا معهما! كلنا‬ ‫نحمل القدر نف�سه من الطاقة‪ ،‬و�س ّلة الأفكار نف�سها‪ ،‬وحتى ف�صيلة‬ ‫الدم‪ ،‬وكلنا نكره عادات املدينة‪ ،‬ونتفق على �أن يبقى البيت �صحيح ًا‪،‬‬ ‫و�سليم ًا‪ ،‬ما دامت املدينة �صعبة وخاطئة‪ .‬ومل يبخل �أي منهما ب�أي‬ ‫�صحي ًا للحياة‪ ،‬لي�س معنوي ًا فقط‪ ،‬بل �إن �أبي‬ ‫جهد ليجعل البيت مكان ًا‬ ‫ّ‬ ‫و�ضع يف كل غرفة من غرف البيت‪ ،‬جهازاً لتنقية الهواء‪ ،‬وو�ضعت‬ ‫�أمي قوائم للطعام جتعل الأكل يف املطاعم اخلارجية خياراً خالي ًا من‬ ‫أدخلت الفريو�س احلزين �إىل �أجواء البيت‬ ‫اجلاذبية متام ًا‪ ،‬ووحدي �أنا �‬ ‫ُ‬ ‫تعود بالفعل حالته الثالثية‬ ‫الآمنة‪ ،‬و�أحدثت اخللل يف املكان الذي ّ‬ ‫الأزلية‪ ،‬ومل يرتجم نف�سه بعد �إىل حالة �أخرى‪.‬‬ ‫حل�سن احلظ‪ ،‬كانت عائلتنا من ال�صغر واحلياد بحيث �أ�شاحت‬ ‫عنها املدينة املغرورة بوجهها‪ ،‬ومل حتفل ب�إيذائها كما تفعل مع �آخرين‪.‬‬ ‫اعتقدت �أن هذه احلالة املرنة مفيدة جداً يف مدينة كالريا�ض‪،‬‬ ‫كثرياً ما‬ ‫ُ‬ ‫‪14‬‬


‫ال ميكن فيها �أن نتنب أ� من �أين �ست�أتي ال�صفعة االجتماعية القادمة‪،‬‬ ‫ولهذا ال�سبب‪ ،‬ل�سنا يف حاجة �إىل الكتب‪ ،‬وال الأحزان املتجددة‪.‬‬ ‫كان حري ًا بها �أن ت�ساعدنا على ن�سيانها بد ًال من �أن تنفخ الكدر القدمي‬ ‫يف وجوهنا مرة �أخرى‪.‬‬ ‫حتى اجلريان كانوا يت�شابهون معنا كثرياً‪ .‬اخرتنا جميع ًا �أن نقيم‬ ‫على حافة املدينة‪ ،‬ما دام خروجنا �إليها حمدوداً‪ ،‬لأن �أبي تقاعد منذ‬ ‫زمن طويل‪ ،‬بينما تقت�رص �صداقات �أمي على ن�ساء قليالت‪ ،‬ولذلك‬ ‫ا�شرتى �أبي البيت قريب ًا من اجلامعة من �أجلي فقط‪ ،‬و�أ�ستطيع من نافذة‬ ‫غرفتي �أن �أرى بهوها ال�شاهق‪ ،‬ومبانيها ال�شهباء ال�ضخمة‪ ،‬وال �أحتاج‬ ‫�إال �أن �أ�ستدير ب�سيارتي عرب الطريق الدائري الغربي حتى �أكون يف‬ ‫حرمها املزدحم بالطالب‪.‬‬ ‫كبري يف ال�سن‪ ،‬تبنى طف ً‬ ‫معوق ًا بعد �أن وهن‬ ‫جارنا تركي‪ ،‬رجل ٌ‬ ‫ال ّ‬ ‫العظم منه‪ ،‬وا�شتعل ر�أ�سه �شيب ًا ومل يهبه اهلل ولداً مثل زكريا‪ .‬كثرياً ما‬ ‫كان ي�ست�ضيف �أبي يف خيمته ال�صغرية امللحقة ببيته بعد �صالة املغرب‪،‬‬ ‫ويق�ضيان بع�ض الوقت يف الكالم‪ ،‬وم�شاهدة الأخبار‪ ،‬قبل �أن يخرجا‬ ‫مرة �أخرى �إىل �صالة الع�شاء‪ .‬كان طيب ًا وعفوي ًا ك�سائر الذين مل متت‬ ‫يف قلوبهم ع�شبة القرية بعد‪.‬‬ ‫ا�ستيقظت ذات �صباح على �صوته وهو يناديني من �صالة بيتنا!‬ ‫وبقيت وحدي نائم ًا‪ ،‬وملا جاء مو ّزعو‬ ‫كان �أبواي قد خرجا باكراً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�رشكة الغاز حلقن خزانه الكبري يف جانب البيت كما يفعلون عادة كل‬ ‫عدة �أ�شهر‪ ،‬مل �أجب دقاتهم على جر�س الباب‪ ،‬ومل تفعل اخلادمة‬ ‫�أي�ض ًا ح�سب قوانني �أمي‪ ،‬فكادوا �أن ين�رصفوا لن�ضطر �إىل انتظارهم‬ ‫‪15‬‬


‫مرة �أخرى �أ�سابيع طويلة‪ ،‬ولكن جارنا تركي ت�شبث بهم‪ ،‬وراح‬ ‫يطرق الباب ب�شدة حتى فتحت له م�أمونة‪ ،‬خادمتنا‪ ،‬التي ال تفتح‬ ‫الباب للغرباء مطلق ًا‪ ،‬وال ل�رشكة الغاز‪.‬‬ ‫– يا ح�سان‪ ...‬يا ح�ساااان‪...‬‬ ‫خرجت من غرفتي فزع ًا من هذا ال�صوت الغريب الذي مل ت�سمعه‬ ‫ُ‬ ‫من قبل جدران بيتنا‪ .‬وجدته واقف ًا يف منت�صف ال�صالة‪ ،‬وقد ّ‬ ‫غطى‬ ‫جبينه العرق‪ ،‬بينما كانت م�أمونة تقف عند مدخل ال�صالة‪ ،‬وهي‬ ‫زلت �أفكر كيف تراه‬ ‫تقلب عينيها بقلق بيني وبينه‪� ،‬أجبته و�أنا ما ُ‬ ‫و�صل �إىل هذه النقطة من عقر البيت وحده‪ ،‬و�أين �أبي و�أمي؟‬ ‫– يا ولدي ما تقوم ت�شوف حقني الغاز بغوا يروحون ويخلونكم؟‬ ‫– �سم يابو فهد‪ ،‬واهلل كنت نامي‪...‬‬ ‫– لو �أنهم راحوا كان ما ت�شوفونهم �إال بعد �شهرين!‬ ‫– يا �ساتر‪ ،‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬خري ان �شاء اهلل‪.‬‬ ‫غ�سلت وجهي على عجل‪ ،‬و�أنا �أ�ضحك من عفويته الفجة تلك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نزلت م�رسع ًا لأوافيهم عند الباب‪ ،‬كان ال يزال واقف ًا معهم‪،‬‬ ‫وعندما ُ‬ ‫حياين حتية ال�صباح وهو يه ُّز ر�أ�سه ب�أ�سف‪ ،‬قبل �أن يدور على عقبيه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املعوق‪ ،‬قد بلغ احلادية ع�رشة من عمره‬ ‫ويتجه �إىل بيته‪ .‬كان ابنه فهد‪ّ ،‬‬ ‫يعرج ب�شدة‪ ،‬ويتكلم ب�صعوبة‪ ،‬ويجل�س‬ ‫متام ًا يف كنف هذا الرجل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫دائم ًا �أمام باب املنزل‪ ،‬يراقب ال�سيارات الذاهبة والآتية‪ ،‬وال ريب �أنه‬ ‫هو الذي �أخرب �أباه ب�سيارة �رشكة الغاز التي تدق بابنا‪.‬‬ ‫يف اجلهات الأخرى تناثر جريان �آخرون‪ ،‬ما بني الكثري من‬ ‫امل�ساحات الفارغة‪ .‬كان احلي جديداً ن�سبي ًا‪ ،‬تنمو فيه في ّ‬ ‫ال رمادية‬ ‫‪16‬‬


‫جديدة كل عدة �أ�شهر‪ ،‬وحتتل م�ساحة من الأفق‪ .‬وكلما انتهت �إحداها‪،‬‬ ‫وانتقل �إليها �ساكنوها‪ ،‬طرق بابهم جارنا تركي‪ ،‬و�أقام لهم وليمة ع�شاء‬ ‫ال نغيب عنها �أنا و�أبي مطلق ًا‪ ،‬وهو الذي قاد حملة لدى وزارة ال�ش�ؤون‬ ‫الإ�سالمية لتغيري �إمام احلي‪ ،‬لأنه يرتّل القر�آن مثل الأنا�شيد الإ�سالمية‪،‬‬ ‫ولي�س مثلما تعودوا‪ ،‬وال يحرتم كبار ال�سن‪ ،‬ويت�أخر يف احل�ضور ل�صالة‬ ‫الفجر‪ ،‬وعندما ي�أتي يكون امل�ؤذن قد �أ ّم النا�س‪ ،‬و�صلى‪ .‬كان تركي هو‬ ‫املحور االجتماعي للحي‪ ،‬عنده تت�صل الو�شائج‪ ،‬و�إليه تنتهي كل �أخبار‬ ‫احلي‪ ،‬ولوال وجوده ال�رضوري‪ ،‬النعزلنا متام ًا عن كل من حولنا‪ ،‬لأن‬ ‫�أبي مل يكن اجتماعي ًا على الإطالق‪ ،‬وال �أنا‪.‬‬

‫****‬ ‫كان واحداً من �أغرب �أيام حياتي!‬ ‫ال�ساد�سة م�سا ًء‪ ،‬ات�صل بي ٌ‬ ‫رجل ال �أعرفه‪ ،‬وال هو يعرفني‪ ،‬و�ضاعت‬ ‫عدة جمل يف احلوار امل�ضطرب و�أنا �أحاول تف�سري �أ�سلوبه وهو يتكلم‬ ‫ّ‬ ‫وظل يفرت�ض طوال‬ ‫متلق للمكاملة‪ ،‬ولي�س هو الذي ات�صل‪،‬‬ ‫وك�أنه ٍّ‬ ‫كنت �أنتظرها منه‪� .‬سادت حالة من عدم التفاهم‪ ،‬وكنت‬ ‫الوقت �أنني ُ‬ ‫زلت �أحاول فك رموز املكاملة‪،‬‬ ‫قد‬ ‫تواً من النوم‪ ،‬وما ُ‬ ‫ُ‬ ‫ا�ستيقظت ّ‬ ‫وتو�ضيح ال�صورة ب�صعوبة‪ ،‬وعيناي جتو�سان يف ظالم الغرفة‪ .‬راح‬ ‫�صوته يبعرث غيوم النوم‪ ،‬ويعيدين �إىل يبا�س اليقظة‪ ،‬وهو يكرر اجلملة‬ ‫نف�سها �أكرث من مرة‪“ ،‬فيه ظرف‪ ،”..‬ما يتنافى مع رغبته ال�رضورية يف‬ ‫ورحت � ُ‬ ‫أفرك جبيني وك�أين �أ�ستح ّثه‬ ‫اعتدلت �إثر �ضجعتي‪،‬‬ ‫التو�ضيح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪17‬‬


‫خل�صت‬ ‫على الفهم‪ ،‬وبعد حماوالت عديدة مع لغته العربية الركيكة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�إىل �أنه يحمل يل طرداً من بريوت‪ ،‬ال �أكرث‪.‬‬ ‫كنت م�ستمراً يف تقليب‬ ‫قبل هذا مل يكن ثمة جديد يف حياتي‪ُ ،‬‬ ‫نفرق ظاهره من باطنه‪،‬‬ ‫الأيام مثل ن�سيج من ال�صوف‪ ،‬ال ميكن �أن ّ‬ ‫و�سعيداً بهذه احلالة ال�صوفية �سعادة الذي ما زالت على جلده �آثار‬ ‫عراء وبرودة‪ ،‬ومل يكن خيط ال�صوف لتلك الليلة ليختلف عن املعتاد‪،‬‬ ‫بل كان �أه ً‬ ‫ال يف عاديته لأن ين�ضم �إىل الن�سيج‪ ،‬و�إىل العامني امل�سطحني‬ ‫مرا على حياتي ب�سالم وتوا�ضع‪ ،‬لوال هذه املكاملة‬ ‫الب�سيطني اللذين ّ‬ ‫أدون يف ورقة �صغرية قرب �رسيري‬ ‫التي نكثت العهد‪ ،‬وجعلتني � ّ‬ ‫عنوان مكتبة الزهراء‪ ،‬لألتقي هذا املجهول الذي وراء الطرد‪.‬‬ ‫طفيف بالرهبة و�أنا �أنهي املكاملة‪ .‬هل كان احلد�س‬ ‫�شعور‬ ‫دهمني‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫�شممت رائحة امر�أة بعيدة َّ‬ ‫فكرت ّ‬ ‫يف فج�أة‪� ،‬إنْ كانت للأفكار‬ ‫�أم �أين‬ ‫ُ‬ ‫روائح ميكنها �أن جتو�س يف ليل مدينة ب�أكملها؟ عادت يدي لتلتقط‬ ‫وعدت لأ�ضطجع على‬ ‫الهاتف مرة �أخرى‪ ،‬وتبحث عن رقم �أمين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�رسير يف انتظار رده‪.‬‬ ‫– مرحب ًا‪.‬‬ ‫– �أمين‪ ،‬هل تورطنا يف عالقة ما يف بريوت‪ ،‬ون�سينا؟‬ ‫وي�ضحك �أمين‪ ،‬و�أنا � ُ‬ ‫أفرك عيني من ثقل النوم‪ ،‬و�أحاول �أن �أرتب‬ ‫حريتي بهذه ال�سخرية املفتعلة‪.‬‬ ‫– رمبا‪ ،‬لي�ش ت�س�أل؟‬ ‫– �شخ�ص ات�صل بي الآن‪ ،‬ويقول �إنه يحمل طرداً من بريوت‪،‬‬ ‫با�سمي‪.‬‬ ‫‪18‬‬


‫– رمبا خمالفة مرورية‪.‬‬ ‫– طرد يا �أمين‪� ،‬أية خمالفة هذه التي بحجم طرد!‬ ‫– رمبا ر�ضيع �إذاً‪ ،‬مرت ت�سعة �أ�شهر على عودتنا‪ .‬وال �أعرف‬ ‫بال�ضبط كيف كان م�ستوى ذنوبك‪.‬‬ ‫– �أقل بكثري من ذنوبك يا عزيزي‪ .‬مع ال�سالمة‪.‬‬ ‫ولفرط ا�ستتباب �أيامي وب�ساطة جمرياتها �آنذاك‪ ،‬كانت فكرة‬ ‫أ�شخا�ص وراءه‪ ،‬مثرية جداً‪،‬‬ ‫ب�سيطة‪ ،‬مثل �أن �أتنب أ� بطرد جمهول و�‬ ‫ٍ‬ ‫ولذلك قررت �أن �أنه�ض من ال�رسير وال �أكمل نومي‪ ،‬وعندما دخلت‬ ‫ركزت �أفكاري �إىل م�ستوى يقلل الكثري من �إثارة‬ ‫انتعا�ش اال�ستحمام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الأمر‪ .‬رمبا كان طرداً دعائي ًا من الفندق مث ً‬ ‫ال‪( ،‬ولكن ملاذا ال ي�صل‬ ‫�إىل بريدي؟) رمبا كان طرداً خاطئ ًا مبا �أن الرجل الذي ات�صل مل يذكر‬ ‫�سوى ا�سمي الأول فقط‪.‬‬ ‫كنت �أنا والطرد وحدنا‪ ،‬يف ال�سابعة والربع‬ ‫بعد �ساعة تقريب ًا‪ُ ،‬‬ ‫من ليل الريا�ض املزدحم‪� ،‬أجل�س يف �سيارتي التي ركنتها يف طرف‬ ‫احلي الذي فيه املكتبة‪ ،‬ي�أتيني عن قرب �ضجيج ال�شارع العام‪ ،‬ومن‬ ‫ورائي يرتدد �أزيز امل�آذن التي بد�أت حت�شد م�ص ّليها ل�صالة الع�شاء‪ ،‬وال‬ ‫�أزال‪� ،‬أتذكر تفا�صيل املوقف‪ ،‬و�صعوبة تغليف ذلك الطرد املتوا�ضع‪،‬‬ ‫والكتاب الذي �صافح ده�شتي الكبرية‪ ،‬بكل �صلف وبرودة‪.‬‬ ‫أولية يف حنجرة ملأى بالبوح‪ ،‬ولي�س‬ ‫كان عنوانه يبدو مثل �شهقة � ّ‬ ‫بو�سعي �أن �أنفي �أُلفته و�أنا الذي اخرتته �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬ولكنه كان �آنذاك نائم ًا‬ ‫خاو من مواقع‬ ‫متعرقة‪ ،‬يف موقع ٍ‬ ‫بني دفتي �سطر ما‪ ،‬يف �صفحة رمادية ّ‬ ‫الإنرتنت‪ ،‬ال يطرقه �إال �أنا وقلة معدودة‪ ،‬ولكنه الآن يبدو خمتلف ًا‪ ،‬وال‬ ‫‪19‬‬


‫ميكنني �أن �أتفاهم معه وقد �صار مدموغ ًا بهذا احلرب الأحمر على هامة‬ ‫كتاب‪.‬‬ ‫أملت‬ ‫كان الفهم يتباط�أ يف عقلي وك�أنه ال يريد �أن يكتمل‪ .‬ت� ُ‬ ‫الكلمتني اللتني ّتربعتا فوق الغالف‪ ،‬مت�شجرتني مثل عروق ورقة‬ ‫و�صيتني على كل ما وراءه من �أوراق عديدة يتيمة‪ ،‬ال‬ ‫العنب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أملت ا�سمي الذي يرت ّبع فوق العنوان مثل‬ ‫عالقة يل بها �إطالق ًا‪ ،‬وت� ُ‬ ‫�أحفورة بازلتية‪ ،‬ومينحني وهم ًا بالثبات‪ ،‬واالنتماء‪ ،‬والإ�شارة‪ ،‬مثل‬ ‫�شعرت ب�أن ا�سمي فوق الكتاب ال ي�شبهني كثرياً‪ ،‬و�أنه‬ ‫كل الأ�سماء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مريب وخائن‪ ،‬ولكنه يف النهاية‪ ،‬كان يلتوي على �شخ�صيتي مبا‬ ‫ٌ‬ ‫يحمله من �أدلة كثرية‪ ،‬وي�شري �إىل وجهي‪ ،‬ك�سهم معقوف‪.‬‬ ‫من ر�آين من العابرين بجوار �سيارتي فقد ر�أى فمي مفتوح ًا‪،‬‬ ‫وحاجبي معقودين ب�شدة‪ ،‬بينما كانت طاحونة الأ�سئلة تدور يف‬ ‫ّ‬ ‫عقلي بجنون‪ .‬ما هذا الكتاب الذي يحمل ا�سمي؟ من ن�رشه؟ من‬ ‫طبعه؟ �أنا ال �أعرف �شيئ ًا عنه على الإطالق‪ ،‬ال �أعرف �أوراقه املنزوعة‬ ‫من جذع �شجرة‪ ،‬واملعجونة يف �آلة م�صنع‪ ،‬وامللقاة يف جوف مطبعة‪،‬‬ ‫ولكني بال �شك م�س�ؤول عن كل هذا‪ ،‬والكالم الذي فيه يدينني‬ ‫بب�صمة الكتابة‪ ،‬ولهذا هو الآن �أمام وجهي املت�شنج‪ ،‬يف ال�سابعة‬ ‫والربع من ليل الريا�ض‪ ،‬يف حي من �أحيائه العادية‪.‬‬ ‫وزفرت حتى حركت زفرتي ب�ضع وريقات‬ ‫و�ضعته جانب ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫على تابلوه ال�سيارة‪ ،‬ورحت �أجو�س بيدي خلف مقودها لأ�صل‬ ‫�إىل املفتاح‪ ،‬وعيناي تت�ساقطان على م�ساحات ال�سيارة ال�ضيقة من‬ ‫الداخل‪ ،‬و�أ�شعر بدوخة طفيفة تتمدد يف ذهني ببطء‪.‬‬ ‫‪20‬‬


‫ماذا يعني ما �أنا فيه الآن؟ وكيف يجب �أن �أت�رصف لكي �أقطع‬ ‫الطريق على من يحاول �إدها�شي بهذا ال�شكل املتعب؟‬ ‫ال ميكن �أن يكون الفاعل معجب ًا عابراً بالكالم الذي �أل�صقته‬ ‫على حائط الإنرتنت لأين مل �أدونه با�سمي كام ً‬ ‫واكتفيت بالهوية‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الناق�صة‪ ،‬وال ميكن �أحداً �أن يربط بيني وبني الكلمات �إال �إذا تتبع �أثر‬ ‫احلب‪ ،‬وا�ستطاع �أن ي�شم رائحة الظروف‪ ،‬ويقر أ� رموز احلكاية‪ ،‬وال‬ ‫أحد يعرف هذا القدر من التفا�صيل �إال �أنا‪ ،‬ووزان‪ ،‬وغالية‪.‬‬ ‫يوجد � ٌ‬ ‫درت بال�سيارة‪ ،‬وعدت �إىل املكتبة مرة �أخرى بعد �أن خطرت يل‬ ‫ُ‬ ‫فكرة �أن �أ�ستنطق الرجل الذي �س ّلم �إ ّ‬ ‫يل املظروف عن معلومات �أخرى‪،‬‬ ‫فهناك ٌ‬ ‫ترجلت‪ ،‬و�س�ألته‬ ‫خيط مفقود يف هذه الليلة البولي�سية ال�صغرية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫باذ ًال كل اجلهد �أن �أبدو هادئ ًا وال مبالي ًا‪ ،‬وال �أدري مدى قدرة هذا‬ ‫الرجل على قراءة وجهي‪� ،‬إال �أنه مل مينحني �إال �إجابة �صغرية بالكاد‬ ‫الكث‪� .‬أخربين �أن مندوبهم �إىل معر�ض الكتاب يف‬ ‫تتجاوز �شاربه‬ ‫ّ‬ ‫بريوت التقى رج ً‬ ‫ال ما‪ ،‬طلب �إليه �أن يحمل الن�سخة معه �إىل الريا�ض‪،‬‬ ‫وي�سلمها ل�صاحب هذا الرقم‪ ،‬ال �أكرث‪.‬‬ ‫حركت �سيارتي مرة �أخرى وهي حتمل داخلها رج ً‬ ‫ال وكتاب ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يعرف �أحدهما كل �شيء عن الآخر‪ ،‬ولكنهما يجهالن كل اجلهل‬ ‫ملاذا هما مع ًا الآن‪ .‬كان عندي لغ ٌز �صغري �أ�سهر عليه الليلة‪ ،‬و�أرتّب‬ ‫عدت �إىل البيت‪،‬‬ ‫هذا اخليط ال�صويف الذي بدا نا�زشاً عن البقية‪ ،‬ولهذا ُ‬ ‫و�صعدت �إىل غرفتي من الدرج اخلارجي‬ ‫مبكراً عن موعدي املعتاد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫والدي لأين‬ ‫الذي �أ�ستخدمه دائم ًا عندما �أحاول جت ّنب املرور مبجل�س‬ ‫ّ‬ ‫�أحتاج �أن �أبقى وحيداً‪� ،‬أناق�ش كتاب ًا عاد �إ ّ‬ ‫يل مثل قارورة حرب رميتها‬ ‫‪21‬‬


‫يف املحيط قبل �سنتني‪ ،‬ف�سافرت عك�س االجتاه‪.‬‬ ‫رحت �أقر أ� يف مواقع ع�شوائية منه كلما منحني االرتباك فر�صة‬ ‫ُ‬ ‫لذلك‪� .‬إنه كتابي فع ً‬ ‫ال‪ ،‬ولت�سقط كل احلاالت املريبة التي تف�صلني عنه‬ ‫الآن‪ ،‬ورغم تلك الرائحة الغريبة التي تفوح من �صفحاته الكثرية‪،‬‬ ‫ورغم جفاف احلروف املطبعية التي ال تريد �أن تع ّلق كثرياً حول‬ ‫ميد عروق ًا �أفعوانية لي�شتبك‬ ‫الظروف التي خلقتها‪ ،‬فقد‬ ‫�شعرت به ّ‬ ‫ُ‬ ‫معي‪ ،‬ويخرتق �صدري بلطف‪ ،‬معلن ًا فعل العودة‪ ،‬بعد �سنتني من املرة‬ ‫الأخرية التي علقت فيها كلماته الكثرية على املوقع‪ ،‬يف هيئة �أخرى‪،‬‬ ‫وعلى �شكل خمتلف متام ًا‪ .‬ثم هجرته ك�أن مل يكن‪ ،‬ومل يولد‪.‬‬ ‫ا�ست�شعرت يف قربه دفئ ًا غريب ًا‬ ‫ملاذا عاد متنكراً بهذه ال�صورة؟ وملاذا‬ ‫ُ‬ ‫رغم تنكره‪ ،‬و�صمته‪ ،‬وعتابه الطفيف الطافر على غالفه الأبي�ض‪،‬‬ ‫وال�سلم الذي ي�صعد وينتهي قبل الو�صول‪ .‬دهمني �إح�سا�س العودة‬ ‫كنت حرثته من قبل‪ ،‬يوم كانت �أوجاعي متلأ هذه‬ ‫�إىل حقل قدمي‪ُ ،‬‬ ‫طي ًا‪ ،‬ووجهي منق�سم ًا‬ ‫الغرفة‪ ،‬وجواد احلب الأ�صهب يطوي قلبي ّ‬ ‫بني الليل والنهار‪ ،‬ورائحتي تف�ضح هرمون احلب العظيم‪ ،‬قبل �أن‬ ‫يغادرين الزمن جميعه‪ ،‬وتتوقف �ساعتي‪.‬‬ ‫خالل زمن ق�صري‪ ،‬قر� ُأت كل كلمة‪ ،‬وبدت كل كلمة خمتلفة فع ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫�أتذكر �أماكنها جيداً عندما كانت معلقة فوق �شا�شة املوقع الذي‬ ‫ن�رشتها فيه تباع ًا‪ ،‬والآن هي يف �أماكن خمتلفة من هذا الورق‪ ،‬و�أنا‬ ‫�أعيد ترتيبها يف داخلي‪ ،‬و�أت�ساءل عن غالية‪ ،‬كيف رتّبتها �أي�ض ًا‪ ،‬وهل‬ ‫�أ ّدت هذه الكلمات الر�سولة ر�سالتها الطويلة‪� ،‬أم �أنها مل تكن كافية‬ ‫ل�سعي كهذا؟‬ ‫ٍ‬ ‫‪22‬‬


‫هي التي ن�رشت هذا الكتاب حتم ًا‪ .‬اتك� ُأت على هذا اال�ستنتاج‬ ‫املبكر‪ ،‬لعلي �أرتاح قلي ً‬ ‫ال‪ .‬كانت الده�شة على و�شك االنطفاء‪،‬‬ ‫واالحتماالت الكثرية املتوقعة لهذا احلدث قد مات معظمها يف‬ ‫الطريق‪ ،‬و�صارت عندي �صورة �أكرث و�ضوح ًا ملا ميكن �أنه حدث‪،‬‬ ‫وكيف كانت ماهيته وخطواته‪ .‬لقد و�ضع املنطق �أمامي حلو ًال‬ ‫مريحة‪ ،‬و�إن بقيت عندي �أ�سئلة �أطول قلي ً‬ ‫ال منه‪.‬‬ ‫ومنت‪ ،‬لعلي �أطفئ عقلي قلي ً‬ ‫ال حتى‬ ‫دحرجت ر�أ�سي على و�سادتي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال جتد فيه احلرية م�ساح ًة متاحة لالنت�شار‪ ،‬ولكن نومي جاء �أبعد ما‬ ‫قمت يف منت�صف الليل‪،‬‬ ‫منت يف �ساحة حرب‪ُ .‬‬ ‫يكون عن هذا‪ ،‬ك�أين ُ‬ ‫متعرق ًا‪ ،‬ويف بطني مغ�ص طفيف من اجلوع‪ ،‬وال �أ�شتهي �شيئ ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وقت كهذا عادة‪� ،‬أعرف �أن ال مالذ لوجهي‬ ‫وعندما �أ�ستيقظ يف ٍ‬ ‫البائت �إال املزرعة‪ .‬كان يف هاتفي ات�صال مل �أرد عليه من �أمين‪ ،‬وكان‬ ‫�أمامي �ساعتان على الأكرث ميكنني �أن �أجد خاللهما �أحداً �أجال�سه‬ ‫و�رشبت الع�صري الذي وجدته يف مكانه‬ ‫أهبت على عجل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هناك‪ .‬فت� ُ‬ ‫وخرجت من املنزل و�أنا �أ�شعر ب�أن العا�صفة الرتابية‬ ‫املعتاد من الثالجة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التي يف اخلارج‪ ،‬ال تقل عن تلك التي يف ذهني على الإطالق‪.‬‬

‫****‬ ‫ومرهق جداً‪ .‬منذ مدة طويلة وعقلي مرتاح من هذه‬ ‫حائر �أنا‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ال�صداعات املفاجئة‪ .‬كانت لدي نزعة �أن �أك�سو احلكاية كلها ب�أ�سو�أ‬ ‫النيات املحتملة‪ ،‬و�ألوم غالية على تخريب هدوئي‪ ،‬و�إعادة االرتباك‬ ‫ّ‬ ‫‪23‬‬


‫�إىل بيتنا بهذا الفعل‪ ،‬ولكني �أفكر دائم ًا �أن امر�أة �أحببتها �إىل هذا‬ ‫احلد‪ ،‬ال ميكن �أن تخرتع يل هذا الأذى بدون �سبب‪ ،‬وال بد من تربير‬ ‫منا�سب‪.‬‬ ‫لعلها قر�أت حزين عليها و�أرادت �أن ت�شفيني مث ً‬ ‫تعر�ضني ل�ضوء‬ ‫ال‪ّ .‬‬ ‫�شخ�صته لها‬ ‫ال�شم�س الباهر حتى �أ�شفى تدريج ًا من وبائي ال�صعب الذي ّ‬ ‫كتابتي‪ ،‬ومل تنتبه �إىل �أن الأمر قد يبدو وك�أنها حتاول �أن حترقني عمداً‪،‬‬ ‫وهذا ال�ضوء الذي يغمرين الآن يتحول �إىل �شعاع حارق تُب ِّئر ُه العد�سة‬ ‫علي فج�أة‪ ،‬ولن �ألبث �أن �أ�شتعل حتتها مثل منلة تاهت عن‬ ‫التي �سلطتها ّ‬ ‫م�سارها‪ ،‬ومل ت�صل �إال �إىل جحيم غري متوقعة‪ ،‬جاءتها من الأعلى‪.‬‬ ‫ال �أ�ستطيع �أن �أثبت ّنياتها املحتملة‪ ،‬وال �أ�ستطيع نفيها �أي�ض ًا‪ .‬حتى‬ ‫الآن مل �أت�أمل ل ّ‬ ‫أ�ستدل على �أنها حتاول �أن حترقني فع ً‬ ‫ال بن�رشها الكتاب‪،‬‬ ‫قابع بني يدي‬ ‫ولكني �أرى �أن ال�ضوء املريب ما زال هنا‪ ،‬والكتاب ٌ‬ ‫كطفل مهمل يتقاذفه �أبواه‪ ،‬والتقومي الطويل الذي يقي�س م�سافة فراقنا‬ ‫ال يجيز يل �أن �أطرح ال�س�ؤال عليها مبا�رشة‪.‬‬ ‫عدت �إىل الكتابة من منت�صف‬ ‫ولهذا �أنا �أكتب الآن‪ ،‬مرة �أخرى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وكنت �أعتقد �أن الذين ال يعرفون‪ ،‬عاد ًة ين�رصفون‬ ‫الفهم امل�رشوخ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�شحت بي املعرفة‪ ،‬رحت �أكتب! هذه‬ ‫للقراءة‪ ،‬وحدي �أنا كلما ّ‬ ‫عادات الرجل الذي ال يتحمل جبينه وط�أة احلرية‪ ،‬في�رصفها �إىل يده‬ ‫و�أ�صابعه‪ ،‬وك�أين �أريد �أن �أعلن هنا‪ ،‬بني رفاقي اجلدد الذين نرثتهم‬ ‫علي بن�رشها للكتاب‪� ،‬أن املحر�ض الأكرب للكتابة بعد احلب‪ ،‬هو‬ ‫هي ّ‬ ‫ا�ستع�صاء الفهم‪ ،‬ولي�س وفرته! لأن �شيئ ًا من �رصير القلم ي�شبه حفيف‬ ‫املكن�سة وهي تقنع الأر�ض ب�رضورة النظافة‪ ،‬ولهذا ظ ّلت الكتابة‬ ‫‪24‬‬


‫عندي حاجة ملحة كلما تراكمت الفو�ضى فوق قلبي‪ ،‬وال �أ�ستغني‬ ‫عنها ب�سهولة من �أجل حياة �أكرث توازن ًا و�أمان ًا‪ ،‬مثل املخمور‪ ،‬البد �أن‬ ‫�سطر م�ستقيم‪ ،‬حتى يتبدى له مدى �سكرته‪.‬‬ ‫مي�شي على ٍ‬ ‫تدربت �سابق ًا على �أال �أ�سمح لأ�سئلتي ب�أن تطرح نف�سها‬ ‫لوال �أين‬ ‫ُ‬ ‫ال�سبت هذه‪ .‬ما‬ ‫ات�صلت بها يف ليلة‬ ‫ك�أ�سباب كافية لالت�صال‪ ،‬لكنت‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫زلت �أحتفظ برقمها املعقد يف هاتفي لأ�سئلة �سوداء كهذه التي حترق‬ ‫تو�سلت �إليها ما دامت راحلة �أن تُبقي‬ ‫العقل مثل قطرات من احلم�ض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يف يدي طرف خيط يقود �إليها عندما ت�ضطرين ظروف جارفة �إىل‬ ‫مرجل من�سي على النار‪ ،‬والروح‬ ‫طافر مثل‬ ‫ٍ‬ ‫حماقة االت�صال‪ ،‬والقلب ٌ‬ ‫مري�ضة جداً مثل �شيخ يحت�رض‪ ،‬والريا�ض هامدة حتت وط�أة ليلة �صيفية‬ ‫ثقيلة‪.‬‬ ‫�أتعرف هي الآن ماذا كان من �أمري منذ و�صلني الكتاب‪ ،‬بقدر ما‬ ‫عرفت بالت�أكيد من الكتاب نف�سه‪ ،‬كل ما حدث يل قبل ذلك؟ �أم �أنها‬ ‫ْ‬ ‫�ستنتظر مني �أن �أكتب مرة �أخرى لأخربها عن بقية امل�سل�سل؟ ال ريب‬ ‫�أنها مل تعد تعرف كل ما يكون‪ ،‬فقد ُن�رش الكتاب وانك�شفت �صفحة‬ ‫أ�صب َح ْت كل �صفحة جديدة من‬ ‫من �أ�رساري على ملأ ال �أعرفهم‪ ،‬و� َ‬ ‫حياتي حتتاج �إىل كتاب جديد لتعرف هي ماذا ح�صل فيها‪ .‬هكذا‬ ‫نحن‪� ،‬أنا وهي‪ ،‬نتوا�صل بهذه الطريقة ال�سميكة املريبة‪� ،‬أكتب كالم ًا‪،‬‬ ‫فتن�رشه هي‪ ،‬من دون �أن تع ّلق عليه بكلمة واحدة‪ ،‬ف�أجدين م�ضطراً‬ ‫لأن �أكمل الأداء الذي مل �أتفق مع �أحد عليه‪ ،‬وتتوقف هي عن ن�رش‬ ‫كنت �أقر�أها ع�رشات املرات‪ ،‬لع ّلي �أظفر منها ب�إ�شارة‬ ‫مقاالتها التي ُ‬ ‫رمزية ما‪� ،‬أو �شفرة معلقة‪ ،‬بال جدوى‪ ،‬وك�أننا �أطفال مل نبلغ من‬ ‫‪25‬‬


‫لتحمل البقاء مت�صلني‪ ،‬ي�ساعد �أحدنا الآخر على ما‬ ‫الر�شد ما ي�ؤهلنا‬ ‫ّ‬ ‫بعد احلب‪ ،‬كما كنا نفعل �أثناءه‪� ،‬أولي�س هذا هو الوقت الذي نحن فيه‬ ‫�أحوج ما نكون �إىل تلك امل�ساعدة؟‬ ‫ماذا يعني �أن تعرف هي بالتف�صيل خريطة �آالمي‪ ،‬بكل االجتاهات‪،‬‬ ‫علي متام ًا‬ ‫من نقطة بدايتها‪� ،‬إىل نقطة نهايتي‪ ،‬يف الوقت الذي ي�صعب ّ‬ ‫اجلوال‪ ،‬و�أخربها �أين حائر جداً‪ ،‬حتت وط�أة كتاب‬ ‫�أن �أحمل هاتفي ّ‬ ‫مفاجئ �أ�صابني يف َّ‬ ‫الظهر؟‬ ‫ات�ص َلت هي فيها‪ ،‬ومن خلف‬ ‫�أو َم�ضت يف ذاكرتي تلك املرة التي َ‬ ‫علي التحية‪ ،‬فقط‬ ‫�صوتها تتهادى مو�سيقى �أعرفها جيداً‪ ،‬مل تلق ّ‬ ‫هتفت بي‪�“ :‬إ�سمع‪� ،‬إ�سمع‪”.‬‬ ‫ت�صاعدت املو�سيقى بعد هذا قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬ثم �أطلق حممد عبده �صوته‪:‬‬ ‫ولهاااااااااان‪.‬‬ ‫ولهاااان‪.‬‬ ‫ولهان‪.‬‬ ‫�أنا باحليل ولهااااااان‪.‬‬ ‫خليتي وقتي‪ :‬انتظار‪.‬‬ ‫خليتي وقتي‪ :‬انتظار‪.‬‬ ‫الليل ما هو ليل‪.‬‬ ‫ماهو ليل‪.‬‬ ‫ماهو ليل‪.‬‬ ‫ونهاري ما هو نهار!‬ ‫‪26‬‬


‫َ�س َح َب ْت �سمعي يف ات�صال عابر �إىل �أغنية من �أواخر الثمانينات‪ ،‬لأنها‬ ‫�أرادت فقط �أن �أ�شاركها يف �شجن اللحظة‪ ،‬بغ�ض النظر عما �إذا كنت‬ ‫م�شغو ًال �أو ال‪ ،‬والآن يل �أحزانٌ ت�شبه �ساح ً‬ ‫ملوث ًا بالزيت‪ ،‬وال‬ ‫ال ّ‬ ‫�أ�ستطيع حتى �أن �أنقر هذا الرقم ال�صعب النائم يف ذاكرة هاتفي مثل‬ ‫لغز خائب‪ ،‬ال �أدري متى ي�أتي حله!‬ ‫هي حتب حممد عبده كما حتب املطر والغيوم‪ ،‬و�أتذكر دائم ًا �أن‬ ‫مقالها يف اجلريدة جاءت فيه العبارة التي دفعتني مرة �أن �أهدي �إليها‬ ‫جمموعته املو�سيقية الكاملة‪ ،‬وعليها توقيعه �شخ�صي ًا‪�“ ،‬أغنياته �أثرت يف‬ ‫ت�شكيل ال�سلوكيات الرومان�سية جليل كامل من البلد‪ ،‬مدر�سة ثقافية‬ ‫حبنا ب�أغنياته‪،‬‬ ‫كبرية من الغناء لأجل احلب والوطن”‪ .‬ولهذا ّلونت كل ّ‬ ‫حتى مل يبق لنا ذكرى مل ي�شاركنا فيها هذا الرجل‪ ،‬ويقت�سم معنا كل‬ ‫�رصت أ��ؤرخ زماننا‬ ‫الوقت احلميم‪ ،‬وكل اللحظات اخلا�صة‪ ،‬ولذلك‬ ‫ُ‬ ‫ب�صوته‪ ،‬و�أربط املوقف بالأغنية‪ ،‬والأحزان بالأحلان‪ ،‬حتى تداخلت‬ ‫يف ذاكرتي كمية هائلة من الكلمات والنغمات‪ ،‬ن�سجت يل �شجن ًا‬ ‫طوي ً‬ ‫ال جداً‪.‬‬ ‫وحتول �إىل غابة من الأعواد اجلافة‪ ،‬ميكن‬ ‫الآن‪ّ ،‬‬ ‫جف هذا ال�شجن‪ّ ،‬‬ ‫�أن حترتق يف �أي حلظة‪ ،‬وحتت رحمة �أي مذياع‪ ،‬و�أ�صبح حممد عبده‪،‬‬ ‫بالع�رشات من �أ�رشطته التي كانت متلأ الغرفة وال�سيارة‪ ،‬جالداً �أليم ًا‪،‬‬ ‫ال �أجر�ؤ �أن �أبعثه من قمقمه‪ ،‬وال �أحتمل �أن �أتعرث به يف قناة تلفزيونية‬ ‫�أو جريدة‪.‬‬ ‫امل�شكلة �أنهم �صاروا يذيعون �أغنياته كثرياً هذه الأيام‪ .‬وما زال‬ ‫يرهقني �صوته كثرياً‪ ،‬رغم ذبويل‪ ،‬و�إعالين وفاة القلب ر�سمي ًا منذ‬ ‫‪27‬‬


‫جنحت‪ ،‬كما ي�شهد �صديقاي وزان و�أمين‪ ،‬يف خنق‬ ‫�سنتني‪ ،‬ورغم �أين‬ ‫ُ‬ ‫عملي ودقيق‪� ،‬صفّقا له طوي ً‬ ‫وجنوت بذلك من‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ق�صة حبي ب�شكل‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫التحول �إىل مري�ض �آخر يف التاريخ‪ .‬لكني �أحيان ًا‪� ،‬أتنازل عن هذه‬ ‫أ�رشب‬ ‫الرغبة امللحة يف التوا�صل‪ ،‬و�أدير وجهي جهة ال�شجن‪ ،‬و� ُ‬ ‫اللحن القدمي نف�سه الذي يف�رس قلبي الآن بكل ف�صاحة‪.‬‬ ‫رحتي‪ ..‬رحتي‪..‬‬ ‫و�شاغلني �س�ؤال‪..‬‬ ‫�شاغلني �س�ؤال‪..‬‬ ‫�ألقاك‪� ..‬ألقاك؟ �أو هذا حمال؟ ‪.‬‬ ‫“ح�سب الظروف‪..‬‬ ‫و‪..‬‬ ‫‪..‬داخلني خوف!”‬

‫****‬ ‫يخدرين �إىل �أجل‬ ‫كانت كتابة الرواية ت�شبه زرع حقل من الأفيون‪ّ ،‬‬ ‫م�سمى‪ .‬ف�صد مني الكثري من الكالم‪ ،‬كي تعود الروح �إىل دورتها‬ ‫ّ‬ ‫املطمئنة عدة �سنوات‪ ،‬قبل �أن يرتاكم كالم �آخر‪ ،‬ت�ضيق به امل�سارب‪،‬‬ ‫والطرقات‪ ،‬وحماوالت التفادي والإنكار‪ ،‬وتنمو على القلب مرة‬ ‫�أخرى �أع�شابه الع�شوائية املعتادة‪ ،‬وينتابني ال�صحو امل�ؤمل عندما ينتهي‬ ‫مفعول الرواية ال�سابقة‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫أمر بحالة �شبيهة الآن‪ ،‬وك�أن �أظفاري تنمو �أ�رسع من‬ ‫يبدو �أين � ّ‬ ‫املعتاد‪ ،‬ويدي حبلى ب�أ�شهر طويلة من ال�صمت والتدخني‪ .‬عندي‬ ‫ٌ‬ ‫أ�سوي‬ ‫ّنيات كثرية‪ ،‬ولي�س عندي‬ ‫هدف وا�ضح هذه املرة‪� ،‬إال �أن � ّ‬ ‫وعثاء الروح‪ ،‬و�أ�شذب الأ�شجار واحلديقة‪ ،‬و�أكن�س الر�صيف الطويل‬ ‫نف�سه‪ ،‬للمرة الثانية‪.‬‬ ‫كان غريب ًا فع ً‬ ‫�شمت رائحة يدي املت�أهبة للكتابة عن هذا‬ ‫ال �أن غالية ّ‬ ‫البعد‪ ،‬وفعلت ما فعلت‪ ،‬ال �أدري هل لت�شجعني على حالة �أخرى‬ ‫علي �صوراً قدمية جل�سدي امللآن‬ ‫من احلجامة احلربية‪� ،‬أم لتعر�ض ّ‬ ‫بالثقوب‪ ،‬حتى ال �أكرر حماقتي‪.‬‬ ‫أف�س َدت كل �شيء‪ ،‬عندما تنازلت طوع ًا عن طقو�س �أن �أكتب‬ ‫لقد � َ‬ ‫ين �آنذاك �أن عينيها اجلميلتني‬ ‫لها وحدها‪ ،‬وا�ضع ًا يف اعتباري الإلكرتو ّ‬ ‫هما كل من �سيدخل بيت القراءة‪ ،‬ويعرب فوق الكالم‪ ،‬حتى �أين ال‬ ‫ألتفت �إىل ثيابي وذقني عندما �أكون‬ ‫�ألتفت �إىل النحو والإمالء‪ ،‬كما ال � ُ‬ ‫يف البيت‪.‬‬ ‫رمبا هي اختارت �أن تعبرُ ين �إىل طقو�س �أكرث رحابة من ترتيلي‬ ‫املخنوق ذاك‪ ،‬مثل �صفحات اجلرائد مث ً‬ ‫ال‪� ،‬أو رفوف املكتبات‪،‬‬ ‫ودكاكني النا�رشين‪ ،‬وبيوت النا�س؟ ولكن �إذا كانت هذه حقيقة‪،‬‬ ‫و�أنها (ترنج�ست) من بعدي كما مل �أعهدها من قبل‪ ،‬فكيف تراها‬ ‫�ست�ستفيد من ن�رش الكتاب بهذا ال�شكل‪ ،‬وكل �شيء فيه ممو ٌه بالرمز‪،‬‬ ‫وما زال ا�سمها فيه مقف ً‬ ‫ال وجمهو ًال‪ ،‬مثل جوزة م�صمتة �ضائعة يف غابة‬ ‫كثيفة؟‬ ‫أقف �شاهداً‬ ‫أعيد قراءة نف�سي‪ ،‬وكتابتها مرة �أخرى‪ ،‬و� ُ‬ ‫ها �أنذا � ُ‬ ‫‪29‬‬


‫فوق من�صة هذا الكتاب‪ ،‬لأب�رص كيف بدت �أيامي مثل علبة احلائك‪،‬‬ ‫إبر خمتلفة الأحجام‪ ،‬كلها قادرة على الوخز‪ .‬ال �أدري كيف‬ ‫فيها � ٌ‬ ‫ت�صورت مرة �أن �أيامي مت�ساوية يف حجمها‪ ،‬مت�شابهة مثل �رسب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وركنت �إىل حالتها اخلطية تلك‪ ،‬ولكني �أرى الآن �سل�سلة من الأيام‬ ‫ُ‬ ‫يوم ي�شبه الرحى‪ ،‬عنده منهج خمتلف‬ ‫الغليظة‪ ،‬مرتاكمة يف كتاب‪ ،‬كل ٍ‬ ‫يف الطحن‪ ،‬بينما كانت تبدو بالن�سبة يل طوال �سنتني من نقاهة احلب‪،‬‬ ‫وب�سمت واحد‪ ،‬كفريق‬ ‫مثل كائنات نحيلة‪ ،‬مت�شي يف اجتاه واحد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مهزوم ين�سحب ببطء‪.‬‬ ‫التقيت �أمين تلك الليلة‪ ،‬عاودتني الفكرة يف منت�صف‬ ‫وعندما‬ ‫ُ‬ ‫اكت�شفت مت�أخراً‪ ،‬كعادتي يف فهم الزمن‪� ،‬أن اليوم‬ ‫احلوار‪ ،‬عندما‬ ‫ُ‬ ‫هو �أول �أيام ال�سنة الهجرية‪ ،‬ولذلك وجدت نف�سي �أحاول �أن �أعيد‬ ‫�صوغ فكرتي لأ�سمح لأمين مب�شاركتي فيها‪ .‬هو الذي كثرياً ما ت�أفف‬ ‫معي من الزمن‪ ،‬وك�أننا �شيخان يف �أرذل العمر‪ ،‬جنل�س يف و�سط هذه‬ ‫التداعيات ال�ساخرة‪ ،‬ونتبادل تعليقات ال متت ب�صلة �إىل وقتنا ومكاننا‬ ‫�أبداً‪ ،‬ون�سكب الزمن‪ ،‬لنكت�شف فيه كل خوا�ص املواد ال�سائلة‪ ،‬وهو‬ ‫ينفرط من �أيدينا‪ ،‬ثم يتبدد‪ ،‬ويتبخر يف الأيام اجلميلة‪ ،‬ثم يختفي‪،‬‬ ‫ون�رشق به �أحيان ًا لندخل يف �سعال مر‪ ،‬ويتك ّتل �أمامنا كجبل جليدي‬ ‫ع�صي على امل�ساءلة‪.‬‬ ‫م�ستحيل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كان ي�رشب ال�شاي يف الوقت الذي عربت ذهني فكرة الزمن‬ ‫ال�سائل هذه‪ ،‬كما تعربنا دائم ًا ونحن �ساهمون �أن�صاف �أفكار حكيمة‬ ‫وك�سلى‪ .‬ت�أملته بابت�سامتي املعتادة التي �أحر�ص على بقائها كذلك‬ ‫حتى ال �أقع فري�سة لأ�سئلته هو‪� ،‬أو لأ�سئلة �أخيه وزان‪ ،‬ذلك الذي‬ ‫‪30‬‬


‫كنت وحيداً‪،‬‬ ‫هزمني مرتني �أخرياً‪ ،‬عندما �أثبت �أين ال �أدخن �إال �إذا ُ‬ ‫لأن عالقتي النادرة بالتدخني هي عالقة �سيكولوجية ولي�ست كيميائية‬ ‫�إطالق ًا‪ ،‬ومرة �أخرى‪ ،‬عندما اكت�شف بهدوء‪ ،‬وبكل دقة‪ ،‬ملاذا �أنا‬ ‫خارج احلب‪ ،‬منذ �سنتني‪.‬‬ ‫“لأنك تبالغ يف وجومك‪ ،‬مثلما تبالغ يف فرحك‪ .‬هذا يعني �أنك‬ ‫تعي�ش قيد احلب‪� ،‬أو ما بعده‪ .‬احلب ال يعلق على وجوهنا لوحة‬ ‫احلزن الثابتة كما نتوقع‪ .‬كل ما يفعله هو �أن يزيد حرارتك درجة‬ ‫كنت‬ ‫واحدة‪ ،‬تكفي لتجعلك متذبذب ًا بني حاالت خمتلفة‪ ،‬وهذا ما َ‬ ‫ثابت حتى يف‬ ‫�أنت عليه �أول ما عرفتك‪ ،‬ولكنك الآن م�ستك ٌ‬ ‫ني جداً‪ٌ ،‬‬ ‫نزواتك‪ .‬هذا يعني �أن حرارتك عادت �إىل م�ستواها الطبيعي‪ .‬انتهى‬ ‫احلب يا �صديقي!”‬ ‫قلت لأمين‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫– �أ�شعر �أحيان ًا �أنه ال ميكن �أن يعربنا الزمن بوترية ثابتة‪ ،‬و�أن الأيام‬ ‫ال تت�ساوى يف حجمها كما توهمنا احلقائق‪� .‬شخ�صي ًا‪� ،‬أنا على يقني‬ ‫�أن ال�سنتني الأخريتني كانتا �أق�رص بكثري من �شهر واحد يف ال�سنة التي‬ ‫قبلها‪.‬‬ ‫ووافقني �أمين الر�أي‪ .‬قال عدة جمل‪ ،‬ومل ُيحل ال�سبب يف عدم‬ ‫التكاف�ؤ �إىل الظروف‪ ،‬وت�سارع رمت احلياة‪ ،‬كالعادة‪.‬‬ ‫– فع ً‬ ‫ال‪ ،‬لأن �سلوكنا �أحيان ًا يتحكم يف الزمن‪ ،‬وطاقته‪ ،‬وحجمه‪،‬‬ ‫بينما ال ميلك الزمن‪ ،‬يف املقابل‪� ،‬إال التحكم يف معادلة بيولوجية‬ ‫ب�سيطة وثابتة مع �أج�سادنا‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬نحن ن�ؤثر يف الزمن �أكرث مما‬ ‫ي�ؤثر هو فينا‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫– رمبا �أننا‪ ،‬يف حقبة معينة من الفل�سفة‪ ،‬قمنا بت�ضخيم دور الزمن‪،‬‬ ‫حتى منحناه بعداً وح�شي ًا مل نتخل�ص منه عرب �أجيال‪.‬‬ ‫– رمبا‪.‬‬ ‫ثم �أردف بعد �صمت ق�صري‪:‬‬ ‫– هذا الزمن م�سكني!‬ ‫وعدت �أنا �أكمل كالمي‬ ‫ثم عاد ين�شغل بقنوات التلفزيون‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫– انتهى العام‪ .‬ال �أتخيل كيف بد�أ وانتهى بهذه ال�رسعة‪� .‬أال‬ ‫تالحظ كيف �صارت عبارات التعجب من �رسعة الأعوام دارجة يف‬ ‫كالم النا�س؟‬ ‫– �أنا �شخ�صي ًا ال تعني يل نهايات الأعوام �شيئ ًا مثرياً لل�شجن‪،‬‬ ‫ودائم ًا �أنظر �إىل ال�سنة على �أنها حلقة دائرية �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬لي�س لها بدايات‬ ‫وال نهايات‪ ،‬لأن هذا هو ال�شكل احلقيقي للزمن‪.‬‬ ‫– ماذا تعني بال�شكل احلقيقي للزمن؟‬ ‫– �أعني �أن هذا الزمن دائري �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬وعندما بد�أ الإن�سان ي�شعر‬ ‫بالدوخة من دائريته‪ ،‬قرر �أن ي�ضع له بدايات ونهايات‪ ،‬واخرتع الأيام‬ ‫وال�سنوات‪.‬‬ ‫– ولكن ما �أق�صده هو جمرد وقفات مع ال�سنة‪ ،‬لي�س بال�رضورة �أن‬ ‫تكون يف �أولها �أو �آخرها‪.‬‬ ‫التفت �إيل‪ ،‬بوجهه النحيل احلليق الذي تتعلق عليه نظارته اخلفيفة‪،‬‬ ‫وقال وهو يبت�سم‪:‬‬ ‫– على فكرة‪ ،‬ما زلنا يف مار�س‪.‬‬ ‫– �أنا �أتكلم عن ال�سنة الهجرية‪.‬‬ ‫‪32‬‬


‫– الهجرية‪...‬‬ ‫قالها ب�صوت ممدود‪ ،‬ين�ضح بالالمباالة‪ ، ،‬ممعن ًا يف الإ�شارة �إىل �أن‬ ‫الأمر ال يهمه �أبداً‪ ،‬وماداً ذراعه بقدر ما ي�ستطيع ليلتقط كوب ال�شاي‬ ‫ال�ضئيل املو�ضوع على الطاولة‪.‬‬ ‫و�سكت‪ ،‬و�ساد �صوت مو�سيقى طفيف‬ ‫ابت�سمت مقلداً �سخريته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫من التلفزيون ي�سبق ن�رشة الأخبار‪ ،‬قبل �أن يردف هو بعد قليل‪:‬‬ ‫– تعرف؟‬ ‫و�ضحك �ضحكة ق�صرية‪ ،‬وهو مييل ليعيد كوب ال�شاي �إىل مكانه‪،‬‬ ‫ثم قال‬ ‫– هذا ما يجعل وقع الزمن �أثقل علينا‪� ،‬أن نعي�ش يف بلد يعتمد‬ ‫تقوميني لتدقيق ح�ساباته معه‪ .‬ليه يا �أخي؟ �سنة هجرية‪ ،‬و�سنة ميالدية‪،‬‬ ‫وال�سنة تنتهي مرتني‪ ،‬والعمر ينق�ضي مرتني‪.‬‬ ‫فكرت‬ ‫و�أنا �أقود �سيارتي عائداً من مزرعته البعيدة تلك الليلة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يف كالم �أمين‪ ،‬وزمنه الدائري‪ ،‬رمبا كان �أف�ضل مني و�أنا �أ�ؤر�شف‬ ‫�أرباحي وخ�سائري بهذا الطابع الوهمي‪ ،‬وك�أين �أملع وجه ال�شم�س‬ ‫للعام املقبل‪ ،‬و�أنف�ض عن نف�سي درن املا�ضي مر ًة كل �سنة‪ ،‬لأكت�شف‬ ‫�أن املا�ضي يعود منت�صب ًا �أمام وجهي مثل خيال م�آتة �أنيق‪.‬‬ ‫دهمتني رغبة �أن �أح�سب فرق عمري بني امليالدي والهجري‪،‬‬ ‫واكت�شفت باحل�ساب الذهني ال�رسيع �أن التقومي الهجري يجعلني �أكرب‬ ‫ُ‬ ‫�سن ًة تقريب ًا من عمري امليالدي‪ ،‬ف�أين ذهبت هذه ال�سنة الهاربة؟ �أتراها‬ ‫كانت هي تلك ال�سنة الفقرية التي وقعت فيها حتت احلب‪ ،‬وانتهت‬ ‫أ�شهر م�رسوقة من خزانة العمر؟‬ ‫ك�أنها � ٌ‬ ‫‪33‬‬


‫مل �أفكر من قبل �أننا رمبا كنا نعي�ش يف زمنني فع ً‬ ‫ال‪ ،‬ولأ�سباب‬ ‫تاريخية‪ ،‬ولي�س فلكية كما يفرت�ض‪ ،‬لأن الفلك مل يختلف بع�ضه‬ ‫مع بع�ض منذ بدء التكوين‪ ،‬ولكن نحن الذين اختلفنا فيه‪ .‬كل هذا‬ ‫لأننا حائرون يف تقومينا بني نبيني‪ ،‬ال ندري �أيهما �أقدر على ترتيب‬ ‫�أيامنا‪ ،‬وال �أدري هل َحفَل النبيان بهذا ال�رصاع الوقتي الذي �أقامه‬ ‫بينهما الرعايا‪ ،‬ولكني �أعرف �أن لهذا �أثراً يف ف�صم العمر �إىل ف�صني‬ ‫يتداخالن ب�شكل م�ؤذ‪ ،‬ويتخالفان ب�شكل �أ�شد �أذى‪.‬‬ ‫�سواء �أهجري ًا كان الزمن �أم ميالدي ًا‪ ،‬يبدو �أن طباعه الر�صينة قد‬ ‫تغيرّ ت كثرياً‪ .‬فهو الذي كان يزرع خلف �آذاننا زيتون احلكمة‪،‬‬ ‫قامو�س ثقيل من العظات‪ ،‬وقد �أ�صبح الآن جاحم ًا مثل‬ ‫ومي�ضي مثل‬ ‫ٍ‬ ‫علي �أيامه لتالحقني يف الأزقة‪ ،‬وتزعجني ب�ألفاظ‬ ‫ال�صبيان‪ ،‬ي�ؤلّب ّ‬ ‫ونكات �سوداء‪ ،‬وبذيئة‪ .‬هذه ال�سنة بالذات مل تبد�أ جيداً‪ .‬و�أ�شعر‬ ‫منذ الآن ب�أن �شهورها القمرية القادمة لن تكون �إال طابوراً من اثني‬ ‫خمرب ًا‪ ،‬ينتظر كل واحد منهم ن�صيبه من املرح يف بعرثة �أوراقي‪،‬‬ ‫ع�رش ّ‬ ‫وتو�سيخ �سجادي‪ ،‬ومتزيق �سكينتي‪ ،‬ودحرجة ال�صناديق القدمية من‬ ‫الأعلى‪ ،‬وال �أعرف كيف ميكن �أن �أتعامل مع كل ه�ؤالء الأطفال‬ ‫النزقني الذين يخربون هدوئي‪ ،‬هذا الذي بنيته من �أعواد الكربيت‪،‬‬ ‫وعلب الدواء ال�صغرية‪ ،‬والع�رشات من كتب التاريخ الهزيلة‪ ،‬و�شهادة‬ ‫تتجمع يف‬ ‫ماج�ستري يف �إدارة الأعمال‪ ،‬وفن الت�صوير‪ ،‬وغرفة هادئة‬ ‫ّ‬ ‫�أركانها املئات من �أقرا�ص ال�سي الدي‪ ،‬والأفالم‪ ،‬و�أوراق بريدية ال‬ ‫توجد يف الريا�ض غالب ًا‪.‬‬ ‫يخدرين من �ضجيج هذا العام الذي يبدو‬ ‫ميكنني �أن �أفتعل وعي ًا ّ‬ ‫‪34‬‬


‫ال‪ ،‬وال ي�ستحق �إال ف�ص ً‬ ‫�أنه �سي�أتي نافراً من التقومي فع ً‬ ‫ال واحداً من‬ ‫الكتابة‪ ،‬ي�شبه القفل احلديدي الثقيل‪� ،‬أحب�سه خلفه حتى ال تتقافز‬ ‫قررت‬ ‫منه �شياطني التخريب ال�شقية‪ ،‬وال تتمدد �إىل �أعوام �أخرى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أن �أعي�شها بهدوء‪ ،‬وو�سط ترتيبات نف�سية دقيقة‪ ،‬و�آمنة‪ ،‬ورتيبة جداً‪.‬‬

‫‪35‬‬



‫‪II‬‬ ‫�شممت يف معطفي الوبري الثقيل رائحة الغبار‪� .‬أخرجته من زاويته‬ ‫ُ‬ ‫الوقور يف خزانة املالب�س و�أنا �أم ّني نف�سي ب�شيء من وجاهة ال�شتاء‬ ‫فردت املعطف قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬ونف�ضته لعلي �أجد �أنفي‬ ‫هذه الليلة‪ ،‬وعندما‬ ‫ُ‬ ‫فوجئت �أن الع ّثة تركت على �أطرافه دائرة غري مكتملة‪،‬‬ ‫كاذب ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وفوجئت �أي�ض ًا �أن يف جيبه فاتورة مقهى‪ ،‬يرجع تاريخها �إىل �أربع‬ ‫ُ‬ ‫�سنوات خلت‪.‬‬ ‫ورغم �أين ال �أتذكر حتديداً كم كلفني هذا املعطف‪� ،‬أو حتى �إذا‬ ‫�شعرت بالكدر لأن العثة‬ ‫كنت �أنا الذي ا�شرتيته ولي�س �أمي‪ ،‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أحن قطعة مالب�س عندي‪ ،‬ولي�س جورب ًا مث ً‬ ‫ال‪� ،‬أو‬ ‫خربت معطفي‪ّ � ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أ�سفت عليه فع ً‬ ‫ال‪ .‬هذا املعطف الذي يحمل دليل هوانه‬ ‫قمي�ص ًا عادي ًا‪ُ � .‬‬ ‫يكن يل �إال الدفء‪ ،‬فلماذا كان يجب �أن تثقبه العثة‬ ‫يف جيبه‪ ،‬مل يكن ُّ‬ ‫هكذا؟‬ ‫رميته بنف�سي يف زاوية مهملة هذه املرة‪ ،‬لتحمله اخلادمة مع كومة‬ ‫مالب�س �أخرى راحت تعلو مثل قمم �صغرية يف �سطح الغرفة‪ ،‬وقد‬ ‫قررت �أن �أغتال ال�سكون الذي اعتاده هذا الركن ال�شتوي من خزانة‬ ‫ُ‬ ‫‪37‬‬


‫كنت م�ستا ًء من العثة والغبار‪ ،‬وعاجزاً عن لوم اخلادمة على‬ ‫املالب�س‪ُ .‬‬ ‫أ�رص �أخرياً على �إبقاء الغرفة‬ ‫�إهمالها التنظيف لأين �أنا الذي‬ ‫ُ‬ ‫رحت � ّ‬ ‫مغلقة طوال مدة غيابي‪ ،‬و�إبقاء اجلوار هادئ ًا �أثناء وجودي فيها‪.‬‬ ‫تدريج ًا‪ ،‬فرغت زاوية اخلزانة ال�شتوية من �سكانها �إال القليل من‬ ‫و�شعرت براحة عابرة‪،‬‬ ‫اجلاكيتات اجللدية التي ال طاقة للعثة عليها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تخلف االنتفا�ضات ال�صغرية‪.‬‬ ‫كتلك التي‬ ‫ُ‬ ‫هم�ست يل اخلادمة‬ ‫– �أرميها �أم �أغ�سلها؟‬ ‫– �إرميها يا م�أمونة‪.‬‬ ‫جمعت �أنا‬ ‫وراحت تنقل املالب�س على عدة مراحل‪ ،‬بينما‬ ‫ُ‬ ‫وخرجت من الغرفة‬ ‫مفاتيحي‪ ،‬وهواتفي‪ ،‬وبقية �أ�شياء اجليب املعتادة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مرتدي ًا ثوبي الأبي�ض اخلفيف فقط‪ ،‬يف ليلة تبدو باردة‪ ،‬وك�أين �أتب ّنى‬ ‫نوبة عناد طفولية‪ ،‬ال �أدري �أ�أعاقب بها العثة‪� ،‬أم ال�شتاء‪� ،‬أم �صدري‬ ‫الذي ال يتفق كثرياً مع الهواء البارد؟‬ ‫على �أية حال‪ ،‬لي�س ثمة برد ي�ستحق‪ .‬مل يعد ال�شتاء ُيجيد الوقوف‬ ‫بنا مثلما كان يفعل من قبل‪� .‬صار �شيخ ًا م�س ّن ًا بال حول‪� ،‬أخفت الأيام‬ ‫�صوته القوي‪ ،‬وانتهكت حنجرته اجلبارة‪ ،‬وتركته علي ً‬ ‫ال يو�شك �أن‬ ‫يتقاعد من عمله يف الزمن‪ ،‬ويرتك املدينة وراءه لف�صلها الوحيد الذي‬ ‫تعرف لغته‪ ،‬ال�صيف‪.‬‬ ‫كنت دقيق ًا يف ر�صد تراجع ال�شتاء‪ ،‬وهرمه‪،‬‬ ‫ولأين‬ ‫م�صاب بالربو‪ُ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫و�ضعفه‪ .‬ورغم �أن هذا ال يب�رشين بالهدوء على �أية حال‪ ،‬فلل�صيف‬ ‫�أغربته وعوا�صفه الرتابية‪ ،‬والزمهرير ال�صناعي الذي تبثه �أجهزة‬ ‫‪38‬‬


‫التكييف غري املن�ضبطة ي�ؤمل رئتي �أي�ض ًا‪ .‬ولكن ال�شتاء يف هذا العام‬ ‫بالذات كان الأ�ضعف على الإطالق‪ .‬ر�أيته يجمع يف ب�ساطه الأبي�ض‬ ‫نفحات واهية ال تغني من برد‪ ،‬بالكاد يوزعها على الأ�شهر القليلة‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫يحرك �أوراق ال�شجر‪ ،‬ويغري �شكل‬ ‫التي يلفظها عليه التقومي‪ ،‬وبالكاد‬ ‫ال�شارع‪ ،‬وبالكاد ي�ؤلف بني �أحاديث النا�س وظنونهم‪ ،‬مثلما كان‬ ‫كنت �أكرث ال�شامتني‬ ‫يفعل يف الأعوام اخلوايل‪ .‬وهذا العام بالذات‪ُ ،‬‬ ‫�سخرت منه يف كل الأمكنة التي اعتاد �أن ي�ضطهدين‬ ‫ب�ضعفه هذا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فيها‪ ،‬يف مدينة ال تن�رص املظلومني على ليلة باردة‪ ،‬وال على �أ ّية مظامل‬ ‫�أخرى‪ .‬ح�رش ُت ُه يف زاوية من الذاكرة البعيدة‪ ،‬دون �أن �أ�ستثني رجف ًة‬ ‫واحدة كالها يل يوم ًا ما‪� ،‬أو �سعل ًة جافة خد�شت حلقي يف �إحدى‬ ‫نكباته‪ ،‬فما لبث �أن �أرجتف هو ذاته‪ ،‬ومللم نفخاته الرتيبة‪ ،‬ورحل‪.‬‬ ‫كان �آخر �شتاءات الريا�ض‪� ،‬أقول هذا و�أنا �أعرف �شتاءاته جيداً‪،‬‬ ‫و�أح�س بها يف مر�صدي ال�صدري الذي ال يعب�أ بالفلك‪ ،‬لأنه لي�س‬ ‫بدقة ال�سعال‪ ،‬ولهذا �أ�ستطيع �أن �أ�ست�شعر ح�ضوره ورحيله من دون �أن‬ ‫�ألتفت للتقومي‪ ،‬ومن دون �أن �أنتبه �إىل رع�شاتي‪ ،‬ومالب�سي‪ ،‬وحديث‬ ‫النافذة‪ ،‬وقرف�صاء ال�سماء‪.‬‬ ‫وبخالف ال�سعال‪ ،‬عندي �أدوات �شخ�صية جداً �أحت�س�س بها وجه‬ ‫أدوات قلبية �أعرف بها دائم ًا دخوله الرمادي‪،‬‬ ‫ال�شتاء �إذا دخل‪ٌ � .‬‬ ‫عندما �أجدين خانع ًا �أمام كل حاالت الذاكرة‪ ،‬نزاع ًا للبكاء‪ ،‬واحلنني‪،‬‬ ‫واجلن�س‪ ،‬مثل عازف �ضائع‪� .‬أبحث عن م�أوى‪ ،‬وعن موقد‪ ،‬وعن‬ ‫تخليت عنها منذ زمن طويل‪ .‬هكذا يجعلني‬ ‫�إ�صغاء‪ ،‬وعن �أحالم‬ ‫ُ‬ ‫ال�شتاء �أتوهم �أين �أملك جذوراً و�أعرف �أين �أقف‪ ،‬و�أجدين يف يومه‬ ‫‪39‬‬


‫الأول‪ ،‬غ�صن ًا يتب ّناه الر�صيف والريح مع ًا‪.‬‬ ‫رحت �أنقر �سطح جبيني‪ ،‬و�أق ّلب ب�رصي يف وجوه العابرين جواري‬ ‫ُ‬ ‫ك�أ�سو أ� عادات الريا�ض‪ ،‬و�أت�ساءل و�أنا �أملح مالحمهم املثبتة على حالة‬ ‫�ستمر‬ ‫تذمر م�شرتكة‪ :‬ترى ما الذي ي�ستعجلون حدوثه يف الريا�ض؟‬ ‫ّ‬ ‫رحم �أكرث �إنتاج ًا‬ ‫الليلة‪ ،‬وت�أتي �أخرى �شبيهة جداً ب�سابقتها‪ ،‬فلي�س ثمة ٌ‬ ‫للتوائم املت�شابهة من ليل الريا�ض‪ ،‬ف�أي �شيء يجعلنا ن�سبق الزمن لنبلغ‬ ‫اليوم الذي يليه �إذن؟‬ ‫رمبا كان الكثري من الكدر هو ما ينق�ص �سكان هذه املدينة‪،‬‬ ‫خمتلف يف ال�شارع القادم‪ ،‬وال يف وجه العابر‬ ‫لي�ستيقنوا يوم ًا �أال �شيء‬ ‫ٌ‬ ‫املجاور‪ ،‬وال يف خمار املر�أة البعيدة‪ ،‬وال يف بركة املطر الكبرية‪ ،‬وال‬ ‫خلف الإ�شارة التالية‪ ،‬وال يف الغد‪ ،‬فليتوقفوا �إذن عن مالحقة هذا‬ ‫الزمن املماطل‪ ،‬ولكن يبدو �أنه ما زالت هناك �آمال يذكيها كل جيل‬ ‫بطريقته‪ ،‬و�أنّ ثمة �شيئ ًا ما قد يتغري‪.‬‬ ‫ورحت �أت�أمل امل�شهد‬ ‫مهمة تغيري مزاجي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تركت لأغنية �صاخبة ّ‬ ‫من حويل يف ليلة كان من املفرت�ض �أن تكون �شتائية‪ .‬ورغم انحراف‬ ‫ق�سوة الربد عن هذه املدينة كثرياً هذه الأعوام‪ ،‬فقد بقيت لل�شتاء‬ ‫حاالته‪ ،‬ودالئل قليلة على حلوله وهويته‪ .‬ال�سيما معي �أنا‪� .‬شيء يف‬ ‫رائحة الهواء ُّ‬ ‫يدق يف قلبي �أجرا�س ًا �ضعيفة لأبواب ال �أفتحها كثرياً �إال‬ ‫يعلن فيه �سعايل ابتداء الف�صل الرمادي مثل‬ ‫يف ال�شتاء‪ ،‬منذ �أول ٍ‬ ‫يوم ُ‬ ‫ديك الفجر‪� ،‬أعرف �أنه بد�أ ف�صل امل�شي �أثناء النوم‪ ،‬وف�صل العودة �إىل‬ ‫الدفاتر الأوىل‪ .‬الف�صل الذي �أ�ستخرج فيه الأرقام العتيقة‪ ،‬و�أ�ستجدي‬ ‫الكرميات من الن�ساء الباقيات قريب ًا مني‪ ،‬و�أقول الكالم نف�سه الذي‬ ‫‪40‬‬


‫قلته لهن كل �شتا ٍء �سابق‪“ ،‬عندي نوبة حب‪ ،‬متام ًا كنوبة الربو‪،‬‬ ‫فعودي موقّت ًا‪ ،‬و�ساعديني” �أقولها بطرق خمتلفة‪ ،‬ونربات تتفاوت يف‬ ‫م�ستوى الكرامة‪ ،‬والإقناع‪ ،‬ولكنها ت�صف احلالة نف�سها يف النهاية‪.‬‬ ‫كم يوجعني ال�شتاء!‬ ‫ذاكرتي منه موبوءة ومريرة‪ ،‬مثل تواريخ البالد التعي�سة‪ ،‬لي�س لأن‬ ‫كل �أحزاين حدثت يف ال�شتاء‪ .‬ولكن ال�شتاء ميلك قدرة وحيلة على‬ ‫بعثها من جديد‪ ،‬وعلى �أن يعيد �رسد �أخباري مثل راديو‪ ،‬وي�ستطيع �أن‬ ‫يعيدين �صغرياً جداً‪ ،‬ويلقيني مرة �أخرى يف الزاوية املظلمة املغربة من‬ ‫خزانة الثياب‪ .‬ي�ستطيع �أن يفعل العجائب‪ .‬هذا الكائن البارد عنده‬ ‫مهمات قهرية �أكرث بكثري من جمرد الزمهرير والربودة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كنت طف ً‬ ‫أ�شد برداً‪ ،‬و�أم�ضى حيلة‪ ،‬وكان‬ ‫ال كانت الريا�ض � ّ‬ ‫عندما ُ‬ ‫�شتا�ؤها مليئ ًا بعافيته‪ ،‬معتداً بزمهريره‪ ،‬ميار�س ح�ضوره يف الفراغات‬ ‫الكبرية من املدينة بفحول ٍة �صارمة‪ ،‬ويجعل فكرة اخلروج يف ال�صباح‬ ‫الباكر فكرة قابلة للمراجعة‪ ،‬و�إعادة التقييم‪ ،‬ووزن ال�رضورة مع‬ ‫التعب‪ .‬ويف الليل‪ ،‬كان ي�ضطرين �أن �أنام يف جوار مدف�أة الزيت‬ ‫احلديدية ا�ستجدا ًء لدفء �أمني‪ ،‬عندما يكون املكان عاد ًة حما�رصاً‬ ‫بالربد الراكد مثل معادلة فيزيائية ثابتة‪ ،‬كما ي�صفه اجلميع هنا‪ ،‬برد‬ ‫يتحرك‪ ،‬وال يركب الرياح مثل البلدان الأخرى‪ ،‬بل يثبت يف‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫مكانه‪ ،‬وينح�رش يف حلق الهواء املحيط بنا‪ ،‬غ�ص ًة كبري ًة من االرتعا�ش‬ ‫والق�سوة‪ .‬يخرج من الأر�ض وال ي�أتي من ال�سماء‪ ،‬ك�أنه ردة فعل‬ ‫حانقة من الأر�ض على اخلطاب ال�شم�سي الطويل الذي يركبها طوال‬ ‫ال�صيف‪ ،‬تلده ال�صحراء وتقذف به قلب املدينة‪ ،‬وي�شعلون النار‪ ،‬ال‬ ‫‪41‬‬


‫�شيء ي�شفي من برد الريا�ض �إال حرز احلطب‪ ،‬ولغة املواقد‪ ،‬وعندها‬ ‫جند �أن كالمنا املتجمد يف القلوب قد �أخذ يف ال�سيالن‪ ،‬وراح يتجه‬ ‫نحو الآخرين ببطء‪ ،‬و�رسعان ما تختلط الأحوال‪ ،‬وي�ضيع فيما بينهم‬ ‫وجل الربد‪.‬‬ ‫هذا يف�رس �أحيان ًا‪ ،‬ملاذا �إذا ت� ّأخر احلب طوي ً‬ ‫ال �أ�صبحت املواقد‬ ‫�رضورة‪ ،‬وملاذا �إذا متزق الذي يحب بني ذاكرتني‪� ،‬صار وجهه رماداً‪،‬‬ ‫وكالمه ي�شبه طقطقة النار‪ .‬هل لأنه يعرف �أنه لن يتكلم عنها‪� ،‬أو‬ ‫قولته النار ما مل يكن ليقوله‬ ‫عنهما‪� ،‬أو عنهن �إذا كن �أكرث‪� ،‬إال �إذا ّ‬ ‫من �أكاذيب احلب الوحيد‪ ،‬والوفاء املديد‪ ،‬وخرافة هو النبيل‪ ،‬وهي‬ ‫اجلميلة؟‬ ‫يت�ضاعف حزين �شتا ًء‪ ،‬لي�س لأين �أتذكر �أكرث‪ ،‬ولكن لأين‬ ‫لهذا‬ ‫ُ‬ ‫�أتذكر ب�شكل �أ�صدق‪ ،‬وبلغة �رصيحة جارحة‪ ،‬جتعلني �أعرتف بنف�سي‪،‬‬ ‫وبقلبي املتعدد اللغات‪ ،‬حتى لو عاقبني الربد‪ ،‬والهجري‪ ،‬والوحدة‪،‬‬ ‫حتر�ضني‬ ‫كانت النار التي ت�أتي �أحيان ًا مثل نعيم معكو�س‪ ،‬هي التي ّ‬ ‫على انك�شافات كهذه‪ ،‬انك�شافات احلب الكبري‪.‬‬ ‫�أنا ال �أحب ال�شتاء‪ ،‬ولكنه احلالة الوحيدة التي ت�ستوجب النار‪،‬‬ ‫ولهذا �أنتظره و�أنا ٌ‬ ‫مثقل بالأكاذيب‪ ،‬ومبثالية القلب العوجاء‪ .‬لي�س من‬ ‫�أجل زمهريره ونوافذه املقفلة‪ ،‬وال من �أجل ال�صوف‪ ،‬واملعاطف التي‬ ‫أنتظم فيه ثالثة‬ ‫أنتظر ح�ضور املوقد الذي �س� ُ‬ ‫ت�أكلها العثة‪ ،‬لكن لأين � ُ‬ ‫�أ�شهر‪ ،‬مثل عا�شق جنيب‪ ،‬لأتعلم الكالم‪ ،‬والدفء‪ ،‬واحلكاية‪.‬‬ ‫الأمر ي�شبه عالقتنا باحلرب‪ ،‬نكرهها جداً‪ ،‬ولكننا ن�ؤمن على‬ ‫اختالف والئنا‪� ،‬أنها احلالة الوحيدة التي ميكن �أن نلم�س من خاللها‬ ‫‪42‬‬


‫الوطن على حقيقته‪ .‬ال�شتاء يجعلنا ندخل غرفة احلقيقة ولو على‬ ‫م�ض�ض‪ ،‬ونعرتف للنار مثلما يعرتف املخطئون‪ ،‬ونخرج من ال�شتاء‬ ‫بقلوب ال يعني �شيئ ًا طهرها من عدمه‪ ،‬املهم �أننا �رصنا نعرفها �أكرث‪.‬‬ ‫الأطفال الآخرون كانوا يحبون ال�شتاء‪ ،‬ويبتهجون ب�أ�شهره الثالثة‬ ‫التي تك�رس رتابة ت�سعة �أ�شهر �أخرى اخت�رصها ال�صيف‪ ،‬وجعلها تابعة‬ ‫له يف النهج وال�صفة‪ .‬كانوا يحبون جتدده‪ ،‬مالب�سه‪� ،‬سمره‪ ،‬رحالته‬ ‫تبث دفئ ًا عابراً‪ ،‬وبرك املاء الكبرية‬ ‫الربية‪ ،‬ليله الطويل‪ ،‬و�أمطاره التي ّ‬ ‫يف ال�شوارع الرئي�سة‪ ،‬وال�صلوات املجموعة للتخفيف عن النا�س‪،‬‬ ‫وعدة رموز �أخرى ال يفعلها ال�صيف كثرياً‪ ،‬والأطفال يحبون الأ�شياء‬ ‫التي تتغري‪.‬‬ ‫غري �أين مل �أكن مثلهم‪ ،‬لأن �أمي كانت تدوخ �إذا نامت يف غرفة‬ ‫فيها مدف�أة‪ ،‬ويجعلها الهواء ال�ساخن تفقد الرتكيز‪ ،‬وحتى القدرة‬ ‫ويبث يف ر�أ�سها �صداع ًا �ضبابي ًا‪ ،‬و�شعوراً بالغثيان‪،‬‬ ‫على امل�شي �أحيان ًا‪ّ ،‬‬ ‫ولذلك كانت تكتفي باملالب�س الثقيلة‪ ،‬والأبواب املغلقة‪ ،‬بينما �أبي ال‬ ‫ي�ستطيع �أن ينام يف حجرة مغلقة منذ جتربة �سجنه‪ ،‬و�أنا ال �أحتمل الربد‪،‬‬ ‫وال �أ�ستطيع النوم حم�شوراً يف لبا�س ثقيل‪� ،‬أو مطموراً حتت �أغطية ال‬ ‫تنتمي �إيل‪ ،‬ولهذا كان ال�شتاء ي�شتت عاداتنا‪ ،‬ويغري �أماكن النوم �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫كانت �أمي تنام يف غرفتها‪ ،‬بباب مغلق‪ ،‬وحتت بطانيات عديدة‪،‬‬ ‫وكان �أبي ينام يف غرفة ال�ضيوف‪ ،‬مكتفي ًا بلحاف خفيف‪ ،‬ومدف�أة‬ ‫بعيدة‪ ،‬و�شباك ن�صف مغلق �أحيان ًا‪ ،‬بينما جتربين �أمي على النوم وحيداً‬ ‫يف غرفتي‪ ،‬ملت�صق ًا مبدف�أة الزيت التي ت�شعلها منذ غروب ال�شم�س‬ ‫لتدفئ الغرفة‪ ،‬وتعلق يف ثقبي الكهرباء م�صباح ًا �صغرياً وردي اللون‪،‬‬ ‫‪43‬‬


‫دب وحيد هو الآخر‪ ،‬و�أنا مل �أكن يف طفولتي معتاداً النوم‬ ‫له �شكل ّ‬ ‫وحدي‪ ،‬ولكنه ال�شتاء‪ ،‬يفرق بني الطفل و�أمه‪.‬‬ ‫هكذا‪ ،‬كان ال�شتاء يعني يل‪ :‬وح�شة الليل‪ ،‬والتهاومي الغريبة التي‬ ‫متر يف ذهني قبل �أن �أغفو‪ ،‬و�صور غري مفهومة �أتخيلها على ال�سقف‪،‬‬ ‫وال�شبح الذي يرتب�ص بي يف الزاوية اخلفية من ال�رسير‪ ،‬وبع�ض خماوف‬ ‫�أخرى يبعثها يف وجدان الطفل ذلك ال�سكون الرهيب الذي ي�أتي به‬ ‫ال�شتاء‪ ،‬بعد �أ�شهر �صيفية من االعتياد على �أجهزة التكييف‪ ،‬وهديرها‬ ‫امل�ستمر طوال الليل‪ ،‬وعلى رائحة �أمي و�أبي يف غرفة ت�ضمنا جميع ًا‪.‬‬ ‫ا�ستيقظت للذهاب‬ ‫وحتى ال�صباح ال�شتائي كان نكداً مثل ليله‪� .‬إذا‬ ‫ُ‬ ‫مفاو�ضات م�شوبة بالدموع مع �أمي التي ت�ساومني‬ ‫�إىل املدر�سة‪ ،‬تبد�أ‬ ‫ٌ‬ ‫على جميع مالب�س اخلزانة‪ ،‬و�أنا �أرف�ضها كلها‪ .‬كانت ب�رشتي �شديدة‬ ‫احل�سا�سية‪ ،‬ومل �أكن لأحتمل الت�صاق �أي ن�سيج �صويف بها‪ ،‬ولذلك‬ ‫كنت �أهرب �إىل القطن دائم ًا‪ ،‬و“القطن ال يدفئ يا ولدي”‪ ،‬قالت‬ ‫�أمي كثرياً عبارتها اليائ�سة هذه �آخر املطاف‪ ،‬معلن ًة ن�صف ا�ست�سالم‪،‬‬ ‫وقلق ًا يائ�س ًا‪.‬‬ ‫مل تكن ت�ستطيع �إجباري‪� ،‬إذ �إين �أ�ستطيع �أن �أبكي ب�سهولة يف‬ ‫ال�صباح‪ ،‬ب�سبب اعتكار مزاجي �أ�ص ً‬ ‫ال بدافع اال�ستيقاظ من النوم‪،‬‬ ‫والربد‪ ،‬واملدر�سة‪ ،‬وكانت تعرف �أين قد �أخلع ما جتربين على ارتدائه يف‬ ‫ال�سيارة‪ ،‬وهذا ما ينقله لها ال�سائق فور عودته‪ ،‬مما ي�ضطرها �إىل �إر�ساله‬ ‫مرة �أخرى �إىل املدر�سة حام ً‬ ‫ال ما خلعته من املالب�س يف كي�س �صغري‪،‬‬ ‫وا�ضطررت �إىل ذلك‪ ،‬وكثرياً ما �أفعل‪.‬‬ ‫لعلي �ألب�سها �إذا م�س ّني الربد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ولأنها ال تثق بلعب ال�صبيان‪ ،‬وتعرف �أن املالب�س الفوقية‪،‬‬ ‫‪44‬‬


‫كاملعطف �أو اجلاكيت‪� ،‬سهلة اخللع‪ ،‬ما دمت �ألب�سها فوق الثوب‬ ‫�أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬فقد كانت ت�رص �أيام الربد ال�شديد على تدفئتي باملالب�س‬ ‫الداخلية التي حت�رشها حتت ثوبي‪ ،‬حتى ال �أخلعها ب�سهولة‪ ،‬وهذه‬ ‫املالب�س تقتلني قت ً‬ ‫كنت �أكرهها �أكرث مما �أكره الأوالد البذيئني‪،‬‬ ‫ال! ُ‬ ‫وال�رصا�صري التي تطري‪ ،‬وبرك املاء التي تبلل �أطراف اجلورب‪ .‬حتى �إذا‬ ‫جفن‬ ‫�أجربتني �أمي عليها‬ ‫ا�ستجرت بالدمعات ال�صباحية القابعة قاب ٍ‬ ‫ُ‬ ‫من النقا�ش‪ ،‬وبالوعود الكبرية‪� ،‬أن ال �أنزع معطفي �أبداً حتى �أعود‪،‬‬ ‫�إذا هي �سمحت يل بارتدائه‪.‬‬ ‫ويف الأيام التي يكون الربد �رشيراً جداً‪ ،‬مبا ال يدع جما ًال للنقا�ش‪،‬‬ ‫علي الآفتني‪ ،‬املالب�س الفوقية‪ ،‬والأخرى التي تلب�س حتت‬ ‫كانت جتمع ّ‬ ‫الثوب‪ ،‬وكانت متر يل تهديداً مب�ستوى وعيي كطفل‪“ :‬ترى �إذا �شلت‬ ‫مالب�سك �أنا �أعرف‪� ،‬أ�شمها‪ ،‬و�أعرف �أنك ما كنت الب�سها يف املدر�سة”‪.‬‬ ‫ومل تكن �أمي بحاجة �إىل هذا الأنف النابه‪ ،‬كان �سعايل �سينبئها بامتثايل‬ ‫على �أية حال‪ ،‬هذا الربو كان جا�سو�س ًا خمل�ص ًا لقلب �أمي اخلائف‪.‬‬ ‫وال �أدري هل كان مدير املدر�سة االبتدائية التي در�ست فيها‬ ‫قد تلقى ات�صاالت من والدة طالب كات�صاالت �أمي‪ ،‬ف�إذا ا�شتدت‬ ‫�صولة الربد‪ ،‬فلم تكن تتوانى عن ذلك‪ ،‬لتطلب منه �أن يت�أكد �أين �ألب�س‬ ‫معطفي‪ ،‬وخج ً‬ ‫ال منها‪ ،‬كان يبعث ر�سوله الأ�شيب البذيء الذي‬ ‫تذمره �إال ب�سخريته ال�سيئة‪ ،‬فيطرق‬ ‫يتذمر من هذه املهمة‪ ،‬فال يعرب عن ّ‬ ‫باب غرفة الدر�س‪ ،‬ثم يهتف متعمداً �إ�ضحاك الطالب‪“ :‬ح�سان بن‬ ‫�إبراهيم‪� ،‬أمك تقول الب�س جكيتك!”‬ ‫وال �أدري ملاذا كانت تلك احلالة الإن�سانية العادية‪ ،‬تثري �سخريته �إىل‬ ‫‪45‬‬


‫هذا احلد‪�.‬أمل يكن لديه �أبناء و�أحفاد؟ لي�س هو فقط‪ ،‬بل بقية التالميذ‬ ‫من حويل وهم ي�ضجون ب�ضحكات مكتومة �إذا كان الأ�ستاذ حا�رضاً‪،‬‬ ‫و�أخرى عالية �ساخرة يف �أثناء غيابه‪ .‬كان حتويل �إىل �أ�ضحوكة الطفل‬ ‫املدلل ي�ؤذيني حتى ال�صميم قبل �أن �أفكر يف تربير يجعلني �أجتاهل‬ ‫أ�صبحت كثرياً ما �أنقم على �أمي‪ ،‬و�أمتنى لو �أتخل�ص‬ ‫معايريهم الغبية‪� ،‬‬ ‫ُ‬ ‫علي‪ ،‬وجتعلني �أبدو خمتلف ًا‪ ،‬حمط‬ ‫من عاطفتها احلديدية التي ت�شد بها ّ‬ ‫�أنظار ال�ساخرين‪ ،‬املتهكمني‪ ،‬يف مدر�سة حكومية كبرية‪ ،‬ال تخلو من‬ ‫�أمثالهم‪.‬‬ ‫وكان هذا ال�ش�أن املتكرر يلفت �أنظار املعلمني �إ ّ‬ ‫يل‪ .‬هذا الطفل‬ ‫الذي تهتم به �أمه �إىل هذا احلد‪ ،‬ذو اللهجة املهذبة‪ ،‬اخلجول جداً‪،‬‬ ‫الهادئ دائم ًا‪ ،‬يبدو ناعم ًا‪ ،‬ولدى بع�ضهم‪ ،‬يبدو مثرياً‪ ،‬ولدى �آخرين‬ ‫�أ�شد جر�أة‪ ،‬ورمبا كنت �أبدو كتوم ًا‪ ،‬ال �أبوح مبا قد يحدث يل‪ .‬لذلك‬ ‫مل تكن �أغلب مل�ساتهم حانية لوجه احلنو فقط‪ .‬لأنه �إذا كان هذا املعلم‬ ‫علي فع ً‬ ‫ال ك�أب‪ ،‬فلماذا مل يكن ي�ضمني �إال ونحن‪� ،‬أنا وهو‪،‬‬ ‫يعطف ّ‬ ‫وحدنا؟ ملاذا خارج الف�صل؟ وملاذا مل �أر غريي من الطالب ينال هذه‬ ‫املعاملة احلنون حد العناق؟ حتى الأول يف الف�صل‪ ،‬والأف�ضل يف كرة‬ ‫القدم‪ ،‬و�أف�صحهم خطابة يف الإذاعة ال�صباحية‪ ،‬مل يكونوا جميع ًا‬ ‫علي �أنا فقط‪.‬‬ ‫ليحوزوا معاملة كهذه التي �أ�شعر ب�أنها حتط ّ‬ ‫كنت �أ�شعر بال�ضيق‪ ،‬من دون �أن �أفهم ال�سبب‪ .‬ثمة‬ ‫�أتذكر �أين ُ‬ ‫يقبلني قبالت الرجال بالت�صاق اخلدين فقط‪ ،‬بل‬ ‫معلم �آخر مل يكن ّ‬ ‫كان يطبع �شفتيه بقوة على خدي‪ ،‬و�إذا جنح يف خلق موقف كان‬ ‫يجعل القبلة تبدو عابرة �رسيعة‪ ،‬لكنه كان ي�سعى �إىل جعلها �أقرب‬ ‫‪46‬‬


‫�إىل �شفتي‪ ،‬و�أحيان ًا يف البقعة ال�صامتة من رقبتي‪ ،‬وي�ستن�شق بقوة ما‬ ‫يت�رسب �إليه من رائحة ج�سدي ال�صغري �آنذاك‪ .‬مل �أكن �أعي �أن ثمة‬ ‫حتر�ش ًا كهذا يحوم حويل‪ ،‬و�أين �أكاد �أكون على مرمى خلوة حمتملة‬ ‫من �شبه اغت�صاب‪ .‬كان ّ‬ ‫جل ما �أخ�شاه هو �أن ينتبه �أحد الطالب �إىل‬ ‫هذه العاطفة اجليا�شة‪ ،‬كما كنت �أظنها‪ ،‬والتي يكيلها بع�ض املعلمني‬ ‫جتاهي‪ ،‬خوف ًا من �سخرية زمالئي مني فيما بعد‪ ،‬لأن بع�ض املعلمني‬ ‫كان ي�ستخف بعقول ال�صغار‪ ،‬وي�ستهني ب�أفهامهم الفطرية الب�سيطة‪،‬‬ ‫فلم يكونوا حري�صني على �إخفاء حماوالتهم ال�رسيعة يف اللم�س‬ ‫والتقبيل �أمامهم‪ ،‬كما يحر�صون على �إخفائها عن بقية املعلمني‪،‬‬ ‫�أو طالب ال�صفوف العليا‪ .‬حتى �إذا انتهى املوقف‪ ،‬ا�شتعلت �أل�سنة‬ ‫الطالب بال�سخرية �شهوراً طويلة بعدها‪.‬‬ ‫�أحد �أولئك املعلمني �ألح كثرياً على ت�سجيلي يف الأن�شطة خارج‬ ‫ال�صف‪ ،‬حتى يت�سنى له دائم ًا �إبقائي يف غرف الن�شاط‪ ،‬وقت ًا �أطول‪،‬‬ ‫ويف معزل عن الف�صل املكتظ بالطالب الآخرين‪ ،‬و�أي�ض ًا مل �أكن �أفهم‬ ‫ّنياته‪ ،‬ومل �أفهم �أي�ض ًا ذلك احلوار احلاد الذي دار بيني وبني معلم �أحد‬ ‫املواد الدينية‪ ،‬الذي ا�شتم رائح ًة �سيئ ًة يف �سلوك ذلك املعلم جتاهي‪.‬‬ ‫كان ذا حلية كبرية‪ ،‬وح�ضور مهيب‪ ،‬رغم تلطفه معنا‪ ،‬وحكاياته‬ ‫التي ال تتوقف‪ ،‬غري �أنه كان ال يلم�سني بل ير ّبت ر�أ�سي تربيت ًا طفيف ًا‪،‬‬ ‫وب�أ�صابع نزيهة جداً‪.‬‬ ‫ذلك اليوم قال يل‪:‬‬ ‫– ح�سان‪� ،‬أالحظ تر ّددك الدائم �إىل غرفة الن�شاط‪ ،‬ملاذا؟‬ ‫– لأن الأ�ستاذ �سلطان ي�أخذين معه �إىل هناك‪.‬‬ ‫‪47‬‬


‫– وماذا تفعالن؟‬ ‫– نرتّب الأوراق‪ ،‬نع ّلق بع�ض اللوحات‪.‬‬ ‫– لوحدك‪ ،‬وال فيه طالب غريك؟‬ ‫– �أحيان ًا يجي طالب غريي‪ ،‬و�أحيان ًا ما يجي �أحد‪.‬‬ ‫– �إذا مل ي� ِأت طالب غريك‪ ،‬ال جتل�س وحدك‪ ،‬عد �إىل ف�صلك‪.‬‬ ‫– طيب‪.‬‬ ‫– ترى �إذا �شفتك لوحدك مع �أي �أ�ستاذ يف غرفة الن�شاط بزعل‬ ‫منك‪ ،‬هذا ممنوع‪.‬‬ ‫– طيب‪.‬‬ ‫– و�إذا �أحد عمل لك �أي �شيء‪ ،‬ال ت�سكت‪ ،‬رح للمدير‪� ،‬أو تعال‬ ‫اعلمني‪� ،‬أو قل لأبوك‪.‬‬ ‫– طيب‪.‬‬ ‫و�أرك�ض بعيداً‪ ،‬و�أنخرط يف اللهو مع بقية الطالب‪� ،‬أو �أعود �إىل‬ ‫ف�صلي‪ ،‬وتتبعرث حتذيراته تلك خارج ر�أ�سي متام ًا‪.‬‬ ‫مل �أتذكر كلمات مع ّلم الدين ذاك �إال و�أنا �أرجتف تلك الظهرية‪،‬‬ ‫عائد �إىل املنزل‪� ،‬أ�سرتجع ما حدث يف‬ ‫يف املقعد اخللفي لل�سيارة‪ ،‬و�أنا ٌ‬ ‫د�س املعلم يده بوقاحة يف م� ّؤخرتي‪ ،‬بينما �أنا من�شغل‬ ‫ال�صباح‪ ،‬وكيف ّ‬ ‫مفجراً يف ج�سدي طوفان ًا من االرتباكات‪،‬‬ ‫ب�ألواين‪ ،‬وكرا�سة الر�سم‪ّ ،‬‬ ‫واخلوف‪ ،‬والرجفات التي احت ّلت يدي و�صوتي‪ ،‬وجعلتني �أبتعد عنه‬ ‫فج�أة‪ ،‬و�أرمقه بتلك النظرة املت�سائلة املذعورة!‬ ‫�أمي وحدها كان ميكن �أن تبلغ يداها م� ّؤخرتي يف تلك املرحلة من‬ ‫طفولتي‪ ،‬ولكن لي�س هكذا‪� ،‬أمي ت�ساعدين يف اال�ستحمام‪ ،‬وتعرب يداها‬ ‫‪48‬‬


‫ومتر‬ ‫ج�سدي بلطافة‪ ،‬ومن خلف قطعة اال�ستحمام القما�شية ال�صغرية‪ّ ،‬‬ ‫من م� ّؤخرتي ب�شكل �أفقي �رسيع‪ ،‬ولي�س عمودي ًا كما فعل املعلم‪ .‬للمرة‬ ‫فج جداً‪ ،‬وعلى‬ ‫الأوىل يف حياتي �أ�ست�شعر يداً خ�شنة‪ ،‬تلم�سني ب�شكل ّ‬ ‫غري انتباه‪ .‬هذا ال�شعور غري املعتاد هو الذي جفّلني مثل القطة حني‬ ‫نلم�س بطنها‪� ،‬شعرت بربودة �رسيعة يف �صدري‪ ،‬وعلى جانبي عنقي‪،‬‬ ‫وبب�ضعة انقبا�ضات ال �إرادية يف م� ّؤخرتي‪ ،‬ثم عاد دمي تدريج ًا يبث‬ ‫دفئ ًا م�ضاعف ًا يف �أو�صايل التي جفّت وهلة‪ ،‬لتقييم املوقف‪.‬‬ ‫عمال‬ ‫وقتذاك تركني‪ ،‬وراح‬ ‫ّ‬ ‫يتحدث عن �أ�شياء �أخرى مع بع�ض ّ‬ ‫املدر�سة‪ ،‬وك�أمنا يريد �أن ي�رصف انتباهي عن غرابة ت�رصفه معي‪،‬‬ ‫واقتحامه خ�صو�صية ج�سدي بتلك اللم�سة املباغتة‪ ،‬مل �أ�ستطع العودة‬ ‫�إىل مكاين واال�ستمرار يف الر�سم مرة �أخرى‪ .‬حملت حقيبتي‪،‬‬ ‫وخرجت من غرفة الن�شاط ب�صمت‪ ،‬فناداين قبل اخلروج‪:‬‬ ‫– ح�سان‪ ،‬وين رايح؟‬ ‫– بروح الف�صل‪.‬‬ ‫ا�صطنع نظر ًة جادة‪ ،‬ووجه ًا جديداً‪ ،‬ولكني الحظت دوران‬ ‫عينيه يف حمجريهما فيما ي�شبه حرية عابرة‪ ،‬ثم قال يل بارتباك و�إن‬ ‫ب�صوت عال‪:‬‬ ‫– طيب‪ ،‬طيب‪� ،‬آ‪ ،‬ال تن�س الواجب بكره‪.‬‬ ‫مل يكن ثمة ما يدعوه �إىل تذكريي بالواجب يف هذه الأثناء‪ ،‬رمبا‬ ‫واجب �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬ال �أتذكر‪ ،‬ولكنه كان يحاول جاهداً‬ ‫مل يكن هناك‬ ‫ٌ‬ ‫ت�شتيت تركيزي‪ ،‬و�إرغام التيار الذي ا�ضطرب فج�أة على العودة‬ ‫من�سجم ًا داخلي‪ ،‬لأن�سى ما قد حدث‪ ،‬ومتر �شهوته الإ�صبعية ب�سالم‪،‬‬ ‫‪49‬‬


‫من دون �أن �أتكلم عنها �أمام الآخرين‪.‬‬ ‫عدت �إىل املنزل من دون �أن �أنب�س بكلمة واحدة لأحد‪،‬‬ ‫بالفعل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫و�شعرت‬ ‫ولكني كلما تذكرت املوقف �رست يف بدين كهرباء م�ؤملة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ب�أن �شيئ ًا ما يف نظراته التي �أعقبت تلك اللم�سة‪ ،‬كان ي�شي ب�أمر غري‬ ‫مطمئن‪ ،‬ولكني ال �أملك التخمينات الالزمة لو�ضعه مو�ضع �شك‪،‬‬ ‫ومل �أفهم ما هو التحر�ش‪ ،‬كيف يكون‪ ،‬وملاذا هو �سيئ‪.‬‬ ‫رمبا غابت عن ذاكرتي تلك احلادثة �آنذاك‪ ،‬ولكن جزءاً منها حترك‬ ‫داخلي‪ ،‬وا�ستقر يف �أ�صابعي التي حتمل �سلوك ًا كامن ًا منذ الطفولة‪،‬‬ ‫الفتيات اللواتي‬ ‫يتجه بها ال�إرادي ًا لتكرار ال�صدمة ذاتها‪ ،‬وال تفهم‬ ‫ُ‬ ‫عرفتهن تباع ًا ملاذا تكون يدي دائم ًا هي �أ�سبق خيويل �إىل �أج�سادهن‪.‬‬ ‫عتاب خجول‪،‬‬ ‫يف لقاءاتي الأوىل مع جور ّية‪ ،‬ارت�سم يف عينيها‬ ‫ٌ‬ ‫ومن وراء ابت�سامة مرجتفة‪ ،‬قالت يل‪:‬‬ ‫– يدك‪.‬‬ ‫�ضمة ع�صبية لأنظر �إىل‬ ‫ُ‬ ‫ملقى وراءها يف ّ‬ ‫رفعت وجهي الذي كان ً‬ ‫عينيها الع�سليتني مبا�رشة‪.‬‬ ‫– ما بها؟‬ ‫ازدادت عيناها انخفا�ض ًا‪ ،‬و�أجابت بخفر‪:‬‬ ‫– طويلة �شوي‪ ،‬يبيلها ق�ص!‬ ‫كنا قاب �شفة من �أول قبلة‪ ،‬حتى القبلة نف�سها مل تكتمل‪ ،‬بينما‬ ‫كانت يدي قد توغّ لت فع ً‬ ‫ال م�سافة غري ق�صرية من فخذها‪ ،‬وراحت‬ ‫تدب ببطء على جلدها وحبيباته املتوترة‪ ،‬وب�إ�رصار ُخ ْلدٍ �شجاع على‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫أعلنت و�إياها �أن اجلن�س َح َد ٌ‬ ‫�إكمال تنقيبه يف الأر�ض‪ ،‬ومل �أكن قد � ُ‬ ‫‪50‬‬


‫ٌ‬ ‫و�سلوك مقبول‪ ،‬فكيف تراها يدي قد قررت قبلي؟ وملاذا‬ ‫حمتمل بعد‪،‬‬ ‫تنطلق يف خيارها امل�ستقل من دون الرجوع �إ ّ‬ ‫يل‪ ،‬ومن دون �أن تلتفت‬ ‫�إىل ظرويف التي �أختارها مع الفتاة قبل ذلك‪ ،‬وما ميكن �أن ت�ضعني فيه‬ ‫حرج حمتمل؟‬ ‫من ٍ‬ ‫راحت يدي تطبق دوراً ُكتب عليها قبل �سبع ع�رشة �سنة من هذا‬ ‫اليوم احلنون مع جور ّية‪ .‬حتى هي فعلت الأمر ذاته‪ ،‬كانت تغم�ض‬ ‫عينيها‪ ،‬ثم ترتك يديها جتو�سان يف ج�سدي حيث تقودها �شهوتها‪،‬‬ ‫وك�أن �أق�صى ما ي�سمح به �ضمريها املرتبك �آنذاك هو �أن تلم�س‪ ،‬وال‬ ‫ترى‪ .‬وظلت متار�س هذا العمى االختياري يف اجلن�س عدة لقاءات‬ ‫بعد ذلك‪ ،‬قبل �أن جتد �أن حكر الذنب على يديها ال يجعله يبدو‬ ‫�أ�صغر‪ ،‬فاندفعت ببقية حوا�سها الأخرى‪ ،‬ومل تتوقف حتى �آخر‬ ‫ملوحة اجلن�س‪ ،‬و�أول ارتواء له يف حياتها‪.‬‬ ‫أ�ستخرج من طفولتي تف�سريات حمتملة لكل عاداتي‬ ‫الآن فقط‪� ،‬‬ ‫ُ‬ ‫الب�سيطة‪ ،‬عندما كان ج�سدي الطفل ال يفهم اجلن�س‪ ،‬ولكن عقلي‬ ‫الباطن يفهمه حتم ًا‪ ،‬وي�ستوعبه‪ ،‬ويدركه‪ ،‬وعندما يكرب‪ ،‬يظل العقل‬ ‫ج�سد نا�ضج م�ستعد‬ ‫ولكن ي�صبح هناك‬ ‫الباطن على �إدراكه ال�سابق‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫لتلقي تلك الأوامر املختزنة‪ ،‬وممار�سة ال�سلوكيات التي ميليها عليه هذا‬ ‫الذي �أحاط بكل �شيء‪ ،‬و“اجل�سد ال ين�سى” كما يقول فرويد‪.‬‬ ‫أ�شخ�ص نف�سي �أف�ضل من ت�شخي�صه النف�سي‬ ‫لو يعلم و ّزان �أين � ّ‬ ‫الد�ؤوب يل‪ ،‬لربمّ ا ابتهج‪ ،‬و�شعر �أين �أتوهم فهم ًا عابراً ملنحنيات‬ ‫حياتي‪� .‬أنا �أوقن �أن �شهادته النف�سية �أكرث احرتاف ًا من تخر�صاتي‪ ،‬ولكن‬ ‫�أوقن �أي�ض ًا �أنني �أكرث �صدق ًا مع نف�سي‪ ،‬و�أكرث جر�أة يف مواجهتها ذاتي ًا‪،‬‬ ‫‪51‬‬


‫قبل �أن �أواجهها معه‪ .‬هو الذي كان طبيبي‪ ،‬ثم �صديقي‪ ،‬ثم طبيبي‬ ‫مر ًة �أخرى‪ ،‬ثم �أ�صبح �شخ�صية فقدت ت�صنيفها يف دائرة حياتي‪.‬‬ ‫هو طبيب نف�سي‪ ،‬و�أنا ي�ستهويني فرويد الذي يرى و ّزان �أن نزعته‬ ‫للفن وميتافيزيقاه �أف�سدته‪ ،‬و�أنه كان ظاهرة ع�رصه لأن املعطيات‬ ‫العلمية املحدودة �آنذاك كانت جتعله يبدو باهراً‪ ...“ ،‬من علل التاريخ‬ ‫�أنه يفر�ض علينا �أن نرتدي االنبهار القهري بال�سابقني‪ ،‬من دون �أن‬ ‫نعاير انبهارهم هذا مبعطياتنا احلا�رضة التي رمبا جتعل من فرويد �شخ�ص ًا‬ ‫عادي ًا”‪ ،‬هكذا كان يقول‪.‬‬ ‫كنت �أرى �أن العبقرية كينونة متحررة من الزمن‪ ،‬وميكنها‬ ‫ولكني ُ‬ ‫�أن تنتج نتاج ًا مرادف ًا ملدى توهجها �أينما ا�ستقرت على معطيات‬ ‫حمر�ضة‪ ،‬وحمف ّزة للإبداع‪ ،‬وكان �أخوه �أمين دائم ًا ن�صريي يف الآراء‬ ‫ّ‬ ‫العقالنية‪ ،‬ودائم ًا هو اللدود عندما تكون ال�ش�ؤون قلبية‪ .‬هو املهند�س‬ ‫الذي يفكر بن�صف عقله الأي�رس‪ ،‬و�أنا احلامل الذي يفكر بالأمين‪.‬‬ ‫ولرمبا لو عرفني �أمين يف مراهقتي لوجدين مغلق القلب‪ ،‬مدفوع ًا يف‬ ‫غمار ي�شبه ما يندفع فيه الآن هو‪ ،‬وما يراه يف احلياة‪ ،‬وما يطلبه منها‪،‬‬ ‫ولكننا التقينا يف زمن كان ٌّ‬ ‫كل منا قد انقلب‪ ،‬على امل�ستويني العقالين‬ ‫والعاطفي‪ ،‬كمق�ص‪.‬‬ ‫مل �أكن �إال راكب ًا يف عربة نقا�ش عابر مع الأخوين‪ ،‬نخيط به ما‬ ‫مت ّزق من ثوب الليل‪ ،‬ويف احلقيقة التي اكت�شفتها مت� ّأخراً‪ ،‬ويف �شتاء‬ ‫كنت يوم ًا مهتم ًا‬ ‫ما كاملعتاد‪ ،‬مل يكن فرويد �أ�ستاذي وال طبيبي‪ ،‬وال ُ‬ ‫بعلمه وال نظرياته‪ ،‬وال حليته وغليونه‪ .‬كل ما يف الأمر �أن فرويد كان‬ ‫الوحيد الذي وقّع بثقة ّ‬ ‫�رشيرة وراء جموحي‬ ‫�صك براءتي من �أي نزعة ّ‬ ‫‪52‬‬


‫اجلن�سي‪ ،‬وطهارتي املك�سورة‪ ،‬و�ألقى بكل التبعات‪ ،‬كلها بال ا�ستثناء‪،‬‬ ‫يف فجوة �سوداء من العدم ا�سمها الالوعي‪ ،‬تارك ًا يل ممحاة رائعة‪� ،‬أحمو‬ ‫بها الذنوب غري ال�رضورية كلما تراكمت فوق �ضمريي‪.‬‬ ‫�أمل يكن فرويد رائع ًا عندما نزل على عقلي مثل رجل الإطفاء‪،‬‬ ‫لينقذين من ّ‬ ‫وه َربت؟‬ ‫جلة حريق كبري من الندم‪� ،‬أ�شعلته جور ّية حويل َ‬ ‫كان مالذي الوحيد فع ً‬ ‫ال عندما كانت جورية تغيرّ رقم هاتفها‪،‬‬ ‫علي ثالثة �أطنان من اللوم لتخنق �أنفا�سي‪ ،‬وتتهمني ب�أربع‬ ‫وترمي ّ‬ ‫تهم معتادة‪ :‬ت�شويه �أحالمها‪ ،‬وا�ستهداف ج�سدها‪ ،‬وحتري�ضها على‬ ‫خذالن ثقة �أهلها‪ ،‬وخد�ش ال�صورة املثالية التي كان يجب �أن يجيء‬ ‫لذت بكتب فرويد‪ ،‬وب�أي‬ ‫حبها الأول‪ ،‬وفار�سها املنتظر‪ .‬ولهذا ُ‬ ‫عليها ّ‬ ‫نظرية �أخرى تنقذين من كالمها املدبب الذي كان يخرتقني ب�سهولة‪،‬‬ ‫وينفجر يف داخلي ب�شكل مكتوم‪ ،‬و�صامت‪.‬‬ ‫كنت �أتعجب من هذه الفتاة التي مل تتجاوز الع�رشين من عمرها‬ ‫ُ‬ ‫�آنذاك‪ ،‬كيف متلك موهبة يف تبكيت ال�ضمري‪ ،‬و�إ�شعال الندم‪ ،‬ولديها‬ ‫قدرة ا�ستثنائية على عك�س م�سارات الذنوب متام ًا‪ ،‬ولهذا تط ّلب‬ ‫نفذت ب�ضمريي من ق�صبة �شنقٍ كبرية كانت قد‬ ‫الأمر عدة �أ�شهر حتى‬ ‫ُ‬ ‫أعدتها يل على عجل‪ ،‬وهي ترتب دموعها حتى تبكي �أمامي ب�شكل‬ ‫� َّ‬ ‫�أنيق وترحل‪ ،‬يف اليوم الأخري من �أكتوبر كما يقول تذكارها الأخري‪،‬‬ ‫ثم ت�ضعني يف مواجهة غريبة مع قلبي‪.‬‬ ‫وحتى عندما جتاوز رحيلها ردح ًا زمني ًا طوي ً‬ ‫وظننت �أنها غابت‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يف الن�سيان �إىل الأبد‪ ،‬وجدتها ما زالت متار�س هواية ت�أنيبي عن بعد‪،‬‬ ‫وترتك يل ر�سالة �إلكرتونية تع ّلق فيها على كتابي الذي انت�رش فج�أة “ال‬ ‫‪53‬‬


‫يبدو وك�أين �أقر�أ �أ�شياء جديدة هنا‪ ،‬الرجل يبدو م�ألوف ًا جداً �إىل حد‬ ‫الرثاء‪ ،‬والأحداث كانت �شبه متوقعة‪ ،”...‬ومل تطل التعليق‪ ،‬حتى ال‬ ‫تك�رس �سطوة غيابها هي الأخرى‪.‬‬ ‫حاولت تفادي الأمل الذي �أحدثه ح�ضورها غري املتوقع يف مكان‬ ‫ُ‬ ‫م�شو�شة متام ًا‪� ،‬أحاول‬ ‫مل يكن معداً لها على الإطالق‪ ،‬وو�سط ظروف ّ‬ ‫حب امر�أة �أخرى‪.‬‬ ‫فيها ابتالع حقيقة ن�رش كتاب يل يتحدث عن ّ‬ ‫حاولت‪ ،‬وجنحت ب�شكل ناق�ص‪ ،‬لأن اجلورية جتيد ابتكار الأمل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تر�ش امل�سامري يف الطريق‪.‬‬ ‫وتعرف جيداً كيف ّ‬ ‫ويف الر�سالة الق�صرية نف�سها �رسدت اجلور ّية �شيئ ًا من �أخبارها‪ .‬مل‬ ‫�أ�س�ألها‪ ،‬ولكني مل �أ�ستغرب البتة �أن تكون كل �أخبارها جيدة‪ ،‬و�سعيدة‪.‬‬ ‫ت�رسب يل ن�صف �شك يف �أنها حزينة على فراقي‪.‬‬ ‫ال ميكن اجلورية �أن ّ‬ ‫ذات كربياء تعمل تلقائي ًا بدون �أزرار �أحيان ًا‪� .‬أخربتني �أنها تدر�س يف‬ ‫بريطانيا الآن‪ ،‬ومل تكن تلك معلومة مهمة‪ ،‬ولكنها كانت طريقتها‬ ‫يف التلميح �إىل �أنها جتاوزتني جغرافي ًا �أي�ض ًا مثلما جتاوزتني عاطفي ًا‪.‬‬ ‫وعندما �أعيد قراءة كلماتها التي وافتني بها ر�سالتها االلكرتونية‪،‬‬ ‫موقّعة با�سمها امل�ستعار املعتاد (غدير)‪� ،‬أكت�شف �أنها تزداد بعداً �إىل‬ ‫حد مريح بالن�سبة �إيل‪ .‬لقد انق�شعت اجلور ّية متام ًا عن �سمائي مثل‬ ‫غيمة وجدت نف�سها فوق الأر�ض اخلط�أ‪.‬‬ ‫بقيت �أيام ًا �أفت�ش يف تعليقها عن ملحات �أخرى جتعله �أخف وط�أة‬ ‫ُ‬ ‫قبل �أن �أكت�شف تدريج ًا �أين �أفت�ش عما ال �أحتاجه �أ�ص ً‬ ‫ال‪ .‬هل �س�أكون‬ ‫حتبني مث ً‬ ‫ال؟ ال �أعتقد‪.‬‬ ‫�أقل تعا�سة لو‬ ‫ُ‬ ‫وجدت يف كالمها �أنها ما زالت ّ‬ ‫حيوان االعتزاز املوقّت الذي �سيقفز يف �صدري حينذاك كعا�شق‬ ‫‪54‬‬


‫�سابق‪� ،‬رسعان ما يلتهمه حيوان �أكرب‪ ،‬ا�سمه الذنب‪ ،‬وينه�شني بعده‬ ‫قطيع من الندم املري�ض‪.‬‬ ‫كانت اجلورية تريدين �أن �أحتمل وحدي �إثم ًا ارتكبناه مع ًا‪ .‬لي�س‬ ‫�إثم الرغبة‪ ،‬واجل�سدين امللتحمني حتت ال�سماء مبا�رشة‪ ،‬فوق �سطح‬ ‫حب‬ ‫منزلنا يف الريا�ض‪ ،‬عندما �ضاقت الأمكنة‪ ،‬بل �إثم الوقوع يف ّ‬ ‫غري مربر‪ ،‬بني �شخ�صيتني متعاك�ستني متام ًا‪ ،‬تفوح من عالقتهما‬ ‫رائحة املناف�سة �أكرث من االن�سجام والت�آلف‪ ،‬حتى لك�أن كل حاالت‬ ‫احلب لي�ست �إال هدنات‬ ‫االنك�سار العاطفي التي نتبادلها على �شكل ّ‬ ‫موقّتة تفر�ضها ظروف ال�سباق‪ ،‬حتى يت�أتى لكل منا بعد ذلك‪� ،‬أن‬ ‫ينق�ض انق�ضا�ضة قادمة على م�ساحة �أو�سع من قلب الآخر‪.‬‬ ‫تعرفت عليها م�صادف ًة يف �أحد مقاهي بريوت‪ .‬كانت حمجبة‪ ،‬تلب�س‬ ‫ُ‬ ‫نظارات �أنيقة‪ ،‬وتق�ضم �أظفارها طوال امل�ساء‪ ،‬وتقر أ� كتاب ًا �إجنليزي ًا‬ ‫�صغرياً تاركة العامل وراءها �صاخب ًا يف م�ساء �صيفي معتاد يف قلب‬ ‫ال�سوليدير‪ .‬كان �أبي و�أمي مي�شيان على امتداد ال�شارع‪ ،‬و�أنا �أبقي عين ًا‬ ‫ن�صف مهتمة على ما تركاه يف عهدتي من �أكيا�س وم�شرتيات قليلة‪.‬‬ ‫كنت يف مزاج رائق جداً‪ ،‬ويف حالة مناكفة غزلية مل �أعرف‬ ‫ولأين ُ‬ ‫�شعرت ب�أن فتاة تقر�أ �أمامي بكل هذا‬ ‫�أنها �ستكلفني الكثري يف ما بعد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الرتكيز‪ ،‬تبعث ر�سائل متحدية‪.‬‬ ‫ا�ستطعت �أن �ألتقط عنوان الكتاب الذي‬ ‫ركزت ب�رصي حتى‬ ‫ُ‬ ‫فرتكت مكاين بعد �أن عاد �أبواي‪،‬‬ ‫تقر�أه‪ ،‬ومل �أكن �أعرفه قط‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أدخلت‬ ‫وهرعت �إىل مقهى �إنرتنت �صغري يف طرف املكان‪ ،‬و�‬ ‫ُ‬ ‫�رسقت من‬ ‫علي بنتائج كثرية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عنوان الكتاب يف حمرك بحث جاد ّ‬ ‫‪55‬‬


‫تعليقات القراء التي وجدتها ما يجعلني �أ�ستطيع �أن �أرمي على الفتاة‬ ‫عن قرب تعليق ًا ب�سيط ًا ي�شي ب�أين قر�أت الكتاب من قبل‪ ،‬وي�صنع‬ ‫�شيئ ًا من الألفة املفتعلة‪.‬‬ ‫ألقيت عليها تعليقي امل�رسوق ذاك و�أنا �أمر يف جوار‬ ‫وبالفعل‪ُ � ،‬‬ ‫طاولتها عائداً �إىل مكاين‪ ،‬وخ ّلفتها ورائي من دون �أن �أنتظر ردها‪،‬‬ ‫تارك ًا ابت�سامتي تلك معلقة يف الهواء‪.‬‬ ‫�شعرت ب�أن عينيها تتابعان حركتي البطيئة‬ ‫علي‪ ،‬ولكني‬ ‫ُ‬ ‫مل تعقّب ّ‬ ‫و�أنا �أجته �إىل‬ ‫والدي اللذين عادا �إىل الطاولة‪ ،‬و� ّأقبل جبني �أمي‪ ،‬ويد‬ ‫ّ‬ ‫�أبي‪ ،‬من دون داع‪� ،‬إال ا�ست�شعاري نوع نظراتها املعلقة على ظهري‪.‬‬ ‫تف�ض به بكارة قلبها‬ ‫حب خمتلف كهذا ُّ‬ ‫كانت اجلورية تفت�ش عن ّ‬ ‫الع�رشيني املغلق‪ ،‬و�أنا الذي �أقر أ� الكتب الإجنليزية نف�سها التي تقر�أها‪،‬‬ ‫والدي يف الأماكن العامة ك�إن�سان طيب‪ ،‬منح ُتها �شيئ ًا �شبيه ًا‬ ‫و� ّأقبل‬ ‫ّ‬ ‫مبا حتلم به‪ ،‬والكثري من م�ساحات الغمو�ض‪ ،‬لتخرب�ش هي معادالتها‬ ‫االفرتا�ضية كما تريد‪ ،‬ولرت�سم تدريج ًا �أ�سهم ًا مطواعة‪ ،‬ورا�ضية‪،‬‬ ‫باجتاهي‪.‬‬ ‫هند�سة الغواية هذه تكاد تكون � َّ‬ ‫ألذ كثرياً من ارتعا�شات اجلن�س‬ ‫أعول كثرياً على حماولتي تلك‪،‬‬ ‫الكربى يف �أحالم الذكور‪ ،‬مل �أكن � ّ‬ ‫وكنت �أحت�سبها �ضمن عبث املزاج ال�سياحي عندما يكون رائق ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومناكف ًا‪.‬‬ ‫�أ�صبحنا �صديقني‪ ،‬وعدنا �إىل ال�سعودية لنتوا�صل �أكرث‪ ،‬ولنتورط‬ ‫مع ًا يف حالة �أ�صعب كثرياً من عبث بريوت املكلف ذاك‪ .‬مل تكن‬ ‫جورية الأوىل‪ ،‬ولي�س عندي ٌ‬ ‫ورق فائ�ض �أتبجح عليه ب�سل�سلة طويلة‬ ‫‪56‬‬


‫بلغت �سن ال�شهوة و�أنا �أعرف �أن طهارتي‬ ‫من احلكايات‪ ،‬فمنذ �أن‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫م�شقوق �إىل ن�صفني ال عالقة لأحدهما بالآخر‪،‬‬ ‫مك�سورة‪ ،‬ووجهي‬ ‫كوجوه البجع‪� .‬أ�ستطيع �أن �أدخل يف عالقة مع امر�أة ما‪ ،‬و�أخرج من‬ ‫عالقة �أخرى يف اليوم نف�سه‪ ،‬من دون �أن �أ�شعر ب�أ�صوات الأبواب التي‬ ‫تغلق وتفتح‪ .‬ال �أدري من �أَودع ّ‬ ‫العاطفي‪ ،‬رغم‬ ‫يف كل ذلك ال�صلف‬ ‫ّ‬ ‫�أين طيب مثل دراجة هوائية ميلكها طفل قروي‪ ،‬ولطاملا اعتقد �أبواي‬ ‫�أن ابنهما الوحيد الذي ينهب الربو �صدره كل �شتاء‪ ،‬ميلك ح�س ًا دقيق ًا‪،‬‬ ‫وروح ًا مرهفة‪ ،‬و�أنه قاب ورقة �أو �أدنى من ال�شعر‪ ،‬ولطاملا �أرهقهما‬ ‫حتر�ضني على �أن �أ�صبح �أقوى‪،‬‬ ‫وتر�ساين بكل ن�صيحة ّ‬ ‫احلذر الزائد‪ّ ،‬‬ ‫و�أكرث قدرة على املواجهة واخرتاق احلياة‪ .‬ولكن‪ ،‬ويا للأ�سف‪ ،‬مل‬ ‫�أ�ستطع �أن �أكون هذا القوي الذي يرجوانه �إال مع الن�ساء!‬ ‫ولكن جورية كانت الوا�صلة الأوىل �إىل نقطة الذنب يف داخلي‪،‬‬ ‫�ألي�س يف الأجهزة االلكرتونية �أحيان ًا نقطة �صغرية خمتفية‪ ،‬ن�ضغطها‬ ‫لنم�سح ذاكرة اجلهاز متام ًا؟ جورية و�صلت �إىل نقطة �شبيهة يف‬ ‫داخلي‪ ،‬و�ضغطتها بكل مرارة �أيامها ال�ضئيلة معي‪ ،‬لتلغي جربوتي‬ ‫لريم‬ ‫يف عدة �أيام‪ ،‬ولأ�صبح �ضعيف ًا �إىل حد ا�ستجداء فرويد ونظرياته مّ‬ ‫يد‬ ‫ما �أف�سدته اجلورية من �شخ�صيتي‪ ،‬لي�س لأنها ناعمة كما مل تلم�سها ٌ‬ ‫من قبل‪ ،‬وال لأنها جتيد فع ً‬ ‫ال العبث مب�ساحيق التجميل امللونة لتتحول‬ ‫للم�س‪ ،‬وال لأن خ�رصها ينحني جيداً على‬ ‫�إىل حلم تلفزيوين غري قابل‬ ‫ّ‬ ‫�صدري كثعبان يتعلم الر�سم‪ ،‬ولكن لأنها �أي�ض ًا تعرف �أين جتد يف‬ ‫داخلي تلك النقطة التي مت�سح ر�صيد القلب متام ًا‪ ،‬وجتعله �صفراً‪.‬‬ ‫�أهديت �إليها باقة من الزهور احلمراء القانية لأعلن عليها احلب‬ ‫‪57‬‬


‫بدون مقدمات باطلة‪ ،‬ف�أهدت �إيل يف املقابل قر�آن ًا مزخرف ًا‪ ،‬ومتثا ًال‬ ‫خ�شبي ًا نحتته بنف�سها‪� .‬أهديت �إليها بعد ذلك علبة من احللوى‬ ‫الفاخرة يف عيد ميالدها‪ ،‬ف�أهدت �إيل يف املقابل ورق ًا بردي ًا جمي ً‬ ‫ال يف‬ ‫قارورة من الزجاج‪ ،‬حتمل ر�سالة ق�صرية منها‪ .‬مل �أنتبه ل�سياق الهدايا‬ ‫و�أنا �أقطع معها احلب لقاء بعد لقاء‪ ،‬و�أك�رس نحوه حاجزاً بعد حاجز‪،‬‬ ‫حتى خل�صنا يف النهاية �إىل ج�سدين موتورين يقت�سمان الربونز وامللح‬ ‫والرغبة املت�صاعدة‪ .‬قالت يل بعد ذلك‪�“ :‬أمل تالحظ �أنك �أهديت �إيل‬ ‫�أ�شياء ال تبقى‪ ،‬بينما هداياي �إليك عك�س ذلك؟”‬ ‫اللعنة!‬ ‫نق�ش بحذر يف قلب جورية اجلديد‪ ،‬ومل‬ ‫كل ما يحدث كان ُي ُ‬ ‫حبها الأول بجميع حوا�سها‬ ‫�أكن �أعرف �أنها‪ ،‬ككل الإناث‪ ،‬تر�صد ّ‬ ‫املمكنة‪ ،‬حتى ال تفر منها حلظة قد تت�رسب منها احلالة من دون �أن‬ ‫كنت مراق َ​َب ًا يف كل �أفعايل بعد�سة مل �أتوقع حجمها الهائل‪،‬‬ ‫ت�شعر‪ُ .‬‬ ‫ودقتها املخجلة‪ .‬ها هي جورية الآن ت�ست�شهد بهداياي �ضدي‪،‬‬ ‫وتوقعني يف بقعة خطرية من اللوم املوثق بالأدلة‪� ...“ .‬أال تظن �أن‬ ‫نوعية هداياك هذه ميكن �أن تعك�س �شيئ ًا من ّنياتك امل�سبقة جتاهي؟”‪،‬‬ ‫أفر من �س�ؤالها الأول حتى حا�رصين الثاين من اجلهة‬ ‫ومل �أ�ستطع �أن � ّ‬ ‫املقابلة‪ .‬ال�ضحكات التي افتعل ُتها لأك�رس جدية امل�صارحة مل تكن‬ ‫وانتبهت �أخرياً �إىل �أن هداياها يف املقابل‪ ،‬كانت �صعبة‬ ‫جيدة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التجاوز‪.‬‬ ‫مقد�س ًا مثل القر�آن؟ �أو ذلك التمثال‬ ‫من ي�ستطيع �أن يتجاوز �شاهداً ّ‬ ‫ال�صغري الذي نحتته اجلورية يف �ساعات من جهد �أ�صابعها‪ ،‬و�صدق‬ ‫‪58‬‬


‫يديها؟ وحتى تلك الورقة كانت ن�ص ًا مكتوب ًا يدينني‪ ،‬بينما القارورة‬ ‫ال�صغرية التي حتملها مل تكن �إال رمز الو�صول الأبدي‪ ،‬مهما طال‬ ‫ال�سفر يف البحار التي ال تعرف القراءة‪ ،‬وال تنوي تع ّلمها‪.‬‬ ‫جعلك تفكرين يف هذا يا حبيبتي؟‬ ‫– ما الذي‬ ‫ِ‬ ‫وانتبهت �إىل �أنها ال حتوي �شيئ ًا يدل‬ ‫أملت غرفتي هذا ال�صباح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫– ت� ُ‬ ‫على �أين �أعي�ش ق�صة حب‪� ،‬أي �شيء! حتى الزهور ذبلت برغم كل ما‬ ‫فعلته لأطيل عمرها امليت �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬وعلبة احللوى انتهت لأنها مل ت� ِأت‬ ‫�إال لت�ؤكل‪ .‬ماذا تريدين �أن �أفعل؟‬ ‫�ضحكت بع�صبية و�أنا �أداعبها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫– كان ب�إمكانك جتفيف الزهور مث ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫وجتاه َلت هي �ضحكتي واقرتاحي متام ًا‪ ،‬وراحت تكمل كالمها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بتلك النربة التي ال ت�صعد‪ ،‬وال تهبط‪ ،‬وتبقى ثابتة على م�ستوى واحد‬ ‫من احلقن الهادئ امل�ستمر لأطنان من الذنوب ال�صغرية‪ ،‬حتت جلدي‪.‬‬ ‫– بالطبع �إن خلوها من عالمات احلب ال يعني �أين ال �أمر بحالة‬ ‫حب حقيقية‪ ،‬ولكن ثمة ما ي�شعرين ب�أين لن �أعي�شها ك�أمر حمتوم‪.‬‬ ‫�سكت‪ ،‬كما ال ينبغي يل �إال �أن �أ�سكت‪ ،‬بينما �ألقت هي �س�ؤالها‬ ‫ُّ‬ ‫املفاجئ‪:‬‬ ‫– ح�سان‪ ،‬قل يل ب�صدق‪ :‬هل �ستبقى معي �إىل الأبد؟‬ ‫�أجبتها ب�صوت يف�ضحه ارجتافه‪:‬‬ ‫– طبع ًا‪ ،‬طبع ًا‪ ،‬يا حبيبتي‪ ،‬بال �شك‪.‬‬ ‫– ملاذا ال نتزوج �إذن؟ ماذا ننتظر؟‬ ‫كان طموحها �أ�رسع من ق�صتنا‪ ،‬هذه كانت م�شكلتنا الوا�ضحة‪،‬‬ ‫‪59‬‬


‫وهذا ما جعلني �أتعرث‪ ،‬و�أ�سقط‪ ،‬و�أرك�ض يف االجتاه الآخر لأجنو من‬ ‫عربة الذنب املجنونة التي كنا نركبها مع ًا‪ .‬كانت لدي ب�ضع م�شكالت‬ ‫�صغرية مع فكرة االرتباط ب�أنثى واحدة‪ ،‬وكيف �أن كل الربونز الذي‬ ‫تفرزه ب�رشة جورية معي‪ ،‬والذي قد تفرزه مع رجال �آخرين‪ ،‬ال ميكن‬ ‫�أن يقنعني بارتباط �أحادي دائم كهذا‪ ،‬ومل �أكن �أعرف �أن امر�أة قادمة‬ ‫�سوف ت�أتي بعدها‪ ،‬لتعلمني على مهل‪ ،‬فن التوحد فيه‪.‬‬ ‫�سماعة هاتفي‪:‬‬ ‫وبعد �أ�شهر قليلة‪ ،‬كانت جورية ت�رصخ يف ّ‬ ‫“و�سامتك التي تتباهى بها‪� ،‬ستورثك ندم ًا عميق ًا �أيها اجلبان!”‪،‬‬ ‫وته�ش َم كل �شيء‪ ،‬كما كان متوقع ًا لهذا احلب �أن يته�شم مثل اخلزف‬ ‫َّ‬ ‫املغ�شو�ش‪ ،‬ظلت اجلورية تبت ّز مني وعداً جديداً كل �صباح‪ ،‬ثم �صارت‬ ‫�أكرث تطلب ًا فيما يتعلق باتخاذ �إجراءات جادة لالرتباط‪ ،‬وبقية ال�ش�ؤون‬ ‫الكثرية التي ال تطفئ قلق فتاة جترب احلب للمرة الأوىل‪ ،‬وتعي�ش منذ‬ ‫�أ�شهر خارج ال�سقف الدافئ لل�صدق الأ�رسي‪ ،‬وبعيداً عن دور الإبنة‬ ‫ال�شفافة امل�ستحقة ثقة الأهل‪ ،‬كما تعودت �أن تعي�ش دائم ًا‪.‬‬ ‫وت�سببت يف ت�أخريها‪،‬‬ ‫قر َرت هي يف �آخر املطاف �أين �أتعبتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫وانح�رشت مثل ح�صاة �صغرية يف عجلة طموحها ال�ضخم‪،‬‬ ‫وتعطيلها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ولهذا غيرَّ َ ْت رقم هاتفها فج�أة‪ ،‬وال �أتذكر �أنها قالت وداع ًا‪ ،‬بينما‬ ‫زلت بني حني و�آخر‪� ،‬أفعل مثلما يفعل‬ ‫تنف�ست �أنا ال�صعداء‪ ،‬ولكني ما ُ‬ ‫ُ‬ ‫أمر بباب بيتها يف ليلة‬ ‫الع�شاق الكال�سيكيون يف الع�صور الو�سطى‪ّ � ،‬‬ ‫�شتائية ما‪ ،‬لآخذ ن�صيبي من الذنوب‪ ،‬و�أم�ضي‪.‬‬ ‫ُعر�ض بو�سامتي الآن رغم �أنها مل تذكر ذلك كثرياً �أثناء‬ ‫ها هي ت ّ‬ ‫علي يف غمرة الغ�ضب وك�أنها تهمة! مل يكن‬ ‫احلب‪ ،‬والآن تلقيها ّ‬ ‫‪60‬‬


‫ب�إمكاين �أن �أخربها �أن الذي تراه هي و�سامة يف الوجه‪ ،‬رمبا جعلتني‬ ‫تر�سب‬ ‫�أتلقى الع�رشات من التحر�شات ال�شاذة يف طفولتي‪ ،‬و�أتركها‬ ‫ُ‬ ‫يف داخلي ببطء‪ .‬وهي ال تعرف حتم ًا كيف �أن �إ�صبع ًا واحدة تبلغ ما‬ ‫ال يحق لها �أن تبلغه من م� ّؤخرتي تكلف ذهن الطفل ال�صغري ع�رشات‬ ‫الأيام من التفكري الثقيل‪ ،‬وتزرع يف �سلوكه الع�رشات من العادات‬ ‫ال�سيئة‪ .‬فكيف �إذن ب�أ�صابع كثرية‪ ،‬وع�رشات الأيدي‪ ،‬وع�رشات‬ ‫الأع�ضاء التي تنتفخ من وراء الثياب‪ ،‬وتطرق ظهري يف الن�شوات‬ ‫العابرة‪ ،‬كلها تر�سبت جيداً‪ ،‬لتنحت لها هذا الوجه ال�صلب يف النهاية‪.‬‬ ‫ا�ضطررت �إىل‬ ‫مل تكن تلك املعاناة تطرق ذهني كثرياً‪ ،‬ولكني‬ ‫ُ‬ ‫ا�ستدعائها من �صندوقي النف�سي القدمي عندما �أوجعني رحيل اجلورية‬ ‫واحتجت �إىل حلاف ما‪ .‬ال ميكن �أن ندفع الذنب املقرتب مثل‬ ‫البارد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫غاز‪� ،‬إال باالختباء يف ملج أ� �صغري كهذا‪ ،‬يقنعني ب�أين �أنا املظلوم‪ ،‬وال‬ ‫�أ�ستحق ما يحدث يل معها‪.‬‬ ‫مل �أ�سمع اجلورية ت�صفني بالو�سيم �أثناء حبنا قط‪ ،‬هذا ما يجعلني‬ ‫�أكرث اقتناع ًا ب�أن حبنا كان م�شوه ًا بحالة تناف�س غبية‪ ،‬ومل تكن هي تريد‬ ‫�أن متنحني نقاط ًا �أكرث‪ .‬ورمبا كان هذا �سبب ًا �إ�ضافي ًا يجعلنا ال نن�سجم‬ ‫حتى يف حاالتنا اجل�سدية‪ ،‬هي التي فكرت يف اجلن�س على عجل‬ ‫كعالقة علوية‪ ،‬طرقت بابها فج�أة مع حب مل يكن متوقع ًا‪ ،‬ومل ت�ستعد‬ ‫له بحقيبة من الألوان الأخالقية اجلميلة‪ ،‬واكتفت بالفو�ضى التي ت�أتي‬ ‫مع احلب‪ ،‬وتربر الأ�شياء وحدها لفرتة موقّتة‪ ،‬ي�صبح خاللها كل �شيء‬ ‫حمتم ً‬ ‫ال وجائزاً يف خ�ضم الدوخة الكبرية‪ .‬هذا �أق�صى ما منحها �إياه‬ ‫ت�سارع العالقة من الوقت للتربير‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �إحلاحي على لقاء‬ ‫‪61‬‬


‫ج�سدي ما‪ ،‬فلم جتد للجن�س ر ّف ًا منا�سب ًا يف خزانة حياتها املثالية جداً‪،‬‬ ‫ولذلك احت�سبت هذا اجلن�س املبكر �أق�ساط ًا مقدمة لعالقة البد �أنها‬ ‫ال �أو �آج ً‬ ‫�ستنتهي بالزواج عاج ً‬ ‫ال‪ ،‬ومل يكن �إال ذلك ما ميكن �أن يربر‬ ‫لها �أن ّ‬ ‫متكنني من ج�سدها الربونزي الثمني ذاك‪ ،‬ذي اخل�رص املطواع‪،‬‬ ‫رغم كل احلواجز املرتاكمة‪.‬‬ ‫كنت ال‬ ‫�أما �أنا‪ ،‬فلم �أفكر وقتذاك يف اجلن�س كحالة �سامية البتة‪ُ .‬‬ ‫تعر�ضت لها‬ ‫�أراه �إال حالة الحقة حمتملة لأي من التحر�شات التي‬ ‫ُ‬ ‫قبيح يجعل الكبار يت�رصفون بفجاجة مع‬ ‫يف طفولتي‪ .‬اجلن�س �شيء ٌ‬ ‫ال�صغار‪ ،‬كان هذا تف�سريي الطفويل الأويل‪ ،‬فلماذا كان يجب �أن‬ ‫كربت‪ ،‬ومل تتغري الفكرة كثرياً‪ ،‬ولكنها اندجمت‬ ‫يتغري فهمي؟ ولهذا‬ ‫ُ‬ ‫وحتول‬ ‫مع مرحلتي العمرية التي‬ ‫ُ‬ ‫�رصت �أتعر�ض فيها لإحلاح الرغبات‪َّ ،‬‬ ‫اجلن�س �إىل فل�سفة مل �أ�صغها‪ ،‬ومل �أطلع عليها‪ ،‬بل مار�ستها فقط مثلما‬ ‫تكونت يف داخلي وحدها‪ .‬فل�سفة اجلن�س املادي‪.‬‬ ‫وجدتها‪ ،‬وقد ّ‬ ‫�سل�سلة االحتكاكات اجللدية التي تُورث ال�سعادة‪ ،‬وقلي ً‬ ‫ال من ال�شجن‬ ‫النف�سي ليبقى الفعل �إن�ساني ًا فح�سب‪.‬‬ ‫اختلفت معها عند �أول فرا�ش‪ .‬هي التي انتبهت �إىل يدي‬ ‫ولهذا‬ ‫ُ‬ ‫الطويلة‪ ،‬رغم �أن طول اليد �أو ق�رصها مل ي�شكل فارق ًا كبرياً يف الأيام‬ ‫التي تلت ذلك‪ ،‬بعد �أن ا�شتعلنا �رسيع ًا يف عالقة ج�سدية حممومة‪،‬‬ ‫و�أ�صبحت يدها �أطول من يدي بعدة �سنتيمرتات حرجة‪ ،‬ورغم �أنها‬ ‫كانت الفتاة التي تتعرف على �أ�سئلة ج�سمها للمرة الأوىل‪ ،‬و�أنا الذي‬ ‫راقني فع ً‬ ‫ال �أن �أجيب عنها بكل �سعادة‪ ،‬و�أعلمها‪ ،‬حرفي ًا‪ ،‬معنى �أن‬ ‫تتكلم الأج�ساد‪ ،‬وترق�ص بع�ضها مع بع�ض على �إيقاع الهرمونات‪،‬‬ ‫‪62‬‬


‫والرع�شات‪ ،‬والدقات الع�صبية املجنونة‪.‬‬ ‫ولكن تلك الدرو�س مل تكن هادئة دائم ًا‪ ،‬بعد �أن �أ�صبحت هي‬ ‫غري قادرة على ترتيب ج�سدها وروحها ب�شكل مثايل بعد الطوفان‬ ‫انتبهت �أنا �إىل �أن جورية‬ ‫الذي �أحدثته جتربة اجلن�س يف حياتها‪ ،‬ولهذا‬ ‫ُ‬ ‫كانت بعد كل لقاء جن�سي بيننا‪ ،‬تد�س حتت و�سادتي لغم ًا موقّت ًا من‬ ‫الذنب‪ ،‬تظن �أنها قد حتتاج �إىل تفجريه يوم ًا ما‪ ،‬لتقذفني باجتاهها‪.‬‬ ‫انتبهت مبكراً �أي�ض ًا �إىل �أنها كانت �أكرث اعتداداً بالنف�س مما ميكنني‬ ‫ُ‬ ‫علي‪،‬‬ ‫من مواكبته‪ .‬ا�ستفزتني طريقتها يف اال�ستحواذ التدريجي ّ‬ ‫و�شعرت ب�أين قد �أحتول �رسيع ًا �إىل �شهادة �صغرية معلقة يف جوار‬ ‫ُ‬ ‫�شهاداتها الأخرى �إذا جنحت يف حيازتي زوج ًا‪� ،‬أو ع�شيق ًا تاريخي ًا‬ ‫تهربت من االرتباط‬ ‫جمنون ًا‪� ،‬أو حتى م�ستمع ًا جماني ًا �إىل نوباتها الغنائية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫املطول بها ملقي ًا بكل التبعات على �أ�سباب قبلية واجتماعية‪ ،‬رغم �أن‬ ‫عائلتي هي �أبعد ما يكون عن الهاج�س القبلي‪ ،‬ولهذا ت�سمني هي‬ ‫باجلنب‪ ،‬وهو �صفة �أ�ستطيع حتملها حتم ًا �أكرث من قدرتي على حتمل‬ ‫طموحها الأرعن بقية العمر‪.‬‬ ‫أكتب هذه االعرتافات امل�سيئة �إىل قلبي و�أنا يف حالة‬ ‫الغريب �أين � ُ‬ ‫كتابة ذائبة‪ ،‬يف موقد من �شتاء ما‪ ،‬بعد �أن �أكملت غالية ما بد�أته جورية‪،‬‬ ‫وحتول قلبي �إىل مكان منكوب‪ ،‬ي�صلح �أن جترى عليه التجارب اخلطرية‬ ‫ّ‬ ‫التي ال ميكن توقع عواقبها‪ .‬والغريب �أي�ض ًا �أين �أكتب اعرتافاتي من دون‬ ‫�أن ي�ضطرين �شيء �إىل ذلك‪ ،‬وكما حدثت متام ًا‪ ،‬خالية من كل ما ي�ضفيه‬ ‫املعرتفون على اعرتافاتهم من �ضمانات م�سبقة لتعاطف منتظر‪� .‬أعتقد‬ ‫�شخ�صي ًا �أن مفهومي للتعاطف يختلف متام ًا عما يعرفه املجتمع‪ ،‬ورمبا‬ ‫‪63‬‬


‫هذا االختالف هو الذي انتهى بي يف عيادة و ّزان‪ ،‬بحث ًا عن تعاطف‬ ‫معدل‪ ،‬ينا�سب اعرتايف الفج‪ ،‬وذنوبي الغريبة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫مل تكن هناك امر�أة �أن�سب من غالية بالذات لت�أتي بعد جورية حتى‬ ‫يكتمل هذا الثقب الكبري يف قلبي‪ ،‬ومل تكن هناك فتاة �أن�سب من‬ ‫جورية‪ ،‬كي متهد الطريق لغالية‪ ،‬لتتمكن من �إكمال هذا الثقب‪ ،‬بهذا‬ ‫االت�ساع‪ .‬كلتاهما جاءت يف الوقت املنا�سب‪ ،‬لت�ؤدي الدور املنا�سب‪،‬‬ ‫ويف تعاقب منا�سب‪ ،‬ب�شكل غيبي ن�سقته لهما الأقدار‪ ،‬و�أوقعتني‬ ‫بينهما مثل قطعة حديد �أنهكها حدادان‪ ،‬قرع ًا وطرق ًا‪.‬‬ ‫ومن دون �أن تعرف �إحداهما الأخرى‪ ،‬ت�آمرتا على �صفعي جيداً‪،‬‬ ‫حتى �أنتبه �إىل �أن ج�سدي قد يت�سبب يف �إيذائي �أحيان ًا‪� ،‬أو رمبا دائم ًا‬ ‫بعد ذلك‪ ،‬و�أن اجلن�س الع�شوائي ي�شبه التدخني‪ ،‬ت�أتي �أ�رضاره الحق ًا‪،‬‬ ‫و�أن طريق الرغبات ال ينتهي‪ ،‬و�أن �أج�ساد الن�ساء م�سمومة‪ ،‬ال�سيما‬ ‫الراحالت منهن‪.‬‬ ‫ت�ضعف فيها‬ ‫�أحيان ًا �أعرب باب جورية يف الليايل ال�شتوية التي‬ ‫ُ‬ ‫مناعتي‪ ،‬ولي�س من موقد‪ ،‬ف�أقرر �أن �أخرج يف منت�صف الليل‪� ،‬أجو�س‬ ‫برك ع�شوائية‪ ،‬و�أقرر‬ ‫حولها املطر املتقطع �إىل ٍ‬ ‫ب�سيارتي ال�شوارع التي ّ‬ ‫عرفت‪ ،‬ورحلن‪ ،‬ح�سب ترتيبهن‬ ‫�أن �أمر ببيوت كل الفتيات التي‬ ‫ُ‬ ‫التاريخي يف قلبي‪ ،‬ولي�س ح�سب تقارب بيوتهن �أو تباعدها‪ ،‬وال‬ ‫�أدري ملاذا كان باب اجلورية دائم ًا �أكرث الأبواب انغالق ًا‪ ،‬وال يبدو‬ ‫�أن ثمة حياة وراءه على الإطالق؟ بابه احلديدي الأنيق ير�سم كل‬ ‫الأ�شكال املمكنة ليجعلني �أتهيب فكرة النظر �إليه‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫ال عن فكرة‬ ‫الدخول مث ً‬ ‫ال‪ .‬كل �شيء يف ت�صميم بيتها‪ ،‬تلك الفي ّ‬ ‫ال الغربية املكعبة‪،‬‬ ‫‪64‬‬


‫ميعن يف تنبيهي �إىل �أمرين‪ :‬الأول‪� ،‬أن اجلورية كانت م�ستحيلة جداً‬ ‫�آنذاك‪ ،‬ومل يكن ب�إمكاين الدخول �إليها بقلب مطمئن‪ .‬والثاين‪� ،‬أن‬ ‫اجلورية �صارت �أكرث ا�ستحالة الآن‪ ،‬مئات املرات‪.‬‬ ‫بيت غالية املتوا�ضع الذي كانت ت�سكنه مع �أمها فلم �أكن �أعربه‬ ‫�أما ُ‬ ‫كثرياً‪ ،‬لأين �أعرف �أن النافذة املطف�أة ال ت�ضم وراءها غالية حتم ًا‪ ،‬فهي‬ ‫جدة مع زوجها املريب‪ ،‬وعلى العك�س متام ًا من جورية‪،‬‬ ‫تعي�ش يف ّ‬ ‫كان باب بيتها الذي خد�شه الزمن‪ ،‬و�أم�سى يحتفظ بطالئه ب�صعوبة‪،‬‬ ‫يبدو متعاطف ًا معي‪ ،‬وعندما متر �سيارتي �أمامه‪ ،‬كان مينحني مالمح‬ ‫انك�سار حكيم‪.‬‬ ‫جزت هذا الباب يوم ًا‪ ،‬و�أنا زوجها‪ ،‬فكيف ال يعرفني؟‬ ‫ُ‬ ‫كم يفتح ال�شتاء من النوافذ اخللفية‪ .‬هذا الذي كان يكيل يل كل تلك‬ ‫الق�سوة‪ ،‬و�أمل اخلجل الكبري يف طفولتي و�شبابي‪ ،‬من بكاء ال�صباح‪،‬‬ ‫حتى قيود املالب�س‪� ،‬إىل �سخرية املدر�سة‪ ،‬وا�ستجداء الأبواب‪ ،‬وكتابة‬ ‫االعرتافات‪ ،‬وا�ستنطاق الأرقام املطف�أة‪ .‬لطاملا مت ّثل يل مارداً �ضخم ًا‪،‬‬ ‫قا�سي ًا‪ ،‬عندما يجيء يجيء معه الهم‪ ،‬والك�آبة‪ ،‬والبوح غري ال�رضوري‪،‬‬ ‫والأحزان املتتالية‪.‬‬ ‫كربت الآن‪� ،‬رصت �شاب ًا يف التا�سعة والع�رشين‪ ،‬و�أ�صبح ال�شتاء‬ ‫�ضعيف ًا‪ ،‬هزي ً‬ ‫ال‪ ،‬يف عامه املليون رمبا‪ .‬هزم ُت ُه ب�أعوام قليلة فقط‪ ،‬منذ‬ ‫ال كام ً‬ ‫هزمت ف�ص ً‬ ‫أنفا�س هزيلة‬ ‫طفولتي حتى الآن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال‪ ،‬ومل يبق منه �إال � ٌ‬ ‫يوزعها على ثالثة �أ�شهر ناق�صة الأطراف‪� .‬صار ال�شتاء يجيء لت�سجيل‬ ‫ح�ضور فقط‪.‬‬ ‫‪65‬‬


66


‫‪III‬‬ ‫توقفت عن التدخني حتى‬ ‫قبل �أن �أخرج من املزرعة ب�ساعة تقريب ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أح�صيت يف املنف�ضة ثالثة �أعقاب ال �أكرث‪،‬‬ ‫ال تعلق الرائحة بثيابي‪ ،‬و�‬ ‫ُ‬ ‫من �أول هذا الليل اجلزيل‪ ،‬ورحت �أنظف فلرت التدخني البال�ستيكي‬ ‫ال�صغري قبل �أن �أعيده �إىل جيبي‪ ،‬و�أنف�ض ثوبي من جعدات اجللو�س‪،‬‬ ‫أو�شكت �أن �أخرج فع ً‬ ‫ال‪� ،‬أح�رض يل �صوام‪ ،‬كاملعتاد‪ ،‬تلك‬ ‫وعندما �‬ ‫ُ‬ ‫املدخنة اخل�شبية ال�صغرية‪ ،‬وقطعة �ضئيلة من العود‪� ،‬أحرق ُتها فيه على‬ ‫ورحت �آوي يف غرتتي وثيابي ذلك البخور الهارب‪ ،‬لعله‬ ‫مهل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ألقيت حتية‬ ‫يخفي ما قد يعلق بي من �آثار التدخني عن �أنف �أبي‪ ،‬ثم � ُ‬ ‫واجتهت �إىل �سيارتي‪.‬‬ ‫الوداع على ال�شقيقني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مل يكن �ضمن قائمة ممكناتي �أن �أجعل �أبي ي�شك �أين �أدخن‪ .‬رغم‬ ‫ومزاجي‪ ،‬ف�إنني �أعرف كم ت�ؤمله فكرة �أن يعتني بي‬ ‫�أن تدخيني قليل‬ ‫ّ‬ ‫طوال عمري مثل عود �أخ�رض‪ ،‬ثم يلفيني � ُ‬ ‫أحرق نف�سي بكل برودة‪،‬‬ ‫علي انتهت �إىل ابن غري مبال‪.‬‬ ‫وك�أن تلك الأبوة الهائلة التي �أنفقها ّ‬ ‫كل �شيء عنده ٌ‬ ‫قابل للتفاو�ض �إال التدخني‪ ،‬وال �أفهم كيف ّ‬ ‫تركب‬ ‫البناء الأخالقي طوال حياته لي�ضعه هذا العبث ال�صحي العابر‪ ،‬يف‬ ‫‪67‬‬


‫ر�أ�س الذنوب التي ال تغفر‪.‬‬ ‫كنت مراهق ًا‪� ،‬أر�سلني �أبي �إىل مع�سكر �صيفي لل�شباب‬ ‫عندما ُ‬ ‫يف �إيرلندا‪ .‬كنت على �أعتاب ال�ساد�سة ع�رشة تقريب ًا‪ ،‬وكانت هي‬ ‫املرة الأوىل التي �أ�سافر فيها وحدي‪ .‬ويف غمرة ما يحدث يف تلك‬ ‫أفرزت الكثري من الأدرينالني‪ ،‬وقررت‬ ‫املع�سكرات من �أن�شطة كثرية‪ُ � ،‬‬ ‫�أن �أمار�س مغامرة خطرية‪ ،‬كالتدخني مث ً‬ ‫ال‪ ،‬يف و�سط املع�سكر‪.‬‬ ‫ويف �صخب احتفال م�سائي �صغري‪ ،‬وو�سط ثلة ال �أح�صيها من‬ ‫أ�شعلت �سيجارتي‪ ،‬واتك�أت على‬ ‫فتية وفتيات من �أنحاء العامل كافة‪� ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أنفث الدخان بينهم بكل ثقة‪،‬‬ ‫�سور �صغري مثل رعاة البقر‪،‬‬ ‫ورحت � ُ‬ ‫ُ‬ ‫و�أنا �أظن �أن كل �شيء �سيم�ضي ك�شغب عابر‪ ،‬ومل �أعرف �أن امل�رشفة‬ ‫على املع�سكر قد نقلت �سلوكي هذا هاتفي ًا �إىل والدي يف الريا�ض‪ ،‬يف‬ ‫الليلة نف�سها‪.‬‬ ‫يدخن‪.‬‬ ‫– ح�سان ّ‬ ‫كنت �أق�ضي ا�سرتاحة الظهرية يف غرفتي التي‬ ‫بعد �أيام قليلة‪ُ ،‬‬ ‫�شاب بوليفي يف مثل عمري وهو يغط يف نوم عميق‬ ‫ي�شاركني فيها ٌ‬ ‫بينما �أنا �أت�صفح جملة‪ .‬فج�أة‪ ،‬انتبهت �إىل الباب ينفرج بهدوء‪،‬‬ ‫التفت وج ً‬ ‫ال لأجد �أبي‬ ‫و�أنفا�س �شخ�ص ثالث ت�شاركنا يف الغرفة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫واقف ًا �أمامي‪ ،‬يرتدي بذلة رمادية كال�سيكية‪ ،‬وربطة عنق �أرجوانية‪،‬‬ ‫وحذاء المع ًا‪ ،‬و�شعره م�صفف بعناية فائقة جعلته �أ�شبه ما يكون بالأب‬ ‫الروحي للمافيا‪.‬‬ ‫ومل يكد يرتد �إ ّ‬ ‫�شعرت ب�أن �شيئ ًا بال�ستيكي ًا متو�سط‬ ‫يل ب�رصي حتى‬ ‫ُ‬ ‫الثقل يرتطم بوجهي بقوة جعلتني �أتراجع و�أ�سقط على ال�رسير‪ ،‬و�أفقد‬ ‫‪68‬‬


‫الر�ؤية لثوان‪ ،‬وعندما ا�ستعدتُها ببطء‪ ،‬كان �أبي ما زال واقف ًا حيث‬ ‫هو‪ ،‬واملنطقة ما بني وجنتي و�شفتي العليا تنب�ض بذلك الأمل املفاجئ‪،‬‬ ‫وقد بدت يل �شفتي �أكرث تورم ًا من املعتاد‪� .‬ألقيت نظرة �رسيعة على‬ ‫�أر�ضية الغرفة لأعرف ما الذي ارتطم بوجهي‪ ،‬فوجدت علبة دخان‬ ‫�صغرية‪ ،‬جديدة‪ ،‬ومغلفة‪ ،‬تدحرجت قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬و�سقطت قريب ًا من خزانة‬ ‫املالب�س‪ ،‬و�سقط معها كل ما يف ج�سدي من الطم�أنينة والقرار!‬ ‫ا�ستيقظ الفتى البوليفي من النوم على �صوت ارتطام علبة الدخان‬ ‫بوجهي‪ ،‬و�أقنعته عينا �أبي ال�صارمتان ب�أن يخرج من �رسيره‪ ،‬ويت�سلل‬ ‫من وراء ظهر �أبي حماذراً �أن يلم�سه‪� ،‬إىل خارج الغرفة‪ ،‬ويرتكني‬ ‫وحدي يف مواجهة هذا املارد الذي خرج فج�أة من الرماد‪.‬‬ ‫و�ضممت رجلي‬ ‫وقفت �أمامه من دون �أن �أنطق بكلمة واحدة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ورحت �أنتظر‪ .‬كان وجهه جامداً على حالة غ�ضب مل �أره يف‬ ‫مع ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مثلها من قبل‪ ،‬وك�أنه ٌ‬ ‫�سومري مرعب‪ ،‬برز فج�أ ًة يف وجه عامل‬ ‫متثال‬ ‫ّ‬ ‫�آثار‪ .‬مل �أكن �أدري ماذا يجدر بي �أن �أفعل‪ ،‬وماذا ميكن �أن �أقول‪� .‬أبي‬ ‫الذي مل �أره منذ �شهر تقريب ًا يقف �أمامي الآن‪ ،‬يف دبلن‪ ،‬وي�رضبني‬ ‫لأول مرة يف حياتي‪ ،‬ثم يقف �صامت ًا وك�أنه ينتظر مني ردة فعل ال‬ ‫ميكن من هو يف موقفي �أن ي�أتي بها �إطالق ًا‪.‬‬ ‫بقيت �صامت ًا‪� ،‬أنتظر �أن يكمل �أبي �رضبه‪� ،‬أو عتابه‪� ،‬أو �أي ًا من ّنياته‬ ‫املبيتة للتعامل معي‪ ،‬ولكنه ظل �صامت ًا �أي�ض ًا لدقيقة كاملة‪ ،‬ال ميكن �أن‬ ‫تكون لدقيقة �أخرى يف حياتي مثل جربوتها الذي كان يقطر يف قلبي‬ ‫مثل �صنبور مهمل يف زنزانة �سجني‪ .‬مار�س معي ذلك ال�صمت الهائل‬ ‫مهملة‪،‬‬ ‫فقط‪ ،‬وال �شيء �آخر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وبقيت �أنا مطرق ًا مثل عالقة مالب�س َ‬ ‫‪69‬‬


‫�أرجتف من اخلوف‪ ،‬و�أ�شعر بدوخة طفيفة من فرط الف َ​َرق‪.‬‬ ‫�شعرت ب�أن �صمته هذا كان مدبراً بخربة‬ ‫عندما طال �إطراقي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ع�سكري �سابق‪ ،‬يجعلني مطرق ًا حتته مدة دقيقة كاملة‪ ،‬ليت�رسب يف‬ ‫داخلي �شعور الذل من هذه الوقفة املهينة‪ ،‬حتى وجدتني �أت�ساءل يف‬ ‫فعلت بنف�سي!”‬ ‫جوف عقلي اخلاوي امل�ضطرب‪“ :‬يا يل من غبي‪ ،‬ماذا ُ‬ ‫�صمت �أبي وحده كفي ً‬ ‫ال بقدح الندم يف داخلي‪ ،‬فماذا لو تكلم؟‬ ‫كان‬ ‫ُ‬ ‫راحت دموعي تنزل بغزارة من دون �أن �أرفع ر�أ�سي‪� ،‬أو �أحترك من‬ ‫و�ضيع جداً‪ ،‬وفمي �أقذر من �أن �أخاطب به �أبي‪.‬‬ ‫�شعرت ب�أين‬ ‫مكاين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫لوهلة‪ ،‬بدت يل علبة الدخان التي طوح بها �أبي يف وجهي‪ ،‬وامللقاة‬ ‫يف جوار خزانة املالب�س‪ ،‬علبة ملعونة‪ ،‬خدعتني‪ ،‬ومل تف بوعدها يل‬ ‫رازح حتت اخلزي الثقيل‪،‬‬ ‫ب�أن حتيلني �إىل فتى رائق‪ ،‬وكبري‪ .‬ها �أنا الآن‬ ‫ٌ‬ ‫�أرتعد �أمام �أبي مثل قطعة قما�ش مهرتئة ال ترحمها الريح‪.‬‬ ‫�سمعت �أبي ينطق ببطء قاتل‪:‬‬ ‫بعد �أن م�ضت تلك الدقيقة احلارقة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫– خذ البكت ودخن الآن قدامي!‬ ‫– ال‪.‬‬ ‫وت�ضاعفت غزارة الدموع ال�سائلة من عيني‪.‬‬ ‫– ليه ما تدخن مو كوي�س التدخني؟‬ ‫– ال‪.‬‬ ‫– ما تبغى تنب�سط وتكيف را�سك؟‬ ‫– ال‪.‬‬ ‫راحت دموعي تت�ضاعف مع كل �س�ؤال بطيء �آخر ينزل على‬ ‫�سمعي مثل الإبر احلادة‪ .‬مل �أعرف �إىل ماذا يرمي �أبي‪ ،‬وما هذه‬ ‫‪70‬‬


‫الزاوية امللعونة التي يحا�رصين فيها الآن‪ ،‬ويقيدين فيها بخيوط خفية‬ ‫مثل خيوط العنكبوت‪ ،‬ليجلدين �صوته الهادئ‪ ،‬و�أ�سئلته البطيئة‪،‬‬ ‫على مهل‪ .‬ملاذا ال يت�رصف مثل بقية الآباء عندما يعاقبون �أبناءهم؟‬ ‫حركي يجعلني �أهرب من هذه الغرفة‪،‬‬ ‫�صفعات‪ ،‬ركالت‪� ،‬أي �شيء‬ ‫ّ‬ ‫و�أفكر يف كل �شيء بعد ذلك‪ ،‬بعيداً عنه‪.‬‬ ‫– جبت لك نف�س نوع الدخان اللي يعجبك‪ ،‬كينت �أزرق‪ ،‬مو؟‬ ‫كانت هذه ال�سخرية املدمرة التي مل �أ�سمعها من �أبي من قبل �أق�سى‬ ‫مما يتحملها و�ضعي املتهالك �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬فانفجرت �أخرياً يف بكاء كبري‬ ‫جداً‪ ،‬وجل�ست على الأر�ض فيما ي�شبه ال�سجود الناق�ص‪ ،‬ورحت‬ ‫�أنتظر منه �أن يركلني مثل كرة مثقوبة‪ ،‬ويرتكني وحدي‪ .‬ازداد بكائي‬ ‫حتى حتول �إىل �شهيق مت�صل‪ ،‬ويف واحدة من تلك ال�شهقات الكثرية‪،‬‬ ‫�سمعت عقبي �أبي ي�ستديران‪ ،‬و�صوت ان�سحاق ذرات الغبار بني‬ ‫ُ‬ ‫كعب حذائه الكال�سيكي و�أر�ضية الغرفة اخل�شبية‪ ،‬وملحته يبتعد‬ ‫بخطوات هادئة‪ ،‬ويرتك الغرفة‪.‬‬ ‫ظلت تلك احلادثة واقفة يف منت�صف عقلي مثل خيال م�آتة‪ ،‬تطرد‬ ‫كل احتماالت التدخني املقرتبة‪ ،‬وجتعل منها �آخر الأفكار املمكن‬ ‫تطبيقها على الإطالق‪ .‬مل �ألتق �أبي يف �إيرلندا بعد �أن ترك الغرفة‪ ،‬ومل‬ ‫دلفت من باب البيت‬ ‫�أره �إال بعد انتهاء ال�صيف‪ ،‬يف الريا�ض‪ ،‬عندما‬ ‫ُ‬ ‫و�أنا �أتوج�س من �شكل ا�ستقباله‪ ،‬وقطيعته املحتملة‪ ،‬ولكني وجدته‬ ‫ي�ضمني كعادته بعد ال�سفر‪ ،‬وك�أن �شيئ ًا مل يحدث �إطالق ًا‪ ،‬ومل يكن‬ ‫ّ‬ ‫تغا�ضيه املفتعل هذا �إال ليزيد من �سماكة احلاجز‪ ،‬وميحق الفكرة متام ًا‪.‬‬ ‫عدت �إىل التدخني يف تلك املزرعة الوزانية بعد ع�رش‬ ‫غري �أين‬ ‫ُ‬ ‫‪71‬‬


‫�سنوات‪� .‬شيء يف هدوئها امل�شتبه فيه يجعل كل الأفعال مقبولة‪،‬‬ ‫ك�أنها قطعة خارج احلياة‪ ،‬يجوز فيها ما ال يجوز خارجها‪ ،‬ولأن‬ ‫وزان خان �أمانته الطبية مرة‪ ،‬و�أخربين �أن الكثري من الريا�ضة‪ ،‬والقليل‬ ‫من التدخني‪ ،‬ميحوان بع�ضهما بع�ض ًا‪ ،‬وكان احلب‪ ،‬واخليبة‪ ،‬وبقية‬ ‫أ�ستحق‪ ،‬بعد جولة‬ ‫أ�شعر ب�أين �‬ ‫ُّ‬ ‫املحر�ضات الروحية ال�صغرية جتعلني � ُ‬ ‫�سيئة يف احلياة‪� ،‬أن �أخرب ج�سدي قلي ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫كانت التمارين الريا�ضية اليومية جزءاً من العادات التي ال تتوقف‬ ‫يف حياتي‪ .‬ومنذ بلغت الع�رشين‪ ،‬حتى الآن‪ ،‬و�أنا �أنق�ش هذا اجل�سد‬ ‫نق�ش ًا مثل بيجماليون‪ ،‬و�أحاول �أن �أجعله �أنيق ًا‪ ،‬و�شهي ًا‪ ،‬لأغرا�ض عدة‪،‬‬ ‫ال عالقة لها باحلكمة‪ ،‬ولي�س �أكرث من نزوة �شاب مغرور بد�أت فج�أة‪،‬‬ ‫وحتولت �إىل عادة يومية‪ .‬ف�إذا مل �أكن قوي ًا‪ ،‬فلعلي �أبدو كذلك على‬ ‫الأقل‪ ،‬و�إذا مل تنفعني هذه القوة الع�ضلية يف واقع احلياة وظروفها‪،‬‬ ‫فلعلها تكون �سبب ًا �إ�ضافي ًا يجعلني �أقرب �إىل عيون العابرات‪.‬‬ ‫�أخربتني اجلورية يوم ًا ما‪ ،‬وهي تلعق �صدري مثل قط �رضير‪� ،‬أنها‬ ‫تتمنى لو كانت ع�ضالتي �أقل بروزاً‪ ،‬حتى �أبدو عادي ًا‪ ،‬وممكن ًا‪ ،‬ولي�س‬ ‫مثل �أبطال �أفالم العنف امل�ستحيلني‪ .‬كانت حتاول �أن جتعل حبنا �أكرث‬ ‫حلم هوائي يعرب‬ ‫واقعية وهي تعرتف �ضمني ًا ب�أين ُ‬ ‫كنت �أبدو مثل ٍ‬ ‫حياتها‪ ،‬وال ميكنها �أن حتب�سه يف قنينة ما مثل قطرات احلقيقة‪ .‬كانت‬ ‫تريد �أن تكثفني حتى �أ�صبح �أكرث قابلية للتناول‪ .‬وقتذاك �أخذت‬ ‫�شهادتها تلك على حممل اجلد‪ ،‬على اعتبار �أن الذوق الأنثوي مت�شابه‬ ‫يف جممله يف حميط الريا�ض على الأقل‪ ،‬وخف�ضت معدل متريني اليومي‬ ‫�أكرث من الن�صف‪ ،‬وتوقفت عن تناول الربوتني متام ًا‪ .‬وعندما كانت‬ ‫‪72‬‬


‫جورية تز ّم �شفتيها الغا�ضبتني وترحل �إىل الأبد‪ ،‬كان ج�سدي قد فقد‬ ‫الكثري من ات�ساقه الع�ضلي فع ً‬ ‫ال‪ ،‬لتكتمل عندي بذلك �صورة العالقة‬ ‫اخلا�رسة م�سبق ًا‪ ،‬واحلب امل�صاب بلعنة الغنب‪.‬‬ ‫لو كانت جورية عربت و�سط عالقة فقط‪ ،‬لكان ذلك �أكرث من‬ ‫رائع‪ ،‬ولكنها كانت �أكرث حنكة‪ ،‬و�أطول �أظفاراً‪ .‬قبل �أيام قليلة‪ ،‬ر�أيت‬ ‫�صورة �أخيها يف اجلريدة‪ ،‬يف حفل زفافه‪ ،‬كما تن�رش اجلرائد املحلية‬ ‫�أحيان ًا �صوراً كتلك‪�“ .‬أخي هذا ي�شبهك يف كثري من ال�صفات‪،‬‬ ‫�ستن�سجمان جداً!”‪ ،‬كانت تقول هذا‪ ،‬وغريه من امل�شاهد املتوقعة‬ ‫التي كانت تختلقها �أثناء كالمنا دائم ًا‪ ،‬لتجعل فكرة زواجنا �أكرث ثبات ًا‬ ‫يف ذهني‪ ،‬وحتا�رصين بالكثري من الأ�سوار اجلميلة‪ ،‬حتى ي�صبح الرتاجع‬ ‫تخولها �أن تلعنني‪ ،‬بال تردد‪.‬‬ ‫عما مل نتفق عليه بعد‪ ،‬خيانة ّ‬ ‫واحتجت بعدها �إىل امر�أة �أخرى‪،‬‬ ‫خربت قلبي وج�سمي وم�ضت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وثالث �سنوات‪ ،‬لأقنع نف�سي ب�أن ال �آ�سف عليها �أبداً �ستظل امر�أة على‬ ‫تنافر مع طباعي ب�شدة‪ .‬وبيننا ما بني الرجل واملر�أة من برج العذراء‪،‬‬ ‫ذلك الت�شابه الظاهري يف ال�صفات والعادات والذي يطلي العالقة‬ ‫بخديعة املر�آة‪ ،‬والن�صف الآخر‪ ،‬و�رشيك القلب‪ ،‬وبقية الكذبات التي‬ ‫ي�صنعها هذا الربج امل�شتبه فيه‪ ،‬وبعد ذلك يتك�شف لهما �أثناء العالقة‬ ‫ذلك التناف�س اخلفي‪ ،‬وال�سباق على ال�سيطرة‪ ،‬ونزعة اال�ستيالء على‬ ‫زمام احلب‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ظروف جتعلني �أعي�ش‬ ‫ال �أ�سف على اجلورية لأنه ال ميكن �أن توجد‬ ‫من�سجم ًا معها‪ ،‬وما يعزيني يف جراحها ال�سامة �أنني �أ�شعر دائم ًا ب�أين‬ ‫كنت حكيم ًا عندما تركتها تركلني ب�شدة طوال �أيامنا الأخرية‪ ،‬حتى‬ ‫ُ‬ ‫‪73‬‬


‫غابت متام ًا‪ .‬كان ال بد لأحدنا �أن يلعب دور الكبري هنا‪ ،‬بعد �أن ف�شلنا‬ ‫يف �أن نكون كبريين مع ًا‪� ،‬أو حتى �صغريين مع ًا!‬

‫****‬ ‫و�صلت �إىل البيت و�أبي ال يزال م�ستيقظ ًا‪ .‬فتحت الباب بهدوء‪،‬‬ ‫ف�ألفيته جال�س ًا على كر�سيه الأثري يف ال�صالة‪ ،‬يتابع برناجم ًا وثائقي ًا‪،‬‬ ‫وي�أكل حبات برتقال‪ ،‬و�إىل جانبه تقبع نظارته املطوية على الطاولة‬ ‫ال�صغرية فوق رزمة �صغرية من الورق‪ ،‬بينما ين�سدل جورباه من م�سند‬ ‫املقعد ب�شكل �أنيق‪ ،‬وك�أنهما مل ُيلب�سا بعد‪.‬‬ ‫كانت الإ�ضاءة خافتة كما ال ميكنها �أ�ص ً‬ ‫ال �أن تكون �أكرث من ذلك‬ ‫يف بيتنا‪ .‬ابت�سم يل عندما دخلت يف جمال ر�ؤيته‪ ،‬ثم عادت عيناه‬ ‫لتتعلقا ب�شا�شة التلفزيون ب�شكل �آيل‪.‬‬ ‫�شعرت ب�أين �أرغب يف البقاء معه قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬وال �شيء يف غرفتي ينتظرين‬ ‫ُ‬ ‫على �أية حال‪ ،‬فانحنيت ل ّأقبل جبينه‪ ،‬ثم جل�ست على الأريكة‬ ‫املواجهة لكر�سيه‪� .‬س�ألني‪:‬‬ ‫– اي�ش عندك الليلة؟‬ ‫– ما عندي اال اخلري يا والدي‪.‬‬ ‫تابعت �إ�صبعه املعروقة وهي ت�شري �إىل ال�شا�شة‪ ،‬ويقول بنربة‬ ‫ت�ستحث اهتمامي‪:‬‬ ‫– انظر‪ ،‬احلرب العاملية‪ ،‬يف �أيامها الأخرية‪.‬‬ ‫جل�ست �أراقب معه بع�ض �صور بالأبي�ض والأ�سود لدبابات‬ ‫ُ‬ ‫‪74‬‬


‫وحاولت �أن �أح�رش بع�ض التعليقات عقب الأحداث‬ ‫وجنود قدماء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التي تظهر على ال�شا�شة‪ ،‬من دون �أن �أظفر بالكثري من اهتمامه‪ .‬كان‬ ‫يحك �أذنه من حني لآخر منذ �أن �آذاه التهاب �أذنه الو�سطى الأخري‪،‬‬ ‫و�أفقده التوازن‪ ،‬ثم هوى به يوم ًا ما ع�رش درجات كاملة بطول‬ ‫الدرج‪ ،‬لي�سقط على الأر�ض مبا�رشة‪.‬‬ ‫من ح�سن حظه وحظنا �أنه مل ي�صب ب�أذى كبري‪ ،‬با�ستثناء بع�ض‬ ‫ارت�ض ظهره قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬وبدا �أن بنيانه‬ ‫اخلدو�ش يف جبينه و�ساعده‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫الع�سكري القدمي لعب دوراً جيداً يف حمايته‪ .‬ويف الليلة نف�سها‪،‬‬ ‫ت�صدق بع�رشة �آالف ريال‪ ،‬كعادته عندما يريد �أن يبعث بامتنانه �إىل‬ ‫ّ‬ ‫اهلل‪ ،‬بينما �أنفقت �أمي املبلغ نف�سه تقريب ًا يف تركيب دعائم �إ�ضافية‬ ‫ال�سجاد ال�سميك على كل الدرجات‬ ‫بطول الدرج‪ ،‬وقطع من‬ ‫ّ‬ ‫الرخامية تلك‪.‬‬ ‫انق�ضت ن�صف �ساعة و�أنا �أتابع مع �أبي �أحداث احلرب العاملية‪،‬‬ ‫و�أكوام القتلى يف اخلنادق املهجورة‪ ،‬وقد منحها اللونان الأبي�ض‬ ‫والأ�سود حاجزاً زمني ًا يجعل حدوثها مرة �أخرى ب�صورتها املهولة‬ ‫تذكرت احلرب الوحيدة التي كان ميكن �أن‬ ‫تلك �أبعد احتما ًال‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�أجربها لوال �أن �أبي مل ي�ش�أ ذلك‪ ،‬فمنذ �أن دقت حرب اخلليج �أجرا�سها‬ ‫الأوىل‪ ،‬كنا جميع ًا قد بلغنا الدار البي�ضاء فع ً‬ ‫ال‪ ،‬لنق�ضي يف املغرب‬ ‫ثمانية �أ�شهر كاملة‪ ،‬هي مدة احلرب‪ ،‬وهذا كان قرار �أبي‪ ،‬رغم ال�سنة‬ ‫الدرا�سية التي �أ�ضعتها‪ ،‬ورغم احلما�س ال�صبياين الذي �أُ ِخ ْذ ُت به موقّت ًا‬ ‫مع مو�سيقى احلرب‪ ،‬فقد ّ‬ ‫ظل �أبي م�رصاً على موقفه �أن �سالمة �أ�رسته‬ ‫ال�صغرية �أهم من كل �أوطان الدنيا‪.‬‬ ‫‪75‬‬


‫ع ّلمني �أبي من تعليقاته التي �ألتقطها منه منذ طفولتي على ن�رشات‬ ‫الأخبار‪� ،‬أو ال�صحف ال�صباحية‪� ،‬أو النقا�شات العابرة مع �ضيوفه‬ ‫حرب �رشيفة‪ ،‬و�أخرى و�ضيعة‪ .‬كل احلروب‬ ‫الأ�سبوعيني‪� ،‬أنه ال توجد‬ ‫ٌ‬ ‫�أراها الآن على طريقته‪ ،‬كما يقول �أبي‪“ :‬طريقة الب�رش يف �إعالن‬ ‫ف�شلهم”‪ ،‬و�أت�ساءل‪ ،‬كم مرة منذ بد�أ التاريخ �أعلن الب�رش ف�شلهم �إذن؟‬ ‫وما زال �أبي عند ر�أيه مثلما �أنا كذلك‪ ،‬عند ر�أيه‪ .‬تلك الهزات‬ ‫الطفيفة من ر�أ�سه وهو يتابع الفيلم الوثائقي الآن‪ ،‬عالمة الأ�سف‬ ‫واالمتعا�ض‪ ،‬كانت ت�شي بذلك‪ .‬ومل يعلق �أبي على م�شهد واحد‪،‬‬ ‫ال�صمت طوي ً‬ ‫ال �إال من �أ�صوات املدافع‪،‬‬ ‫ومل �أفعل �أنا �أي�ض ًا‪ .‬حام بيننا‬ ‫ُ‬ ‫رحت �أ�رسب ب�رصي‬ ‫و�صوت املعلق على �أحداث احلرب القدمية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قلي ً‬ ‫ٌ‬ ‫غارق يف متابعة �أحداث احلرب‬ ‫ال من ال�شا�شة‪ ،‬و�أت�أمله وهو‬ ‫باهتمام �شديد‪ ،‬وك�أنه ي�سمع عنها للمرة الأوىل يف حياته‪.‬‬ ‫كم أ��ؤمن ب�شيباته التي ت�صبغ ذقنه الق�صرية املحفوفة بعناية‪،‬‬ ‫وبالتجاعيد التي تكونت �إثر ماليني املرات التي ر�سم فيها مالحمه‬ ‫اجلادة تلك‪ ،‬عالمة الرتكيز‪� ،‬أو حتى عالمة الرحمة املبا�رشة عندما‬ ‫ؤمن �أي�ض ًا بب�رشته البي�ضاء التي‬ ‫يخ�ضعها لطابع عملي ي�شبه �سائر حياته‪� .‬أ� ُ‬ ‫ترك عليها الزمن بع�ض �آثاره اللطيفة‪ ،‬والندبة البادية يف طرف حاجبه‬ ‫الأي�رس‪ ،‬عميقة‪ ،‬وغائرة‪� ،‬أثراً جلرح مل ينغلق جيداً يف �شبابه‪ ،‬فرب�أ كما‬ ‫يريد‪ ،‬ونظاراته النحيلة التي يختارها دائم ًا ف�ضية الإطار‪ ،‬وتتعاقب‬ ‫على وجهه من خالل ال�سنوات عندما ي�ستبدل واحد ًة ب�أخرى‪ ،‬فال‬ ‫تفلح �أي واحدة منها يف تغيري منظره‪� ،‬سواء تلك املخ�ص�صة للقراءة‪،‬‬ ‫�أو النظر البعيد‪� ،‬أو التي يرتديها يف كل الأحوال‪ .‬يف النهاية‪ ،‬كانت‬ ‫‪76‬‬


‫رجل طيب‪.‬‬ ‫كلها تفقد �صفتها املعدنية‪ ،‬وتذوب يف مالمح ٍ‬ ‫ولأين ن�ش� ُأت و�أنا ال �أرى رج ً‬ ‫ال غريه‪ ،‬وهو ال يعرف ابن ًا غريي‪،‬‬ ‫كان لهذه العالقة طعم الإميان حق ًا‪ .‬فهو الرجل الذي يكفيني الكثري‬ ‫من التنقيب يف جهد الدنيا‪ ،‬ومينحني دائم ًا ما �أحتاجه يف كل‬ ‫الظروف‪ ،‬ويف �شكل ع�رصي قد ال يتنا�سب متام ًا مع �سنواته ال�سبعني‬ ‫كربت مبا يكفي لأنتبه لهذه العالقة املتوحدة‪،‬‬ ‫التي مرت ببطء‪ .‬وحاملا‬ ‫ُ‬ ‫علي‬ ‫ُ‬ ‫�رصت �أفكر �أن الأمر �أ�شبه ما يكون بحاجة اجتماعية متبادلة‪� ،‬إذ ّ‬ ‫�أن �أكون ابن ًا مثالي ًا جداً حتى ال يحزن �أبي الذي ال ميلك �إخوة وال‬ ‫�أعمام ًا‪ ،‬وعليه هو يف املقابل �أن يكون �أب ًا كافي ًا‪ ،‬حتى ال �ألومه يوم ًا ما‬ ‫�إن مل يجعل يل عائلة �أكرب‪ ،‬و�إخوة و�أخوات‪ .‬ولهذا �أنا �أطيب الأبناء‬ ‫تلب�س حالة �شعورية‬ ‫عندما يتعلق الأمر ب�أبي‪ ،‬ال �أملك يف ح�ضوره �إال ّ‬ ‫ت�شبه اخلنوع‪ ،‬ال �أدري ما الذي ي�سحبها على �سلوكي معه‪ .‬هل هو‬ ‫وجهه املت�سامح �أم �صوته املرتب جداً ك�أنه ن�شيد �أم دقته يف اختيار‬ ‫الكلمات‪ ،‬وجتنبه تو�ضيح موقفه من الأحداث والأ�شخا�ص مثل‬ ‫فيل�سوف يطوي زمنه بيديه‪ ،‬وال تفر منه ِعرب ٌة واحدة؟‬ ‫�أحببته ب�شكل غريب‪ ،‬وك�أنها حالة �أوديب �أبوية‪ .‬كان يقف يف‬ ‫م�سها ب�شكل‬ ‫منت�صف حياتي مثل نقطة غام�ضة من الطاقة‪ ،‬ال ميكنني ّ‬ ‫مبا�رش‪ ،‬وال ميكنني �أي�ض ًا �أن �أخرج ب�سهولة من نطاقها املغناطي�سي‬ ‫الهادئ الذي يبث موجات ال�سكينة �إىل الأبد‪ .‬ع ّلمني �أبجديته‪،‬‬ ‫ميل‬ ‫علي حرف ًا واحداً‪ ،‬ولكني مل �أجد يف نف�سي �أي ٍ‬ ‫ومل يفر�ض ّ‬ ‫الختيارات �أخرى‪ ،‬كانت قناعتي �أنه ق�ضى وقت ًا كافي ًا يف احلياة ليختار‬ ‫الأف�ضل‪ ،‬ومن الغباء �أن �أعيد املحاولة بنف�سي‪ .‬ال ميكن �أن �أ�ضيع عمراً‬ ‫‪77‬‬


‫مادمت �أتكئ يومي ًا على مدر�سة �صغرية تنا�سبني متام ًا‪ ،‬وال �أريد‬ ‫�آخر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أن �أ�صبح �أف�ضل‪ ،‬وال �أنبغ‪ .‬حتى طريقتي يف اللب�س والت�أنق كانت‬ ‫ت�ستن�سخه متام ًا‪ ،‬وت�شرتي لنا �أمي قارورتني من العطر نف�سه‪ ،‬ونوع ًا‬ ‫من الغرت احلمراء القانية نف�سها‪ ،‬حتى نبدو ونحن من�شي مع ًا يف الطريق‬ ‫�إىل امل�سجد‪ ،‬مثل �أخوين ان�شقت بينهما هوة عمرية غري مربرة‪.‬‬ ‫بد�أت معي نزعة تقليده منذ طفولتي‪ ،‬ومل تتوقف قط‪ .‬كلما مرت‬ ‫بنوتي له مب�شاهد �أكرث‪ ،‬ازداد ميلي �إىل نحتها �أكرث يف �شخ�صيتي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حبكت �أ�سلوبه يف التعامل مع موقف‬ ‫لأنها ت�شعرين بالأمان‪ .‬وكلما‬ ‫ُ‬ ‫�شعرت بكربياء التلميذ‬ ‫ما بالطريقة نف�سها التي كان هو يتعامل بها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫النجيب‪ ،‬فم�سار �أبي يف حياته الطويلة كان يبدو يل �أكرث امل�سارات‬ ‫�أمان ًا ونقا ًء‪ ،‬ومل يكن عندي ف�ضول البحث عن م�سار �آخر‪ ،‬لقد‬ ‫ت�رشبت من �شخ�صيته نزعة اال�ستقرار والهدوء وحماذاة الطرق‪ ،‬وك�أننا‬ ‫ّ‬ ‫وحتدي‬ ‫بحريتان من�سيتان يف بقع ٍة جغرافية ما‪ .‬كانت مناكفة احلياة‪ّ ،‬‬ ‫�أقدارها �أق�رص نزواتي عمراً‪ ،‬تولد ومتوت يف الليلة نف�سها‪ ،‬وعلى‬ ‫الو�سادة نف�سها‪.‬‬ ‫حديث �رشيف منقو�ش على قطعة خ�شبية بيد خطاط‬ ‫ويف مكتبه‬ ‫ٌ‬ ‫دم�شقي “من �أ�صبح �آمن ًا يف �رسبه‪ ،‬معافى يف بدنه‪ ،‬مالك ًا قوت يومه‪،‬‬ ‫فقد حيزت له الدنيا”‪ ،‬يحب �أبي هذا احلديث كثرياً‪ ،‬وي�ستمد منه‬ ‫حاجته اليومية من الر�ضا منذ �سنوات ال �أعرف عددها متام ًا‪ ،‬و�أنا‬ ‫�أخربته يوم ًا يف مكتبه �أن هذا احلديث عميق جداً‪ ،‬وب�سيط يف الوقت‬ ‫نف�سه‪ ،‬و�أجاب‪“ :‬عميق‪ ،‬وب�سيط‪ ،‬هكذا يتكلم الأنبياء يا ولدي”‪.‬‬ ‫وهكذا يتكلم هو �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫‪78‬‬


‫كنت �أقلب ب�رصي بني التلفزيون وبينه‪ ،‬و�أحاول �أن �أبتلع ف�ش ً‬ ‫ال‬ ‫ُ‬ ‫�آخر يف �أن �أكون ابن ًا م�سلي ًا‪� .‬أبي الذي بد�أ عا ُمه ال�سبعون بالفعل قبل‬ ‫�أ�شهر‪ ،‬يف�صلني عنه حاجز زمني هائل بحجم �أربعني �سنة تقريب ًا‪ ،‬ورغم‬ ‫حماولتي �أن �أتقاطع معه يف الر�ؤى والعادات‪� ،‬إال �أن فارق ال�سنوات‬ ‫يجعل من ال�صعب �أحيان ًا �أن نقع على لغة م�شرتكة يف لقاءاتنا اليومية‪،‬‬ ‫وهو ال يبدي يل ذلك على �أية حال‪ ،‬ولكن ردود �أفعاله الباردة جتاه‬ ‫يجد عليه من الأمور‪ ،‬كانت جتعلني �أ�شعر ب�أنه بلغ عمراً �صار‬ ‫كل ما ّ‬ ‫يتوقع خالله كل �شيء‪ ،‬و�أ�صبح يراقب احلياة وك�أنها جمموعة من‬ ‫الأحداث امل�سلية فقط‪ ،‬ال تعني له �شيئ ًا‪ .‬ويف �أحيان �أخرى كثرية‬ ‫ٌ‬ ‫من�شغل برتبيتنا مع ًا‪،‬‬ ‫كنت �أ�شعر �أنني �أنا و�أمي‪ ،‬ل�سنا �إال طفليه‪ ،‬وهو‬ ‫ُ‬ ‫وت�أمل حاالتنا اليومية بابت�سامات عميقة‪ ،‬وفهم م�سبق‪.‬‬ ‫كان قد تقاعد من عمله قبل والدتي‪ ،‬وبد أ� وظيفته ك�أب بعد �أن‬ ‫وولدت‬ ‫انتهى متام ًا من �سرية وظيفية كاملة ك�ضابط يف �سلك الأمن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أنا يف الن�صف الثاين من حياته‪ ،‬وقد بد أ� م�شواراً جديداً‪ ،‬واجته �إىل‬ ‫فكرت طوي ً‬ ‫ال من قبل كيف �أن‬ ‫وجهة �أخرى من احلياة‪ ،‬ولذلك‬ ‫ُ‬ ‫حياتي ب�أكملها‪ ،‬حدثت يف حقبة ما بعد تقاعده‪� ،‬أال ميكن �أن يبدو له‬ ‫الأمر مم ً‬ ‫ال بع�ض ال�شيء؟‬ ‫�أحيان ًا ميعن بي ال�شعور بالذنب‪ ،‬وعدم الأهمية‪� ،‬إىل �أن �أتخيل �أن‬ ‫وجودي يف حياته كان خذالن ًا م�ستمراً بطول �سنوات عمري‪ ،‬ولرمبا‬ ‫كان يتمنى لو عا�ش بعد تقاعده حياة زوجية جديدة‪ ،‬خمتلفة‪ ،‬يف‬ ‫بلد �آخر‪ ،‬وظروف خمتلفة‪ .‬ولكن ظروف تربيتي التي حتتم ا�ستقراراً‬ ‫وعناية م�ستمرين جعلته يعزف عن الأحالم القدمية تلك‪ ،‬وميار�س‬ ‫‪79‬‬


‫�أبوته احلتمية‪ .‬و�أحيان ًا �أخرى‪ ،‬ينك�رس هذا ال�شعور ال�سلبي املوهوم‪،‬‬ ‫و�أعود �أ�شعر ب�أننا نتعاي�ش مع ًا‪ ،‬ك�أب وابن‪ ،‬ب�شكل حيوي وجيد‪،‬‬ ‫و�أتفاءل‪.‬‬ ‫أكد �أن والدتي �أحدثت نكداً ما يف منطقة معينة من‬ ‫ولكني مت� ٌ‬ ‫طموحه‪� ،‬أو رمبا جئت �أقل قلي ً‬ ‫ال من �أحالمه‪ .‬هذا الرجل الذي عا�ش‬ ‫معظم حياته �ضابط ًا كبرياً‪ ،‬ثم عندما �أولد �أنا‪ ،‬حتدث لعنة غام�ضة‪،‬‬ ‫ويجد نف�سه وراء الق�ضبان‪ ،‬بعد كل ذلك العمر الطويل الذي ق�ضاه‬ ‫�أمامها‪.‬‬ ‫ا�ست�أذنته يف ال�صعود �إىل غرفتي‪ ،‬ف�أوم أ� يل‪ ،‬ومنحني ابت�سامة دافئة‪،‬‬ ‫و�صعدت‬ ‫فحملت حقيبة كمبيوتري‪،‬‬ ‫كتلك التي تتقنها �شفاه الآباء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�إىل غرفتي و�أنا �أفكر‪ :‬ما الذي ميكن �أن يجعل �أبي را�ضي ًا عن ابنه‬ ‫أتيت يوم ًا ما ب�إحدى تلك الب�شائر اال�ستثنائية التي‬ ‫الوحيد؟ ال �أذكر �أين � ُ‬ ‫تنب�سط لها �أ�سارير الآباء مطلق ًا‪ ،‬حتى ذلك احلدث الوحيد املحتمل‬ ‫الذي ميكنني القيام به من دون حاجة �إىل عبقرية �إ�ضافية‪ ،‬الزواج‪،‬‬ ‫أ�شعلت كل �شموعه املمكنة يف البيت‪ ،‬ولكن‬ ‫مل يكتمل‪ ،‬رغم �أين �‬ ‫ُ‬ ‫الزوجة املرتقبة مل تبق فيه‪ ،‬وظلت خيبة �أبي معلقة يف قلبه ال�صبور‪،‬‬ ‫مثل �رشنقة جافة‪.‬‬ ‫حتى الكتاب الذي ُن�رش‪ ،‬مرت �أيا ٌم ومل �أ�سمع من �أبي تعليق ًا‬ ‫واحداً عليه‪ ،‬على قدر معقول من اجلدية‪ ،‬بخالف تعليقاته املازحة‬ ‫علي من وقت لآخر‪ ،‬ولقب الكاتب الذي �صار يخاطبني‬ ‫التي يلقيها ّ‬ ‫به يف �أوقات تب�سطه‪ ،‬و�أثناء الوجبات‪ .‬مل �أكن �أتوقع من �أبي انفعا ًال‬ ‫املتخبط‪ ،‬كما مل �أتوقع �أي انفعال‬ ‫املو�شحة باحلب‬ ‫�أكرب مبادة الكتاب ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪80‬‬


‫دمت قد كتبته خارج نية الن�رش‪ ،‬لوال �صفاقة‬ ‫من �أي قارئ �آخر ما ُ‬ ‫غالية‪ ،‬وت�رصفاتها الفردية التي ظ ّنت �أنها �ستنزل مني منز ًال ح�سن ًا‪،‬‬ ‫ع�ش الأحزان‪ ،‬و�أعادت احلمى �إىل جبيني البارد‬ ‫ومل تدر �أنها نك�شت ّ‬ ‫منذ �سنتني‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬مع �أبي بالذات‪ ،‬يبدو يل �أحيان ًا �أن �سقف توقعاته مني‬ ‫منخف�ض جداً‪� ،‬إىل حد مريح‪ ،‬ف�أنا ال �ألوي على �شيء‪ ،‬وال �أنوي تغيري‬ ‫خارطة الدنيا‪ ،‬ولي�س يف وجهي �أي مالمح ت�شبه امل�ستقبل �أو تومئ‬ ‫�إليه‪ .‬يبدو يل �أحيان ًا �أين موجو ٌد لأكمل �شيخوخة �أبي‪ ،‬ولي�س لأبد�أ من‬ ‫جديد‪ ،‬وهذا ينا�سبني متام ًا‪.‬‬

‫****‬ ‫ثمة �أ�سباب جعلت �أبي وحيداً �إىل هذا احلد‪ ،‬فقد مات جدي قبل �أن‬ ‫يولد هو‪ ،‬وانتقلت جدتي بعد موته من ينبع‪ ،‬حيث كانت تقيم‪� ،‬إىل‬ ‫جدة وهي حامل بالطفل والأحزان‪ ،‬لتلد �أبي هناك‪،‬‬ ‫بيت �أخيها يف ّ‬ ‫بعيداً عن �أعمامه الذين مل يعرفوا �شيئ ًا عن حملها هذا �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬ومل‬ ‫ي�س�ألوا عنها وقد غابت‪ ،‬ما دامت غريبة‪ ،‬وقد انقطع بينهم ما انقطع‪.‬‬ ‫هكذا ولد �أبي وتربى يف بيت خاله‪ ،‬من دون �أن يعرف �أعمامه �أن‬ ‫لأخيهم طف ً‬ ‫ال يعي�ش يف جدة‪� ،‬أخفت جدتي عنهم �أمره خ�شية �أن‬ ‫يطالبوا برتبيته بني �أهله‪ ،‬فت�ضطر �إىل فراقه‪ ،‬و�أن ين�شئوه بينهم على‬ ‫غري ما تريد‪.‬‬ ‫هكذا ظل �أبي طف ً‬ ‫�رسي ًا حتى بلغ اليفاع‪ ،‬ال يعرف له �أب ًا �إال‬ ‫ال ّ‬ ‫‪81‬‬


‫�ضمه �إىل عياله وبناته‪ ،‬و�أ�رشف على تعليمه نهاراً‪،‬‬ ‫اخلال احلنون الذي ّ‬ ‫وتدريبه لي ً‬ ‫ال على العمل عندما كان ي�صحبه للحرا�سة معه عند باب‬ ‫�إحدى امل�صالح احلكومية‪.‬‬ ‫رمبا كانت هذه املهنة املبكرة قد �صاغت الكثري من �شخ�صية �أبي‪،‬‬ ‫ف�أن يبد أ� حياته باحلرا�سة‪ ،‬جعلته حار�س ًا �إىل الأبد‪ ،‬م�سكون ًا بهاج�س‬ ‫الأمن كقيمة عليا قبل كل �شيء �آخر‪ ،‬وظل معتمداً على هذا الهاج�س‬ ‫يف كل قرارات حياته القليلة‪ ،‬ك�أن يتزوج امر�أة بدون عائلة كبرية‬ ‫ليخف�ض احتماالت اخلالف �إىل حدودها الدنيا‪ ،‬و�أن ينجب ابن ًا‬ ‫واحداً ليخف�ض احتماالت اخلطر �إىل حدودها الدنيا �أي�ض ًا‪ ،‬و�أن يبقي‬ ‫ن�صف �أمواله دائم ًا خارج الوطن‪ ،‬ليتجنب احتمال االنحبا�س يف‬ ‫قف�ص رديء‪ ،‬يف �آخر العمر‪.‬‬ ‫يربر يل من حني لآخر الكثري من‬ ‫منذ �أن‬ ‫ُ‬ ‫بلغت الع�رشين‪ ،‬و�أبي ّ‬ ‫ميعن يف الوقوف معي �أمام �أحداث‬ ‫ت�رصفاته التي مل �أكن �أفهمها‪ ،‬كان ُ‬ ‫عابرة‪ ،‬لي�سجل على هام�شها الكثري من التوجيهات‪ ،‬وبخالف‬ ‫�إيجارات عقاراته التي �أ�صبح من م�س�ؤوليتي حت�صيلها كل �ستة �أ�شهر‪،‬‬ ‫وجدته يدفع باجتاهي بع�ض القرارات وك�أنها �أ�صبحت منوطة بي‪،‬‬ ‫وعندما �أخربته ب�أن �أحد امل�ست�أجرين ت�أخر كثرياً يف الدفع‪� ،‬أجابني بال‬ ‫مباالة‪ ،‬بتلك النربة املتح�رشجة التي ت�صدر عنه عندما يتكلم �أثناء قيامه‬ ‫عن الكر�سي‪ ،‬وقد امت�ص جهد الوقوف الكثري من جهد ال�صوت‪،‬‬ ‫“افعل ما تراه منا�سب ًا يف هذه العمارة‪ ،‬ما بنيتها �إال لك!”‬ ‫قبل عامني بالتحديد‪ ،‬ات�صل بي و�أنا خارج املنزل‪ ،‬و�أخربين �أنه‬ ‫يريد �أن يجتمع بي بعد �صالة الع�شاء لأمر مهم‪ ،‬ومل يكن قد طلب‬ ‫‪82‬‬


‫مني العودة �إىل البيت بهذه الطريقة الغام�ضة البتة‪ .‬وعندما رافقته �إىل‬ ‫امل�سجد تلك الليلة مل يتكلم كثرياً‪ ،‬و�أوجز فقط ب�أنه يريد �أن يكلمني‬ ‫يف بع�ض الأمور القدمية‪ ،‬وال �أدري ملاذا خطرت يل فكرة كرتونية‬ ‫�ساذجة �أنه قرر �أن ي�صارحني‪ ،‬مثل الروايات الكال�سيكية‪ ،‬ب�أنه لي�س‬ ‫�أبي!‬ ‫عندما عدنا �إىل البيت‪ ،‬طلب من اخلادمة �أن حت�ضرّ لنا ال�شاي‪،‬‬ ‫وحت�رضه �إىل غرفة املكتب التي تبعته �إليها و�أنا ال �أزال �أ�رضب الأخما�س‬ ‫بالأ�سدا�س‪ ،‬حتى وجه �أمي الذي ا�ستنطقته بنظرة �أخرية قبل �أن نغيب‬ ‫مع ًا يف املكتب مل يخربين ب�شيء‪ ،‬وبدا يل �أنها هي نف�سها ال تعرف �أن‬ ‫ثمة �أمراً ما على و�شك الظهور‪ ،‬و�إال لباحت يل مالحمها بالقلق على‬ ‫الأقل‪� ،‬أنا الذي �أجيد قراءة وجه �أمي جيداً‪ ،‬مبقدار ما �أقف عاجزاً �أمام‬ ‫وجه �أبي دائم ًا‪.‬‬ ‫بعد ن�صف �ساعة ق�ضيتها معه يف املكتب‪ ،‬ات�ضح يل �أنها �صفتي‬ ‫املعتادة يف اخلوف من املفاج�آت‪ ،‬وت�ضخيمها‪ ،‬هي التي جعلتني‬ ‫�أ�سيء تقدير املوقف‪ ،‬و�أعرق �أكرث من الالزم‪ .‬فما كدنا نلج املكتب‪،‬‬ ‫حتى فتح �أبي خزانته احلديدية تلك‪ ،‬و�أخرج منها حقيبة �سام�سونايت‬ ‫عري�ضة‪ ،‬و�ضعها على �سطح املكتب‪ ،‬وطلب مني �أن �أ�سحب كر�سي ًا‬ ‫و�أجل�س �إىل جواره‪�“ .‬سالمتك يا ولدي‪ ،‬الدنيا حياة وموت‪ .‬و�أنا‬ ‫ب�رصاحة �أخاف ي�صري يل �شيء وحتتا�س من بعدي‪ ،‬قلت خليني �أمر‬ ‫وياك على �شوية �أوراق ميكن تخت�رص عليك بع�ض التعب‪”...‬‬ ‫– اهلل يعطيك طولة العمر‪.‬‬ ‫قاطعته بهذه العبارة‪ ،‬وعيناي زائغتان تقريب ًا‪ ،‬وقد �شعرت برهبة‬ ‫‪83‬‬


‫حتتجز الكلمات يف �صدري‪ ،‬ومل يكمل �أبي عبارته‪ ،‬بل راح يخرج‬ ‫من �أح�شاء احلقيبة �أوراق ًا كثرية‪ ،‬يبدو �أن �أحدثها على الإطالق قد‬ ‫ٌ‬ ‫�صكوك قدمية‪ ،‬اهرت�أت‬ ‫حقنه الزمن بالغبار وال�صفرة‪ .‬كانت هناك‬ ‫تقريب ًا‪ ،‬ومل يبقها متما�سكة �إال تلك اخلطوط املتقاطعة من الال�صق‬ ‫البال�ستيكي الذي يجمع �أجزاء ال�صك ن�صف املمزق‪ ،‬وثمة فواتري‪،‬‬ ‫و�إي�صاالت‪ ،‬وعقود مكتوبة بخط اليد‪ ،‬و�أوراق ر�سمية �صادرة عن‬ ‫جهات حكومية �سعودية ولبنانية على ال�سواء‪ ،‬و�شهادات �إيداع‬ ‫�أ�سهم‪ ،‬واملئات من ق�سائم الإيداع الكربونية ال�صفراء اخلا�صة بالبنوك‪.‬‬ ‫منحني �أبي يف تلك اجلل�سة تفا�صيل ح�ساباته الكاملة‪ ،‬و�رشح‬ ‫يل ق�صة كل ورقة يف تلك احلقيبة العري�ضة‪ ،‬وكل ما يتعلق مبعامالته‬ ‫التجارية مع النا�س‪ ،‬والبنوك‪ ،‬وامل�ست�أجرين‪ ،‬واحلكومتني ال�سعودية‬ ‫واللبنانية‪ .‬كل تلك املعلومات املنب�سطة على ب�ضع ع�رشات من ال�سنني‬ ‫لقّنني �إياها �أبي بالتف�صيل حتى �أكون منتبه ًا ملا قد يطر أ� بعد موته‬ ‫“تذكر دائم ًا �أنه ما عندي للنا�س �أي دين �أو حق‪ ،‬ولكن �أعرف �أن‬ ‫هناك من �سيطالبك بديون وهمية بعد موتي‪ ،‬و�سي�ستغل �ضعف النا�س‬ ‫النف�سي جتاه حتليل ذمم �أمواتهم‪ ،‬خليك �صاحي وفتح عينك‪ ،‬كل‬ ‫معاملة �أجريتها يف حياتي جتدها يف هذا ال�صندوق‪ ،‬و�أما ديوين عند‬ ‫النا�س ف�أنا م�ساحمهم عنها �سلف ًا‪ ،‬فال تقبل منهم �أي تعوي�ض‪ ،‬واطلب‬ ‫منهم �أن يدعوا يل وكفاية”‪.‬‬ ‫زلت �أتذكر تفا�صيلها جيداً عكرت‬ ‫هذه اجلل�سة اجلنائزية التي ما ُ‬ ‫مزاجي �شهوراً طويلة‪ ،‬وظلت رهبتها معلقة يف �صدري مثل هواء‬ ‫حمبو�س‪ ،‬يرف�ض �أن �أزفره‪ .‬كان جمرد احتمال غيابه فج�أة ي�شبه �أن‬ ‫‪84‬‬


‫�أ�ستيقظ من النوم فال �أجد �سقف ًا لغرفتي‪ ،‬و�أكت�شف �أين يف العراء‬ ‫التام‪ .‬حزنٌ حمتمل‪ ،‬وال ميكنني �أبداً �أن �أتخيل �شكله‪ ،‬وال �أن �أ�ستعد له‬ ‫م�سبق ًا‪ ،‬كما يفعل �أبي الآن‪.‬‬ ‫هكذا يهتم برتتيب �ش�ؤوننا حتى يف حالة موته‪ ،‬غري �أن كل �شيء‬ ‫يبدو على ما يرام حتى �إن امل�شكلة الوحيدة املتوقعة �ستكون التعامل‬ ‫زلت �أعتقد‬ ‫مع غيابه هو‪ ،‬ولي�س ما قد يحدث بعد هذا الغياب‪ .‬ما ُ‬ ‫�أن والدي حر�ص على حمايتنا من كل الآالم املحتملة‪� ،‬إىل حد �أن‬ ‫�صارت فكرة غيابه فج�أة هي الأمل الأكرب الذي لن يحتمل‪ ،‬ولو‬ ‫ا�ستطاع حجبه عنا فع ً‬ ‫ال لفعل ذلك من دون تردد‪ ،‬و�أحيان ًا �أ�شعر �أن‬ ‫عنايته املفرطة ب�صحته لي�ست �إال لهذا ال�سبب‪ .‬هذا الرجل‪ ،‬احلار�س‬ ‫الأبدي‪ ،‬منذ �أن كان طف ً‬ ‫ال يذاكر درو�سه على �رساج ال�شارع‪� ،‬أمام‬ ‫جدة‪ ،‬وحتى الآن‪ ،‬ما زال يحر�س‪.‬‬ ‫�أبواب حمافظة ّ‬ ‫حكى يل ذات يوم عن املرة الأخرية التي عاد فيها �إىل ينبع‪ ،‬عندما‬ ‫وحمية الأهل‪،‬‬ ‫بلغ ال�ساد�سة ع�رشة تقريب ًا‪ ،‬و�أخذته حما�سة اجلذور‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫و�سافر لعله يلتقي الأعمام الذين ال يعرفهم‪ ،‬وهو يت�صور يف ذهنه‬ ‫الغ�ض حفاو ًة هائلة يحيطه بها اجلميع عندما يكت�شفون ابنهم الغائب‪،‬‬ ‫ولكنه مل يجد منهم ما توقعه قلبه الوحيد بتات ًا‪ ،‬وعلى العك�س‪ ،‬واجهته‬ ‫“ظننت �أين‬ ‫عيونٌ حذرة‪ ،‬مت�شككة‪ ،‬نفّرته منهم‪ ،‬فغادر على الفور‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لو بقيت �أطول من هذا‪ ،‬لكانوا بلغوا حداً من الت�شكك يتهمون فيه‬ ‫�أمي باحلرام‪ ،‬وب�أنها �أجنبتني من رجل �آخر‪ ،‬وقد ظنوا �أين مل �أعد �إال‬ ‫وعدت �إىل‬ ‫ّرت على نف�سي هذا الأمل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لأطالب ب�إرث �أبي‪ .‬ولهذا وف ُ‬ ‫جدة”‪.‬‬ ‫‪85‬‬


‫وعندما بلغ الع�رشين‪ ،‬التحق بالثانوية الع�سكرية‪ ،‬وانتقل �إىل‬ ‫الريا�ض‪ ،‬ليق�ضي بقية حياته غريب ًا بعد �أن ق�ضى �أولها يتيم ًا‪ ،‬وزاد من‬ ‫وح�شته �أن فارقت جدتي احلياة بعد �سفره بعدة �أ�شهر وهي يف املعزل‬ ‫ال�صحي ب�سبب اجلدري الذي نه�ش منها اجللد والعينني‪ ،‬ولينقطع‬ ‫�أبي متام ًا عن جذوره‪ ،‬ويجد نف�سه وحيداً بال قريب �أو �صديق‪ ،‬يف‬ ‫الريا�ض اجلافة املوح�شة‪ ،‬ويف اخلم�سينات امليالدية‪ ،‬بال �أهل وال عون‪،‬‬ ‫فلم ترتك احلياة �أمامه من خياراتها ال�ضئيلة �إال هذا امل�ستقبل الع�سكري‬ ‫الذي قد مينحه الدعم واملال‪ ،‬فت�شبث به بروحه التي دهمها اخلوف‪،‬‬ ‫وبحر�ص الغرباء املعتاد‪ ،‬وتزوج زوجته الأوىل التي طلقها الحق ًا‪،‬‬ ‫لأنها ُج ّنت‪ ،‬كما يقول‪ ،‬وال ي�رسف يف �أي تفا�صيل �أخرى عنها‪ ،‬ثم‬ ‫كر�س حياته لعمله‪ ،‬و�سافر �إىل القاهرة عدة مرات للدرا�سة والتدريب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وت�سارعت ترقياته‪ ،‬على مدى ع�رشين �سنة‪ ،‬و�أ�صبح يف يوم من الأيام‬ ‫كما يقول‪� ،‬أ�صغر عقيد يف مديرية الأمن العام يف الريا�ض‪.‬‬ ‫ظل �أبي عازب ًا بعد انف�صاله عن زوجته الأوىل فرتة طويلة‪ .‬ومل‬ ‫تكن الريا�ض مدينة ترحم العازبني‪ ،‬قبل �أن تختفي هذه الرحمة كلها‪.‬‬ ‫ولهذا مل يكن ثمة منا�ص من الت�شبث بالعمل حتى �ساعته الأخرية‪.‬‬ ‫كان �أبي ينام يف مركز ال�رشطة معظم �أيام الأ�سبوع‪ ،‬ويخل�ص يف‬ ‫�أداء عمله ب�شكل نادر‪ ،‬مما جعله ي�صعد �رسيع ًا‪ ،‬ويربز ا�سمه يف كل‬ ‫الأو�ساط الأمنية‪ ،‬وتُعر�ض عليه منا�صب �أخرى يف املباحث العامة‪،‬‬ ‫واحلر�س امللكي‪ ،‬وغريها‪ ،‬لريف�ضها جميع ًا لأ�سباب خمتلفة‪ ،‬ويبقى‬ ‫�ضابط ًا يف الأمن‪ ،‬ميار�س عمله الأزيل الذي يتقنه �أكرث من �أي عمل‬ ‫�آخر‪ :‬احلرا�سة‪.‬‬ ‫‪86‬‬


‫غري �أن هذا الإفراط يف التعلق بالعمل هو ما جعله ي�صدف عنه‬ ‫فج�أة‪ ،‬ويقرر التقاعد يف �أقرب وقت ممكن‪� .‬شيء من طاقته نفد‪� ،‬أو‬ ‫�أنها الأربعون عندما دقّت بابه لأول مرة‪ّ ،‬‬ ‫ذكرته ب�أنه ق�ضى عمره يف‬ ‫حرا�سة النا�س‪ ،‬تارك ًا عمره هو نهب ًا للزمن‪ ،‬يختل�س �سنواته ب�صمت‪.‬‬ ‫فطلب تقاعده املبكر يف بداية ال�سبعينات‪ ،‬والتقى �أمي يف �صدفة‬ ‫غريبة �أثناء ذلك‪ ،‬يف املدينة التي ال تلعب ال�صدف �أدواراً كثرية مع‬ ‫والدي‪ ،‬وجاءت بالرجل‬ ‫رجالها ون�سائها‪ ،‬ولكنها فعلت ذلك مع‬ ‫ّ‬ ‫احلجازي ليلتقي املر�أة اجلنوبية‪ ،‬يف قلب الو�سط اجلاف‪.‬‬ ‫كانت �أمي مطلقة رجل قبله‪ ،‬عا�شت معه عدة �سنوات قبل �أن‬ ‫ت�صبح عاجزة عن حتمل خ�شونته و�صلفه‪ ،‬وانهماكه يف جتارته‪،‬‬ ‫وان�شغاله مبا خارج البيت عن داخله‪ ،‬و�أ�سباب �أخرى كثرية جعلتها‬ ‫تنفر منه عمداً‪ .‬ورغم �أنها �أجنبت منه �أخي الأكرب‪� ،‬أحمد‪ ،‬فقد جنحت‬ ‫يف �أن جتعله ينظر �إليها كزوجة عا�صية‪� ،‬إثمها �أكرب من نفعها‪ ،‬فط ّلقها‬ ‫فور والدته‪.‬‬ ‫ظروف زواج �أمي ال�سابق ت�شبه امل�سل�سالت البدوية‪ ،‬كانت هي‬ ‫�آخر من يعلم‪ ،‬والقرى التي متعن يف اجلنوب تفعل هذا من حني‬ ‫لآخر‪ ،‬والنما�ص ال تختلف يف ذلك كثرياً‪ ،‬وهي قرية �أمي التي ولدت‬ ‫وتر ّبت فيها‪ ،‬والتقطت منها اللهجة ال�شهرية التي ما زال �أبي يداعبها‬ ‫بها حتى الآن‪ .‬مل تكن �أمي قد جتاوزت الرابعة ع�رشة عندما تزوجت‬ ‫من زوجها ال�سابق‪ ،‬وجاء بها �إىل الريا�ض وهي طفلة ال تعرف ملاذا‬ ‫حتول احلقل فج�أة �إىل �صحراء‪ ،‬واجلبل �إىل �سفح‪ .‬كانت ابنة القرية‪،‬‬ ‫يف الزمن الذي كانت القرى منزل الأغنياء‪ ،‬واملدن مق�صد البدو من‬ ‫‪87‬‬


‫العمال والفقراء واملنقطعني‪ .‬كان املجد للقرية‪ ،‬للحقل‪ ،‬للأر�ض‪،‬‬ ‫تعي�ش �أر�ستقراطية الطبيعة‪ ،‬قبل �أن ت�سقط مثلما تت�شابه‬ ‫وكانت �أمي‬ ‫ُ‬ ‫ال�سقطات دائم ًا‪ ،‬بني يدي من ال يدرك مكانها‪ ،‬وال يفهم رموز‬ ‫الأر�ض على جبينها و�شفتيها‪.‬‬ ‫وزوجها ال�سابق‪ ،‬عالوة على كونه ذا ن�سب مقبول‪ ،‬كان قد قرر‬ ‫فع ً‬ ‫ال ال�سفر للعمل يف الريا�ض‪ ،‬وكان التزود بزوجة ما جزءاً من �أمتعة‬ ‫ال�سفر‪ ،‬بعد �أن يدبر له �أحد �أبناء جماعته عم ً‬ ‫ال يف ق�صور النا�رصية‪،‬‬ ‫وتلك ميزات فارهة ل�شاب قروي‪ ،‬جتعل ر�أي �أمي‪ ،‬ب�سنواتها الأربع‬ ‫ع�رشة‪ ،‬غري مهم على الإطالق‪� .‬أجنح زيجات النما�ص متت بالطريقة‬ ‫نف�سها تقريب ًا‪ ،‬فلماذا ت�شذ �أمي عن ال�رسب؟‬ ‫رمبا مل تكن �أمي خمتلفة كثرياً‪ ،‬و�أحيان ًا �أفكر �أنها رمبا كانت �آنذاك‬ ‫ت�ست�شعر حظها ال�سعيد الذي جلب �إىل بابها الزوج الذي حت�سدها‬ ‫عليه ن�صف بنات النما�ص‪ ،‬وعلى مغامرة الريا�ض التي �ست�أخذها‬ ‫�إليها هذه ال�شاحنة احلمراء العتيدة التي يلم�س ال�صبية ج�سدها املعدين‬ ‫كنت �أعرف �أن �أمي‬ ‫بارتياب وجذل منذ ال�صباح‪ .‬ويف كل الأحوال‪ُ ،‬‬ ‫هي امل�صدر الوحيد الباقي لتلك احلكاية‪ ،‬ومن �ش�أنها هي وحدها �أن‬ ‫ت�صوغها‪ ،‬وتعيد ترتيب ما�ضيها كما يحب قلبها الودود‪ .‬ومبا �أنها‬ ‫�صارت متزوجة من رجل �آخر الآن‪ ،‬فلي�س من الوارد �أن ن�سمع منها‬ ‫ثنا ًء على ال�سابق‪� ،‬أبداً‪.‬‬ ‫ال ميلك �أي �شخ�ص يتعرف على �أمي الآن �إال �أن ينتبه �إىل غرابة‬ ‫ما يف طريقة كالمها‪ ،‬و�أ�سلوبها امل�صطنع يف ا�ستدعاء الثقافة‪ .‬لأنها‬ ‫مل تكن تعرف القراءة والكتابة‪ ،‬وال تفرق بني الألف والياء‪ ،‬ثم‬ ‫‪88‬‬


‫عندما تعلمت ذلك‪ ،‬يف مدر�سة للكبار يف بريوت‪ ،‬قفزت مبا�رشة‬ ‫من كتاب الهجاء �إىل م�ؤلفات جربان‪ ،‬ومي زيادة‪ ،‬واملنفلوطي‪،‬‬ ‫وانكبت على تعلم ما فاتها من �أعلى الهرم‪ ،‬ولي�س من �أدناه كما‬ ‫يفرت�ض بالأميني‪ ،‬وحديثي العهد بالقراءة‪ ،‬فنزلت هذه الثقافة الثقيلة‬ ‫على �أ�سا�س �ضعيف‪ ،‬مل يقو بعد مبا يكفي ال�ستقبال فال�سفة العربية‬ ‫و�أدبائها �آنذاك‪ .‬هذا ما يجعل �أمي عندما تتكلم‪ ،‬تبدو وك�أنها تتكلم‬ ‫على منرب‪ ،‬وعندما تكتب يومياتها كما د�أبت على ذلك منذ �سنوات‬ ‫طويلة‪ ،‬تبدو وك�أنها تخاطب اجلماهري مبا�رشة‪ ،‬ولي�س دفرت اليوميات‪.‬‬ ‫كانت حتاول �أن جتاري �أبي يف ثقافته ب�أ�رسع ما ميكن‪ ،‬وتلك‬ ‫طريقتها يف التعبري عن امتنانها الهائل له‪ ،‬هو الذي انت�شلها من حالة‬ ‫حياتية �صعبة عندما كانت مطلقة‪ ،‬ونف�ساء‪ ،‬ومل تتجاوز التا�سعة ع�رشة‬ ‫من عمرها بعد‪ ،‬وال تعرف مكان ًا يف الريا�ض ي�ؤويها‪ ،‬ومل يعد يف‬ ‫النما�ص من يحفل بها �إال خ�ؤولة قدمية‪ ،‬ال ت�أمن �أن يدبروا لها زيجة‬ ‫�أ�سو�أ من �سابقتها �إذا ما عادت �إليهم بهذه احلال‪ ،‬يف قرية ال مكان‬ ‫فيها المر�أة وحيدة‪.‬‬ ‫ولذلك هي دائم ًا مليئة باملرارة عندما تتحدث عن زوجها ال�سابق‪،‬‬ ‫ولرمبا ازدادت مرارتها مع الزمن من دون �أن ت�شعر‪ ،‬ف�أ�صبحت ت�سكب‬ ‫على ذكرياتها قدح ًا �إ�ضافي ًا من امللح يف كل مرة حتكيها يل‪� ،‬أو لأبي‪،‬‬ ‫�أو لأي من جاراتنا‪ .‬وكلها تدور حول الرجل الفظيع‪ ،‬والذي ال �أراه‬ ‫�أنا �شخ�صي ًا �إال رج ً‬ ‫ال عادي ًا وفق معايري العادي من الرجال من جيله‪،‬‬ ‫ال�سيما �أولئك الذين كانوا من الع�صامية �أن اجرتحوا ثروات هائلة‬ ‫خالل �سنوات‪ ،‬وهو يف �آخر املطاف‪ ،‬والد �شقيقي‪ ،‬و�أراه من حني‬ ‫‪89‬‬


‫لآخر يف املنا�سبات والأعياد‪ .‬و�أبت�سم خفية و�أنا �أتخيل ما يدور يف‬ ‫خلده عن �أمي‪ ،‬زوجته القدمية‪ ،‬وما يدور يف بال �أمي عنه‪.‬‬ ‫ويف احلاالت القليلة التي ي�صفو فيها الوداد بيني وبني �أخي �أحمد‪،‬‬ ‫يخربين وفمه مليء بال�ضحك كيف يتحدث �أبوه من وقت لآخر عن‬ ‫�أمنا امل�شرتكة “كانت طيبة‪ ،‬لكن �أف�سدتها ال�شامية اهلل يعلن والديها!”‪،‬‬ ‫وال�شامية التي يق�صدها هي مديحة‪� ،‬صديقة �أمي ال�سورية التي كانت‬ ‫تقطن مع �أخيها و�أمها يف البيت املجاور‪ ،‬يف �شارع �ضيق من حي‬ ‫دخنة ال�شعبي يف الريا�ض‪ .‬وهي بالفعل‪ ،‬من وجهة نظر اجتماعية‬ ‫حمايدة تتفق مع معايري ذلك الوقت‪ ،‬قد �أف�سدت �أمي‪.‬‬ ‫ومل يكن ذلك من خالل ال�رشخ الذي حتدثه املقارنة بني احلالتني‬ ‫االجتماعيتني املتفاوتتني اللتني كانتا حتدثان يف بيتني متجاورين فقط‪،‬‬ ‫قدمت لأمي دفعات من الأفكار �شديدة االختالف عما‬ ‫ولكن لأنها ّ‬ ‫تعودتها‪� ،‬أدت �إىل �إغراق �أمي الأمية ال�صغرية �آنذاك يف حالة من احلنق‬ ‫الهائل‪ ،‬دفعها �إىل الدخول يف ع�صيان غري مربر لزوجها ال�سابق‪.‬‬ ‫أتخيل ال�صورة كاملة‪ ،‬يف الريا�ض‪،‬‬ ‫�أ�ستطيع ب�صعوبة كبرية �أن � ّ‬ ‫منت�صف ال�ستينات امليالدية‪ ،‬كانت هناك امر�أ ٌة جاءت من النما�ص‪،‬‬ ‫لتقطن مع زوجها يف حي دخنة‪ ،‬ثم تغريت فج�أة‪ ،‬و�صارت حتاول‬ ‫ب�صعوبة �أن تتفاعل مع �أغنيات �أم كلثوم‪ ،‬مثلما تفعل جارتها مديحة‪،‬‬ ‫وت�صدح يف البيت ال�ضيق الذي يك�شف املار يف ال�شارع كل �صوت‬ ‫فيه بكلمات الأغنية‪ ،‬معر�ض ًة زوجها حلالة تهكم جماعية من رجال‬ ‫احلي‪ ،‬وتقريع مبا�رش من �إمام امل�سجد‪.‬‬ ‫أتخيل �أمي �أي�ض ًا وهي تغري �أ�سلوب كالمها مع زوجها لي�صبح �أكرث‬ ‫� ّ‬ ‫‪90‬‬


‫أتخيل كذلك كيف ميكن �أن‬ ‫ِّ‬ ‫ندية مثلما تفعل مديحة مع زوجها‪ ،‬و� ّ‬ ‫جبلي مثل زوجها كل هذا االنب�ساط الذي حتاول �أمي‬ ‫يتقبل رجل‬ ‫ّ‬ ‫�أن حتوزه لنف�سها‪ ،‬مناق�شة �أوامره‪ ،‬اكت�ساب ال�صديقات‪ ،‬و�سماع‬ ‫الأغاين‪ ،‬وت�صفح املجالت اللبنانية‪ ،‬والأكرث رف�ض ًا و�صعوبة‪ ،‬حماولة‬ ‫اخلروج من البيت لزيارة ال�صديقات‪� ،‬أو التنزه‪.‬‬ ‫كانت هذه �سل�سلة ال�سلوكيات الكارثية التي مار�ستها �أمي تباع ًا‬ ‫لتتحول بذلك من زوجة عادية‪� ،‬إىل زوجة نا�زش‪ ،‬قليلة الأدب‪ .‬ويبدو‬ ‫�أن عبدالرحمن �آنذاك كان على عتبة جناحاته الأوىل‪ ،‬ومن�شغ ً‬ ‫ال �إىل‬ ‫احلد الأق�صى بطموح يت�ضخم مثلما تت�ضخم املدينة نف�سها‪ ،‬ومل يكن‬ ‫ميلك وقت ًا كافي ًا لت�أديب املر�أة التي تت�رصف مثل َج ْد ٍي جبلي عنيد‪.‬‬ ‫ولذلك طلقها فور انتهاء نفا�سها‪ ،‬و�أبقاها يف غرفة م�ستقلة من البيت‬ ‫حتى يجد من يعيدها �إىل �أهلها يف اجلنوب‪.‬‬ ‫كان ذلك يف �أوائل ال�سبعينات تقريب ًا‪ ،‬وقد قرر �أبي �أن يرتك عمله‬ ‫الع�سكري ويتقاعد مبكراً‪ ،‬ويف تلك الأيام الأخرية‪ ،‬كان يزور‬ ‫�صديق ًا �سوري ًا له يف منزله يف الريا�ض‪ ،‬ويحدثه عن قرار تقاعده‪،‬‬ ‫وعن حلمه بالرحيل �إىل لبنان ليكمل حياته هناك‪ .‬مل يكن �صديقه ذاك‬ ‫�إال زوج مديحة‪ .‬حلقة الو�صل التي كان من �ش�أنها �أن تخلق حياتي‬ ‫�أنا‪ .‬و�أخربته مديحة عن جارتهم اجلميلة التي طلقها زوجها بعد‬ ‫والدتها مبا�رشة‪ ،‬و�أنها وحيدة‪ ،‬وذكية‪ ،‬ومتفتحة‪ ،‬وم�ؤدبة‪ ،‬و�أقنعته‬ ‫بالزواج بها‪ ،‬ودبرت لهما �آنذاك لقاء ق�صرياً يف بيتها‪ ،‬حتدث فيه �أبي‬ ‫�إىل �أمي مبا�رشة‪ ،‬وهي تخفي وجهها بو�شاح ق�صري‪ ،‬ثم جعلته ينظر‬ ‫�إليها عدة ثوان‪ ،‬قرر بعدها �أن يتزوجها‪ .‬وملا مل يكن لأمي و ّ‬ ‫يل قريب‬ ‫‪91‬‬


‫يف الريا�ض‪ ،‬ر�أى �إمام امل�سجد �أن يقوم القا�ضي بتزويجهما‪ .‬وبعد‬ ‫ذلك مبا�رشة‪� ،‬سافرا �إىل بريوت‪ ،‬ليرتكا وراءهما املدينة ترك نا�شدي‬ ‫احلياة يف مكان �أقل خ�شونة من الريا�ض التي مل تكن تعني لهما فرع ًا‬ ‫وال �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬ولكنها هجرة مل تكتمل‪.‬‬ ‫مل يتوقعا قط �أنهما �سيعودان قريب ًا ليق�ضيا بقية عمرهما يف‬ ‫الريا�ض‪ ،‬ولكن ال�سنوات تخاتلت من حولهما حتى �رسقت منهما‬ ‫القرار‪ ،‬و�أبي يقول‪�“ :‬إذا قررت �أن ترحل عن الريا�ض فارحل فوراً‪،‬‬ ‫لأنك �إذا بقيت فيها بع�ض الوقت‪ ،‬فلن ترحل‪ ،‬هذا �شي ٌء من �شعوذات‬ ‫املدن!” و�أبي عا�ش يف الريا�ض ع�رشين �سنة‪ ،‬كانت كافية �أن حتقن يف‬ ‫دمه طل�سم العودة‪.‬‬ ‫جاءا �إىل بريوت يف �أوائل ال�سبعينات‪ ،‬وهي نا�ضجة جداً‪ ،‬منتفخة‬ ‫باخلري‪ ،‬وتثري �شهية من يراها‪ ،‬لوال �أن الثمار التي تن�ضج جداً‪ ،‬ت�سقط‬ ‫قريب ًا‪ ،‬ويبدو �أن م�شاريع الهجرة كانت ت�ستدعي �أقداراً �أكرث تفهم ًا‬ ‫للأ�سباب‪ .‬وهذا ما مل تكن عليه �أقدارهما البتة‪ .‬حملت بي �أمي‬ ‫فوراً‪ .‬وكانت جميع الأ�شياء املحيطة بها‪ ،‬واجلديدة عليها كلي ًا �آنذاك‪،‬‬ ‫ت�ضاعف خ�صوبتها كما يبدو‪ ،‬مثل زهرة تتوق �إىل تكوين حياة‬ ‫�أخرى‪ ،‬هي التي لتوها تتذوق هذه احلياة يف كنف �أبي‪ ،‬النموذج‬ ‫الرجايل الذي مل تعرفه من قبل‪ ،‬ومل تتوقع �أن يكون على الأر�ض‬ ‫أزواج يقت�سمون كل �شيء مع زوجاتهم مثله‪ .‬اتفق اجلمال والهناء‬ ‫� ٌ‬ ‫على جعلي �أجيء مبكراً‪ ،‬حتى حتمد لأبي النعم التي �أغدقها عليها‪،‬‬ ‫بنعمة الولد الذي متناه طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬وحرم منه‪ ،‬وهو يف �أوائل الأربعني‬ ‫�آنذاك‪.‬‬ ‫‪92‬‬


‫ولدت ب�أ�شهر قليلة‪ ،‬ا�ستدعي �أبي للمثول يف ال�سفارة‬ ‫بعد �أن‬ ‫ُ‬ ‫جدة للتحقيق‬ ‫ال�سعودية يف بريوت‪ ،‬وهناك ت�سلم �أمراً للح�ضور �إىل ّ‬ ‫يف بع�ض ال�ش�ؤون الع�سكرية التي حدثت �أثناء توليه من�صبه الع�سكري‪،‬‬ ‫فو َّد َعنا على �أن يعود خالل �أيام‪ ،‬وكل ما يدور يف خلده �آنذاك �أن‬ ‫ال�ش�أن متعلق ببع�ض �إجراءات املحا�سبة التي يتم اكت�شاف �أخطائها‬ ‫عاد ًة بعد عدة �سنوات‪� ،‬أو بع�ض امل�ستندات التي ترك عليها توقيعه من‬ ‫دون تربير يو�ضح ال�سبب الذي وقعها من �أجله‪ ،‬فاحتاجوا الحق ًا �إىل‬ ‫�س�ؤاله عنها‪ .‬ولكن الأمر مل يكن بهذا القدر من العادية التي ا�ستجاب‬ ‫أمر ال ميكن �أن يتوقعه من‬ ‫لها �أبي بكل عفوية؛ بل كان يف انتظاره � ٌ‬ ‫ق�ضى �أكرث من عقدين من عمره �رشطي ًا يف الأمن‪� ،‬سيارة جيب تنتظره‬ ‫يف املطار‪ ،‬ا�ستقلها مع �ضابط وجنديني‪� ،‬إىل ال�سجن الع�سكري‬ ‫مبا�رشة‪.‬‬ ‫اتهم �أبي باالنتماء ال�سيا�سي �إىل جماعات حمظورة‪ ،‬وذات‬ ‫�أهداف ون�شاطات م�شتبه فيها‪ ،‬و�إدارة خلية من خاليا املعار�ضة‬ ‫الداخلية من خارج البالد‪ ،‬م�ستنداً �إىل خربته احل�سا�سة يف اجلهاز‬ ‫الأمني للدولة‪ .‬كانت التعدديات احلزبية وال�سيا�سية التي انت�رشت‬ ‫�آنذاك‪ ،‬على اختالف �أيديولوجياتها وانتماءاتها �إىل القوى العظمى‬ ‫ال�سائدة‪ ،‬قد حفلت ببع�ض الن�شاط �أي�ض ًا يف ال�سعودية‪ ،‬وكان تكوين‬ ‫اخلاليا املعار�ضة‪ ،‬واجلماعات احلزبية �أمراً �شائع ًا لدى زمرة املثقفني‪،‬‬ ‫والطالب‪ ،‬ورجال الدولة �آنذاك‪ ،‬ولذلك و�ضعت احلكومة جميع‬ ‫�أولئك الذين لي�سوا يف منا�صبهم الر�سمية حتت املراقبة‪ .‬ولهذا كان‬ ‫�أبي حتت �أوراق البحث مثرياً لريبة املحققني‪� ،‬إذ �إنه ترك من�صب ًا عالي ًا‬ ‫‪93‬‬


‫يف الأمن العام فج�أة‪ ،‬ثم غاب عن البالد فرتة من الزمن‪ ،‬وا�ستقر يف‬ ‫لبنان‪ ،‬الذي هو قلب التعدديات احلزبية‪ ،‬و�أخ�صب نقطة تتعاطى فيها‬ ‫الأقليات حريتها ال�سيا�سية‪ ،‬ال�سيما املد ال�شيوعي والبعثي‪ ،‬فكان لقمة‬ ‫�شك �سائغة جداً‪.‬‬ ‫ودخل �أبي ال�سجن من دون حماكمة وال ق�ضية‪ .‬وبلغ �أمي خربه‬ ‫هذا وهي تعطر له البيت كل ليلة ترقّب ًا لعودة مفاجئة‪ ،‬ولكنه مل‬ ‫يعد‪ ،‬وكان عليها �أن ترتكني عند نادية‪ ،‬اجلارة اللبنانية التي حتولت‬ ‫تدريج ًا �إىل مربية‪ ،‬وهي تقيم مع زوجها وحيدين من دون �أبناء‪.‬‬ ‫كان عمري عدة �أ�شهر �آنذاك‪ ،‬ووجهي ال يجيد �صنع عالمات‬ ‫اال�ستفهام جيداً‪ ،‬تركتني �أمي وراءها و�سافرت �إىل جدة وحدها‪،‬‬ ‫لتالحق ما ميكنها مالحقته من �أطراف ق�ضيته الغام�ضة‪ ،‬وحتاول �أن‬ ‫تلملم �أطرافها املبهمة‪ ،‬ويف قلبها عويل امر�أ ٍة جنوبية مفجوعة يف‬ ‫الزوج الذي حتب‪.‬‬ ‫كانت �أمي خائفة جداً‪ . ،‬م�شت كل الهموم يف �صدرها املثقل‬ ‫بحليب ال ي�صل �إىل فمي‪ ،‬ولكنها مل تي�أ�س‪ .‬ظلت تق�صد كل و�سيلة‬ ‫ت�ساعد �أبي ومل ْتع َي قط‪� :‬أبواب امل�س�ؤولني‪� ،‬أ�صدقاءه القدامى يف الأمن‬ ‫العام و�سلك ال�رشطة‪� ،‬أقاربه الذين كان قد اعتزلهم منذ زمن‪ ،‬جمال�س‬ ‫الأمراء الر�سمية �أحيان ًا‪ ،‬و�شيوخ الدين امل�شهورين �أحيان ًا �أخرى‪ .‬مل‬ ‫ترتك طريقة ت�ستطيع �أن ت�ساعده فيها �إال فعلتها‪ ،‬كان ي�ساعدها يف‬ ‫ذلك مديحة وزوجها �إذ ينقالنها يف �سيارتهما من مكان �إىل �آخر‪.‬‬ ‫جدة‪ ،‬بينما كل اجلهات امل�س�ؤولة‬ ‫والغريب �أن �أبي كان م�سجون ًا يف ّ‬ ‫عن ق�ضيته كانت يف الريا�ض‪ ،‬وهكذا كانت �أمي تق�ضي �أ�سبوع ًا �أو‬ ‫‪94‬‬


‫�أ�سبوعني يف الريا�ض لتتابع الق�ضية‪ ،‬ثم ت�سافر �إىل جدة لتحاول �أن‬ ‫تزور �أبي من دون جدوى‪ ،‬لأن الزيارة كانت ممنوعة على ال�سجناء‬ ‫ال�سيا�سيني بالذات‪.‬‬ ‫جندي طيب �أن �أبي بخري‪ ،‬و�أخربها �سجني �أُطلق �رساحه‬ ‫�أخربها‬ ‫ٌ‬ ‫�أنه يعاين مغ�ص ًا دائم ًا وقيئ ًا م�ستمراً‪ ،‬و�أخربها �أحد �أقارب �أبي الأبعدين‬ ‫�أنه متهم بق�ضية �سيا�سية‪ ،‬و�أن حب�سه قد ي�ستمر �سنوات طويلة‪ ،‬ولكنها‬ ‫ظلت تد�أب وراء احلقيقة ال�صعبة‪ ،‬ومل جتدها متام ًا‪ ،‬حتى ّ‬ ‫خط �أبي‬ ‫الذي قر�أته يف ورقة جلبها �إليها ال�ضابط امل�س�ؤول كان حمفوف ًا‬ ‫بالأ�سئلة‪�“ .‬أم �أحمد‪� ،‬إ�صربي ال حرمني اهلل من �صربك‪� ،‬س�أخرج قريب ًا‬ ‫ب�إذن اهلل كما وعدوين‪� ،‬أنا بخري واجلميع يح�سنون معاملتي هنا‪ ،‬كلهم‬ ‫علي‪� ،‬إنتبهي لنف�سك‬ ‫كانوا زمالئي وبع�ضهم تالميذي‪ ،‬فال تخايف ّ‬ ‫زوجك‪�/‬إبراهيم”‪.‬‬ ‫وحل�سان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ما زالت �أمي حتتفظ بالورقة املرتع�شة تلك يف خزانة ثيابها‪ ،‬رغم‬ ‫�أن �أبي طالبها ب�أن تتخل�ص منها مراراً لأنها تذكره ب�أيام تعي�سة‪ ،‬ولكنها‬ ‫كنت‪ ،‬ثم كيف‬ ‫تلب مطالبه‪ ،‬وقالت له مرةً‪“ :‬لو كنت تعلم كيف ُ‬ ‫مل ّ‬ ‫�رصت بعد هذه الورقة لعرفت ملاذا �أحتفظ بها”‪ ،‬وتقيم �أمي طقو�س‬ ‫ُ‬ ‫امتنان رهيبة لقطعة الورق تلك‪ ،‬كعادتها يف املبالغة يف الأ�شياء التي‬ ‫حبها للأ�رسة‪ ،‬و�إ�رصارها الكبري على �أننا ج ّنتها التي تنعم بها‪،‬‬ ‫تعك�س ّ‬ ‫وال تر�ضى بغريها‪.‬‬ ‫مرت �أ�شهر على تلك الورقة‪ ،‬وخرج �أبي حم�ض �صدفة قدرية تلت‬ ‫مقتل امللك في�صل يف الريا�ض‪� ،‬إذ مل يلبث �أن �أ�صدر امللك خالد من‬ ‫بعده عفواً عن زمرة من امل�سجونني يف ق�ضايا �سيا�سية‪ ،‬بتهم حزبية‬ ‫‪95‬‬


‫خمتلفة‪ ،‬فخرج �أبي بلحية طفيفة‪ ،‬وحزنٍ موقّت‪ ،‬ولكنه ُمنع من‬ ‫مغادرة البالد بع�ض الوقت‪ ،‬واندلعت �أي�ض ًا حرب لبنان الطاحنة‪،‬‬ ‫فانتهى م�رشوع الهجرة �إليه‪ ،‬وركن �أبواي �إىل الريا�ض بعد �أن �صدر‬ ‫�أمر ملكي مبنح �أبي في ّ‬ ‫ال كبرية‪ ،‬وراتب ًا تقاعدي ًا تام ًا بد ًال من راتب‬ ‫التقاعد املبكر اجلزئي الذي كان ي�ستحقه‪ ،‬ب�أمر من الديوان امللكي‪،‬‬ ‫كنوع من تلطيف النفو�س‪ ،‬وت�أليف القلوب‪.‬‬ ‫�أبي الذي روى يل ذلك مراراً‪ ،‬مل يحدثني مرة واحدة عن مف�صل‬ ‫الأمر‪ ،‬هل كان بالفعل على عالقة بخلية معار�ضة ما؟ وهل كانت له‬ ‫مي�س‬ ‫�أية �أن�شطة �سيا�سية ب�شكل مبا�رش �أو غري مبا�رش؟ رمبا كان الأمر ُّ‬ ‫جانب ًا حرج ًا من �شخ�صية �أبي‪ ،‬و�صمته املق�صود هذا هو ما جعلني‬ ‫�أذهب غالب ًا �إىل تف�سريي ال�شخ�صي‪ ،‬وهو �أنه ان�ساق فع ً‬ ‫ال وراء تنظيم‬ ‫قومي الطابع يف الغالب‪ ،‬ا�ستجابة ملتطلبات املرحلة‪ ،‬ثم تراجع‬ ‫ما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عن ذلك‪ ،‬وندم عليه‪ ،‬و�أحيان ًا �أذهب �إىل �أن هدية امللك قد جنحت‬ ‫فع ً‬ ‫ال يف ت�أليف قلبه‪ ،‬فوقع بني �سندان مبادئه املخالفة‪ ،‬ومطرقة امتنانه‬ ‫وتعود‬ ‫ال�شخ�صي للملك خالد �آنذاك‪ ،‬ف�أ�صبح يتحا�شى التطرق للأمر‪ّ ،‬‬ ‫هذا حتى الآن‪.‬‬

‫****‬ ‫�شعرت ب�أن عالقتي ب�أبي كانت �ستبقى �أب�سط لوال حادثة امل�رسح‬ ‫لطاملا‬ ‫ُ‬ ‫التي حدثت يف طفولتي‪ ،‬وجعلت كل الأبعاد التي كان يولدها وجوده‬ ‫ك�أب تت�ضاعف ب�شكل ال نهائي‪ ،‬وتظل متجذرة يف داخلي كاحتياج‬ ‫‪96‬‬


‫متزايد �إىل هذا الرجل ال�سبعيني الذي �أبوء �إليه ب�أمني وخويف‪.‬‬ ‫ا�ضطررت �أن �أ�رسدها لو ّزان‪ ،‬حتت ت�أثري دواء خفيف‪،‬‬ ‫�سبق �أن‬ ‫ُ‬ ‫ألح عليها بعد‬ ‫من دون اقتناع ب�رضورة ذلك‪ ،‬ولكنه يف جل�سة ما � ّ‬ ‫قلت له �إنه �إذا‬ ‫أعر ُ‬ ‫�ض بها مازح ًا يف غمرة �ضحك عابر‪ُ ،‬‬ ‫�أن �سمعني � ِّ‬ ‫ظن �أنه �سيجد فيها فرجة على ف�ضائي النف�سي كما كان يردد دائم ًا‪،‬‬ ‫ف�سي�ضيع وقت ًا‪ ،‬لأن الق�صة مل تكن بتلك احلدة لت�ؤثر‪ ،‬رغم �أنها كانت‬ ‫�أكرث حدة مما يحاول احلياء متويهها‪ ،‬ونبذها يف ركن مهمل من �أيامي‬ ‫احلادة القدمية‪.‬‬ ‫كنت يف العا�رشة‪ ،‬واحلفل املدر�سي على و�شك االبتداء‪ ،‬و�أنا‬ ‫ُ‬ ‫� ُ‬ ‫أ�شارك يف الن�شيد اجلماعي مع �أكرث من ثالثني طالب ًا �آخر‪ ،‬تدربوا معي‬ ‫عليه طوال �شهر ون�صف ال�شهر‪ .‬وعلينا �أن نح�رض بالزي الر�سمي‪،‬‬ ‫وبالغرتة والعقال‪ .‬طلب من املعلم �أن �أح�رض متام ال�ساد�سة م�سا ًء‪،‬‬ ‫و�أكد على ذلك كثرياً‪ ،‬وعندما �أتيت م�سا ًء‪ ،‬وجدتني و�إياه يف املدر�سة‬ ‫يجهزون‬ ‫العمال الآخرين الذين ّ‬ ‫عمال النظافة‪ ،‬وبع�ض ّ‬ ‫اخلالية �إال من ّ‬ ‫املكان للحفل‪ ،‬وقتذاك ابت�سم يل ابت�سامة وا�سعة‪ ،‬و�صافحني مبقي ًا‬ ‫كفي ال�صغرية يف يده طوي ً‬ ‫تعرقت‪“ ،‬عليك �أن ت�ضبط غرتتك‬ ‫ال حتى ّ‬ ‫مائلة قلي ً‬ ‫ال!”‪ ،‬قال ذلك‪ ،‬وراح يجرين معه متجه ًا نحو جهة‬ ‫حاولت �ضبطها فوراً‬ ‫مق�صودة‪“ ،‬ثمة مر�آة يف غرفة امل�رسح اخللفية”‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بيدي احلرة الوحيدة‪ ،‬دون تلك التي ما زالت غائبة يف كفه اجلافة‪،‬‬ ‫وعي ينتبه‬ ‫وم�شيت‪ ،‬ولي�س عندي‬ ‫حد�س ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫كاف لقدح اخلوف‪ ،‬وال ٌ‬ ‫�إىل ريبته الوا�ضحة‪.‬‬ ‫كان عمري ع�رش �سنوات ق�ضيتها كلها يف كنف �أمي و�أبي‪ ،‬ونادية‪.‬‬ ‫‪97‬‬


‫كنت حممي ًا جداً من قبل �أمي وقوانينها‬ ‫ويف كل �أحوايل ال�صغرية‪ُ ،‬‬ ‫االجتماعية التي ال تنك�رس �أبداً‪ ،‬وبعيداً عن �أية ظروف �أخرى تتيح‬ ‫يل م�ساحة �أو�سع من الفهم‪ ،‬حتى ال�صبية الآخرون يف مثل عمري مل‬ ‫تكن �أمي ت�سمح يل ب�أن �ألعب معهم يف احلي‪� ،‬أو يف بيوت الأقارب‪،‬‬ ‫ما مل يح�رضوا �إىل بيتنا لأظل دائم ًا �أمام عينيها احلذرتني‪.‬‬ ‫رجل تر ّب�ص بي منذ الأم�س‪،‬‬ ‫الآن �أنا يف املدر�سة اخلاوية‪ ،‬مع‬ ‫ٍ‬ ‫ومنحني موعداً خاطئ ًا‪ ،‬وك�أن املوقف �أ�سو أ� كوابي�س �أمي على‬ ‫الإطالق‪ ،‬ولو �أنها تراين الآن لأن�شبت �أظفارها يف عنقه مثل لبوءة‬ ‫جنوبية‪ ،‬ولكنها ال تعلم‪ .‬حممتني بعد الع�رص جيداً‪ ،‬و�ألب�ستني‬ ‫علي عطراً خفيف ًا‪ ،‬و�ألب�ستني‬ ‫الثياب املكوية النظيفة‪ ،‬وقطرت ّ‬ ‫ال�ساعة الرقمية ال�صغرية التي تُ�شعرين بالفخر‪ ،‬وتركتني �أذهب �إىل‬ ‫املدر�سة بالهيئة اجلميلة التي ال تدري �أنها تزيد من فداحة املوقف‪.‬‬ ‫والآن هي جتل�س يف البيت‪ ،‬تتخيل ابنها اجلميل الذي ي�صدح‬ ‫حم�شور‬ ‫بالن�شيد من فوق امل�رسح �أمام املئات من احل�ضور‪ ،‬بينما هو‬ ‫ٌ‬ ‫رجل ّبيت ّنياته‬ ‫�أمام مر�آة مك�سورة يف غرفة امل�رسح اخللفية‪ ،‬مع‬ ‫ٍ‬ ‫منذ الأم�س‪.‬‬ ‫ترك يدي بعد �أن دخلنا الغرفة فع ً‬ ‫وقفت �أمام املر�آة‪� ،‬أحاول‬ ‫ال‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تعديل غرتتي و�أنا �أ�شعر باخلجل من عدم ا�ستقرارها فوق ر�أ�سي‪،‬‬ ‫ثم وجدته يقف خلفي متام ًا‪ ،‬و�صار وجهه يحتل امل�ساحة املجاورة‬ ‫لوجهي يف املر�آة‪ ،‬وهو يع�ض على �شفته ب�شهوة بد�أت تت�صاعد يف‬ ‫دمه‪ ،‬راح يحاول �أن ي�ساعدين على �ضبط الغرتة‪ ،‬بينما ج�سده يلت�صق‬ ‫بي من اخللف بخفة‪ ،‬ومن دون مربر‪ ،‬كان يثني ركبتيه حتى توايف‬ ‫‪98‬‬


‫الحظت‬ ‫قامته قامتي الق�صرية‪،‬مل �أحفل بذلك يف البداية‪ ،‬حتى عندما‬ ‫ُ‬ ‫�أن يديه تخربان ان�ضباط الغرتة �أكرث مما تعدالنها‪ ،‬لتطول بذلك هذه‬ ‫الوقفة املريبة‪.‬‬ ‫�شعرت ب�شيء �صلب‪ ،‬كبري‪ ،‬يتحرك خلفي‪ ،‬ب�شكل‬ ‫بعد ثوان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بطيء‪ ،‬ومتكرر‪ .‬كان ينت�صب تدريج ًا‪ ،‬رغم حيلولة املالب�س‪،‬‬ ‫و�شعرت �أنه يلم�س م� ّؤخرتي كما تلم�س الأظفار �سطح ًا معدني ًا �صدئ ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أيت عينيه يف املر�آة تنغلقان ببطء‪ ،‬ثم ترجتفان يف‬ ‫فارجتفت بفزع‪ ،‬ور� ُ‬ ‫ُ‬ ‫�ساخن ّ‬ ‫أيقنت‬ ‫حمجريهما‪ ،‬بينما يندفع من فمه هوا ٌء‬ ‫يرطب �أذين‪ُ � .‬‬ ‫ٌ‬ ‫ابتعدت قلي ً‬ ‫كتفي ال�صغريتني‪،‬‬ ‫فطوق بيديه‬ ‫�أن الأمر خميف حق ًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫متل�صت منه ب�شكل عنيف وقد قُرع يف‬ ‫والت�صق بي ب�شدة‪ ،‬وت� ّأوه بلذة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫داخلي جر�س تنبيه هائل جداً‪ ،‬علقته �أمي يف ذهني على مدى �سنوات‬ ‫ومل �أنتبه �إليه من قبل حتى هذه اللحظة‪ ،‬راح يرنّ بجنون‪ ،‬ويحر�ض‬ ‫قررت‬ ‫عظامي وع�ضالتي كلها على فرار كبري‪ ،‬ومل ي�ستوقفني عندما‬ ‫ُ‬ ‫أفر فع ً‬ ‫ورك�ضت بعيداً‬ ‫فخرجت من الغرفة‪ ،‬ومن مبنى امل�رسح‪،‬‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�أن � ّ‬ ‫ورحت �أرك�ض بحذاء‬ ‫وجتاوزت بوابة املدر�سة‪،‬‬ ‫باجتاه ال�شارع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�سورها الطويل يف جهة ال �أعلمها‪� ،‬إىل خارج هذه امل�ساحة من الذعر‬ ‫رك�ضت من دون توقف دقائق كاملة‪،‬‬ ‫التي ت�صاعدت فوق ال�سماء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ال �أدري �إىل �أين �أذهب‪ ،‬و�إىل متى ينبغي �أن �أ�ستمر يف هذا الرك�ض‪.‬‬ ‫بدا يل فع ً‬ ‫بعثت �أوامر‬ ‫ال �أين غري قادر على التوقف عن الرك�ض حتى لو ُ‬ ‫�ساقي وجذعي‪ .‬كان ج�سدي يت�رصف وحده‪ ،‬وينقذ نف�سه‪،‬‬ ‫عقلية �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ورطه يف كل هذا‪.‬‬ ‫بعد �أن فقد ثقته بعقلي ال�صغري الذي ّ‬ ‫رحت �أدور حول املباين ال�صغرية‪،‬‬ ‫خ�شيت االبتعاد وال�ضياع‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪99‬‬


‫ولكني مل �أتوقف عن الرك�ض‪ .‬اختب� ُأت يف احلي اخللفي من مدر�ستي‪،‬‬ ‫و�أنا بالكاد �ألتقط �أنفا�سي‪ ،‬وبالكاد �أرتب �أدراج عقلي التي انفتحت‬ ‫كلها دفعة واحدة على عدة �أ�شكال من الده�شة القا�سية‪ ،‬العنيفة‪ ،‬التي‬ ‫ني �صغري كجبيني‪.‬‬ ‫ال ي�ستحملها �أبداً جب ٌ‬ ‫هل من املمكن �أن يكون ذلك ال�شيء القا�سي الثقيل الذي مل�س‬ ‫م� ّؤخرتي هو ع�ضوه؟ �إن يديه كانتا ظاهرتني يف املر�آة وهما مت�سكان‬ ‫بكتفي وغرتتي‪ ،‬هل يعقل �أن يكون للمعلم ع�ضو بهذا احلجم؟ وملاذا‬ ‫يت�ضخم هكذا فج�أة؟ وملاذا ال نراه من وراء ثوبه ما دام كبرياً �إىل هذا‬ ‫احلد؟ وهل توجد �أع�ضاء بهذا احلجم �أ�ص ً‬ ‫ال؟ �أنا الذي ال �أعرف �أع�ضاء‬ ‫�أخرى �إال ع�ضوي‪ ،‬بحجمه الطفويل الدقيق!‬ ‫تخوفني يف الليل‬ ‫عندما ُ‬ ‫كنت يف الرابعة من عمري‪ ،‬كانت نادية ّ‬ ‫من الرجل ذي اليد الكبرية‪ .‬مل �أكن �أفكر ماذا يعني �أن تكون يده‬ ‫كنت �أعرف فقط �أنه خميف‪ ،‬لأن يده كبرية‪ ،‬و�إال ملا‬ ‫كبرية مبقدار ما ُ‬ ‫حذرتني نادية من القيام من فرا�شي‪� ،‬أو اخلروج من بيتها يف �ضواحي‬ ‫بريوت لي ً‬ ‫ال‪ ،‬حتى ال يخطفني‪ ،‬ويحملني بيده الكبرية تلك‪.‬‬ ‫الأ�شياء الكبرية خميفة‪ ،‬فقط لأنها كبرية‪ ،‬هذه قاعدة نف�سية ت�أ�س�ست‬ ‫يف داخلي منذ ال�صغر‪ ،‬ونادية التي غر�ستها يفّ‪ ،‬وعلمتني �أن �أخاف‬ ‫من الأ�شياء الكبرية‪� ،‬سواء �أيداً كانت �أم ق�ضيب ًا‪ ،‬ويبدو �أنها بذلك هي‬ ‫هم بي فع ً‬ ‫ال‪ ،‬من دون �أن تدري‪.‬‬ ‫التي �أنقذتني من املعلم الذي ّ‬ ‫كانت ال�شم�س قد �أكملت غروبها‪ ،‬وبد أ� الليل‪ ،‬واحلي هادئ‪،‬‬ ‫لهثت قلي ً‬ ‫ال‬ ‫وعن بعد ترتاءى يل �أ�ضواء املدر�سة‪.‬‬ ‫جل�ست حتت نخلة‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫و�أنا �أ�شعر بذلك الأمل الطفيف جانب البطن جراء الرك�ض املفاجئ‪،‬‬ ‫‪100‬‬


‫ورحت �أفكر طوي ً‬ ‫ال يف املوقف‪ ،‬و�أعيد توليد ده�شتي من جديد كل‬ ‫ُ‬ ‫مرة‪.‬‬ ‫تخيلت �أنه ع�ضو املعلم‪،‬‬ ‫ر�سمت ب�إ�صبعي على الرتاب قو�س ًا حمنيةً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫م�سحته بيدي‪ ،‬ور�سمته �أكرب‪ ،‬ثم �أكرب قلي ً‬ ‫ورحت‬ ‫ال‪ ،‬ثم �أكرب كثرياً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومل�ست‬ ‫�أت�أمل القو�س‪ ،‬و�أتخيل كيف ميكن �أن يكون �شكله فعلي ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫م�ؤخرتي‪ ،‬و�شبرّ تها بيدي ال�صغرية‪ ،‬لأحاول ت�صور حجمه ب�شكل‬ ‫�أو�ضح‪ ،‬حتى و�صلت �إىل �صورة قريبة‪.‬‬ ‫ولكن �إذا كان هذا احلجم ممكن ًا‪ ،‬فمن �أين له تلك ال�صالبة؟ لقد‬ ‫كان قا�سي ًا وك�أنه �آلة معدنية‪ ،‬هل حق ًا هذا ع�ضوه؟ �أو رمبا كان املعلم‬ ‫يخفي �أدا ًة ما خلف مالب�سه ليخيفني بها؟ رمبا كان ع�صا غليظة‪،‬‬ ‫ي�شدها �إىل ظهره بحبل ق�صري‪� ،‬أو �شيء مثل هذا القبيل‪ .‬هل كان‬ ‫ّ‬ ‫ميازحني �إذن؟ وملاذا ميازحني ونحن وحدنا‪ ،‬ولي�س على مر�أى من‬ ‫�آخرين وم�سمعهم؟ وملاذا كانت طريقته يف �ضبط غرتتي مرتبكة‪،‬‬ ‫حتى �إنه كان يتعمد �أن مييلها كلما اعتدلت؟ كان يكذب‪ ،‬هو ال يريد‬ ‫لغرتتي �أن تن�ضبط �إطالق ًا‪ ،‬ماذا يريد مني �إذن؟‬ ‫مكثت �أكرث من‬ ‫حتت تلك النخلة التي �شهدت فزعي الأول‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ملحت �أ�ضواء �سيارات املدعوين وهي جتوز بوابة‬ ‫�ساعة‪ .‬ومن بعيد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�سيبحث عني‪ ،‬ويخاف‪،‬‬ ‫املدر�سة‪ .‬البد �أن �سيارة �أبي بينها‪ ،‬والبد �أنه‬ ‫ُ‬ ‫�ضعت يف بريوت‬ ‫مثل ذلك اخلوف الذي �أتذكره يف وجهه عندما‬ ‫ُ‬ ‫ذات مرة‪ .‬حزمة من الأفكار التي بعثتها �صورة �أبي منحتني دافع ًا‬ ‫للعودة �إىل املدر�سة على مهل‪ ،‬لعلي �أ�شارك يف الن�شيد وك�أن �شيئ ًا مل‬ ‫املحنية الكبرية التي ر�سمتها على الرتاب‪،‬‬ ‫م�سحت القو�س‬ ‫يحدث‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫‪101‬‬


‫رحت‬ ‫اقرتبت منها �أكرث‬ ‫ورحت �أم�شي باجتاه املدر�سة‪ ،‬وعندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�أحاول �أن �أميز الأ�شخا�ص عن بعد حتى ميكنني �أن �أجتنب الأ�ستاذ‬ ‫�إذا كان هناك‪� .‬أخرياً‬ ‫دخلت امل�رسح‪ .‬كان لبا�سي مميزاً كمالب�س‬ ‫ُ‬ ‫بقية الطالب املن�شدين‪ ،‬بذلك الو�شاح الأخ�رض الذي يحمل �شهادة‬ ‫التوحيد‪ ،‬ولهذا ا�ستوقفني �صوت �أحد املعلمني‪:‬‬ ‫– ح�سان‪ ،‬ليه ما طلعت يف الن�شيد؟‬ ‫كنت �أ�ستطيع بلورة الق�صة كلها‬ ‫مل �أجب‪ ،‬ومل �أكن �أعرف �إذا ما ُ‬ ‫بالكالم‪ ،‬هل ميكن �أن ُيحكى هذا ال�شيء ويقال كبقية الأ�شياء؟ هل‬ ‫عندي �شيء مقبول ومنطقي ميكن �أن �أحكيه �أ�ص ً‬ ‫نظرت �إىل املعلم‬ ‫ال؟‬ ‫ُ‬ ‫تدخل معلم �آخر‪:‬‬ ‫بارتباك‪ ،‬وقبل �أن �أنطق‪ّ ،‬‬ ‫– ح�سان‪ ،‬فاتك الن�شيد‪ ،‬انتهى قبل قليل‪ ،‬وكان مكانك على‬ ‫املن�صة خالي ًا‪.‬‬ ‫– �أعرف‪.‬‬ ‫– ليه ما �أن�شدت‪ ،‬مو حافظ الن�شيد؟‬ ‫كانت �أ�سئلتهم ت�أتي بنربة عادية‪ ،‬ولكني ال �أدري ملاذا �شعرت ب�أنها‬ ‫حتا�رصين بق�سوة مثل �أ�سالك �شائكة‪� ،‬أطرقت و�أنا �أفكر يف مهرب من‬ ‫الوقوف �أمامهم‪� ،‬أنا ال�صامت حتى الآن‪ ،‬دون �أن �أجيب عن �أ�سئلتهم‬ ‫املتقافزة حويل مثل �شياطني �شقية‪ .‬معلمان كبريان‪ ،‬و�أنا طفل وحيد‪،‬‬ ‫يخفي حتت ل�سانه �أحداث ًا �صارت معه‪ ،‬ال يدري كيف تقال‪ ،‬وال ماذا‬ ‫تعني‪.‬‬ ‫�أ�سئلتهما مل تكن �إال منده�شة‪ ،‬ال غري‪ ،‬ولكنها �أوقدت يف داخلي‬ ‫�شعوراً �صغرياً ب�أين مذنب‪ ،‬كنت �أت�صور �أين �أف�سدت احلفل‪ ،‬و�أين‬ ‫‪102‬‬


‫ورحت‬ ‫خيبت ظنون اجلميع‪ ،‬و�أن املدر�سة كلها �ستنقلب �ضدي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أفاقم العواقب يف داخلي بخيال الطفل اخلائف‪ ،‬وبد�أت تنمو يف‬ ‫حلقي غ�صة �صغرية‪.‬‬ ‫�أثناء ذلك‪ ،‬وقف مدير املدر�سة مع املعلمني اللذين كانا يكلمانني‪،‬‬ ‫فت عن‬ ‫مل يتكلم معي‪ ،‬ولكني �سمعت �أحدهما يخربه �أين تخ ّل ُ‬ ‫ملحت وجهه ال�سمني‪ ،‬وذلك‬ ‫الن�شيد‪� ،‬أدار ر�أ�سه نحوي‪ ،‬وفور �أن‬ ‫ُ‬ ‫زر الثوب املحكم‪ ،‬مل �أعد‬ ‫ال�شحم املتجمع يف رقبته التي ي�ضغط عليها ّ‬ ‫�أ�ستطيع التما�سك‪ ،‬فغدرت بي دمعة‪ ،‬وارجتفت �شفتي منذرة ببكاء‬ ‫و�شيك‪ ،‬وقبل �أن ينب�س هو بكلمة واحدة‪.‬‬ ‫ده�شوا متام ًا‪ ،‬و�أم�سك �أحد املعلمني مع�صمي‪ ،‬بعد �أن فاج�أتهم‬ ‫دموعي‪ ،‬وفور �أن مل�ستني يده‪ ،‬ا�سرتجعت لوهلة م�شهد املعلم الآخر‬ ‫الذي مل�سني بع�ضوه قبل �ساعتني‪ ،‬وعينيه املنغلقتني على حافة ال�شهوة‪،‬‬ ‫وتراجعت حماو ًال الإفالت منه‪ ،‬بينما �شدين هو بحركة ال �إرادية‪،‬‬ ‫وانفجرت يف بكاء طويل‬ ‫فوقعت �أر�ض ًا‪ ،‬ومل �أعد �أقدر على التحمل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ودفنت وجهي يف زاوية �صغرية بني يدي والأر�ض‪ ،‬حماو ًال �أال‬ ‫جداً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫علي املعلمان‪،‬‬ ‫يرى � ٌّأي من احلا�رضين مالمح وجهي و�أنا �أبكي‪ .‬انحنى ّ‬ ‫واملدير‪ ،‬و�آخرون ال �أعرفهم‪ ،‬كانوا يحاولون جذبي‪ ،‬تنحيتي عن‬ ‫وعلي تنهمر �أ�سئلتهم احلانية امللأى باال�ستغراب‪.‬‬ ‫الأر�ض واملمر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫– ما بك يا ح�سان؟‬ ‫– �أحد �رضبك؟‬ ‫– لي�ش تبكي؟‬ ‫– �أنت ولد �شاطر‪ ،‬والن�شيد تقدر تن�شده بعدين‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫– ما ي�صري كذا‪� ،‬أنت رجال‪ .‬كيف تبكي يا ح�سان؟‬ ‫علي هذه العبارات‪ ،‬و�أ�شباهها‪ ،‬و�أنا �أن�شج ن�شيج ًا �أحاول‬ ‫اندلقت ّ‬ ‫�أن �أجعله مكتوم ًا‪ ،‬وب�شكل متوا�صل‪ ،‬م�ستمر‪ ،‬ودمع ال عهد يل به‬ ‫عيني‪ .‬مل �أعد �أدري كيف �أت�رصف‪ ،‬ل�ست �أملك تف�سرياً‬ ‫يهطل من ّ‬ ‫لهم‪ ،‬وال يل‪ ،‬ولي�س ثمة مربر مقنع حلالة بكاء كالتي تنتابني‪ ،‬ويف‬ ‫غمرة �أ�سئلتهم بد�أت �أفكر يف �شيء خمتلف‪� ،‬شعرت ب�أنني ال بد �أن‬ ‫�أقدم لهم بعد �أن ينتهي بكائي تف�سرياً مقبو ًال‪ ،‬و�إال بدوت �أحمق‪،‬‬ ‫وهذا �أ�سو�أ‪ ،‬خ�صو�ص ًا بعدما بد�أت �أ�شعر بوجود طالب �آخرين من‬ ‫علي بف�ضول و�أنا �أبكي‪ ،‬وحتت‬ ‫زمالئي اقرتبوا‪ ،‬وراحوا يتفرجون ّ‬ ‫ازددت بكا ًء‪،‬‬ ‫وط�أة هذه امل�س�ؤولية اجلديدة‪ ،‬م�س�ؤولية التربير الالحق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وخوف ًا‪ ،‬وقلق ًا‪.‬‬ ‫فج�أة جذبتني يد قوية‪ ،‬ورفعتني عن الأر�ض‪ ،‬و�أنا �أقاومها ب�شدة‪،‬‬ ‫وعيناي الدامعتان متنعانني من الر�ؤية‪ ،‬و�أحاول �أن �أدير وجهي �إىل‬ ‫وجدت نف�سي حممو ًال �إىل‬ ‫الناحية الأقل ازدحام ًا باملتفرجني‪� ،‬إىل �أن‬ ‫ُ‬ ‫الأعلى‪ ،‬ووجهي على م�سافة �سنتيمرتات فقط من وجه �أبي‪ ،‬ومالحمه‬ ‫وقار وهدوء بالغان‪.‬‬ ‫احلافلة بالأ�سئلة‪ ،‬و�إن ك�ساها ٌ‬ ‫ابت�سم يل‪ ،‬وقال‪“ :‬خال�ص يا ح�سان‪ ،‬تعال نغ�سل وجهك!”‪،‬‬ ‫وم�شيت معه بطواعية وهو مي�سك بيدي‪ ،‬ودخل‬ ‫�أنزلني �إىل الأر�ض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بكائي مرحلة ال�شهقات الأخرية التي ينتهي بعدها‪ ،‬و�أمام املغ�سلة‬ ‫كنت قد توقفت عن البكاء متام ًا‪ .‬غ�سل �أبي وجهي بيده املليئة برائحة‬ ‫ُ‬ ‫ف�شعرت ب�أمان كبري وهي تتخلل �أنفا�سي ورئتي‪ ،‬م�سح‬ ‫عطره املعتادة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أنفي‪ ،‬وم�سارب دموعي‪ ،‬وجفّف وجهي مبنديله احلريري الذي‬ ‫‪104‬‬


‫يحتفظ به دائم ًا يف جيب ثوبه‪.‬‬ ‫عندما خرجنا‪ ،‬جذبني �أبي بعيداً عن جتمع املعلمني الذين ان�شغلوا‬ ‫يف �ش�أن �آخر‪ .‬كان املكان قد �أخذ باالزدحام بعد �أن انتهى احلفل‪،‬‬ ‫و�أخذ النا�س يف اخلروج‪ ،‬وراح بع�ض الآباء يدخلون يف حوارات‬ ‫كنت �أنا مطرق ًا‪ .‬بع�ض �أ�صدقائي‬ ‫جانبية مع معلمي �أبنائهم‪ ،‬بينما ُ‬ ‫حاولوا لفت انتباهي ب�إ�شارات‪ ،‬ونادوين هم�س ًا وهم ملت�صقون‬ ‫كنت �أنتظر �أ�سئلة �أبي التي ال‬ ‫ب�آبائهم‪ ،‬ولكني مل �أعر �أحداً انتباهي‪ُ ،‬‬ ‫بد �أنها �ست�أتي‪.‬‬ ‫وركبت معه يف ال�سيارة‪،‬‬ ‫ولكنه مل يفعل‪ ،‬لقد جتاهل الأمر متام ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫واجتهنا �إىل بقالة �صغرية مبحاذاة املدر�سة‪ ،‬وا�شرتى يل حلوى‪ ،‬وجملة‬ ‫�أطفال‪ ،‬وهو يتحدث معي عن كل �شيء‪ ،‬عدا املدر�سة‪ ،‬واحلفل‪ ،‬وما‬ ‫حدث هناك‪.‬‬ ‫بت لأبي بعارٍ كبري نتيجة عدم تنفيذي و�صلة‬ ‫ت�سب ُ‬ ‫ُ‬ ‫كنت مقتنع ًا ب�أين ّ‬ ‫الن�شيد اجلماعي تلك‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن �أبي الذي كان ي�شجعني على‬ ‫علي يف هذا احلفل‬ ‫التدريب‪ ،‬وحفظ الن�ص‪ .‬كان يع ّلق �آما ًال هائلة ّ‬ ‫ذي الأهمية العظيمة‪ ،‬فلم �أفهم كيف ميكنه �أن يتجاهل هذا اخلذالن‬ ‫الكبري مني‪ ،‬ويبدو هادئ ًا‪ ،‬ومرح ًا هكذا‪.‬‬ ‫يف البيت‪ ،‬ا�ستقبلتنا �أمي بابت�سامة كبرية جداً‪ ،‬وراحت �أ�سئلتها‬ ‫علي فع ً‬ ‫انتبهت لها‪،‬‬ ‫ال لوال �أن �أبي �أوم�أ �إليها ب�إ�شارة خافتة‬ ‫ُ‬ ‫تنهال ّ‬ ‫�سمعت �أبي‬ ‫أويت �إىل غرفتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فخ�ضنا يف حديث غريه‪ ،‬وعندما � ُ‬ ‫كنت �أغ�سل �أ�سناين‪.‬‬ ‫يحدث �أمي بينما ُ‬ ‫– ‪...............‬‬ ‫‪105‬‬


‫– خاف من امل�رسح‪ ،‬واختب�أ‪.‬‬ ‫– ليه؟‬ ‫– النا�س كثريون‪ ،‬وهو طفل‪ ،‬مل يتحمل املوقف‪ .‬امل�شكلة �أنه بعد‬ ‫احلفل ازداد خوف ًا‪ ،‬وراح يبكي‪.‬‬ ‫– يا حبيبي‪ ،‬م�سكني‪� ،‬أكيد �أح�س بالف�شل‪.‬‬ ‫– ‪.......................‬‬ ‫ظل هذا احلوار يدق يف ر�أ�سي طوال ال�ساعة التي �أرقت فيها ومل‬ ‫كنت خائف ًا فع ً‬ ‫كنت خائف ًا‪ ،‬و�إال فلماذا هربت‪.‬‬ ‫ال؟ َّمم؟ نعم ُ‬ ‫�أمن‪ .‬هل ُ‬ ‫جل�ست مع نف�سي لأفهم حتديداً ما هو‬ ‫حتى تلك اللحظة مل �أكن قد‬ ‫ُ‬ ‫الت�رصف الذي قمت به يف احلفل‪ ،‬ولذلك كان �أبي يف حواره مع �أمي‬ ‫كنت �أنا خائف ًا من احلفل فع ً‬ ‫ال‪ ،‬ال �أكرث‪.‬‬ ‫ي�ضع يل احتما ًال منطقي ًا‪ ،‬رمبا ُ‬ ‫ا�ستيقظت على يوم �إجازة‪ ،‬كانت �أفكاري �أكرث‬ ‫يف ال�صباح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وا�سرتجعت الأحداث بهدوء‪ ،‬وهي تتعاقب على ذهني‬ ‫�صفا ًء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬ ‫كنت خائف ًا‪ ،‬ولكن لي�س من احلفل‪ ،‬ولكن لأين ُ‬ ‫بو�ضوح‪� .‬أنا ُ‬ ‫وحيداً مع معلم ذي ع�ضو غريب‪ ،‬وكان يت�رصف معي بغرابة �أكرث‪،‬‬ ‫و�أبي مل يكن يو�ضح يل الأ�شياء الغريبة قط‪.‬‬ ‫ذهبت �إىل �أبي‪ ،‬فوجدته واقف ًا يف منت�صف احلديقة‪ ،‬يراقب‬ ‫ُ‬ ‫ب�ستانيني جاءا لتن�سيقها‪ ،‬ومولي ًا ظهره يل‪ .‬احت�ضنته من اخللف‪،‬‬ ‫فندت منه عبارات ترحيب مرحة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ال و�سه ً‬ ‫– �أه ً‬ ‫ال‪ ،‬بطل الأبطال‪.‬‬ ‫– بابا‪.‬‬ ‫– نعم يا بطل‪.‬‬ ‫‪106‬‬


‫قلت له مبا�رشة‪:‬‬ ‫كنت ال �أزال حمت�ضن ًا �إياه من اخللف‪ ،‬عندما ُ‬ ‫ُ‬ ‫– �أم�س الأ�ستاذ �سوا يل كذا‪.‬‬ ‫– كيف؟‬ ‫– �سوا يل كذا الأ�ستاذ‪.‬‬ ‫– تق�صد �أن م�سكك من ظهرك زي كذا‪.‬‬ ‫– ايه‪.‬‬ ‫– متى؟‬ ‫– قبل احلفل‪ ،‬ملا رحت معه ن�ضبط غرتتي يف غرفة وراء امل�رسح‪.‬‬ ‫كنت ال �أزال مت�شبث ًا به من اخللف‪ ،‬وكانت �أ�سئلته جدية �إىل حد‬ ‫ُ‬ ‫خ�شيت مواجهتها �أمامه‪ ،‬ولكنه احتفظ بنربته الهادئة‪ ،‬حماو ًال �أال‬ ‫�أين‬ ‫ُ‬ ‫يقذف اخلجل يف قلبي الذي ظل يعرتف بطواعية‪.‬‬ ‫– وما كان معاكم �أحد؟‬ ‫– ال‬ ‫– �أي �أ�ستاذ؟‬ ‫– �أ�ستاذ علي‪� ،‬أ�ستاذ احلفل‪.‬‬ ‫– ع�شان كذا �أنت ما طلعت يف الن�شيد؟‬ ‫– ايه‪ ،‬كنت خايف منه‪.‬‬ ‫قب�ض �أبي على مع�صمي‪ ،‬و�أدارين لأ�صبح يف مواجهته‪ ،‬وحملني‬ ‫و�ضمني وهو يبت�سم ابت�سامة ع�صبية‪ ،‬و�أثناء ذلك‪ ،‬هم�س يف‬ ‫عالي ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�أذين ب�س�ؤال ق�صري‪ ،‬وهو مي�سك بطرف بنطايل‪:‬‬ ‫– طيب يا ح�سان‪� ،‬شال مالب�سك؟‬ ‫– ال‪ ،‬ب�س ح�ضني زي كذا‪ ،‬بعدين �أنا طلعت‪.‬‬ ‫‪107‬‬


‫– وين طلعت؟‬ ‫– رك�ضت برا املدر�سة‪.‬‬ ‫– طيب يا بطل‪ ،‬روح ملاما ع�شان تفطر‪ ،‬وبعدين نطلع نتم�شى‪.‬‬ ‫و�أنزلني بعد �أن ّقبل وجنتي‪ ،‬حتى �إذا ما بلغت قدماي الأر�ض‪،‬‬ ‫ال ثقي ً‬ ‫أخف وزن ًا‪ ،‬و�أن حم ً‬ ‫ال قد انزاح عن كاهلي‪ ،‬ورقعة‬ ‫�شعرت ب�أين � ّ‬ ‫ُ‬ ‫فرحت �أبحث عن �أمي يف مظانها من البيت‪ ،‬و�أنا‬ ‫�أفكاري ال�صغرية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أرك�ض بحبور ون�شوة‪.‬‬ ‫أعدت مفاحتة �أبي يف الأمر‪.‬‬ ‫بعد ثماين ع�رشة �سنة‪ُ � ،‬‬ ‫�ضيف يتحدث عن ا�شتباه يف حوادث اغت�صاب‬ ‫كان يف بيتنا‬ ‫ٌ‬ ‫متكررة حتدث يف جمعية للأطفال املعوقني‪ ،‬واملتخلفني عقلي ًا‪،‬‬ ‫با�ستغالل �أفواههم التي ال تنطق‪ ،‬وعقولهم التي ال تعي‪ ،‬وتكلم �أبي‬ ‫بقيت �أنا و�أبي‬ ‫كثرياً يف تعليقه على املو�ضوع‪ ،‬وعندما رحل ال�ضيف‪ُ ،‬‬ ‫نتكلم يف جمل�س ال�ضيوف قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬ون�رشب بقية ال�شاي‪ ،‬و�س�ألت �أبي‬ ‫هل كان يذكر ما قلته له عن ذلك املعلم‪.‬‬ ‫– نعم يا ولدي‪� ،‬صحيح‪.‬‬ ‫– ماذا فعلت �آنذاك يا �أبي؟‬ ‫– ب ّلغت �صديق ًا يل يف ال�رشطة‪ ،‬ف�أخذوه من املدر�سة‪ ،‬واعرتف‪،‬‬ ‫وف�صلوه من وزارة املعارف‪.‬‬ ‫– فقط؟‬ ‫– ب�س يا ولدي‪ ،‬اي�ش تبغاين اعمل كمان؟‬ ‫– �أمل تنفعل؟ ت�رضبه مث ً‬ ‫ال؟‬ ‫عدت على خري‪.‬‬ ‫– كفاية الف�صل‪ ،‬واحلمد هلل �أنها ّ‬ ‫‪108‬‬


‫عدت على خري فع ً‬ ‫ال كما يرى �أبي‪ ،‬ورمبا ال‪ .‬حتى الآن �أنا نف�سي‬ ‫رمبا ّ‬ ‫كنت �س�أكون رج ً‬ ‫ال خمتلف ًا لو‬ ‫ال �أعرف �إجابة عن هذا ال�س�ؤال‪ ،‬وهل ُ‬ ‫كنت �س�أغرق يف حكايات ن�سائية‬ ‫�أن حكاية كهذه مل حتدث قط؟ هل ُ‬ ‫طويلة على مدى �سنوات وك�أين �أغ�سل بها عالئق الذاكرة؟ ما �أعرفه‬ ‫ّ‬ ‫احتكت بداخلي مثل‬ ‫�أن هذه التحر�شات كانت من الفجاجة بحيث‬ ‫ال�رصير املجنون الذي مل يتوقف منذ الطفولة‪ ،‬وما زال ي�سكنني فزعها‬ ‫مثلما ت�سكن الكهرباء خيال الأ�سالك النحيلة‪ ،‬وبقي منها يف ج�سدي‬ ‫تلك الرجفات الع�صبية التي جتفّلني من الرجال‪ ،‬حتى و�أنا قاب عام‬ ‫تقريب ًا من الثالثني‪ .‬ج�سدي ال ينطق‪ ،‬ولكنه حتم ًا ال ين�سى‪.‬‬

‫‪109‬‬



‫‪IV‬‬ ‫“عزيزتي غالية‪،‬‬ ‫ر�سالتك مثل جنمة البحر‪ ،‬ال �أدري � ُّأي �أذرعها بدايتها‪ ،‬و�أين هي‬ ‫ِ‬ ‫الذراع الأخرية‪ .‬واملرهق �أنه كي �أنتقل من ذراع �إىل ذراع‪ ،‬من دون‬ ‫علي �أن �أعود دائم ًا‪ ،‬كل مرة‪� ،‬إىل‬ ‫�أن �أخرج من هذه الر�سالة‪/‬النجمة‪ّ ،‬‬ ‫املركز‪.‬‬ ‫كيف ميكن �أن �أفهم ما تعنني من خم�س �أذرع‪ ،‬ي�شري كل منها �إىل‬ ‫أنك تعرفني جيداً �أين عندما �أقر�أ لك‪ ،‬ال �أقلب‬ ‫اجتاه خمتلف؟ رغم � ِ‬ ‫وجهي يف ال�سماء‪ ،‬وال �أراود االجتاهات الأخرى‪ .‬فلماذا مل تكتبي يل‬ ‫كنت تكتبني من قبل؟ الر�سائل التي تقودين مثل منارة‪ ،‬ال هذه‬ ‫مثلما ِ‬ ‫التي ال �أعرف من �أين �أبد�أها‪ ،‬وال �أين تنهيني‪.‬‬ ‫رجا ًء‪� ،‬إقرتبي �أكرث‪ ،‬و�أُهم�سي يف قلبي مبا�رشة‪� .‬أحتاج �إىل الكثري‬ ‫من الإي�ضاح هذه الأيام‪.‬‬ ‫ح�سان – ملقا‬ ‫‪� 12‬أغ�سط�س ‪”2004‬‬

‫****‬ ‫‪111‬‬


‫احتفظت بن�سخة منها يف بريدي‬ ‫بعثت بر�سالة �إىل غالية‪،‬‬ ‫كلما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كنت �أفعل ذلك ب�شكل �آيل‪ ،‬لأكون قادراً على �إعادة‬ ‫االلكرتوين‪ُ .‬‬ ‫�إر�سالها يف حال مل ت�صل‪ ،‬بد ًال من �إعادة ن�سخها مرة �أخرى ب�شكل‬ ‫كنت �أفعل ذلك لأين �أ�شعر ب�أن �شيئ ًا‬ ‫رديء‪ ،‬ولكني يف احلقيقة‪ُ ،‬‬ ‫وعلي �أن �أحتفظ بها‪ ،‬للأمانة‬ ‫ما تبنيه هذه الر�سائل على مهل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العاطفية‪.‬‬ ‫بعثت بها �إىل غالية من دون‬ ‫تراكمت يف بريدي ر�سائل كثرية‬ ‫ُ‬ ‫�أن �أنتبه �إىل تكاثرها‪ ،‬حتى نبهتني �إىل ذلك �سعة الربيد االلكرتوين‬ ‫امل�رشف على االمتالء‪ ،‬وا�ضطررت �أن �أقف معها �أمام خيار �صعب‪،‬‬ ‫�إما �أن �أحموها جميع ًا لأنها مل تعد جمدية‪ ،‬وال بد �أنها �ستلوث نقاهتي‪،‬‬ ‫�أو �أنقلها كما هي �إىل مكان �آخر‪ ،‬لعلي �أحتاج �إليها يف ظرف ما‪.‬‬ ‫قررت �أخرياً �أن �أحتفظ بها يف ذاكرة خارجية‪ ،‬بعيدة عن متناول‬ ‫ُ‬ ‫رحت �أت�صفح بع�ضها �أثناء النقل‪.‬‬ ‫قراءتي املبا�رشة‪ ،‬ولكني‬ ‫ُ‬ ‫�شعرت و�أنا �أ�رشف عليها من �رشفة زمنية بارتفاع ثالث �سنوات‬ ‫ُ‬ ‫كيف بدت ر�سائلي مثل �سطح مائل‪ ،‬ظل ينحدر نحو غالية كل‬ ‫يوم مثل ال�سفوح الثلجية‪ ،‬رغم �أنها هي التي ك�شفت يل ورقة‬ ‫احلب الأوىل‪� ،‬إال �أن كل ما يف ر�سائلي كان يقودها �إىل هذا الطريق‬ ‫تركت‬ ‫الواحد‪ ،‬ويهيئه لعبورها املتوقع ذاك‪ .‬كان وا�ضح ًا �أين‬ ‫ُ‬ ‫أجبت عن كل تلميحاتها ال�ضمنية بذراعني‬ ‫الأبواب مواربة‪ ،‬و� ُ‬ ‫مفتوحتني‪.‬‬ ‫كنت �أراودها يف ر�سائلي تلك‪ ،‬ال �إرادي ًا؟ لأ�شهر طويلة‪ ،‬كانت‬ ‫هل ُ‬ ‫أحبك‪� ،‬رشط �أن تكفيني حرج االبتداء!)‪،‬‬ ‫كل ر�سائلي تقول لها (�س� ِ‬ ‫‪112‬‬


‫زخات غريبة من‬ ‫فلماذا‬ ‫علي من حني لآخر ّ‬ ‫ُ‬ ‫رحت �ألومها وهي تطلق ّ‬ ‫الغرية‪ ،‬أ� ّدعي �أين ال �أفهمها‪ ،‬لكي �أظفر ب�رصاحة �أكرث تدلي ً‬ ‫ال لغروري‬ ‫ال�صغري؟‬ ‫كانت هذه الر�سالة التي بعثت بها �إليها من ملقا �صيف ًا‪ ،‬رداً على‬ ‫ر�سالة �أخرى ح�شتها غالية بكالم غريب‪ ،‬مل �أتعوده منها قط‪.‬‬ ‫“وجهك‬ ‫“‪ ...‬منذ ال�صباح‪ ،‬حممد عبده يدق �أبواب جبيني‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫املحبو�س يف ورق وحديد”‪ .‬هو دائم ًا ي�أتي ح�سب احلالة‪ ،‬وك�أنه‬ ‫يعرف �أين منذ ال�صباح �أ�شعر بذلك‪� ،‬أت�أمل النافذة بق�ضبانها املعدنية‬ ‫املتقاطعة‪ ،‬والورق املتناثر �أمامي ليتحول �إىل مقال‪ ،‬و�أ�شعر �أين‬ ‫ّ‬ ‫الرف‬ ‫حمبو�سة بني احلديد والورق‪ ،‬متام ًا مثل تلك “ال�صورة على‬ ‫البعيد”‪.‬‬ ‫الأفكار مرتاكمة فوق مكتبي من دون معقّب‪ّ ،‬‬ ‫ونظارتي مك�سورة‬ ‫منذ يومني وال �أجد من ي�أخذين لأ�صلحها‪.‬‬ ‫طنني جهاز التكييف يبعث على الإحباط‪ ،‬واحل�رشات الزاحفة‬ ‫تكاثرت فج�أة يف الفناء مع احتدام ال�صيف‪.‬‬ ‫�أعتذر عن �إقحامك يف خ�صو�صيات الريا�ض ال�صيفية‪ ،‬ولكن‬ ‫لعلك جتد يف تباين احلاالت مرتع ًا جلبينك‪ ،‬يريحك من التحديق يف‬ ‫الأج�ساد امللقاة على �شط�آن �أ�سبانيا‪� ،‬ألي�س كذلك؟‬ ‫‪........‬‬ ‫هذيان الريا�ض �صيف ًا‪ ،‬ال عليك‪.‬‬ ‫غالية – الريا�ض‬ ‫‪� 10‬أغ�سط�س ‪”2004‬‬ ‫‪113‬‬


‫كان ميكن �أال تعلق ر�سالتها تلك �أي جر�س يف قلبي‪ ،‬لوال �شواطئ‬ ‫�إ�سبانيا‪ ،‬والأج�ساد امللقاة عليها‪ .‬مل يكن من املريح �أن �أتلقى ر�سالة‬ ‫تتهمني اتهام ًا مبطن ًا باللهاث‪ ،‬ومن امر�أ ٍة لي�ست حبيبتي‪ .‬ولوال �أنها‬ ‫أهملت كل التلميحات التي ت�ضمنتها ر�سالتها التي ت�شبه‬ ‫غالية‪ ،‬ل‬ ‫ُ‬ ‫وكتبت �إليها مرة �أخرى‬ ‫ت�شبثت بها جداً‪،‬‬ ‫جنمة البحر‪ ،‬ولكني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�أطلب منها مزيداً من املبا�رشة والتو�ضيح‪ ،‬وك�أين �أحاول �أن �أح�صل‬ ‫أ�شم‬ ‫منها على اتهام �أكرب‪ ،‬و�رصاحة �أو�سع‪ ،‬رمبا �أمتكن من خاللها �أن � ّ‬ ‫رائحة احلب‪.‬‬ ‫مر �أكرث من �سبعة �أ�شهر على ابتداء هذه الر�سائل التي‬ ‫مل يكن قد ّ‬ ‫جتري بيننا مثل “اجلناديل” الهادئة‪ ،‬ومل يكن ابتدا�ؤها �صدفة البتة‪،‬‬ ‫تكتب‬ ‫لأن حدوثها كان حتمي ًا �إىل حد ما‪ ،‬فاملجلة التي بد�أت غالية‬ ‫ُ‬ ‫فيها كانت ت�صل �إىل بيتنا بانتظام‪ ،‬وكان البد �أن انتبه يوم ًا ما �إىل‬ ‫ا�سمها يعتلي عموداً جديداً فيها‪ ،‬مل �أره من قبل‪.‬‬ ‫هت �أبي �إىل ذلك‪ ،‬فلم يعلق‪،‬‬ ‫وعلى مائدة ع�شاء تلك الليلة‪ّ ،‬نب ُ‬ ‫بينما هم�ست �أمي بعفوية (ما �شاء اهلل) وهي توزع الأطباق‪ ،‬وتن�سق‬ ‫وعدت‬ ‫�صعدت �إىل غرفتي قبل �أن يكتمل حت�ضري الع�شاء‪،‬‬ ‫املائدة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫باملجلة‪ ،‬مفتوحة على مقال غالية الذي يحتل طرف ًا نحي ً‬ ‫ال من‬ ‫جانب ال�صفحة‪ ،‬وو�ضعتها بني يدي �أبي‪ ،‬ف�أخرج نظارته من جيبه‪،‬‬ ‫وو�ضعها على عينيه بهدوء‪ ،‬ثم انفرجت �شفتاه قلي ً‬ ‫ال تلك االنفراجة‬ ‫املزمومة �إىل �أ�سفل كما يفعل عاد ًة عندما ينقل عينيه املتعبتني من‬ ‫حالة النظر يف الأ�شياء العادية �إىل الرتكيز يف منطقة �صغرية كاملقال‪،‬‬ ‫وراح يقر أ� قلي ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫‪114‬‬


‫بعد ثوان قليلة قال‪:‬‬ ‫– فع ً‬ ‫ال‪� ،‬أعتقد �أنها بنت عبدالعزيز الرو�ضي‪.‬‬ ‫– بالت�أكيد‪.‬‬ ‫ا�ستغرق �أبي يف قراءة املقال الذي كان يف جممله بع�ض ًا من العزاء‬ ‫لبغداد التي �أوجعتها احلرب‪ ،‬متباكية فيها على الأطفال وال�ضحايا‪.‬‬ ‫تعليق ما‪،‬‬ ‫قر�أته باكراً‪ ،‬ومل �أ�رصح لأبي بر�أيي فيه‪ ،‬منتظراً �أن ي�أتي منه‬ ‫ٌ‬ ‫�أعرف من خالله م�ساحة الر�أي املتاحة يل‪ ،‬واجتاهه املقبول‪.‬‬ ‫بينما كان �أبي يقر�أ‪ ،‬قالت �أمي‪:‬‬ ‫– عهدي بها �أنها تعي�ش مع �أمها وطفلها‪ ،‬بعد �أن انف�صلت عن‬ ‫زوجها‪.‬‬ ‫كانت ت�صفّف �شعرها بتلك الهيئة التي مل تتغري منذ زمن طويل‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬وجمي ً‬ ‫رغم �أنه ما زال طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬وخالي ًا يف جممله من البيا�ض‪ ،‬وعلى‬ ‫أيت وجهها لأول مرة‪ ،‬بي�ضاء‬ ‫وجهها تنام احلمامة نف�سها منذ �أن ر� ُ‬ ‫مثل ال�صباح املت�أخر‪ ،‬وعلى �أطراف جفنيها جتاعيد طفيفة‪ ،‬ال تخفيها‬ ‫�أمي جيداً‪.‬‬ ‫�س�ألتها بف�ضول‪:‬‬ ‫– وملاذا انف�صال؟‬ ‫– هذه �أ�رسار البيوت يا ولدي‪ ،‬ال �أحد يعرف ما بني الزوجني‪.‬‬ ‫– اهلل يعينها‪.‬‬ ‫– �صار الطالق حكاية كل بيت‪ ،‬ما �أدري و�ش �صار للنا�س‪ ،‬ما‬ ‫عاد حتملوا بع�ض!‬ ‫بد� ُأت �أتناول ع�شائي بهدوء‪ ،‬و�أجتاذب مع �أمي �أطراف حديث‬ ‫‪115‬‬


‫ٌ‬ ‫منهمك يف قراءة املقال‪ ،‬ويحرك �شفتيه وك�أنه يلوك‬ ‫معتاد‪ .‬بينما �أبي‬ ‫�شيئ ًا وهمي ًا يف فمه‪ ،‬وبعد دقيقتني من قراءة املقال‪ ،‬راح يرطب �إبهامه‬ ‫بل�سانه‪ ،‬ويقلب ال�صفحة‪ ،‬وين�شغل يف قراءة موا�ضيع �أخرى‪.‬‬ ‫�س�ألته من دون �أن �أبدي اهتمام ًا كبرياً‪:‬‬ ‫– كيف ترى مقالها يا �أبي؟‬ ‫�أجابني من دون �أن يتوقف عن تقليب ال�صفحات الأخرى‪:‬‬ ‫– ال �أدري‪ ،‬فيه كال ٌم عن ال�سيا�سة‪ ،‬وفيه كال ٌم ك�أنه �شعر‪.‬‬ ‫ابت�سمت لإجابته التي تبدو مثل امتعا�ض حمت�شم‪ .‬كان وا�ضح ًا �أن‬ ‫ُ‬ ‫املقال مل يعجبه‪ ،‬ولكن �شخ�صيته املتوا�ضعة متنعه من انتقاد الآخرين‬ ‫قررت �أن �أ�سعى وراء ر�أي �أكرث دقة‪ ،‬مبا �أننا نتناول‬ ‫ب�شكل مبا�رش‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الع�شاء الذي ت�أتي الرثثرة العائلية جزءاً معتاداً منه‪ ،‬كاخلبز متام ًا‪:‬‬ ‫– تق�صد �أنه مقال �ضعيف؟‬ ‫– ال‪ ،‬ال‪.‬‬ ‫يل ن�صف التفافة‪ ،‬ونظر �إ ّ‬ ‫ثم التفت �إ ّ‬ ‫يل من فوق نظارته التي‬ ‫انحدرت قلي ً‬ ‫ال على �أنفه‪ ،‬و�أردف‪:‬‬ ‫– عندما �أقر�أ مقا ًال عن ال�سيا�سة‪ ،‬يجب �أن يكون مقا ًال عميق ًا‬ ‫بغ�ض النظر عن وجهة نظر كاتبه‪ ،‬يجب �أن تكون كتابته‬ ‫ووافي ًا ّ‬ ‫�سيا�سية ومو�ضوعية بحتة‪ .‬ال�سيا�سة معقدة‪ ،‬مو �شعر وكالم خيايل‪.‬‬ ‫وعلقت �أمي من دون اهتمام‪ ،‬ومن باب امل�شاركة يف احلوار‪:‬‬ ‫– �صحيح‪ ،‬يجب �أن يكتب كل �شخ�ص يف جمال تخ�ص�صه‪.‬‬ ‫مل يبد �أبي �أنه �سمع تعليق �أمي قط‪ .‬طرق ب�إ�صبعه على املجلة‪،‬‬ ‫و�أردف قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫‪116‬‬


‫– هذه البنت ت�أخذ من طرف ال�سيا�سة‪ ،‬ومن طرف الكالم احللو‪،‬‬ ‫ومن طرف امل�شاعر االجتماعية‪ ،‬وتكتب ما يريده النا�س‪.‬‬ ‫ثم �أردف وهو يغلق املجلة وي�ضعها جانب ًا‪ ،‬ثم يعدل جل�سته‪:‬‬ ‫– وهذا ما تريده املجالت عموم ًا‪.‬‬ ‫ثم بد�أ يف تناول طعامه‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬ ‫– ولكن كوي�س منها �إنها تكتب‪� ،‬أعتقد �أنها �صغرية‪ ،‬وكتابتها‬ ‫جديرة بالت�شجيع‪.‬‬ ‫وع ّلقت �أمي بعدها‪:‬‬ ‫قد ح�سان!‬ ‫– و�ش �صغرية اهلل يهديك‪ّ ،‬‬ ‫و�ضحك �أبي‪ ،‬وهو يتناول ب�إ�صبعيه حبة زيتون‪:‬‬ ‫– وح�سان �صغري كمان‪� ،‬شايفته كبري يعني!‬ ‫وجتيب �أمي بابت�سامة وا�سعة‪:‬‬ ‫كنت يف عمره كنت �أ ْم‪ ،‬وعندي بيت‪.‬‬ ‫– �ستة وع�رشين �سنة‪ ،‬ملا ُ‬ ‫– وانتي كمان �صغرية‪ ،‬وال يهمك‪.‬‬ ‫ويقهقه �أبي‪ ،‬ل ُتمحى من وجهه جميع املالمح اجلادة التي طبعتها‬ ‫عليه القراءة‪ ،‬ويحل مكانها حاجبان مرفوعان كمظلتني �صغريتني‪،‬‬ ‫ووجنتان ما زالتا‪ ،‬رغم التجاعيد‪ ،‬قادرتني على التكور بلطف حول‬ ‫فم مزموم كدائرة غري منتظمة‪ ،‬ترتب ال�ضحك‪ ،‬وتطلقه مثل فقاعات‬ ‫ال�صابون التي يلهو بها الأطفال‪.‬‬ ‫دائم ًا يبدو وجهه عندما ي�ضحك على هذه ال�صفة‪ ،‬وك�أن البهجة‬ ‫اندفعت يف قلبه فج�أة مثل �شالل‪ ،‬ومل يكن جا ّد املالمح‪ ،‬مقطب‬ ‫احلاجبني قبل ثوان قليلة فقط‪ .‬قدرته على املرح بهذه ال�رسعة دائم ًا‬ ‫‪117‬‬


‫تقول يل �إنّ يف قلبه �سالم ًا روحي ًا مل ت�ستطع كل �أيامه الكثرية �أن‬ ‫تك�رسه البتة‪.‬‬ ‫ومل تكن كلماته تعرب �أمي ب�سالم‪ ،‬كان وجهها ي�رشق مثل تفاحة‬ ‫تنفتح تواً‪ ،‬وتطرق قلي ً‬ ‫ال يف خجل ال حتاول �إخفاءه �أبداً‪.‬‬ ‫كنت �أ�سمع هذا اجلدل الغزيل بينهما‪ ،‬و�أعلق على فمي ابت�سامة‬ ‫ُ‬ ‫حب تكفيهما مع ًا‪ ،‬و�أتناول ع�شائي ببطء‪ ،‬م�ستمتع ًا بهناء العي�ش مع‬ ‫�أبوين يتكلمان كثرياً على الع�شاء من دون ملل‪.‬‬ ‫را�سلت غالية على الربيد‬ ‫�صعدت �إىل غرفتي بعد الع�شاء‪،‬‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫املرفق يف املقال مهنئ ًا �إياها‪ ،‬ومعرباً عن �إعجابي الذي مل �أذكره �أمام‬ ‫ومنت تلك الليلة كما �أنام عاد ًة على �ضو�ضاء فيلم ما‪ ،‬ت�صدر منه‬ ‫�أبي‪ُ ،‬‬ ‫�أ�ضواء ع�شوائية ح�سب امل�شاهد‪ ،‬تنري ظالم الغرفة‪ ،‬وتر�سم �أ�شكا ًال‬ ‫غري منتظمة على اجلدار الذي خلفي‪ ،‬بينما تذبل عيناي تدريج ًا مع‬ ‫ت�أخر الوقت‪.‬‬ ‫ن�سيت �أين‬ ‫ولو �أن غالية مل ترد على ر�سالتي الأوىل تلك‪ ،‬لرمبا‬ ‫ُ‬ ‫�أر�سلتها �أ�ص ً‬ ‫ال‪ .‬كانت الأ�شياء من العادية والطفافة بحيث يده�شني‬ ‫وجدت يف ال�صباح‬ ‫�أنها تركت �أثراً بهذا احلجم يف ما بعد‪ ،‬ولكني‬ ‫ُ‬ ‫ر�سال ًة منها‪ ،‬معلق ًة يف بريدي االلكرتوين مثل ع�صفور �أزرق‪ ،‬بدا يل‬ ‫منذ و�صول الر�سالة‪� ،‬أنه ّ‬ ‫ظل ينتظرين منذ الفجر‪ ،‬ليغني يل قلي ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫فكرت يف هذه الفتاة التي تر ّد على ر�سائلها فجراً‪ ،‬ملاذا ت�سهر يا‬ ‫ُ‬ ‫ترى؟ هل تكلم �أحداً؟ �أم �أنها انتقائية جداً يف اختيار �أوقات �صفائها‬ ‫ي�ضج بقرا ٍء كرث غريي؟ رمبا هذا الذي‬ ‫وجنوى بريدها الذي رمبا كان ُّ‬ ‫جعلني �أحاول يف ر�سالتي �أن �أح�شد �أ�شياء ت�شري �إىل قرابتنا لع ّلي �أحظى‬ ‫‪118‬‬


‫باهتمام خمتلف‪ ،‬رغم �أين مل �أكن �أعرف ما الذي ميكنني �أن �أجنيه من‬ ‫هذا االهتمام �إذا حتقق‪ .‬فغالية‪� ،‬آنذاك‪ ،‬كانت تدور يف فلك بعيد متام ًا‬ ‫عن توقعاتي املحدودة‪ ،‬واملنح�رصة يف حاالت �أنثوية قريبة‪ ،‬وواقعية‪،‬‬ ‫و�أكرث ترابية بكثري من كاتبة مقال‪ ،‬وذات قربى‪.‬‬ ‫�أخربتها �أين �أتذكر كيف لعبنا مر ًة لعبة الر�سم على الرمل فوق‬ ‫كثيب يف ال�صحراء‪ ،‬و�أن هذا هو �آخر عهد ذاكرتي بها‪ ،‬و�أعادت �إ ّ‬ ‫يل‬ ‫زلت �أذكر ذلك‪ ،‬وت َ​َركت بني عباراتها‬ ‫ر�سالتي وهي �سعيدة لأين ما ُ‬ ‫كالم ًا ي�شبه العتاب على جمتمع يف�صل بيننا رغم كوننا �أقارب‪ ،‬وعلى‬ ‫أر�سلت‬ ‫الأ�رسة التي توقفت عن عاداتها ال�سنوية يف جمع �شتاتها‪� .‬‬ ‫ُ‬ ‫�إليها ر�سالة �أخرى يف الوقت نف�سه‪ ،‬وقد �أغرتني �شكواها العابرة‪،‬‬ ‫و�أوحت يل بارتياحها معي نوع ًا ما‪ ،‬ف�أخربتها مبا تفتقت عنه ذاكرتي‬ ‫من تفا�صيل �أدق عن ذكريات ذاك الكثيب‪ ،‬وردت علي بر�سالة‬ ‫جديدة �أكرث مرح ًا و�صخب ًا يف اختيار الكلمات ال�ضاحكة‪�“ ،‬أتذكر‬ ‫تفا�صيل �أكرث‪ .‬ذاكرة الأنثى �أقوى!”‬ ‫كانت غالية �أجمل الأطفال‪ ،‬بينما �أنا �أكرثهم خج ً‬ ‫ال والت�صاق ًا‬ ‫ب�أمي‪ .‬حاجباي معقودان دائم ًا ك�أين ورثت انعقادهما عن �أبي‪ ،‬من‬ ‫تربيت يف بيت ال �أرى فيه �إال‬ ‫دون �أن �أرث �شيئ ًا مما وراءهما‪ .‬ولأين‬ ‫ُ‬ ‫الكبار‪ .‬كانت تلك املخلوقات ال�صغرية التي ترك�ض �أمامي وتلهو مع ًا‬ ‫بعفوية تبدو يل كائنات خميفة‪ ،‬غري رحيمة‪ ،‬ال تكلمني ب�شكل حنون‬ ‫تعودت من الكبار‪ ،‬وال �أظنها ت�ضمر يل خرياً‪.‬‬ ‫كما‬ ‫ُ‬ ‫كانت �أ�رستنا قد عادت تواً من لبنان‪ ،‬وبقايا اللهجة اللبنانية يف‬ ‫علي‬ ‫ل�ساين جتعلني �أتكلم ب�شكل غريب وخمتلف‪ ،‬ال يلبث �أن يعود ّ‬ ‫‪119‬‬


‫كنت‬ ‫ب�سخرية وانتقاد الذعني من �أفواه الأطفال ال�رصيحة‪ .‬ولهذا ُ‬ ‫�أ�ؤثر ال�صمت‪ ،‬من دون �أن �أفهم ملاذا كانوا ي�ضحكون كلما نطقت‪،‬‬ ‫وال يفهمون بع�ض الكلمات العادية التي تخرج من فمي‪.‬‬ ‫كنت �أت�أملهم عن بعد‪ ،‬واقف ًا عند حد �ساحة اللعب متام ًا‪،‬‬ ‫ولذلك ُ‬ ‫ألتفت كل وهلة جهة جمل�س‬ ‫من دون �أن �أجر�ؤ على االقرتاب �أكرث‪ ،‬و� ُ‬ ‫الن�ساء لأت�أكد �أن �أمي باقية يف حميط ب�رصي‪ ،‬و�أين باق يف حميط ب�رصها‪،‬‬ ‫وهذا هو الأهم‪.‬‬ ‫كان للأطفال بهجة اللعب‪ ،‬ويل غنب املراقبة‪ .‬ولأين ٌ‬ ‫طفل يف �آخر‬ ‫املطاف‪ُ � ،‬‬ ‫أمتلك القدرة التي يغبطها �أي كبري على اخرتاع اللهو يف �أي‬ ‫أحول فعل املراقبة هذا �إىل لعبتي الآمنة‬ ‫علي �أن � ّ‬ ‫حاالت احلياة‪ ،‬كان ّ‬ ‫ال�صغرية عند حد �ساحة اللعب‪.‬‬ ‫كان ميكن �أن �أراقبهم جميع ًا و�أح�صي �أفعالهم‪ ،‬وكان ميكن �أن‬ ‫�أراقب غالية‪.‬مل يكن من املمكن تفاديها‪ ،‬لعدة �أ�سباب �أعتقد �أين �أقدر‬ ‫على �صياغتها الآن و�أنا �أتذكر‪ ،‬كان لها مالمح الكبار‪ ،‬وتبدو كامر�أة‬ ‫ي�صعب تف�سريه على طفل يراقب الأطفال‬ ‫�صغرية تلهو‪ ،‬وهذا ما‬ ‫ُ‬ ‫عن بعد‪ ،‬بينما كان ينعك�س على بقية الأطفال املنهمكني باللعب‬ ‫ب�شكل مبا�رش‪ :‬كان مينحها روح القيادة‪ .‬ولهذا هي الأكرث ن�شاط ًا يف‬ ‫توجيه الأطفال الآخرين‪ ،‬واختيار اللعبة‪ ،‬وو�ضع القوانني‪ ،‬و�إعالنها‬ ‫ب�صوتها احلاد الذي مل يكن ينق�صه �إال طبقة واحدة ليكت�سب نربات‬ ‫امر�أة بالغة‪ ،‬وبلهجتها الآمرة التي ي�ستجيب لها كل الأطفال بوالء‪،‬‬ ‫ما زادين انطوا ًء‪ ،‬وخوف ًا من م�شاركة هذه الطفلة القوية يف �أي لهو ما‪.‬‬ ‫كل هذا كان يحدث يف خميم �صحراوي كبري �شمال الريا�ض‪ ،‬قرر‬ ‫‪120‬‬


‫�أفرا ٌد من عائلة �أمي الكبرية ا�ستئجاره مر ًة يف ال�سنة‪ ،‬لتجتمع فيها‬ ‫العائلة املنقطعة بع�ضها عن بع�ض‪ ،‬وال �أدري ملاذا كانت �أمي تواظب‬ ‫على هذا احل�ضور‪ ،‬رغم ترديدها دائم ًا �أنها ال تثق بهم‪ ،‬وال ترجو‬ ‫منهم خرياً‪ ،‬ولكنها على ما يبدو كانت حت�رض لتثبت �أنها ما زالت‬ ‫حا�رضة يف ال�سياق العائلي‪.‬‬ ‫كانت غالية ت�أتي مع �أمها وحيدتني‪ ،‬ولكنها ال تلبث بعد نزولها‬ ‫من �سيارتهم املتوا�ضعة تلك‪� ،‬أن ت�صبح �سيدة الأطفال املت�رصفة يف‬ ‫لهوهم كله‪ .‬كان �أبوها هو الذي يلتقي مع �أمي يف قرابة بعيدة‪،‬‬ ‫وهو مزواج �شهري حتى يف �شيخوخته‪ ،‬كتبوا عنه مر ًة يف الأخبار‬ ‫ال�صحفية العابرة عندما جتاوزت زيجاته الع�رشين امر�أة‪ ،‬واحتفظت‬ ‫غالية بق�صا�صة اجلريدة تلك منذ طفولتها على هام�ش ال�سخرية املرة‪،‬‬ ‫ولأن �أمها �إحدى الزوجات املبكرات‪ ،‬احتفظت مبزية البقاء يف ذمته‪،‬‬ ‫وحتت نفقته‪ ،‬رغم �أنها ال تراه �إال نادراً‪ ،‬وال ي�أتي �إىل املنزل �إال يف‬ ‫منا�سبات نادرة‪.‬‬ ‫وت�سلقت كثيب ًا �صغرياً من الرمل عند‬ ‫حملت كرتي ال�صغرية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫حدود املزرعة‪ ،‬حماو ًال �أن �أبدو ظاهراً جلمع الأطفال البعيد‪ ،‬حتى‬ ‫�أثبت علوي عليهم‪ ،‬ونفوري منهم‪ ،‬بكربياء طفل ال يتنازل ان�صياع ًا‬ ‫جل�ست وحيداً حتى دقت‬ ‫لتلك الطفلة املتحكمة‪� .‬أذكر جيداً �أين‬ ‫ُ‬ ‫ال�شم�س ر�أ�سي‪ ،‬و�أين ط�أط�أت يف النهاية‪ ،‬ومللت الوقوف والتظاهر‬ ‫ُ‬ ‫فجل�ست كما يجل�س الأطفال املهزومون‪ ،‬على‬ ‫باالن�شغال بكرتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ظهر الكثيب‪� ،‬أراقب ظهور اخلناف�س املنتفخة وهي تدحرج كرات‬ ‫لزجة ب�سيقانها اخللفية‪ ،‬ومت�شي �إىل الوراء‪ ،‬حتى تدخل جحورها‪.‬‬ ‫‪121‬‬


‫تقرتب من الكثيب‪ ،‬ب�صحبة‬ ‫أيت غالية‪ ،‬وهي‬ ‫ويف تلك الأثناء‪ ،‬ر� ُ‬ ‫ُ‬ ‫طفلة �أخرى من العائلة‪ ،‬وتتجهان نحوي متام ًا‪ ،‬فتقل�ص بطني قلي ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ال�شم�س مبا يكفي‬ ‫ورحت �أنتظر‪ ،‬مق ّلب ًا يف ذهني ال�صغري الذي �أرهقته‬ ‫ُ‬ ‫�أ�سئل ًة خائفة‪ .‬ماذا تريدان يا ترى؟ وكيف يجب �أن �أت�رصف؟‬ ‫ال‪ ،‬وتناهى �إ ّ‬ ‫بد�أت غالية تت�سلق الكثيب فع ً‬ ‫يل �صوت حوارهما‬ ‫الذي يدور بال مباال ٍة بوجودي‪ ،‬وتوقفتا عند مكان غري بعيد مني‪،‬‬ ‫وجل�ستا على ظهر الكثيب‪ ،‬و�أخرجت غالية من جيبها عدة �أغ�صان‬ ‫ق�صرية‪ ،‬ثم �سوت بذراعها م�ساح ًة �صغرية من الرمل‪ ،‬وراحت‬ ‫تر�سم ب�أغ�صانها تلك على �سطحه املت�ساوي‪ ،‬من دون �أن تعريين هي‬ ‫فتنف�ست ال�صعداء بعد النجاة من مواجهة مل‬ ‫و�صاحبتها �أي انتباه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أكن م�ستعداً لها‪.‬‬ ‫ورحت‬ ‫وا�ستجمعت �شيئ ًا من الكربياء‪،‬‬ ‫جتاهلتهما وجتاهلتاين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كنت �أ�رسب �إىل وجه غالية‬ ‫�أع�صي رغبة عيني يف املراقبة‪ ،‬غري �أين ُ‬ ‫واكت�شفت �آنذاك‪ ،‬لأول مرة‪،‬‬ ‫نظرات حذرة‪ ،‬تراقبها ب�شك وف�ضول‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أن يف وجه غالية نقطة �سوداء �صغرية‪ ،‬و�أن �شعرها ناعم مثل دعايات‬ ‫ال�شامبو‪ ،‬و�أنّ يف يدها خامت ًا مثل �أمي‪ ،‬ومالحظات �أخرى �صغرية‬ ‫على �أفعالها متنحها كل �سيماء الكبار‪.‬‬ ‫وعندما �صارت غالية قاب �رسير مني‪ ،‬وهي زوجتي‪ ،‬كانت حبة‬ ‫اخلال تلك تبدو وك�أنها مل تولد معها‪ ،‬بل نزلت �إليها من ال�سماء‪،‬‬ ‫امتلكت �أثمن نقطة ميكن‬ ‫كنت �أقبلها قبالت م�ؤمنة‪ ،‬و�أ�شعر �أين‬ ‫ُ‬ ‫ولهذا ُ‬ ‫�أن ميتلكها رجل ما‪ ،‬يف الريا�ض! و�صار �شعرها الأ�سود الطويل فاتن ًا‬ ‫احلرين‪،‬‬ ‫جداً عندما ت�سدله مثل ليل الدهر‪ ،‬وتخبئ وراءه نهديها ّ‬ ‫‪122‬‬


‫وترتكني �أك�شفه عنهما على مهل‪ ،‬خ�صلة خ�صلة‪ ،‬حتى �أنتهي �إليهما‪،‬‬ ‫و�أحتكم بنف�سي يف ال�شم�س والقمر‪.‬‬ ‫هذه الطفلة التي كانت تلعب �أمامي على الكثيب‪ ،‬وال ت�شاركني‬ ‫يف اللعب‪ ،‬كربت‪ ،‬و�شاركتني يف ال�رسير‪ ،‬و�صارت ت�ضبط حرارة‬ ‫ج�سدي جيداً قبل �أن تنام عليه‪ ،‬وتعرف كيف جتعلني �أكرب حتى‬ ‫�أح�ضنها‪ ،‬و�أنكم�ش بعد ذلك حتى حت�ضنني‪ .‬و�صارت تف�رس يل لغة‬ ‫املاء امل�سافر بني ج�سدينا كل مرة‪ ،‬وتفك النب�ضة‪ ،‬واخلفقة‪ ،‬والرع�شة‪،‬‬ ‫واالنتفا�ضة‪ ،‬وجتمع كل �شيء‪ ،‬وتنرثه بدقة مباغتة‪ ،‬ف�إذا كل �شيء‬ ‫منظم‪ ،‬وواقعي‪ ،‬وفاعل‪ ،‬وجميل‪.‬‬ ‫وحولت ال�رسير �إىل مدر�سة‪ ،‬فبات‬ ‫ق ّلمت غالية �أظفار الفو�ضى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كل �شيء م�ضبوط ًا ك�ساعة‪ ،‬وع ّلمتني قاعدة الرتكيز حتى ال يتحول‬ ‫الت�صاقنا �إىل جمرد رك�ض �صعب‪ .‬مل يكن لهذه احلاالت �أن متر بذهني‬ ‫و�أنا �أراقب غالية التي تلعب على الكثيب‪ ،‬و�أمتنى لو �أنها تدعوين‬ ‫للعب معها‪ ،‬ومل �أكن �أعرف ماذا كانت ت�ؤجل يل‪.‬‬ ‫تبادلنا خالل �أ�سبوعني ر�سائل مليئة بتفا�صيل �أكرث عن طفولتنا‪،‬‬ ‫وازدحمت احلكايات‪ ،‬و�ضاقت بنا الر�سائل االلكرتونية‪ ،‬ف�أخذت‬ ‫غالية رقمي‪ ،‬وات�صلت بي ذات ليلة‪ .‬وتكلمنا �أربع �ساعات متوا�صلة‪،‬‬ ‫كالم ًا مل �أعرف كيف بد�أ‪ ،‬وال �أين انتهى‪.‬‬ ‫تخرجت يف اجلامعة تواً‪ ،‬واحتفل بي �أبي �أكرث من مرة‪،‬‬ ‫كنت قد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويف كل منا�سبة كان يدعو نفراً من املدعوين يختلفون عن الآخرين‪،‬‬ ‫علي �أن �أفعله‪ ،‬كان جمرد‬ ‫وبعد ذلك ال �أتذكر �أننا تكلمنا قط يف ما ّ‬ ‫يتورع �أبي عنه‪ ،‬حتى‬ ‫اخلو�ض يف حديث عن م�ستقبلي حمظوراً كبرياً ّ‬ ‫‪123‬‬


‫ولو كان ر�أي ًا �صغرياً يلقيه على عتبة و�صايته ك�أب‪ ،‬خ�شية �أن �أت�أثر به‪،‬‬ ‫فيكون يف ذلك تدخ ً‬ ‫ال غري مبا�رش منه يف خياراتي ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫مل �أخرت �أن �أقوم ب�أي عمل بعد التخرج‪ .‬هذا الأمر �أزعج �أحمد‬ ‫كثرياً‪ ،‬رغم �أنه ال يقوم ب�أي عمل على الإطالق‪ ،‬ولكنه كان يطالبني‬ ‫ب�إكمال الدرا�سة‪� ،‬أو البحث عن وظيف ٍة ممتازة تليق بي‪ ،‬ومل يكن ذلك‬ ‫كنت �أ�شم حماول ًة طيبة لإيجاد دور له يف‬ ‫على الأغلب حر�ص ًا بقدر ما ُ‬ ‫منزلنا‪ ،‬وبقدر ما �أدرك �أن �أحمد يحاول �أن ينتمي �إلينا �أكرث مما ينتمي‬ ‫منق�سم متام ًا بني �شخ�صيتني‪� ،‬إحداهما‬ ‫�إىل �أ�رسته الأخرى‪ ،‬و�أ�شعر �أنه‬ ‫ٌ‬ ‫تلك اجلافة اجلبلية التي ورثها من �أبيه‪ ،‬والأخرى تلك الن ّزاعة لوعي‬ ‫�أكرث لين ًا ومرون ًة وت�شبث ًا مبعطيات الرقي احل�ضاري الذي يرتجمه له‬ ‫�أبي �أنا �أحيان ًا‪ ،‬و� ّأمنا امل�شرتكة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�شخ�صيتي �أحمد يف �أوقات متقاربة‪،‬‬ ‫تختلط مالمح‬ ‫كثرياً ما‬ ‫ْ‬ ‫و�أبت�سم لهذا النزاع القائم يف داخله‪ ،‬والذي ال ينتهي‪ ،‬لأنه هو‬ ‫نف�سه مل يخرت �أيهما �أ�صلح له‪ ،‬هذا ما جعل خياراته يف احلياة فا�شلة‬ ‫غالب ًا‪ ،‬فلم يحقق �شيئ ًا يذكر‪ ،‬وهذا ما ترثي �أمي حلاله عليه‪ ،‬فلم يكن‬ ‫يعمل‪ ،‬ومل يكمل درا�سته يف اجلامعة‪ ،‬ولي�س عنده مال وال جتارة‪،‬‬ ‫وكان يقيم يف منزل �أبيه الكبري‪ ،‬ون�شاطه االجتماعي تغلب عليه‬ ‫ال�سطحية غالب ًا‪ ،‬لوال �أنه يحاول هو �أن يلقي عليه ظال ًال من العمق‪،‬‬ ‫والتميز‪.‬‬ ‫قالت �أمي‪�“ :‬أبوه ال�سبب‪ .‬معاملته �سيئة معه من �صغره‪ ،‬وهذي‬ ‫النتيجة‪ ،”...‬والنتيجة التي تق�صدها �أمي هي الطبيعة الع�صبية التي‬ ‫متيل �إليها �شخ�صيته‪ ،‬كان يثور �أحيان ًا لأتفه الأ�سباب‪ ،‬و�إذا فعل‪،‬‬ ‫‪124‬‬


‫فقد ل�سانه طالقته‪ ،‬و�صار يت�أتئ يف الكالم‪ ،‬وي�ضغط على احلروف‬ ‫لتخرج‪ ،‬فال تخرج‪ ،‬فيزداد انفعا ًال لتمرد ل�سانه عليه‪ ،‬في�ستغني عن‬ ‫كلمة لي�أتي بكلمة �أكرث طواعية‪ ،‬فت�صبح اجلملة غريبة �أحيان ًا‪ ،‬ولكنا‬ ‫تعودنا طريقته هذه يف الكالم‪.‬‬ ‫تقول �أمي �إنه كان يت�أتئ يف طفولته ب�شكل ب�سيط جداً‪ ،‬و�إنه �أمر‬ ‫�سائد لدى الأطفال‪ ،‬لوال �أن �أباه �ساهم يف تفاقم هذه احلالة عنده‪ ،‬و�أنا‬ ‫تعودت �أن �أ�سمع‬ ‫غري مت�أكد متام ًا من م�س�ؤولية والده عن هذا‪ ،‬ولكني‬ ‫ُ‬ ‫من �أمي دائم ًا عيوب زوجها الأول‪ ،‬وكيف �أن حياتها معه كانت ال‬ ‫تطاق‪ ،‬وت�سعى لتثبت �أن قرارها باالنف�صال عنه والزواج من �أبي بعد‬ ‫ذلك‪ ،‬كان �صحيح ًا جداً‪.‬‬ ‫علي بلطف‪ ،‬و�رصفته عن حماولة‬ ‫ُ‬ ‫تخل�صت من �إحلاح �أحمد ّ‬ ‫م�شاركتي يف �صنع قراري العملي القادم‪ .‬كان هناك القليل من‬ ‫الأعمال التي �أقوم بها نيابة عن �أبي‪ ،‬دون �أن يطلبها مني بالطبع‪،‬‬ ‫ولكن لتطرد عني هاج�س البالدة والتفاهة‪ ،‬وتعبئ قلي ً‬ ‫ال من فراغ‬ ‫م�س�ؤوليتي نحوه كابن وحيد‪.‬‬

‫****‬ ‫جاء �صباح غائم قلما ت�شهده يف الريا�ض‪ .‬اختارت غالية �أن تراين‪،‬‬ ‫وعلى حني غرة‪ ،‬من دون �أن �آخذ منها موثق ًا من القلب‪� ،‬أال جتعلني‬ ‫�أغرق يف حبها �إىل هذا احلد‪.‬‬ ‫كنت �أقود �سيارتي على غري هدى‪ ،‬يف عادة من عادات ال�شتاء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪125‬‬


‫كنت �أخرج من بيتي‬ ‫مبجرد �أن تبد�أ الريا�ض ارتداء ثوب الغيم‪ ،‬ومتطر‪ُ ،‬‬ ‫�صباح ًا‪ ،‬و�أ�ستمتع بهذا الطق�س وحدي‪� ،‬أ�سمع مو�سيقاي الهادئة‪،‬‬ ‫و�أتكلم مع كوب قهوة ف�صيح‪ ،‬و�أخرتق ال�شوارع املنده�شة باملياه‪،‬‬ ‫حماو ًال �أن �أت�صالح مع املدينة‪ ،‬يف حلظات �ضعفها وبكائها تلك‪.‬‬ ‫تلقيت ات�صال غالية‪ ،‬لي�أتيني �صوتها الرقيق عرب هاتفي اجلوال‬ ‫ُ‬ ‫ويبث‬ ‫املوزع على �سماعات ال�سيارة وك�أنه يحت�ضنني من اخللف‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫دفئ ًا تدريج ًا يف ال�سيارة التي يكت�سب جلدها برودة ال�شتاء �رسيع ًا‪.‬‬ ‫– مرحب ًا‬ ‫– �أهلني غالية‬ ‫– ك�أنك يف ال�سيارة‪� ،‬صح؟‬ ‫– نعم‪.‬‬ ‫– �إىل �أين يف هذا ال�صباح املاطر؟‬ ‫– لي�س �إىل مكان‪� ،‬أنا �أ�ستمتع بالقيادة حتت املطر‪ ،‬فقط‪.‬‬ ‫– اهلل!‬ ‫أنت؟‬ ‫– و� ِ‬ ‫جل�ست �أكتب حتت وقع املطر‪.‬‬ ‫– بعد الفجر مل �أمن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫– كم هي �أيامك مرتبة!‬ ‫– وهل يومك مبعرث؟‬ ‫�صوتك وحده يبعرث كل �شيء‪.‬‬ ‫– جداً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫�ضحكت غالية‪ ،‬وو�شو�شتني بعبارة �شكر ق�صرية‪ ،‬ثم �صمتت ب�ضع‬ ‫فالتزمت ال�صمت‬ ‫فتوقعت �أنها تبحث عن مو�ضوع للكالم‬ ‫ثوان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بدوري‪ ،‬حتى تكلمت �أخرياً‪ ،‬بعد تنحنح مفتعل‪:‬‬ ‫‪126‬‬


‫– مبا �أن �صوتي هو الذي يبعرثك‪ ،‬فما ر�أيك �أن �أعيد ترتيب يومك؟‬ ‫– كيف؟‬ ‫– تعال خذين‪� ،‬أبغى �أطلع �أ�شوف املطر‪.‬‬ ‫– و�أهلك؟‬ ‫– �أمي نائمة‪ ،‬و�أنا �أخرج يف �أي وقت مع �صديقاتي‪ ،‬ال تقلق‪.‬‬ ‫هكذا �أقود �سيارتي من دون هدف لأتعر�ض فج�أة حلادث جميل‬ ‫ورحت �أت�أمل �سيارتي‬ ‫كهذا! تفتحت يف داخلي م�سا ّم جديدة للعرق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�إن كان ينق�صها �شيء ملثل هذا اللقاء‪ .‬كل �شيء كان هادئ ًا‪ ،‬وك�أنه ينتظر‬ ‫عا�صفة كدخول غالية‪ .‬كوب القهوة الذي يف يدي كان يجعلني �أكرث‬ ‫انتباه ًا‪ ،‬و�أ�صابعي �أكرث قلق ًا‪.‬‬ ‫وقفت �أمام ذلك الباب لأول مرة‪ ،‬وتعاقبت بعدها ع�رشات املرات‬ ‫ُ‬ ‫املتفاوتة احلال بني اجلذل واجلزع‪ .‬ولهذا �أبدو م�ألوف ًا جداً لهذا الباب‬ ‫نقرت على هاتف غالية بنغمة‬ ‫احلكيم مثلما �صار م�ألوف ًا يل يف ما بعد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أملت الباب وهو ينفرج تدريج ًا وك�أنها كانت تنتظرين‬ ‫واحدة‪ ،‬ثم ت� ُ‬ ‫أطرقت من دون �سبب‪.‬‬ ‫وراءه‪ ،‬ف�‬ ‫ُ‬ ‫كانت �سماو ّية اللون‪ ،‬تلك التنورة‪� .‬شيء ما كانت حتاول غالية �أن‬ ‫تعيد بعثه يف امل�شهد‪ ،‬مثل لون ال�سماء الذي �أخفته الغيوم املرتاكمة‬ ‫بلونها الرمادي الثقيل‪� ،‬أو حاجتي �إىل م�ساحة �أو�سع �أ�ستطيع فيها‬ ‫ترتيب نف�سي‪ ،‬بد ًال من �ضيق ال�سيارة الذي يجعل غالية بهذا القرب‪،‬‬ ‫على بعد مل�سة واحدة من كفي‪.‬‬ ‫�شعرت برع�شة و�أنا �أملح تنورتها �أول ما ملحت منها‪ ،‬وهي تدلف‬ ‫ُ‬ ‫�إىل �سيارتي مثل �رشفة مزدحمة بالنوار�س ال�صغرية‪ ،‬و�أنا �أ�شعر �أن‬ ‫‪127‬‬


‫رددت حتيتها‬ ‫�أ�صداف ًا كثرية تنح�رش يف حلقي‪ ،‬ومتنعني من الكالم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تركت املطر وحده يحرك �سيارتي‬ ‫مهزوم جداً‪ ،‬ثم‬ ‫الأوىل ب�صوت‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫مثل قارب‪ ،‬بينما عقلي‪ ،‬الذي تاه فج�أةً‪ ،‬يح�سد الزجاج الذي جتلو‬ ‫�ضباب كثيف‪،‬‬ ‫عنه املا�سحات قطرات املطر‪ ،‬بينما تراكم فيه هو‬ ‫ٌ‬ ‫وغيوم‪.‬‬ ‫انتبهت تدريج ًا �إىل �أن ما يربكني هو �أين ال �أ�ستقبل غالية كما‬ ‫ُ‬ ‫تتوقعها حوا�سي‪ ،‬حتى الآن �أنا �أت�أمل تنورتها ال�سماوية ال�ضيقة‪،‬‬ ‫ثم �إ�صبعها وهي جتو�س برفق فوق �أزرار امل�سجلة‪ ،‬لرتفع �صوت‬ ‫الأغنية قلي ً‬ ‫ال مبا ينا�سب مزاجها املطري هذا اليوم‪ ،‬ويكمل طقو�س‬ ‫دخولها حياتي‪ ،‬مب�ؤ ّثرات �صوتية الئقة‪ ،‬ومل �أر وجهها بعد‪ ،‬ولهذا‬ ‫حرت كثرياً يف ا�ستقبال �أنوثة جزئية‪ ،‬تدريجية‪ ،‬تنورة‪ ،‬ف�إ�صبع‪ ،‬فيد‬ ‫ُ‬ ‫ملونة �صافحتني بخجل‪ .‬حتى �ساقها العاجية ظهرت ب�ضع ثوان �أثناء‬ ‫الركوب‪ ،‬مثل �أنبوب من ال�ضوء‪ ،‬قبل �أن تتوارى فوراً‪.‬‬ ‫بعد عبارات قليلة‪ ،‬حول �سيارتي‪ ،‬واملطر‪ ،‬وظروف خروجها‬ ‫من البيت‪ ،‬و�أ�شياء �أخرى �أ�ستطيع تذكرها كلمة كلمة‪ ،‬قالت‬ ‫بدالل خجول وهي تت�أمل كوب قهوتي الذي يتدىل من ما�سكة‬ ‫الأكواب‪:‬‬ ‫– �أبي قهوة مثلك!‬ ‫و�ضح َك ْت �ضحكة ق�صرية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫متنيت لو �أن الربازيل �أقرب قلي ً‬ ‫ال!‬ ‫ُ‬ ‫غطيت بالإيجاب رغب ًة داخلي ًة يف �أن �أحتول �إىل كي�س بن‪ .‬رغم‬ ‫ُ‬ ‫�أن رائحة الكافيني بد�أت تفوح من ج�سمي فع ً‬ ‫أ�صبحت م�أخوذاً‬ ‫ال‪ ،‬و�‬ ‫ُ‬ ‫‪128‬‬


‫تطلب مني غالية طلب ًا �صغرياً كهذا‪ ،‬و�أ�شعر �أن تلبيته‬ ‫بالطريقة التي‬ ‫ُ‬ ‫ت�أخذ �شك ً‬ ‫ال م�صريي ًا جداً‪.‬‬ ‫اجتهت نحو �شارع التحلية‪ ،‬ووقفنا عند تلك املقاهي التي يتناثر‬ ‫ُ‬ ‫وطلبت �أنا كوب ًا‬ ‫وطلبت لها قهوتها‪،‬‬ ‫العاملون فيها على الر�صيف‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�آخر‪ ،‬وابتعد النادل ليح�رض الطلب‪ ،‬وهو يهرول هارب ًا من بلل املطر‪،‬‬ ‫والتفتت غالية نحوي‪ ،‬ونظرت �إ ّ‬ ‫يل قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬ثم هم�ست‪:‬‬ ‫– ك�أنك الطفل القدمي نف�سه‪ ،‬مل تتغري‪.‬‬ ‫كانت غالية تغطي وجهها بغطاء خفيف‪ ،‬فلم �أنظر �إليها‪ ،‬تركتها‬ ‫تت�أمل جانب وجهي و�أنا �أحاول �إلقاء نظرة ال مبالية على الزجاج‬ ‫الأمامي‪ .‬ال �أدري ما العبارة املنا�سبة التي �أرد بها على �شخ�ص‬ ‫يخربين �أين مل �أتغري منذ �صغري؟ �إنها ال حتمل �إطراء‪ ،‬وال انتقاداً‪،‬‬ ‫جمرد عبارة حمايدة‪ ،‬ت�صطاد بها غالية تعابري وجهي‪ ،‬وارتباكاتي‪،‬‬ ‫حتى تتوىل زمام الكالم‪ ،‬كما تعودت يف طفولتها �أن تتوىل زمام‬ ‫اللعب‪.‬‬ ‫وبقيت �صامت ًا‪ ،‬حماو ًال �أن �أجعل مهمتها �أ�صعب‪،‬‬ ‫ابت�سمت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فعادت هي تتكلم‪:‬‬ ‫– هل تتذكر مالحمي؟‬ ‫– نعم‪� ،‬أتذكر حبة اخلال يف خدك‪ ،‬كال�سيكية جداً!‬ ‫�ضحكت غالية �ضحكتها املميزة تلك‪ ،‬وكان املطر يهادن‪،‬‬ ‫أيت يدها ترتفع‬ ‫وال�شارع خالي ًا من املارة يف هذا ال�صباح الرمادي‪ ،‬ر� ُ‬ ‫عرفت �أنها �ستك�شف عن وجهها لأراها‪،‬‬ ‫نحو خمارها الرقيق ذاك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فافتعلت ان�شغا ًال ب�سيط ًا بهاتفي اجلوال‪ ،‬ثم علقت عيناي بتنورتها‬ ‫ُ‬ ‫‪129‬‬


‫ال�سماوية‪ ،‬بعد �أن قررت �أن �أبد�أ من هناك‪ ،‬و�أ�صعد بعيني تدريج ًا �إىل‬ ‫وجهها الذي انك�شف‪ ،‬وفاح عطر طفيف من اخلمار الذي حترك‪.‬‬ ‫�شي ٌء ما يف داخلي كان يتمنى �أال �أجد غالية جميلة كما كانت‪،‬‬ ‫كنت �أرجو لو ظلت بها ملحة من �ضباب املا�ضي‪� .‬أريدها �أن تبحر يف‬ ‫ُ‬ ‫دمي بعقالنية‪ ،‬وال �أريد لأ�سطورة مفاجئة �أن تقلب هدوئي‪.‬‬ ‫�إنني عاز ٌم �أن �أجرب معها احلب‪ ،‬مكاملاتنا كانت تثري ّ‬ ‫يف الن�شوة‬ ‫منط جديد من عالقتي باملر�أة‪ ،‬و�صلة القرابة جتعل الأمر �أكرث‬ ‫لتجريب ٍ‬ ‫جاذبية بالن�سبة يل‪ .‬ولكن لو كانت جميل ًة جداً لغدا حبي م�ضطرب ًا‪.‬‬ ‫ال �أحب �أن �أقدم الكثري من التنازالت‪ .‬بع�ض اجلمال عندما ُيفرط‪،‬‬ ‫يتحول �إىل خرافة‪.‬‬ ‫ع َلت طرقات عجلى على زجاج النافذة‪ ،‬كان النادل يقف‬ ‫هناك‪ ،‬وبيده كوبا القهوة الورقيان‪ ،‬ويحاول جاهداً �أن مينع املطر من‬ ‫ملحت وجه غالية لوهلة ق�صرية‪ ،‬قبل �أن �ألتفت نحو النادل‪،‬‬ ‫بلوغهما‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�رصير متذمر لرغبة مل تكتمل‪.‬‬ ‫ويف داخلي‬ ‫ٌ‬

‫****‬ ‫ال �شيء يجعلني �أتذكر التفا�صيل العابرة �إال لعنة التذكر نف�سها‪ .‬كل‬ ‫بحبي لغالية �أ�صبحت عميقة الأثر‪ ،‬و�صعبة االنتزاع‪،‬‬ ‫احلاالت املتعلقة ّ‬ ‫طوحت به الأيام عن بعد‪ ،‬فالت�صق بظهري‪،‬‬ ‫�صبار ثقيل‪ّ ،‬‬ ‫ك�أنها جذع ّ‬ ‫ا�ستلقيت‬ ‫وبقيت �أحمل هذه الأ�شواك معي حتى �أمد بعيد‪ ،‬ت�ؤملني كلما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫على الن�سيان لأرتاح‪.‬‬ ‫‪130‬‬


‫لهذا ما زلت منذ رحلت غالية واقف ًا رغم العديد من اجلراحات‬ ‫ال�صغرية التي �أجراها و ّزان لينتزع هذه الأ�شواك ال�سيئة‪ .‬يف احلقيقة‬ ‫�أنه مل ينتزعها بقدر ما راح يقنعني ب�أن وجودها معلقة بظهري �ش�أنٌ‬ ‫ٌ‬ ‫حتولت تدريج ًا يف‬ ‫قابل لالعتياد‪ ،‬وقد �آلف بينها وبني حلمي حتى‬ ‫ُ‬ ‫عيادته و�صداقته �إىل عا�شق �سيامي‪ ،‬تلت�صق �أقداره بظهره‪ ،‬ويتجاهل‬ ‫وجودها متام ًا!‬ ‫رغم �أنها مل تكن �أول امر�أ ٍة تغ�شاين‪ ،‬وال كانت هي �آخر امر�أة‬ ‫�أغ�شاها‪ ،‬ولكن �أن تقرتب مني جداً‪ ،‬حتى �أر�سم بح�ضورها �أطول‬ ‫علي �أن �أراها‬ ‫خطة يف حياتي‪ ،‬ثم تبتعد فج�أة‪ ،‬حتى ي�ستحيل ّ‬ ‫زلت‬ ‫و�أمل�سها‪ ،‬كان حدث ًا مروع ًا بالن�سبة لرجل مثلي‪� ،‬أنا الذي ما ُ‬ ‫م�صاب ًا بفريو�س الندم بعد عالقتي بجورية‪ ،‬ولهذا �أقنعتني بع�ض‬ ‫ال�شياطني النف�سية ب�أن ما حدث يل مع غالية مل يكن �إال عقاب ًا من‬ ‫�شعرت بالفو�ضى والك�آبة‪،‬‬ ‫اهلل على ما �أكلته من ثمارها املحرمة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫و�ضاقت احلياة يف عيني كثرياً‪ ،‬حتى �صار ما بني ا�ستيقاظي ونومي‪،‬‬ ‫�شعرت ب�أين �أمار�س يف اليوم والليلة‬ ‫حالة يقظة غري �رضورية �أبداً‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫العادات نف�سها التي يقوم بها �أي حيوان ما‪ ،‬ومل �أكن �أقوم ب�أي فعل‬ ‫�إ�ضايف ي�شهد على �إن�سانيتي‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫أ�شواط غريبة من االرهاق النف�سي‪ ،‬والتلك�ؤ يف العودة‬ ‫علي �‬ ‫ّ‬ ‫مرت ّ‬ ‫كنت ك�سو ًال‬ ‫�إىل احلياة‪ ،‬و�إعادة ترتيب �ش�ؤوين الواقعية كما يجب‪ُ .‬‬ ‫�إىل حد �أين ال �أريد �أن �أغ�سل وجهي من احلزن‪ ،‬ومنغم�س ًا يف وحل‬ ‫من العاطفة ال �أريد �أن �أخرج منه‪ .‬وكان ال�شعور الت�صاعدي بالذنب‬ ‫أبوي الذي مل يتعكر منذ �سنوات طويلة‪،‬‬ ‫لأين‬ ‫ت�سببت يف تعكري �صفو � ّ‬ ‫ُ‬ ‫‪131‬‬


‫هو ما جعلني �أ�ضيق بجدران البيت‪ ،‬و�أنزع �إىل ق�ضاء �أوقات خارجه‪،‬‬ ‫كنوع من العالج الطبيعي لهذا الذنب الأعرج الذي تركته يل غالية‬ ‫بعد انف�صالنا‪.‬‬ ‫آثم وخاطئ كان يجعلني �أنفر من البقاء داخل البيت‬ ‫�شعوري ب�أين � ٌ‬ ‫الطاهر اجلميل‪ ،‬و�أنزع �إىل اخلارج‪ ،‬م�ساحة الذنوب احلرة �أ�ص ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫حيث يجدر بي �أن �أبقى بع�ض الوقت‪ ،‬حمتم ً‬ ‫ال �ضيق �أنفا�سي‪ ،‬مثلما‬ ‫نتحمل البقاء يف غرف ال�ساونا ال�ضيقة‪.‬‬ ‫�رصت �أغيب عن الوجبات‪ ،‬و�أت�أخر يف اال�ستيقاظ من النوم‪ ،‬وال‬ ‫ُ‬ ‫�أرافق �أبي �إىل امل�سجد لل�صلوات اخلم�س‪ ،‬وال �أرافقه مبكراً �إىل �صالة‬ ‫اجلمعة كما تعودنا‪ ،‬بل �أذهب وحدي لأحلق �أي م�سجد مت�أخر �أدرك‬ ‫أ�صبحت‬ ‫فيه الدقائق الأخرية من ال�صالة املزدحمة و�أعود �إىل البيت‪� .‬‬ ‫ُ‬ ‫�أ�سافر حتى يف الإجازات الق�صرية كالأعياد �إىل مدن قريبة‪ ،‬وكعادة‬ ‫يلمحا �إىل �أي عتب �أو لوم‪ .‬وهذا ما‬ ‫ّ‬ ‫والدي‪ ،‬مل يعرت�ضا مطلق ًا‪ ،‬ومل ّ‬ ‫�ضاعف �شعوري بال�سلبية‪ ،‬وعجزي عن الإتيان مبا يفرحهما حق ًا‪،‬‬ ‫ولد طيب‪ ،‬و�أنهما مل يراهنا طوال حياتهما على نطفة‬ ‫ويخربين �أين ٌ‬ ‫خائبة‪.‬‬ ‫قررت �أن �أخ�ضع جلل�سات نف�سية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫جاء هذا القرار الآن وقد انتهى عهد غالية كم�ؤ�س�سة حب كبرية‬ ‫كنت �أعمل فيها‪ ،‬وال �أدري كيف �أ�صف انتهاء عالقتنا حتديداً‪ ،‬مل‬ ‫يكن انك�ساراً‪� ،‬أو هجران ًا‪� ،‬أو �إجباراً‪ .‬كان �شيئ ًا ال تنتهي به ق�ص�ص‬ ‫ّ‬ ‫اختل‬ ‫حلم �ضبابي عميق‪،‬‬ ‫احلب عادة‪� ،‬أ�شبه ب�إفاقة مليئة بالكدر من ٍ‬ ‫يذوب‪،‬‬ ‫فيه الزمن كثرياً‪ ،‬وحتولت غالية �إىل ما ي�شبه �أفق ًا من ال�شمع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪132‬‬


‫وتتجمع قطراته حتته لتعيد بناءه من جديد ب�شكل خمتلف‪ ،‬فتتكرر يف‬ ‫ذاكرتي ب�أمناط متجددة ال تنتهي‪.‬‬ ‫كنت يف الطائرة عائداً من بريوت عندما حت�سن حظي لأول مرة‬ ‫ُ‬ ‫اخرتت اجلريدة غري املعتادة‪ ،‬وقر� ُأت ال�صفحة‬ ‫منذ وقت طويل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت دائم ًا �أجتاوز‬ ‫غري املعتادة �أي�ض ًا‪ ،‬ولكني‬ ‫و�صلت �إىل ّبر �آمن‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�صفحة الطبية من �أي جريدة ب�شكل تلقائي‪ ،‬هذه املرة قر�أتها‬ ‫بعيني مري�ض‪ .‬كانت اجلريدة تن�رش حتقيق ًا مو�سع ًا عن الطب النف�سي‬ ‫يف العامل العربي‪ ،‬بني القبول والرف�ض‪ .‬قر�أته كام ً‬ ‫و�شعرت �أين‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أجرب‪.‬‬ ‫�أ�ستطيع �أن � ّ‬ ‫بعد يومني من و�صويل �إىل الريا�ض‪ ،‬بحثت يف االنرتنت ب�شكل‬ ‫ع�شوائي عن عيادات نف�سية يف الريا�ض‪ ،‬ووقعت يف بحثي على‬ ‫عيادة و ّزان‪ ،‬مبوقعها الأنيق يف قلب الريا�ض‪ ،‬وما زال جنم حظي‬ ‫يف ال�سماء‪� ،‬إال �أن الأمر برمته كان يبدو يل مثل جتربة عابثة‪ ،‬وحماولة‬ ‫وحجزت �أقرب‬ ‫ات�صلت بهم‪،‬‬ ‫ت�رض‪ ،‬ومل يكن عندي ما �أخ�رسه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال ّ‬ ‫كنت هناك‪ ،‬مع‬ ‫موعد ممكن قبل �أن تتبخر الفكرة‪ ،‬وبعد �أيام قليلة‪ُ ،‬‬ ‫و ّزان يف مكتبه الزجاجي ذاك‪.‬‬ ‫ال�سباك �أخرياً‪ ،‬نح�شد له كل ما‬ ‫ولأننا عندما نقرر �أن نح�رض‬ ‫ّ‬ ‫هو معطل‪ ،‬وما نتوقع �أن يتعطل يف امل�ستقبل القريب‪ ،‬م�ستغلني‬ ‫ح�شدت لو ّزان �أ�شياء كانت ت�ضايقني‬ ‫وجوده الذي لن يتكرر قريب ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫رتبت يف‬ ‫وقررت �أن �أطلب منه معاجلتها تدريج ًا‪.‬‬ ‫منذ طفولتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقررت �أن �أ�ضعها �أمامه‪ ،‬وك�أين �أخترب قدرته‬ ‫ذهني عدة �شكاوى‬ ‫ُ‬ ‫و�سعيت �إليه يف مزيج من الالمباالة واالهتمام‬ ‫على لفت انتباهي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪133‬‬


‫العادي‪ ،‬ي�شبه ما نفعله عندما ن�شرتي تذكرة �سينما‪ ،‬ونتجه مل�شاهدة‬ ‫الفيلم‪.‬‬ ‫ومنذ طرقاتي الأوىل على باب عيادته‪ ،‬كان الف�ضح هو العنوان‬ ‫العري�ض جللو�سنا مع ًا يف تلك العيادة املع ّلقة مثل كرة ف�ضية يف‬ ‫�سقف الريا�ض‪ ،‬لتطل‪ ،‬ويا لل�سخرية‪ ،‬على مكان غري بعيد من‬ ‫قت ب�رصي بها يف غرفة‬ ‫بيت غالية‪ ،‬حيث �ألقتني النافذة التي ع ّل ُ‬ ‫بعيني طريق ًا ع�صبي ًا كان ي�أخذين �إليها يف‬ ‫أق�ص‬ ‫االنتظار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ورحت � ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ليالٍ قدمية‪.‬‬ ‫حبها يف عيادة طبيب ّ‬ ‫تطل على‬ ‫هكذا كان يجب �أن �أُعالج من ّ‬ ‫بيتها‪ ،‬وال �أنتبه لهذه املناكفة �إال بعد �أن �صعدت �إىل العيادة فع ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫أملت املدينة من النافذة‪ .‬ال يبدو االنكفاء الآن‪ ،‬والعودة �إىل �سيارتي‬ ‫وت� ُ‬ ‫فع ً‬ ‫منحت احلياة‪ ،‬طوع ًا‪ ،‬فر�صة‬ ‫وعلي �أن �أحتمل فكرة �أين‬ ‫ال رزين ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫�سخرية!‬ ‫ياب�س مثلي‪،‬‬ ‫كان و ّزان وعيادته �رضورتني مبهمتني بالن�سبة لعا�شق ٍ‬ ‫زلت‬ ‫زلت عملي ًا كما �أتذكر نف�سي قبل احلب‪ ،‬وما ُ‬ ‫�صحيح �أين ما ُ‬ ‫ٌ‬ ‫كنت �أحتاج �إىل دافع‬ ‫أظن �أن عندي فر�ص ًا جيدة لل�سعادة‪ ،‬ولكني ُ‬ ‫� ُّ‬ ‫خارجي‪ ،‬فكرة تتكون خارج ر�أ�سي حتى �أ�ستطيع �أن �أتذوق �إثارتها‪،‬‬ ‫و�أمتطيها نحو �أيام خمتلفة‪ .‬كل ما حاولت فعله بنف�سي ال يبدو كافي ًا‪،‬‬ ‫نف�سيتي تتجاوب مع �أفكاري �أنا بالذات‪ ،‬وك�أين فقدت‬ ‫وال يبدو �أن‬ ‫ّ‬ ‫الثقة بها‪ ،‬وو�سمتها باال�ضطراب والت�رسع‪.‬‬ ‫الكثري من القراءة‪ ،‬وال�سفر‪ ،‬والفراغ‪ّ ،‬‬ ‫قطر يف عيني تفا ؤ� ًال‬ ‫زلت غري قادر على الر�ؤية بو�ضوح‪ ،‬وا�ستيعاب‬ ‫مغب�ش ًا‪ ،‬ولكني ما ُ‬ ‫‪134‬‬


‫كنت �أحتاج �إىل هذا العن�رص املختلف الذي‬ ‫حجم ما‬ ‫ُ‬ ‫مررت به‪ُ .‬‬ ‫ي�رشح يل احلالة‪ ،‬ويرى الأ�شياء بحجمها الطبيعي‪.‬‬ ‫ورغم �أن الفكرة بدت يل موغلة يف دراميتها‪� ،‬أن �أجل�أ �إىل طبيب‬ ‫أمار�س حالة حب تقليدية على طريقة الأفالم الغربية‪،‬‬ ‫نف�سي‪ ،‬وك�أين � ُ‬ ‫ّ‬ ‫وفكرت �أن‬ ‫لت �أن �أطرق جميع الأبواب املمكنة حلل ما‪،‬‬ ‫فقد ّ‬ ‫ُ‬ ‫ف�ض ُ‬ ‫الأمر قد يكون خمتلف ًا عما �أت�صوره‪ ،‬و�إذا مل تنجح‪ ،‬فلتكن نكتة �سوداء‬ ‫�أ�ضيفها �إىل ق�صتي البطيئة‪ ،‬و�أ�ضحك وحدي‪.‬‬ ‫قررت �أن �أكون هنا‪ ،‬و�ألتقي و ّزان‪ ،‬وقرر هو يف ما بعد‬ ‫هكذا‬ ‫ُ‬ ‫�أن ي�صبح �صديقي‪ ،‬وما بني القرارين‪ ،‬كانت حياتي ب�أكملها معر�ضة‬ ‫للف�ضح‪ ،‬وو ّزان يفرغ جيوبي من كل الأدوات التي ميكن �أن �أحاول‬ ‫بها الكتمان‪� ،‬أو االنتحار �صمت ًا‪ .‬واحلقيقة �أنه غيرّ الكثري من خارطة‬ ‫ت�صوراتي عن اجلل�سات النف�سية‪ ،‬و�أريكة الرثثرة‪ ،‬وال�ساقني املمتدتني‪،‬‬ ‫وال�ضجعة املهينة تلك‪.‬‬ ‫وجل�ست على ذلك املقعد اجللدي‬ ‫عندما اقرتبت من و�سط مكتبه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بدوت متملم ً‬ ‫ال منذ الدقيقة الأوىل‪ ،‬ويف‬ ‫الأنيق‪ ،‬الكال�سيكي الطابع‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫انتظار �أن يرميني ب�أ�سئلته املتوقعة‪ :‬مم ت�شكو؟ وماذا حدث؟ وبقية‬ ‫الأ�سئلة التي تنحتني مثل �أزاميل روتينية‪ ،‬مهي�أة‪ ،‬ومعتادة ممار�سة النوع‬ ‫نف�سه من التق�صي مع كل مري�ض‪ .‬ولكن‪ ،‬على خالف ذلك ال�س�ؤال‬ ‫الذي توقعته‪ ،‬ومللته قبل �أن �أ�سمعه‪� ،‬س�ألني و ّزان عن نوع القهوة التي‬ ‫أف�ضل‪ ،‬وحاملا �أخربته‪ ،‬فوجئت به يتجه نحو ركن �صغري من مكتبه‪،‬‬ ‫� ّ‬ ‫جمهز بكل �أدوات حت�ضري القهوة‪ ،‬ثم راح ين�شغل ب�صنعها بنف�سه‪،‬‬ ‫داخل مكتبه‪ ،‬منتزع ًا من داخلي‪ ،‬بكل ا�ستحقاق‪ ،‬اعرتاف ًا �صغرياً‬ ‫‪135‬‬


‫و�شعرت بانعكا�س هذا الت�رصف على راحتي وهدوئي‬ ‫بالطم�أنينة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫و�شعوري بالألفة‪� .‬أو لنقل‪ ،‬جناتي من حماولة ت�أطري ذات طابع معني‪،‬‬ ‫ميار�سها و ّزان مع جميع املر�ضى‪.‬‬ ‫الوقت �صباح ًا‪ ،‬ونافذة مكتبه الغربية ال ينفذ منها الكثري‬ ‫كان‬ ‫ُ‬ ‫أملت كل زوايا املكتب لع ّلي �أجد �شيئ ًا ّ‬ ‫يدل على �أنها‬ ‫من ال�ضوء‪ ،‬ت� ُ‬ ‫عيادة طبيب نف�سي‪� ،‬أو �أن هذا ال�شاب يحاول �أن يبدو خمتلف ًا‪ .‬مل‬ ‫كنت‬ ‫�أكن متحم�س ًا للدخول يف �أي ٍّ‬ ‫حتد حمتمل مع نزعته لالختالف‪ُ .‬‬ ‫حمتاج ًا �إليه‪� ،‬إىل �أي فكرة ميكن �أن يلقيها يف طريقي لأ�شعر ب�أين ٌ‬ ‫رجل‬ ‫�أف�ضل حا ًال مما �أنا عليه‪ ،‬و�أحتاج �إىل �شعاع �صاف من الن�سيان يكن�س‬ ‫كل الزجاج املك�سور يف داخلي‪ ،‬والذي يلتمع‪ ،‬ويعك�س �أ�ضواء‬ ‫مررت بذكرى �شديدة الت�شبث ب�أ�شيائها‪.‬‬ ‫مزعجة كلما‬ ‫ُ‬ ‫ك�أن الريا�ض‪ ،‬عندما بد� ُأت احلب‪ ،‬كانت �صفحة من الطني‬ ‫ّعت فوقه بكل ب�صماتي‪ ،‬و�أخطائي‪ ،‬و�أ�سمائي‪،‬‬ ‫الالزب‪ ،‬و�أنا وق ُ‬ ‫ورغباتي‪ ،‬وحاجاتي العاطفية‪ ،‬ثم جاءت ال�شم�س لتجفّف هذا‬ ‫الطني الكثري‪ ،‬وحتفظ �آثاري فوقه �إىل الأبد‪ ،‬وحتيل الريا�ض برمتها‪،‬‬ ‫ت�شهد �ضدي على كل ما فعلته‪ ،‬وتذكرين به‪ ،‬يف‬ ‫�إىل منحوتة هائلة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�شوارع‪ ،‬والأزقة‪ ،‬والفنادق‪ ،‬واملطاعم‪ ،‬وال�سيارات‪.‬‬ ‫كنت �أعانيه‪ ،‬وهذا ما‬ ‫مطرقة �ضخمة من التذكر القا�سي‪ .‬هذا ما ُ‬ ‫كنت �أريده باخت�صار �أن ّ‬ ‫يعطل قدرتي‬ ‫� ُ‬ ‫أردت �أن يركز و ّزان عليه‪ُ .‬‬ ‫على تذكر التفا�صيل الط ّنانة التي متزق يومي‪ ،‬وجتعلني �أ�رشب حرب‬ ‫دمت م�ضطراً‬ ‫الك�آبة ب�شهوة مري�ضة‪ ،‬حتى يلوث فمي وكلماتي‪ .‬فما ُ‬ ‫توحدت كثرياً‪ ،‬فال بد‬ ‫للبقاء يف الريا�ض‪ ،‬وما �شاءت يل روحي التي ّ‬ ‫‪136‬‬


‫ال�شبحي املتوح�ش‬ ‫من العالج �إذن‪ ،‬وال ميكن �أن �أ�ست�سلم لهذا احلب‬ ‫ّ‬ ‫�إىل الأبد‪.‬‬ ‫يعد القهوة باهتمام �شديد‪ ،‬بينما ا�ستمرت عيناي يف‬ ‫ما زال و ّزان ّ‬ ‫الحظت خلط ًا ديكوري ًا وا�ضح ًا بني الطرازين‬ ‫م�سح املكان بهدوء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ميد عليه‬ ‫الإجنليزي والأمريكي‪ .‬مل �أجد ذلك‬ ‫الكر�سي ال�شهري الذي ُّ‬ ‫ّ‬ ‫املر�ضى �أقدامهم ويرحلون يف الكالم‪ .‬كان هناك مقعدان جلديان‬ ‫أجل�س على �أحدهما‪ ،‬والآخر يقابله بزاوية مريحة‪ ،‬وبينهما‬ ‫�أنيقان‪ُ � ،‬‬ ‫طاولة �صغرية‪ ،‬ينت�صب فوقها ٌ‬ ‫متثال من الربونز بال ر�أ�س‪.‬‬ ‫ألت و ّزان �س�ؤا ًال عابث ًا‪ ،‬وهو يجتهد‬ ‫“ملاذا التمثال بال ر�أ�س؟”‪� ،‬س� ُ‬ ‫يف جتهيز كوب القهوة‪� .‬صمت قلي ً‬ ‫غائب يف ذلك الركن‪،‬‬ ‫ال وهو‬ ‫ٌ‬ ‫فبقيت �أراقبه ّ‬ ‫لعل رداً ي�أتي من هناك‪،‬‬ ‫حتى تخيلت �أنه مل ي�سمعني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ولكنه عاد بنف�سه‪ ،‬حام ً‬ ‫ال كوبني يت�صاعد منهما البخار والرائحة‬ ‫النفاذة لقهوة ال�شك �أنها جيدة كما �أخربين �أنفي‪ ،‬وجل�س على املقعد‬ ‫ومد يل �أكيا�س ال�سكر ال�صغرية‪ ،‬وملعقة‪ ،‬ثم قال “ال �أ�ستطيع‬ ‫املقابل‪ّ ،‬‬ ‫أقدم لك الإجابة التي‬ ‫حقيقة �أن �أجيبك‪ ،‬الوقت‬ ‫مبكر جداً على �أن � ّ‬ ‫ٌ‬ ‫تنا�سب مزاجك!”‬ ‫– هل يزعجك ف�ضويل �إذا �س�ألتك �أن متنحني كل الإجابات‬ ‫املمكنة؟‬ ‫– مطلق ًا‬ ‫ابت�سمت بهدوء‪ ،‬و�أنا �أقول له‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫– �أو رمبا تعترب هذا ك�شف ًا مبكراً لأوراقك؟‬ ‫– مطلق ًا مطلق ًا‪ ،‬احلقيقة �أين مل �أفكر يف هذه الأوراق بعد!‬ ‫‪137‬‬


‫– ّ‬ ‫فكر الآن‪� ،‬س�أنتظر‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬ودعك جبينه مفتع ً‬ ‫�أطلق و ّزان ابت�سامة مرحة‪ ،‬ثم �أطرق قلي ً‬ ‫ال‬ ‫التفكري قبل �أن يجيب‪:‬‬ ‫– ح�سن ًا‪� ،‬أ�ستطيع �أن �أجيبك على اعتبار �أنك مري�ض حمبط (لأنه ال‬ ‫يحتاج �إىل ر�أ�س يف عامل م�سيرّ كهذا)‪ ،‬رمبا �إجابة �أخرى على اعتبار‬ ‫�أنك مري�ض ع�صبي (لأنه فقد ر�أ�سه يف �إحدى نزوات الفنان الذي‬ ‫�صنعه)‪.‬‬ ‫– هل هذه �إجابات كانت جاهزة من قبل؟‬ ‫– �أبداً‪� ،‬أبداً‪.‬‬ ‫ثم �أردف بعد قليل‪:‬‬ ‫– ال ميكن �أن تكون �إجابات جاهزة ل�سبب ب�سيط‪ ،‬لأنه ما من‬ ‫�أحد قبلك �أبدى اهتمام ًا بر�أ�س متثال �صغري من الربونز!‬ ‫– جميل‪.‬‬ ‫– ما هو اجلميل؟ اهتمامك بالنحت؟‬ ‫�سجل هذا يف مالحظاتك‪.‬‬ ‫– ال‪� ،‬أنا ال �أتباهى باهتماماتي‪ّ .‬‬ ‫– ما اجلميل �إذن؟‬ ‫فكرت وقتذاك �أن و ّزان‪ ،‬الطبيب النف�سي‪ ،‬ال يرتك الإجابات‬ ‫ُ‬ ‫العابرة يف و�سط الكالم من دون �أن يالحقها‪ ،‬ويتحقق من هويتها‪،‬‬ ‫وهو ي�رص على معرفة ما ر�أيته جمي ً‬ ‫ال بالتحديد‪ ،‬رغم �أنها قد ال تكون‬ ‫�أكرث من كلمة جماملة �صغرية‪ ،‬ولكنه ا�ستغلها ليعك�س تيار الأ�سئلة‬ ‫باجتاهي‪.‬‬ ‫�أجبته بارتياح‪:‬‬ ‫‪138‬‬


‫– اجلميل �أن �أجدك �شخ�ص ًا متلك �إجابات متعددة‪.‬‬ ‫– ا�سمح يل �أن �أ�س�ألك الآن‪ ،‬كجزء من اجلل�سة‪� ،‬أي الإجابات‬ ‫تروقك؟‬ ‫– ب�رصاحة‪ ،‬كل �إجابة على حدة مل تكن لرتوقني‪ ،‬ولكن عندما‬ ‫�شعرت بجمالية معينة‪.‬‬ ‫�سمعتها جمتمعة‪ ،‬ومتتابعة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أطلق و ّزان ابت�سام ًة �أخرى‪ ،‬وبدا ك�أنه �سيقطع احلوار حول‬ ‫التمثال‪ ،‬وهذا ما حدث‪:‬‬ ‫– ماذا عن قهوتك‪ ،‬كيف جتدها؟‬ ‫– ممتازة‪� ،‬شكراً لأنك �صنعتها بنف�سك‪.‬‬ ‫تعلمت‬ ‫– العفو‪ ،‬عندي يف العيادة عامل يح�رض القهوة‪ ،‬ولكني‬ ‫ُ‬ ‫هذا الت�رصف من �أحد �أ�ساتذتي الأمريكيني‪.‬‬ ‫ملوح ًا بابت�سامة‪ ،‬ثم �س�ألني وزان‪:‬‬ ‫�أوم� ُأت بر�أ�سي ّ‬ ‫– باملنا�سبة‪� ،‬إىل �أين ت�سافر غالب ًا؟‬ ‫– بريوت‪.‬‬ ‫– ماذا تفعل هناك؟‬ ‫– �أ�ستجم‪� ،‬أ�سرتخي‪ .‬ق�ضيت جزءاً من طفولتي يف بريوت قبل‬ ‫احلرب‪.‬‬ ‫– وكيف ق�ضيت وقتك هذه املرة؟‬ ‫كنت حزين ًا‪ ،‬فلم �أ�ستمتع باملدينة التي ولدت فيها‪،‬‬ ‫– هذه املرة ُ‬ ‫كما تعودت‪.‬‬ ‫– وماذا تفعل �إذا كنت حزين ًا يف بريوت؟‬ ‫�صمت قلي ً‬ ‫ال لأفكر يف �س�ؤاله‪ ،‬ثم �أجبت‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫‪139‬‬


‫اخرتعت �أحزان ًا جديدة‪.‬‬ ‫– �أعتقد �أين هذه املرة‬ ‫ُ‬ ‫– غريب تعبريك‪ .‬كيف عرفت �أنك اخرتعت �أحزان ًا جديدة؟‬ ‫– قبل �أن �أذهب �إىل هناك‪ ،‬تعر�ضت حلادث عاطفي كبري‪،‬‬ ‫�شعرت ب�أين �أكرث حزن ًا مما �أتذكره‬ ‫وحزنت‪ .‬وهذه املرة يف بريوت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عند ال�صدمة‪.‬‬ ‫– ماذا كانت ال�صدمة؟ باخت�صار طبع ًا‪ ،‬لأننا �سنعود �إليها الحق ًا‬ ‫بالتف�صيل‪.‬‬ ‫– انف�صلت عن زوجتي‪ ،‬بعد �أ�سبوع من الزواج‪.‬‬

‫‪140‬‬


‫‪V‬‬ ‫و�صلت هذه الليلة �إىل مزرعة وزان و�أمين يف الدرعية‪ ،‬فتح باب‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫�صوام‪ ،‬وابت�سم يل وه ّز ر�أ�سه كثرياً‪ ،‬وافتعل‬ ‫�سيارتي اخلاد ُم اللطيف‪ّ ،‬‬ ‫حفاوة �ساذجة وك�أنه ال يراين هنا يف كل يوم من �أيام الأ�سبوع تقريب ًا‪،‬‬ ‫ويف التوقيت نف�سه‪.‬‬ ‫فطلبت منه �أن يح�رض يل‬ ‫كنت قد و�صلت قبلهما كالعادة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كمبيوتري املتنقل من حقيبة ال�سيارة‪ .‬هرع م�صطنع ًا رك�ض ًا خفيف ًا‬ ‫لي�س �أ�رسع من امل�شي العادي ب�أي حال‪ ،‬ولكن بقدر ما تتيحه له عظام‬ ‫حو�ضه املهرتئة‪ ،‬وعاد وهو يحمله بحر�ص‪ ،‬ثم و�ضعه �أمامي‪ ،‬و�أعاد‬ ‫�إيل مفتاح ال�سيارة‪ ،‬وراح يتكلم باهتمام مفتعل‪.‬‬ ‫– �أنا �أحب القراءة يا �أ�ستاذ ح�سان‪ ،‬در�ست حتى الإعدادية‪.‬‬ ‫ولكن عندي كتب ًا يف م�رص‪.‬‬ ‫الظروف مل ت�ساعدين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�صوام؟‬ ‫– �أي كتب يا ّ‬ ‫بدا �س�ؤايل مفاجئ ًا له‪ ،‬ولكنه �أجاب من دون �أن يتلعثم‪:‬‬ ‫– نا�س كثري‪ ،‬اهلل يرحمهم‪.‬‬ ‫– العقّاد مث ً‬ ‫ال؟ طه ح�سني؟‬ ‫‪141‬‬


‫– �أيوه العقاد‪ ،‬وطه احل�سني‪ ،‬وال�شعراوي‪.‬‬ ‫– جميل‪ ،‬وماذا تقر أ� هنا؟‬ ‫وجل�س يف جواري جل�سة متوا�ضعة‪ ،‬وك�أمنا �أراد �أن يغتنم الوقت‬ ‫النادر الذي �أ�صل فيه قبل و�صول ر�ؤ�سائه و�أوامرهم ليم�ضي يف‬ ‫م�رشوع توثيق عالقته بي‪.‬‬ ‫– هنا ال�شغل كتري يا �أ�ستاذ ح�سان‪ ،‬و�أنا تعبان زي ما انت‬ ‫عارف‪.‬‬ ‫�صوام‪.‬‬ ‫– اهلل يعينك يا ّ‬ ‫– الكتب التي ر�أيتها يف �سيارتك كثرية‪� ،‬أنت مثقف‪ ،‬ما �شاء اهلل‬ ‫عليك يا �أ�ستاذ ح�سان‪ .‬تقر�أ يف كل �شيء‪.‬‬ ‫– �أي كتب يا �صوام‪ ،‬كلها كتاب واحد‪.‬‬ ‫– ال واهلل كتب كثرية يابيه!‬ ‫– �أق�صد يا �صوام �أن كلها ن�سخ متعددة من كتاب واحد‪.‬‬ ‫– وليه؟‬ ‫�صوام‪� ،‬أنا الذي كتبته‪.‬‬ ‫– لأنه كتابي يا ّ‬ ‫عاد بر�أ�سه فج�أة �إىل الوراء‪ ،‬وات�سعت عيناه بده�شة و�إعجاب‬ ‫كبريين‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫– يا ما�شاء اهلل‪ ،‬تبارك اهلل‪� .‬أنت واهلل حاجه كبرية يا �أ�ستاذ‬ ‫ح�سان!‬ ‫ابت�سمت و�أنا �أقوم بت�شغيل‬ ‫�صوام يتكلم كما يف الأفالم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وبد أ� ّ‬ ‫الكمبيوتر‪ ،‬وانتظار �إ�شارة ال�شبكة‪ ،‬وبد�أت فعلي ًا يف مطالعة بريدي‬ ‫االلكرتوين‪� ،‬أنقل ب�رصي �إليه بني وهلة و�أخرى‪ ،‬و�أومئ له عالمة‬ ‫‪142‬‬


‫الإ�صغاء‪ ،‬لعله ينهي احلوار الذي ميكنني بب�ساطة �أن �أتنب أ� بكل جمله‬ ‫وردوده‪ ،‬ولكنه بدا متم�سك ًا بهذا احلوار املفتعل‪ ،‬و�أنا غري قادر على‬ ‫مقاومة االبت�سام امل�ستمر‪.‬‬ ‫�صوام باهتمام‪:‬‬ ‫�س�ألني ّ‬ ‫– وبتكتب ايه يا �أ�ستاذ ح�سان؟‬ ‫كتبت رواية‪.‬‬ ‫–‬ ‫ُ‬ ‫– ما �شاء اهلل‪ ،‬زي جنيب حمفوظ يعني؟‬ ‫ابت�سمت لعملية الت�صنيف الب�سيطة الناجحة التي قام بها‪ ،‬و�أجب ُته‬ ‫ُ‬ ‫فوراً‪:‬‬ ‫�صوام‪ ،‬زي جنيب حمفوظ‪.‬‬ ‫– بال�ضبط يا ّ‬ ‫– ما �شاء اهلل! ما �شاء اهلل!‬ ‫�صوام‪.‬‬ ‫– لكن جنيب حمفوظ �أف�ضل بكثري طبع ًا يا ّ‬ ‫– لكن �أنت فيك الربكة بر�ضه يا �أ�ستاذ ح�سان‪.‬‬ ‫– �شكراً لك‪.‬‬ ‫– ممكن ح�رضتك بعد �إذنك طلب ب�سيط‪� ،‬أ�ستعري ن�سخة منها‪،‬‬ ‫�أقر�أها‪ ،‬و�أرجعها‪.‬‬ ‫�صوام طبع ًا‪ ،‬خذ الن�سخة لك‪ ،‬ال داعي لأن تعيدها‪.‬‬ ‫– طب ًعا يا ّ‬ ‫ناولته املفتاح‪ ،‬فهرع �إىل ال�سيارة مرة �أخرى‪ ،‬وراقبته بهدوء‪ ،‬وهو‬ ‫يقطع املمر املر�صوف بحجر يتخلله الع�شب‪ ،‬ويتجه مبا�رشة نحو‬ ‫�سيارتي التي ال �أدري ملاذا طر�أ يل وقتذاك و�أنا �أت�أملها من اخللف‪� ،‬أنها‬ ‫ال�سن‪ ،‬و�أين �أ�ستحق �سيارة جديدة؟‬ ‫ّ‬ ‫تقدمت يف ّ‬ ‫هذا املجل�س يجعلني دائم ًا �أفكر يف تغيريات كثرية‪ ،‬ها هي‬ ‫‪143‬‬


‫�سيارتي وقعت �أخرياً �ضحية لهذا التحري�ض الذي يثريه املكان‪ ،‬وقبله‬ ‫قائمة من احلاالت‪ ،‬والعادات‪ ،‬و�أ�شياء �أخرى‪ .‬حتى �أظفاري يطر أ� يل‬ ‫�أحيان ًا �أنها حتتاج �إىل تق�صري و�أنا �أقبع يف ركني املعتاد‪ ،‬لأدخل جد ًال‬ ‫معتاداً مع �أمين حول تقليم الأظفار �أمام الآخرين‪ ،‬و�إذا ما كان فع ً‬ ‫ال‬ ‫مقبو ًال‪ ،‬وهو ال يراه كذلك‪ ،‬وو ّزان ال يبايل‪ ،‬و�أنا ال يعنيني كثرياً تذمر‬ ‫دمت �أجمع عورة �أظفاري يف منديل �صغري يف نهاية‬ ‫�أمين املفتعل‪ ،‬ما ُ‬ ‫النتهيت‬ ‫تركت لأمين مهمة توجيهي ذوقي ًا‪،‬‬ ‫املطاف‪ ،‬لأين �أعلم �أين لو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب�سل�سلة طويلة من العادات الذوقية ال�صغرية غري املجدية‪ ،‬واحلياة ال‬ ‫تكافئ كثرياً هذا اللطف الزائد‪.‬‬ ‫يحدث القليل من املختلف يف هذا املجل�س الثالثي الذي يفي�ض‬ ‫فيه الكالم‪ ،‬و ُيق�ضى فيه ن�سبي ًا على �أوقات م�ؤذية من �أوقات الريا�ض‪،‬‬ ‫آمنت منذ �سنوات ب�أن املدينة‬ ‫ال ميكن تفاديها �إال يف مكان ي�شبه هذا‪ُ � .‬‬ ‫�إذا حتالفت مع ال�صحراء‪ ،‬فلن يدفع �رضيبة هذا احللف املريب �إال‬ ‫�ساكنوها الذين تخد�شهم الريح اجلافة منذ الأزل‪ ،‬ولهذا ف�إن جمل�س‬ ‫املزرعة مل يكن ذريعة لتزجية الوقت‪ ،‬بقدر ما كان حماولة لتجنب‬ ‫اخلدو�ش غري ال�رضورية يف اخلارج‪.‬‬ ‫والريا�ض التي تتمتع بقدر ال ب�أ�س به من حذق ال�صحراء وخبث‬ ‫املدن‪ ،‬حتتاج �إىل حذق مثله حتى نتكاف�أ معها يف جدل احلياة اليومي‪،‬‬ ‫و�سكنى املدينة ال�صعبة‪ .‬فاحلياة فيها ت�شبه حالة �شطرجن نف�سية م�ستمرة‬ ‫وحتمل ما تفرزه من نفايات‬ ‫ب�شكل يومي‪ ،‬ملقارعة �ضجيج املدينة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكدر‪ ،‬وال�ضيق‪ ،‬ككل املدن الكبرية التي تن�ش أ� ع�شوائي ًا يف و�سط‬ ‫ال�صحراء‪.‬‬ ‫‪144‬‬


‫آمن ُ‬ ‫ليل هذا املجل�س الذي �أحبه‪ ،‬بقدر ما هو النهار‬ ‫وبقدر ما هو � ٌ‬ ‫�شاحب وال يعجبني‪� .‬صحيح �أن للدرعية لكنة خمتلفة يف لغة‬ ‫فيه‬ ‫ٌ‬ ‫النهار‪ ،‬متيز بها نف�سها عن نهار جارتها الكبرية‪ ،‬كما هي مهمة كل‬ ‫ال�ضواحي الطيبة‪� ،‬إال �أنها تظل على قدر من ال�شظف غري طفيف‪ ،‬وال‬ ‫ت�ستطيع التخل�ص منه مهما عال نخيلها‪ ،‬وهو ما �أ�شعر به �أنا �أكرث من‬ ‫غريي‪.‬‬ ‫يف ال�صباح متتنع النخالت عن الكالم‪ ،‬و�أ�شعر ب�صمتها املتعمد‪،‬‬ ‫وك�أنها حالة خا�صة من اليوغا‪ ،‬تركز فيها جهدها على اال�ستطالة‪،‬‬ ‫لعلها تب�رص �آفاق ًا �أبعد‪� .‬أما بعد الظهرية‪ ،‬فتتنهد جميع ًا بعد �أن تفرغ من‬ ‫طقو�سها ال�صوفية املرهقة‪ ،‬وذلك هو �أ�سو أ� �أوقاتي فيها على الإطالق‪،‬‬ ‫عندما تتنهد مئات النخالت دفعة واحدة‪ ،‬يف وجهي‪.‬‬ ‫أحبذ املجيء �إىل هنا يف �أوقات نهارية‪� ،‬إال �إذا‬ ‫ولهذا مل �أكن � ّ‬ ‫ا�ضطرتني ظروف اجل�سد‪ .‬عندئذ يكون هذا ا�ضطراراً ع�صبي ًا له‬ ‫مربراته التي جتعلني �أجتاهل تعا�سته‪ ،‬فت�أتيني هذه التعا�سة تدريج ًا‪،‬‬ ‫من دون ح�سبان‪ .‬وعندما �أ�ست�أذن و ّزان �أو �أمين ملقابلة امر�أة حرمتني‬ ‫لقاءها عيون املدينة و�آذانها‪� ،‬أجدهما غري مباليني با�ستئذاين‪ ،‬ولهذا‬ ‫�رصت �أحيان ًا �أجته �إىل املزرعة مبا�رشة‪ ،‬ب�صحبة �أي امر�أة ممكنة‪ ،‬دون �أن‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ملدوغ من الن�ساء مرتني‪ ،‬ك�أ�سو أ� امل�ؤمنني‪� ،‬إال �أين‬ ‫�أ�ست�أذنهما‪ ،‬رغم �أين‬ ‫�أ�ؤمن �أن البد من ح�ضور امر�أة ما دائم ًا‪ ،‬متنحني وهم ًا �رضوري ًا بوفرة‬ ‫الن�ساء‪ ،‬و�سخافة البكاء على �إحداهن‪.‬‬ ‫رمبا كان ال�سبب يف تعا�سة املكان نهاراً هو �أنه ّ‬ ‫ظل �شاهداً على‬ ‫حماوالتي الدائبة لك�رس الطوق‪ ،‬و�إعادة توجيه املر�أة يف حياتي يف‬ ‫‪145‬‬


‫أن�ش َبت جورية وغالية �أظفارهما يف‬ ‫ب�ؤرة ج�سدية مرة �أخرى‪ ،‬بعد �أن � َ‬ ‫وخد�شتاها حتى اختلفت املالمح تقريب ًا‪.‬‬ ‫البقعة الطرية من روحي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كدت �أموت فع ً‬ ‫ال لو مل �أت�رصف بوحي هذه‬ ‫ورغم �أنهما طيبتان‪ ،‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫الفل�سفة‪.‬‬ ‫جممل معادالتي مع املر�أة انتهت بي �إىل �أربع نتائج حمدودة‪� :‬إما �أن‬ ‫�أ�ستمر يف االنحبا�س حتت قعر ذنوبي مع جورية‪� ،‬أو �أن �أذوب تدريج ًا‬ ‫من البكاء على رحيل غالية الذي ف ّتت قلبي بعد �أن تزوجنا فع ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫�أو �أن �أع�شق امر�أة جديدة بحث ًا عن �أمل منافق �آخر‪� ،‬أو‪ ،‬وهو اخليار‬ ‫أحرم احلب على قلبي‪ ،‬تارك ًا جل�سدي �أن يعبث ح�سب‬ ‫الأخري‪� ،‬أن � ّ‬ ‫ظروفه وحظوظه‪.‬‬ ‫ولأنها كانت معادالت لعينة �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬مل يكن من املمكن �أن تفرز‬ ‫نتائج �أكرث بركة من هذه‪ .‬لي�س بيدي حيلة على �أي حال‪ ،‬وال �أظن‬ ‫�أن �أحداً ي�ستطيع تف�صيل جتاربه يف احلياة كما ي�شتهيها حتى تنتهي به‬ ‫�إىل نتائج يتفق عليها القلب واجل�سد‪ ،‬ويباركها ال�ضمري‪ ،‬ويوافق عليها‬ ‫النا�س‪ ،‬وال �أ�ستطيع �أن �أختار لنف�سي حاالت من احلب جتعلني �أنتهي‬ ‫نقي ًا ووا�ضح ًا مثل �أحالم ال�ضوء‪.‬‬ ‫ال جمي ً‬ ‫ل�ست �أدري �أية حالة �ستجعلني �أبدو نبي ً‬ ‫ال يف عيونهن‪ .‬ال‬ ‫ُ‬ ‫�أظن �أن �أي احلاالت �ستخولني ذلك‪� .‬أ ّي ًا يكن‪ ،‬يبدو �أن ورقة النبل‬ ‫احرتقت فع ً‬ ‫ال‪ ،‬وال جدوى من حماولة �إحيائها‪ ،‬ومن احلماقة �أن‬ ‫�أحرتق وراءها‪ ،‬وال خيار �أمامي يف مدينة حمدودة اخليارات كهذه‪،‬‬ ‫�إال ما �أفعله الآن‪ ،‬دون �أن �أنقلب على نف�سي انقالب ًا ال �أ�ستطيع توقع‬ ‫أحتمل قلي ً‬ ‫ال من تعا�سة اختيار �أوقات غري الئقة‬ ‫نتائجه‪.‬‬ ‫وعلي �أن � ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪146‬‬


‫للجن�س يف مزرعة �شمالية‪ ،‬ونهاراً‪.‬‬ ‫النبل دائم ًا حالة قابلة لإعادة املمار�سة‪ ،‬مثل بقية الأخالق‪ ،‬ولهذا‬ ‫�أنا مرنٌ جداً يف خلعه ولب�سه مرة �أخرى كما تقت�ضي احلاجة‪ ،‬ما‬ ‫اقتنعت �أخرياً ب�أن الأمل الذي �أ�شعر به وحدي‪� ،‬س�أظل �أ�شعر‬ ‫دمت قد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫جمهور من املتعاطفني كما يحدث‬ ‫به وحدي‪ ،‬ولن ي�شاركني فيه‬ ‫ٌ‬ ‫مع �أبطال الأفالم ال�سينمائية‪ .‬فال �أحد يف الدنيا يراقبني عرب �شا�شة‬ ‫كبرية جتعل الأ�شياء جميلة مثل �شا�شات ال�سينما‪ ،‬وتنقل ما يحدث يف‬ ‫الركن احلزين‪ ،‬والوحدة الناه�شة‪ .‬وال ت�أتي الأحداث مدرو�سة �سلف ًا‬ ‫كما يفعلون‪� .‬إنني �أت�رصف يف املجهول‪ ،‬و�أمار�س حياتي يف عدم ال‬ ‫امل�شاهد‪ ،‬و�أنا‬ ‫كنت �أنا‬ ‫ي�شعر به � ٌ‬ ‫ِ‬ ‫أحد �سواي‪ ،‬فما جدوى النبل هنا �إذا ُ‬ ‫امل�شهد؟‬ ‫ال توجد رائح ٌة تفوح من اجلبني تخرب الن�ساء �أين نبيل‪ ،‬و�أ�ستحق‬ ‫الو�صال‪ ،‬ولهذا ال يعنيني الأمر منذ �سنوات‪ .‬ال يوجد ٌ‬ ‫فرق بني امر�أة‬ ‫ت�أتي من �أجل النبل‪ ،‬وامر�أة ت�أتي لغريه‪ ،‬ما دامت متار�س معي ال�ش�ؤون‬ ‫اجل�سدية نف�سها يف النهاية‪ ،‬بل �إن الأخرية ت�ستطيع �أن تكلم ج�سدي‬ ‫ب�شكل �أف�صح‪ ،‬من دون �أن تتلعثم ب�أخالقها املفرت�ضة‪.‬‬ ‫عرفت تدريج ًا �أن اجل�سد حالة فيزيائية‪ ،‬بينما الأخالق حالة‬ ‫ُ‬ ‫معنوية‪ .‬ولهذا‪ ،‬ال يبدو �أنّ لأحدهما �ش�أن ًا بالآخر‪ ،‬وال ي�ؤدي اخللط‬ ‫بينهما �إال �إىل �سل�سلة من �آالم الب�رش‪ ،‬وتعا�ستهم الدائرية املتكررة‪ ،‬وما‬ ‫دمت ال �أ�ؤذي �أحداً‪ ،‬وال �أنزل حتت م�ستوى احلد الأدنى للتعاي�ش‬ ‫ُ‬ ‫ال�سلمي مع النا�س‪ ،‬فماذا يزعج الكون عندما �أعقد �صفقة ج�سدية‬ ‫يغمر الر�ضا طرفيها‪ ،‬ونعود منها بج�سدين‬ ‫�صغرية مع امر�أة ما؟‬ ‫ُ‬ ‫‪147‬‬


‫طيبني‪ ،‬هادئني‪ ،‬و�أقدر على احلياد يف ممار�سة احلياة بعد ذلك؟‬ ‫هذه املزرعة مكانٌ جيد لفل�سفة كهذه‪ ،‬لطوق طهارة مك�سور‪،‬‬ ‫وللنبل امل�شكوك يف جدواه‪ ،‬ال�سيما بعد الظهرية هنا‪ ،‬عندما‬ ‫ُ‬ ‫متيل ال�شم�س بزاوية ملعونة يف الغرب‪ ،‬وتقدح �أ�سو�أ �أ�شعتها على‬ ‫وقت للجن�س‬ ‫الإطالق‪ ،‬وتفوح الأر�ض بحرارة الفحة‪ .‬هل هذا‬ ‫ٌ‬ ‫وقت �أكرث ما يليق بنكاح القطط‪ ،‬وعربدة‬ ‫الأنيق؟ بدا يل �آنذاك �أنه ٌ‬ ‫الغبار‪ ،‬وب�إمياءات النخيل بع�ضه �إىل بع�ض �إمياءات ك�سلى ال �أفهمها‪.‬‬ ‫ولكن لي�س من خيار‪ ،‬وال بد من ترتيب الأمور ح�سب �أولويتها‪،‬‬ ‫وجدواها‪ ،‬و�إمكانيتها‪.‬‬ ‫�أعرتف‪ ،‬معانداً كل رغباتي يف ادعاء غري ذلك‪� ،‬أن جميع الن�ساء‬ ‫أمعنت يف االت�صال بهن‪،‬‬ ‫اللواتي‬ ‫تعرفت �إليهن بعد جورية وغالية‪ ،‬و� ُ‬ ‫ُ‬ ‫علي‪،‬‬ ‫يكن �إال ّ‬ ‫مل َّ‬ ‫مق�شات قوية متعاقبة تكن�س بقية الركام الذي تركتاه ّ‬ ‫ومل تفلح يف كن�سه �أي كتابة ع�شوائية فعل ُتها على �أمل‪� ،‬أو �أي طبيب‬ ‫نف�سي‪ ،‬كو ّزان‪ ،‬جل� ُأت �إليه ذات ي�أ�س‪ .‬و�أعرتف �أي�ض ًا‪ ،‬ب�أنهن كن غالب ًا‬ ‫�إما خاويات كما ميكن افرتا�ضه يف ن�ساء ي�ستجنب ب�سهولة لأي م�ؤثر‬ ‫ج�سدي‪� ،‬أو عابثات‪ ،‬ويف العبث حكمة بالغة �أحيان ًا‪� ،‬أو خارجات‬ ‫من جتربة مريرة كتجربتي‪ ،‬بالنتائج نف�سها‪ ،‬ومبوازين جديدة للطهارة‪،‬‬ ‫والنبل وبقية الرتو�ش الأخالقية‪.‬‬ ‫وال فرق عندي تقريب ًا‪ ،‬فجميعهن‪( :‬اخلاويات‪ ،‬والعابثات‪،‬‬ ‫واحلكيمات‪ ،‬واملجربات)‪ ،‬لهن �أج�ساد مت�شابهة يف النهاية‪ ،‬وهذا‬ ‫ما يعنيني‪� .‬أولئك الن�ساء اللواتي كن �أج�ساداً حم�ضة‪ ،‬و�إغواءات حمددة‬ ‫الهدف‪ ،‬ك�رسن طوقي بالفعل‪ ،‬وجنحن ب�شكل ا�ستثنائي يف جعلي‬ ‫‪148‬‬


‫�أتوقف عن البكاء �أخرياً‪ ،‬و�أقف من جديد متزن ًا على ج�سد وروح‬ ‫ال يجور �أحدهما على الآخر‪ ،‬وتركن املكان نظيف ًا لوهلة‪� ،‬أو �شبه‬ ‫نظيف‪.‬‬ ‫هكذا يعرتف القلب عندما يكون منهك ًا �إىل حد الأنانية‪ ،‬وهكذا‬ ‫ينتف�ض اجل�سد رافع ًا قائمة باحللول املمكنة‪ ،‬الواقعية‪ .‬مل �أكن‪ ،‬كما‬ ‫يبدو من ت�رصيف‪� ،‬أفكر يف �أي انتقام‪ .‬ومن الغباء �أن �أنتقم من امر�أة‬ ‫راحلة مبمار�سة �أمر لن تعلم به‪ ،‬ولن ي�صلها نب�أه‪ ،‬ومل يكن فعل‬ ‫االنتقام ممكن ًا �أ�ص ً‬ ‫ال ما دامت غالية قد غادرت‪ ،‬وهي �أكرث انك�ساراً‬ ‫دمت باقي ًا على‬ ‫و�أمل ًا مني‪ ،‬نحو حياة �أق�سى‪ ،‬وم�صري �أ�صعب‪ ،‬وما ُ‬ ‫يقيني ب�صعوبة ان�سجامي مع اجلورية مهما طال غيابها‪ ،‬مما يلغي‬ ‫احتماالت الندم‪.‬‬ ‫كنت �أفكر فيه‪ ،‬بال ّنيات �أخرى‪ ،‬هو �أن �أعيد ت�أهيل عاطفتي‬ ‫كل ما ُ‬ ‫لتكون �أكرث فعالية‪ ،‬و�صالحية ملدينة كالريا�ض‪.‬‬ ‫وكالغيم الذي يقطع �سماء املزرعة على عجل‪ ،‬قطع ًا �صغرية‪،‬‬ ‫ومرات عجلى‪ ،‬جاءت �أكرث من امر�أة من�سية �سلف ًا �إىل هذه املزرعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وجال�ستني عدة مرات‪ ،‬و�أحيان ًا كان مقام ظهريتنا يطول حتى امل�ساء‪،‬‬ ‫ويدركنا �أمين �أو و ّزان‪ .‬مل �أكن �أفكر يف �أبعد من عالقات كهذه‪ ،‬مما‬ ‫جعل �أمين يغمزين ذات يوم ب�إ�شارة ت�شبه العهر الرجايل‪“ ،‬هل يدفعن‬ ‫لك؟”‪ ،‬كان م�ضحك ًا يف ذلك الغمز‪ ،‬وم�ؤمل ًا �أي�ض ًا‪ ،‬فلم تكن هذه‬ ‫حالة �أتخيلها لنف�سي قط‪.‬‬ ‫ولكن �أمين‪ ،‬يف احلقيقة‪ ،‬كان ينت�شي بي ك�صديق وهو يراين‬ ‫وي�رسه‬ ‫م�شتت ًا هكذا‪ ،‬مما يجعل من امل�ستبعد �أن �أنزلق يف �أمل جديد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪149‬‬


‫كنت �أدرى‬ ‫�أن يطمئن �إىل قلبي الأعرج بني احلني واحلني‪� ،‬إال �أين ُ‬ ‫منه بنف�سي‪ ،‬ولذلك مل �أفكر يف حب �آخر‪ ،‬وال يف زواج م�صطنع‪،‬‬ ‫ما دامت هناك دائم ًا امر�أ ٌة ما‪ ،‬تطعم ج�سدي �إذ يجوع‪ ،‬وتك�سو‬ ‫جلدي �إذ يعرى‪.‬‬

‫****‬ ‫كان ال�شقيقان يرفعان عنهما وعثاء املدينة يف هذه املزرعة‪ ،‬على مقربة‬ ‫ياع �أنيقة‬ ‫من جثة التاريخ النائمة يف الدرعية‪ ،‬وقد نمَ َ ْت فوق قربه ِ�ض ٌ‬ ‫لأغنياء املدينة ك�أبيهما‪ ،‬ومزارع تتجاور بع�ضها بع�ض ًا‪ ،‬بينما تطوي‬ ‫كل منها �أ�رسارها ال�صامتة‪ ،‬وترفها الهادئ‪ ،‬ورائحة النخيل ال ت�شهد‬ ‫على �شيء‪ ،‬وتختزن يف داخلها الكالم‪ ،‬والأ�سماء‪ ،‬واللحظات‪،‬‬ ‫و�أجزاء الليل‪ ،‬وبزوغ ال�شم�س ال�ساخر‪ ،‬وتزداد طو ًال‪ ،‬ويحرتق‬ ‫بع�ضها واقف ًا‪ ،‬وتنك�رس ر�ؤو�سها بال �صوت‪.‬‬ ‫ويف هذا اجلزء من املزرعة‪ ،‬ينت�صب بناءان �أنيقان من احلجر‬ ‫الأحمر‪ ،‬مل يكونا موجودين قبل �أن يعود و ّزان من �أمريكا منذ عدة‬ ‫�سنوات‪ ،‬ويقرر �أن يو ّدع ُ�سمنته �إىل الأبد‪ .‬كان وزنه يزيد على مائة‬ ‫وع�رشين كيلوغرام ًا‪ ،‬ومل �أكن �أعرفه �آنذاك‪� .‬أخربين �أنه منذ عودته‪،‬‬ ‫�أ�صيب بخيبته املتوقعة يف الريا�ض‪ ،‬كما هم العائدون بعد �سنوات من‬ ‫الإقامة يف املدن احليوية‪ ،‬فقرر �أن يق�ضي معظم وقته يف مزرعة �أبيه‬ ‫املرتفة هذه‪ ،‬خمتلي ًا ب�أوراقه و�أبحاثه‪ ،‬وهواياته القليلة‪ ،‬وال�سباحة التي‬ ‫�أعادت �إىل ج�سده الوزن الطبيعي الذي �سعى �إليه‪.‬‬ ‫‪150‬‬


‫كان البناءان ال�صغريان م�سقوفني ب�صفوف مت�ساوية من القرميد‬ ‫الأكرث دكنة من احمرار الطالء‪ ،‬والنوافذ الكبرية ق ّل�صت م�ساحة‬ ‫اجلدران �إىل �أقل من الن�صف‪ ،‬ويحويان ثالث غرف للنوم‪ ،‬وجمل�سني‬ ‫�صغريين‪ ،‬وفنا ًء �صغرياً مرتفع ًا ّ‬ ‫يطل على �رشق املزرعة‪ ،‬حيث يرتاءى‬ ‫نخيلها البعيد يف منت�صف الدرعية‪ ،‬واقف ًا يف �صف منت�صب‪ ،‬ك�أنه‬ ‫فريق من حمامي التاريخ‪.‬‬ ‫تزوج و ّزان قبل �سنة ون�صف ال�سنة‪ ،‬ومل يوفق‪ .‬قال لزوجته يوم ًا‬ ‫على م�سمع مني‪ ،‬يف مطعم كبري تناولنا فيه غداءنا مع ًا يف الريا�ض‬ ‫“الأحالم طيور بطريق يا زوجتي العزيزة‪ ،‬مت�شي بغباء‪ ،‬وال ميكن‬ ‫�أن تطري البتة‪ ،‬فال تثقي مبخلوقات كهذه”‪ ،‬و�أتذكر �أنه �أعاد العبارة‬ ‫�شممت رائحة حنق مل �أعتده منه‪،‬‬ ‫مر ًة �أخرى على غري عادته‪ ،‬ومنها‬ ‫ُ‬ ‫وت�أففت هيفاء من ذلك بزمة مق�صودة من �شفتيها املطليتني بعناية‬ ‫�شعرت ب�أن وجودي معهما كان جزءاً من‬ ‫فائقة‪ ،‬ومل تكمل النقا�ش‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ال يل ولها �أن ي�سدد وزان �إليها كالم ًا ثقي ً‬ ‫حنقها‪ ،‬وكان خمج ً‬ ‫ال كهذا‬ ‫يف ح�ضوري‪ ،‬ف�أكملنا طعامنا يف �صمت‪.‬‬ ‫مل �أكن مرتاح ًا من الأ�صل لفكرة �أن �أجل�س مع زوجته‪ ،‬لي�ست‬ ‫تلك من اجتماعيات املدينة املعتادة‪ ،‬ولكن ال مي�ضي يوم من دون �أن‬ ‫عرفني ب�أمين‪،‬‬ ‫يقربني و ّزان منه �أكرث‪ ،‬حتى �أدخلني يف ن�سغ عائلته‪ّ .‬‬ ‫تعودت ذلك‪ ،‬وها �أنا الآن‬ ‫ثم �أ�صبح يدعوين مراراً �إىل املزرعة حتى‬ ‫ُ‬ ‫حم�شور‬ ‫�أجل�س معه ب�صحبة زوجته يف �إحدى الريا�ض‪� ،‬أ�شعر ب�أين‬ ‫ٌ‬ ‫بينهما ب�شكل مزعج‪ .‬ماذا يفعل ٌ‬ ‫رجل واحد بني زوجني يف مطعم؟‬ ‫�أظن �أنها ظلت مت�شي وراء بطارقها حتى �سقطت وراءها يف‬ ‫‪151‬‬


‫املاء‪ ،‬ومل يحتمل و ّزان عقلها املبلول‪ ،‬فانف�صال بعد �شهرين من تلك‬ ‫العبارة‪ ،‬ال �أكرث‪ ،‬رغم �أنه مل يكن زواج ًا مرتب ًا كعامة النا�س‪ ،‬بل ختام ًا‬ ‫لعالقة جيدة‪ ،‬ومنفتحة‪ ،‬جمعتهما مع ًا لأ�شهر طويلة‪ ،‬منذ �أن التقيا‬ ‫يف �أمريكا‪ ،‬حتى عادا مع ًا �إىل الريا�ض‪ .‬قال يل و ّزان بعد طالقه بفرتة‬ ‫زمنية كافية لأن يخرج من فو�ضى القرار‪ ،‬ويرتب �ش�ؤونه اخللفية تلك‬ ‫يف �أماكنها املنا�سبة “وا�ضح �أنها تبي الدنيا!”‪...‬‬ ‫– ومن ال يريد الدنيا يا و ّزان؟‬ ‫– �صحيح‪ ،‬ولكنها كانت �صفيقة!‬ ‫غمزته مبت�سم ًا‪.‬‬ ‫– تعي�ش وتاخذ غريها!‬ ‫– طبع ًا‪� ،‬س�أ�ستمر يف نظرية (التجربة واخلط�أ) حتى �أح�صل على‬ ‫زوجة �سليمة!‬ ‫– �أو على الأقل قابلة للتعديل‪ ،‬مبا �أنك طبيب نف�سي‪.‬‬ ‫– ال‪� ،‬صدقني‪ ،‬كل ما در�سته يف �أمريكا غري قابل للتطبيق على‬ ‫ال�سعوديات‪ .‬بل �إين �رصت �أخاف على �صحتي النف�سية منهن‪.‬‬ ‫و�أ�ضحك من ذلك‪ ،‬رغم �أين �أعرف �أن و ّزان ال يعني ذلك‪ ،‬وما‬ ‫زالت يف قلبه جذوة وطنية خ�رضاء ال �أدري ما الذي يغذيها‪ ،‬عك�س‬ ‫�شقيقه الأ�صغر الذي �أكاد �أرى يف وجهه تذكرة �سفر جاهزة كلما‬ ‫ويتذمر كثرياً من كل ما يراه هنا‪ ،‬من ن�رشة �أخبار القناة‬ ‫نظرت �إليه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الأوىل‪ ،‬حتى �أعمال احلفر يف ال�شوارع التي دفعتنا �أخرياً �إىل �أن ن�سلك‬ ‫طريق ًا فرعي ًا �إىل املزرعة‪ ،‬مليئ ًا باحلفر املختبئة حتت الظلمة‪.‬‬ ‫هذا ال�صديق الطبيب الذي مل يح�سم �أمره معي بعد‪ ،‬يحاول �أحيان ًا‬ ‫‪152‬‬


‫�أن يقنعني ب�أين مري�ض‪ ،‬و�أحيان ًا �أخرى يقنعني بالعك�س‪ .‬قال يل مرة‬ ‫ونحن يف مطار الريا�ض‪ ،‬عائدان من م�ؤمتر طبي كان يح�رضه يف‬ ‫ارتكبت معك خط�أً طبي ًا‬ ‫النم�سا‪ ،‬ورافقته هناك عدة �أيام‪�“ ،‬أظنني‬ ‫ُ‬ ‫ما‪ ،‬مثلك يجب �أ ّال ي�شفى �أ�ص ً‬ ‫ال”‪ ،‬هذا ما عاد به بعد �أن تركته �أ�شهراً‬ ‫طويلة يفح�ص روحي الواهنة‪ ،‬املليئة بجثث البطارق‪ ،‬وهياكلها‬ ‫امل�شوهة‪.‬‬ ‫العظمية‬ ‫ّ‬ ‫وبطيئ ًا مثل �أطباء البدو‪ ،‬بد أ� يف تنظيفي‪ ،‬ويف منت�صف الطريق‬ ‫قال “�أنت ال تريد �أن ت�ستجيب!”‪ ،‬وقلت له من دون مالمح “و�أنت‬ ‫ال تريد �أن مت ّلني‪ ،‬كيف ميكنك �أن تكن�س ال�صحراء من الرمال يا‬ ‫و ّزان؟”‪ .‬ولكنه ا�ستطاع كن�س ال�صحراء كما يبدو‪ ،‬وال �أدري هل‬ ‫كانت �صداقته‪� ،‬أم �شهادته‪ ،‬هي التي �ساعدتني �أكرث‪ ،‬ف�أنا ال �أتذكر �أين‬ ‫التقيته يف عيادته تلك �أكرث من مرات قليلة‪ ،‬ثم �أ�صبحت هذه املزرعة‬ ‫تداركت‬ ‫ال�شمالية املحببة م�شفاي ال�صغري‪ ،‬وحمطة �إعادة الت�أهيل التي‬ ‫ُ‬ ‫فيها �شخ�صيتي‪ ،‬قبل التف ّتت الأخري‪.‬‬ ‫“�أعرف الكثري مما تقوله يل‪ .‬هو م� ٌ‬ ‫ألوف عندي قبل �أن تبوح‬ ‫مررت بظروف م�شابهة‪،‬‬ ‫طبيب نف�سي‪ ،‬ولكن لأين‬ ‫به‪ ،‬لي�س لأين‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وهذا لي�س غريب ًا هنا‪ ،‬فاحلب يف الريا�ض قلما يتغري لونه وطعمه‪.‬‬ ‫كلنا من ّثل امل�شهد ال�سينمائي الركيك نف�سه‪ ،‬وال تختلف الأدوار‪”...‬‬ ‫اعتقدت �أنها حيلة بي�ضاء مدرو�سة ميار�سها‬ ‫ومل �أ�صدقه بادئ الأمر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بنيات طيبة حتى يت�س ّنى له �أن يفتح قلبي على‬ ‫الطبيب النف�سي ّ‬ ‫م�رصاعيه‪ ،‬ولكن حكى يل الكثري بعد ذلك‪.‬‬ ‫“العيادات النف�سية يف الريا�ض ال ت�ستقبل الكثري من الرجال‬ ‫‪153‬‬


‫الع�شاق‪ ،‬بقدر ما تزدحم �أحيان ًا بالكثريات اللواتي ك�رسهن الرجال‬ ‫بطريقة �أو ب�أخرى‪ .‬مطلقات‪ ،‬وعا�شقات‪ ،‬ومغت�صبات‪ ،‬وم�ضطهدات‬ ‫�أحيان ًا‪ ،‬ومدلالت ب�شكل مفرط �أحيان ًا �أخرى‪ ،‬كلهن ينتهني �إىل عيادة‬ ‫نف�سية‪ .‬ولأنها عيادة خا�صة‪ ،‬ال يق�صدين من يعانون �أمرا�ض ًا نف�سية‬ ‫�أو عقلية �شديدة‪ ،‬بل يتجهون غالب ًا �إىل امل�شايف احلكومية‪ .‬معظم‬ ‫احلاالت التي متر بي حاالت ك�آبة ت�سببها عوامل كثرية‪ ،‬مثل طبقية‬ ‫املجتمع‪ ،‬وال�شعور بالهوان وال�صغارة‪ ،‬وحماوالت تطوير الذات”‪.‬‬ ‫ثم يرفع �إ�صبعه ال�سمينة‪ ،‬وي�شري �إىل قلبي مبا�رشة وهو يبت�سم ابت�سامة‬ ‫“�صدقني‪� ،‬أنت �أول رجل يدلف �إىل‬ ‫على و�شك التحول �إىل �ضحكة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫عيادتي ويقول‪� :‬أنا عا�شق!”‬ ‫– حق ًا؟ كان خط�أي �إذن �أين ق�صدتك و�أنت بدون خربة!‬ ‫– بل �أعتقد �أنك ق�صدت الطبيب النف�سي الذي كان عا�شق ًا مثلك‪.‬‬ ‫لقد جلبتك رياح طيبة‪.‬‬ ‫– عا�شق‪ .‬جميل‪ ،‬متى كان هذا؟‬ ‫– ال جميل وال حاجة‪ ،‬كان هذا قبل �سفري �إىل �أمريكا‪ ،‬يف ال�سنة‬ ‫ما قبل الأخرية من الطب‪ ،‬ووزين تقريب ًا �ضعفا ما هو عليه الآن!‬ ‫– �أكمل‪� ،‬إين �أ�سمع‪ ،‬يعجبني �أن نتبادل الأدوار ولو لدقائق‪.‬‬ ‫ويبت�سم و ّزان‪ ،‬وتربق عيناه بوم�ضات كهربائية متتابعة من‬ ‫الذكريات‪ ،‬ثم تتعلقان بنقطة وهمية عرب النافذة‪:‬‬ ‫– قلت لك �إن �أدوار الع�شق ال تختلف كثرياً يف الريا�ض‪ ،‬ولكني‬ ‫ع�شته ب�أبط أ� حاالته‪ ،‬تلك التي ت�رسق كل يوم قطرة من دمك‪ ،‬من دون‬ ‫�أن تنتبه‪ .‬وقعت يف حب ملعون‪ ،‬بني رجل بدين جداً‪ ،‬وفتاة ال تعرف‬ ‫‪154‬‬


‫�أ�ص ً‬ ‫ال �أي �شيء عني‪ ،‬كان حب ًا من طرف واحد‪ ،‬وهي ابنة عمتي‪.‬‬ ‫– ‪.................‬‬ ‫جمرات يف‬ ‫– هل تعرف مقطع الأطالل ذاك “‪...‬والثواين‬ ‫ٌ‬ ‫دمي؟”‪ .‬بو�سعك �أن تتخيل حالة من الأمل كانت تدفعني �إىل �أن �أعيد‬ ‫�سماع هذا املقطع الكلثومي احلارق‪ ،‬ع�رشين‪ ،‬خم�سني‪� ،‬أو �سبعني‬ ‫مرة! يدي معلقة على زر الإعادة‪ ،‬بينما دمي بالفعل ي�ست�شعر كيف‬ ‫ميكن �أن ت�سافر اجلمرات يف جمراه املعتاد‪.‬‬ ‫– �أمل تفكر يف �أن تخربها مث ً‬ ‫ال؟‬ ‫– البدناء ال يفكرون بهذه اجلر�أة يا عزيزي!‬ ‫�ضحكت‪ ،‬و�أردف و ّزان‪:‬‬ ‫– هذه العالقة الق�صرية‪ ،‬يف املرحلة احلا�سمة قبل تخرجي‪ ،‬هي‬ ‫الطب النف�سي‪ .‬عندما تكون طبيب ًا على‬ ‫التخ�ص�ص يف‬ ‫التي دفعتني �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التخرج‪ ،‬تنتابك ثقة غبية ب�أنك ت�سيطر على ج�سدك مبا �أنك‬ ‫و�شك‬ ‫ّ‬ ‫حيث �أجهل‪.‬‬ ‫�رصت تعرفه �أكرث‪ ،‬ولهذا‬ ‫�شعرت ب�أن الأمل وخزين من ُ‬ ‫ُ‬ ‫التقيت عدة �أطباء نف�سيني و�شجعوين على التخ�ص�ص‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم �سكت قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬قبل �أن يغمزين وي�ضحك‪:‬‬ ‫– من ح�سن حظك طبع ًا!‬ ‫– هل كان من ح�سن حظك يا ترى؟ هل �ساعدت نف�سك؟‬ ‫جتاوزت هذا احلب يف اليوم الثاين على و�صويل �إىل‬ ‫– �أعتقد �أين‬ ‫ُ‬ ‫أجواء خمتلفة فقط‪ .‬ال�سفر على‬ ‫�أمريكا‪ .‬بكل ب�ساطة‪ ،‬لأين ُ‬ ‫أحتاج � َ‬ ‫كنت � ُ‬ ‫حب‪ ،‬مثل الأدوية احلرجة‪ ،‬قد ي�شفيك‪ ،‬وقد يرديك‪ .‬بع�ض املدن‬ ‫ّ‬ ‫حتمل يف �شوارعها قوة ال�شفاء‪ ،‬وبع�ضها مدنٌ �سامة فع ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫‪155‬‬


‫– �أفهم هذا جيداً‪ ،‬بريوت كانت من املدن ال�سامة‪ ،‬يجب �أ ّال‬ ‫تزورها و�أنت على ع�شق!‬ ‫عندما كان و ّزان ي�صنف املدن هكذا‪ ،‬وك�أنها ب�ضاعة مركومة يف‬ ‫تذكرت كالمنا �إبان لقاءاتي الأوىل يف عيادته‪ ،‬ونحن نتكلم‬ ‫�صيدلية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كمري�ض وطبيب‪ ،‬بعيداً عن ب�ساط ال�صداقة الذي �صار �أكرث �أريحية‬ ‫الآن‪� .‬أخربته �أين كنت يف بريوت‪ ،‬كعادتي يف كل �إجازة‪ ،‬ولكني‬ ‫وعدت �إىل الريا�ض تارك ًا �أبي و�أمي‬ ‫قطعتها يف منت�صفها هذه املرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يكمالن الإجازة من دوين‪.‬‬ ‫– كيف ق�ضيت وقتك فيها هذه ال�سنة؟‬ ‫كنت �أكتب‪� .‬أحاول �أن �أكتب بالأحرى‪.‬‬ ‫– ُ‬ ‫– هل ميكن �أن �أقر أ� بع�ض ما تكتبه‪.‬‬ ‫– طبع ًا‪ ،‬كله من�شور يف موقع على الإنرتنت‪.‬‬ ‫– هل �س�أح�صل على عنوانه؟‬ ‫– بالت�أكيد‪.‬‬ ‫وكتبت له العنوان على بطاقة �صغرية من بطاقاته ال�شخ�صية‪ ،‬فت�أمله‬ ‫ُ‬ ‫قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫– �إذن‪ ،‬انتهت جل�ستنا يا عزيزي ح�سان‪ .‬يجب �أن �أقر�أ ما يف‬ ‫املوقع �أو ًال‪ ،‬ثم �أت�صل بك لنحدد جل�سة �أخرى‪.‬‬ ‫– ولكن مل جنل�س �أكرث من ع�رش دقائق‪.‬‬ ‫أف�ضل �أن‬ ‫كنت م�ستعداً جلل�سة �أطول‪ .‬ولكني � ّ‬ ‫– �أعرف‪ .‬حتى �أنا ُ‬ ‫�أقر�أ لك �أو ًال‪ ،‬ثم نتكلم‪� .‬س�ألغي هذه اجلل�سة من �سجل اجلل�سات‪،‬‬ ‫و�ستكون جل�ستنا القادمة هي الأوىل‪.‬‬ ‫‪156‬‬


‫ر�شفت الر�شفة الأخرية من قهوتي والفنجان ما زال ملآن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وهم�ست ب�ضيق‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫– وهو كذلك!‬ ‫و�أمام باب امل�صعد‪ ،‬قال يل‪:‬‬ ‫– �أنتم الك ّتاب‪ ،‬جتعلون مهمتي �أحيان ًا �سهلة‪.‬‬ ‫راقب ابت�سامتي غري الرا�ضية بعني خبرية‪ ،‬ثم �أردف قبل �أن ينغلق‬ ‫باب امل�صعد‪:‬‬ ‫– و�أحيان ًا �أخرى‪ :‬م�ستحيلة‪.‬‬ ‫مل ت�ستمر هذه اجلل�سات الر�سمية �أكرث من خم�سة �أ�شهر تقريب ًا‪،‬‬ ‫قبل �أن يدعوين وزان �إىل م�ستقره املف�ضل‪ ،‬املزرعة‪ ،‬وهناك �أخذت‬ ‫كنت �أخرج له �أمل ًا �صغرياً من قلبي‪ ،‬وكان‬ ‫اجلل�سات طابع املنادمة‪ُ .‬‬ ‫يخرج �أمل ًا �شبيه ًا‪ ،‬ولأنه يكربين بعدة �سنوات‪ ،‬كان عنده �آال ٌم كافية‬ ‫أحت�سن تدريج ًا‪ ،‬من دون �أن �أ�ستيطع �أن‬ ‫دائم ًا‪ .‬هكذا‬ ‫ُ‬ ‫�شعرت ب�أين � ُ‬ ‫�أحدد النقطة املعينة التي قلبت انحداري �إىل متا�سك و�صعود معاك�س‪.‬‬ ‫هل كان و ّزان وحده‪ ،‬وتلك اجلل�سات النف�سية التي مي�سحني فيها‬ ‫بكالمه الهادئ من دون �أن �أنتبه �أ�ص ً‬ ‫ال �إىل كونها جل�سة نف�سية؟ �أم‬ ‫وقررت �أن �أتوقف عنه؟ �أم �أن هناك‬ ‫مللت احلزن فقط‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أنني �أنا الذي ُ‬ ‫عوامل �أخرى م�ؤثرة‪ ،‬ك�أمين مث ً‬ ‫عرفني به‬ ‫ال؟ هذا ال�صديق املرح الذي ّ‬ ‫وزان يف ما بعد‪ ،‬والذي يتقاطع مع و ّزان يف �أقل الأ�شياء‪ ،‬وي�شتبك‬ ‫معي يف الكثري منها‪.‬‬ ‫كان �أكرث �صخب ًا من �أخيه‪ ،‬و�أكرث حدة يف معاقبة الأ�شياء التي ال‬ ‫تتفق مع عقله الهند�سي امل�شاغب‪ ،‬وعندما عاد من لندن بعد رحلة‬ ‫‪157‬‬


‫ق�صرية لدرا�سة اللغة‪ ،‬وجد يف مكث �أخيه الأكرب يف املزرعة فكرة‬ ‫جيدة لتطهري نف�سه من نوازع العودة مرة �أخرى �إىل ال�سفر‪ ،‬بعد �أن‬ ‫ّ‬ ‫تخرجه يف كلية الهند�سة يخرتع لأبيه كل مرة حجج ًا جديدة‬ ‫ظل منذ ّ‬

‫المتطاء الطائرة‪ ،‬واخلروج من الأفق العربي ب�أكمله‪ ،‬وملا �ضاق �أبوه‬ ‫ذرع ًا بالدورات التدريبية الوهمية‪ ،‬ودرا�سة اللغة االجنليزية‪ ،‬وغريها‪،‬‬ ‫قال له بهدوء‪“ :‬يا �أمين‪ ،‬قل �أنك تبي ت�صيع �شوي‪ ،‬وب�س”‪ ،‬و�أمين نف�سه‬ ‫الفج‪،‬‬ ‫م� ٌ‬ ‫�رصح به �أبوه بهذا ال�شكل ّ‬ ‫ؤمن ب�أن ّنياته مل تختلف كثرياً عما ّ‬ ‫ولكنه �شعر ب�أن �أباه احلليم على و�شك �أن يغ�ضب‪ ،‬فعاد �إىل الريا�ض‬ ‫بعدة لغات مفككة‪ ،‬جناها من الدورات املفتعلة التي يختار بها �شكل‬ ‫املدينة التي ي�شتهيها‪ ،‬ومل يبق منها �إال التحيات‪ ،‬وبع�ض الكلمات‬ ‫ال�سيئة‪ ،‬بالفرن�سية والإ�سبانية‪.‬‬ ‫وعندما قرر �أن يتوقف عن �إدمان املطارات‪ ،‬الذي �شجعه عليه‬ ‫ح�ساب �أبيه املفتوح‪� ،‬أطلق بع�ض التحديثات يف املزرعة‪ ،‬و�أعاد‬ ‫جتهيزها ب�شبكة من خمتلف الأجهزة التي جعلت املكان مريح ًا‪،‬‬ ‫وكوني ًا ومليئ ًا بالأزرار ابتدا ًء بالنظام التلفزيوين احلديث جداً‪ ،‬وعدة‬ ‫�أطباق ف�ضائية‪� ،‬أحدها ل�شبكة االنرتنت فقط‪ ،‬كما �أنه �أفرد للمكان‬ ‫�صوام‪ ،‬امل�رصي الب�سيط الذي يهتم بنظافة املكان‪،‬‬ ‫خادمني‪� ،‬أحدهما ّ‬ ‫هندي‪ ،‬كان يعمل طباخ ًا يف خطوط الطريان املاليزية‪.‬‬ ‫والآخر‬ ‫ّ‬ ‫و�صوام حتديداً ق�ضى يف هذه املزرعة ثالث ع�رشة �سنة‪ ،‬عرف فيها‬ ‫ّ‬ ‫حكاية كل نخلة‪� ،‬أو �شجرة كانت �أو بقيت‪ ،‬وكان قد تعر�ض قبل عدة‬ ‫�سنوات حلادث خطري عندما �سقط عن �إحدى النخالت التي حاول‬ ‫�أن يلتقط متراتها الرطبة‪ ،‬و�أ�صيب بك�سور يف الظهر واحلو�ض‪ ،‬ومل‬ ‫‪158‬‬


‫يعد يقوى بعد ذلك على العمل ال�شاق‪ ،‬فقرر والد و ّزان �أن يعفيه من‬ ‫ذلك‪ ،‬فا�ستخل�صه �أمين لنف�سه‪ ،‬و�أبقاه مراوح ًا بني املبنيني الأحمرين‬ ‫اللذين �سميتهما يوم ًا يف غمرة جذل و�سخرية‪ :‬قرطبة وغرناطة‪.‬‬ ‫�أما ذلك اخلادم الهندي‪ ،‬ذو ال�شعر املن�سدل على جبينه بكثافة‪،‬‬ ‫فلطاملا بدا وك�أنه ذو جمد تليد‪ .‬كانت لغته االجنليزية اجليدة التي‬ ‫اكت�سبها من عمله يف خطوط الطريان املاليزية جتعله يبدو �أعلى �ش�أن ًا‬ ‫من خادم‪� ،‬إال �أنه قانع مبا يجري عليه هنا‪ ،‬وب�ساعات العمل القليلة‬ ‫يحبه من الطبخ‪ ،‬و�إعداد القهوة وال�شاي يف‬ ‫التي ميار�س فيها ما ّ‬ ‫مواعيد متفرقة‪ .‬كان ا�سمه احلقيقي راجن‪ ،‬ولكنه مذ �أتى وهو ي�سمي‬ ‫نف�سه �أحمد‪ ،‬مفتع ً‬ ‫ظن �أنه �سيقيه عوادي الظلم يف بلد‬ ‫ال ا�سم ًا �إ�سالمي ًا ّ‬ ‫ولكن انتهاءه �إىل هذه املزرعة الآمنة‬ ‫�إ�سالمي ال يعرتف بهندو�سيته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بعد عدة �أعمال‪ ،‬جعله يتخ ّلى تدريج ًا عن ا�سمه املزعوم‪ ،‬وتعاوده‬ ‫الثقة بدينه‪ ،‬وعندما دار بينه وبني �أمين نقا�ش ق�صري ذات ليلة على‬ ‫هام�ش برنامج عن غاندي ظهر يف التلفزيون‪ ،‬بدا لنا وك�أنه ا�ستيقن‬ ‫�أخرياً‪� ،‬أن ال خوف عليه هنا يف هذه املزرعة من نزعة دينية ما‪ ،‬فخلع‬ ‫ثوبه وطاقيته املثقّبة تلك‪ ،‬وعاد �إىل بنطاله وقم�صانه تدريج ًا‪.‬‬ ‫نحن اخلم�سة كنا ّ‬ ‫ن�شكل �أطراف امل�شهد الليلي يف ذلك املكان‪،‬‬ ‫قلما يزورنا �أ�صدقاء �آخرون‪ ،‬وكثرياً ما يق�ضون وقت ًا ق�صرياً ويرحلون‪،‬‬ ‫وقد �ضاقوا ذرع ًا بهدوء املكان‪ ،‬وت�شابه جدولنا الليلي‪ .‬بينما كنا نحن‬ ‫نكاد �أن نقيم هنا‪ ،‬نلتقي يف � ّأول امل�ساء‪ ،‬ونرتك املكان تباع ًا عندما‬ ‫ينت�صف الليل‪ ،‬وقد ذرفنا تدخين ًا‪ ،‬وترف ًا‪ ،‬ون�سيم ًا‪ ،‬و�أفالم ًا‪ ،‬ون�رشات‬ ‫�أخبار‪ ،‬و�ألعاب ًا ورقية خفيفة‪ ،‬والكثري من الكالم املفيد‪ ،‬وغري املفيد‪.‬‬ ‫‪159‬‬


‫ق�ضيت عامني حتى الآن‪ ،‬على الوترية نف�سها‪ .‬وكانت نقاهة ال تن�سى‬ ‫ُ‬ ‫مت �أن �ألتقيهم هنا‪ ،‬يف املزرعة‬ ‫لقلبي الذي كان مري�ض ًا جداً‪ .‬تع ّل ُ‬ ‫خمب�أة بحذق ل�ص �آثار ماهر‬ ‫التي ك�أنها قطع ٌة م�رسوقة من الأندل�س‪ّ ،‬‬ ‫يف ال�شمال الغربي من الريا�ض‪ ،‬حيث ال ميكن �أن يفت�ش عنها �أحد‪.‬‬ ‫البنيان الأحمر القليل‪ ،‬وال�شجر الأخ�رض الذي ي�سيل بات�ساع املكان‪،‬‬ ‫و�ضد ّنيات ال�صحراء‪ ،‬والن�سائم التي تعرب بال ا�ستئذان‪ ،‬والهدوء الذي‬ ‫ير�صد كل �شيء‪ ،‬ويتجاهله‪ ،‬وخطوات اخلدم القانعني الب�سطاء‪،‬‬ ‫واملجل�س الذي ال ي�شغله �سوانا نحن الثالثة غالب ًا‪ ،‬يف العامني‬ ‫ّ‬ ‫امل�سطحني اللذين تبددا بهدوء‪ ،‬واختفيا يف ف�ضاء العمر‪ ،‬مثل البخار‬

‫الذي تبدده �أفواهنا يف الليايل الباردة‪.‬‬ ‫كان و ّزان يجل�س دائم ًا يف ركنه الركني‪ ،‬يتعامل مع كتبه وجهاز‬ ‫الكمبيوتر بحميمية‪ ،‬و�أمين يهتم دائم ًا بتفا�صيل ترف املكان‪ ،‬من قناة‬ ‫التلفزيون‪ ،‬حتى نكهة القهوة‪ ،‬وحجم الن�سيم امل�سموح له بالدخول‪،‬‬ ‫وخطوات اخلدم‪ ،‬ونوع ال�سجاد‪ ،‬ونوع الطعام‪ ،‬بدقة املهند�س الذي‬ ‫ال ميار�س هند�سته �إال يف املزرعة‪ ،‬و�أنا �أحاول �أن �أبدو خليق ًا بالبقاء‬ ‫هنا‪ .‬هذا الو�ضع الثالثي ا�ستمر وفق التفا�صيل نف�سها تقريب ًا‪ ،‬مع‬ ‫اختالف الرتو�ش‪ .‬ماذا ميكن �أن يفعل بك الليل يف الريا�ض �أف�ضل من‬ ‫هذا؟ وكيف ميكن �أن تكون �أكرث حنكة يف ا�ستخدام الليل مما نفعله‬ ‫هنا؟‬ ‫كل املدينة الكبرية التي نرتكها وراءنا ّ‬ ‫ي�شذبها هذا الليل‪ ،‬وهذا‬ ‫املكان يبدو وك�أنه ركنها الذي ت�أوي �إليه لي ً‬ ‫ال‪ ،‬لتتوب وتبكي من‬ ‫وح�ش طيب القلب‪ ،‬وي�سمع النخيل �أنينها‪،‬‬ ‫ذنوب نهارها‪ ،‬وك�أنها‬ ‫ٌ‬

‫‪160‬‬


‫واعرتافها وب ّثها‪ ،‬وهي تغ�سل �ضمريها وتن�رشه على �سعفاته ليجف‬ ‫حتى �صباح جديد‪ .‬كيف �إذن ال ي�ستعمر الأغنياء املكان �ضيع ًة تلو‬ ‫�ضيعة‪ ،‬ويحتلون قطع ًا من هذا الدير املظلم الهادئ من املدينة‪ٌ ،‬‬ ‫كل‬ ‫ح�سب حجم �أمواله‪ ،‬وحجم �أخطائه‪ ،‬ورغبته يف غ�سل �ضمريه يف‬ ‫اله َدن الليلية‪ ،‬يف مغ�سلة ال�ضمائر هذه‪ ،‬الدرعية؟‬ ‫ُ‬ ‫�صوام يهرع �إىل الباب الكبري‬ ‫ُ‬ ‫خرجت من �أفكاري عندما ر�أيت ّ‬ ‫بعد �أن ر�أى �أ�ضواء �سيارة تت�رسب من حتته‪ ،‬وعرف بالت�أكيد من لون‬ ‫متورمتني‪ ،‬مليئتني‬ ‫ال�ضوء الأبي�ض‪� ،‬أنه �أمين‪ .‬وبالأم�س‪ ،‬كانت وجنتاه ّ‬ ‫بالبثور التي ثارت يف وجهه فج�أة �إثر ح�سا�سية الربيع‪ ،‬وكان ي�ضع‬ ‫على كل برثة نقطة بي�ضاء �صغرية من دواء لزج‪ ،‬وبدا يل وجهه �آنذاك‬ ‫توت عجفاء‪ .‬ومل �أتوان البتة عن �إخباره بذلك‪ ،‬كما مل‬ ‫مثل �شجرة ٍ‬ ‫يكن ل�سانه ليتوانى عن ذلك لو كنت مكانه‪.‬‬ ‫أحبه كثرياً‪ ،‬لأنه ميار�س معي مالكمة كالمية عنيفة‪ ،‬تخرج مني‬ ‫� ّ‬ ‫ودر�ست معه يف‬ ‫كل الأفكار املنهكة مع العرق‪ .‬كان يف مثل عمري‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫جامعة امللك �سعود ومل �أره فيها �إطالق ًا‪ ،‬حتى جاء �أخوه ليعرف �آخر‬ ‫مر�ضاه‪ ،‬ب�أخيه الأ�صغر‪ .‬وكم كانت عالقة م�شوبة بال�شك حينذاك‪.‬‬ ‫– م�ساء اخلري‪ ،‬و�أرجو �أن تن�شغل ب�أي �شيء عن مراقبة وجهي‪.‬‬ ‫– ال �أ�ستطيع!‬ ‫– هل تعلم �أن احل�سا�سية مر�ض ُمعدٍ ينتقل بالتهكم؟‬ ‫ابت�سمت‪ ،‬و�س�ألته بهدوء‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫– نعم �أعلم ذلك‪ .‬لعلك �أح�سن حا ًال؟‬ ‫– قلي ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫‪161‬‬


‫ورمى على الأر�ض حزمة جرائد وجمالت جديدة‪ ،‬ثم خلع‬ ‫�شماغه‪ ،‬وطواه بكل عناية‪ ،‬وو�ضع ال�شماغ يف مكانه املعتاد فوق‬ ‫الأريكة التي ال ي�شغلها �إال �شماغ �أمين الالمع‪� .‬س�ألني وهو يجل�س‪:‬‬ ‫– كيف �أنت؟‬ ‫– ما�شي احلال‪.‬‬ ‫– و�صلت كتبك؟‬ ‫– معظمها‪.‬‬ ‫– ماذا �ستفعل بها؟‬ ‫– �س�أوزعها يف امل�ساجد‪.‬‬ ‫�ضحك �أمين‪ ،‬ثم راح يلم�س وجهه ب�أطراف �أ�صابعه‪ ،‬وهو يفكر‬ ‫مباذا يعود‪ ،‬وك�أن �ضحكته املفاجئة مزقت �شيئ ًا من تلك البثور التي‬ ‫بد�أت جتف‪.‬‬ ‫– �أمل تكت�شف ال�رس بعد؟‬ ‫ورحت �أقر�أها من اخللف‪،‬‬ ‫�سحبت واحدة من اجلرائد املطوية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫و�أنا �أجيبه‪:‬‬ ‫– �إذا اكت�شفته �أنت‪� ،‬أكون ممنون ًا لك‪.‬‬ ‫– �صديقة �سابقة‪� ،‬أحبت �أن تقدم لك هدية مبتكرة‪ ،‬وتن�رش‬ ‫كتاباتك املبعرثة يف االنرتنت‪.‬‬ ‫جرب مث ً‬ ‫ال‪ :‬زوجة �سابقة‪.‬‬ ‫– ليتك ّ‬ ‫تعدل من �صفتها‪ّ ،‬‬ ‫– طيب ليه ما تكلمها‪ ،‬وت�س�ألها؟‬ ‫– ما يحتاج‪.‬‬ ‫– ليه ما يحتاج؟‬ ‫‪162‬‬


‫– لأين مو مب�سوط‪ ،‬ولو كلمتها راح �أزعلها‪ ،‬و�أزعل �أنا‪ ،‬و�أنا ما‬ ‫�أبي وجع را�س!‬ ‫ير�ش جملة من الأوامر والرتتيبات على �صوام‬ ‫نه�ض �أمين‪ ،‬وراح ُّ‬ ‫�صوام قلي ً‬ ‫وانهمكت �أنا بقراءة اجلرائد‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وراجن‪ ،‬ثم �أخذ ي�ضحك مع ّ‬ ‫الكثرية التي تبعرثت �أمامي‪ ،‬ومل مي�ض وقت طويل حتى كان و ّزان هو‬ ‫الآخر يدخل املزرعة‪ ،‬م�شغو ًال مبكاملة هاتفية‪ ،‬ويحمل يف يده هاتفه‬ ‫ّ‬ ‫احتل ركنه من املجل�س وهو ال يزال‬ ‫الآخر‪� .‬ألقى التحية بهدوء‪ ،‬ثم‬ ‫يتكلم‪ ،‬ورحت �أالحقه بعينني با�سمتني وهو مي�سح عرق جبينه‪ ،‬وقد‬ ‫بدا �شعره الأ�سود املج ّعد يعاين غزو ال�شيب البطيء‪.‬‬ ‫ج�سده الذي فقد كيلوغرامات عديدة‪ ،‬ما زال �ضخم ًا‪ .‬كثرياً‬ ‫ما كان يبدو يل وزان وك�أنه رجل ع�صابات �أدركته التوبة فج�أة‪،‬‬ ‫كنت �أقول له �إن هيئته‬ ‫ف�سلك طريق ًا �آخر‪ ،‬و�صار طبيب ًا! وكثرياً ما ُ‬ ‫للوهلة الأوىل ال ميكن �أن جتعلني �أتكهن مبهنته‪ ،‬وعلى العك�س من‬ ‫هيئته تلك‪ ،‬يبدو �أمين دقيق املالمح‪ ،‬وناعم ال�شعر‪ ،‬ويلب�س نظارات‬ ‫خفيفة متنحه تلك ال�صورة الطبية‪ ،‬ولكنه مل يكن كذلك قط �إال �أن‬ ‫�شيئ ًا خفي ًا يف مالحمهما يجمعهما‪ ،‬ويجعل منهما �شقيقني‪ ،‬ال�سيما‬ ‫�إذا خلع كل منهما �شماغه‪ ،‬وتر ّبع على �أريكته املف�ضلة‪ ،‬وبدا �صوام‬ ‫وراجن قائمني حولهما‪ ،‬حتى يبدوا يف قرطبة‪ ،‬مثل ملكني �أخريين‬ ‫من ملوك الطوائف‪.‬‬ ‫ورغم �أن �أباهما يرتدد �إىل املزرعة كثرياً‪ ،‬ف�إننا ال نراه عادة يف‬ ‫هذا اجلزء منها‪ ،‬فهو يدلف عادة من البوابة ال�رشقية‪ ،‬ويق�ضي وقته‬ ‫أحد منا يراهم‬ ‫مهمني‪ .‬مل يكن � ٌ‬ ‫مهمني‪� ،‬أو غري ّ‬ ‫يف ا�ستقبال �ضيوف ّ‬ ‫‪163‬‬


‫على �أي حال‪� .‬أما والدتهما فقد ق�ضت ب�أمرا�ض متعددة يف الكبد‪،‬‬ ‫مزاجي الطبع‪ ،‬والن ّزاع للهدوء وال�سفر‪،‬‬ ‫امل�سن‪،‬‬ ‫تارك ًة وراءها زوجها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والرتدد �إىل هذه املزرعة الأنيقة‪ ،‬ليقر�أ فيها جرائد ال�صباح‪ .‬وكذلك‬ ‫عرفت من‬ ‫أخت مط ّلقة وغائبة عن امل�شهد متام ًا‪.‬‬ ‫و ّزان و�أمين‪ ،‬ولهما � ٌ‬ ‫ُ‬ ‫خالل حوارٍ عار�ض بني الأخوين‪� ،‬أن ا�سمها‪� :‬سارة‪.‬‬ ‫أخت غري‬ ‫كان �شي ٌء ما يف غيابها الدائم عن كالمنا‪ ،‬ينبئني �أنها � ٌ‬ ‫متردت‬ ‫م�ست�ساغة‪ .‬حدث مرة �أن �أخربين �أمين بعد وقت طويل �أنها ّ‬ ‫متردها قلب �أبيها‪ ،‬وتزوجت �رساً من رجل غري �سعودي‪،‬‬ ‫حتى قطع ّ‬ ‫ومل يك�شف �أمين جن�سيته لأ�سباب كالمية مل �أفهمها �أثناء حديثنا ذاك‪،‬‬ ‫والذي كان �أ�شبه بالدوار الطفيف املرافق للبوح بني �صديقني عادة‪.‬‬ ‫كنت قد �أخربته قبل يومني فقط‪ ،‬ق�صة �سجن �أبي‪ ،‬يف ال�سبعينات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ويبدو �أن �أمين ر�أى �أن يكافئني على بوحي ببوح �آخر‪ ،‬له الكثافة‬ ‫ال�رسية نف�سها‪.‬‬ ‫عادت �سارة بعد نزوة زواجها �إىل ال�سعودية‪ ،‬وانف�صلت عن‬ ‫زوجها‪ ،‬وظ ّلت منذ عودتها منقطعة عن �أبيها متام ًا‪ .‬مل �أ�صدق �أمين‬ ‫بادئ الأمر عندما �أخربين �أنهما يعي�شان يف بيت واحد‪ ،‬ومل يحدث‬ ‫كنت �أعرف كما‬ ‫�أن التقت �أباها منذ ثالث �سنوات‪ ،‬وحتى الآن‪ُ .‬‬ ‫هو وا�سع بيتها و�ضخم‪ ،‬ولكن �شيئ ًا من هذا ال�سلوك الأ�رسي مل يكن‬ ‫ليخطر يل‪� ،‬أنا الذي يعي�ش مع �أبويه فقط‪ ،‬من دون �إخوة‪ ،‬منذ ت�سع‬ ‫وع�رشين �سنة‪ ،‬وبحميمية �أ�رسية عالية جداً‪.‬‬ ‫أبوي وجبتني يف اليوم‪ ،‬بال انقطاع‪ ،‬ويف انتظام‬ ‫كنت �أتناول مع � ّ‬ ‫ُ‬ ‫يجعلنا �أ�شبه بعائلة لورد بريطاين من القرن املا�ضي‪� .‬أتخلف عنهما‬ ‫‪164‬‬


‫عند وجبة الإفطار‪ ،‬ويف حاالت ال�سفر املتعددة‪ ،‬ولكن يف ما عدا‬ ‫كنت �أق�ضي معظم �ساعات اليوم معهما‪� ،‬أو على بعد �أمتار من‬ ‫ذلك‪ُ ،‬‬ ‫جمل�سهما‪ ،‬يف غرفتي‪ .‬يتناهى �إىل �سمعي ما يجد من نقا�شهما‪� ،‬أو ما‬ ‫حتر�ضهما عليه لقطة تلفزيونية ما‪� ،‬أو خرب من الأخبار‪ ،‬ولكن يبدو �أن‬ ‫خمتلف كثرياً‬ ‫ما يحدث يف بيت و ّزان و�أمين‪� ،‬أو ق�رصهما بالأحرى‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫عن بيتنا‪.‬‬ ‫أ�صبت ب�أرق امتد حتى �أ�رشقت ال�شم�س‪،‬‬ ‫حدث يف �إحدى الليايل �أن � ُ‬ ‫فخرجت من بيتنا بعد �أن طردين ال�رسير‪ ،‬والغرفة‪ ،‬واملكتب‪ ،‬ومل �أجد‬ ‫ُ‬ ‫مكان ًا �آوي �إليه يف �صباح اليوم الذي كان �إجاز ًة �أ�ص ً‬ ‫فخرجت‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وا�شرتيت جرائد كثرية وجدتها ما زالت مطوية بقوة‪،‬‬ ‫ب�سيارتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أموي وحيد �إىل‬ ‫ومتكومة يف طرف املحل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وقررت �أن �أذهب مثل � ٍّ‬ ‫قرطبة وغرناطة‪.‬‬ ‫�صوام‬ ‫ُ‬ ‫كنت �أعرف �أين لن �أجد �أي ًا من �صديق َّي‪ ،‬ولكني �أعرف �أن ّ‬ ‫�سيكون هناك حتم ًا‪ ،‬و�س�أجد من �أكلمه حتى مي�ضي ال�صباح البطيء‪،‬‬ ‫وتبد�أ حياة املدينة يوم الإجازة‪ ،‬و�أجنز �ش�أن ًا ما‪ .‬مل �أكن �أتوقع �أين‬ ‫باملجيء �إىل املزرعة يف هذا الوقت الغريب من ال�صباح‪� ،‬س�أجد نف�سي‬ ‫وجه ًا لوجه‪ ،‬مع الغريبة‪� ،‬سارة‪.‬‬ ‫دلفت �إىل املزرعة ب�سيارتي‪ ،‬وحاملا �أوقفتها يف ركنها الذي تعرفه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مكثت يف‬ ‫ملحت من �آخر الطريق الداخلي يف املزرعة �سيارة تقرتب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�سيارتي حتى مت�ضي‪ ،‬ولكنها تباط�أت تدريج ًا حتى وقفت مبحاذاتي‪،‬‬ ‫وكانت‪ ،‬ويا لده�شتي ال�صغرية التي حا�رصتُها �رسيع ًا‪ ،‬فتاة تقود ال�سيارة‬ ‫كنت‬ ‫علي التحية وك�أنها تعرفني منذ زمن بعيد‪ .‬ولأين ُ‬ ‫بهدوء‪ ،‬وتلقي ّ‬ ‫‪165‬‬


‫خج ً‬ ‫تعمدت‬ ‫ال من حريتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قاومت ذلك بعد �أن �شعرت ب�أنها ال ريب ّ‬ ‫�إيقاعي يف هذا اخلجل‪.‬‬ ‫– مرحب ًا‪.‬‬ ‫– مرحب ًا‪.‬‬ ‫ثم راحت ترمقني بعينني وا�سعتني‪ ،‬وابت�سامة ن�صف خمتبئة يف فم‬ ‫مل يبد قط �أن الكالم ينق�صه‪.‬‬ ‫– �أنا ح�سان‪� ،‬صديق وزان و�أمين‪� .‬آتي �إىل هنا من وقت لآخر‪.‬‬ ‫وابت�سمت �سارة‪ ،‬بوجهها الطويل املتنا�سب �إىل حد ما مع نحول‬ ‫يدها التي مت�سك مقود ال�سيارة‪ ،‬و�أ�صابعها الطويلة اخلالية من �أي‬ ‫زينة‪ ،‬والتي تنتهي ب�أظفار مق�ضومة �إىل احلد الأخري‪.‬‬ ‫– �أه ً‬ ‫ال يا ح�سان‪� ،‬أنا �سارة‪ .‬عادة �أجيء �إىل هنا يف ال�صباح لأقود‬ ‫ال�سيارة قلي ً‬ ‫ال داخل املزرعة‪ ،‬حتى ال �أن�سى القيادة‪.‬‬ ‫– �أ�ستبعد �أن تن�سي‪ ،‬و�ضع يدك على املقود ي�شي مبهارة‪.‬‬ ‫ه ّزت كتفيها‪ ،‬و�أردفت بالمباالة‪:‬‬ ‫– �شكراً‪.‬‬ ‫ولوحت لها بال�شكر‪،‬‬ ‫واجتهت �إىل املجل�س‪،‬‬ ‫نزلت من �سيارتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وانتظرتني هي حتى دلفت‪ ،‬ثم حتركت بال�سيارة‪.‬‬ ‫كنت �سعيداً ب�أن �صار‬ ‫ومل �أر �سارة بعد ذلك مطلق ًا‪ ،‬ولكني ُ‬ ‫للحكاية التي �سمعتها عنها �أبعاد حقيقية‪ ،‬مثل �صوتها‪ ،‬و�صورتها‪.‬‬ ‫ولوهلة‪ ،‬بد�أت الأمور �أقرب للواقعية منها �إىل حكاية حرجة تنزلق‬ ‫من فم �أمين‪ .‬ف�سارة‪ ،‬بجمالها القليل الذي ال ميكن مالحظته ب�سهولة‪،‬‬ ‫ونحولها ال�شديد‪ ،‬وعينيها الوا�سعتني املتحديتني‪ ،‬وحماولتها الوا�ضحة‬ ‫‪166‬‬


‫قبل قليل ك�رس احلواجز بكل جر�أة‪ ،‬وممار�سة لعبة التحرر‪ ،‬تبدو �صورة‬ ‫مثالية لفتاة �صلبة املرا�س‪ ،‬حادة الطباع‪ ،‬ومتمردة يف بيت �أر�ستقراطي‬ ‫ال ميلك �أدوات قمعية كافية لتمرد كهذا‪ ،‬بقدر ما ميلك �أدوات ح�صار‬ ‫حمدودة‪ ،‬مواربة‪ ،‬قابلة لالخرتاق‪ .‬كانت مالمح �سارة تربر فع ً‬ ‫ال كل‬ ‫ما �سمعته عنها تربيراً كافي ًا جداً‪.‬‬ ‫أخربت �أمين يف الليلة التالية ذلك اللقاء ال�صباحي املفاجئ‪،‬‬ ‫عندما �‬ ‫ُ‬ ‫�ضحك بع�صبية‪ ،‬و�صاح بي‪“ :‬حتى �أختي �رصت تقابلها هنا!” ومل‬ ‫وبقيت �صامت ًا حتى �أنهى �ضحكته‪.‬‬ ‫�أع ّلق على مزحته الثقيلة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قال �أمين‪ ،‬بعد �صمت طال ع�رشين ثانية على الأقل‪:‬‬ ‫كنت �أنا‬ ‫– عندما كنا �صغاراً‪ ،‬كثرياً ما‬ ‫�سمعت �أمي تتم ّنى لو ُ‬ ‫ُ‬ ‫ووزان ابنتيها‪ ،‬مقابل �أن تكون �سارة ولداً‪.‬‬ ‫– جميل‪� ،‬آنذاك �ستكون �أنت الذي �ألتقيك �صباح ًا يف هذا‬ ‫املكان‪.‬‬ ‫رددت مزحته عليه ب�رسعة‪ ،‬وعقّب‬ ‫وابت�سمت لأين‬ ‫�ضحك �أمين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫علي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫تخوف‪.‬‬ ‫– ال ب�أ�س‪� ،‬أنت ت�ست�أهلني‪ ،‬وما ّ‬ ‫ثم �أردف بعد �أن عادت املالمح اجلادة �إىل وجهه‪:‬‬ ‫– �أحيان ًا كثرية �أ�شفق على �سارة‪� ،‬أعرف �أنها ذات طاقة هائلة‪،‬‬ ‫ولكن كل الأ�شياء هنا ت�ستفزها‪ ،‬وهي يف املقابل‪ ،‬ال متلك احلد الأدنى‬ ‫من املرونة وال�صرب‪.‬‬ ‫– وما هي م�شكالتها؟‬ ‫– ال م�شكلة معينة‪ ،‬ولكنها دائم ًا يف حالة من الع�صبية‪ ،‬والت�رصفات‬ ‫‪167‬‬


‫كنت �أمتنى لو �أنها تعي�ش خارج الريا�ض‪ ،‬ولكن �أبي �أق�سم �أن‬ ‫احلادة‪ُ .‬‬ ‫يترب�أ منها لو خرجت من البيت‪.‬‬ ‫– وماذا تفعل الآن؟‬ ‫تخرجت يف اجلامعة‪ ،‬وكل‬ ‫– ال�شيء‪� ،‬أيامها خاوية متام ًا منذ �أن ّ‬ ‫يوم تطر�أ لها فكرة م�رشوع ناق�ص‪ ،‬رمبا كان هذا ما يجعلها حانقة‬ ‫وع�صبية غالب ًا‪.‬‬ ‫– وما ر�أي و ّزان يف حالتها النف�سية؟‬ ‫وحدتها‬ ‫– مل �أ�سمع منه ر�أي ًا حمدداً‪ ،‬ولكن دائم ًا يقول �إن جموحها ّ‬ ‫ورثتهما من �أبي‪ ،‬و�ستهد�أ تدريج ًا مع التقدم يف ال�سن‪ .‬وهي يف‬ ‫ال�سابعة والع�رشين الآن‪.‬‬ ‫– رمبا ي�ضايقها �شعورها ب�أنها بلغت هذا العمر ومل حتقق �شيئ ًا حتى‬ ‫الآن‪ .‬هل فكرت يف احل�صول على وظيفة مث ً‬ ‫ال؟‬ ‫– مار�ست �أكرث من وظيفة ب�شكل موقّت‪ ،‬وانقطعت‪� .‬إنّ ل�سارة‬ ‫ذات ًا مت�ضخمة جداً‪ ،‬وت�ضيق بالعمل املنتظم‪ .‬حالي ًا‪ ،‬فتحت معر�ض ًا‬ ‫�صغرياً للوحات الفنية‪ ،‬تعر�ض فيه بع�ض لوحاتها‪ ،‬ولوحات �أخرى‪.‬‬ ‫�أما وزان‪ ،‬فلم �أخربه قط عن لقائي �سارة‪� ،‬شيء ما يف عالقتي به‬ ‫ما زال يحتفظ باحلاجز الر�سمي بني طبيب ومري�ض‪ ،‬رغم انتهاء فرتة‬ ‫العالج يف مدة ق�صرية جداً‪� ،‬أخربين بعدها �أنه على يقني �أن ما �أعانيه‬ ‫لي�س الآثار ال�سلبية ل�صدمة عاطفية كما �أتوقع‪ ،‬بل حالة �إحباط عامة‪،‬‬ ‫تطورت يف مرحلة ما‪ ،‬بتحري�ض من ق�صة احلب‪� ،‬إىل �شبه ك�آبة‪.‬‬ ‫ي�رص على �أن غالية يف حياتي جمرد عار�ض‪ ،‬ولي�ست مر�ض ًا‬ ‫كان ّ‬ ‫حقيقي ًا‪ ،‬وهذا ما جعله يركز كالمه معي على كوامن احلفز النف�سي‪،‬‬ ‫‪168‬‬


‫وهو ما يجيده و ّزان بالتحدث يف �أي �ش�أن من �ش�ؤون احلياة التي‬ ‫يتخللها قليل من التوجيه والن�صح‪ ،‬وقد يعقبها ب�ضع مقاالت يبعث‬ ‫بها �إىل بريدي االلكرتوين لأقر�أها منفرداً‪ .‬كانت هذه باخت�صار‪ ،‬كل‬ ‫رو�شتة و ّزان لعالجي‪.‬‬ ‫ولأين بقيت على حالة امتنان ال تزال تظلل عالقتي به‪ ،‬بقي احلاجز‬ ‫اخلفي قائم ًا‪ ،‬مع �أننا حتولنا �إىل �صديقني يلتقيان كل م�ساء تقريب ًا‪ ،‬بينما‬ ‫ت�سارعت عالقتي ب�أمين من دون حواجز‪ ،‬هو الذي التقيته بعد �أ�شهر‬ ‫من لقائي الأول ب�أخيه‪ ،‬ولكن هكذا �شاءت �أمزجتنا االجتماعية‪.‬‬ ‫كان م�ضحك ًا مقامي بينهما‪� ،‬إنّ يل �صديقني من هذا النوع‪.‬‬ ‫تذكرت اخلرب الذي قر�أته يف جريدة ذات يوم عن م�سافر �أ�صيب بنوبة‬ ‫ُ‬ ‫قلبية على منت طائرة كانت ّ‬ ‫تقل م�صادف ًة فريق ًا كام ً‬ ‫ال من جراحي‬ ‫القلب قادمني من م�ؤمتر طبي‪� .‬إن هذا ي�شبه القفز من علو �شاهق فوق‬ ‫حقل من املطاط‪� ،‬أو �أن �أثمل مث ً‬ ‫ال حتى �آخر �شهقة‪ ،‬و�أنا يف �رسيري‬ ‫�أ�ص ً‬ ‫ال‪.‬‬

‫‪169‬‬



‫‪VI‬‬ ‫يف �إحدى اجلل�سات‪� ،‬أذكر �أين �س�ألت و ّزان هل �أنت متديّن �أم ال؟‬ ‫ابت�سم وطلب مني �أال �أقلق‪ ،‬و� ّأكد يل �أنه �سيكون مهني ًا جداً كعادته‪.‬‬ ‫قال يل �أي�ض ًا �إنه رمبا ي�ستخدم احللول الدينية مع من تقنعهم مثل هذه‬ ‫احللول‪“ ،‬املهم �أن جند لك ح ً‬ ‫ال يقنعك!‪� ،‬أي ًا يكن‪� ،”...‬أخرياً‬ ‫�سكنت‬ ‫ُ‬ ‫�إليه بعد هذه العبارة‪ ،‬و�أخربته كيف �أن امر�أة رحلت‪ ،‬ونك�ش رحيلها‬ ‫يف طريقه عدة م�شاكل نف�سية‪.‬‬ ‫قلت‬ ‫ُ‬ ‫ثرثرت كما هي العادة عندما يكون امل�ستمع طبيب ًا نف�سي ًا‪ُ .‬‬ ‫ا�ست�شعرت‬ ‫وتوقفت بعد �أن‬ ‫له كل ما ي�ضايقني‪ ،‬وجل ما يثري ك�آبتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الآالم الطفيفة يف حلقي جراء الكالم‪ ،‬وكان و ّزان يتكئ على يده‬ ‫حد�ست من نظرته املتحم�سة‬ ‫وينظر �إيل وك�أنه ي�شاهد فيلم ًا مثرياً‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�أنه اكت�شف ح ً‬ ‫ال يل‪ ،‬و�سي�ضعه يف جيبي قبل �أن �أترك العيادة‪ ،‬ولكنه‬ ‫فاج�أين عندما قال بهدوء‪“ :‬ال �أجد �أي �شبهة ال�ضطراب نف�سي‪� ،‬أنت‬ ‫فقط ال تريد �أن ت�شعر ب�أي وخزة �أمل يف احلياة‪ ،‬وهذا م�ستحيل”‪.‬‬ ‫�شعرت لوهلة ب�أنه �أهانني عندما اخت�رص حالتي يف جملة واحدة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومتنيت لو �أين اخت�رصت منذ ذلك البوح الثقيل الذي ال تكافئه هذه‬ ‫ُ‬ ‫‪171‬‬


‫وحاولت من دون �إرادة �أن �أفند ر�أيه‪ ،‬قبل �أن‬ ‫اجلملة الوحيدة جيداً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أنتبه �إىل �أنه من الغريب �أن �أ�ست�شعر �إهان ًة من �شخ�ص يخربين �أين �سليم‪،‬‬ ‫ف�أحاول �أن �أدافع عن نف�سي ب�إثبات �أين خمتل نف�سي ًا‪.‬‬ ‫قلت‬ ‫ُ‬ ‫قررت �أن �أرمي كل الأوراق‪ .‬مل ُي ْجدين �أن �أحتفّظ معه كثرياً‪ُ ،‬‬ ‫وكنت �أت�صل بهن ج�سدي ًا‪.‬‬ ‫له �إين عرفت ن�سا ًء كثريات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫– نعم‪ ،‬وماذا يف ذلك؟‬ ‫– من دون حب‪ ،‬ومن دون عاطفة‪.‬‬ ‫– و�أين امل�شكلة؟‬ ‫ل�صيق بج�سدي‪،‬‬ ‫– ولكن �أحيان ًا عندما تنام بقربي امر�أة‪ ،‬وج�سدها‬ ‫ٌ‬ ‫ال �أدري ماذا �أقول لك‪.‬‬ ‫– ماذا؟‬ ‫– ال �أدري‪� ،‬أحيان ًا‪� ،‬آ‪...‬‬ ‫– تكلم وال تقلق‪.‬‬ ‫– �أحيان ًا �أمتنى لو كانت رج ً‬ ‫ال!‬ ‫مل يكن ذلك مفاجئ ًا لو ّزان‪ ،‬ومل تكن امليول املثلية حاالت نادرة‬ ‫قررت �أن �أخلع كل‬ ‫يف العيادات النف�سية‪ ،‬ال�سيما يف الريا�ض‪ ،‬و�أنا‬ ‫ُ‬ ‫�شيء‪ ،‬هذه الرغبات الدفينة التي مل �أحققها منذ �سنوات الطفولة‪.‬‬ ‫ورغم احل�ضور الأنثوي املغني بعد ذلك‪ّ ،‬‬ ‫ظل هاج�س الرغبة القدمي‬ ‫ذاك يراودين‪� .‬أحاول قمعه‪ ،‬لأين �أخاف �أن يتطور‪ ،‬ف�أحتول �إىل �شاذ‪.‬‬ ‫�س�ألني و ّزان �أ�سئلة توقعتها متام ًا‪.‬‬ ‫– هل تنام مع ذكور الآن؟‬ ‫– ال‪.‬‬ ‫‪172‬‬


‫– هل حدث لك هذا من قبل؟‬ ‫– نعم‪.‬‬ ‫– متى كانت �آخر مرة؟‬ ‫– يف الثالثة ع�رشة‪.‬‬ ‫– مع من؟‬ ‫– �صديق‪ ،‬من عمري!‬ ‫ابت�سم يل و ّزان‪ ،‬وقال يل بالهدوء نف�سه الذي مل يتغري‪:‬‬ ‫– ال يوجد �أي �شيء غري طبيعي �أي�ض ًا!‬ ‫– هل ت�شعر بامللل مني؟‬ ‫– ال طبع ًا‪.‬‬ ‫ت�صدقني �إذن؟‬ ‫– ملاذا ال ّ‬ ‫– �إذا كنت �أنت �صادق ًا يف كل ما قلته يل‪ ،‬ف�أنا �أقول لك بكل‬ ‫�رصاحة �إنك ال حتتاج �إىل �أي معاجلة نف�سية‪ ،‬جمرد �ضغوط طبيعية جداً‬ ‫بت�صور م�سبق‬ ‫تنتج من �أي ارجتاج عاطفي ما‪ ،‬ولكنك ح�رضت �إىل هنا‬ ‫ّ‬ ‫�أين �أملك عبارة �سحرية من �ش�أنها �أن جتعلك تخرج من هنا م�رسوراً‪،‬‬ ‫ل�ست �ساحراً‪� ،‬أنا طبيب‪ ،‬وممار�ستي ملهنتي تتطلب �أن يكون هناك‬ ‫و�أنا ُ‬ ‫مر�ض �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬و�أنت ل�ست مري�ض ًا‪ ،‬ال يوجد ما �أقدمه لك‪.‬‬ ‫– ماذا عن الرغبة يف الرجال‪� ،‬ألي�س ال�شذوذ مر�ض ًا؟‬ ‫– هذا لي�س �شذوذاً‪ ،‬مبا �أنك تت�صل بالن�ساء ب�شكل طبيعي‪ ،‬ومل‬ ‫متار�س اجلن�س مع رجل منذ طفولتك رغم ا�ستطاعتك هذه‪ ،‬فهذا‬ ‫يعني �أنك ال تعاين ا�ضطرابات ال�شاذين �إطالق ًا‪ ،‬وال ترغب فيهم‪� .‬أما‬ ‫�ش�ؤون الطفولة فال ُيعتد بها يف م�س�ألة اجلن�س �إال �إذا كانت اغت�صاب ًا‬ ‫‪173‬‬


‫�أو �أ�شبه بهذا‪� ،‬أما ما فعلته �أنت فال يخرج عن �إطار العبث ال�صبياين‪،‬‬ ‫وحماولتك اكت�شاف ال�شهوة اجلديدة الطارئة على ج�سدك‪ ،‬ولذلك‬ ‫اجتهت �إىل �صديقك الذي‪ ،‬هو �أي�ض ًا‪ ،‬ي�شاركك يف رغبة االكت�شاف‬ ‫نف�سها يف هذه املرحلة العمرية‪ .‬ولو كانت لك �صديقة �أنثى �آنذاك‬ ‫الخرتتها هي طبع ًا‪ ،‬الأمر لي�س جن�س ًا‪ ،‬فالأطفال ال ميار�سون اجلن�س‪،‬‬ ‫�إنه ي�شبه ممار�سة العادة ال�رسية جماعي ًا �أو عبثي ًا‪ ،‬ال �أكرث‪.‬‬ ‫– وملاذا �أ�شعر بهذه الرغبة الآن وقد كربت؟‬ ‫حري‬ ‫– هذا جمرد �شغب �صوتي متار�سه معك الذاكرة‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫باحلدوث‪ ،‬كما قلت لك‪ ،‬بعد �أي ارجتاج عاطفي‪ .‬وكثري من‬ ‫املراجعني يف العيادات النف�سية يعانون �أوهام ًا وظنون ًا �سيئة ب�أنف�سهم‪،‬‬ ‫مل تتحرك �إال بعد �صدمة ما‪� .‬أنت حتاول �أن تدين نف�سك‪ ،‬وتقنعها‬ ‫بخرابها حتى توا�سي الرجل احلزين الذي يف داخلك‪.‬‬ ‫وقت طويل لأتخل�ص من حالة احلنق الب�سيطة التي‬ ‫مل �أحتج �إىل ٍ‬ ‫حلقت بي جراء لقائه‪ .‬انق�شع هذا احلنق تدريج ًا ليظهر حتته �شعور‬ ‫باالرتياح لتخل�صي من �أحد همومي ال�صغرية‪ .‬و�إن بقي يف داخلي‬ ‫�شيء من القلق‪ ،‬فلم يذهب متام ًا‪.‬‬ ‫أحد الأطباء مرة �أنه عندما ي�ضطر �إىل �أن ي�صارح مري�ض ًا‬ ‫�أخربين � ُ‬ ‫ب�أخبار �سيئة عن ج�سده‪ ،‬يح�شد معها �أخباراً مطمئنة �أخرى‪ ،‬ك�أن‬ ‫ولكن قلبك ورئتك �سليمان متام ًا‪ ،‬رغم �أن‬ ‫يقول له �إن كبدك متعب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املري�ض مل ي�س�أله عنهما‪ ،‬فيبتلع املري�ض �أحزان كبده بنعومة‪ .‬رمبا كان‬ ‫هذا ما فعله معي و ّزان‪� ،‬أولي�س طبيب ًا نف�سي ًا �أ�ص ً‬ ‫ال؟‬ ‫قلت له مرة �إن من يع�شق يف هذا البلد‪ ،‬يجب �أن ُيحجر على‬ ‫‪174‬‬


‫قلبه وم�شاعره‪ ،‬مثل ال�سفهاء‪ .‬وكان يتلقى كالمي بهدوء عميق وك�أنه‬ ‫حتول �إىل بقعة من الرمال املتحركة‪ ،‬كعادة الأطباء النف�سيني يف تلقي‬ ‫وطلبت منه �أن ينزع عنه هذا‬ ‫ثرت‪،‬‬ ‫انفعاالت مر�ضاهم املفاجئة‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫أترجل من �سيارته‪.‬‬ ‫القناع الرتيب‪� ،‬أو � ّ‬ ‫وال �أزال �أتذكر ال�شارع ال�صامت الذي �أنزلني فيه و ّزان بدون‬ ‫تردد‪ ،‬وذهويل الذي امتطيته ن�صف �ساع ٍة و�أنا �أم�شي بني املزارع‬ ‫املظلمة حتى �أ�صل �إىل �أقرب مكان ميكن �أن متر به �سيارة �أجرة‪ ،‬ومنذ‬ ‫و�ضعت‬ ‫�أن اختفت �أ�ضواء �سيارته احلمراء يف �آخر املنعطف‪� ،‬إىل �أن‬ ‫ُ‬ ‫ج�سدي املنهك فوق ال�رسير‪ ،‬و�أنا �أفكر يف الطريقة التي طردين فيها‬ ‫من �سيارته‪ ،‬بنا ًء على رغبتي‪.‬‬ ‫هل ّ‬ ‫تعاليت على حد�سه الطبي؟ �أو �أنه فقط �شعر ب�أين‬ ‫مل من فرط ما‬ ‫ُ‬ ‫ق�صدت عيادته برتف‪ ،‬من �أجل التغيري ال �أكرث‪ ،‬وم�شاكلي ال ت�ستحق‬ ‫ُ‬ ‫املعاجلة؟ رمبا كان خرياً يل لو �أن و ّزان عاجلني خفي ًة ك�صديق‪ ،‬من‬ ‫دون �أن ي�ستخدم �أدوات مهنته‪ ،‬وهل ميل الأطباء انفعاالت مر�ضاهم؟‬ ‫�أمل يب�رص يف عمله جمانني يب�صقون عليه‪ ،‬ويقدمون �إهانات �أ�شد من‬ ‫تهديدي الب�سيط الذي �ألقيته عليه يف حلظة �إحباط؟‬ ‫فهمت يف ما بعد �أنه كان يريد �أن يخربين �أن ثمة �أ�شياء �أخرى‬ ‫ُ‬ ‫ت�ستحق احلزن‪ ،‬غري �صعوبة امر�أة‪ .‬احتمال غياب �صديق مث ً‬ ‫ال‪ ،‬وراهن‬ ‫بنف�سه‪ ،‬وجنح يف اعت�ساف عاطفتي امل�شوهة للتفكري فيه بد ًال من غالية‬ ‫بالهم‪.‬‬ ‫الهم‬ ‫طوال يومني‪ ،‬ومل �أفهم �إال �أخرياً كيف ُي َ‬ ‫ّ‬ ‫عالج ّ‬

‫****‬ ‫‪175‬‬


‫توقّف �صدور مقال غالية منذ �شهور طويلة‪ ،‬وهو الذي كان غذاء‬ ‫بحثت عنها يف كل ال�صحف الأخرى‪ ،‬يف كل‬ ‫ذاكرتي اجلائعة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وا�ستخدمت ا�سمها‬ ‫املجالت‪ ،‬لعلها انتقلت للكتابة يف مكان �آخر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كام ً‬ ‫ال للبحث على الإنرتنت‪ ،‬ومل �أرجع �إال ب�أر�شيف عتيق من مقاالتها‬ ‫ال�سابقة‪ .‬راجعته كله‪ ،‬لعل مقا ًال جديداً اختب أ� بينها ومل �أقر�أه من قبل‪،‬‬ ‫حتبني‪ ،‬ومقاالتها �أثناء احلب‪،‬‬ ‫فلم �أجد �شيئ ًا‪ ،‬عدا مقاالتها قبل �أن ّ‬ ‫ثم مقاالتها الأربع العجفاء بعد انف�صالنا‪ ،‬ثم توقَّفت غالية متام ًا عن‬ ‫ات�صلت باملجلة‪ ،‬و�س�ألت عنها ب�صفتي جمرد قارئ متابع‪،‬‬ ‫الكتابة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ف�أخربوين �أنها انقطعت طوع ًا‪ ،‬وتقدمت بطلب �إجازة مفتوحة‪.‬‬ ‫ملاذا والكتابة رديفة احلزن؟ هل توقفت غالية عن احلزن مث ً‬ ‫ال‬ ‫حتى تتوقف عن الكتابة؟ �أو �أنها اختارت �أن تبتعد عن مرمى قراءتي‬ ‫لت�ساعد ذاكرتي على الربء العاجل؟‬ ‫كلتا احلالتني ت�ؤذي القلب‪ ،‬رغم �أين أ��ؤمن دائم ًا �أن غالية التي‬ ‫�أحببتها وهي �أم‪ ،‬وتركتها وهي �أم‪ ،‬تعرف م�صلحتي �أكرث مني‪.‬‬ ‫ولأين �أعرف �أن الكتابة يف حياتها �أكرث من جمرد مهنة �صحفية‪.‬‬ ‫هي التي ن�ش�أت ابنة لأب �ضال‪ ،‬ال يعرف طريقه �إىل املنزل كثرياً‪ ،‬و�أم‬ ‫وحيدة مل تنجب منه �إال غالية قبل �أن يبد�أ زوجها يف هجراته املتتالية‬ ‫خارج املنزل‪� ،‬سواء لل�سفر‪� ،‬أو الزواج ب�أخريات‪.‬‬ ‫ولأن � ّأمها فكرت ب�شكل تقليدي‪ ،‬وخ�شيت �أن يهدد غياب الأب‬ ‫امل�ستمر عن املنزل �أخالق ابنتها‪� ،‬ضاعفت القيود حتى �صار اخلروج‬ ‫من املنزل �إىل غري املدر�سة واجلامعة قراراً م�ستحي ً‬ ‫ال تقريب ًا‪ ،‬فالتج�أت‬ ‫غالية �إىل القراءة ك�صديق مقبول‪ ،‬وا�ستطاعت �أن جتمع يف ت�سع‬ ‫‪176‬‬


‫�سنوات‪� ،‬أكرث من �ألفي كتاب ال يزال قابع ًا يف قبو بيت �أمها املتوا�ضع‪.‬‬ ‫قالت يل غالية مرة‪“ :‬ما يغفر لأبي غيابه عن املنزل �أنه مل يكن يتدخل‬ ‫يف �ش�ؤوننا!”‪ ،‬ورغم �أن امليزان ال يبدو عاد ًال عد ًال كافي ًا‪ ،‬مل تكن غالية‬ ‫م�صاب بلعنة‬ ‫طائر‬ ‫ٌ‬ ‫ت�ضمر حقداً كبرياً على �أبيها‪ ،‬بل كانت ترى �أنه ٌ‬ ‫احلرية‪ ،‬وال ي�ستطيع �أن ي�ستقر يف ع�ش واحد‪ .‬قالت يل مرة‪“ :‬تقدم‬ ‫خلطبتي �أكرث من رجل‪ ،‬و�أولئك الذين كانوا يتقدمون عن طريق �أبي‪،‬‬ ‫كان يبلغني عنهم مبكاملة هاتفية فقط‪ ،‬يذكر يل ا�سم الرجل‪ ،‬ثم يرتك‬ ‫يل اخليار متام ًا‪ ،‬ويطلب مني �أن �أبلغه قراري حاملا اتخذه‪ .‬تخيل لو �أنه‬ ‫�أجربين على �أحدهم!”‪ ،‬ثم تتنهد غالية‪ ،‬و�أتذكر متام ًا �شكل تنهدها ذاك‪،‬‬ ‫اخرتت �أ�سو�أهم على الإطالق!”‬ ‫وت�ضيف‪“ :‬امل�شكلة �أين‬ ‫ُ‬ ‫الآن مل يبق عندي من رائحة قلمها �إال بقية من ق�صا�صات قدمية‪،‬‬ ‫ملحت فيها �إ�شار ًة‬ ‫كنت �أحتفظ بها كلما‬ ‫ُ‬ ‫الق�صا�صات اخلا�صة التي ُ‬ ‫�صغرية ال يفهمها �سوانا‪ .‬يروق غالية �أن حت�رش يف مقالها ر�سائل‬ ‫تفهمها مدين ٌة ب�أ�رسها بطريقة‪ ،‬و�أفهمها �أنا وحدي بطريقة �أخرى‪.‬‬ ‫هذا العبث برغم ر�صانة ال�صحافة‪ ،‬كان لذيذاً بلذة الغزل ال�رسي‬ ‫الذي تب ّثه غالية بني الكلمات باجتاه واحد‪ ،‬وتن�رشه على امللأ‪.‬‬ ‫كانت العبارة الأخرية من مقالها دائم ًا تعنيني �أنا‪ ،‬ت�ضع فا�ص ً‬ ‫ال‬ ‫بينها وبني املقال‪ ،‬ثم جتعلها حتت عنوان فرعي �أخري‪�( :‬آخر الكالم)‪،‬‬ ‫حتدثنا عنه من قبل‪ ،‬كي‬ ‫وحتم ًا تكون لعبارتها تلك عالق ٌة ب�ش�أن ّ‬ ‫�أعرف �أنها تفكر ّ‬ ‫يف دائم ًا حتى عندما تكتب‪ ،‬وعندما تفكر‪ ،‬وعندما‬ ‫مربعات �شماغي التي �أخذتها مني ذات لقاء‪،‬‬ ‫تعد‬ ‫ِ‬ ‫ت�صلي‪ ،‬وعندما ّ‬ ‫وخاطتها لت�صبح غطا ًء للو�سادة‪.‬‬ ‫‪177‬‬


‫وجدت �أن غالية ابتدرتني يوم ًا بكتابة ما‪،‬‬ ‫ال �أدري مباذا �س�أ�شعر لو‬ ‫ُ‬ ‫�شيء يوثق ق�صة احلب املك�سورة هذه يف مدينة ال تعرف القراءة‪ .‬هل‬ ‫�س�أتعزى قلي ً‬ ‫ال بالكلمات املائية التي ميكن �أن تكتبها كاتبة ب�أناقتها؟ �أو‬ ‫�أين �س�أ�شتعل من جديد‪ ،‬و�أعيد تركيب �أحزاين طبق ًا فوق طبق؟‬ ‫ا�ستبعدت �أنها لن حتبذ امل�شي فوق حقل ال�شوك امل�سموم مرة‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫�أخرى‪ ،‬فلرمبا امت َن َع ْت عن الكتابة خوف ًا على قلبي املثقف‪ .‬ولكني ال‬ ‫�أخ�شى حقل �شوك كهذا‪ ،‬و�أي�ض ًا �أعرف �أن غالية غابت مثل جنمة مل‬ ‫مر على انقطاع‬ ‫فلكي واحد‪ ،‬ولهذا‬ ‫ينتبه لها �إال‬ ‫ُ‬ ‫ت�ساءلت مر ًة بعد �أن ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫توا�صلنا متام ًا ب�ضعة �أ�شهر‪ ،‬هل من املمكن �أن �أكتب لها �أنا �إذن‪ .‬هذا‬ ‫فكرت فيه عندما بلغت مرحلة ّ‬ ‫ني فيها ج�سدي متام ًا‪،‬‬ ‫ما‬ ‫�شل احلن ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويف ال�شتاء �أي�ض ًا حتى ال �أخلف وعد مواقده الرثثارة‪ ،‬هذه الكتابة‬ ‫العك�سية التي لن تتوقعها غالية‪ .‬هي الكاتبة‪ ،‬ال تعرف �أنها‪ ،‬بعدما‬ ‫تركتني‪ ،‬انبثق من �إ�صبعي غ�صن كالم �ضئيل‪.‬‬ ‫كتبت‬ ‫غت للفكرة بكل وفاء‪ ،‬وعلى بيا�ض كمبيوتري املتنقل‪ُ ،‬‬ ‫تفر ُ‬ ‫ّ‬ ‫كل �شيء‪ ،‬منذ �أحببتها يف �شتاء ‪ 2004‬حتى انف�صلنا يف منت�صف �صيف‬ ‫تنهب‬ ‫كتبت مدة �شهرين متوا�صلني‪ ،‬حلقات متقاربة كانت‬ ‫‪،2005‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يدي نهب ًا لتخرج‪ ،‬ون�رشتها يف �صفحة خا�صة على ال�شبكة‪ ،‬بخلفية‬ ‫رمادية تليق بال�شتاء الذي �أجل�س على كر�سيه كل ليلة لأ�ست�أجر منه‬ ‫الكلمات‪ ،‬وب�أحرف حمراء دكناء‪ ،‬هي كل ما �أ�ستطيع نطقه من‬ ‫�أبجدية ذلك املوقد‪.‬‬ ‫كتبت كثرياً‪ ،‬كثرياً‪ .‬وكتابة الإنرتنت تفقدين وعيي بالأ�سطر‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫فقدت وعيي‬ ‫من�سدل مثل �ستارة ال تنتهي‪.‬‬ ‫وال�صفحات‪ ،‬كل �شيء‬ ‫ُ‬ ‫‪178‬‬


‫وتخيلت �أن خم�سة �أ�شهر من غياب غالية امل�ستمر عن‬ ‫باملكان تقريب ًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حياتي‪ ،‬كانت فرتة اختمار كافية حلقل هائل من النبيذ احلزين الذي‬ ‫تكد�س يف دمي‪ ،‬وراح ي�سيل بدكنة الأحمر على رماد ال�صفحة التي‬ ‫ّعت با�سمي الأول فقط‪ ،‬ك�أي‬ ‫�سجلتها على ال�شبكة با�سم غالية‪ ،‬ووق ُ‬ ‫جبان‪.‬‬ ‫مل يكن ثمة �رصير قلم‪� ،‬أو انطواء ورقة ميكن �أن يوقظني من حالة‬ ‫حلمية طويلة اجرتحتها بهذه الكتابة‪ ،‬حالة مقاومة للموت‪ ،‬ال�سيما‬ ‫أكدت متام ًا‪ ،‬من خربة خم�سة �أ�شهر يف‬ ‫ذلك املوت العادي الذميم‪ .‬ت� ُ‬ ‫ميدان الفراق التام‪� ،‬أن �أوجع الأيام بعد احلب‪ ،‬لي�س �أولها‪ ،‬لأن النبتة‬ ‫ال تت�أمل فور انقطاع املاء‪ ،‬بل عندما يبد أ� اجلفاف فع ً‬ ‫ال‪ .‬و�أنا بد� ُأت‬ ‫مرت هذه الأ�شهر اخلم�سة على غياب غالية‪،‬‬ ‫�أت�شقق فعلي ًا بعدما ّ‬ ‫و�صارت م�شاعري تنق�سم انق�سامات جمنونة مثل البكترييا‪ ،‬وال يبقى‬ ‫اال�شتياق وحده املحفّز احل�رصي للأمل‪ ،‬بل تتكون م�شاعر جديدة‪،‬‬ ‫رمبا ننده�ش عندما نت�صور �أن ال عالقة لها باحلب‪.‬‬ ‫كنت �أ�شعر �أن انقطاعي عن غالية ي�شبه و�صويل �إىل نهاية طريق‬ ‫ُ‬ ‫�شعرت يف الأ�شهر اخلم�سة تلك بحالة هائلة من التكا�سل‬ ‫م�سدود‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عن ابتداء �أي احتمال حب �آخر‪ ،‬هذا الك�سل القلبي موجع لوهلة‪،‬‬ ‫ورمبا مفيد يف وهالت �أخرى‪ ،‬ولكنه �أثناء الأ�شهر اخلم�سة‪ ،‬كان �سبب ًا‬ ‫جيداً للتعا�سة‪ .‬هذا ال�شعور ب�أن قلبي فقد احل�س متام ًا‪ ،‬و�أ�صبح جمرد‬ ‫كتلة ع�ضلية تتقلب يف �صدري بروتينية فارغة‪ ،‬ال تر�سل‪ ،‬وال ت�ستقبل‪.‬‬ ‫وال�سبب الآخر‪ ،‬هو �أن غيابها امل�ستمر يو ّلد حالة متزايدة من ال�شعور‬ ‫بالهوان‪� ،‬شيء ال عالقة له باحلب تقريب ًا‪ ،‬ولكنه يت�صاعد يف �شخ�صيتي‬ ‫‪179‬‬


‫�شعور �رشير فع ً‬ ‫يحر�ض على �أفعال �رشيرة‪ ،‬ويجعلنا‬ ‫كل يوم‪ ،‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫ال‪ ،‬لأنه ّ‬ ‫نت�رصف خارج �آداب احلب‪ ،‬ويفتح الباب لنزالء غري مرغوب فيهم يف‬ ‫الق�صة كلها‪ ،‬كاالنتقام مث ً‬ ‫ال‪ ،‬كالعهر‪ ،‬وغريهما‪ .‬وكلهم ي�شو�رشون‬ ‫ب�شكل م�ضاعف على �أي حماولة للبقاء نبي ً‬ ‫ال عن بعد‪.‬‬ ‫�إنها �أ�سو�أ امل�شاعر على الإطالق هي تلك التي حتدث عندما‬ ‫ن�ستيقن تدريج ًا �أن ق�صة احلب بد�أت باملوت فع ً‬ ‫ال‪ ،‬وب�شكل عادي‪،‬‬ ‫موت �آخر‪ ،‬ينتخبنا ب�صمت‪ ،‬وينجزنا بهدوء‪،‬‬ ‫موت خمتلف عن �أي ٍ‬ ‫وبروتينية ال منلك �إزاءها حنق ًا كافي ًا ونحن منوت‪ ،‬ولذلك هو بالن�سبة‬ ‫�إ ّ‬ ‫يل �أ�سو أ� احتماالت النهاية‪ ،‬وهو‪ ،‬ال احلب‪ ،‬ما جرين �إىل عيادة و ّزان‬ ‫يف النهاية‪ ،‬لأبحث عن ب�ضع كلمات تقيم الأود‪ ،‬ورمبا حبوب تقعده‪.‬‬ ‫وفق ذلك �أقي�س النهايات الأخرى التي حتدث يف حياتي من وقت‬ ‫فكرت دائم ًا �أن ال‬ ‫لآخر‪ .‬نهاية �أية مرحلة‪ ،‬نهاية �أية فكرة‪ ،‬و�أي حلم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يحبذ املوت العادي البارد لهذه الأ�شياء‪ ،‬وال النهايات احلام�ضة‪،‬‬ ‫�أحد ّ‬ ‫كلنا نريد �أن تنتهي ب�شكل �أ�سطوري مينح هذا املوت عزا ًء �صوري ًا على‬ ‫الأقل‪.‬‬ ‫يحبذ الع�شاق �إطالق �رصخاتهم احلادة عند‬ ‫رمبا لهذا ال�سبب ّ‬ ‫النهاية‪ ،‬هم الذين ما لبثوا ي�ؤجلونها منذ �أول احلب‪ ،‬مكتفني �أثناءه‬ ‫ب�أنني هادئ ق�صري وم�ستمر‪ ،‬وعندما ي�ستب�رصون النهاية الو�شيكة‬ ‫يفجعهم ت�صور فكرة املوت العادي لكل ما مروا به من دراما قلبية‪،‬‬ ‫وعندما ال ت�ساعدهم الأحداث الرتيبة على تفادي عاد ّية هذا املوت‪،‬‬ ‫وبرودته‪ ،‬جتدهم ي�ستجريون باحلنجرة‪ ،‬ويطلقون ال�رصخة الأخرية‪،‬‬ ‫والأعلى على م�ستوى احلب‪.‬‬ ‫‪180‬‬


‫لي�س للمقابر �آذان على �أي حال!‬ ‫رمبا من �أجل هذا �أكتب �أنا بعد نهاية امل�شوار‪ ،‬ولي�س �أثناءه‪ .‬وهذا‬ ‫م�ؤمل‪ .‬ليتهم يعلمون‪ ،‬ي�شبه �أن �أقرر بدء رحلة عك�سية بعد انتهاء الوقود‬ ‫�أ�ص ً‬ ‫أمر‪ ،‬ببطء م�ؤمل‪ ،‬يف كل الأمكنة‬ ‫ال‪ ،‬ولهذا �أكره ال�سري للخلف‪ ،‬و� ُّ‬ ‫التي قطعتها من قبل �رسيع ًا كوم�ضة ريح جميلة‪� .‬أعرتف بهذا الأمل‪،‬‬ ‫ولكني ال �أملك من �أمري �شيئ ًا‪ ،‬فكل �شيء يحتمل‪� ،‬إال هذا املوت‬ ‫العادي‪.‬‬ ‫املتدرج‪ ،‬جفّت حكايتي مع غالية‪ ،‬وك�أنها‬ ‫بهذا الهدوء املاكر‬ ‫ّ‬ ‫كانت التهاب ًا عابراً يف حياتي‪ ،‬وانتهى‪ .‬وال �أدري �أ ُيراد بي اخلري �أم‬ ‫يدي �أ�صبحتا منفو�ضتني عن �آخر قطعة من حلوى‬ ‫ال�رش؟ ما �أعرفه �أن ّ‬ ‫احلب‪ ،‬و�أين ال �أ�ستطيع حتى �أن �أ�شعل �أ�شجان عابر ب�سيط بحكايتي‪،‬‬ ‫رغم �أنها كانت مدف�أتي الكربى لأ�شهر عديدة‪.‬‬ ‫ي�ؤملني �أن بع�ض احلكايات عندما تبعث على هيئة كتابة‪ ،‬تتحول‬ ‫�إىل ما ي�شبه الرنني الذي ي�صعد ويهبط يف مواقع خمتلفة من احلكاية‪،‬‬ ‫معط ً‬ ‫ال م�سرية ال�شجن‪� ،‬إال الذي يرتدد يف �صدري �أنا وحدي‪ ،‬ورمبا‬ ‫يف �صدر غالية‪ .‬رمبا هذا ما يجعلنا حمدودين بعدة �آالف فقط من‬ ‫احلكايات املكتوبة‪� ،‬إزاء املاليني منها التي حدثت يف احلياة‪ ،‬ولكنها‬ ‫رف�ضت �أن حتني ر�أ�سها الدرامي الرفيع للكتابة‪.‬‬ ‫كل هذه العا�صفة التي بعرثتني طوال هذا احلب‪ ،‬مل يبق يل منها ما‬ ‫ت�صورت �أن‬ ‫ميكنني من بعث ارتعا�شة طفيفة يف �أطراف ال�سامعني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫احلب يندر �أن يجمع لنا احل�سنيني‪� ،‬إما �أن مينحنا رغداً موقّت ًا وهادئ ًا‬ ‫ال يلفت الأنظار امل�ؤذية‪ ،‬نق ّلب فيه بع�ض الأمل‪ ،‬و�إما �أن يعود مر ًة‬ ‫‪181‬‬


‫�أخرى بعد حني‪ ،‬لي�سرتد عاديته‪ ،‬ويلملم �أ�شياءه‪ ،‬وحلظاته‪ ،‬وغمراته‪،‬‬ ‫ويجمع �أ�صداء القبالت يف كي�سها‪ ،‬وال�ضحكات يف �صندوقها‪،‬‬ ‫ويح�رش و�شاح الرحمة الكبري يف جيبه الوا�سع‪ ،‬ويغلق علينا ال�ستارة‪،‬‬ ‫ويو�صد وراءنا امل�رسح‪ ،‬ويختم علينا باملوت العادي‪ ،‬ثم يرحل نحو‬ ‫اثنني �آخرين‪.‬‬ ‫هل حدث �أن ُخيرّ نا مث ً‬ ‫ال �إذا كنا نرغب يف �أحداث خمتلفة؟ ك�أن‬ ‫ن�شتعل مع ًا مثل خيطني م�ضفورين من البارود‪ ،‬ينتهيان �إىل ديناميت؟‬ ‫لنفر�ض �أننا رغبنا طوع ًا يف �أن ننفجر منبهني كل من حولنا �إىل �أن ثمة‬ ‫ق�صة حب لولبية حدثت هنا‪ ،‬و�أنّ العا�شقني حتمال �آالم هذا اال�شتعال‪،‬‬ ‫وم َزق هذا االنفجار‪ ،‬من �أجل �أن يخلفا وراءهما حكاية ال جترفها‬ ‫ِ‬ ‫الأيام ب�سهولة‪ ،‬وي�ستحيل �أن تلملم �أطرافها الأفواه‪ ،‬والأوراق‪،‬‬ ‫واملقاهي‪ ،‬لأنها انفجرت‪ ،‬وتبعرثت يف كل املجرة‪.‬‬ ‫ال مينح احلب خيارات �أخرى‪� ،‬إال عندما نتوهم ذلك‪ ،‬ويف‬ ‫اعتقادي �أن الب�رش مل يكتبوا الكتب‪ ،‬ومل ي�صنعوا الأفالم‪� ،‬إال عندما بلغ‬ ‫يربون كل ما حولهم ليتحول‬ ‫�إحباطهم من عادية الأ�شياء حداً جعلهم ُ‬ ‫�إىل �أ�سنة حادة يخرتقون بها هذا اجلدار العادي امل�ؤمل‪ .‬اال�شتعال مل‬ ‫يحدث يوم ًا وحده‪ ،‬لي�س من عادة الطبيعة �أن حترق نف�سها‪ ،‬علينا‬ ‫نحن �أن نتحمل �أعباء ذلك �إذا بقينا تواقني �إىل كل حريق جميل‪.‬‬ ‫كنت �أمر يف كل هذه املراحل بعماء تام‪ ،‬تارك ًا حتديد‬ ‫و�أنا الذي ُ‬ ‫قررت �أن �أ�رصخ‬ ‫االجتاهات حلاالتي النف�سية املتعاقبة بعد احلب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�رصخة الكبرية بعد �أن رحلت غالية‪ ،‬و�أكتب لها عن احلب‪ ،‬رغم‬ ‫�أنها مل تكن يف حاجة�إىل ذلك‪ ،‬وال �أنا‪.‬‬ ‫‪182‬‬


‫أفجر‬ ‫كل ما يف الأمر �أين ٌ‬ ‫كنت �أقاوم املوت العادي‪ ،‬و�أحاول �أن � ّ‬ ‫تخيلت �أنها ال حتفل كثرياً مبا‬ ‫بع�ض الألعاب النارية يف ال�سماء التي ّ‬ ‫كنت �أمار�س احلالة النف�سية الطبيعية واملتوقعة بعد‬ ‫يجري حتتها‪ُ .‬‬ ‫احلب‪ :‬ال�رصاخ!‬ ‫وعندما مار�ست هذا ال�رصاخ االلكرتوين‪ ،‬بدا يل وك�أين دخلت‬ ‫جمعية �رسية لل�صارخني‪ .‬الق�صة التي كانت حكر القلب‪� ،‬أ�صبحت‬ ‫م�شاع الف�ضاء‪ ،‬والكالم الذي كان رهن رجل وامر�أة‪ ،‬وهاتفني‪،‬‬ ‫وب�ضع ر�سائل‪ ،‬وج�سديات‪� ،‬أ�صبح نافذة لر�سائل ت�أتيني من الآخرين‪،‬‬ ‫ال يخرجون عمن عرفتهم م�سبق ًا‪ :‬حزانى‪ ،‬وملعونني‪ ،‬وقطاّع �أمل‪.‬‬ ‫�أ�شياء تتقاطع ب�أمل‪ ،‬و�أخرى تختلف ب�سخف‪ ،‬ولكني‪ ،‬تدريج ًا‪،‬‬ ‫�رصت مهوو�س ًا بال�رصخات الأخرى‪ ،‬حمبو�س ًا بينها �أحيان ًا‪ ،‬وم�شغو ًال‬ ‫ُ‬ ‫برتتيبها وتن�سيقها‪ ،‬ح�سب م�ستوى القلق الذي ن�شرتك فيه جميع ًا‪.‬‬ ‫قلق كامن‪ ،‬مل يتحرك بعد‪ ،‬ال �أدري هل كانت‬ ‫كان يف داخلي ٌ‬ ‫الأيام القادمة حتمل يل نوبة ك�آبة جديدة‪� ،‬أو �أنها �ستت�أجل طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬حتى‬ ‫تختمر الأحزان متام ًا يف داخلي‪ ،‬وتعيد ح�شد نف�سها‪ ،‬ثم تعك�س تيار‬ ‫دمائي فج�أة وتقتلني‪.‬‬ ‫م�ضطر لأن‬ ‫�أ�شعر ب�أين �أجته نحو الكتابة ب�شكل م�صريي‪� ،‬أ�شعر ب�أين‬ ‫ٌ‬ ‫�أفوح تدريج ًا مثل فوهة بركان ب�أبخرة كثرية‪ ،‬حتى ال �أ�ضطر للثوران‬ ‫يوم ًا ما‪ ،‬وتخريب كل �شيء‪� ،‬إنه الفعل الوحيد الذي �سيمكنني من‬ ‫نقل املوقد معي‪ ،‬خارج ال�شتاء‪.‬‬ ‫منذ �أن تعلمت عادة البحث عن امر�أة كلما ا�ستيقظ داخلي حزنٌ‬ ‫قدمي‪ ،‬يف �شتاء جديد‪ ،‬و�أنا �أرى الفو�ضى التي يخلفها ورائي قلبي‪،‬‬ ‫‪183‬‬


‫و�أتذكر دائم ًا ب�أنها عاد ٌة �سيئة‪ ،‬وعاداتي ال�سيئة كرثت يف الآونة‬ ‫أ�صبحت �أقفز يف قرارة اجلرح بنف�سي‪ ،‬لذلك �أحتاج‬ ‫الأخرية‪ ،‬و�‬ ‫ُ‬ ‫�إىل خطة ت�صحيحية‪ ،‬ووقت حمايد‪ ،‬و�أوراق‪ ،‬و�أ�صدقاء‪ ،‬وطبيب‬ ‫نف�سي‪.‬‬ ‫ُكتب على احلد الأخري‬ ‫كانت كتابتي تلك ك�أنها الر�سائل التي ت ُ‬ ‫جل�ست‬ ‫تخيلت �أين‬ ‫من ال�سخرية‪ ،‬باعتبارها �آخر مراحل احلزن‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫على الر�صيف‪ ،‬وبد�أت الغناء‪ ،‬ومل �أبق وحيداً‪ .‬هناك �آخرون كانوا‬ ‫ينتظرون رفقة الر�صيف هذه‪ ،‬بقدر ما يكرهون وح�شته‪ ،‬ويف�شلون‬ ‫متام ًا يف الغناء الفردي‪.‬‬ ‫م�شاري �أحد الذين جل�سوا معي منذ البداية‪ ،‬وا�ست�أذنني يف الغناء‬ ‫الذي ال ي�سمعه غريي‪ ،‬جاءتني ر�سالته عرب الربيد االلكرتوين هكذا‪،‬‬ ‫كنت جمدو ًال بال�صوف‪ ،‬و�صادف ًا عن الكتابة‬ ‫حادة ومبا�رشة‪ .‬ولأين ُ‬ ‫انتهيت منها فع ً‬ ‫�شعرت بحنق �صغري �إزاء ر�سائله التي تعاقبت‬ ‫ال‪،‬‬ ‫بعدما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يف ما بعد‪ ،‬ولقاءاتنا الق�صرية‪ ،‬و�سخريته املرة من حزنه وتعبه‪ ،‬ال�سيما‬ ‫عندما قال يل ذات بوح‪“ :‬اكتبني‪� ،‬أ�شعر ب�أنك تفهم ما �أقول”‪.‬‬ ‫كان هذا �ش�أن ًا يبعث على احلنق بالفعل‪ ،‬من دون �أن �أعرف له‬ ‫حانق على قراري القا�ضي بالكتابة‪ ،‬لأجد نف�سي‬ ‫�سبب ًا‪� ،‬أ�شعر ب�أين‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫يحمل حب ًا فريداً‪ ،‬ف�إذا به يق�صده‬ ‫رجل كان يظن �أنه‬ ‫حتولت من‬ ‫قد‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫الآخرون من �أجل ب�ضاعة م�شرتكة‪.‬‬ ‫رددت طلب م�شاري‬ ‫ل�ست ناق�ش �أو�شام يا عزيزي”‪ ،‬هكذا‬ ‫ُ‬ ‫“�أنا ُ‬ ‫الذي تقبله بابت�سامة عري�ضة‪“ ،‬وال �أ�ستطيع �أن �أكتب حرف ًا �آخر يف‬ ‫الأ�صل‪ ،‬كل �شيء مل يكن باختياري‪ ،‬وال �أ�ستطيع بالفعل �أن �أخربك‬ ‫‪184‬‬


‫ولكن �شيئ ًا من ال�سخرية‬ ‫ملاذا”‪ ،‬وكانت نظراته حزينة‪ ،‬وهو مطرق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كان يفوح من كالمه الأخري‪.‬‬ ‫– ال ب�أ�س‪� ،‬أنت تعرف كل �شيء الآن‪.‬‬ ‫– ماذا تعني؟‬ ‫– كل ما تعرفه عني لن يكون ق�صة مري�ضة ذات يوم‪ ،‬تدريج ًا‬ ‫�سرت�سب يف داخلك‪ ،‬وتنعجن‪ ،‬وتخرج يف �صورة �أخرى‪ ،‬ال مييزها‬ ‫ُ‬ ‫الآخرون‪ ،‬ولكن �أعدك �أن �أميزها �أنا‪ ،‬لأنها ق�صتي!‬ ‫وابت�سم بانك�سار بارد‪.‬‬ ‫قلت له‪:‬‬ ‫– ال �أعتقد �أنك فهمتني جيداً يا م�شاري‪ .‬الأمر ال عالقة له بك‪،‬‬ ‫وال بق�صتك‪ ،‬بل مبدى ا�ستعدادي ال�شخ�صي للكتابة‪ ،‬ال �أ�ستطيع �أن‬ ‫كنت قادراً‬ ‫�أ�رشح لك كل �شيء هنا‪ ،‬ولكن على �أقل تقدير‪� ،‬أمتنى لو ُ‬ ‫على تفهم بوحك كما يليق‪.‬‬ ‫– وهو كذلك‪.‬‬ ‫مل �أر م�شاري كثرياً‪ ،‬تكد�ست يف بريدي �إحدى ع�رشة ر�سالة منه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كل منها حتمل طرف ًا غري مرتابط من ق�صة حب رعناء‪ ،‬ثم مل يلبث �أن‬ ‫انقطع بينهما احلبل الودود‪ .‬ويف بريدي اختمرت عدة �أ�شهر‪ ،‬كنت‬ ‫�أعيد قراءتها من حني لآخر‪ ،‬من دون �أن �أنتبه �إىل �أن فعل الر�سوب قد‬ ‫بد�أ بالفعل‪ ،‬و�أين عندما جتتاحني �شهوة الكتابة مرة �أخرى‪� ،‬س�أجدين‬ ‫غري قادر على تفادي تفا�صيلها‪ ،‬وهذا ما حدث فع ً‬ ‫قررت‬ ‫ال‪ .‬ولهذا‬ ‫ُ‬ ‫�أن �أم�سحها جميع ًا‪ ،‬حتى ال �أجد نف�سي ذات يوم متورط ًا يف �رسقة‬ ‫بالنيات املتعددة‪.‬‬ ‫حزن لي�س يل‪ ،‬و�أجد نف�سي حما�رصاً ّ‬ ‫‪185‬‬


‫ومرمي التي كتبت يل بعد طول تردد كما تقول‪� ،‬أكرثت من �شتمي‪،‬‬ ‫ومل ترتك تف�سريات كافية ل�شططها ذاك‪ ،‬ومل �أتتبع احلكاية‪ .‬وبعد‬ ‫ب�ضعة �أ�سابيع‪ ،‬جاءتني عدة ف�صول مكتوبة �إىل الربيد الإلكرتوين‪،‬‬ ‫وعدة �صفحات م�صورة من موقعي‪ .‬وو�ضعت خطوط ًا هنا وهناك‪،‬‬ ‫وع ّلقت يف �إحدى ر�سائلها “يوجد �شيء من العزاء يف �أن ننطفئ‬ ‫وحدنا من دون �أن ن�ؤذي العامل‪ ،‬ولكن �أن منوت يف جماعة م�شرتكة‪،‬‬ ‫فهذا �أكرث �إهانة مما نحتمل‪� ،‬شيء يجعلنا نرف�ض فكرة االنطفاء �أ�ص ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫هل فهمت؟ �أنت هو املجاعة امل�شرتكة!”‬ ‫رمبا كانت مرمي هي النقي�ض العك�سي متام ًا لفكرة ال�رصاخ‬ ‫حبها حتت �آخر كثيب من رمل‬ ‫الأخري‪ .‬هي قررت �أن تدفن ّ‬ ‫ال�صحراء‪ ،‬وتوفر طاقة ال�رصاخ لت�ستغلها يف امل�شي‪ ،‬وجتاوز منطقة‬ ‫حب جائر مليء ّ‬ ‫بقطاع الأمل‪ ،‬قالت يل‬ ‫اليباب التي تركها فيها ٌ‬ ‫يف ر�سالتها قبل الأخرية‪“ :‬امل�ؤمل �أن تقرر بنف�سك �أن تكون عابراً‪،‬‬ ‫خفيف العبور جداً‪ ،‬ثم حني ال ينتبه �أحد كما كنت ترغب‪ ،‬ت�شعر‬ ‫بغ�ضب ال ميكنك تربيره‪ ،‬فتجد نف�سك تقول كالم ًا مل تكن م�ستعداً‬ ‫لقوله‪ ،‬لأنك قررت م�سبق ًا �أن تكون خفيف العبور”‪ ،‬ثم تركت‬ ‫مرمي عدة �سطور خالية ت�شي بالبكاء‪“ ،‬تخيل �أن تكون معلق ًا يف‬ ‫م�ساحة مثل هذه الأ�سطر �أعاله‪ ،‬ال �أنت �أكملت م�رشوع العبور‪،‬‬ ‫وال �أح�سنت البقاء‪ ،‬وبد ًال من �أال ينتبه �إليك �أحد‪ ،‬انتبهوا فج�أة �إىل‬ ‫�أن الفتاة‪ ،‬ال تثري االنتباه!”‬ ‫ورحت �أتابع ق�صتها‬ ‫�أعرتف �أن مرمي �أغرتني �أكرث من م�شاري‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ارتقيت فعلي ًا من مرحلة احلزانى‬ ‫كنت قد‬ ‫ُ‬ ‫معها‪ ،‬ونتكلم كثرياً‪ .‬لأين ُ‬ ‫‪186‬‬


‫�إىل مرحلة امللعونني‪ ،‬وهذا ال يلغي احلزن �أبداً‪ ،‬ولكنه ي�ستثني براءته‬ ‫وطهره‪.‬‬ ‫وافرت�ضت ذلك يف مرمي التي مل يكن حبها‬ ‫كان طوقي مك�سوراً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أقل �صعوبة من حبي‪ ،‬وهذا يخت�رص الكثري من امل�سافات بيننا‪ .‬كانت‬ ‫جميلة كما يفرت�ض بفتاة كانت قيد احلب‪ ،‬من قلب الريا�ض املليئة‬ ‫ّ‬ ‫أ�صبحت‬ ‫بقطاع الأمل‪ ،‬التقيتها مراراً يف �أماكن متفرقة من املدينة التي �‬ ‫ُ‬ ‫واكت�شفت تدريج ًا كم هي حزينة‪،‬‬ ‫خبرياً يف ارتياد مظالتها العاطفية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وملعونة‪ ،‬مثلي‪ .‬وتركنا الأج�ساد تتباكى بع�ضها على بع�ض‪ ،‬ورممّ نا‬ ‫�شيئ ًا ما‪ ،‬ور�صفنا طرق ًا مقطوعة‪ ،‬وتعاونا على تقبل ّ‬ ‫م�سكنات الأمل‪،‬‬ ‫كبدائل عملية للحياة ال�سعيدة‪.‬‬ ‫�س�ألتها‪:‬‬ ‫أ�ساعدك على جتاوز الأمر؟‬ ‫– هل �أنا �‬ ‫ِ‬ ‫بعد �صمت ق�صري‪� ،‬أجابتني مرمي‪:‬‬ ‫– �أعتقد �أنك فقط جتعلني �أقل انتباه ًا لتعا�ستي‪.‬‬ ‫ابت�سمت قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬و�س�ألتها ونحن جال�سان يف �أعلى غرفة‪ ،‬من �أعلى‬ ‫ُ‬ ‫فنادق الريا�ض‪ ،‬نت�أمل من �سقفها املفرت�ض لوحة من الأ�ضواء ال�صفراء‬ ‫التي تبدو مثل خيوط من الذهب‪ ،‬تخيط املدينة املمزقة‪ ،‬وتبقيها‬ ‫ن�سيج ًا واحداً موهوم ًا للناظر من �أعلى‪ ،‬فقط‪.‬‬ ‫– هل يفرت�ض �أن �أغ�ضب لتفاهة هذا الدور يا ترى؟‬ ‫رفعت حاجبيها الرفيعني‪ ،‬وه ّزت ر�أ�سها عالمة الدراية‪.‬‬ ‫عظيم لو تعلم‪.‬‬ ‫– هذا الدور‬ ‫ٌ‬ ‫دور عظيم قبل �أن �أ�س�ألها‪� .‬أمل يكن هذا هو هديف‬ ‫ُ‬ ‫وكنت �أدرك �أنه ٌ‬ ‫‪187‬‬


‫ق�صدت عيادة و ّزان؟ �أن يجعلني �أقل انتباه ًا للتفا�صيل‬ ‫الأول عندما‬ ‫ُ‬ ‫التي ّ‬ ‫أ�صبحت �أ�ساعد‬ ‫كنت مري�ض ًا بهذا‪� ،‬‬ ‫ُ‬ ‫تعذب ذاكرتي‪� .‬أنا الذي ُ‬ ‫مرمي‪� ،‬أو رمبا كانت هي التي ت�ساعدين‪.‬‬ ‫كانت مطلقة‪ ،‬و�أم ًا لثالثة �أطفال مل تعد تراهم منذ �أن قررت هي‬ ‫بنف�سها �أال تراهم‪�“ .‬سيكونون بخري لو ظلوا �أبعد‪ ...‬و�أنا �أي�ض ًا”‪،‬‬ ‫وعندما �شعرت ب�أن ذلك مل يقنعني‪ ،‬قالت يل ب�صوت خفي�ض “ال‬ ‫�أ�ستطيع �أن �أجعل من �أطفايل �ضمادات يل”‪ ،‬كانت يف منت�صف‬ ‫الثالثني‪ ،‬لها عينان ميتتان تقريب ًا‪ ،‬ووج ٌه ممتلئ‪ .‬كانت ت�شبه �سينثيا‬ ‫قلت لها‪ ،‬وهي‬ ‫نيك�سون‪ ،‬بطلة م�سل�سل “اجلن�س واملدينة”‪ ،‬هكذا ُ‬ ‫�أخربتني �أنها ال ت�ستغرب �أبداً �أن �أتابع مثلها م�سل�س ً‬ ‫ال كهذا‪.‬‬ ‫كل حلقة عبارة عن عدة خيبات �صغرية مموهة بال�سخرية‪ ،‬حتى‬ ‫تلك اللحظات ال�سعيدة كانت جزءاً من �رصاعات �أ�سا�سية مع العمر‬ ‫واملدينة وفو�ضى امل�شاعر‪ ،‬ولذلك كانت م�شاهدة امل�سل�سل بجوار‬ ‫خيباتنا‪ ،‬يجعلها تت�ضاءل تدريج ًا حتى ت�صبح واحدة منها‪ ،‬ونلتفت‬ ‫لوهلة لنجدها قد اختفت‪ ،‬وذابت يف �أحد امل�شاهد‪.‬‬ ‫قالت مرمي‪:‬‬ ‫– ثم �إن امل�سل�سل يجعلك تتوهم �أنك قادر على هزم املدينة‪ ،‬وهذا‬ ‫وهم مفيد‪.‬‬ ‫– ملاذا ال يكون حقيقة؟‬ ‫– لأن مدينتنا ال ميكن هزمها يا عزيزي‪ ،‬النقطة الوحيدة التي‬ ‫ميكن �أن تك�سبها يف �رصاع خميف مع الريا�ض‪ ،‬هي �أن ترحل عنها‪.‬‬ ‫– �أ�صبحت كلمة الرحيل دارجة عندما يتعلق الأمر بالع�شق‪.‬‬ ‫– هل تالحظ هذا مثلي‪ ،‬جميل‪ .‬توقّعت �أين الوحيدة التي‬ ‫‪188‬‬


‫الحظت ذلك‪.‬‬ ‫– ملاذا يف ر�أيك؟‬ ‫– ملاذا‪ ،‬ملاذا‪ ،‬ملاذا‪ ،‬ملاذا!‬ ‫ابت�سمت بخجل‪ ،‬وقلت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أعدك‪ ،‬فقط �أجيبيني‪.‬‬ ‫– هذه �آخر ملاذا‪ِ � ،‬‬ ‫– �أعتقد �أن يف الرحيل طاقة رومان�سية معربة‪.‬‬ ‫– ال‪.‬‬ ‫– ماذا �إذن؟‬ ‫– يف الرحيل �رصخة كبرية‪.‬‬ ‫التقيت مرمي عدة �ساعات‪ ،‬يف فندقنا العايل‬ ‫ويف �إحدى املرات‬ ‫ُ‬ ‫نف�سه‪ ،‬وعندما تركتني بعد ارتواء‪� ،‬أر�سلت ر�سالة �إىل هاتفي‪:‬‬ ‫“�أر�أيت؟ مل تنتبه الريا�ض �إىل �أن التي جاءت ظم�أى‪ ،‬خرجت وقد‬ ‫ارتوت كثرياً‪ .‬املدينة مل تعد تنتبه كثرياً‪ ،‬و�ضعف ب�رصها وذاكرتها‪،‬‬ ‫خمن ماذا؟ ال فرق!”‬ ‫ومرمي مل تعد مرمي‪ ،‬و‪ّ ...‬‬ ‫ج�رس من الكتابة جعل مرمي وغريها كثريات يعربن �إ ّ‬ ‫يل‪ .‬تدريج ًا‬ ‫بد� ُأت �أ�ستنتج كم يف هذه املدينة من اجلياع واجلائعات‪ .‬ال ميكن �أن‬ ‫تكون عندنا م�ساحة �ضيقة جداً �إىل هذا احلد وال ننتبه �إليها �إال عندما‬ ‫عرفت ملاذا جدران هذه املدينة �أ�سمك‬ ‫نقع �صدف ًة يف عملية حب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫و�أ�سوارها �أعلى‪ ،‬ثمة �أ�شياء من اجلموح بحيث ال ميكن �أن يبقيها يف‬ ‫أ�سوار كهذه‪.‬‬ ‫الداخل �إال � ٌ‬ ‫ولهذا يتكلم اجلميع هنا لغة ال�رسية بطالقة‪.‬‬ ‫كنت �أعيد تق�سيم حياتي و�سط هذا الفي�ض من احلزانى الذين‬ ‫ُ‬ ‫‪189‬‬


‫�شعرت ب�أن ال �شيء يف حياتي ب�أ�رسها كان م�صريي ًا‬ ‫جل�سوا معي فج�أة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت ولداً مطيع ًا ومثالي ًا يف �أ�رسة �صغرية وعادية‪،‬‬ ‫وحا�سم ًا ومهم ًا‪ُ ،‬‬ ‫لي�س عندي موهبة وال ميزة وال حتى م�رشوع مكتمل‪ .‬ومل يبد�أ �شيء‬ ‫يف تغيري هذا امل�سار الب�سيط يف حياتي �إال الن�ساء‪ ،‬وبدونهن‪ ،‬ال يبقى‬ ‫أ�سكن ج�سده �إال م�ساحة باهتة هائلة جداً‪ ،‬ال مييزها‬ ‫يف الرجل الذي � ُ‬ ‫�شيء من � ّأي يباب �إن�ساين عابر‪.‬‬ ‫هن!‬ ‫�إن حياتي تر�سمها الن�ساء‪ ،‬وتاريخي يكتبنه ّ‬ ‫وال �أجد يف �سجالت عمري �أية ف�سح ٍة زمنية �أ�ستطيع �أن �أعلنها‬ ‫منطقة خالية من الفعل الأنثوي‪� ،‬أو م�ساح ًة مل تتداخل فيها مقومات‬ ‫ح�ضارته‪ ،‬ومل ترتك لها �أثراً يفّ‪ ،‬ويف حياتي‪ .‬حتى برجي كان العذراء‪،‬‬ ‫قررت �أال تخرج �إىل احلياة‪،‬‬ ‫وحتى �رشيكتي يف رحم �أمي كانت بنت ًا َّ‬ ‫وماتت يف جواري‪ ،‬يف الرحم العميقة‪ ،‬قبل الوالدة‪ .‬ت�صورت �أنها‪،‬‬ ‫�سمتها �أمي (هيفاء)‪ ،‬عندما �أح�ست �أنها ال ت�ستطيع �إكمال‬ ‫�أختي التي ّ‬ ‫رحلتها‪ ،‬و�ستموت‪ ،‬حقنت يف ج�سدي الل�صيق بها قبل �أن متوت كل‬ ‫هرمونها الأنثوي‪ ،‬ورحلت‪ ،‬حتى �أ�ستطيع �أن �أخرج �أنا حي ًا‪ ،‬و أ��ؤدي‬ ‫ر�سالة مزدوجة يف احلياة‪.‬‬ ‫وحتى نفحة الهواء التي اخرتت منها �أول �أنفا�سي يف الدنيا‪ ،‬كانت‬ ‫من بريوت‪ ،‬املدينة الأنثى‪ ،‬كما �أن �أول يد ب�رشية مل�ست جلدي كانت‬ ‫أعلنت والئي لهذا العامل الذي ال �أنتمي‬ ‫يد طبيبة �أنثى‪ .‬العذر يل �إذا � ُ‬ ‫�إليه‪.‬‬ ‫كنت م�ستعداً جيني ًا حلاالت الع�شق‪ ،‬ورقة �أمزجته‪ ،‬فال‬ ‫هكذا‪ُ ،‬‬ ‫�أمي تعبت يف تربيتي‪ ،‬وال نادية واجهت �صعوب ًة يف حبها يل‪ ،‬ومل‬ ‫‪190‬‬


‫ترهقني كثرياً بنات ال�صيف اللواتي �أراهن �أثناء الإجازات يف التقاط‬ ‫املتع الق�صرية معهن‪ ،‬ومل تتعب غالية يف اعتقال نب�ضي امل�شاغب‪،‬‬ ‫ويعد‬ ‫وكان �صوت اجلورية‪� ،‬صوتها وحده‪ ،‬يكتب تذكرة ال�سفر‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫حقائبه‪.‬‬ ‫الو�صول �إ ّ‬ ‫علي �صعب‪ .‬هذا هو �أنا مع الن�ساء‪،‬‬ ‫يل �سهل‪ ،‬والإبقاء ّ‬ ‫باخت�صار‪ .‬وحدها غالية التي عاملتني كم�رشوع �أكرث مني كرجل‪،‬‬ ‫كانت الأقدر على االحتفاظ بي‪ ،‬وعندما جنحت‪ ،‬عندما �أقنعتني متام ًا‬ ‫�أنها �أطل�س كل الن�ساء‪ ،‬ا�ضطرتها ظروفها �أن تهجر بنف�سها ما �سعت‬ ‫يف توطينه با�سمها‪ ،‬وتركتني �أتهادى بني �أفقني‪ ،‬ممكن وم�ستحيل‪.‬‬ ‫تركتني م�رشوع ًا يف منت�صف التنفيذ‪ ،‬اختفت خمططاته‪ ،‬وبقي معلق ًا‬ ‫يف ق�صبة الظن‪.‬‬ ‫هل كان ممكن ًا �أن متنحني غالية المر�أة �أخرى‪ ،‬رج ً‬ ‫ال حمتمل‬ ‫الوفاء؟‬ ‫جنحت يف اللقاء‬ ‫رمبا كان �أكرث من ثالثني امر�أة‪ ،‬جمموع اللواتي‬ ‫ُ‬ ‫افتتحت مو�سم ًا م�ستق ً‬ ‫ال من‬ ‫اجل�سدي بهن‪ ،‬لكل واحدة منهن‬ ‫ُ‬ ‫واحتفظت بتذكار من الق�ص�ص‪.‬‬ ‫احل�صاد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫متنيت يف‬ ‫ولكن‪ ،‬كم هي رتيبة الق�ص�ص عندما ت�صبح كثرية‪ .‬وكم ُ‬ ‫حلظات قدمية لو كان عندي ق�ص ٌة واحدة عتيدة‪ ،‬عن امر�أة ال ثانية لها‪،‬‬ ‫تخت�رص كل احلاالت التي ميكن �أن متررها يل الن�ساء الأخريات‪.‬‬ ‫تدحرجت كرند مذهول‬ ‫وكنت �صغرياً‪ ،‬فهل ُيالم ال�صغار؟ عندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫على �أول �أنثى يف حياتي‪ ،‬كان عمري خم�س ع�رشة �سنة‪ ،‬وكانت هي‬ ‫رقع ًة غري عادلة بالن�سبة يل‪ ،‬عمرها جتاوز الثالثني بعدة �سنوات‪� ،‬أكرث‬ ‫‪191‬‬


‫من �أرقام الرند‪� ،‬أكرث من ال�صفر الكبري الذي يرتجم ح�صيلة جتاربي مع‬ ‫امر�أة �آنذاك‪.‬‬ ‫جذبتني بابت�سامة وا�سعة‪� ،‬أكرث االبت�سامات التي ر�أيتها يف حياتي‬ ‫ات�ساع ًا‪ ،‬كادت �أن تبتلعني بها‪ ،‬ومل تتكلم كثرياً‪ ،‬كانت ب�ضع كلمات‬ ‫تتحرك نحو الهدف مبا�رشة‪ ،‬و�أنا �أرتب الرجولة ال�صغرية املتف�شية يف‬ ‫ج�سدي �آنذاك‪ ،‬و�أحاول �أن �أجهز �أول ت�شكيل لها يف مواجهة عر�ض‬ ‫ترددت �إليها لر�ضو�ض‬ ‫�أنثوي كهذا‪ .‬املكان عياد ٌة �صغرية يف الريا�ض‬ ‫ُ‬ ‫يف يدي من لعب الكرة‪ ،‬واملر�أة كانت طبيبة عربية‪ ،‬وجهها م�ستدير‪،‬‬ ‫و�صدرها �ضخم جداً‪ ،‬والفت لالنتباه‪.‬‬ ‫جعلتني تلك املر�أة لعين ًا جداً كما ي�سميني �أحمد �أحيان ًا‪ ،‬ويعرف‬ ‫بحد�س الأخ الأكرب �أين بد�أت �أنقّب يف �أر�ض الن�ساء‪ ،‬و�أبحث عن‬ ‫احلياتي منهن‪ ،‬ولأن امر�أة ما‪ ،‬تركب �سيارة فارهة‪ ،‬ومعتمة‬ ‫ن�صيبي‬ ‫ّ‬ ‫جداً‪ ،‬ا�ستوقفتني ذات يوم مع �أ�صدقائي‪ ،‬وتركت يل رقمها مع ب�ضع‬ ‫ٌ‬ ‫فطويت خجلي‬ ‫مقبول جداً عند الن�ساء‪،‬‬ ‫�شعرت �أنني‬ ‫كلمات ناعمة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وانتحلت جر�أة كبرية يف اقتحام الكالم معهن‪ ،‬وكانت‬ ‫ورميته بعيداً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تروقهن دائم ًا‪.‬‬ ‫ا�ستيقظ ج�سدي مبكراً جداً‪ ،‬وال �أدري �أي �آثار �سيئة حلقت بي‬ ‫جراء ذلك‪� ،‬أنا مت�أكد �أنها �آثار �سيئة‪� ،‬أو رمبا خ�سائر مرحلية‪ ،‬لأين‬ ‫ّ‬ ‫كنت معطل احلوا�س ال�شعورية �إال من‬ ‫أحببت غالية‪ُ ،‬‬ ‫حتى عندما � ُ‬ ‫كنت مكر�س ًا لذلك العبث‪ ،‬ذلك الطرب اجل�سدي الق�صري‪،‬‬ ‫الرغبة‪ُ ،‬‬ ‫خ�رست عمراً كان �أجدر به �أن ي�صاغ جيداً يف ذلك العنفوان ال�ضائع‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كموئل روحي عميق كان ميكن �أن �أنفق منه‬ ‫خ�رست املر�أة نف�سها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫‪192‬‬


‫على �أحا�سي�سي وقدراتي ال�شعورية‪ ،‬و�أ�ستمد منه لغة الروح‪ ،‬و�أقطف‬ ‫منه كب�سولة النور �أحيان ًا‪ .‬امتهنتها كثرياً عندما حولتها من دون �أن‬ ‫�أدري �إىل هدف موقّت‪ ،‬يبد أ� باملراودة‪ ،‬وينتهي باجلن�س املتكرر عدة‬ ‫مرات حتى �أم ّلها ومت ّلني‪ .‬طوال �سنوات واملر�أة عندي هدف م�ؤقت‪،‬‬ ‫ولكن ا�شتعايل اخلاطئ‬ ‫مل تكن هكذا من قبل‪ ،‬وهي لي�ست هكذا الآن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رمبا جعلني �أخ�رس ح�ضورها يف روحي كل تلك ال�سنوات تقريب ًا‪.‬‬ ‫�أ�صبحت املر�أة عندي جمرد خرب‪� ،‬إما �أن يكون‪ ،‬و�إما �أنه كان‬ ‫ٌ‬ ‫حا�صل يف جملة اعرتا�ضية ال �أريدها‪ .‬كم �أكره‬ ‫وانتهى‪ ،‬و�إما �أنه‬ ‫العالقة التي �أن�سى بعدها ا�سم الفتاة! وكلما قفزت يف ذهني الآن‬ ‫�صورة قدمية لفتاة ق�ضيت معها بع�ض الوقت‪ ،‬ومل �أفلح يف قطف‬ ‫ا�سمها كام ً‬ ‫خ�رست �صفق ًة كبري ًة معها‪� ،‬أ�شعر‬ ‫ال من ذاكرتي‪� ،‬أ�شعر ب�أين‬ ‫ُ‬ ‫منجم ما‪ ،‬من دون �أن �أنتبه ملا فيه‪ ،‬ومل �أ�ستخرج من‬ ‫كنت يف‬ ‫ب�أين ُ‬ ‫ٍ‬ ‫�أنوثتها التي كانت �أمامي زيت ال�شهوة‪ ،‬كما ُي�ستخرج امل�سك من‬ ‫الغزالن‪.‬‬ ‫زيت كهذا‪ .‬ولهذا �أنا خ�سائري كثرية‪ ،‬والرتف‬ ‫�أي امر�أة‪ ،‬عندها ٌ‬ ‫غم�ست ج�سدي فيه ب�ضع �سنوات �أبطل الكثري من حوا�سي‪،‬‬ ‫الذي‬ ‫ُ‬ ‫و�أحرق �أ�شجاراً كان من املمكن �أن تغري ت�ضاري�س نف�سي‪ ،‬لو قدر‬ ‫لها �أن تبقى‪ ،‬ولكن الن�ساء ال يعدن‪ ،‬و�إن عدن فال تكون عودتهن‬ ‫كالإتيان الأول �أبداً‪� ،‬أبداً‪.‬‬ ‫تثقفت مع غالية‪� ،‬أو‬ ‫تثقفت مع كل امر�أة مقدار ما‬ ‫�أتخيل لو �أين‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بع�ضه‪� ،‬أي رجل �س�أكون؟‬ ‫رغم �أن الن�ساء يكتنب تاريخي‪ ،‬ف�إن �أجزاء كثيفة من هذا التاريخ‬ ‫‪193‬‬


‫م�شوهة‪ ،‬ومل حتفظ جيداً‪ ،‬كما هو التاريخ دائم ًا‪ ،‬ال ميكن �أن يظل‬ ‫ّ‬ ‫نظيف ًا‪ .‬ثالثون امر�أة‪� ،‬أو �أكرث‪ ،‬مل �أحفل ب�إح�صاء عددهن �إال الآن‪،‬‬ ‫ا�ستطعت‬ ‫احتجت �إىل �أن �أكتب هذه الكلمات‪ ،‬لي�س منهن من‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�أن �أحوز بيدي منها حدث ًا ُيروى‪� ،‬أو كالم ًا ُيقال‪ ،‬ولو على عتبات‬ ‫بقيت حتى‬ ‫املقاهي‪ ،‬ولوال �أن جتربتي مع غالية غيرّ ت الكثري‪ ،‬لرمبا‬ ‫ُ‬ ‫هذا العهد متنق ً‬ ‫ال من جلد امر�أة �إىل جلد امر�أة �أخرى كبعو�ضة �شبقة‪،‬‬ ‫ال يهمها �إال �أن متلأ بطنها باملتعة‪ ،‬وال �أعرف كيف �أ�ستثمر حادثة‬ ‫حياتية كبرية جداً‪ ،‬مثل حادثة لقاء رجل وامر�أة‪.‬‬ ‫كنت �أرحل دائم ًا قبل �أن‬ ‫ورغم �أن حياتي تر�سمها الن�ساء‪ ،‬فقد ُ‬ ‫ينهني ر�سمهن‪ ،‬و�أحيان ًا يف اخلطوط الب�سيطة الأوىل على “�سكيت�ش”‬ ‫التجربة‪ .‬ومل �أكن �أعرف �أين �أغامر بالتعر�ض للحياة باهت ًا‪ ،‬حمروم ًا‬ ‫خ�سارات كبرية‬ ‫املفرقة ملالحمي‪� ،‬إنها‬ ‫ٌ‬ ‫من الألوان‪ ،‬و ُم َّ‬ ‫غي َب التفا�صيل ِّ‬ ‫فع ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬ت� ّأملت �أمي وجهي طوي ً‬ ‫كنت طف ً‬ ‫ال‪ ،‬و�أنا م�ضطجع يف‬ ‫عندما ُ‬ ‫وكنت يف املقابل‬ ‫ح�ضنها‪ ،‬وكانت تقول‪�“ :‬سينبت �شاربك مبكراً”‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أت� ّأمل وجهها العابق برائحة احلنو و�أنده�ش‪ ،‬فرتدف‪“ :‬بلى‪� ،‬سي�صبح‬ ‫�شارب مثل بابا”‪ ،‬ف�أتذكر �شاربه الأبي�ض الذي يلت�صق بلحيته‪،‬‬ ‫عندك‬ ‫ٌ‬ ‫و�أحتج ب�صوت خمنوق‪“ :‬ما �أبغى �شنب‪� ،‬أبغى �أ�صري مثلك‪ ..‬وجهي‬ ‫نظيف!”‬ ‫رجال يا ولدي‪.‬‬ ‫– ولكنك ّ‬ ‫– طيب فيه رجال بدون �شنب؟‬ ‫– همممم‪ ،‬فيه‪ ،‬ب�س يحلقونه‪.‬‬ ‫‪194‬‬


‫– كيف يحلقونه؟‬ ‫– باملو�س‪.‬‬ ‫يعور؟‬ ‫– ما ّ‬ ‫يعورهم‪.‬‬ ‫يعور‪ ،‬ال�صغار ّ‬ ‫– للكبار ب�س ما ّ‬ ‫– ملا يطلع يل �شنب راح �أحلقه‪.‬‬ ‫– طيب يا حبيبي‪.‬‬ ‫– طيب ليه بابا ما يحلق �شنبه؟‬ ‫– لأن �شنبه حلو‪.‬‬ ‫– لأ‪ ،‬انتي �أحلى!‬ ‫وت�ضمني �إىل‬ ‫وتقبلني �أمي يف �شفتي‪ ،‬يف �شفتي متام ًا‪ ،‬كعا�شقني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫علي دعاءها املعتاد‪“ :‬جعل‬ ‫�صدرها ك�أمنا ُ‬ ‫كنت تائه ًا منذ قرون‪ ،‬ومتد ّ‬ ‫يومي قبل يومك‪ ،‬اهلل ال يحرمني من حبيبي”‬ ‫كنت حمظوظ ًا برعاية �أمي‪ ،‬حمفوظ ًا جداً عندها وك�أين حبة ف�ستق‬ ‫ُ‬ ‫بني �شقيها ال�صلبني‪ ،‬ولوال �أننا ب�رشٌ حلملتني على ظهرها مثلما تفعل‬ ‫يحتج عليها‬ ‫ال�سلحفاة ب�صغارها‪ .‬دللتني مبزاج مو�صول عند � ٍأب ال‬ ‫ُّ‬ ‫بدعوى الإف�ساد كما يفعل الآباء عادة‪ ،‬بل يعينها على م�رشوعها‬ ‫املتوا�صل يف �إبقائي معلق ًا بني دفتي �سماء‪ ،‬كنعمة �إلهية‪.‬‬

‫****‬ ‫ّ‬ ‫أفقت‬ ‫حل العيد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وقررت �أن �أ�سافر �إىل بريوت‪� .‬صباح ذلك اليوم‪ُ � ،‬‬ ‫�سمعت �صوت �أبي يف‬ ‫مبزاج قلق‪ ،‬كما هي حايل دائم ًا قبل ال�سفر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪195‬‬


‫نزلت �إليه بعد اغت�سال �رسيع لعلي �أجل�س معه قبل �أن يحني‬ ‫احلديقة‪ُ .‬‬ ‫موعد الطائرة‪ ،‬ووجدته قد �أوى �إىل طاولته ال�صغرية يف ركنه الذي‬ ‫يحب �أن يقر�أ فيه جرائده دائم ًا‪.‬‬ ‫كنت �أ�شعر بحمو�ضة ما يف عقلي‪� ،‬أو قلبي‪ ،‬ال �أتذكر حتديداً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت متفق ًا على لقاء مرمي هناك بعد‬ ‫ولكنها ال تبعث على ال�سكينة‪ُ .‬‬ ‫أخرت �أنا �إىل اليوم‬ ‫�أن �سبقتني �إىل بريوت منذ بدء الإجازة‪ ،‬بينما ت� ُ‬ ‫الثاين للعيد حتى �أمار�س طقو�س العيد الأوىل مع �أبي‪.‬‬ ‫– �أه ً‬ ‫ال يا‪ ،‬يا (م�سافر وحدك)‪.‬‬ ‫قالها �أبي‪ ،‬وابت�سامة �ضئيلة تنح�رش يف فمه ال�صغري‪ ،‬وتكملها عيناه‬ ‫اللتان ت�ضحكان ب�صمت من وراء النظارة‪.‬‬ ‫– �صباح اخلري‪� ،‬أم�س رجعت ما لقيتك ع�شان �أقول لك �إين‬ ‫م�سافر‪.‬‬ ‫– يعني كنت ناوي تودعني (من غري ما ت�س ّلم)‪.‬‬ ‫حممد عبد الوهاب حا�رضٌ معنا �إذن على الطاولة ال�صباحية التي‬ ‫جتمعني ب�أبي‪ ،‬و�أغنيته اللطيفة تلك حتتل مزاج �أبي يف �صباح اليوم‬ ‫الثاين للعيد‪.‬‬ ‫�أمتنى �أحيان ًا لو �أرث من �أبي قدرته الفائقة على �ضبط مزاجه‬ ‫ل�سنوات‪ ،‬من دون �أن يختل �إال يف ظروف نادرة جداً‪ ،‬ولفرتة ق�صرية‬ ‫غالب ًا‪ ،‬هذه الروح الرا�ضية التي تفوح من قمي�ص �أيامه تثري احل�سد‬ ‫فع ً‬ ‫ال‪ ،‬هو الذي ميتطي �آخر عقده ال�سابع على عجل‪ ،‬و�أنا يف �أواخر‬ ‫كهالم على �صخرة‪.‬‬ ‫مزاج متقلب‬ ‫ٍ‬ ‫الع�رشين وعندي ٌ‬ ‫رمبا نظامه املحكم جداً يف �إدارة الوقت والتاريخ يجعله يفوز‬ ‫‪196‬‬


‫دائم ًا بهذا املزاج امل�ستقر‪ ،‬بجوار اال�ستقاللية التي يحيط نف�سه‬ ‫و�أ�رسته ال�صغرية بها‪� ،‬أقول رمبا وال �أدري‪ ،‬لأين �أحتفظ لنف�سي‬ ‫ولكن مزاجي �شيء ال ميكن تنظيمه‬ ‫بحياة �شبه منتظمة كتلك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�إطالق ًا ‪.‬‬ ‫– عندي �أ�شغال يف بريوت‪.‬‬ ‫– فع ً‬ ‫ال‪ ،‬بريوت حتتاجك هذه الأيام‪ ،‬هناك �أزمة برملانية‪.‬‬ ‫ت�ضحك �أمي‪ ،‬و�أبت�سم �أنا ل�سخرية �أبي العابرة‪ .‬تبادلنا بع�ض‬ ‫الكالم‪ ،‬وبع�ض القهوة‪ ،‬ثم تركتهما وهما ي�ستعدان للخروج‪ .‬قال‬ ‫�أبي قبل �أن يذهب‪:‬‬ ‫– ال تن�س نادية يا ح�سان‪.‬‬ ‫– طبع ًا يا والدي‪ ،‬طبع ًا‪.‬‬ ‫جل�ست �أكمل قهوتي‬ ‫و�ضممت �أمي‪ .‬ثم‬ ‫ّقبلته على جبينه ويده‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بهدوء‪ ،‬وقد �أ�صبحت فكرة ال�سفر �إىل بريوت تروقني جداً‪.‬‬ ‫عندما حتركت ال�سيارة فع ً‬ ‫�شعرت ب�أن قلبي ينب�ض ب�سذاجة‪،‬‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أ�صدق �أنه ينتظرين حقيق ًة خلف‬ ‫وك�أنّ بريوت �صارت وهم ًا ال � ّ‬ ‫�ساعتني ون�صف ال�ساعة فقط‪ .‬ثمة كنوز �صغرية تخبئها يل مرمي‬ ‫وبريوت حتم ًا‪ .‬طرق دمي �أبواب ًا �صغرية يف ج�سدي ظلت مقفلة منذ‬ ‫�أن رحلت غالية‪ ،‬وعروق ًا تتكفل دائم ًا بالن�شوة والرغبة يف احلياة‪،‬‬ ‫ويف نيل بهجة عابرة قبل �أن ي�سحبها القدر من �أمامي‪ ،‬ويعيدها �إىل‬ ‫جيبه‪ ،‬فبد�أت �أ�ستح�رض يف الطريق �إىل املطار تلك الفل�سفات التي‬ ‫متجد املتعة‪ ،‬ووجدتها �سهلة املرور يف فرجات عقلي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف الطائرة فكرت ما ال�شعور الذي �سرياودين لو مل �أجد‬ ‫‪197‬‬


‫ما �أتوقعه من متعة؟ هل �س�أن�سجم مع دور ال�سائح الذي مل ي�أت‬ ‫من �أجل ال�سياحة �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬و�إمنا ر�ضي به كمعطى �إ�ضايف؟ �أو �أنني‬ ‫�س�أنتك�س كعادتي الطفولية الدائمة‪ ،‬و�أ�سعى للخروج من دائرتها‬ ‫املغلقة التي دخلتها را�ضي ًا‪ ،‬و�أحاول تربير كل ت�رصفاتي امل�ضادة‬ ‫مل�صلحة ظرويف‪ ،‬ملقي ًا كل التبعات املتعلقة ب�ضمريي يف منطقة‬ ‫التفكري امل�ؤجل؟‬ ‫هذا هو املطار �أخرياً‪ ،‬وهذه مرمي‪ ،‬تقف يف زحام امل�ستقبلني ك�أنها‬ ‫�شجرة من �أ�شجار الزينة البال�ستيكية النحيلة‪ّ ،‬قبلتها‪ ،‬و�ضممتها‪،‬‬ ‫عطر ثقيل بدا وا�ضح ًا‬ ‫ُ‬ ‫و�شممت يف �شعرها رائحة تدخني قريب ّ‬ ‫ميوهه ٌ‬ ‫خرجت معها من املطار �إىل ال�سيارة التي تنتظرنا‬ ‫تواً‪.‬‬ ‫�أن مرمي ّ‬ ‫ُ‬ ‫ر�شته ّ‬ ‫خارجه‪.‬‬ ‫تخاطبني مرمي بلقب (حبيبي)‪ ،‬و�أنا �أ�شعر ب�أن الكلمة ثقيلة جداً‬ ‫على �سمعي‪ ،‬وك�أنها ٌ‬ ‫طبل �صفيق‪ .‬مل �أكن �أ�ستطيع �أن �أطلب منها‬ ‫اختيار كلمة �أخرى حتى ال �أبدو �سمج ًا متعالي ًا‪ .‬كان وا�ضح ًا �أنها‬ ‫ت�ستمتع كثرياً ب�شكل عالقتنا امل�رسحي هذا‪ ،‬والطريقة التي نتداخل‬ ‫فيها مع �أنف�سنا من دون ت�شابك خطر‪.‬‬ ‫ورغم القليل من اخل�شونة التي ت�شوب ت�رصفات مرمي‪ ،‬وردود‬ ‫كنت �أ�شعر بالراحة‬ ‫�أفعالها غري املربرة �أحيان ًا جتاه �ش�ؤون �سخيفة‪ُ ،‬‬ ‫معها‪ .‬كانت عالقتنا ت�شبه التمارين الريا�ضية‪ ،‬واال�ستمتاع‬ ‫بالإرهاق‪.‬‬ ‫تثبت اقتناعي مبا قاله يل �أمين يوم ًا‪� .‬أحيان ًا �أتخيل‬ ‫ك�أن عالقتي بها ُ‬ ‫مررت به �أنا‪ ،‬و�إال فكيف نقع على الأفكار‬ ‫مر ب�أ�شياء �شبيهة مبا‬ ‫ُ‬ ‫�أنه ّ‬ ‫‪198‬‬


‫نف�سها يف النهاية‪ ،‬و�أحيان ًا �أخرى �أنف�ض هذه الفكرة من ر�أ�سي‪،‬‬ ‫و�أفكر ب�شكل منطقي‪ :‬رمبا ا�ست�شعارنا امل�سبق لت�شابه اقتناعاتنا‪ ،‬هو‬ ‫الذي جعلنا نبد أ� هذه ال�صداقة �أ�ص ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫كان يقول عن عالقتي مبرمي‪:‬‬ ‫– هذا هو امل�ستوى احلقيقي للعالقة مع الأنثى‪ ،‬مبا �أنك ال تخدع‪،‬‬ ‫وال تكذب‪ ،‬وال تغوي‪ ،‬فهناك امر�أة تريدك �أنت‪ ،‬و�أنت تريدها‪ ،‬وفق‬ ‫اتفاق �ضمني �أن ال تربطا م�صرييكما الواحد بالآخر‪ .‬من الذي ابتدع‬ ‫بدعة احلب امل�صريي هذه؟‬ ‫كنت يف مزاج عابث وهو يقول يل هذا الكالم‪ ،‬ولهذا �أجبته‬ ‫ُ‬ ‫ب�سخرية‪:‬‬ ‫– قي�س‪.‬‬ ‫– لي�س وحده‪ ،‬بل ابتدعتها العقلية الذكورية امل�سيطرة عرب التاريخ‪،‬‬ ‫عقلية احتكار املر�أة‪ ،‬واعتبارها من بقية الأمالك التي �إما �أن حتوزها‪،‬‬ ‫�أو تقاتل من �أجلها‪� ،‬أو متوت كمداً عليها‪ .‬حتى املر�أة نف�سها مت�أثرة‬ ‫بهذا االغتيال اجلماعي جلن�سها‪ ،‬و�أ�صبحت تتجه ال �إرادي ًا لأن حتول‬ ‫نف�سها �إىل هذا ال�شيء اململوك‪ ،‬فرتيدك �أن تتزوجها‪� ،‬أو ت�سعى للزواج‬ ‫بها‪� ،‬أو تعلن حزنك عليها‪ ،‬ال�شيء نف�سه!‬ ‫تذكرت غالية‪ ،‬وقرار عودتها �أخرياً �إىل مط ّلقها ال�سابق‪ ،‬ترى هل‬ ‫ُ‬ ‫عادت �إليه فع ً‬ ‫ال �أم ترددت؟‬ ‫– اتفق معك يا �أمين‪ ،‬ولكن من ال�صعوبة �أن تقف يف وجه جمتمع‬ ‫ب�أ�رسه‪� .‬أنت تعرف �أين ال �أملك هذه الروح الن�ضالية‪� ،‬أنا �أعي�ش‬ ‫يومي الآن‪ ،‬ولكني �أعرف �أين ال بد منته �إىل امر�أة واحدة يف النهاية‪،‬‬ ‫‪199‬‬


‫�ستكون زوجتي‪ ،‬وال�سالم‪.‬‬ ‫– هذا يف النهاية‪ ،‬ال ب�أ�س‪� ،‬أما الآن ف�صدقني �أن ال �أحد يلومك‬ ‫على �سلوكك احلايل‪ ،‬لأنه �سلوك فطري‪ ،‬ي�شبه �سلوك الطيور التي‬ ‫تتجه يف كل مو�سم تزاوج �إىل �رشيك جديد‪ ،‬مما يجعل حياتها‬ ‫�أخ�صب‪ ،‬و�أجود‪ .‬هل هناك �أ�سعد من الطيور؟‬ ‫– رمبا‪.‬‬ ‫– ال تبدو مقتنع ًا‪.‬‬ ‫– ماذا يهم يف املو�ضوع؟ ال يوجد �أي قرار ينتظر �أن �أتخذه‪ .‬ها‬ ‫�أنا �أعي�ش مثلما تريد الرياح‪.‬‬ ‫– �أعرف‪ .‬ولكن بع�ض نوبات الذنوب والندم التي حتتل وجهك‬ ‫فج�أة‪ ،‬ت�ستفزين‪.‬‬ ‫– رمبا �أنا �ضعيف �أمام النقد واللوم‪.‬‬ ‫– ّ‬ ‫فكر دائم ًا يف من يلومك‪� ،‬ستجد �أ�سباب ًا خفية وراء لومه لك‪ ،‬ال‬ ‫يدعيها‪.‬‬ ‫عالقة لها باملثالية التي ّ‬ ‫– ولكن هناك ن�ساء مثاليات فع ً‬ ‫ال‪ ،‬ل�سن مثل مرمي‪ ،‬ال تنكر هذا‪.‬‬ ‫– ال �أنكر ذلك‪ ،‬بل هناك ن�ساء خارقات جداً‪� ،‬أنت ال تفهمني‬ ‫جيداً‪ ،‬الن�ساء ل�سن قطيع �أغنام مت�شابهة يا رجل‪ .‬هل تعتقد �أن جن�س‬ ‫الرجال وحده هو الذي ي�أتي بالعظماء والكبار‪ ،‬بينما اجلن�س الأنثوي‬ ‫لي�س كذلك؟‬ ‫لكن‪...‬‬ ‫– ال طبع ًا‪ ،‬ال �أق�صد‪ْ ،‬‬ ‫وقاطعني بيده‪ ،‬وهو ير�شف البقية من كوب املاء‪ ،‬ثم �أكمل‪:‬‬ ‫– يف الن�ساء عظيمات‪ ،‬مميزات‪ ،‬خارقات‪ ،‬وا�ستثنائيات فع ً‬ ‫ال‪ ،‬ال‬ ‫‪200‬‬


‫ميكن �أن ترف�ض هذا‪ ،‬ولكن ال�س�ؤال‪ :‬هل املر�أة اال�ستثناء‪ ،‬الأف�ضل‪،‬‬ ‫الأعظم‪ ،‬الأكرث متيزاً هي الأف�ضل لك بال�رضورة؟‬ ‫– ال‪ ،‬طبع ًا‪.‬‬ ‫– �أكيد‪ ،‬لأن امر�أة كهذه �سيقتلك متيزها �أكرث مما �سيمتعك‪� ،‬أو ًال‬ ‫لأنك �ستحبها اقتناع ًا بعقلك مثلما �ستحبها اجنذاب ًا بقلبك‪ ،‬وهذه‬ ‫االزدواجية يف احلب �ستق�سمك ن�صفني عند �أول منعطف يف‬ ‫عالقتكما‪.‬‬ ‫– ملاذا ت�سميها ازدواجية؟ رمبا كانت وحدة عقلية قلبية جتعل‬ ‫الأمور �أكرث ي�رساً‪� .‬أنا وغالية اتفق قلبانا حتم ًا‪ ،‬ولكن اختلفنا يف القرار‬ ‫ال�صحيح الذي يجب �أن تتخذه‪ ،‬هذا اختالف عقلي‪.‬‬ ‫– ال‪ ،‬بالعك�س‪.‬‬ ‫– كيف العك�س؟ هل تعرف غالية �أكرث مني؟‬ ‫– ال �أعرفها‪ ،‬فقط �إ�سمع وجهة نظري‪ .‬اختالفك مع غالية هنا‬ ‫ال منكما ر�أى ر�أي ًا خمتلف ًا‪ ،‬بل لأن ك ً‬ ‫لي�س اختالف ًا عقلي ًا لأن ك ً‬ ‫ال منكما‬ ‫ميتلك قدرة عقلية م�ضاهية للآخر‪ ،‬وهذا ما اعرتفتما به منذ البدء‪،‬‬ ‫حبكما عقلي ًا‪ ،‬ال�ستطاع � ٌّأي منكما �أن‬ ‫وعربمتا عنه باحلب‪ ،‬فلو مل يكن ّ‬ ‫يقنع الآخر‪ .‬باخت�صار‪ ،‬لو مل يكن حبكما عقلي ًا‪ ،‬لأ�صبحتما تفكران‬ ‫بعقل واحد‪ ،‬عقلك �أو عقلها‪ ،‬فتتفقان حتم ًا‪.‬‬ ‫– طيب وما احلل؟ ماذا كان يجب �أن �أفعل؟ هل �أطفئ عقلها منذ‬ ‫البداية؟‬ ‫– ال‪ ،‬كان عليك �أن تتجنبها منذ البداية‪ .‬تهرب منها بالأحرى‪.‬‬ ‫دائم ًا حاول �أن جتعل املر�أة املميزة‪ ،‬العظيمة‪ ،‬اال�ستثنائية �صديقتك‪،‬‬ ‫‪201‬‬


‫حبها‪ ،‬متيزها �سي�ؤذيك‪،‬‬ ‫ولي�س حبيبتك‪� ،‬ست�ستمتع ب�صداقتها �أكرث من ّ‬ ‫�سي�ؤملك‪ ،‬ويف املقابل‪ ،‬ال �أريح‪ ،‬وال �أجمل من حب امر�أة عادية‪،‬‬ ‫جتدها يف كل مكان‪.‬‬ ‫وهربت بب�رصي بعيداً عن وجهه‪،‬‬ ‫ابت�سمت ابت�سامة وا�سعة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ومتتمت بكلمات خجلى من منطقه القوي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫– هذا �صعب‪.‬‬ ‫أ�سباب �أخرى مل تدعني �أقولها‪ ،‬وهي �أن املر�أة املميزة‬ ‫– هناك � ٌ‬ ‫�صعبة التعوي�ض �إذا ما حيل بينك وبينها‪ ،‬و�أخرياً حتى لو بقيت معك‪،‬‬ ‫ف�ستكون امر�أة متطلبة غالب ًا‪ ،‬وترهقك‪.‬‬ ‫�صمت ق�صري‪ ،‬و�أنا �أفكر يف كالمه بعمق‪ ،‬وابت�سم‪.‬‬ ‫�ساد‬ ‫ٌ‬ ‫قال �أمين‪:‬‬ ‫– �إذا ر�أيتك تبت�سم بعد كالمي �أعرف �أنك مقتنع متام ًا‪.‬‬ ‫و�أدار وجهه نحو اجلهة الأخرى من املقهى‪ ،‬وهو يبت�سم ابت�سام ًة‬ ‫ال تخلو من خجل طفيف‪.‬‬ ‫بعد �صمت عابر‪ ،‬عاد �أمين يتكلم بانفعال �أقل‪ ،‬ونربة �أكرث هدوءاً‪،‬‬ ‫وببطء‪:‬‬ ‫لق معها‬ ‫– تعرف يا ح�سان �أن كل امر�أة مميزة يخلقها اهلل‪ْ ،‬‬ ‫يخ ُ‬ ‫�أحزان ًا وم�شاكل كثرية‪ ،‬لأن متيزها هو خروج عن امل�ألوف‪ ،‬و�إال ما‬ ‫كان متيزاً �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬والبد من خ�سائر �إذن‪ ،‬هناك خ�سارة مرادفة يجب‬ ‫�أن حتدث يف مكان ما على الأر�ض‪� ،‬إما يف قلب رجل‪� ،‬أو يف �أوراق‬ ‫كاتب‪� ،‬أو يف م�صري �أ�رسة‪� ،‬أو حتى يف تاريخ دولة‪� ،‬إىل �آخر ف�ساد‬ ‫تنفثه يف الأر�ض �أنثى عظيمة ما‪.‬‬ ‫‪202‬‬


‫– رحمتك يا اهلل‪.‬‬ ‫– حتى هي نف�سها ي�ؤذيها متيزها‪ .‬ولو �أنها كانت عادية‪ ،‬لرمبا‬ ‫كانت �آالمها �أقل‪.‬‬ ‫– �صحيح‪ ،‬الب�سيطات عاد ًة ال يحزنّ كثرياً‪� ،‬سطحية التفكري كثرياً‬ ‫ما تتعار�ض مع عمق الهموم‪.‬‬ ‫– ولهذه �أقول دائم ًا‪ :‬اجعلهن عاديات يا �إلهي‪ ،‬ت�صبح الأر�ض‬ ‫�أكرث هدوءاً‪.‬‬ ‫قت عليها ب�إمياءات ر�أ�سي‪،‬‬ ‫�ضحكت من عبارته الأخرية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫و�صد ُ‬ ‫ُ‬ ‫قبل �أن ي�ضع �أمين عبارته الأخرية‪:‬‬ ‫– تذكر دائم ًا �أنه من نعم اهلل الكربى‪� ،‬أنه ال يوجد عالقة تنا�سبية‬ ‫بني جمال الن�ساء وم�ستوى عقولهن‪ ،‬و�إال النق�سمت الن�ساء �إىل‪� :‬إما‬ ‫نابغات ال ِق َبل لنا بهن‪� ،‬أو طحالب ال يلفنت االنتباه �إطالق ًا!‬ ‫هكذا �أمين‪ ،‬دائم ًا م ّتك أ� يل‪ ،‬يف حلظات كثرية �أ�شعر براحة كبرية‬ ‫معه؟ �أحيان ًا ال �أعتقد �أن عمرنا املتقارب جداً‪� ،‬أو ثقافتنا‪� ،‬أو �أي ًا من‬ ‫العوامل املت�شابهة الأخرى‪� ،‬سبب ذلك‪ ،‬بقدر ما �أعتقد �أن مهاراته‬ ‫االجتماعية عالية جداً‪ ،‬مما يجعله ذكي ًا يف قراءة �شخ�صيتي‪ ،‬والإتيان‬ ‫�سلوكي ًا مبا ينا�سبني‪ ،‬ف�أ�شعر بالراحة معه‪.‬‬ ‫ويك�سب هو ت�ألق ًا اجتماعي ًا متزايداً‪ ،‬معارفه كرث‪ ،‬حتى �إن �شعرة‬ ‫واحدة تكاد تف�صله عن �أن يكون م�شهوراً مثل النجوم‪ .‬الكثريون‬ ‫ي�س ّلمون عليه هنا‪ ،‬ومعظمهم �أ�صدقاء قدامى‪� ،‬أ�ستغرب احلميمية‬ ‫اخلا�صة التي يبديها اجلميع عندما يلتقونه‪ ،‬و�أ�س�أل �أين وجد �أمين وقت ًا‬ ‫كافي ًا يق�ضيه مع كل منهم حتى يجعله حميم ًا �إىل هذا احلد؟‬ ‫‪203‬‬


‫ق�ضيت معه‬ ‫أ�صبحت �أنا نف�سي �صديق ًا حميم ًا لأمين؟ وهل‬ ‫متى �‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقت ًا كافي ًا يربر ذلك؟ لقد ق�ضيت مع �أخيه و ّزان وقت ًا �أطول‪ ،‬بحكم‬ ‫�أن �صداقتنا ابتد�أت قبل تعريف �إىل �أمين ب�أ�شهر‪� .‬أحيان ًا �أ�شعر ب�أن و ّزان‬ ‫مل يعرفني �إىل �أمين‪� ،‬إال كجزء من العالج‪.‬‬

‫****‬ ‫زرت نادية �صباح ًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�شوارع التي ر�صفها الربيع باخ�رضار مفاجئ �أخذتني �إليها‪،‬‬ ‫تلك هي نف�سها التي ظ ّلت ت�أخذين �إليها طوال �سنوات عديدة كل‬ ‫�إجازة بعد احلرب‪ ،‬و�سنوات قليلة �أخرى مل �أكن �أتذكر فيها �شكل‬ ‫�شعور طاغ ب�إلفة‬ ‫مررت بها‪ ،‬اكتنفني‬ ‫ال�شوارع متام ًا‪ ،‬ولكني كلما‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫متوح�شة‪ ،‬غائ�صة يف طفولتي‪ ،‬وال �أ�ستطيع انت�شاله متام ًا‪ ،‬وال تذكر‬ ‫تفا�صيله‪.‬‬ ‫وعرثت بعثاري الأول‪،‬‬ ‫�شممت الرائحة الأوىل يف احلياة‪،‬‬ ‫هنا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتكلمت كلماتي الأوىل‪� .‬أبي و�أمي كانا يعمالن على م�رشوع‬ ‫ُ‬ ‫تن�شئتي ك�شجرة �أرز يف لبنان‪ ،‬حماط باملكان اجلميل‪ ،‬والكالم اجلميل‪،‬‬ ‫موال‪� ،‬أو متدلٍ من تويج زهرة‪ .‬كانا يعتزمان البقاء‬ ‫ومهدهد يف قلب ّ‬ ‫هنا بقية العمر‪ ،‬وكان �أبي �سيبني بيت ًا يف جوار بيت نادية‪ ،‬ووداع ًا �أيتها‬ ‫الريا�ض الغريبة‪.‬‬ ‫املنعطف الأخري قبل بيت نادية‪ ،‬ثم الدجاجات املتناثرة �أمامه مثل‬ ‫كرات كبرية من القطن‪ ،‬تتدحرج هارب ًة من ال�سيارة التي اقرتبت‪،‬‬ ‫‪204‬‬


‫ومنبه ًة نادية التي هرعت من الفناء اخللفي‪ ،‬ويف يدها دلو ماء كبري‪،‬‬ ‫تر�ش احلديقة‪.‬‬ ‫وردا�ؤها اخلفيف حم�شور بني فخذيها‪ .‬كانت ُّ‬ ‫مات زوجها قبل �سنوات فقرياً‪ ،‬وهي ال تزال مت�شبثة بعرق احلياة‪.‬‬ ‫وتطوق عنقي‪،‬‬ ‫�أزورها دائم ًا‪ ،‬وتعانقني مثل فتاة مراهقة يف ال�سبعني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتختار لقبلتها �أوفر مكان يف خدي‪ .‬كنت وحدي يف مرمى �شفتيها‬ ‫تقبل يفّ‪� ،‬أمي‪ ،‬و�أبي‪ ،‬وال�سنوات اللطاف‬ ‫النحيلتني‪ ،‬ولكنها كانت ّ‬ ‫التي غ ّلفت عالقتنا ك�أ�رستني �صغريتني‪ ،‬جتاورتا ردح ًا من الزمن يف‬ ‫تلونت الأ�شجار ب�ألوان �أخرى‪.‬‬ ‫جونيه‪ ،‬ثم ّ‬ ‫– يا ابني كيفا � ّأمك‪ ،‬وكيفو ّبيك؟‬ ‫– كلهم بخري‪ ،‬وم�شتاقني لك كثري‪.‬‬ ‫– ولي�ش ما �إجو معك؟ �شنب‪ ،‬تعبانني �شي؟‬ ‫– �أبداً‪ ،‬كلهم ب�صحة ونعمة‪ ،‬وجايني يف الإجازة القادمة‬ ‫كالعادة‪.‬‬ ‫– �أي‪ ،‬واهلل يا ابني احلالة متل مانك �شايفَا‪ ،‬معترّ ة‪ ،‬و�أنا كربت‬ ‫خال�ص‪.‬‬ ‫هكذا نادية يف ال�سنوات الأخرية‪ ،‬تفتح �صنبور ال�شكوى من‬ ‫ك�سوف م�ستمر‪ ،‬وبعد موت‬ ‫كنت �أعرف �أنها يف حال‬ ‫ٍ‬ ‫دون منا�سبة‪ُ .‬‬ ‫ع�شت فيه طفول ًة ال‬ ‫زوجها ازدادت وحد ًة وتعا�سة‪ .‬بيتها الذي‬ ‫ُ‬ ‫ت�سعفني بها الذاكرة كان يهرتئ يوم ًا بعد يوم‪ ،‬وتغري مالحمه حماوالتها‬ ‫الكثرية لرتميمه ب�شكل غري منظم‪.‬‬ ‫– اهلل ال يحرمني منكن‪ ،‬واهلل لوال م�ساعدتكن كان �أنا خل�صت‬ ‫من زمان‪ ،‬ك�رست �ضهري هاالر�ض اجلردا‪ ،‬منزوعة بركتها نزع‪.‬‬ ‫‪205‬‬


‫– انتي غالية علينا يا خالة‪ ،‬احنا �أهل‪.‬‬ ‫ح�ضرّ ت يل قهوة‪ ،‬و�إفطاراً ب�سيط ًا من بي�ض‪ ،‬وخبزاً �أبي�ض جلبه‬ ‫جل�ست �أتناول �إفطاري يف مطبخها‬ ‫�صبي قريب‪ ،‬وبع�ض الأجبان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�صغري‪ ،‬وهي جتل�س يف جواري‪ ،‬وتتكلم كالم ًا كثرياً جداً‪ .‬حتكي‬ ‫يل عن كل �شيء‪ ،‬منذ �أن زرتها �آخر مرة‪ ،‬كيف تركها الفالحون‬ ‫الذين كانت تتفق معهم على فالحة �أر�ضها مقابل جزء من الفواكه‬ ‫وبع�ض اخل�رض‪ .‬حكت يل عن ال�شتاء الأخري كيف جاء قار�س ًا‪ ،‬وعن‬ ‫فاتورة الكهرباء‪ ،‬وعن انقطاع خط الهاتف‪ ،‬وعن �آالم ركبتيها‪،‬‬ ‫والدجاجات التي تنفق‪ ،‬والزيت الذي ينفد �أ�رسع من املعتاد‪ .‬الكثري‬ ‫من ال�شكوى‪ ،‬فقط‪.‬‬ ‫ملاذا ال حتدثني نادية مثل حكاياتها القدمية؟ �أ�ساطري ال�ضيعة‪،‬‬ ‫علي قدمي ًا‪،‬‬ ‫وتخاريف املا�ضي‪ ،‬والأ�شياء الغريبة التي كانت تق�صها ّ‬ ‫ويف كل مرة تتغري الق�صة‪ ،‬لأعرف �أن نادية ت�رسد من خميلتها �أكرث‬ ‫مما ت�رسد من ذاكرتها‪ ،‬املهم �أن تبقيني م�ستمتع ًا‪ ،‬وم�شدوداً �إليها‬ ‫بالأذن والقلب‪ .‬ملاذا منذ مات زوجها �أ�صبح كالمها ال يخرج عن‬ ‫حيز ال�شكوى والتذمر؟ هل هذا الذي ك�رس حالها ك�رس حكاياتها‬ ‫كنت �أ�سامره ليايل طويلة وك�أنه وجه فتاة‬ ‫�أي�ض ًا؟ هل هذا وجهها الذي ُ‬ ‫جامد على املالمح‬ ‫غجرية‪ ،‬ال وجه امر�أة يف �أرذل العمر؟ هو الآن‬ ‫ٌ‬ ‫ذاتها منذ زيارتي الأخرية‪ ،‬و�سيبقى هكذا حتى �أزورها يف املرة‬ ‫علي ذاكرتي اخل�صيبة‬ ‫القادمة‪� .‬أ�صبحت زياراتي لها جمرد واجب متليه ّ‬ ‫كنت هنا الآن‪.‬‬ ‫معها‪ ،‬ولوال هذه الذاكرة ملا ُ‬ ‫ال �شيء يبقى على حاله‪ ،‬حتى وجوه املُ�س ّنني التي نحب‪ ،‬وحتى‬ ‫‪206‬‬


‫مواقيت الف�صول �صارت تتغيرّ ح�سب مقيا�س الوجع اجلديد‪� .‬إىل‬ ‫هذا البيت كان يهفو قلبي قبل �أن تبلغه خطاي الراك�ضة نحو ح�ضنها‬ ‫الهزيل‪ ،‬والآن �أجيء �إىل هنا هارع ًا �إىل ال�ساعة يف كل حني‪ ،‬لعلها‬ ‫تدور �رسيع ًا‪ ،‬ولعلي �أن�رصف بعد �أن �أكلني امللل‪.‬‬ ‫�أ�صبحت مملة‪ ،‬نادية‪� ،‬أرجوحة احلكايات القدمية‪� ...‬صدئت‪.‬‬ ‫تركت يف يدها الدوالرات الألفني التي حملتها لها معي‪ ،‬وحقيب ًة‬ ‫ُ‬ ‫كبري ًة من املالب�س �أر�سلتها �إليها �أمي‪ ،‬ووعدتها �أن �أزورها دائم ًا خالل‬ ‫�إجازتي‪.‬‬ ‫– ببريوت انته نازل؟‬ ‫– �أجل‪.‬‬ ‫– ولي�ش ما نزلت عندي يا ابني‪ ،‬ل�شو هالأوتيالت والغلبة؟ انت‬ ‫ما تعلمت مت�شي وال حتكي غري بي هالبيت‪.‬‬ ‫– �أكيد‪ ،‬ولكن معي �صديق‪ ،‬وكمان عندي �أ�شغال كثرية يف‬ ‫بريوت‪.‬‬ ‫– بال�سالمة يا ابني‪.‬‬ ‫قلت لأبي مر ًة بعد عودتي من بريوت “�إنني �أحب نادية ك�أمي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بلت على الع�شب‪ ،‬والتي حرمتني‬ ‫ولكني �أحب نادية التي �رضبتني عندما ُ‬ ‫�ضعت منها يف م�شوارنا نحو‬ ‫اخلروج يومني �أمامك �أنت و�أمي عندما‬ ‫ُ‬ ‫البقالة‪ ،‬من دون �أن تتدخال يف قرارها‪� .‬أحب نادية القدمية التي كانت‬ ‫تت�رصف وك�أنها تقا�سمكما �سلطات �أبوتكما يل‪� ،‬أحببتها �أكرث من نادية‬ ‫ح�سن �إليها ونت�صدق عليها كل �إجازة”‪.‬‬ ‫الآن‪ ،‬العجوز التي ُن‬ ‫ُ‬ ‫ورمى �أبي نظرته خلف كالمي‪ ،‬ومل يزد على قوله‪:‬‬ ‫‪207‬‬


‫– اهلل يلطف بحالها يا ولدي‪.‬‬ ‫الإح�سان يقطع من اجل�سور �أحيان ًا �أكرث مما يبني‪ ،‬و�أبي قال‬ ‫�إنه رمبا يجعل نادية تقيم يف �شقتنا يف بريوت �إذا ا�شرتاها‪ ،‬لتهتم‬ ‫ب�أمورها يف غيابنا‪ .‬تدريج ًا �ستتحول نادية �إىل خادمة بعد �أن كانت‬ ‫جار ًة طيبة‪ ،‬و�أم ًا بديلة‪ ،‬و�صديقة عريقة‪ ،‬تب ًا للأ�شياء التي نعرفها‪،‬‬ ‫وال منلك تبديلها‪.‬‬

‫‪208‬‬


‫‪VII‬‬ ‫كان يوم ًا �صعب ًا بالن�سبة يل‪ ،‬والكثري من العرق ن�ضحته على قارعة‬ ‫التفكري‪ ،‬و�أعو�ضه بقارورة املاء البال�ستيكية التي �أقب�ض عليها بتوتر‪،‬‬ ‫جزت الغرفة املربعة مراراً منذ‬ ‫فتحتج ب�أ�صوات تك�رساتها املرتدة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫عدت من �صالة الفجر‪ ،‬ومل �أمتكن من النوم مرة �أخرى‪ .‬كانت‬ ‫�أن‬ ‫ُ‬ ‫الفكرة تتوغّ ل يف عقلي ب�شكل م�ؤمل‪ ،‬وم�شاعري ترك�ض من �أق�صى‬ ‫القلب �إىل �أق�صاه‪ ،‬وتطلق �أ�صوات ًا عالية‪ ،‬وحتدث �صخب ًا ال ميكن معه‬ ‫�أن �أركن �إىل قرار هادئ‪.‬‬ ‫“يبدو �أنك مل تنم جيداً”‪ ،‬قال �أبي ونحن من�شي على مهل‪ ،‬عائدين‬ ‫من امل�سجد‪ ،‬والريا�ض ت�ستيقظ ببطء‪�“ .‬شيل التلفزيون من غرفتك‪،‬‬ ‫�أنا ما �رصت �أنام مرتاح �إال بعد ما �شلته”‪ ،‬و�أوم�أت بر�أ�سي عالمة‬ ‫�إيجاب مطواع‪ ،‬قبل �أن �أالحظ �أنه ال يراين ما دمنا من�شي متحاذ َيني‪،‬‬ ‫فتمتمت بخفوت “لي�س التلفزيون يا �أبي‪ ،‬هناك بع�ض الأمور ت�شغلني‬ ‫ُ‬ ‫هذه الأيام”‪.‬‬ ‫�صمت �أبي قلي ً‬ ‫يد�س املفتاح يف ثقب الباب‬ ‫ال‪ ،‬ثم قال وهو ّ‬ ‫اخلارجي للبيت‪:‬‬ ‫‪209‬‬


‫– كان اهلل يف عونك‪.‬‬ ‫آثرت �أن �أفعل ذلك يف وقت‬ ‫فكرت �أن �أ�صارحه مبا ي�شغلني‪ ،‬ثم � ُ‬ ‫ُ‬ ‫ا�ستطعت �أن �أتو�صل �إىل قرار مريح وحدي هذا اليوم‪.‬‬ ‫الحق‪ ،‬فرمبا‬ ‫ُ‬ ‫العلوي‪ ،‬واجتهت �إىل غرفتي يف �أق�صى‬ ‫افرتقت عنه بعد �أن بلغنا الطابق‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الي�سار‪.‬‬ ‫أيت ع�صفوراً رمادي ًا من ع�صافري الريا�ض املت َعبة يقف على‬ ‫ر� ُ‬ ‫نافذتي‪ ،‬يت�أمل غرفتي بف�ضول من وراء الزجاج ال�سميك‪ ،‬هل بعثته‬ ‫غالية؟ رمبا جت ّند الع�صافري يف مهمات يومية كما تفعل اجلميالت‪،‬‬ ‫لتحر�ضني على قرارات �صعبة‪� ،‬أو �أن �شيئ ًا م�رشوخ ًا يف عقلي �صار‬ ‫ّ‬ ‫يرى غالية وراء كل ما يحدث يف حياتي‪.‬‬ ‫وقفت �أمام النافذة �أت�أمله قلي ً‬ ‫ال لعله ي�ساعدين‪ ،‬ولكنه مل يفعل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نظر �إ ّ‬ ‫يل بعينيه اجلامدتني‪ ،‬ور�أ�سه املائل‪ ،‬قبل �أن يقفز عدة قفزات على‬ ‫�ساقيه النحيلتني‪ ،‬ثم يقرر �أن يرتك نافذتي ويطري‪ ،‬ليحط على خزان‬ ‫بيت جارنا تركي‪ ،‬ويحاول �أن يح�سو من املاء القليل املتجمع فوقه‪.‬‬ ‫كنت � ّ‬ ‫أقل حرية الآن مما �أنا عليه لو �أن غالية جاءت �أقل جما ًال‪،‬‬ ‫رمبا ُ‬ ‫لأجيء �أنا �أقل اندفاع ًا يف املقابل‪ .‬امل�شكلة �أنها ا�ست�أثرت بتلك الفتنة‬ ‫اجلنوبية الطاغية التي تقر�ص القلب‪ ،‬وت�سقطه يف حالة �شهوة كربى‬ ‫للظفر‪ ،‬واالمتالك‪ ،‬واال�ستئثار بهذا الينبوع الأنثوي املكتمل‪ ،‬كل‬ ‫يوم‪ ،‬وكل ليلة‪ .‬ال �أ�ستغرب �أنها تزوجت يف تلك ال�سن املبكرة‪ .‬رغم‬ ‫حياتها املنعزلة هي و�أمها‪ ،‬طارت الأخبار �إىل ال�ساحل الغربي‪ ،‬ليطرق‬ ‫بابهما فج�أة ٌ‬ ‫رجل ال يعرفهما‪ ،‬وال يعرفانه‪ ،‬ويعود بغالية‪.‬‬ ‫الأغنياء ال ميلكون فقط القدرة على جمع املال‪ ،‬بل احلقيقة �أن‬ ‫‪210‬‬


‫الغنى مينح ذويه مهارة خا�صة متكنهم من اقتنا�ص الأ�شياء اجلميلة‬ ‫وحيازتها �أف�ضل من غريهم‪� ،‬أي ًا كانت هذه الأ�شياء‪ .‬كان يف الثالثني‬ ‫من عمره‪ ،‬وهي يف التا�سعة ع�رشة‪ ،‬وكانت �سنتها الأوىل التي تدر�سها‬ ‫يف اجلامعة كافية ليت�رسب خرب جمالها كما يت�رسب ال�صباح تدريج ًا‬ ‫فوق الدنيا‪.‬‬ ‫قابع على الطاولة مثل ماراثوين منهك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حت�س�ست هاتفي‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫�شا�شته ال�صامتة تخفي وراءها غيب ًا ما‪ .‬هذا الهاتف نف�سه كان هدي ًة‬ ‫منها‪ ،‬مل يكن عيد ميالد‪ ،‬وال منا�سبة �أخرى‪ ،‬كان جمرد بديل لهاتفي‬ ‫حمام ال�سباحة‬ ‫القدمي الذي كان يف جيبي عندما دفعتني غالية يف ّ‬ ‫الكبري يف بيتنا‪.‬‬ ‫– ح�سان‪ ،‬هل املاء بارد؟‬ ‫واقرتبت لأمل�س �سطح املاء‪ ،‬و�أعود �إليها باخلرب‪ ،‬واختلط �صوت‬ ‫ُ‬ ‫ارتطامي باملاء ب�ضحكتها النافذة التي تخرج ب�أناقة مفرطة‪ ،‬مكتومة‬ ‫غ�صت بل�ؤل�ؤة‪ ،‬وتدحرجت من فمها رنات‬ ‫بع�ض ال�شيء ك�أنها ّ‬ ‫مدوزنة بانتظام �شديد‪.‬‬ ‫زلت �أمل�س فيها حاالت متقنة‬ ‫منذ �أن بد�أت �ألتقي غالية مراراً‪ ،‬ما ُ‬ ‫جداً من الفتنة‪ ،‬والكالم‪ ،‬و�أالحظ حتى طريقتها يف ال�ضحك والبكاء‪.‬‬ ‫هذه احلاالت تلت�صق بالذاكرة مثل الكائنات الهالمية‪ ،‬وتفرز كل ما‬ ‫ميكنه �أن يقلب كيمياء الروح‪ ،‬ويغري قوانينها‪ ،‬وتظل يف ر�سالتها‬ ‫الطويلة تلك حتى ي�صبح قرار احلب جاهزاً‪ ،‬ومو�ضوع ًا على الطاولة‪،‬‬ ‫بانتظار �أول نب�ضة قلب ت�ستيقظ يف ال�صباح‪ ،‬وحتمله �إىل بقية العمر‪.‬‬ ‫غمرتني غالية بالآالف من هذه احلاالت‪ ،‬فلم ترتك يل فر�صة‬ ‫‪211‬‬


‫للتعود‪ .‬لفتات وجهها تربق يف عقلي مثل الفال�شات ال�ضوئية املبهرة‪،‬‬ ‫والكلمات التي تقولها بتحريف متعمد ّ‬ ‫تظل معلقة يف �سمعي مدة‬ ‫طويلة مثل الأوتار امل�شدودة‪� .‬أكررها على نف�سي وك�أين �أحاول تعلم‬ ‫لغة جديدة‪ ،‬بينما �أنا �أزداد انغما�س ًا يف قناعات عاطفية مبهمة‪� ،‬أنها‬ ‫الفتاة التي �أريد‪.‬‬ ‫بحمام ال�سباحة‪ ،‬و�أغلقت‬ ‫اجتهت غالية نحو باب الغرفة امللحقة ّ‬ ‫بابها ب�إحكام‪ ،‬وراحت ظاللها من وراء الباب الزجاجي املموه تنحني‬ ‫وت�ستقيم عدة مرات‪ ،‬مبا ي�شي �أنها تغري مالب�سها‪ ،‬وتعلقها برتتيب يف‬ ‫امل�شاجب املنبثقة من اجلدار ال�سرياميكي الأزرق‪ ،‬ولكنها يف احلقيقة‬ ‫مل تكن تغريها كما بدا يل‪ ،‬بل كانت تخلعها فقط‪.‬‬ ‫بعد ثوان‪ ،‬م�شت نحو امل�سبح وهي تبت�سم بدالل‪ ،‬ثم تغم�س‬ ‫نف�سها فيه تدريج ًا‪ ،‬عارية متام ًا‪ ،‬وراحت دوائر املاء من ج�سدها‬ ‫حتج �إىل �أطراف امل�سبح‪ ،‬تلقي �أخباراً‪ ،‬وجتلب ما ًء جديداً‬ ‫املنحدر‪ُّ ،‬‬ ‫يلم�س ج�سدها‪ ،‬ويلمع على بطنها‪ ،‬و�صدرها‪ ،‬وخدها‪ ،‬ويقطر من‬ ‫�شعرها الطويل على فمي‪� .‬رسق املاء من جلدها الكثري من ُنحاتة‬ ‫�رسبها من م�سام جلدي‪� ،‬آالف ًا‬ ‫ال�ضوء‪ّ ،‬‬ ‫وذوبها يف هذا املاء الكثري‪ ،‬ثم ّ‬ ‫من الطرواديني ال�صغار‪.‬‬ ‫أحداث كثرية تتدافع يف �سجل الع�شق املائي ذاك‪ ،‬قبل ٌة‬ ‫كانت �‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫جذل بني طريف‬ ‫و�سباق‬ ‫بطول �أنفا�سنا املحبو�سة على عمق مرتين‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وعناق حمموم فوق طوق املطاط‪ .‬وغالية جتيد ال�سباحة‬ ‫احلو�ض‪،‬‬ ‫مثل �سمكة ق�ضت حياتها يف البحر‪ ،‬و�أنا يدركني اللهاث وال �أملك‬ ‫جماراتها‪ ،‬ولكني �أحاول ب�صعوبة �أن �أبدو متما�سك ًا‪ ،‬و�أخفف قلي ً‬ ‫ال‬ ‫‪212‬‬


‫من عالمات االنبهار املحرجة التي راحت تطفو على وجهي‪،‬‬ ‫وكلماتي‪.‬‬ ‫عندما ا�ضطجعنا مع ًا على �ضفة احلو�ض كانت غالية مل�ساء جداً‪،‬‬ ‫يقطر منها املاء‪ ،‬ونظراتها امللقاة على وجهي كانت �صاخبة‪ ،‬والأ�شياء‬ ‫التي حولنا ت�شهد العزف املجنون الذي ت�ؤديه غالية على �أع�صابي‪،‬‬ ‫وقعت عليها مثل‬ ‫حبات املاء‪ ،‬وزجاج ال�سقف‪ ،‬وده�شات الرخام‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫و�شعرت �أين مل �أرك�ض م�سافة كهذه من قبل‪،‬‬ ‫مت�سلق بلغ القمة �أخرياً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مرات بهذا العدد‪ ،‬منذ �أن ابتد�أت حياتي‪.‬‬ ‫ومل �أنتف�ض‬ ‫ٍ‬ ‫غالية الآن حتتل جهات غرفتي الأربع‪� .‬أحاول �أن �أجتنب االت�صال‬ ‫حاولت �أن �أ�ضع املعادلة يف �أب�سط‬ ‫بها خ�شية �أن �أخد�ش القرار‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�صورها لعلها متنحني حلها املفقود‪� ،‬أو تومئ �إ ّ‬ ‫يل‪ ،‬وتتزن‪ ،‬ولو لثوان‬ ‫معدودات‪� ،‬أتخذ فيها قراري‪ ،‬وال �أبايل بعد ذلك‪.‬‬ ‫�رشبت كل ما تبقى من قنينة املياه ال�صحية يف جوار �رسيري‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫وات�صلت بها‪:‬‬ ‫حملت هاتفي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫– غالية‪.‬‬ ‫– مرحب ًا حبيبي‪.‬‬ ‫غيابك‪.‬‬ ‫أحبك فوق قدرتي على احتمال‬ ‫ِ‬ ‫– �أعتقد �أين � ِ‬ ‫– حبيبي‪ ،‬توين �شفتك من يومني!‬ ‫– انتظري قلي ً‬ ‫ال حتى �أنهي كالمي‪.‬‬ ‫وت�ضحك غالية‪.‬‬ ‫– طيب‪ ،‬ولكن من البداية‪� ،‬صدقني ما �أقدر �أ�شوفك‪ ،‬لأن �أمي‬ ‫داخت اليوم‪ ،‬والزم �أقعد معها‪.‬‬ ‫‪213‬‬


‫– لي�س هذا �سبب ات�صايل‪.‬‬ ‫كمل‪.‬‬ ‫– طيب ّ‬ ‫أحبك!‬ ‫–� ِ‬ ‫– و�أنا كمان حبيبي‪.‬‬ ‫كنت كرمي ًة جداً عندما �أحببتني‪.‬‬ ‫– و�أعتقد � ِ‬ ‫أنك ِ‬ ‫– حياتي �أنت‪.‬‬ ‫ا�ستيقظت اليوم �صباح ًا‪ ،‬لأكت�شف �أن �أقبح م�ساحة‬ ‫– و�أعتقد �أين‬ ‫ُ‬ ‫يف العامل هي م�ساحة ال�رسير الزائدة عن ج�سدي‪ ،‬واخلالية من ج�سدك‪.‬‬ ‫– ‪.....................‬‬ ‫أتزوجك‪.‬‬ ‫– و�أعتقد �أين ال �أملك خياراً �آخر‪� ،‬إال �أن � ّ‬ ‫�أذكر �أن غالية �صمتت طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬ثم ن�شجت‪ ،‬وبد�أت تبكي‪.‬‬ ‫�صارحت فيه‬ ‫م�ضى كل �شيء بعد ذلك بي�رس‪ ،‬حتى اليوم الذي‬ ‫ُ‬ ‫والدي برغبتي يف الزواج بها كان ناعم ًا كاحلرير‪� .‬أبي مل يعرت�ض‬ ‫ّ‬ ‫البتة‪ ،‬وك�أن الأمر ال يعنيه‪ ،‬بل �ضحك قلي ً‬ ‫ال وهو ير ّدد ب�صوت عال‪:‬‬ ‫“مل يكن جمرد مقال يف املجلة �إذن”‪ ،‬ثم نه�ض من جل�سته كي �أفهم‬ ‫�أنه ال يطالبني بالتربير‪ ،‬و�أنه كان ميزح فقط‪“ ،‬رتّب مع �أمك‪ ،‬واهلل‬ ‫يكتب اللي فيه اخلري”‪� .‬أما �أمي فقد �أبدت بع�ض التحفظات الطفيفة‬ ‫جتاه �أمومتها‪.‬‬ ‫– يا ولدي �أنا عارفة �أن غالية بنت طيبة‪ ،‬و�أمها كمان‪ ،‬لكن متنيت‬ ‫لك بنت متفرغة‪ ،‬ما عندها �أوالد‪ ،‬وال تزوجت من قبل‪.‬‬ ‫– �أهم �شيء التفاهم يا �أمي‪ ،‬هذي التفا�صيل ب�سيطة‪.‬‬ ‫تطول‪.‬‬ ‫– طيب فكر �أكرث‪ ،‬خلي اخلطبة ّ‬ ‫‪214‬‬


‫– فكرت كثري يا �أمي‪ ،‬هذي القرارات مو �سهلة‪ ،‬و�أنا مو مراهق‬ ‫ع�شان �أندفع‪.‬‬ ‫– وابنها؟‬ ‫– راح يعي�ش معنا‪ ،‬اتفقنا على هذا ال�شيء من زمان‪.‬‬ ‫تتحمله؟‬ ‫– مت�أكد �أنك تقدر‬ ‫ّ‬ ‫– بالت�أكيد يا �أمي‪.‬‬ ‫ر�ضوخ �أمي وموافقتها ال�رسيعة ّ‬ ‫�شكال لنا ده�ش ًة جماعية‪ ،‬هي التي‬ ‫كثرياً ما حدثتني عن تلك الفتاة التي �ستختارها يل عندما �أقرر الزواج‪،‬‬ ‫كف الرحمن‪ ،‬حتى ال يوجد يف‬ ‫و�أنها ال بد �أن تكون موزون ًة يف ّ‬ ‫الدنيا امر�أة �أف�ضل منها‪ .‬ها هي تقبل تزويجي مط ّلقة‪ ،‬و� ّأم ًا‪ ،‬وقد‬ ‫ابتلعت يف �سبيل موافقة كهذه تقاليد هائلة‪.‬‬ ‫انتظرنا �أ�سابيع قليلة ليعود والد غالية من �سفره‪ ،‬وكانت موافقته‬ ‫فورية جداً‪ ،‬كعادة �آباء املطلقات‪ ،‬وانتهت الطقو�س املعتادة �رسيع ًا‪،‬‬ ‫اخلطبة والقران يف يوم واحد‪ ،‬و�أ�صبحت غالية زوجتي تقريب ًا‪ ،‬على‬ ‫�أن يتم الزفاف خالل �أ�سابيع ال �أكرث‪.‬‬ ‫وجهي �آنذاك �أ�صبح مر�آ ًة كبرية‪ُ ،‬يرى فيها كل �شيء‪ .‬والأحالم‬ ‫التي طفحت من قرارة القلب‪ ،‬لتحتفل يف ذروة اجلبني‪ .‬كل ال�سعادة‬ ‫التي �أ�سقطها اهلل على الأر�ض التقط ُتها وحدي تلك الليلة‪ ،‬وركبتني‬ ‫بقيت يف بيت غالية حتى‬ ‫ن�شوة العاملني‪ ،‬وبركتهم‪ ،‬وخري ربهم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مهر َجينْ ُجعل رزقهما يف‬ ‫�ساعات الفجر الأوىل‪ُ � ،‬‬ ‫أرق�ص معها مثل ّ‬ ‫رق�صهما‪ ،‬فذهبا يجتهدان يف ذلك كثرياً‪ .‬التقطنا مئات ال�صور‪،‬‬ ‫حولنا‬ ‫ودارت بي غالية يف �أرجاء البيت بعد �أن ان�رصف املدعوون‪ّ ،‬‬ ‫‪215‬‬


‫املكان �إىل فو�ضى كبرية‪ ،‬وتناولنا قبالت عميقة جداً‪� ،‬سالت لها �شفة‬ ‫بدم طفيف‪.‬‬ ‫غالية ٍ‬ ‫حتول جذلها �إىل ما ي�شبه �سكر ًة �صغرية‪،‬‬ ‫�أخذتني �إىل غرفتها وقد ّ‬ ‫واقف فوق �أعلى قمة على وجه‬ ‫ولي�س جمرد حبور‪ ،‬و�أنا �أ�شعر ب�أين‬ ‫ٌ‬ ‫أ�شم �أ�صابع القدر‪ ،‬و�أ�شعر بالندى يكتنف كل‬ ‫الأر�ض‪ ،‬حتى �أين � ُّ‬ ‫زاوية �ضيقة من روحي‪ ،‬ويغ�سلها جيداً بعطر غريب‪� .‬إلت�صق �أحدنا‬ ‫بالآخر �أكرث من �أي يوم‪ ،‬و�أبلغ من كل مرة‪ ،‬و�أعلى من كل لقاء‪ ،‬لهثنا‬ ‫كثرياً‪ ،‬وابت�سمت يل غالية االبت�سامة التي ال ت�صنعها �إال �شفتاها فقط‪،‬‬ ‫وهم�ست‪:‬‬ ‫– فيه �شي خمتلف‪.‬‬ ‫– ما هو؟‬ ‫– هاملرة‪ ،‬حالل‪.‬‬ ‫– ولكني ال �أرى �أن املرات ال�سابقة كانت حرام ًا!‬ ‫– هممم‪� ،‬صحيح‪ ،‬ولكن لي�س باتفاق اجلميع‪.‬‬ ‫عدت من بيتها ذلك اليوم يف ال�ساد�سة �صباح ًا‪ ،‬نزلت دموعي‬ ‫ُ‬ ‫و�أنا �أخلع مالب�سي‪ ،‬و�أ�ستحم‪ ،‬و�أتخيل وجه غالية الذي �صار مو�شوم ًا‬ ‫على كل بقع ٍة من جلدي‪ ،‬وميلأين جذ ًال مثل بالون �أحمر يف �سماء‬ ‫كرنفال جمنون‪ .‬كم �أنت كر ٌمي يف منح ال�سعادة اليوم �أيها الأعلى‪،‬‬ ‫فامنحني فم ًا �أو�سع لأ�ضحك‪ ،‬وجبين ًا �أطهر لأ�سجد‪ ،‬و�شفاه ًا �أكرث‬ ‫لأبت�سم ابت�سامة �شاطئية تخت�رص كل مالحمي منذ �أن ولدت‪ ،‬وحتى‬ ‫أ�صبحت هذا الزوج ال�سعيد‪.‬‬ ‫�‬ ‫ُ‬ ‫أنواع من النب�ضات مل يعرفها من قبل‪ ،‬وا�شتعلت‬ ‫مرت بقلبي � ٌ‬ ‫‪216‬‬


‫يف وجهي �أ�ضواء ال ت�شتعل �إال مر ًة واحدة يف عمر الإن�سان‪،‬‬ ‫وا�ستهلكتها غالية كلها �آنذاك‪ ،‬يف �شهر وحيد‪ ،‬كان يقع حم�شوراً‬ ‫بني عقد قراننا وليلة الزفاف املوعودة‪.‬‬ ‫متنيت لو �أن‬ ‫كنت‬ ‫ُ‬ ‫ليت �أمي مل ت�رص على �أن تقيم حفل زفاف‪ُ .‬‬ ‫أ�رصت‪.‬‬ ‫الزفاف كان جمموع ًا يف ليلة القران نف�سها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولكن �أمي � ّ‬ ‫– كم مرة راح �أفرح فيك يعني؟ مو كفاية كل �شي اتفقتوا عليه انت‬ ‫واياها من دوين‪ ،‬خلي يل �أنا مو�ضوع احلفلة‪ ،‬يعني انتو م�ستعجلني‬ ‫على اي�ش؟ كلها �شهر واحد نح�رض للحفل‪ ،‬وانتهينا‪.‬‬ ‫منت يف‬ ‫لأننا كنا جذلني جداً‪ ،‬كان ال�شهر �أكرث من �أن نعتد به‪ُ ،‬‬ ‫بيت غالية ليايل ووالدتها ته ُّز ر�أ�سها بابت�سامة غام�ضة �إذا ر�أتني‪،‬‬ ‫بحمى العجلة‪ ،‬ونفاد ال�صرب‪،‬‬ ‫وتتعجب لأمر الزوجني اللذين ينتف�ضان ّ‬ ‫�أال ي�صربان ب�ضعة �أيام حتى يتزوجا؟ ولكنها مل تكن تعرت�ض‪� ،‬أو رمبا‬ ‫غالية كانت تتفاهم مع �أمها جيداً‪ .‬وعندما تنام غالية يف بيتي‪ ،‬كان‬ ‫وي�رص على �أن‬ ‫ويرحب بغالية كثرياً‪،‬‬ ‫�أبي يبتهج جداً من جنوننا ذاك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقدم لها الإفطار بيده على طاولة الطعام‪ ،‬تارك ًا �إياها ُ‬ ‫تغرق يف خجل‬ ‫�شديد فال تتكلم �إال ملام ًا‪ ،‬بينما مت�سك �أمي بذراعي خلف الباب‪،‬‬ ‫وتهم�س يل بعتب‪.‬‬ ‫– يا ح�سان‪ ،‬ترى ما ي�صري كذا‪ ،‬مو �أ�صول‪ .‬كيف جتيبها تنام عندنا‬ ‫قبل الزواج‪ ،‬ما ت�صربون كم يوم؟‬ ‫– يا �أمي‪ ،‬مو احنا متزوجني الآن؟‬ ‫– نعم يا ولدي‪ ،‬ولكن الزم الإ�شهار‪.‬‬ ‫– كان هناك مدعوون كرث يف القران‪ ،‬هذا هو الإ�شهار‪.‬‬ ‫‪217‬‬


‫– طيب انتبهوا يا ولدي‪.‬‬ ‫و�أفهم متام ًا ما ترمي �أمي �إليه‪ ،‬وما تريدين �أن �أنتبه �إليه و�أحذر‪،‬‬ ‫ونعرف يف قرارة نف�سينا‪� ،‬أنا وغالية‪� ،‬أننا يف الليلة املا�ضية‪ ،‬والتي‬ ‫قبلها‪ ،‬والتي قبلها �أي�ض ًا‪ ،‬مل ننتبه قط‪ ،‬يكفي �أننا انتبهنا جيداً‪ ،‬ومبا فيه‬ ‫الكفاية‪ ،‬يف الأيام التي �سبقت عهد احلب القلق‪.‬‬ ‫كنت �أهم�س لها يف �أوج الدوخة التي ت�سبق انهماري‬ ‫يف �رسيري ُ‬ ‫عليها كمطر �شهوة ا�ستوائية حارة‪.‬‬ ‫متزوجني‪ ،‬وزفافنا بعد ب�ضعة �أيام‪ ،‬ما الداعي لهذه الأ�شياء‬ ‫– �أل�سنا ّ‬ ‫الآن؟‬ ‫وترميني غالية بعني خجلى‪ ،‬وتفكر قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬ثم تومئ بر�أ�سها عالمة‬ ‫املوافقة‪ ،‬ف�أرمي علبة الواقي بعيداً‪ ،‬و�ألتحم بها �إىل �آخر ما ي�أخذنا �إليه‬ ‫مدى الرغبة‪ ،‬و�أبعرث يف ج�سمها لقاح ًا مليئ ًا بالأمل اجلامح‪ّ ،‬‬ ‫ظل منذ‬ ‫�أول احلب �إما حمبو�س ًا يف حمب�س البال�ستيك‪� ،‬أو مبعرثاً خارج بقعة‬ ‫�أحالمه‪.‬‬ ‫حتى عندما �سافرت �إىل دبي قبل الزفاف ب�أ�سبوع‪� ،‬سافرت غالية‬ ‫معي‪� ،‬رضبت �أمي كف ًا بكف‪ ،‬وقالت �إنني �س�أجعلها جمنون ًة يف هذه‬ ‫الأيام القليلة التي ت�سبق زفايف‪.‬‬ ‫– يابن احلالل خ ّلي البنت جتهز نف�سها قبل الزواج‪ ،‬لي�ش تاخذها‬ ‫معك؟‬ ‫– هي تبي تروح معي‪.‬‬ ‫– طيب و�ش يقولون النا�س؟ �سافروا وهم ما تزوجوا بعد؟‬ ‫– ما راح �أحد يدري �أنها �سافرت معي‪ ،‬كلها يومني ب�س‪.‬‬ ‫‪218‬‬


‫وطارت بنا الطائرة على ده�شة �أمي‪ ،‬وقلقها ال�شديد‪ ،‬وحد�سها‬ ‫�أن ما نفعله �أنا وغالية يجب �أال يكون‪ ،‬لأن الأحداث يجب �أال ت�سبق‬ ‫�أوانها‪ ،‬فقط‪.‬‬ ‫عرفت مطارها‪،‬‬ ‫ا�ستقبلتنا دبي‪ ،‬فاحت ًة الذراعني الأو�سع منذ‬ ‫ُ‬ ‫و�شعرها الأ�سود الطويل‬ ‫نزلت ويف يدي يد غالية‪،‬‬ ‫و�شوارعها الأوىل‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫منر بها‪ ،‬ويعرب ج�سمها‬ ‫يكتب على الهواء‪ ،‬ويوقّع دفاتر الأ�شياء التي ّ‬ ‫ال�شيق حيث ال �أملك �إال �أن �أرمقها دائم ًا بعني ملأى غبط ًة ور�ض ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اخرتت جناح ًا رائع ًا حتى‬ ‫و�شعوراً بالرثاء‪� .‬سك ّنا يف فندق �ساحلي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ا�ستحمام‬ ‫تورق فيه غالية كما ت�شاء‪ ،‬وحتى �أ�ضمن �أن �أجد فيه حو�ض‬ ‫ٍ‬ ‫يكفينا مع ًا‪.‬‬ ‫�أحيان ًا‪ ،‬تغيرّ املدن لغة اجل�سد‪ ،‬ولهجاته يف ارتكاب الرغبات‪،‬‬ ‫وثقافته يف االت�صال باجل�سد الآخر املوجود يف حيازته‪ ،‬ولهذا فتحنا‬ ‫�شباك ال�رشفة الكبري على هواء �أر�سله البحر بال انتظار‪ ،‬وارمتينا على‬ ‫جنيات �شبقات‬ ‫ال�رسير‪ ،‬وال�ستائر املتطايرة من هواء البحر تولول مثل ّ‬ ‫وطلبت زجاجة �شامبانيا ثمينة‪.‬‬ ‫ال يهد�أن‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت حما�رصاً برائحة الك�أ�س‪ ،‬ووجه غالية الذي اتفق مع دبي‬ ‫ُ‬ ‫جداً‪� .‬رشبنا كثرياً‪ .‬وعينا غالية ت�ست�أذنان كل دقيقة‪ ،‬وتغط�سان يف‬ ‫البحر القريب‪ ،‬ثم تعودان بزرق ٍة جديدة للنظرة القادمة‪� .‬رشبنا‬ ‫كثرياً‪ .‬وبدا يل �أن كل كلمة تقولها غالية ال �أ�سمعها فقط‪ ،‬بل تلعقني‬ ‫�أحيان ًا من �أول ال�صدر حتى �آخر العنق‪ ،‬ثم تنزل يف قلبي مثل �إلهام‬ ‫وحتول الليل �إىل مو�سم‪ ،‬وحتولت غالية �إىل حقل‪،‬‬ ‫راق‪� .‬رشبنا كثرياً‪ّ .‬‬ ‫وحتولت �أنا �إىل حمراث‪ .‬و�رشبنا �أكرث‪ ،‬و�أ�صبحت غالية حمراب ًا �أجد‬ ‫‪219‬‬


‫رزقي عنده كل وهلة‪ ،‬وخ�صلة �شعر تفر من البقية وتر�سم قو�س ًا‬ ‫�سوداء تبد أ� من جبينها وتنتهي يف الزاوية ال�صعبة بني �شفتيها‪ ،‬وجتعل‬ ‫وجه غالية خمتلف ًا‪ ،‬و�ضحكتها تلك التي مل تكن مر�صود ًة يف كنوز‬ ‫الكالم‪ ،‬جتعلني �أنفق ده�شة جديدة من الده�شات التي �أدخرها‬ ‫لبقية عمري معها‪.‬‬ ‫�شعرت خالل وهلة �صمت �أن جمال غالية عريق جداً و�أ�صيل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�إىل حد �أين �أعتقد �أنها ابنة حواء املبا�رشة‪ ،‬ولي�س بينهما تلك ال�سل�سلة‬ ‫الطويلة من الن�ساء‪ ،‬و�شعرها ال�سيمفوين الذي �ضفرته قبل قليل‪� ،‬أ�صبح‬ ‫وكنت �أ�شعر �أين �إذا �سحبته انبلج النهار‪،‬‬ ‫حبل مع ّلق ب�سقف الليل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مثل ٍ‬ ‫مثل �أباجورة‪ .‬وعرفت‪ ،‬لأول مرة‪� ،‬أن مفتاح �إنارة الدنيا يف �ضفرية‬ ‫غالية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ن�رسف يف �إعالن احلب‪ ،‬جناهر به مثل انقالب‪،‬‬ ‫كنا يف دبي‪،‬‬ ‫وهناك يف الريا�ض‪ ،‬كانت الأقدار قد نزلت فع ً‬ ‫ال‪ ،‬يف غيابنا الذي‬ ‫مل ن�ؤمنه جيداً �ضد ظروف �أخرى قد تلحق بنا‪ ،‬وحلقت فع ً‬ ‫ال‪ ،‬عندما‬ ‫عاد زوجها ال�سابق‪ ،‬وانتزع في�صل من عند جدته‪ ،‬وغادر‪.‬‬ ‫ُج ّنت غالية‪ُ ،‬ج ّنت متام ًا!‬ ‫كنا ن�ستعد لليلة جديدة من �أن�سنا ال�سابق‪ ،‬عندما قررت غالية �أن‬ ‫تهاتف �أمها‪ ،‬ف�أخربتها مبا كان‪ ،‬ومل حتتمل غالية‪ ،‬انهارت مثل بيت من‬ ‫كنت‬ ‫الق�ش‪ ،‬وراحت ت�رصخ من دون �أن �أعي ما الذي حدث‪ ،‬فقط ُ‬ ‫�أ�سمعها تطرح على �أمها �أ�سئلة مذهولة ك�أنها تعاتبها‪�“ :‬أخذه!! متى؟‬ ‫ال�سماعة من يدها املرجتفة‪،‬‬ ‫وليه تخلينه ياخذه؟”‪ ،‬و�أخرياً �سقطت‬ ‫ّ‬ ‫واندفعت تبكي بوجل رهيب وهي تهتف‪“ :‬ولدي‪ ،‬ولدي”‪.‬‬ ‫‪220‬‬


‫– يله نروح املطار‪.‬‬ ‫– غالية‪ ،‬غداً رحلتنا �صباح ًا على �أي حال‪ ،‬وال يوجد رحالت‬ ‫الآن‪.‬‬ ‫– يله نروح املطار‪ ،‬حرام عليك‪ ،‬ولدي بياخذونه مني‪.‬‬ ‫– ما راح ياخذه يا غالية‪� ،‬أكيد الرجال يبغى يق�ضي كم يوم مع‬ ‫ولده‪ ،‬وراح يرجعه‪.‬‬ ‫– م�ستحيل! هذي �أول مرة ياخذه من عندي‪� ،‬أكيد ما راح‬ ‫يرجعه‪ ،‬م�ستحيل‪ ،‬يله نروح املطار‪ ،‬وال ترى بروح لوحدي‪.‬‬ ‫رحت �أحاول �أن �أ�ضمها وهي تتمل�ص مني بعناد‪ ،‬وتنادي ابنها‬ ‫ُ‬ ‫بال�صوت املذهول نف�سه‪ ،‬ودموعها تدفق بغزارة‪ ،‬ووجهها م�شوب‬ ‫لثكل مرتقب‪ ،‬وبالكاد جل�ست �أخرياً‪ ،‬بعد �أن اقرتحت‬ ‫بلوعة حقيقية ٍ‬ ‫عليها �أن نت�صل ببيت مط ّلقها‪ ،‬ونتفاهم و�إياه‪.‬‬ ‫وطلبت طبيب ًا وحبوب ًا مهدئة‪،‬‬ ‫ات�صلت بخدمة النزالء �أو ًال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فجاء الطبيب‪ ،‬وتناولت غالية احلبوب التي جلبها معه وهي ذاهلة‬ ‫النظرات‪ ،‬تبكي ببطء و�أ�سى‪ ،‬بينما راح يلف على ذراعها �آلة قيا�س‬ ‫ال�ضغط‪ ،‬وينفخها بد�أب‪ ،‬وهو يراقب �ساعته‪.‬‬ ‫دقات طويلة خلف �أرقام الهواتف التي حتفظها غالية لبيتها‬ ‫ٌ‬ ‫ال�سابق‪ ،‬قبل �أن ترد خادمة عرفتها غالية‪ ،‬ف�صاحت بها بتو�سل‪:‬‬ ‫– فني في�صل؟‬ ‫– نائم‪.‬‬ ‫– ليه بابا �أخذ في�صل؟‬ ‫– ما �أعرف!‬ ‫‪221‬‬


‫– طيب فني بابا؟‬ ‫– حلظة‪.‬‬ ‫ورحت �أراقب غالية وهي ترجتف‪ ،‬وتنتظر �صوته‪ ،‬وفور �أن �سمعته‬ ‫ال�سماعة هتفت به‪:‬‬ ‫يتنحنح قريب ًا من ّ‬ ‫– ليه �أخذت في�صل؟‬ ‫وجاء �صوته الثقيل مليئ ًا ب�ضجر راكد‪:‬‬ ‫– لأنك متزوجة‪� ،‬أنا ما راح �أخلي ابني يعي�ش مع رجل ثاين‪.‬‬ ‫– لكن احنا ما اتفقنا على كذا‪.‬‬ ‫– احنا ما اتفقنا على �شي �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬والولد خليته معك لأنه �صغري‬ ‫فقط‪ ،‬بدون حماكم وم�شاكل‪ ،‬لكن �إذا تزوجتي ما راح �أخليه يبقى‬ ‫معك‪ ،‬انتهى املو�ضوع‪.‬‬ ‫– حرام عليك‪ ،‬حرام‪.‬‬ ‫علي �إذا خليت ابني يرتبى مع رجل غريب‪.‬‬ ‫– حرام ّ‬ ‫– ولكنه معي �أنا‪� ،‬أنا �أمه‪ ،‬تعتقد �أين ما راح �أهتم فيه؟‬ ‫– لو بتهتمني فيه فع ً‬ ‫ال ما تزوجتي‪.‬‬ ‫– حرام عليك‪ ،‬تبيني �أقعد بدون زواج طول عمري؟‬ ‫– ال طبع ًا‪ .‬تزوجي زي ما حتبني‪ ،‬لكن في�صل عندي‪.‬‬ ‫واختلط �أنني غالية الغريب‪ ،‬مع دقات الهاتف التي تعلن انف�صال اخلط‪.‬‬ ‫�ش ّتان بني ليلة �أم�س‪ ،‬وهذه الليلة‪.‬‬ ‫كيف ي�ستطيع القدر �أن يقلب الأدوار �إىل هذا احلد‪ ،‬وبهذه‬ ‫الزاوية‪ ،‬من النقي�ض �إىل النقي�ض؟ كيف َ�ش َط َبنا فج�أة من الئحة ال�سعداء‬ ‫اجلذلني‪ ،‬و�أعاد كتابتنا يف الئحة الأ�شقياء اجلزعني‪ ،‬من دون �أن نلملم‬ ‫‪222‬‬


‫�أطراف �سعادتنا‪ ،‬ومن دون �أن ن�أخذ معنا ذاكرة احللم الوهمي الذي‬ ‫انق�ضى قبل �أن يبد�أ‪ ،‬ومات قبل �أن ُيخلق؟‬ ‫�صامتان مثل زورقني يف مرف أ� مهجور‪ ،‬ال �شيء يك�رس ال�سكون‬ ‫�إال �شهقات �صغرية ت�سحب بها غالية �أنفا�سها الباكية‪ ،‬وجترع مرارة‬ ‫جتهز لها ذهو ًال الئق ًا‪.‬‬ ‫الك�أ�س املفاجئة التي مل تتخيلها‪ ،‬ومل ّ‬ ‫وفتحت �أنا نافذة ال�رشفة على م�رصاعيها من‬ ‫قامت �إىل احلمام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫دون مربر‪ ،‬لأحرك همود �صدري الكبري‪.‬‬ ‫ود�ست‬ ‫عادت غالية بعد قليل‪ ،‬اقرتبت مني بينما �أراقبها �أنا بقلق‪ّ ،‬‬ ‫ر�أ�سها حتت عنقي‪ ،‬وهم�ست يل ب�صوت مبحوح‪:‬‬ ‫– �أنت عارف و�ش الزم ي�صري يا ح�سان؟‬ ‫– ماذا؟‬ ‫– ما نقدر نتزوج‪.‬‬ ‫– ال تت�رسعي يا غالية‪ ،‬هناك حلول كثرية‪.‬‬ ‫– ال يا ح�سان‪� ،‬أنا �أعرف �أبو في�صل‪ ،‬ما راح يرتكنا يف حالنا‪.‬‬ ‫– ليه؟ مو قلتي يل قبل �أنه مو مهتم يف ولده‪ ،‬حتى ملا كنتي عنده ما‬ ‫كان ي�شوفه‪ ،‬وال يلعب معه‪ ،‬وال يحبه �أ�ص ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫– امل�س�ألة مو م�س�ألة في�صل‪ ،‬ولكن هو رجل عنيد‪ ،‬عزيز النف�س‬ ‫جداً‪ ،‬ما راح ير�ضى �أنه يرتك ابنه عند رجل �آخر‪ ،‬م�ستحيل‪.‬‬ ‫– �أنا ما راح ا�رصف على ابنه‪ ،‬هو اللي راح ي�رصف عليه‪ ،‬ما عالقة‬ ‫عزة النف�س هنا؟‬ ‫– ح�سان‪� ،‬أنت عارف لو يف �أمل واحد باملئة �أنه ميكن يعدي‬ ‫املو�ضوع ما ترددت‪� ،‬أنت تعرف �أين �أحبك �أكرث من �أي �إن�سان‬ ‫‪223‬‬


‫يف الدنيا‪ ،‬و�أعرف �أنك بتقدر ظرويف‪� ،‬أنا م�ستحيل �أعي�ش بدون‬ ‫في�صل‪.‬‬ ‫– بنتزوج‪ ،‬وفي�صل بيعي�ش معك‪ ،‬ال تخافني‪.‬‬ ‫– يا ح�سان افهمني‪.‬‬ ‫– املو�ضوع �سابق لأوانه‪ ،‬خلينا نرجع الريا�ض ونتفاهم‪.‬‬ ‫و�سن‬ ‫ترو�ض �أوجاعها على قلق‪ ،‬بينما �أخذين ٌ‬ ‫ومل تنم غالية‪ ،‬ظ ّلت ّ‬ ‫وا�ستيقظت فجراً على‬ ‫�سيئ جداً‪ ،‬ملي ٌء باملرارات‪ ،‬والوهن الكثيف‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حركة غالية‪ ،‬وهي تو�ضب احلقائب‪ ،‬بوجه خال من املالمح تقريب ًا‪،‬‬ ‫�شعرت بالربودة‪ ،‬وب�أمل بطني الطفيف‬ ‫�إال من �آثار �صدمة مل تندثر بعد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الذي يعودين يف النوازل‪.‬‬ ‫حملتنا طائر ٌة يف االجتاه املخالف لفرحنا‪ ،‬وتفرقنا يف الريا�ض‪.‬‬ ‫�‬ ‫ونزلت وهي تقبل ظهر يدي قبل ًة حائرة‪ ،‬ال‬ ‫أو�صلت غالية �إىل بيتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫�أدري ما �سببها‪ ،‬وك�أنها تعتذر مبكراً عن كل �أحالمي التي �ستهلك‪،‬‬ ‫وعدت �أنا �إىل بيتي‪.‬‬ ‫ثم توارت خلف باب بيتها‪،‬‬ ‫ُ‬

‫****‬ ‫مو�صد يف وجه اجلميع‪ ،‬حتى غالية‪ ،‬ال �أريد �أن �أ�سمع منها‬ ‫هاتفي‬ ‫ٌ‬ ‫الكالم املميت‪ .‬ع�شائي مركونٌ هناك‪ ،‬كما و�ضعته م�أمونة‪ ،‬يب�س‬ ‫وع�ض اللنب �شفتي بيا�ضه‪ ،‬وغمر ال�صحن كله‬ ‫اخلبز‪ ،‬وبرد احل�ساء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�شعور بالبالدة‪� .‬سجادتي مفرو�ش ٌة على ذكرى �سجدات خائفة يف‬ ‫ٌ‬ ‫لرب لن ي�ضيق بي حتم ًا‪.‬‬ ‫دوامة تو�سلي املت�أخر ّ‬ ‫‪224‬‬


‫�إلهي الكبري‪...‬‬ ‫هنا �أطياف الليايل الهاربة‪ ،‬والطنني الذي يحوم يف فراغ الغرفة‪،‬‬ ‫ولغة اخلواء التي تتهام�س بها الأ�شياء بقلق‪ .‬هل حق ًا �ستجعلني �أفقد‬ ‫غالية؟‬ ‫هل تراين الآن من فوق؟ و�أنا �أتهجد يف حمراب الوح�شة مثل راهب‬ ‫منكوب‪� ،‬أنتبذ مكان ًا من الليل ك�أق�صى حالة من احللكة‪ ،‬و�أطارد كل‬ ‫ما يطري يف ال�سواد من ر�ؤى‪ ،‬و�أركمها يف �سلة �أرقي‪� .‬أعرف �أين‬ ‫ال �أجل�أ �إليك كثرياً هذه الأيام‪ .‬ال �أ�صلي �أحيان ًا‪ ،‬رغم �أنك تتغا�ضى‬ ‫عن ذلك‪ ،‬وتعطيني كثرياً‪ .‬و�أعرف �أنك تفهمني جيداً‪ ،‬وتعرف �أين‬ ‫�ضعيف جداً حينما مت�سكني �أقدارك من قلبي‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫هل ر�أيت غالية ليلة نزل بنا قدرك املهيب؟ كانت تبكي مثل �شمعة‬ ‫كنت �أنا �أتلم�س حافات ذهويل‪ ،‬و�أحاول �أن �أبدو يف‬ ‫�ضخمة‪ ،‬بينما ُ‬ ‫م�ستوى املوقف‪ .‬كانت دموعها حقيقية‪ ،‬لأنها ا�ست�رشفت ما �سيكون‬ ‫كنت �أن�سخ الدموع من وجهها و�أختزنها يف �صدري‪،‬‬ ‫حتم ًا‪ ،‬بينما �أنا ُ‬ ‫لأبكي بها الحق ًا‪.‬‬ ‫لعل غالية الآن قد توقفت عن البكاء‪ ،‬واتخذت قرارها‪ ،‬وهد�أت‪،‬‬ ‫�صنم ملقى يف قوارع مكة‪ ،‬ال يعرف م�صريه الآن‪ ،‬بعد �أن‬ ‫بينما �أنا‪ٌ ،‬‬ ‫�سددت غالية م�ستحقاتها البكائية بوفاء‬ ‫عاثت فيه �أيدي امل�ؤمنني‪ .‬لقد َّ‬ ‫ماطلت فيهما بجفنني مكابرين‪ ،‬وها قد �ضاعفت‬ ‫حلظة ال�صدمة‪ ،‬و�أنا‬ ‫ُ‬ ‫ماطلت �إال طمع ًا فيك!‬ ‫الأيام د ْيني‪ ،‬وما‬ ‫ُ‬ ‫الليل ينق�ضي تدريج ًا‪ ،‬وال ميوت‪ ،‬ي�ستحم بعرق ال�ساهرين‪،‬‬ ‫ودعاء امل�ساكني‪ ،‬و�صوت الرجل العريق الذي ينادي �إىل ال�صالة‪.‬‬ ‫‪225‬‬


‫هل �أ�صلي �أكرث فتعيد �إيل غالية يا ربي؟‬ ‫كنت �صغرياً‪.‬‬ ‫�أعلم �أين‬ ‫تخليت عن ن�ساء عابرات من قبل‪ ،‬ولكني ُ‬ ‫ُ‬ ‫�أخذتني �إحداهن على حني غرة‪ ،‬علمتني اجلن�س ب�شكل فج‪ ،‬ثم‬ ‫�أقفلت مدر�ستها ال�سيئة‪ ،‬وغادرتني‪ ،‬وتركتني �أخرب�ش على �أي جدار‬ ‫رب ال‬ ‫مثل تلميذ وقح‪ ،‬ال يدري �أين ميار�س الكتابة ب�شكل �صحيح‪ّ .‬‬ ‫يكن يبكني تعلق ًا بي‪،‬‬ ‫ت�أخذ مني غالية بذنبهن‪ ،‬الن�ساء العابرات مل َّ‬ ‫يجربن جدوى دموعهن على متثال رجل‪ ،‬وال ميكن �أن‬ ‫بقدر ما كن ِّ‬ ‫تقي�س دموعهن بدموعي الآن‪� ،‬أنت عادل‪.‬‬

‫****‬ ‫قررت‬ ‫تذكرت بعد انفراط عقد زواجنا عندما عدنا من دبي‪ ،‬كيف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�أن �أحاول حماول ًة �أخرية‪ ،‬لي�س مع زوجها الذي بعرث كل �أوراقنا فج�أة‪،‬‬ ‫عرفت �أن حماولتي معه لن تزيد الأمر �إال ت�أزم ًا‪ ،‬فم�شكلته الكربى‬ ‫لأين‬ ‫ُ‬ ‫معي �أ�ص ً‬ ‫ظننت �أنه ميلك ت�أثرياً‬ ‫ال‪ ،‬رغم �أنه ال يعرفني‪ .‬ولكني مع من‬ ‫ُ‬ ‫مبا�رشاً عليه‪ ،‬والده‪.‬‬ ‫�سافرت �إىل جدة‪ ،‬حيث يقيم‪ .‬كانت �أطول رحلة ميكن �أن يقطعها‬ ‫ُ‬ ‫رجل مكلوم نحو �أمل غري وا�ضح املالمح‪ ،‬مل �أحتمل �أن �أنام ليلة مليئة‬ ‫ق�صدت بيتهم فور خروجي من‬ ‫بالهواج�س واالحتماالت‪ ،‬ولذلك‬ ‫ُ‬ ‫جدة‪.‬‬ ‫املطار‪ ،‬يف ذلك اليوم الرطب احلار‪ ،‬الذي ي�شبه معظم الأيام يف ّ‬ ‫وعربت مداخل‬ ‫كان �أبوه �ستيني املالمح‪ ،‬ا�ست�أذنته عند الباب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بلغت جمل�س ًا �صغرياً كان يجل�س فيه وحده‪.‬‬ ‫عديدة مقوداً بخادم حتى ُ‬ ‫‪226‬‬


‫ر�أيته لأول مرة‪ ،‬له جبه ٌة ناتئة‪ ،‬وعينان حادتا النظرات رغم �صغر‬ ‫حجمهما‪ ،‬وانح�صارهما بني جفنني متهدلني‪ .‬حدق ّ‬ ‫يف مرات‬ ‫عديدة‪ ،‬ثم �سعل قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬وا�شتكى من التدخني الذي �أرهق �صدره‪،‬‬ ‫وك�أمنا يفتح يل فرجة �إن�سانية �صغرية من نف�سه‪.‬‬ ‫كان يعرفني ابتدا ًء‪ ،‬منذ �أن عرفته من �أكون يف مكاملتي الهاتفية‬ ‫ظن �أين قريب لغالية يف الأ�صل مما‬ ‫التي‬ ‫ُ‬ ‫طلبت فيها هذا املوعد‪ ،‬ولرمبا ّ‬ ‫جعله يتوقّعني ر�سو ًال ل�صلح حمتمل‪ .‬فوافق على لقائي‪.‬‬ ‫�صامت مثل‬ ‫قلت كل الكالم اجلميل الذي �أعددت‪ ،‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫�صخرة‪ ،‬يت�أمل فنجان قهوته‪ ،‬وي�رشب منه‪ ،‬وال يرفع عينيه �إ ّ‬ ‫يل �إال‬ ‫رحت �أعيد عليه‬ ‫انتهيت ووجدته �صامت ًا‪،‬‬ ‫ملام ًا �أثناء حديثي‪ ،‬وكلما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كالم ًا مكرراً‪ ،‬لعله يكون يف غمرة اقتناع‪ ،‬ولعلي �أتيته يف �ساعة‬ ‫�شفقة‪.‬‬ ‫رفع �إ ّ‬ ‫أحد معنا يف‬ ‫يل يده م�شرياً بها �إىل وجهي‪ ،‬رغم �أنه مل يكن � ٌ‬ ‫املجل�س غري خادمه الذي ي�صب القهوة‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫– �أنت اللي بتتزوجها؟‬ ‫فت بنف�سي مراراً بهذه ال�صفة‪ ،‬ال �أدري ملاذا �أحتاج‬ ‫عر ُ‬ ‫ُ‬ ‫كنت قد ّ‬ ‫يوجه يل هذا ال�س�ؤال‪ ،‬ولكني �أجبته ب�صيغة م�ضاعفة من الأدب‪:‬‬ ‫�أن ّ‬ ‫– نعم‪ ،‬نعم‪.‬‬ ‫�أطرق قلي ً‬ ‫قو�س حاجبه‬ ‫ال وك�أمنا ي�ستعيد �صورة غالية يف ذاكرته‪ ،‬ثم ّ‬ ‫الأمين‪ ،‬فالأي�رس �أي�ض ًا‪ ،‬ور�شف ر�شفة ق�صرية من قهوته‪ ،‬قبل �أن يناول‬ ‫الفنجان الفارغ للخادم‪ ،‬وقال يل‪:‬‬ ‫– يا �أخي‪� ،‬ش�أن هذا الولد عند �أبيه‪� ،‬أنا ال �أملك ح ً‬ ‫ال وال ربط ًا‪.‬‬ ‫‪227‬‬


‫– ولكن كلمتك م�سموعة عنده بالت�أكيد‪.‬‬ ‫أ�ست�شعر م�صري‬ ‫ورحت �‬ ‫كان قلبي يف حالة م�أزومة من اخلفقان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫زواجي بني �شفتيه‪ ،‬و�سعادتي مرهون ٌة بني طيات عقله وهو يفكر‪،‬‬ ‫ولكنه مل يطل التفكري على ما يبدو �إال يف كيفية �إنهاء النقا�ش‪.‬‬ ‫تزوجا‪ ،‬ولكن ابننا �سيبقى‬ ‫– نحن مل مننعكما من الزواج‪ّ ،‬‬ ‫معنا‪.‬‬ ‫– ولكنه ابنها �أي�ض ًا‪ ،‬وال �أحد يف الدنيا �أرفق به من �أمه‪ ،‬وهي ال‬ ‫تتزوجني‪.‬‬ ‫ميكن �أن ت�ضحي بابنها‪ ،‬من �أجل �أن ّ‬ ‫– هذه عادات �أ�رسية‪ ،‬ال �أ�ستطيع �أن �أناق�شها معك‪ ،‬وب�إمكان � ّأمه‬ ‫�أن ت�أتي لزيارته يف �أي وقت‪ ،‬ومن املمكن �أي�ض ًا �أن يزورها هو من‬ ‫وقت لآخر‪ ،‬وي�سافرا مع ًا لفرتات ق�صرية‪ ،‬نحن ل�سنا معقدين وال‬ ‫رجعيني يا �أخ ح�سان‪ ،‬ولكن لو و�ضعت نف�سك مكان �أبيه‪ ،‬لفهمت‬ ‫�صعوبة الأمر‪ .‬من العيب عندنا �أن يرت ّبى الولد يف بيت رجل غريب‬ ‫حي يرزق‪.‬‬ ‫بينما �أبوه ّ‬ ‫ل�ست غريب ًا‪� ،‬أنا زوج � ّأمه‪ ،‬ثم �إين قريبها �أ�ص ً‬ ‫ال‪ ،‬يعني يف‬ ‫– ولكني ُ‬ ‫مقام خاله‪.‬‬ ‫– �أنت جتادل بدون هدف‪ ،‬مل يعد عندي كالم �آخر يا �أخي‪.‬‬ ‫كنت حانق ًا‪ ،‬رحت �أقود �سيارتي يف‬ ‫عندما‬ ‫خرجت من عنده ُ‬ ‫ُ‬ ‫جدة وفمي ملي ٌء باللعنات الثقيلة‪ .‬مل �أت�صور �أن تكون غالية‬ ‫�شوارع ّ‬ ‫قبيح هذا‬ ‫قريبتي‪ ،‬و�أنا �أوىل بها‪ ،‬ثم يحول بيننا ه�ؤالء النا�س‪ ،‬كم هو ٌ‬ ‫املكان وما فيه‪.‬‬ ‫يلتفت‬ ‫ب�صوت م�سموع و�أنا يف �سيارتي‪،‬‬ ‫كنت �أتكلم مع نف�سي‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪228‬‬


‫�إ ّ‬ ‫أحرك فمي بغ�ضب وحدي‪ ،‬ورمبا ي�ضحكون‪،‬‬ ‫يل املارة و�أنا � ّ‬ ‫كنت �ألعنهم جميع ًا يف جملة من �ألعن‪،‬‬ ‫وينده�شون‪ ،‬ولكني‬ ‫ُ‬ ‫و�أر�صدهم جميع ًا يف دائرة القبح الكبرية التي ترتاءى �أمامي الآن‬ ‫�أو�سع من كل �شيء‪.‬‬ ‫رحت �أكلم نف�سي ب�صوت غا�ضب مرتفع يف ال�سيارة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫– ح�سن ًا‪� ،‬سنبقى عا�شقني يا غالية‪ ،‬يلعن اهلل �أوراقهم الر�سمية‪،‬‬ ‫كنت لن تتزوجي ف�أنا لن �أتزوج �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫يلعن قوانينهم‪ ،‬و�أنانيتهم‪� ،‬إذا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي�سجل النا�س هذا �أو ال‪.‬‬ ‫ما دمنا مع ًا‪ ،‬فال �أبايل ب�أن ّ‬ ‫لن يكون هذا احلل �أبدي ًا‪ ،‬ب�ضع �سنوات‪ ،‬ويكرب في�صل‪ ،‬وي�صل‬ ‫حد التخيري ال�رشعي بني �أبويه‪ ،‬وحتى لو اختار �أن يعي�ش مع �أبيه‬ ‫فلن ت�ستطيع غالية منعه من ذلك �سواء تزوجنا �أو ال‪ ،‬ال ب�أ�س‪ ،‬ت�سع‬ ‫�سنوات‪ ،‬ع�رش‪ ،‬خم�س ع�رشة �سنة‪ ،‬واحلب لن يخذلنا‪.‬‬

‫****‬ ‫خذلنا احلب ب�أ�رسع مما ت�صورت‪ ،‬ويف غ�ضون �شهر فقط‪ ،‬ولي�س‬ ‫راهنت عليها ذات حنق يف �سيارتي‪.‬‬ ‫�سنوات طويلة كتلك التي‬ ‫ُ‬ ‫غابت غالية‪ ،‬بعد �أن اكت�شفت حملها مني‪ ،‬بعد �أربعة �أ�سابيع‬ ‫املخ�صب �أخرياً‪ ،‬بعد ثمانية �أ�شهر‬ ‫على عودتنا من دبي‪ّ ،‬نبهها الرحم‬ ‫ّ‬ ‫و�صدقت غالية‪،‬‬ ‫من الع�شق العميق‪� ،‬أن كل ما كنا نفعله‪ ،‬كان ذنب ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ت�شوه ًا‪.‬‬ ‫ووقعت �أنا يف �أيام بائ�سة كانت‪ ،‬بحق‪� ،‬أكرث �أيام حياتي ّ‬ ‫عندما �أخربتني غالية بذلك‪ ،‬انق�سم قلبي �إىل �شطرين‪� ،‬أحدهما‬ ‫‪229‬‬


‫ابتهج �إذ ر�أى �أنها فر�صة لإقناع غالية باال�ستغناء عن في�صل‪ ،‬و�إمتام‬ ‫املر الكبري‪.‬‬ ‫الزواج‪ ،‬والثاين ا�ضطرب �أمام �رصاخ غالية‪ ،‬وبكائها ّ‬ ‫– غالية‪ ،‬ملاذا تبكني هكذا‪ ،‬ما زلنا متزوجني �رشع ًا‪ ،‬لن يلومك‬ ‫�أحد‪.‬‬ ‫– م�ستحيل‪ ،‬الزم �أن ّزل اجلنني‪.‬‬ ‫– يا غالية �إعقلي‪.‬‬ ‫– كارثة يا ح�سان‪ .‬ماذا �سيقول النا�س؟ �سيظنون �أن زواجنا كله مل‬ ‫يكن �إال لإخفاء هذا اجلنني‪.‬‬ ‫– يا غالية‪ ،‬هذه حكاية قدمية‪ ،‬مل يعد النا�س يفكرون هكذا‪ ،‬كل‬ ‫الأزواج يجامعون يف فرتة القران‪.‬‬ ‫ال�سماعة بعد �أن اختنق �صوتها‬ ‫احتد كالمنا‪� ،‬أقفلت غالية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متام ًا‪ ،‬ومل ت�ستطع �أن تكمل النقا�ش الذي ك�رست ق�سوته �صدري‬ ‫و�صدرها‪.‬‬ ‫ات�صلت بها باكراً‪ ،‬ف�أخربتني ب�صوت ينبئ �أنها‬ ‫يف اليوم التايل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بكت طوال الليل‪� ،‬أنّ هناك �أم ً‬ ‫ال �شاحب ًا‪ ،‬و�أنها ميكن �أن جته�ضه‪،‬‬ ‫ب�شكل �رشعي‪ ،‬يف �أي م�ست�شفى‪.‬‬ ‫– والعذر؟‬ ‫– جنني ميت‪.‬‬ ‫– وهل يوافقون؟‬ ‫– نعم‪ ،‬القانون ي�سمح ب�إجها�ض اجلنني �إذا كان عمره �أقل من‬ ‫�شهرين‪ ،‬مبوافقة الزوج‪.‬‬ ‫– ‪..........................‬‬ ‫‪230‬‬


‫– الزم تروح معي امل�ست�شفى يا ح�سان‪ ،‬اهلل يخليك‪.‬‬ ‫أنت متم�سكة بقرارك يا غالية؟‬ ‫– هل � ِ‬ ‫– ما يف خيار ثاين يا ح�سان‪.‬‬ ‫– �إنه ابننا!‬ ‫– ولهذا لن ن�سمح له �أن يعي�ش يف ظروف قا�سية‪ ،‬ب�أبوين‬ ‫منف�صلني‪.‬‬ ‫– ولكن‪ ،‬رمبا جتمعنا الأقدار يوم ًا ما‪.‬‬ ‫– عندها �سننجب �أطفا ًال �آخرين‪.‬‬ ‫أخذت معي عقد‬ ‫قدت �سيارتي نحو بيت غالية‪ُ � ،‬‬ ‫بعد �أيام قليلة‪ُ ،‬‬ ‫النكاح‪ ،‬الورقة التي �أ�صبحت جمرد ذريعة تتيح لنا القيام بعملية �إجها�ض‬ ‫ات�صلت بها‪ ،‬وخرجت‪.‬‬ ‫ووقفت عند بابها‪،‬‬ ‫تخل�ص ًا من اجلنني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت�أملتها وهي تنزل‪ ،‬وثارت حفنة كبرية من الرماد املر يف حلقي‪،‬‬ ‫و�صدري‪ ،‬و�أنا �أعجن يف داخلي لعنات كثرية �أخرى من �أجل هذا‬ ‫القدر العابث‪ ،‬وهذا التكرار املعكو�س لأ�شكال لقائنا‪.‬‬ ‫خرجت مع غالية ونحن را�شدان كانت هكذا‪ ،‬عند هذا‬ ‫�أول مرة‬ ‫ُ‬ ‫الباب حتديداً‪ ،‬ويف مثل هذا الوقت من ال�صباح‪ ،‬قبل �أ�شهر طويلة‬ ‫خلت‪ ،‬قررنا �أن نلتقي متخذين قراراً ع�شوائي ًا مل نخطط له قط‪� .‬أما‬ ‫الآن‪ ،‬فنحن زوجان يتجهان لإ�سقاط جنني‪.‬‬ ‫يف ال�سيارة‪ ،‬مل تلم�س غالية يدي قط مثل عادتها‪ ،‬وال �أنا‬ ‫حاولت �أن �أر ّبت يدها عندما بد�أت تن�شج يف جواري ب�صوت‬ ‫ُ‬ ‫كنت �أ�شعر بنقمة عليها‪ ،‬وعلى قرارها القا�سي‪ .‬ال �أدري‬ ‫خافت‪ُ .‬‬ ‫كنت �أ�شعر ب�أن غالية التي يف جواري لي�ست تلك التي �أحببت‪،‬‬ ‫ملاذا ُ‬ ‫‪231‬‬


‫كنت �أ�شعر بخذالن كبري منها‪ ،‬رغم �أين ال �أ�ستطيع �أن �أناق�شها‬ ‫رمبا ُ‬ ‫حنق‬ ‫يف �أمومتها‪ ،‬ولذلك تراكم يف داخلي حنق ال ي�ستطيع التعبري‪ٌ ،‬‬ ‫�صامت‪ ،‬يجعلني �أقود ال�سيارة �آلي ًا من دون �أن �أتكلم مع غالية التي‬ ‫ك�شفت وجهها‪ ،‬وراحت مت�سح دموعها وك�أنها ت�ستجدي حناين‪،‬‬ ‫فال يجديها ذلك �شيئ ًا‪.‬‬ ‫مغلف‬ ‫نظرت �إليها لوهلة �أثناء الإ�شارة‪ .‬بدت عادية جداً‪ ،‬لأن قلبي‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫مبرارته الآن‪ .‬حبة خالها التي كانت تتحكم يف جاذبية ال�شم�س تبدو‬ ‫نقط ًة من�سية �سوداء لي�س �إال‪� ،‬شفتها ال�سفلى كانت متهدلة �أكرث مما‬ ‫تكونت هالتان رماديتان‬ ‫يجب‪ ،‬وال �أ�شتهي تقبيلها‪ ،‬وحول عينيها ّ‬ ‫كبريتان‪.‬‬ ‫و�صلنا �إىل امل�ست�شفى‪ ،‬ونزلت غالية قبلي‪ ،‬وك�أنها تهرب من‬ ‫ف�شلها معي طوال الطريق‪ ،‬راحت مت�شي بخطى �رسيعة‪ ،‬ور�أيتها‬ ‫جتوز ممرات امل�ست�شفى‪ ،‬بحذائها الريا�ضي اخلفيف‪ ،‬ك�أي امر�أة‬ ‫كنت �أرى م�شيتها من قبل �أروع من ن�شيد روماين‬ ‫عابرة‪ ،‬رغم �أين ُ‬ ‫قدمي‪.‬‬ ‫�أنهينا كل ال�ش�ؤون التي ت�سبق العملية بطريقة يت�ضح منها �أن غالية‬ ‫زارت املكان من قبل‪ ،‬واتفقت مع امل�ست�شفى على كل �شيء‪ ،‬حتى‬ ‫�أنها دفعت له مقدم ًا‪ ،‬ويبدو �أن دوري هنا يقت�رص على ت�سجيل املوافقة‬ ‫�شعرت ب�إهانات �صغرية تكيلها يل غالية من دون �أن‬ ‫الورقية التافهة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تغيبني‬ ‫تعلم‪ ،‬وك�أنها تعاقبني على زرع تلك النطفة يف رحمها ب�أن ّ‬ ‫متام ًا عن قرار �إجها�ضها‪ .‬هل �س�أكون خمطئ ًا يا ترى لو تركتها وحدها‬ ‫وعدت �إىل بيتي؟‬ ‫الآن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪232‬‬


‫دخلت علينا طبيبة‪ ،‬و�س�ألتها غالية‪:‬‬ ‫– كم ت�ستغرق؟‬ ‫– �ساعة على الأكرث‪.‬‬ ‫وجهت كالمها نحوي‪ ،‬وك�أنّ غالية تعرف هذا من قبل‪:‬‬ ‫ثم ّ‬ ‫– ال تقلق‪ ،‬العملية ب�سيطة‪ ،‬وب�إمكانها اخلروج بعد الظهر‪.‬‬ ‫وبقيت وحدي‪ ،‬يف غرفة انتظار‬ ‫غابت غالية يف غرفة الطبيبة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وقحة جداً‪ ،‬والكدر ينه�ش �صدري مثل جرادة تافهة‪ ،‬دقيقة بعد‬ ‫دقيقة‪ ،‬ومطرقة من الأفكار ال�صعبة تهوي على عقلي الذي قاء كثرياً‬ ‫هذه الأيام‪ ،‬وحتاول �أن تقنعه بحزن عميق‪ ،‬يليق مبا �أنا فيه من حرية‪،‬‬ ‫وتخبط‪.‬‬ ‫ولكني �أرف�ض �أن �أحزن‪ .‬الق�ضية كلها حماولة زواج فا�شلة‪،‬‬ ‫وتداعياتها لي�ست �أكرث من خط أ� �صغري ارتكبناه عندما مل نت�أكد من‬ ‫ردة فعل مط ّلقها ال�سابق جتاه ابنه‪ ،‬احلماقات �أحيان ًا ال ت�ستحق �أن‬ ‫تكون وقوداً حلزن �ضخم‪ ،‬بع�ض ال�ضيق يكفي‪� ،‬إجازة �صغرية‪،‬‬ ‫ويكون كل �شيء على ما يرام‪.‬‬ ‫تذكرت اجلورية‪ ،‬لتكتمل بذلك وقاحة غرفة االنتظار هذه التي‬ ‫ُ‬ ‫ال تدري جدرانها اخل�رضاء ال�شاحبة �أي �أفكار �سخيفة تكيلها يل يف‬ ‫توقيتها اخلاطئ متام ًا‪� ،‬أتراها جتاوزت قدرتها على حقني بالندم حتى‬ ‫منحتها احلياة فر�صة �شماتة �أكرب‪ ،‬كهذه؟‬ ‫ل�ست جبان ًا الآن كما تقول اجلورية‪ ،‬يف �آخر املطاف القرار‬ ‫�أنا‬ ‫ُ‬ ‫قرار غالية‪ ،‬وال ميكن �أن تلعب �شجاعتي �أو جبني �أي دور هنا‪ .‬وهذا‬ ‫املخلوق ال�صغري الذي ميوت الآن داخل غرفة الطبيبة هو �ضحية‬ ‫‪233‬‬


‫املجتمع‪ ،‬ولي�س �ضحيتي‪.‬‬ ‫كنت �أبحث عن زاوية �أ�ضع فيها عقلي‪� .‬أريد �أن �أتخذ �أي خطة‬ ‫ُ‬ ‫تنظيمية للأيام املقبلة‪ ،‬عندما تغيب غالية‪ ،‬ولكن كل اخلطط كانت‬ ‫معوقة‪ ،‬وعاجزة عن انت�شايل �إىل و�ضع �أح�سن‪.‬‬ ‫تن�سحق‪ ،‬وت�صبح ّ‬ ‫كنت بخري‪� ،‬أقر أ� املجلة‪ ،‬و�أ�ستعد للنوم‪ ،‬ملاذا‬ ‫قبل ب�ضعة �أ�شهر فقط ُ‬ ‫كان يجب �أن �أجد مقا ًال لكاتبة جميلة ا�سمها غالية؟‬ ‫ها هي الكاتبة ترقد الآن يف الغرفة املجاورة‪ ،‬ت�رشع فخذيها‬ ‫و�سعت احلقنة رحمها عدة مرات‪ ،‬لت�ستقبل ذلك‬ ‫املنفرجني بعد �أن ّ‬ ‫ويكحت بطانة الرحم‬ ‫ال�شافط الذي يقتل الأطفال‪ ،‬وي�رسق احلياة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نكحت مبلعقة �صغرية ثمرة ماجنو!‬ ‫مثلما‬ ‫ُ‬ ‫كانت تبدو �أجمل بكثري يف مقالها ذاك من هذه احلالة الوقحة‪.‬‬ ‫من يتحمل هذا؟‬ ‫عندما تخرج غالية من هذه الغرفة فهذا يعني �أنها نفذت قراراً‬ ‫�أ�صعب من قرار الطالق نف�سه‪ ،‬ويعني �أن طالقنا �سيكون حتمي ًا‪ ،‬بعد‬ ‫يوم �أو يومني على الأكرث‪ ،‬ثم لن تكون غالية هنا‪� .‬سينتهي املو�سم‬ ‫فج�أة‪ ،‬بينما يدي معلق ٌة على ثمرة مل �أقطفها‪ ،‬ومل �أنزع يدي عنها‬ ‫بعد‪.‬‬ ‫قمت �أم�شي يف �أروقة امل�ست�شفى‪ ،‬ووجهي مغطى‬ ‫مللت اجللو�س‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫بو�شاح من اجلدية ال يجعل �أحداً قادراً على الكالم معي‪.‬‬ ‫بني كل الأن�سجة والدماء املتخرثة التي �ستعود بها تلك الأداة‬ ‫أت�صور هذا‬ ‫اللعينة مراراً �سيكون اجلنني ال�ضئيل مقتو ًال‪ ،‬قبل حياته‪ّ � .‬‬ ‫امل�صري لأوىل حماوالتي �إجناز م�رشوع حياة‪ ،‬و�أنا �أجول يف املمر حمدق ًا‬ ‫‪234‬‬


‫يف �أر�ضيته مثل ك ّنا�س �ضعيف الب�رص‪.‬‬ ‫�أخربتني املمر�ضة �أن العملية جنحت بهم�سة �صغرية‪ ،‬قبل �أن ت�أخذ‬ ‫�سبيلها يف ممرات امل�ست�شفى‪.‬‬ ‫كان هذا يعني �ضمني ًا‪� ،‬أن ابني املحتمل‪ ،‬مات‪.‬‬ ‫جل�ست فوق جبل من ال�رشود‪ ،‬كلمتني املمر�ضة مرة �أخرى‬ ‫ُ‬ ‫لتخربين �أن غالية نامت قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬وقد ال تفيق قبل �ساعة‪.‬‬ ‫قلت لها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫قت يف وجهي ببالهة عندما ُ‬ ‫حد ْ‬ ‫– عندما تفيق‪� ،‬أخربيها �أن تعود يف �سيارة �أجرة‪.‬‬

‫‪235‬‬



‫‪VIII‬‬ ‫املقطع الأخري من مقال غالية‪ ،‬بعد �شهرين‪:‬‬ ‫“ �آخر الكالم‪:‬‬ ‫�أيها ال�سيد احلب‪� ،‬إن العباءة النورانية تت�سخ عمداً هنا‪ ،‬ما الذي‬ ‫ال�شم�سي اجلميل‪ ،‬ولو يف �سيارة �أجرة‪.‬‬ ‫جاء بك؟ عد �إىل كوخك‬ ‫ّ‬ ‫الع�شاق‪ ،‬و�أرباع امل�ؤمنني‪ُ ،‬‬ ‫وك ْل خبزك‪،‬‬ ‫واغ�سل يديك من �أن�صاف ّ‬ ‫ومن‪ ،‬وال حتلم بنا مر ًة �أخرى!”‬ ‫ويف غرفتي يف الريا�ض‪ ،‬كانت هناك ر�سال ٌة من غالية حم�شورة يف‬ ‫املنطقة الفو�ضوية بني ال�رسير و�س ّلة املجالت‪ ،‬حتمل كالم ًا مثل هذا‪،‬‬ ‫و�صلتني �أخرياً مع باقة ورد �سوداء‪ ،‬وال �أتذكر كيف �أ�ضعتها يف غمرة‬ ‫أقتات به من‬ ‫كنت � ُ‬ ‫بكائي الأخري‪ .‬كانت ورق ًة ت�شبه رغيف ًا دافئ ًا لطاملا ُ‬ ‫الكوثري‬ ‫تلوث خيالك‬ ‫َّ‬ ‫جوع فراقها‪“ ،‬ال حتلم بي مر ًة �أخرى! ال ِّ‬ ‫بامر�أة تافهة مثلي‪� ،‬أنت جميل‪ ،‬ولي�س عندي ما �ألب�سه لأحالمك!”‪،‬‬ ‫زلت �أتذكر موا�ضع النقاط‪ ،‬وميالن احلروف‪ ،‬و�آثار الطية الوحيدة‬ ‫ما ُ‬ ‫حتو ُم يف خيايل مثل اجلياد التي ترك�ض بني‬ ‫فوقها‪ ،‬وظلت الكلمات ّ‬ ‫الأ�سوار اخل�شبية‪.‬‬ ‫‪237‬‬


‫ومل �أحلم بها بعد ذلك‪ ،‬مل �أحلم بغالية قط‪ ،‬لي�س لأين �أحرتم ر�سائل‬ ‫ُّ‬ ‫تن�سل �أرواح‬ ‫الوداع الدافئة‪ ،‬وال لأنها حاولت �أن ترحل برفق‪ ،‬مثلما‬ ‫امل�ؤمنني‪ ،‬من دون �أن تدمرين يف خروجها مني‪ ،‬ولكن لأن ترو�س‬ ‫اكت�شفت �أنها مت�ضغني‬ ‫احللم يف جبيني توقفت عن الدوران منذ �أن‬ ‫ُ‬ ‫تكون التاريخ‪،‬‬ ‫حتتها بال طائل‪ ،‬وت�ؤذيني بال معنى‪ ،‬و�أن ال �شيء منذ ّ‬ ‫جاءت به الأحالم‪.‬‬ ‫مل �أكتب لغالية ر�سال ًة �أخرية‪ ،‬ومل �أ�سمع بعدها‪ ،‬من �أي نب�ضة عابرة‪،‬‬ ‫�أن قلبي حلم بامر�أة �أخرى‪� ،‬أما ج�سدي فله ما له‪ ،‬وعليه ما عليه‪.‬‬ ‫مل يكن من املمكن �إيقافهما مع ًا‪ ،‬قلبي وج�سدي‪ ،‬ال بد �أن يتوقف‬ ‫�أحدهما عن العمل ب�سبب عجزه‪ ،‬ويعمل �أحدهما لإعالة الآخر‪،‬‬ ‫جتل�س معي فيه‬ ‫هكذا‬ ‫ُ‬ ‫ق�ضيت بينهما يف يوم �شديد الو�ضوح‪ ،‬وكانت ُ‬ ‫امر أ� ٌة �أخرى‪ ،‬ثم امر�أة �أخرى‪ ،‬ثم امر�أة �أخرى‪.‬‬ ‫خب�أت �شيئ ًا من حزين عليها يف �صناديق �صغرية‪،‬‬ ‫كنت �أمتنى لو ّ‬ ‫حتى �إذا المني �أحد على طوق طهارتي املك�سور �أمنحه �إ ّياه ليتذوقه‬ ‫قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬وليعرف �أن حداً ما من املرارة‪ ،‬يك�رس الأطواق �أحيان ًا‪ ،‬و�أن‬ ‫قلبي �أ�صبح ي�شك كثرياً يف م�شاريع احلب الطويلة‪ ،‬وع�شق الن�ساء‬ ‫اجلليالت‪.‬‬ ‫التاريخ منت�صف �أبريل‪ ،‬و�أخيلتي كثيفة‪� .‬أ�ستيقظ من النوم وال‬ ‫عيني‪� .‬أتذكر رائحة لعابها عندما كان يتجمع �أحيان ًا‬ ‫�أرغب يف فتح ّ‬ ‫على �صدري وهي نائمة‪� ،‬سائ ً‬ ‫ال من فرجة �صغرية يف فمها ال تنفتح‬ ‫�إال �إذا نامت‪.‬‬ ‫ولأنها تعرف �أن فمها ُيحدث هذه الفتحة ال�صغرية �أثناء النوم‪،‬‬ ‫‪238‬‬


‫وي�رسب ر�ضابها ال�شفاف دائم ًا على خمدتها‪ ،‬كانت ت�سارع �أول ما‬ ‫ت�ستيقظ �إىل م�سح القطرات املتجمعة يف الوادي ال�ضيق بني �صدري‬ ‫ونهدها الأي�رس‪� ،‬أو التي �سالت كخيط من خيوط الفجر على �أ�ضالعي‪،‬‬ ‫وبلغت ظهري‪.‬‬ ‫ر�شفت قبل �أن ننام �ضعفَي هذه القطرات‪ ،‬وتعرف �أن‬ ‫تعرف �أين‬ ‫ُ‬ ‫آمنت بها فيها‪ ،‬بعد حبة اخلال العتيقة‬ ‫ر�ضابها هو ثالث العنا�رص التي � ُ‬ ‫يف وجنتها اليمنى‪ ،‬و�شعرها الأ�سود الطويل املمتد مثل قافل ٍة من ليايل‬ ‫التاريخ‪ ،‬ولكن غالية تخجل مني كل �صباح خج ً‬ ‫ال جديداً‪ ،‬وك�أنه‬ ‫�أول �صباح لنا‪ ،‬هذا �أغرب �شيء فيها‪ ،‬اخلجل الذي يتجدد كل يوم‪،‬‬ ‫وال ميكن �أن ينتهي‪.‬‬ ‫“يا غالية‪� ...‬إن كل قبلة من �شفتيك الناعمتني ال تقف حيث‬ ‫ت�ضعينها من ج�سدي فح�سب‪ ،‬بل تدخله وتفتح مدر�س ًة ومزرع ًة‬ ‫و�سوق ًا �صغرية! وتنجب �أوالداً‪ ،‬و�أحفاداً‪ ،‬وحتا�رصين من الداخل‪،‬‬ ‫وتُن�شئ جمتمع ًا �صغرياً من امل�شاعر‪ ،‬وحتكمه با�سمك‪� ،‬أيتها املر�أة التي‬ ‫�أحب‪.‬‬ ‫كل هذا تخلقه قبل ٌة واحدة! ماذا خلقت يف داخلي �آالف القبالت‬ ‫�إذن يا غالية؟!”‬ ‫�آنذاك كان حبنا عظيم ًا‪ ،‬وكانت الأ�سماك يف �آخر حميط يف الدنيا‬ ‫طل�سم كبري جداً‪،‬‬ ‫وكنت �أعتقد جازم ًا �أن غالية‬ ‫تتنهد من �أجلنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وب�سيط جداً‪ ،‬و ُمعج ٌز جداً‪ ،‬رغم اعتيادي �إياها‪ ،‬ورغم ح�ضورها يف‬

‫طفولتي و�شبابي متام ًا مثل الأ�سماك التي تتنهد يف �آخر حميط يف الدنيا‪.‬‬ ‫كانت حتمل ماج�ستري القمر‪ ،‬غالية‪ ،‬و�أنا قلبي مثقف جداً‬ ‫‪239‬‬


‫يف ع�شقه‪ ،‬والآن قررت �أن ت�أفل‪ ،‬و�أنا قررت �أال �أحب الآفالت‪،‬‬ ‫وفتحت �أبوابي املو�صدة لن�ساء �أخريات‪ .‬فرتة النقاهة من احلب دائم ًا‬ ‫ُ‬ ‫مليئة بال�ضمادات الن�سائية‪ ،‬هكذا الأ�شياء تبدو متعاونة ن�سبي ًا‪ ،‬و�أنا‬ ‫�أحاول �أن �أعود �إىل مداري‪ ،‬بعد خروج ا�ضطراري عمره عمر‬ ‫عمدتني فيها غالية بحبها‪.‬‬ ‫الأ�شهر املتقلبة التي ّ‬ ‫و�شعرت تدريج ًا �أن‬ ‫مرت �أ�شهر �أخرى على غيابها الأخري‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت �أظنها م�ستفحلة‪ ،‬وموغلة يف ال�صعوبة بد�أت‬ ‫ال ُعقد احلياتية التي ُ‬ ‫تنحل �أمامي‪ ،‬ويتفكك ت�شابكها الكثيف بطواعية متنحني �إياها الأيام‬ ‫الهادئة‪� .‬إن احلب ا�ستثناء‪� ،‬أما القاعدة فهي �أن ت�أخذ من املر�أة ما متليه‬ ‫عليك رغباتك الروحية واجل�سدية‪ .‬وكما هي اال�ستثناءات دائم ًا‬ ‫حمفوفة بالقلق‪ ،‬ف�إن القاعدة دائم ًا معبدة بالراحة وال�سكون‪.‬‬ ‫ان َز َلقت غالية من حياتي كما ينزلق الرمل يف �ساعة رملية قا�سية‪ ،‬مل‬ ‫يكن يف ف�سحة الوجدان كلم ٌة تكفي ال�ستبقائها‪ ،‬راقبتها وهي تغيب‬ ‫تدريج ًا من حياتي‪ ،‬اجل�سد ثم الوجه وال�صوت والر�سائل‪ ،‬ثم احلب‪،‬‬ ‫تور َطت فيها‬ ‫وكلما ابت َع َدت‬ ‫ُ‬ ‫�شعرت ب�أين �ضحية م�ؤامرة ح�سدٍ كبرية َّ‬ ‫�شعرت ب�أين ملي ٌء بالر�ضا‬ ‫ابتعدت �أنا‬ ‫كائنات كونية كربى‪ ،‬وكلما‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والأمل‪ ،‬وماج يف داخلي بحر من الذنوب ال يهد�أ‪ ،‬وما زال ي�رضبني‬ ‫ال �ساح ً‬ ‫�ساح ً‬ ‫ال‪ ،‬حتى انك�رس طوق الطهارة‪.‬‬ ‫الآن‪ ،‬من ال�سهل �أن �أقر�أ على زجاج �سيارتي كل �صباح رموزاً كان‬ ‫يهلكني غمو�ضها الأ�سود‪ ،‬رموزاً من حياتي‪ ،‬كهويتها‪ ،‬وماهيتها‪،‬‬ ‫مت�س‬ ‫واجتاهها‪ ،‬ومعطياتها‪ ،‬كل هذه الفو�ضى العظيمة حتدثها امر�أة ُّ‬ ‫مت�س الكهرباء �سطح املاء الراكد‪.‬‬ ‫القلب ب�شكل مك�شوف‪ ،‬مثلما ّ‬ ‫‪240‬‬


‫�أقمت �سياج ًا حول قلبي‪ ،‬وتركته يلعق جراحه يف داخله مثل‬ ‫وجعلت له ق�ضبان ًا ت�سمح للن�ساء باالقرتاب‬ ‫قط‪ .‬تركته حمبو�س ًا خلفه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫منه‪ ،‬و�إلقاء فتات احلنني �إليه من الفتحات‪ ،‬من وراء ال�سياج فقط‪،‬‬ ‫واعتذرت من قلبي على هذا العزل املهني‪ ،‬لأنه كائن يتعاطى احلب‬ ‫ُ‬ ‫ب�رشاهة م�ؤذية‪ ،‬و�أنا ال ميكن �أن �أ�سمح المر�أة �أن ت�صل �إليه مرة �أخرى‪،‬‬ ‫فلرمبا نه�شها‪ ،‬ورمبا خنقته‪ ،‬وال بد من �سياج كهذا يقيهما حماقة‬ ‫بع�ضهما بع�ض ًا‪.‬‬ ‫ها �أنذا �أعقل القلب �أخرياً‪ ،‬ولكن من يعقل اجل�سد؟ ال �شيء‪ ،‬هذا‬ ‫الكائن الطيني ال ميكن التفاو�ض معه ب�سهولة‪ ،‬وهذه �أول امل�شاكل‬ ‫عا�شق يف ابتداء م�رشوعه لرتميم نف�سه بعد ع�شق حميم‪.‬‬ ‫التي يواجهها‬ ‫ٌ‬ ‫حمى اجل�سد احلزين امللتهب الذي اعتاد التدليل والر�ضا‪.‬‬ ‫الكالم املختلف الذي �أقوله‪ ،‬واملحاولة ال�صعبة لإبراز طابع عملي‬ ‫هروب من �صفحات‬ ‫ووالدي‪ ،‬كلها‬ ‫للحياة يف وقائعها اليومية يل �أنا‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ألغيت ب�ضعة قوانني �أخرية‪ ،‬وكان ال‬ ‫متعبة يف ال�سنوات التي م�ضت‪ُ � ،‬‬ ‫بد من ح�ضور كهذا لأتغلب على البقية‪.‬‬ ‫عندما نف�شل متام ًا يف �إيجاد نتيجة مقبولة‪ ،‬فال بد �أن يكون اخلط�أ‬ ‫يف القانون الذي نعمل به‪ ،‬ولنت�أكد من هذا يجب �أن نخو�ض مغامرة‬ ‫�صغرية‪ ،‬ونغيرّ ه‪ ،‬وعندما ن�سقط بعدها‪ ،‬نقع يف خيارين‪� ،‬إما �أن نف�رس‬ ‫تعود القانون الغائب‪� ،‬أو �أن القانون �أ�ص ً‬ ‫ال مل يكن‬ ‫�سقوطنا ب�أنه عدم ّ‬ ‫ي�ستوجب �أن يغيب‪.‬‬ ‫وقلت يف نف�سي‪� :‬إن بقيت‬ ‫بللت باملاء ورقة احلب الأخرية �إذن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫زرقاء بقي الي�أ�س متعامداً مع ف�ضاء الروح‪ ،‬و�إن �سال كل �شيء‪،‬‬ ‫‪241‬‬


‫واغت�سلت الورقة من �إثم احلرب‪ ،‬جاز يل �أن �أبد�أ احلياة اجلديدة‪.‬‬ ‫ي�ستحق مغامر ًة مثل هذه لتغيريه‪ ،‬لي�س احلب‬ ‫قانون احلب كان‬ ‫ُّ‬ ‫نف�سه‪ ،‬ولكنها الطريقة التي �أفعله بها‪ ،‬ال جتدي‪ .‬ال جتدي �شيئ ًا على‬ ‫الإطالق‪.‬‬ ‫نحتاج �أحيان ًا �إىل ع�شاق كومبار�س ي�ؤدون �أدوار احلب اخلطرية‬ ‫بد ًال منا‬ ‫خربت �أن الأبناء الذين ي�أتون وحيدي �أهليهم‪ ،‬مثلي‪ ،‬كثرياً ما‬ ‫ُ‬ ‫تتحول الأ�شياء القريبة منهم �إىل كينونات قابلة لالمتالك‪ ،‬رمبا كان هذا‬ ‫حاولت �أن �أحب �أي�ض ًا‪ ،‬بطريقة الكينونات‬ ‫هو عمود حزين‪ ،‬و�إال فما‬ ‫ُ‬ ‫القابلة لالمتالك هذه‪.‬‬ ‫ارتع�ش وجه �أبي عدة ثوانٍ ‪ ،‬ثم خ ّلفني وراءه وم�ضى‪� .‬أمي �أحرقت‬ ‫كنت يف حال ال‬ ‫يف وجهي ع�رشات الأ�سئلة‪ ،‬ومل �أ�ستطع م�ساعدتها‪ُ ،‬‬ ‫عرفت‬ ‫�أ�ستطيع معها �أن �أطفئ �أي حريق‪ ،‬غري حرائقي ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫من خالل الأيام القليلة التي توترت فيها عالقتي ب�أبوي‪� ،‬أنه يجب‬ ‫علي بالفعل �أن �أجتهد‪ ،‬لأكون �أقبح قلي ً‬ ‫ال مما �أنا عليه‪ ،‬لعلي �أفهم �أين‬ ‫ّ‬ ‫علي ال�شعور باحلزن‪ ،‬وال�شعور بالظلم‪.‬‬ ‫�أ�ستحق ما �أنا فيه‪ ،‬فال يجتمع ّ‬ ‫�أحدهما يكفي‪.‬‬ ‫حق ًا‪ ،‬ماذا ميكن �أن �أجني من امل�شي على الر�صيف‪ ،‬رغم �أن �أحدهم‬ ‫مل يثبت �أن امل�شي على الع�شب م�رض ب�صحة الطريق مث ً‬ ‫ال؟ با�ستثناء‬ ‫تلك الإ�شارات العمياء التي يبقوننا بها بعيداً عن الع�شب‪ ،‬لأهدافهم‬ ‫ال�شخ�صية‪ .‬كان عندي خطة �رسيعة‪ ،‬مبا�رشة‪ ،‬للتخل�ص من حزين على‬ ‫غالية قبل �أن يتحول �إىل يوغا عتيقة يف و�سط القلب ال�ضيق‪.‬‬ ‫‪242‬‬


‫دلو من الفل�سفة الفجة‪� ،‬أ�شطف به املكان‪ ،‬و�أكون بخري‪ .‬رغم‬ ‫�أن القلب تراوده اله ّنات من حني لآخر‪ ،‬ولكني ال �أعتقد �أنه �سيفعل‬ ‫احلب مرة �أخرى يف حياته‪ ،‬و�أ�شعر �أن غالية فطمتني عن احلب فطام ًا‬ ‫ا�ستطعت‬ ‫�شديداً‪ ،‬حتى لو �أنها عادت هي نف�سها �إىل حياتي الآن‪ ،‬ملا‬ ‫ُ‬ ‫�أن �أحبها‪.‬‬ ‫حتدث معي �آنذاك‪ ،‬ي�شهد �أين �أحد متاثيل املادية العريقة‪،‬‬ ‫هكذا‪ ،‬من ّ‬ ‫كنت �أ�سمع حديثي و�أ�ستغرب ال�صوت اجلديد‪ ،‬والوجه الذي‬ ‫حتى �أنا ُ‬ ‫�صار خمطط ًا ب�شكل متقاطع مثل جدار من الطوب‪ ،‬و�أه ّنئ نف�سي‪،‬‬ ‫ا�ستخرجت نف�سي من منجم عميق انهار فج�أة‪.‬‬ ‫وك�أين‬ ‫ُ‬ ‫هكذا �إذن؟ الهدوء ال يك�رس املوت‪ ،‬رمبا ال�ضجيج هو الذي يقف‬ ‫يف وجه هد�أة املوت املتعجرفة‪ ،‬رمبا �أف�ضل ما ميكننا �أن نفعله بعد‬ ‫احلب �أال نقف على �أطراف �أ�صابعنا نت�أمل الراحلني مثل حيوانات‬ ‫النم�س الع�صبية‪ ،‬بل يجدر بنا �أن نرك�ض يف االجتاه العك�سي متام ًا‪،‬‬ ‫فاجلهات مل تخلق �أربع ًا لوجه العبث‪.‬‬ ‫كنت �أرف�ض‪ ،‬بقوة م�ضاعفة يف الرف�ض‪� ،‬أن �أكون �ضحية معتادة‬ ‫ُ‬ ‫لكال�سيكيات احلياة‪ :‬كاحلب مث ً‬ ‫�شعرت ب�أنه من الغباء �أن ن�ستمر‬ ‫ال‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حزانى بعد ماليني ال�سنني من اخرتاع احلزن‪ ،‬من دون �أن نكت�شف‬ ‫بعد طريقه ال�رسي يف داخلنا‪.‬‬ ‫�أريد اليوم �أن �أكون � ّ‬ ‫أقل حزن ًا فقط‪ .‬ال �أريد �أن �أكون �أكرث نب ً‬ ‫ال‪� ،‬أو‬ ‫�شعراً‪� ،‬أو احرتاق ًا حتت مظلة الوهن‪� ،‬أو تذمراً من معاندة الزمن‪ .‬ال‬ ‫تعنيني كل املدن ّ‬ ‫املركبة من �أرق العا�شقني‪ ،‬ودموع املتعبني‪ .‬كل هذه‬ ‫اخلياالت الزائفة لي�ست �إال حماولة لتعوي�ض ف�شلنا يف �أن نكون �أقل‬ ‫‪243‬‬


‫أف�ضل النجاح على الف�شل‪ ،‬و�أريد �أن �أكون � ّ‬ ‫أقل حزن ًا‪...‬‬ ‫حزن ًا‪ ،‬و�أنا � ِّ‬ ‫فقط‪.‬‬

‫****‬ ‫كنت �أ�شعر �أين متجه نحو‬ ‫�‬ ‫ُ‬ ‫أخربت �أبي �أين �س�أبحث عن وظيفة‪ ،‬رمبا ُ‬ ‫دمت‬ ‫حزن بطيء‪ ،‬وبد�أت �أحمل حقائبي �إليه‪ .‬ولهذا فكرت‪ :‬ما ُ‬ ‫�أفتعل هذه الهجرات ال�صغرية من البيت بال مربر‪ ،‬فلأبحث عن‬ ‫وظيفة �إذن‪ .‬رمبا كانت احللول ال�صناعية جمدية �أحيان ًا‪ ،‬عندما �أعيتنا‬ ‫احللول الروحية املتاحة يف مدينة بال روح �أ�ص ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫وتعلمت‬ ‫تعلمت �أن ما يثني عن احلزن �أحيان ًا رمبا ي�صبح حزن ًا �آخر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�أي�ض ًا �أن بقائي خاوي ًا مثل حقل �شعري جمدب لن يجعلني �أح�سن حا ًال‪،‬‬ ‫ولن يعيد �إيل الأ�شياء التي مل مينحني �إ ّياها اهلل‪ ،‬كما منحني �أ�شياء كثرية‬ ‫�أخرى‪ ،‬مثل غالية‪� ،‬أمل تكن هذه املر�أة حم�ض نعمة من اهلل؟‬ ‫هي ذلك فع ً‬ ‫ال‪ ،‬كانت كل اللحظات معها فاخرة مثل ال�سياحة‪،‬‬ ‫كل الأيام ثمينة وك�أنها متحف‪ ،‬و�أنيقة ك�أنها فندق‪ ،‬و�سعيدة ك�أنها‬ ‫�ساحل‪ ،‬ولهذا كان يجب �أن تنتهي ك�أنها �إجازة‪.‬‬ ‫مل يعقّب �أبي على قراري العمل ب�أكرث من كلمات ب�سيطة ال حتمل‬ ‫الت�شجيع وال التثبيط‪ ،‬بقدر ما حتمل تفوي�ض ًا كام ً‬ ‫ال بحرية القرار‪،‬‬ ‫كنت �أنا الذي‬ ‫“طيب يا ولدي اللي ت�شوفه‪ ،‬اهلل يوفقك”‪ ،‬وبالفعل‪ُ ،‬‬ ‫اختار االنخراط يف عمل منظم‪ ،‬يرتب جدول يومي الذي يبعرثه‬ ‫ال�سهر‪ ،‬وجدول �شهوري الذي يبعرثه ال�سفر‪.‬‬ ‫‪244‬‬


‫كنت �أجل�س معه �إىل طاولة الغداء‪ ،‬عندما �س�ألني عن نية‬ ‫بعد �أيام‪ُ ،‬‬ ‫كنت ال �أزال عازم ًا عليها‪ ،‬وبدا يل �أن يف �س�ؤاله‬ ‫الوظيفة تلك‪ ،‬وما �إذا ُ‬ ‫اهتمام ًا‪ ،‬بل مي ً‬ ‫ال مف�ضوح ًا لهذا القرار‪ ،‬وك�أنه بد أ� يلمح يف وجهي‬ ‫خوا ًء ينذر بالأمل يف حد�س الكبار‪ ،‬ورمبا �صار يعرف �أن فراغي انقلب‬ ‫بلغت عمراً ي�رصخ فيه كدحي الإن�ساين ب�أنه ال بد‬ ‫�ضدي‪ ،‬و�أين البد قد ُ‬ ‫�أن ي�ستويف حقه من الأخذ‪ ،‬ومن امل�صري‪.‬‬ ‫قال �أبي‪:‬‬ ‫– �أما زلت ترغب يف وظيفة؟‬ ‫– �إن �شاء اهلل‪.‬‬ ‫– هذا الوقت منا�سب جداً‪ ،‬ففي بداية ال�سنة املالية اجلديدة لكل‬ ‫�رشكة‪ ،‬هناك فر�ص وظيفية �أكرث‪.‬‬ ‫– �صحيح‪ ،‬بد�أت جتهيز �أوراقي‪ ،‬ولكن مل �أبد أ� البحث فعلي ًا‪.‬‬ ‫– �أين تريد �أن تعمل؟‬ ‫– يف بنك غالب ًا‪.‬‬ ‫و�أوم�أ �أبي �إمياءة قبول �صغرية‪ ،‬وهو م�شغول بالطعام‪ ،‬وال �أدري‬ ‫ملاذا يعجبني دائم ًا �شكل حاجبيه �إذا انعقدا �أثناء النقا�ش‪ ،‬هل لأن �أبي‬ ‫ال يعقدهما كثرياً‪ ،‬ودائم ًا تظل مالحمه منب�سطة‪ ،‬ف�أميل �إىل اكت�شاف‬ ‫زوايا جديدة‪ ،‬ونادرة‪ ،‬يف وجهه الطلق؟‬ ‫مل تتكلم �أمي �أثناء الغداء‪ ،‬وك�أمنا كان هناك �ش�أنٌ قد ُد ِّبر بينهما‬ ‫يف غيابي‪ ،‬كانت الأمور ت�سري ح�سبما تريد على ما يبدو‪ ،‬ومل �أحتمل‬ ‫�ضغط ابت�سامة كبرية اغت�صبت فمي و�أنا �أراقب � ّأمي‪ ،‬وحماوالتها‬ ‫ال�صعبة اللتزام ال�صمت �أثناء النقا�ش‪ ،‬رمبا هي م�أخوذة الآن بنظرية‬ ‫‪245‬‬


‫تربوية حول معاملة الفتى يف هذا العمر‪ ،‬وم�س�ؤولية �أبيه عن ذلك‪،‬‬ ‫كعادتها �أمي‪ ،‬ال تغري من �سريورة ت�رصفاتها �إال عندما تكون م�أخوذة‬ ‫بفكرة ما‪ ،‬قر�أتها‪� ،‬أو �سمعتها‪� ،‬أو انفلقت يف ذهنها فج�أة ك�صبح‪،‬‬ ‫ولهذا كان الكتاب‪� ،‬أو الكتابان الوحيدان اللذان تقر�أهما �أمي يف‬ ‫ال�سنة‪ ،‬يخت�رصان �سنة كاملة من �سلوكها‪ ،‬كما �أن بع�ض املقاالت قد‬ ‫تخت�رص الأ�شهر والأيام‪.‬‬ ‫لأنها وجلت الثقافة عن جوع‪ ،‬ت�رص دائم ًا �أن متار�سها ب�إتقان زائد‬ ‫�أحيان ًا‪ ،‬وهي تقر�أ الكتاب يف �شهر تقريب ًا‪ ،‬ل�صعوبة �إيجاد كتاب‬ ‫ينا�سبها‪ ،‬وغالب ًا لأنها تخ�شى �أن تفوتها فكرة ما يف �سطوره‪ ،‬ال‬ ‫تقتن�صها منه لتعلقها مع جتاربها الأخرى مثل املفاتيح‪ .‬تظن �أمي دائم ًا‬ ‫�أن كل كاتب البد �أنه يخفي �شيئ ًا ما للقارئ الن�شيط‪ ،‬وت�شعر بالبهجة‬ ‫�إن هي اكت�شفت ما يرمي �إليه‪� ،‬أو ظنت ذلك‪.‬‬ ‫كنت �أحتدث مع �أبي عن وظيفة‪ ،‬وهذا �ش�أن رجايل كما يبدو‪ ،‬و�أمي‬ ‫ُ‬ ‫تتمنى لو �أين �أعمل‪ ،‬حتى �أتوقف عن ال�سفر‪ ،‬وعن البقاء خارج البيت‪،‬‬ ‫ولكنها رمبا ت�شعر ب�أن تدخلها �سيجعلني �أتردد‪ ،‬ولهذا بقيت �صامتة‪.‬‬ ‫وما �أجمل �أمي وهي ت�سعى لتطبيق قناعاتها ب�رسعة‪ ،‬فور عبورها منطقة‬ ‫اليقني عندها‪ ،‬مما يجعل منط عي�شها ممتع ًا ملن يراقبها عن حب‪ ،‬مثلي‪.‬‬ ‫غ�سل �أبي يديه ببطء كعادته‪ ،‬وقبل �أن ي�صعد �إىل غرفته ليق�ضي‬ ‫قيلولته‪ ،‬عاد مرة �أخرى �إىل الطاولة وهو يجفّف يديه ليقول يل‪:‬‬ ‫– خليني �أكلم عبد احلكيم بخ�صو�ص البنك يا ح�سان‪ ،‬اي�ش‬ ‫ر�أيك؟‬ ‫– اللي ت�شوفه‪.‬‬ ‫‪246‬‬


‫وهذه كانت �إ�شارة �أخرى تف�ضح رغبة �أبي يف ذلك‪ ،‬مهما �أعلن‬ ‫علي دائم ًا حرية املوقف‪ ،‬ال ميكنه �أن يفتعل احلياد متام ًا‪ ،‬هو الآن يف‬ ‫ّ‬ ‫وقت ق�صري‪ ،‬مل يبارك قراري فقط‪ ،‬بل راح يعمل على تنفيذه بنف�سه‪،‬‬ ‫و�إذا بلغ الأمر عبد احلكيم‪� ،‬صديقه املقرب‪ ،‬واملدير الكبري يف البنك‬ ‫الأهلي‪ ،‬ف�ستكون وظيفتي على مرمى توقيع �صغري‪� ،‬أعلم هذا‪.‬‬ ‫بعد �أيام‪� ،‬أجريت معي مقابلة �شكلية فقط يف البنك الأهلي‪ ،‬ثم‬ ‫مت العمل ر�سمي ًا‪ ،‬وك�أمنا بد�أت �أر�سم خطوط ًا جديدة يف حياتي‪.‬‬ ‫ت�س ّل ُ‬ ‫ولكن الألوان نف�سها‪ ،‬ال تتغري‪.‬‬

‫****‬ ‫كان قراري �أن �أعمل لأين �أغبط النا�س الذين يعملون‪ ،‬ال�سيما �إذا‬ ‫كانوا منهمكني يف �أعمالهم‪ ،‬على ما يك�سو وجوههم من مالمح‬ ‫تركيز وجدية‪ ،‬ولي�س �أمامهم �إال �أوراق‪ ،‬و�أرقام‪ ،‬و�شا�شات كمبيوتر‬ ‫رمبا‪� ،‬أو �أي �أداة ي�ستخدمونها يف �أعمالهم ذات الطابع املادي‪ .‬كم‬ ‫هم حمظوظون �إذ يحرقون الفائ�ض من �أرواحهم يف العمل‪ ،‬بدل �أن‬ ‫يحرتق يف داخلهم‪ ،‬بدون �سبب‪ ،‬وي�ؤذيهم‪.‬‬ ‫هل يدركون احلياة �أكرث؟ هل العمل اليومي الذي ي�صنع رزق ًا هو‬ ‫�أعلى قيمة من االن�شغال الروحي مببهمات احلياة‪ ،‬من فن‪ ،‬وكتابة‪،‬‬ ‫وفل�سفة‪ ،‬وفكر‪ ،‬ومتع‪� ،‬أو �أي �شيء �آخر مما تخرتعه الأرواح اخلالية‬ ‫مكر�س ًا‬ ‫من مقت�ضيات املادة؟ ملاذا ُ‬ ‫كنت �أحزن �إذن عندما كان يومي ّ‬ ‫لأكون خالي ًا من كل �شيء‪� ،‬إال مما يجذبني �إليه‪� ،‬سواء امر�أة كان‪� ،‬أم‬ ‫‪247‬‬


‫�صديق ًا‪� ،‬أم كتاب ًا‪� ،‬أم �أغنية‪� ،‬أم مدينة؟‬ ‫ويظن �أولئك الذين ي�سعون وراء رزق اليوم �أن ذلك ٌ‬ ‫ترف يحبذونه‬ ‫وال يجدونه‪ ،‬بينما �أنا م�ستلقٍ على ح�شيته منذ �سنوات‪ ،‬حتى �إن ما‬ ‫�أفعله يف الدقيقة القادمة هو ما �أقرره يف الدقيقة التي قبلها فقط‪� .‬أنا‬ ‫الآن �أخرج من هذا‪ ،‬و�أجته �إليهم‪� ،‬إىل عاملهم الذي يجعلهم يفكرون‬ ‫كثرياً يف بقعة الرزق‪ ،‬بد ًال من التفكري يف بقاع �أخرى‪ ،‬ال �أحد يعرف‬ ‫مكانها حتديداً‪.‬‬ ‫�أعرف �أن الع�شاق ينامون يف العراء �أحيان ًا من فرط الع�شق‪ ،‬ولكني‬ ‫ال �أريد �أن �أ�شعر حتى بال�ضيق من وم�ضات الذكرى‪ ،‬من حقي �أن‬ ‫�أدلل نف�سي �إىل هذا احلد‪ ،‬من حقي �أن �أتخذ احتياطات م�ضاعفة جداً‬ ‫�ضد وجع ما ولو كان طفيف ًا‪ ،‬الوجع هو الوجع‪� ،‬سواء جراء الوهن‬ ‫التام �أو ال�ضيق العابر‪ ،‬كالهما يلحق �أذى‪ ،‬و�أنا �أجتنب الأذى ب�شكل‬ ‫طبيعي‪ ،‬وال �أعترب نف�سي مرتف ًا‪.‬‬ ‫أ�ضيعه! وعملي‬ ‫فعلي �أن � َّ‬ ‫وما دام الوقت بات ال ي�ؤمن جانبه‪ّ ،‬‬ ‫انت�صار �أعتد به‪ ،‬مثلما �أن النا�س الذين يعملون يحققون‬ ‫اليومي‬ ‫ٌ‬ ‫كنت يوم ًا يف اجلانب‬ ‫انت�صاراتهم من دون �أن ي�شعروا‪ ،‬وحدي الذي ُ‬ ‫الآخر من املعركة �أعرف الفرق‪ ،‬و�أدرك التفا�صيل‪ ،‬ولهذا ت�صبح‬ ‫ذاكرتي الطافحة بالق�ص�ص الكبرية‪ ،‬م�شغولة برتتيب الأ�شياء ال�صغرية‬ ‫التافهة التي �أدفعها �إليها يومي ًا‪ ،‬حتى ال جتد مت�سع ًا لإعادة لفظ ما لديها‬ ‫على عيني‪ ،‬وجبيني‪.‬‬ ‫يت الفجر ب�رسعة‪ ،‬وحملت احلقيبة‪ ،‬وخرجت‬ ‫�صباح اليوم‪� ،‬ص ّل ُ‬ ‫وامتطيت الدرج نزو ًال‪،‬‬ ‫كهارب يدعي �أنه غري هارب‪،‬‬ ‫من الغرفة‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫‪248‬‬


‫نحو املطبخ‪ ،‬لتناول قهوتي‪.‬‬ ‫وجدت �أمي‪ ،‬ولأين ال بد �أن �أتبادل و�إياها حديث ال�صباح‬ ‫هناك‬ ‫ُ‬ ‫هربت منه يف غرفتي‪ ،‬و�أغلقت‬ ‫اكت�شفت بعده �أن الوجع الذي‬ ‫الق�صري‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بابها عليه‪ ،‬خرج من فرجة �أخرى‪ ،‬رمبا من النافذة‪ ،‬وتدحرج �إىل هنا‬ ‫قبلي‪ ،‬وتعلق يف فم �أمي‪ ،‬ثم انطلق نحوي‪ ،‬مثل �سهم‪.‬‬ ‫عرفت الآن فقط من �أمي �أن املر�أة التي ماتت قبل �أ�سبوع مل تكن‬ ‫ُ‬ ‫جارتنا التقية‪ ،‬مل تكن تلك التي تق�ضي ن�صف ال�سنة يف ّ‬ ‫مكة‪ ،‬ون�صفها‬ ‫الآخر يف ا�ستقبال امل�ساكني‪ ،‬وا�ست�ضافة الندوات الوعظية اخلفيفة‪ ،‬مل‬ ‫تكن‪ ،‬خالة نورة �إذن‪ ،‬بل كانت امر�أة �أخرى ا�سمها نورة‪ ،‬و�أنا اختلط‬ ‫علي اال�سمان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كانت �أم غالية‪.‬‬ ‫م�ضى �أ�سبوع و�أنا �أحمل اخلرب يف داخلي يف �س ّلة الأخبار التي‬ ‫كلمات عابرة هذا ال�صباح‪،‬‬ ‫�س ُتن�سى قريب ًا‪ ،‬قبل �أن تت�سلل من فم �أمي‬ ‫ٌ‬ ‫عرفت منها كل �شيء‪،‬‬ ‫و�أنا �أ�شاركها وقف ًة ق�صري ًة عند عتبة الباب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫املرة‬ ‫وانتقل اخلرب الذي كاد �أن ُين�سى‪� ،‬إىل مكان �آخر‪ ،‬مع الأخبار ّ‬ ‫التي تغيرّ طعم ال�صباح‪.‬‬ ‫العجوز الدافئة‪ ،‬تلك‪� ،‬أهدر قلبها النب�ضات الأخرية‪ ،‬وتوقّف‬ ‫عن احلركة‪ ،‬بينما جارتنا التي حتمل اال�سم نف�سه‪ ،‬ما زالت تنام يف‬ ‫امل�ست�شفى‪ ،‬على قيد احلياة‪ ،‬بعد �أن �ألب�ستها ظنوين كفن ًا مل يكن على‬ ‫قيا�س �أقدارها‪.‬‬ ‫توقفت القهوة يف فمي مع ن�صف ارت�شافة‪ ،‬وبدت عيناي مثل‬ ‫وان�صعت للذهول‪ ،‬وهو يحوم بي‬ ‫كرتني مد ّالتني من �سقف وجل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪249‬‬


‫يف دوائر متداخلة‪ ،‬مكتومة امل�ساحات‪ ،‬تتدافع فيها �آال ٌم كان هناك‬ ‫ما ينذر بها منذ �أن ا�ستيقظت‪ ،‬و�أخرياً اندلقت فج�أة مثل دلو مليء‪.‬‬ ‫– يا �أمي‪� ،‬إذن‪� ...‬أم غالية‪ ،‬ولي�ست جارتنا‪.‬‬ ‫– �أوه‪ ،‬وجارتنا هي الأخرى مري�ضة �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫– ماذا ح�صل؟‬ ‫– نائمة يف امل�ست�شفى‪ ،‬ت�أتيها غيبوبات �سكر متالحقة‪.‬‬ ‫– يا �أمي �أق�صد �أم غالية‪ ،‬كيف ماتت؟‬ ‫– يبدو �أنها جلطة‪.‬‬ ‫– وليه ما قلتي يل‪ ،‬ما رحت عزيتهم‪ ،‬وال حتى ات�صلت‪.‬‬ ‫– يا ولدي واهلل ما كنت �أدري �أنك بتخلط بينهم‪.‬‬ ‫ال وهي تنظر �إ ّ‬ ‫�صمتت �أمي قلي ً‬ ‫يل بعينني قلقتني‪ ،‬ثم �أردفت‪:‬‬ ‫– ال تخف يا ولدي‪ ،‬غالية بخري‪ ،‬مت�أ�سية‪ ،‬و�صابرة‪.‬‬ ‫يعدل مالحمه املفجوعة ببطء‪ ،‬وتنف�ست‬ ‫مل �أجب‪،‬‬ ‫تركت وجهي ّ‬ ‫ُ‬ ‫ورحت �أر�شف القهوة ب�شكل ال �إرادي بطيء‪.‬‬ ‫بعمق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�س�ألت �أمي بنربة جعلتها هادئة ب�صعوبة‪:‬‬ ‫– هل ما زالت تعي�ش وحدها؟‬ ‫– هي وولدها‪� ،‬أما �أبوها و�إخوانها فاهلل يخلف عليها فيهم‪.‬‬ ‫– �أكيد احلني بيتدخلون يف حياتها‪ ،‬وي�ضايقونها‪ ،‬ما راح يرتكونها‬ ‫تعي�ش لوحدها وهي مطلقة‪.‬‬ ‫ت�صمت �أمي هنا‪ ،‬و�أعلم �أن �أمل ًا ما يعرب قلبها وهي تتح�س�س ذلك‬ ‫ُ‬ ‫الأمل الآخر الذي خرج من �صوتي الهادئ‪ ،‬وتلمع يف عينيها حرية‬ ‫ترم به حزين القدمي الذي نت أ� فج�أة‪.‬‬ ‫وهي ال جتد ما مّ‬ ‫‪250‬‬


‫الآن �أ�سرتجع اليوم الذي قالت يل فيه �أمي اخلرب اخلاطئ قبل‬ ‫فهمت ملاذا هم�ست يل به بحزن‪ ،‬ويف كلمات قليلة‪،‬‬ ‫�أ�سبوع‪ ،‬الآن‬ ‫ُ‬ ‫ثم خرجت من الغرفة ك�أنها تهرب من انك�سار ما كانت تتوقعه مني‪،‬‬ ‫كنت �أعرف �أن جارتنا نورة يف امل�ست�شفى‪ ،‬توقعت �أنها هي التي‬ ‫و�أنا ُ‬ ‫ماتت‪ ،‬وتوقعت �أن �أمي حزينة لأنها زارتها قبل يوم فقط‪ ،‬وال ريب‬ ‫�أنها مت�أثرة لذلك‪ ،‬ومل �أعرف �أن �أمي كانت مت�أثرة من �أجلي �أنا‪،‬‬ ‫ولي�س من �أجل جارتنا التي ما زالت رهينة مر�ضها املزمن‪.‬‬ ‫وبعد يومني من نقلها يل اخلرب‪� ،‬س�ألتني و�أنا عائد من العمل �س�ؤا ًال‬ ‫عابراً‪:‬‬ ‫– رحت عزيت؟‬ ‫– ال يا �أمي‪ ،‬ما �أعرف �أحد منهم‪.‬‬ ‫وبالفعل‪ ،‬مل �أكن �أعرف �أحداً من عائلة جارتنا‪ ،‬لأنها كانت تقيم‬ ‫ابن يدر�س خارج البالد‪ ،‬فلم �أجد ثمة �رضورة لتقدمي‬ ‫وحيدة‪ ،‬ولها ٌ‬ ‫وكنت �أعرف �أن �أبي �سيفعل‪ ،‬بينما ظ ّنت �أمي �أن يف ر ّدي‬ ‫العزاء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ا�ستدراراً للأمل “ما �أعرف �أحد منهم”‪ ،‬وك�أين �أنكر غالية‪ ،‬مط ّلقتي‬ ‫وبقيت �أنا على‬ ‫التي مل �أتزوجها متام ًا‪ ،‬ف�سكتت �أمي‪ ،‬ومل تعقّب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فهمي اخلاطئ‪ ،‬ومل ت�ستطع �أمي �أن تعيد بث املو�ضوع يف �أي يوم‬ ‫الحق‪.‬‬ ‫ما الذي جعلني هذا ال�صباح �أ�ستمع �إىل مكاملتها ال�صباحية مع‬ ‫قريبة بعيدة‪ ،‬وهي تخربها �أن نورة‪ ،‬التي هي �أم غالية‪ ،‬ماتت قبل‬ ‫�أ�سبوع‪ ،‬وتنطق ا�سم زوجها كام ً‬ ‫ال حتى ت�ؤكد لها اخلرب‪ ،‬ملاذا مل تنطق‬ ‫ال �أي�ض ًا‪ ،‬وت� ّؤجل ذلك �أ�سبوع ًا كام ً‬ ‫�أمي اال�سم يل كام ً‬ ‫ال؟‬ ‫‪251‬‬


‫علي حزن ما‪ ،‬وال �أنتبه �إليه؟ هل كان‬ ‫�أمل يكن من املمكن �أن مير ّ‬ ‫واجب الأحزان التي �أخط�أتني قبل �أ�سبوع �أن تعود لرتتب نف�سها مرة‬ ‫�أخرى حتى ت�صيب هدفها بدقة هذه املرة؟‬ ‫زلت �أرت�شف الر�شفات‬ ‫عاد الهاتف يرن مرة �أخرى‪ ،‬و�أنا ما ُ‬ ‫الذاهلة من فنجان القهوة‪ ،‬و�أت�أمل قطعة اخلبز املدهونة باجلبنة التي‬ ‫�سماعة الهاتف‪ ،‬وكان‬ ‫و�ضعتها �أمي �أمامي ومل �أمل�سها‪ .‬رفعت �أمي ّ‬ ‫حتدثها قبل دقائق‪ ،‬القريبة‬ ‫من الوا�ضح �أنها القريبة نف�سها التي كانت ّ‬ ‫نف�سها التي حملت �إىل �أمي خرب الوفاة ب�شكل مزدوج‪ .‬كانت ت�س�أل‬ ‫عن �شيء �أعرفه‪ ،‬و�أحفظه عن ظهر قلب‪ ،‬رغم �أن ذاكرتي ال حتتفظ‬ ‫ب�أ�شياء كهذه طوي ً‬ ‫مت�سكت به �أكرث من �سنتني‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬ولكنها ّ‬ ‫قالت �أمي يف الهاتف‪ ،‬بعد �أن جلبت دفرت الأرقام‪:‬‬ ‫– هذا رقم ابنتها‪� ،‬أم فار�س‪.‬‬ ‫في�صل يا �أمي ولي�س فار�س‪ ،‬الطفل الذي قتلتني �أمومة غالية له!‬ ‫أبوة مل تكتمل‪،‬‬ ‫رغم �أين‪ ،‬وحدي‪ُ ،‬‬ ‫كنت �أراهن عليه يف م�رشوع � ّ‬ ‫أزعجك �أن تكون زوجة‬ ‫ولكنك مل تهتمي بتذكر ا�سم ابنها‪ ،‬رمبا لأنه �‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حلمت طوي ً‬ ‫ال بيوم‬ ‫ابنك الأ�صغر الذي‬ ‫ابنك‪ ،‬مطلقة‪ ،‬و�أم ًا �أي�ض ًا‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أعياك �أحمد برف�ضه الزواج‪ ،‬وجاء كل �شيء حمزن ًا‪ ،‬فال‬ ‫زفافه‪ ،‬بعد �أن � ِ‬ ‫كنت حتلمني به‬ ‫املر�أة التي تقبلني تزوجها‪ ،‬وال حفل الزفاف الذي ِ‬ ‫حتقق‪ ،‬وال الزواج نف�سه الذي �صار واقع ًا حتاولني قبوله‪ ،‬اكتمل!‬ ‫ما زالت �أمي تدير حوارها مع القريبة‪ ،‬رغم �أين ال �أدري من هي‪،‬‬ ‫ولكني �أ�شعر بحقدٍ ما جتاه هذه املر�أة التي �شاركت يف �صوغ ب�ؤ�سي‬ ‫ال�سماعة‪.‬‬ ‫هذا ال�صباح‪ ،‬و�أنا �أ�سمع �أزيز �صوتها يت�رسب من ّ‬ ‫‪252‬‬


‫قالت �أمي لها يف حوار ال �أعرف ن�صفه‪:‬‬ ‫– كان اهلل يف عونها‪ ،‬اهلل يبعث لها ن�صيب ًا‪.‬‬ ‫�أمي تعني غالية هنا حتم ًا‪� .‬آه‪ ،‬ملاذا تقول �أمي هذا الكالم �أمامي؟‬ ‫�أال تدرك �أن عبارتها الأخرية مل تكن �أمني ًة �سعيدة لغالية‪ ،‬بقدر ما هي‬ ‫�أمني ٌة قاتلة يل؟ و�أنها مار�ست الدعاء �ضدي من دون �أن تعلم؟ �أو �أنها‬ ‫ظنت �أين غري منتبه �إىل هذا احلوار الهاتفي؟‬ ‫واحتفظت بارجتافاتي ال�صغرية داخل‬ ‫مللمت �أع�صابي من املكان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وخرجت من املطبخ‪،‬‬ ‫ودفنت ا�ضطرابي يف حوقلة عابرة‪،‬‬ ‫عظامي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫و�أمي ترمقني بنظرة قلقة وهي تكمل حديثها يف الهاتف بتوتر‪.‬‬ ‫كنت �أتخيل وجه غالية الذي يبكي وهو يدخل مثل‬ ‫يف ال�سيارة ُ‬ ‫حدقتي‪ ،‬وميلأين مباليني امل�شاعر‪ ،‬ويغطي من �أمامي‬ ‫�سحابة كبرية يف‬ ‫ّ‬ ‫�أفق الر�ؤية‪ ،‬وم�ساحة ال�شارع‪ .‬ملن تبقى هذه النبتة املقد�سة بعد �أن‬ ‫فقدت �سياجها الوحيد؟ �أي �شيء يقيها عوادي اليوم‪ ،‬وعوادي الغد‪،‬‬ ‫وذلك الأب الغائب بني بلد و�آخر‪ ،‬والإخوة الكثريين‪� ،‬أولئك الذين‬ ‫تن�سى �أ�سماءهم �أحيان ًا لفرط تفرقهم‪ ،‬وذلك الطفل الذي يورق بني‬ ‫يديها‪ ،‬وي�س�ألها مزيداً من احلياة؟‬ ‫تظاهرت بالوجوم عند دخويل البنك حتى �أجتنب حتيات مازحة‬ ‫جل�ست‬ ‫�شعور بعد �أن‬ ‫كنت �أنا الذي �أبد�أها غالب ًا‪ .‬انتابني‬ ‫ُ‬ ‫من زمالئي ُ‬ ‫ٌ‬ ‫�أخرياً على كر�سي املكتب‪ ،‬ب�أن بع�ض الأيام من الأف�ضل �أن ال ن�ستيقظ‬ ‫فيها �أبداً‪ ،‬حتى ال نواجه �صباح ًا رث ًا كهذا‪.‬‬ ‫هم�ست لنف�سي “ح�سن ًا‪ ،‬ال داعي للتفكري العميق‪ ،‬الأمر �أب�سط‬ ‫من هذا‪ ،‬غالية توفّيت والدتها‪ ،‬وال بد �أن �أت�صل بها للعزاء”‪ ،‬هكذا‬ ‫‪253‬‬


‫ال �أك ّلف نف�سي عناء تقليب االحتماالت على �أوجه خائبة م�سبق ًا‪ ،‬ال‬ ‫علي من انتكا�سات �صعبة بعد �أ�شهر من‬ ‫يعنيني ماذا �سيفتح �صوتها ّ‬ ‫كنت �أعالج هذا ال�صباح‪� ،‬أم �أزيده اعتال ًال‪ ،‬ال‬ ‫غيابها‪ ،‬ال يعنيني �إن ُ‬ ‫يعنيني �شي ٌء من هذا‪ ،‬حبيبتي العظيمة متوت �أمها وال �أعزيها؟ هل‬ ‫ُيعقل هذا؟‬ ‫علي �أن �أتوقف عن تدليل نف�سي �إىل هذا احلد بتفادي الأحزان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لأين �أو�شك الآن �أن �أتفادى �إن�سانيتي نف�سها‪ ،‬و�أجتاهل �آالم امر�أة‬ ‫وحدي �أعرف كم �أع�شقها‪ ،‬و�أبقي ذلك اليقني يف �صدري‪ ،‬ولو‬ ‫قت نف�سي رمبا‪.‬‬ ‫بحت به ملا ّ‬ ‫�صد ُ‬ ‫بت هاتف املكتب‪� ،‬إن غالية ال تعرفه حتم ًا‪ ،‬ولو ات�صلت من‬ ‫قر ُ‬ ‫ّ‬ ‫هاتفي اجلوال لرمبا عرفت رقمي فال ترد‪ ،‬ال �أحد يدري هل كانت‬ ‫علي فع ً‬ ‫فينقلب يومي �إىل‬ ‫ال �أم ال‪� ،‬أو رمبا جتاهلتني لأي �سبب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نقمت ّ‬ ‫ا�ستخدمت هاتف املكتب حتى �ألتم�س لها عذراً ب�أنها‬ ‫جهنم �صغرية!‬ ‫ُ‬ ‫ال تر ّد على الأرقام املجهولة �إن مل ت�ش�أ الر ّد فع ً‬ ‫ال‪ ،‬وحتى ال �أحزن‬ ‫كثرياً‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مفرط يف تدليل نف�سي‪.‬‬

‫نقرت �أرقامها ب�أكرث �أ�صابعي �شجاعة‪ ،‬ورغم ذلك �أغلقت‬ ‫ُ‬ ‫ال�سماعة عدة مرات قبل �أن يكتمل الرقم بحجة �أين رمبا �أخط�أته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومل �أكن كذلك‪ ،‬ولكني �أبحث عن حجج �صغرية ت� ّؤخر ات�صايل بها‬ ‫لثوان‪ ،‬لأ�سيطر على توتري‪.‬‬ ‫�أخرياً‪� ،‬أكملت الرقم‪ ،‬وبد�أت النغمة املت�صلة تنبعث معلن ًة �أنها‬ ‫ترن يف الطرف الآخر‪ ،‬بدت يل النغمة التي تعودت �أن �أجدها‬

‫‪254‬‬


‫رتيبة وك�أنها املو�سيقى الت�صويرية التي تواكب اللقطات احلا�سمة من‬ ‫الأفالم‪ّ ،‬‬ ‫مركزة جداً على احلدث‪ ،‬على توتري‪ ،‬وخويف ال�شديد‪،‬‬ ‫وا�ستعدادي الناق�ص ل�صوت غالية الذي قد يجيء‪ ،‬وقد ال يجيء‪.‬‬ ‫– �آلو؟‬ ‫– غالية‪.‬‬ ‫– مني؟‬ ‫– �أنا ح�سان‪.‬‬ ‫قطعنا دقيقتني‪ ،‬نتبادل الأ�سئلة املعتادة‪ ،‬تلك التي ن�س�ألها ونعرف‬ ‫�إجابتها‪ ،‬ولكنها تخرج على منط ال نتعب يف ت�شكيله‪� ،‬أنا الذي ال‬ ‫�أملك �أن �أ�شكل �أي عبارة مبتكرة الآن‪ ،‬وهذه النربات التي يحملها‬ ‫يل �صوت غالية الأليف‪ ،‬ت�شنقني �شنق ًا‪.‬‬ ‫– مل �أكن �أعلم يا غالية‪...‬‬ ‫أ�صيل ثقيل‪:‬‬ ‫زفرت غالية مثل � ٍ‬ ‫– احلمد هلل على كل حال‪.‬‬ ‫– مل �أكن �أعلم‪� ،‬صدقيني!‬ ‫– هل كنت م�سافراً ؟‬ ‫– ال‪.‬‬ ‫– جاءت �أمك‪ .‬كيف مل تعلم �أنت؟‬ ‫– لقد �أخربتني ب�شكل غري وا�ضح‪ ،‬ظننتها امر�أ ًة �أخرى‪ ،‬ظننتها‬ ‫جارتنا‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬رمبا راحت تخترب مغفرتها مث ً‬ ‫�سكتت غالية قلي ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫علي‪ ،‬و�رصت تكرهني‪.‬‬ ‫– �أنا ظننتك ناقم ًا ّ‬ ‫‪255‬‬


‫– م�ستحيل يا حبيبتي‪� ،‬أنقم على ماذا؟‬ ‫– ح�صل خري‪.‬‬ ‫– ‪.....................‬‬ ‫– ‪ ...‬كيف ت�سري �أمورك؟‬ ‫كلمات ناق�صة‪ ،‬و�أحا�سي�س مبتورة �أخرى‪ ،‬وانتهت مكاملتنا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫غالية بالذات تدرك جيداً طقو�س كالمي‪ ،‬و�رسية لغتي‪ ،‬وال ترتكني‬ ‫�أهذي وحيداً من دون �أن يتحول فمها �إىل حقل كالم‪ ،‬غري �أنها الآن‬ ‫ما�ض يجب‬ ‫تخلع الثياب القدمية‪ ،‬وت�ؤر�شف كل الكلمات يف طيات ٍ‬ ‫�أن يذيبه الن�سيان‪.‬‬ ‫كنت �أتلقاها كل دقيقة من‬ ‫هكذا‬ ‫ُ‬ ‫بررت اخل�سارات املتكررة التي ُ‬ ‫مكاملتنا التي ا�ستغرقت ربع �ساعة‪ ،‬كنا نبدو ك�صديقني جديدين‪ ،‬مل‬ ‫مرات يف ماء‬ ‫جتمع بينهما و�سادة من قبل‪ ،‬ومل تنغم�س روحاهما‬ ‫ٍ‬ ‫احلب‪� ،‬إن كان ثمة ما ٍء للحب‪ ،‬ال يتبخر �أحيان ًا‪.‬‬ ‫يف �آخر املكاملة قالت يل‪:‬‬ ‫– كن بخري يا ح�سان‪ ،‬وانتبه لنف�سك‪.‬‬ ‫احتياجك‬ ‫أنك �ستطلبني م�ساعدتي فور‬ ‫– �س�أكون بخري �إذا‬ ‫ِ‬ ‫تيقنت � ِ‬ ‫ُ‬ ‫�إليها‪.‬‬ ‫– بالت�أكيد يا ح�سان‪ ،‬ومن غريك؟‬ ‫منحتني العبارة الأخرية حبة �أمان‪ ،‬وجنبتني بكا ًء خمزي ًا كان ميكن‬ ‫�أن يكون لو انتهت املكاملة على تلك ال�صفة الباردة التي اكتنفت كل‬ ‫كلماتنا‪ ،‬فقمت بعملي اليومي بهدوء ن�سبي‪ ،‬بينما رحت �أ�سرتجع كل‬ ‫�ساعة �رشيط املكاملة يف ذهني ع�رشات املرات‪ ،‬وكل مرة تتميز منها‬ ‫‪256‬‬


‫عبارة �أقلبها على وجهني وثالثة‪ ،‬و�أحاول �أن �أ�ست�شف من ورائها‬ ‫مازلت �أوقن �أن غالية حتتفظ بها يل‪ ،‬يل وحدي‪.‬‬ ‫عاطف ًة‬ ‫ُ‬ ‫قررت �أن �أنام‪ ،‬رغم �أين �أعرف �أين‬ ‫عدت من العمل‪،‬‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�أخلط كل �أوراق اليوم هكذا‪ ،‬و�أجازف بالبقاء م�ستيقظ ًا طوال الليل‬ ‫وحدي‪ ،‬و�صوت غالية ال يزال مبلو ًال يف روحي مثل لثغة طفل منذ‬ ‫ال�صباح‪ ،‬ولكني �أ�شعر برغبة يف دفن �رسيع ملا حدث‪� ،‬أريد �أن �أف�صل‬ ‫بني ما كان يف يوم ما‪ ،‬يوهمني �أنه كان بالأم�س‪ ،‬وما يف الأم�س يجب‬ ‫�أن ُين�سى‪ ،‬ويجب �أن �أعود كما كنت‪.‬‬ ‫املنوم فور و�صويل‪ ،‬وتناولت طعام ًا خفيف ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تناولت �أقرا�ص ّ‬ ‫ورحت �أقر أ� يف �ضوء خافت يجهد‬ ‫ودخلت غرفتي‪� ،‬أطف�أت الأنوار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫العني لعلها تغفو‪ ،‬ومنت فع ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫أفقت ثقيل الر�أ�س كعادتي‬ ‫ال �أدري كم �ساعة ا�ستمر نومي‪ ،‬ولكني � ُ‬ ‫املنوم‪ ،‬وكان ال�ضجيج القادم من ال�شارع ي�شي‬ ‫حني �أنام �إثر �أقرا�ص ّ‬ ‫اعتدت منذ‬ ‫ب�أن الوقت مل يت�أخر كثرياً‪ ،‬ومل ينت�صف الليل بعد‪ ،‬ولأين‬ ‫ُ‬ ‫وا�ستيقظت لي ً‬ ‫حاولت �أن‬ ‫ال‪،‬‬ ‫منت نهاراً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫طفولتي اعتكار مزاجي �إذا ُ‬ ‫�أدبر هروب ًا من �ضجر حمتمل قبل �أن �أنه�ض من �رسيري‪.‬‬ ‫و�ضغطت �أزراره التي كانت‬ ‫حت�س�ست بيدي هاتفي اجلوال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫رقم مل ُيرد عليه‪ ،‬رقم غالية‪.‬‬ ‫�صامتة‪ ،‬ليوم�ض يف وجهي‪ ،‬وعلى �شا�شته ٌ‬ ‫اتك� ُأت على مرفقي و�أنا �أحاول �أن �أت�أكد �أنها حقيقة‪ ،‬و�أين واع‬ ‫بوجيب �شديدٍ يف‬ ‫�شعرت‬ ‫ول�ست غارق ًا يف �ضباب النوم‪،‬‬ ‫لذلك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أفت�ش يف اجلهاز‪ ،‬وكانت‬ ‫قلبي الذي كان م�سرتخي النب�ض‪،‬‬ ‫ورحت � ُ‬ ‫ُ‬ ‫غالية قد حاولت االت�صال بي ثالث مرات‪ ،‬قبل �ساعة تقريب ًا‪.‬‬ ‫‪257‬‬


‫ترى ماذا تريد غالية؟ هل ات�صلت من �أجلي �أنا‪ ،‬عا�شقها الذي‬ ‫كان‪ ،‬وزوجها الذي مل يكن؟ هل �ستقول يل كالم ًا كانت حتب�سه‬ ‫عني هذا ال�صباح ومل ت�ستطع �إبقاءه حمبو�س ًا حتى الليل؟ وكم �ستكون‬ ‫خيبتي عنيفة لو �أنها تطلبني يف �ش�أن عابر‪� ،‬أو رمبا �أرادت �أن تذكرين‬ ‫�أنه يجب عدم االت�صال بها مرة �أخرى‪.‬‬ ‫أنت التي‬ ‫ملاذا يا غالية �أ�صبحت احتماالتي ِ‬ ‫معك حم�شوة بالأمل؟ � ِ‬ ‫ح�ضورك تغلب عليه‬ ‫جفن بعني‪� ،‬أ�صبح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫علي �أكرث من ٍ‬ ‫كنت حنون ًا ّ‬ ‫أنت؟ �أم ظروفنا‬ ‫املخاوف ال�سيئة‪ ،‬والهواج�س الرديئة‪ .‬من فعل هذا؟ �أ� ِ‬ ‫التي انحرفت فج�أة من حيث مل نحت�سب؟‬ ‫و�سحبت حلايف لأخبئ ر�أ�سي امللت�صق بالهاتف يف‬ ‫طلبت رقمها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أغم�ضت عيني يف انتظار �صوتها‪.‬‬ ‫حيز الظالم ال�ضيق‪ ،‬و�‬ ‫ُ‬ ‫لو �أن ما تطلبني فيه غالية �سي�صدمني‪� ،‬س�أعود �إىل النوم‪ ،‬و�س�أعتربه‬ ‫حلم غبي‪ ،‬ورمبا‪ ،‬رمبا �أعتقل حلظة جر�أة‪ ،‬و�أقول لغالية �إنني �أريد‬ ‫جمرد ٍ‬ ‫�أن �أن�ساها‪ ،‬و�إنها ما كان يجب عليها �أن تت�صل بي �أ�ص ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫ردت غالية‪ ،‬وجاء �صوتها هادئ ًا‪ ،‬ومن حولها ترتيل قر�آن بعيد‪:‬‬ ‫كنت نائم ًا؟‬ ‫– َ‬ ‫– �أجل‪.‬‬ ‫الوقت مبكراً‪.‬‬ ‫– ما زال‬ ‫ُ‬ ‫منت بعد عودتي من العمل‪.‬‬ ‫– ُ‬ ‫�صمتنا مع ًا‪ ،‬و�أنا �أ�شعر ب�أن رياح ًا �صامتة تهب يف املكان‪ ،‬عرب‬ ‫الهاتفني‪.‬‬ ‫هل �أرتكب حماقة؟‬ ‫‪258‬‬


‫ٌ‬ ‫غارق يف �رسيري‪ ،‬والظالم‬ ‫مل ال؟ ال داعي للأقنعة الكثرية‪� ،‬أنا‬ ‫دام�س‪ ،‬والكالم الذي �س�أقوله رمبا ال يتحول بال�رضورة �إىل حقيقة‬ ‫ٌ‬ ‫عدم �صغري كهذا الذي �أ�صنعه حتت حلايف‪.‬‬ ‫واقعية‪� ،‬إذ يخرج يف ٍ‬ ‫– وح�شتيني!‬ ‫توقعت هذا‪ ،‬ولكني لن �أجعل كالمي مبتوراً‬ ‫ت�صمت غالية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�صمت‬ ‫ل�صمتها‪ ،‬ا�شتياقي �إليها لي�س �ضعيف ًا �إىل احلد الذي يبرته‬ ‫ٌ‬ ‫متوقع‪ ،‬ولأنه قرر املثول كحقيقة‪ ،‬فال بد �أن يكتمل ح�ضوره متام ًا‪.‬‬ ‫– غالية‪ ،‬وح�شتيني كثري‪ ،‬ما زلت �أحبك‪� ،‬أحبك جداً‪.‬‬ ‫وما دام كالمي قد انق�سم �إىل م�ستويني‪ ،‬م�ستوى اال�شتياق‪،‬‬ ‫وم�ستوى احلب‪ ،‬فلرمبا �صار �أ�سهل على غالية �أن جتاريني يف امل�ستوى‬ ‫الأدنى‪ ،‬حتى ال تخ�رس الكالم‪ ،‬وال تعترب نف�سها �أنها ان�ساقت متام ًا‬ ‫وراء م�شاعري‪.‬‬ ‫– حتى �أنت وح�شتني يا ح�سان‪.‬‬ ‫أ�صمت �أنا هذه املرة‪ ،‬رغم �أن ردها كان حمر�ض ًا لأن �أفتح عليها‬ ‫و�‬ ‫ُ‬ ‫كنت عاجزاً عن �صعود العتبة التالية‪،‬‬ ‫م�رصاع الكالم الكثيف‪ ،‬ولكني ُ‬ ‫خائف ًا �إذا ما �صعدتها �أن جتربين غالية على نزولها مرة �أخرى‪.‬‬ ‫اخرتعت غالية خمرج ًا منا�سب ًا من الزاوية ال�ضيقة التي جعلتها فيها‪،‬‬ ‫وراحت حتدثني عن ظروف وفاة والدتها‪ ،‬و�أيام العزاء‪ ،‬وح�ضور‬ ‫وكنت �أ�ستمع �إىل‬ ‫�إخوتها من �أبيها الذي مل تره وترهم منذ �سنوات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حكايتها �صامت ًا‪.‬‬ ‫قطعت غالية �صمتي فج�أة‪:‬‬ ‫– ح�سان‪� ،‬أبغى �أقول لك �شيء مهم‪.‬‬ ‫‪259‬‬


‫– ماذا؟‬ ‫– �س�أعود �إليه‪.‬‬ ‫– من؟‬ ‫– �أبو في�صل‪.‬‬ ‫هزتني املفاج�أة‪ ،‬و�أخرجتني من الركود الذي جعلتني فيه حكايتها‬ ‫الأخرية اخلالية من وم�ضات حبنا‪ ،‬وعالقتنا ال�سابقة‪.‬‬ ‫– ملاذا يا غالية؟ كيف؟‬ ‫– لأين ال �أملك �إال �أن �أعود‪ ،‬هو عر�ض الأمر قبل فرتة‪.‬‬ ‫رجل هو‪ ،‬كيف تراهنني‬ ‫ولكنك‬ ‫–‬ ‫ِ‬ ‫ف�شلت معه‪ ،‬و� ِ‬ ‫ِ‬ ‫أنت تعرفني �أي ٍ‬ ‫بنف�سك مر ًة �أخرى؟‬ ‫ِ‬ ‫– هذه املرة يبدو منك�رساً ووحيداً‪ ،‬وبه ندم‪.‬‬ ‫– وملاذا مل يندم طوال ال�سنوات املا�ضية؟‬ ‫– ال يهم يا ح�سان‪ ،‬في�صل يكرب‪ ،‬و�أنا ال �أ�ستطيع تربيته وحدي‪.‬‬ ‫متكنك من هذا‪.‬‬ ‫أنت موظفة‪ ،‬ولديك ا�ستقاللية‬ ‫ِ‬ ‫– ملاذا؟ � ِ‬ ‫– في�صل يحتاج �إىل �أكرث من ذلك‪.‬‬ ‫نف�سك لأقدار �سوداء يا غالية‪.‬‬ ‫ولكنك ت�س ِّلمني‬ ‫–‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تتخيل يل ظروف ًا �أخرى؟ �أنا امر�أة وحيدة يا ح�سان‪،‬‬ ‫– حاول �أن ّ‬ ‫يف مكان ال يقبل الوحيدات �أبداً‪.‬‬ ‫– يا غالية‪� ،‬إنه ّ‬ ‫�سكري!‬ ‫– ‪.....................‬‬ ‫– غالية هل ت�سمعينني؟ هل تقبلني احلياة مع ّ‬ ‫�سكري؟‬ ‫– ما الفرق! و�أنا زانية!‬ ‫‪260‬‬


‫ّ‬ ‫حتطم هذا الإناء بعنف يف �أر�ضية مكاملتنا الليلية اخلافتة تلك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حتطم رافع ًا مئات ال�شظايا قبل �أن تهوي لتتحطم هي الأخرى‪،‬‬ ‫وكان دو ُّيها العايل يجربين على التلثم بال�صمت‪.‬‬ ‫ال�صمت الأبكم‬ ‫ال�صمت املكبل بال موعد ل�صوت الحق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫املهجور‪ ،‬ذلك الذي بد أ� فع ً‬ ‫ال يفاو�ض معي تهدج الأنفا�س‪ ،‬وي�ساوم‬ ‫دموعي ب�أمانة‪.‬‬ ‫رحماك!‬ ‫كلم ٌة �أخرى غري هذه يا غالية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أخف زجمر ًة من تلك‪ ،‬و� ُّ‬ ‫أقل عوي ً‬ ‫ال يف �صدري‪ .‬ملاذا هذا‬ ‫كلم ٌة � ُّ‬ ‫الإ�رساف يف �سحق النقا�ش؟ ملاذا هذه الفداحة يف قتل كل الكلمات‬ ‫الأخرى التي كان ميكن �أن تقال‪ ،‬وتعي�ش حيا ًة �صغري ًة و�سط هذا‬ ‫الكالم؟ ملاذا هذا احلريق الكبري واملكان مليء باخل�شب اجلاف �أ�ص ً‬ ‫ال؟‬ ‫رغم نربة �صوتها التي كانت متدحرجة نحو البكاء‪ ،‬جاءت‬ ‫عبارتها قا�سية جداً‪ ،‬لأن املعنى �أبعد من جمرد ت�أنيب ذاتي‪ ،‬كان �أبعد‬ ‫من ندم امر�أة �أحبها‪ .‬كانت غالية تقت�سم معي جمر ال�ضمري‪ ،‬وتقذف‬ ‫نحوي بن�صيبي من الذنوب‪.‬‬ ‫�أهكذا �إذن كانت تفكر ّ‬ ‫يف طوال فراقنا؟ كانت حتاكمني عن ُبعد‪،‬‬ ‫كنت �أت�سلى بتقدي�سها �أكرث‪.‬‬ ‫�أنا الذي ُ‬ ‫ل�ست �إال الطرف الآخر يف هذا ال ّزنا الذي حتدثت عنه‪.‬‬ ‫الآن‪� ،‬أنا ُ‬ ‫هل �صار ا�سمه زنا �أخرياً يا غالية؟‬ ‫امل�شكلة �أنه بعد التوبة‪ُ ،‬يعا ُد تعريف الأ�شياء‪ ،‬ف�أخ�رس حبيبتي‪.‬‬ ‫ويربحها ٌ‬ ‫رجل �آخر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وت�شذب عالقتنا‬ ‫هكذا‪ ،‬تتوب فج�أة‪ .‬تقرتح ترتيب ًا معين ًا للذنوب‪،‬‬ ‫‪261‬‬


‫من كل الأغ�صان ال�صغرية الأخرى التي منت يف عهد احلب‪ ،‬وتبقي‬ ‫الع�صا جرداء‪ ،‬تقطع بها طريقها وحدها نحو اهلل‪ ،‬وتنف�ضني عن‬ ‫ب�ساطها التائب مع بقية الآثام الغزيرة‪ ،‬وال تعود يل‪ ،‬لأنها تائبة‪.‬‬ ‫ما �أ�سو�أ �أن ت�رسق التوبة حبيبتي‪.‬‬ ‫ب�سببي �أنا‪ ،‬ب�سبب هذا الذنب الذي ارتكبته معها‪ ،‬قررت غالية‬ ‫�أن تك�رس كربياءها‪ ،‬ومت�شي فوق �شظايا �أنوثتها املته�شمة نحو الرجل‬ ‫فرت منه من قبل‪ ،‬الرجل الذي انتزعت نف�سها من قلعته‬ ‫الذي ّ‬ ‫�رصت �أنا جنديه الذي �أعادها �إليه مقيد ًة ب�أغالل‬ ‫ب�صعوبة كبرية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اخلطيئة‪ ،‬وعاثر ًة يف عفافها املثقوب!‬ ‫ملاذا مل نتب مع ًا يا غالية على الأقل؟ ملاذا تتعلقني بحبال القدر‬ ‫قبلي‪ ،‬وترتكينني وحيداً على الأر�ض‪� ،‬أفاو�ض لعناته املحتملة؟‬ ‫دمت غري واثقة بثبات‬ ‫فيك ب�شهوة ما‬ ‫وملاذا تركتني �أعيث ِ‬ ‫ِ‬ ‫قلبك‪،‬‬ ‫قامو�سك يف احلب‪ ،‬وال ت�أمنني على‬ ‫نف�سك غارة تنزل على ِ‬ ‫ِ‬ ‫وت�أتي مبا مل نتوقع‪ ،‬وتغري تعاريف الأ�شياء التي كانت �صديقتنا؟‬ ‫وملاذا ال تظل الأ�شياء مرتبطة بالزمن الذي ح�صلت فيه؟ كان‬ ‫إمكانك �أن تتوبي من الآن ف�صاعداً‪ ،‬وترتكي ما م�ضى كما كان‪ .‬ملاذا‬ ‫ب�‬ ‫ِ‬ ‫توبتك ب�أ�سمائها اجلديدة على املا�ضي املليء باحلب‪ ،‬فيتعثرّ كل‬ ‫تن�سحب‬ ‫ِ‬ ‫ثقوب كبرية يف جدران مل تعد موجود ًة �أ�ص ً‬ ‫ال؟‬ ‫�شيء‪ ،‬ويتغري‪ ،‬وتُف َت ُح‬ ‫ٌ‬ ‫ال‪ ،‬طوي ً‬ ‫�صمت طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬تند مني �أنفا�س م�شبعة برائحة البكاء‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ت�شمها غالية حتم ًا‪ ،‬وحتاول �أن تتجاهلها‪ ،‬كما تتجاهل العفيفات‬ ‫بكاء اخلاطئني‪� ،‬أو رمبا �أوحى لها �شي ٌء ما ب�أن حزين لي�س �أكرث من‬ ‫�شيطان مراود‪.‬‬ ‫‪262‬‬


‫– ح�سن ًا يا غالية‪ ،‬اهلل يوفقك فيما تريدين‪.‬‬ ‫– ‪........................‬‬ ‫– تبني �شي؟‬ ‫– �سالمتك‪.‬‬ ‫– مع ال�سالمة‪.‬‬ ‫مبثل هذا االقت�ضاب �أعيد ال�سيطرة على نف�سي‪ ،‬وبت�صميم عفوي‬ ‫قررت �أن �أكون �أنا من ينهي املكاملة‪ ،‬ما دامت هي �أنهت‬ ‫وليد اللحظة‬ ‫ُ‬ ‫كل �شيء‪.‬‬ ‫�ستظن الآن �أين �أمار�س عادتي القدمية عندما �أعتب عليها‪ ،‬وعندما‬ ‫تفكر يف كالمنا لن جتد نف�سها قد �أ�ساءت �إيل‪ ،‬و�ستعرف �أن ح�سان‪،‬‬ ‫حبيبها القدمي‪ ،‬ما زال مدل ً‬ ‫ال ونزق ًا فقط‪.‬‬ ‫ال يهم!‬ ‫بعد دقيقتني‪َ ،‬ب َع َث ْت يل غالية بر�سالة ق�صرية يف الهاتف‪“ :‬ت�صبح‬ ‫على خري يا ح�سان‪ ،‬وانتبه لنف�سك كثري‪� ،‬أنت �إن�سان جميل جداً”‪.‬‬ ‫وم�سحت ر�سالتها فوراً‪ ،‬ثم‬ ‫قر� ُأت تربيتها امل�صطنع على قلبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لك‪ ،‬بذنوبي ال�صادقة‬ ‫رحت �أرد عليها بر�سالة �أخرية‪“ :‬غفر اهلل ِ‬ ‫ُ‬ ‫وبتوبتك اخلائنة‪ ،‬ال �أدري ماذا �ستفعلني!”‬ ‫�س�أجنو‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ومل �أر غالية‪ ،‬ومل �أ�سمع منها �شيئ ًا بعد ذلك قط‪.‬‬

‫‪263‬‬



‫‪IX‬‬ ‫الحظت �أن ن�سخ كتابي‬ ‫دخلت غرفتي التي ال تتغري كثرياً‪،‬‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫خرجت من كرتونها البني‪ ،‬وراحت تنمو مثل الأع�شاب املت�سلقة‬ ‫قبل �أن تتجمد عندما �أدركتها عند منت�صف اجلدار‪ ،‬بجوار الكر�سي‬ ‫ال�صغري الذي �ألب�س عليه اجلورب‪ ،‬والأباجورة التي مل تعرف النور‬ ‫منذ �أ�شهر طويلة‪ ،‬والركن الذي كانت تتجه �إليه غالية �أحيان ًا‪ ،‬وت�صلي‪.‬‬ ‫حتولت ن�سخ الكتاب التي �أحب�سها يف الكرتون منذ �أن و�صلتني‬ ‫�إىل �ست م�سالت فرعونية طويلة‪ ،‬حدها الورقي يواجه اجلدار‪ ،‬بينما‬ ‫حدها الذي عليه العنوان يواجهني متام ًا‪ ،‬ويت�أمل وجهي مثل البغايا‪.‬‬ ‫اخرتت عنوان ًا كهذا‪ ،‬فيه �أربعة �أحرف من ذوات الدوائر‬ ‫ال �أدري ملاذا‬ ‫ُ‬ ‫املغلقة‪ ،‬مما جعلها تبدو وهي مرتا�صة بع�ضها فوق بع�ض ك�أربع �أعني‬ ‫خاوية يف كل كتاب‪ ،‬بطول �ست م�سالت من �سبعمائة ن�سخة‪.‬‬ ‫كيف �س�أحتمل �أن تراقبني كل هذه الأعني املطلة من كتابي‪ ،‬من‬ ‫ني �آخر؟‬ ‫دون �أن �أ�شعر ب�أنني‬ ‫ا�ستنفدت حريتي متام ًا‪ ،‬ولي�س عندي جب ٌ‬ ‫ُ‬ ‫أكتب الر�سالة‪ ،‬و�أنا �أ�ضغط‬ ‫أم�سكت بهاتفي املحمول‪،‬‬ ‫�‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ورحت � ُ‬ ‫على كل زر ب�شدة يئن لها ج�سده البال�ستيكي ال�ضئيل‪ ،‬ويكاد يغو�ص‬ ‫‪265‬‬


‫كنت �أمعن يف ذلك‪ .‬فهذا حزنٌ يجب‬ ‫يف حفرته ال�صغرية ويختفي‪ُ .‬‬ ‫علي الهيكل النف�سي الآمن الذي بنيته‬ ‫�أن يح�سم الآن‪ ،‬قبل �أن يخرب ّ‬ ‫ل�سنتني‪ ،‬وا�سع ًا مثل م�ساحة التعب‪ ،‬واهي ًا مثل حبات الدومينو‪.‬‬ ‫زلت‬ ‫“ا�شرتيت كل الن�سخ التي بقيت يف خمازن النا�رش‪ ،‬وما ُ‬ ‫ُ‬ ‫أنت تن�رشين‬ ‫�أحاول جمع البقية‪ ،‬وال �أزال عاجزاً عن‬ ‫ت�صورك و� ِ‬ ‫ِ‬ ‫خربت كل �شيء!”‬ ‫حزين ويجف‪ ،‬ك�أين مل �أكن �إال �سجادة عتيقة‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫وتركت الر�سالة ميت�صها‬ ‫د�س�ست رقم غالية يف امل�ستطيل امل�ضيء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الأثري بهدوء‪ ،‬ويبعث بها �إليها‪.‬‬ ‫رحت �أت�أمل الكتب مرة �أخرى‪ ،‬وهي مر�صو�صة �أمامي مثل‬ ‫ُ‬ ‫عمالق م�شلول‪ .‬ترى ماذا ميكنني �أن �أفعل بها؟ عندي رغب ٌة �ضائعة �أن‬ ‫�أطلق عليها حكم الإعدام‪ ،‬و�أحرقها يف �أي �أر�ض خالية‪ ،‬وال �أبايل‪.‬‬ ‫أحد على‬ ‫ف�أنا ال�ضحية هنا‪ ،‬واجلالد‪ ،‬واحلكومة‪ ،‬وال ميكن �أن يعرت�ض � ٌ‬ ‫جرمية �شخ�صية بحت كهذه‪.‬‬ ‫علي �أن �أت�صور �أن كتاب ًة وزن ُتها وزن ًا‪ ،‬وعلقتها يف‬ ‫كان �صعب ًا ّ‬ ‫الإنرتنت‪ ،‬ون�سيتها مثلما نن�سى م�شابك الغ�سيل على احلبال القدمية‪،‬‬ ‫�سوف تعود لتلت�صق بوجهي مثل و�شم خمجل! مل �أكن م�ستعداً لهذا‬ ‫الكتاب مهما كانت املربرات التي ميكن �أن تفرت�ضها غالية لتربر بها‬ ‫�سخافة ن�رش كتاب يحمل ا�سمي‪ ،‬وال يحمل ا�سمها �أبداً‪ .‬وكل ما فيه‪،‬‬ ‫حاالت كاريكاتورية باكية لرجل يرك�ض وهو �أعمى‪ ،‬باجتاه امر�أة‬ ‫ركبت �سيارتها منذ زمن وم�ضت‪ ،‬تاركة له الغبار واحلنق‪.‬‬ ‫وعدت �أم�شي �صحيح ًا مثل الأ�سوياء‬ ‫ألقيت عكاز احلزن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�ألأين � ُ‬ ‫كنت �أعرج و�أحبها؟‬ ‫�أرادت �أن تذكرين كم ُ‬ ‫‪266‬‬


‫م�رسب ما‪ ،‬عالقتي ب�إحدى الفتيات‬ ‫�أو رمبا ت�رسبت �إليها‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫الرثثارات‪ ،‬ف�أرادت �أن تعيد النفخ يف الأبواق القدمية‪ ،‬حتى يعكر‬ ‫علي ال�ضجيج �صفو اجل�سد‪ ،‬ما دامت هي مل ترتك يف قلبي �شجن ًا كافي ًا‬ ‫ّ‬ ‫يعكر هذا ال�صفو وحده؟‬ ‫�أو رمبا تعتقد غالية �أنها بعدما نالت مني كل هذا احلب‪ ،‬بقي �أن‬ ‫تنال �أي�ض ًا كل هذا احلزن‪ ،‬وتخلده يف التاريخ ال�ضئيل الذي بيننا‪.‬‬ ‫الن�ساء يحبنب �أن يجمعن �شهادات جميلة مثل هذه �أحيان ًا‪ ،‬ت�شهد �أنهن‬ ‫مل يعربن احلياة ب�شكل عادي‪ ،‬بل كن جديرات ب�أن يت�سبنب يف بع�ض‬ ‫احلب‪ ،‬وبع�ض احلزن‪.‬‬ ‫“لعلمك‪،‬‬ ‫كتبت مرة �أخرى‬ ‫وا�ستلقيت على ال�رسير‪.‬‬ ‫خلعت ثوبي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بحجمك‪.‬‬ ‫بحبك‪،‬‬ ‫بك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حزين حالة �شخ�صية جداً‪ ،‬ال عالقة لها ِ‬ ‫ٌ‬ ‫قررت �أن �أحزن‪ ،‬وحزنت‪ ،‬وقررت �أن �أكف عن حزين‪،‬‬ ‫رجل‬ ‫�أنا‬ ‫ُ‬ ‫منك‪ ،‬ال يغري الكثري”‪ ،‬وو�ضعت‬ ‫وكففت‪ ،‬وهذا الرق�ص املت�أخر ِ‬ ‫وفتحت‬ ‫وتركت الر�سالة تلحق �سابقتها‪،‬‬ ‫�إ�شارة االبت�سام الهادئة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذراعي فوق ال�رسير‪ ،‬مثل �صليب‪.‬‬ ‫بع�ض الق�سوة لذيذ‪ ،‬و�أحيان ًا ال يبقى �إال هي يف خزانة الأدوية‪ .‬لو‬ ‫عاملت غالية واجلورية منذ البداية مثل بقية الفتيات‪ ،‬لرمبا �أ�صبحتا‪،‬‬ ‫�أين‬ ‫ُ‬ ‫كنت �أحاول جتريب م�ساحات خمتلفة‬ ‫طوع ًا‪ ،‬مثلهن‪ ،‬ولكني �أنا الذي ُ‬ ‫من عالقتي باملر�أة‪ ،‬و�ألعب يف مناطق حمظورة‪ ،‬ال �أعرف قوانينها‪ ،‬وال‬ ‫�رشوطها الع�شوائية‪.‬‬ ‫كان من املمكن جداً �أن تكون العالقتان عاديتني جداً‪ .‬غالية التي‬ ‫كان مي�شطها اجلوع بعد انف�صالها عن زوجها الأول‪� ،‬أمل تكن لتجد‬ ‫‪267‬‬


‫معي مطعم ًا حنون ًا‪ ،‬من ذوي القربى‪ ،‬مي ّتعها بهدوء‪ ،‬وال يف�ضحها‪،‬‬ ‫وال ي�ؤذيها؟ بالت�أكيد‪ ،‬و�أنا �أجيد هذا اللعب الهادئ‪ ،‬فلماذا فر�ضنا‬ ‫احلب فر�ض ًا يف منت�صف الظروف‪ ،‬ورحنا نطرز احللم ال�سخيف‬ ‫ب�سذاجة راعيي غنم يف ق�صة قروية ما؟‬ ‫خرجت �إليها ب�صدر‬ ‫للحمى‪� .‬أنا الذي‬ ‫�ضت نف�سي‬ ‫ُ‬ ‫عر ُ‬ ‫ّ‬ ‫لقد ّ‬ ‫اعتقدت �أن قلبي قوي مثل ج�سدي‪ ،‬وخبري مثل‬ ‫مك�شوف‪ ،‬وك�أين‬ ‫ُ‬ ‫يدي‪ ،‬وهي التي وجدت �أمامها قلب ًا مك�شوف ًا فلم تتوان �أن تنزل عليه‬ ‫ٌ‬ ‫طرف‬ ‫مثل ذبابة‪ .‬زوج عا�شق‪� ،‬أف�ضل من ع�شيق عابر‪ ،‬ويف املعادلة‬ ‫يجعلها �أكرث رجحان ًا‪ ،‬وجاذبية لها‪ .‬طرف املر�أة املطلقة‪ ،‬و�أم الطفل‪،‬‬ ‫وما زلت يف الع�رشين‪.‬‬ ‫كنت �سائغ ًا‪ ،‬ولذيذاً‪ ،‬وطيب ًا‪ ،‬ومبذراً يف احلزن‪.‬‬ ‫اللعنة‪ ،‬كم ُ‬ ‫انثنيت‬ ‫ان�سقت بهدوء وراء حلمها هي‪ ،‬ولي�س حلمي‪ ،‬وعندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فع ً‬ ‫ال بني يديها مثل معدن مطيع‪� ،‬إذا بها تتذكر فج�أة �أنها مل ترتب منذ‬ ‫فرتة طويلة قائمة �أولوياتها‪ ،‬و�أن هناك من هم قبلي يف هذه القائمة‪:‬‬ ‫ال�ضمري‪ ،‬والطفل‪ ،‬واملجتمع‪ّ ،...‬‬ ‫تذك َرتهم فج�أة عندما ّ‬ ‫دق جر�س‬ ‫التحدي الأول‪ ،‬فهرعت �إليهم وتركتني وحيداً‪ ،‬عا�شق ًا مكتمل‬ ‫الع�شق‪ ،‬وزوج ًا مكتمل احللم‪ ،‬وابن ًا خائب ًا لأبوين منك�رسين على‬ ‫حافة الفرح‪ ،‬و�أب ًا ناق�ص ًا مل�ضغة جمه�ضة مرمية يف قمامة م�ست�شفى‪.‬‬ ‫لقد تركتني ك�أ�سو�أ ما ميكن �أن تخلفه امر�أة وراءها‪ ،‬جمرد معدن‬ ‫مثني‪ ،‬على جانب الطريق‪.‬‬ ‫أفقت من كل هذه احلقن ال�سامة‪ ،‬وراحت قطعة املعدن‬ ‫وعندما � ُ‬ ‫املثنية تعدل نف�سها ب�صعوبة‪ ،‬بعد �أن ظلت على حالتها املهينة تلك‬ ‫‪268‬‬


‫�سنتني‪ ،‬كانت حتاول �أن ت�ستقيم مرة �أخرى‪ ،‬م�ستعينة بالكثري من‬ ‫العالج‪ ،‬والكتابة‪ ،‬والقلق‪ ،‬وهوان الدخول على طبيب نف�سي‪ ،‬حتى‬ ‫�رصت متما�سك ًا‪ ،‬وعادي ًا مرة �أخرى‪ .‬وبعد هذا كله‪ ،‬عادت غالية‬ ‫ُ‬ ‫بهذا ال�شكل ال�سينمائي‪ ،‬تن�رش كتاب ًا كبرياً كل ما فيه يقول �إين �أحبها‪،‬‬ ‫�أحبها‪� ،‬أحبها‪ ،‬وو�ضعت ا�سمي فوقه وك�أنها حتتكر ا�سمي مثل العقود‬ ‫الفنية‪.‬‬ ‫و�شعرت �أن �أفكاري‬ ‫ارت�سمت على فمي ابت�سامة ازدراء و�أمل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تنز من �سطح عقلي‪ ،‬وجتف عليه مثل العرق‪ ،‬تارك ًة ملح ًا‪ ،‬و�أمل ًا‪،‬‬ ‫وقرف ًا‪ ،‬و�صوراً كثرية للن�ساء‪ ،‬يقفن �أمام وجهي مثل بنات الكوت�شينة‬ ‫ذوات الوجوه املثلثة‪ ،‬والأج�ساد الناق�صة‪ ،‬والأعني التي ال تنظر �إىل‬ ‫�شيء‪ .‬ن�سا ٌء يردن �أن يكتملن فقط‪ ،‬حتى لو �رسقن �أج�ساد الآخرين‪،‬‬ ‫وتراجعن يف منت�صف الطريق‪ ،‬وتز َّيني بحزن خمطوف من كتاب ما‪.‬‬ ‫قررت �أن �أ�ستحم‪ ،‬و�أحتفل مع املاء بالعودة �إىل م�رشوعي النف�سي‬ ‫ُ‬ ‫املتما�سك‪ ،‬والنجاة من حفرة �أنثوية كبرية حفرتها يل غالية‪ ،‬بيديها‬ ‫احلانيتني‪ ،‬وقلبها املعقوف كمجرفة �صغرية‪ .‬تكفيني ال�سنتان اللتان‬ ‫مرتا و�أنا �أفرت�ض �أن غالية �أعظم حزن ًا‪ ،‬فال �ألومها على �شيء‪“ .‬الفتاة‬ ‫التي انك�رس حلمها فج�أة مثل قطعة خزفية‪ ،‬املر�أة ال�ضعيفة التي مزقتها‬ ‫�أيدي ّ‬ ‫أحتمل لأين‬ ‫قطاع الأمل‪ ،‬وحرمتها باب اجلنة املفتوح‪� .‬أنا � ّ‬ ‫كنت‬ ‫رجل‪ ،‬ولكن كيف بها هي!” كان عقلي مي�شي �إىل اخللف‪ ،‬لأين ُ‬ ‫معطوب ًا ومغف ً‬ ‫ال‪� ،‬أمنو مثل نبتة عمياء باجتاه ال�ضوء فقط‪ ،‬وال �أعرف‬ ‫بكيت على غالية‬ ‫خرجت عن م�ساري منذ �أ�شهر طويلة‪ ،‬منذ �أن‬ ‫�أين‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لأول مرة‪ ،‬بينما راحت هي متحوين ببطء‪ ،‬وتلغيني ب�آلية‪ ،‬مثلما نلغي‬ ‫‪269‬‬


‫الربامج التي ات�ضح �أنها مل تت�صالح مع �أجهزتنا‪ ،‬ثم تعود �إىل حياتها‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬كما كانت بال�ضبط‪ ،‬قبل �أن �أر�سل �إليها �أول بريد‪.‬‬ ‫كتبت لها ر�سالة �أخرى “�أمل يبق يف‬ ‫احلمام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قبل �أن �أدخل �إىل ّ‬ ‫ورميت الهاتف‬ ‫ت�رسيحتك م�ستح�رض زينة �آخر‪ ،‬غري حزين!”‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وخلعت ثيابي و�أنا �أ�شعر مبوجات هادئة تركب‬ ‫على ال�رسير بخفة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أع�صابي‪ ،‬ودوامة دافئة تدور داخل عقلي‪ ،‬والكثري من الأفكار الآمنة‬ ‫تر ّب ُت �صدري‪ ،‬وتغذي هذا الإميان الوليد‪.‬‬ ‫�سواء �أكانت نياتها بهذا ال�شكل امللطخ الذي �أت�صوره الآن‪� ،‬أو كانت‬ ‫غري ذلك‪ .‬لقد ت�رصفت غالية ب�شكل خاطئ‪ ،‬وجتاوزت حدودها يف‬ ‫التعامل مع ا�سمي‪ ،‬وكلماتي‪ ،‬وعليها �أن تدفع �أحد الثمنني‪� ،‬صفاقتها‬ ‫�أو �سذاجتها‪ .‬كالهما ي�ستحق عقاب ًا �صغرياً‪ ،‬ور�سائل جوال قار�صة‪.‬‬ ‫�إذا كانت تريد �أن تغيب متام ًا كما قررت من قبل‪ ،‬فعليها �أن تكون‬ ‫أمر‬ ‫بحجم الغياب‪� ،‬أما �أن تعبث بحزين من دون �أن �أ�شعر بها‪ ،‬فهذا � ٌ‬ ‫ي�ستفز الأع�صاب فع ً‬ ‫ال!‬ ‫كم يبدو الغ�ضب �آمن ًا ومتعاون ًا هذه املرة‪ .‬رمبا كان الغ�ضب هو‬ ‫امل�ضاد احليوي املنا�سب حلاالت احلزن املزمنة‪ .‬على احلزانى �أن يتعلموا‬ ‫كيف يغ�ضبون يف االجتاه املنا�سب‪ ،‬والوقت املنا�سب‪ ،‬فوحده هذا‬ ‫الغ�ضب الآمن يعيد ترتيب الدماء‪ ،‬ور�صف القلب‪ ،‬و�إعادة الأمور �إىل‬ ‫علي �أن‬ ‫ن�صابها بعد �أن التوت على نف�سها مثل العظام امل�شوهة‪ .‬كان ّ‬ ‫يوم �أخربتني فيه غالية �أن زواجنا لن يكتمل‪ ،‬بد ًال من‬ ‫�أغ�ضب من �أول ٍ‬ ‫حماولة احتوائها مثل درع غبية‪� .‬أخربتني بهذا القرار يف غمرة االنهيار‬ ‫والبكاء حتى ال �أجد منا�ص ًا من �أن �أحتول �إىل “ماكنة” ب�رشية للرتبيت‪،‬‬ ‫‪270‬‬


‫وال�ضم‪ ،‬والتهدئة‪ ،‬واالحتواء‪ ،‬بينما دموعي تتجمد خلف جفني‬ ‫لأنها ال يجدر بها �أن تختلط بدموعها‪ ،‬فدموع غالية لها الأولوية‬ ‫دائم ًا‪.‬‬ ‫كان يجب �أن �أخربها �أين عزي ٌز عند نف�سي‪ ،‬وعندي �أبي‪ ،‬و�أمي‪.‬‬ ‫أ�ستحق منها �أن تتحمل ثك ً‬ ‫ال موقّت ًا كهذا الذي كان يهددها به‬ ‫و�‬ ‫ُّ‬ ‫زوجها ال�سابق‪ .‬وكان يجب �أن �أخربها �أن عليها �أن تقوم بالكثري من‬ ‫�أجلي قبل �أن تبد�أ يف البكاء‪ ،‬وندب احلظ‪ ،‬وافتعال ال�ضعف‪ .‬هناك‬ ‫واجبات كثرية غري مكتملة يف دفرت الطالبة اجلميلة مل تكتبها بعد‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ومل حتملها �إىل قلبي مهراً معنوي ًا‪ ،‬يجعل الأمور متكافئة ومتزنة على‬ ‫الأقل‪.‬‬ ‫كنت �أ�ستمتع بقطرات املاء تغ�سل ج�سدي وقلبي من درن احلزن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫و�أراه يتجمع يف دوائر زيتية‪ ،‬وي�ضيع يف هدير املاء‪.‬‬ ‫أغم�ضت‬ ‫�سمعت هاتفي يرنُّ يف الغرفة‪ ،‬وراح رنينه يت�صاعد‪ ،‬وقد �‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ومتددت بهدوء‪.‬‬ ‫عيني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كان يرنّ ب�إحلاح‪ ،‬ومل تكن لدي رغبة يف الر ّد عليه‪...‬‬ ‫�أبداً!‬ ‫بورتلند‬ ‫مايو ‪2007‬‬

‫‪271‬‬


‫املوقع ال�شخ�صي للم�ؤلف‬ ‫‪www.alalwan.com‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.