حديثٌ في أسرار الصوم

Page 1

‫ث في أسرار الصوم‬ ‫حدي ٌ‬

‫فرض ا الصيام على الناس منذ القدم‪ ،‬ففي كل شريعة من شرائع ا‬ ‫المتعاقبة يأتي الصيام ضمن مجموعة من العبادات التي يفرضها ا على‬ ‫عباده وتهدف بشكل رئيس إلى ربط العبد بربه‪ ،‬ففي هذا الربط مصلحة‬ ‫للعبد ووقاية له من غواية الشيطان الذي يريد أن يفسد على النسان حياته‬ ‫الدنيوية والخروية‪ .‬والمر هنا يرتبط بطبيعة النسان الذي هو مكرم على‬ ‫سائر المخلوقات‪ ،‬ومميز بالعقل‪ ،‬بمعنى أن له حرية الختيار‪ ،‬ويستطيع‬ ‫بالعقل أن يميز بين الخير وبين الشر‪ ،‬فالشيطان قد يزين للنسان طريق‬ ‫الشر فيظن أن فيه خير ومصلحة‪ ،‬والتزيين نوع من التمويه يحتاج لكشفه‬ ‫إلى نفس زكية‪ ،‬تتعرض بشكل دوري إلى نوع من الطهارة لزالة ما يتركه‬ ‫عليها النهماك في الدنيا وزخرفها وشهواتها من شوائب‪ ،‬وهذه الطهارة‬ ‫هي تلك العبادات التي بعضها يومي‪ ،‬وبعضها أسبوعي وبعضها سنوي‬ ‫وبعضها مرة واحدة في العمر‪.‬‬ ‫في السلم المسلم مكلف بشكل يومي بأداء خمس صلوات بشكل‬ ‫معين وبشروط محددة‪ ،‬فلهمية المر لم يترك الخالق أمر تحديد العبادات‬ ‫لهوى العبد بل حددها له بشكل دقيق‪ ،‬تماًما كجرعات الدواء يحددها‬ ‫الطبيب بدقة‪ ،‬ويقوم المريض بأخذ هذه الجرعات دون معرفة سبب هذا‬ ‫التحديد‪ ،‬لكنه يعلم أن في هذا التحديد مصلحة‪ ،‬ويعلم أن الخطورة في‬ ‫التفريط أو الفراط في تناول هذه الجرعات‪.‬‬ ‫كما أن المسلم مكلف بالذهاب إلى المسجد كل أسبوع لداء صلة‬ ‫الجمعة‪ ،‬التي يشترط لصحة أدائها عدٌد معين من المصلين‪ ،‬وبعض الفقهاء‬ ‫يوجب غسل ً قبلها‪ ،‬فصلة الجمعة هي عبادة تتجدد كل أسبوع‪ ،‬هدفها‬ ‫إحداث نوع من التطهير للمؤمن‪ ،‬ونوع من التجديد‪ ،‬حتى يخرج المسلم عن‬ ‫ضا من سنن ا في عباده‪ ،‬فالصلة الجماعية‬ ‫أسر العادة‪ ،‬وهي أي ً‬ ‫السبوعية موجودة في دين ا منذ القدم‪ ،‬لذا نرى لدى المسيحيين يوًما‬ ‫يجتمعون فيه لداء قداس جماعي وهو يوم الحد‪ ،‬واليهود لديهم يوم‬


‫السبت‪ ،‬وربما المر كذلك في الديان الخرى مثل الزرادشتية والبوذية‬ ‫وغيرهما‪.‬‬ ‫ثم يأتي الصيام وهو عبادة تتكرر كل عام‪ ،‬وهو في مختلف الشرائع‪،‬‬ ‫فمعظم الشرائع ومن بينها اليهودية والمسيحية لديها أوقات سنوية تخصص‬ ‫بشكل إلزامي للصيام الذي هو امتناع عن الشهوات‪ ،‬ثم تأتي فريضة الحج‬ ‫كعبادة تؤدى مرة واحدة في العمر‪ ،‬وهي كذلك في معظم الديان‪ ،‬حيث‬ ‫يحج أتباع كل دين إلى بقعة من الرض بعينها‪ ،‬فيقومون بأداء مناسك‬ ‫وشعائر محددة ومرتبة‪.‬‬ ‫وهذه العبادات تشترك فيها معظم الديان على البسيطة‪ ،‬بما فيها‬ ‫الهندوكية والبوذية والمجوسية وغيرها‪ ،‬مما يعني أن مشكاة الديان واحدة‪،‬‬ ‫فإذا عرفنا أن الدين بما فيه من شعائر هو نوٌر من ا أنزله على عباده‬ ‫ليبصروا طريق الحق‪ ،‬وليكشفوا سبل الشيطان فل يسلكوها‪ ،‬أمكننا الربط‬ ‫ض َم َث لُ‬ ‫ت َوا ْل َْر ِ‬ ‫ما َوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫بين هذا المعنى وبين قوله تعالى‪ " :‬ال ّل ُه ُنو ُر ال ّ‬ ‫ج ُة َك َأ ّن َها‬ ‫جا َ‬ ‫ج ٍة ال ّز َ‬ ‫جا َ‬ ‫ح ِفي ُز َ‬ ‫ص َبا ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ح ا ْل ِ‬ ‫ص َبا ٌ‬ ‫ة ِفي َها ِم ْ‬ ‫كا ٍ‬ ‫ش َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َك ِ‬ ‫ُنو ِر ِ‬ ‫غ ْر ِب ّي ةٍ‬ ‫ش ْر ِق ّي ٍة َو َل َ‬ ‫ة ُم َبا َر َك ٍة َز ْي ُتو َن ٍة َل َ‬ ‫ج َر ٍ‬ ‫ش َ‬ ‫ن َ‬ ‫ي ُيو َق ُد ِم ْ‬ ‫ب ُد ّر ّ‬ ‫َك ْو َك ٌ‬ ‫ع َلى ُنو ٍر َي ْه ِدي ال ّل ُه‬ ‫س ُه َنا ٌر ُنو ٌر َ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫م َت ْ‬ ‫ء َو َل ْو َل ْ‬ ‫ضي ُ‬ ‫كا ُد َز ْي ُت َها ُي ِ‬ ‫َي َ‬ ‫ي ءٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ك ّ‬ ‫س َوال ّل ُه ِب ُ‬ ‫ل ِلل ّنا ِ‬ ‫ب ال ّل ُه ا ْل َْم َثا َ‬ ‫ض ِر ُ‬ ‫ء َو َي ْ‬ ‫شا ُ‬ ‫ن َي َ‬ ‫ه َم ْ‬ ‫ِل ُنو ِر ِ‬ ‫م﴾ ) النور‪.(35 :‬‬ ‫عَ ِلي ٌ‬ ‫بيد أن الشيطان في كل مرة يسعى إلى حجب هذا النور على الناس‪،‬‬ ‫فينحرف بهم عن مصدر النور‪ ،‬ليجدوا أنفسهم في ظلمات جديدة‪ ،‬فيرسل‬ ‫ا الرسل منذرين الناس من مغبة هذا النحراف‪ ،‬ومبشرينهم بما ينتظرهم‬ ‫من حياة طيبة إذا هم استقاموا‪ ،‬فتحدث للناس عودة إثر بلغ الرسل‪،‬‬ ‫ويحدث للشيطان وجنده نكسه وهزيمة‪ ،‬وربما هذا ما يفسر قول النبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪" :‬خير الناس قرني‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪،‬‬ ‫ما تبقى في زمن الرسول الذي بعث‪،‬‬ ‫ثم الذين يلونهم‪ ،"...‬فالخيرية دائ ً‬ ‫والزمن الذي يليه‪ ،‬ثم ينحرف الشيطان بالناس مرة أخرى‪ ،‬فتأتي الرسل‬ ‫لتردهم‪ ،‬وهكذا إلى أن ختم ا رسالته برسالة خاتمة ليس بعدها شئ‬


‫سوى نهاية الدنيا‪ ،‬وقد نبه النبي الكريم إلى ذلك في الحديث الصحيح‪:‬‬ ‫"بعثت أنا والساعة كهذه من هذه‪ ،‬أو كهاتين"‪ ،‬وقرن بين السبابة‬ ‫والوسطى‪.‬‬ ‫إن الصيام –وكما هو معروف‪ -‬عبادة تتجدد كل عام‪ ،‬وقد فرضها ا‬ ‫على المسلمين كما فرضها على المم السابقة‪ ،‬فكما أن للمسلمين صياًما‪،‬‬ ‫فإن لليهود صياًما كذلك‪ ،‬وللمسيحيين صياًما‪ ،‬وهو صيام مفروض‪ ،‬أي لبد‬ ‫لتباع الدين من أدائه بشروطه‪ ،‬فالمر توقيفي ل اجتهاد فيه‪ ،‬والسبب‪ ،‬أو‬ ‫السر ربما يكمن في ارتباط العبادة بمكنون من مكنونات النفس البشرية‬ ‫التي هي سر عظيم‪ ،‬لم يتم كشفه‪ ،‬ولن يستطيع أحد أن يكشفه على نحو‬ ‫جلي‪ ،‬وقد نلحظ هذا من حيرة علماء النفس واختلفهم في كشف ألغاز‬ ‫أقل متعلقات النفس أل وهو النوم وما يصاحبه من أحلم ورؤى‪ ،‬فبرغم ما‬ ‫كتب‪ ،‬وما بحث في هذا المر بالذات‪ ،‬وبرغم ما قام على هذه البحاث‬ ‫والكتابات من معلومات فإن المر ل يزال قابل ً للنقض بالكلية‪ ،‬وخاصة أن‬ ‫النتائج التي تم التوصل إليها في الخصوص قائمة على الملحظة غير‬ ‫المضطردة‪ ،‬فعينات الدراسة مهما كان حجمها هي ضيقة بالنسبة إلى حجم‬ ‫البشرية‪ ،‬والمر مرتبط بالنفس البشرية‪.‬‬ ‫إن الصيام كممارسة هو امتناع المكلف عن الشرب والكل والجماع‬ ‫فترة من الوقت‪ ،‬فالمر فيه ترويض للنفس على كبح شهواتها‪ ،‬وعلى تأجيل‬ ‫متطلبات الجسد من الطيبات التي أحلها ا‪ ،‬فإذا استطاع النسان أن يمتنع‬ ‫ة من الوقت برغم احتياجه الشديد لها‪ ،‬فهو على‬ ‫عن الحلل والطيبات فتر ً‬ ‫امتناعه عن الذنوب والخبائث سيكون أقدر‪ ،‬أي يكون أقدر على مقاومة‬ ‫غواية الشيطان‪ ،‬أقدر على تقوى ا عز وجل‪ ،‬ليس في العلن فحسب بل‬ ‫ن آ َم ُنوا ُك ِت َ‬ ‫ب‬ ‫وفي السر كذلك‪ ،‬وهذا هو معنى قوله تعالى‪َ" :‬يا أَ ّي َها ا ّل ِذي َ‬ ‫ن"‬ ‫م َت ّت ُقو َ‬ ‫ك ْ‬ ‫ع ّل ُ‬ ‫م َل َ‬ ‫ك ْ‬ ‫ن ِم نْ َق ْب ِل ُ‬ ‫ع َلى ا ّل ِذي َ‬ ‫ب َ‬ ‫ما ُك ِت َ‬ ‫م َك َ‬ ‫ص َيا ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ع َل ْي كُ ُ‬ ‫َ‬ ‫) البقرة‪ ،(183 :‬فحكمة الصيام التقوى‪ ،‬الحكمة هنا مقترنة بالمر في‬ ‫الية‪.‬‬


‫ء ما‬ ‫فالصيام إذن عبادة بها معان دقيق وأسرار لطيفة‪ ،‬أكثرها جل ً‬ ‫فيها من ترويض النفس على مقاومة الشهوات التي هي أسباب الذنوب‪،‬‬ ‫فالنسان بفطرته يعلم الخير من الشر‪ ،‬لكن الشهوات قد تحجب عنه ما في‬ ‫الذنب من شٍر فيقترفه‪ ،‬تماًما كما قال النبي –صلى ا عليه وسلم‪ -‬في‬ ‫الحديث الصحيح‪" :‬حجبت الجنة بالمكاره‪ ،‬وحجبت النار بالشهوات"‪ ،‬فالصيام‬ ‫إذن يعين المسلم أو المكلف على إزالة هذا الحجاب‪ ،‬عن طريق السمو‬ ‫بالنفس عن شهوات الجسد الفاني‪ ،‬السمو بها إلى درجة الملئكة الذين ل‬ ‫يأكلون ول يشربون ول يتزوجون‪ ،‬بل يسبحون ا ويطيعونه ما أمرهم‪،‬‬ ‫وهذا ربما يفسر عظم جزاء الصائم الذي صام إيماًنا واحتساًبا‪ ،‬فقد أخبر‬ ‫النبي في الحديث الصحيح أن "من صام رمضان إيماًنا واحتساًبا غفر له ما‬ ‫تقدم من ذنبه"‪ ،‬ومعنى واحتساًبا‪ ،‬أي احتسب الجر على ا عز وجل‪،‬‬ ‫والحديث قد يدل على أن من صام رمضان إيماًنا واحتساًبا لن يقع بعده في‬ ‫كبيرة من الكبائر‪ ،‬وأن من يقع في الكبائر ليس ممن يصومون رمضان‬ ‫إيماًنا واحتساًبا‪ ،‬وقد يفسر كذلك قول النبي صلى ا عليه وسلم‪" :‬إذا جاء‬ ‫رمضان فتحت أبواب الجنة‪ ،‬وغلقت أبواب النار‪ ،‬وصفدت الشياطين"‪،‬‬ ‫فالناس في حال صيامهم يكونون قد أغلقوا أبواب المعاصي بأيديهم‪ ،‬فل‬ ‫منفذ للشياطين إلى قلوبهم‪ ،‬وطالما ل مدخل لهم فهم كالمقيد تماًما‪،‬‬ ‫صّفدت أي ُقيدت‪ ،‬وجعل عليها القيد‪.‬‬ ‫فمعنى ُ‬ ‫عا الصيام والقيام‪ ،‬وأن يردنا إلى‬ ‫نسأل ا العظيم أن يتقبل منا جمي ً‬ ‫الحق‪ ،‬وأن يحسن عاقبتنا في المور كلها‪ ،‬وأن يوفقنا إلى ما فيه رضاه‪ ،‬هو‬ ‫ولي ذلك والقادر عليه‪.‬‬ ‫د‪ .‬عبد المجيد قاسم‪ -‬ليبيا‬ ‫‪abdulmajide@gmail.com‬‬ ‫‪ 12‬رمضان ‪1435‬هـ الموافق ‪2014 /7 /10‬م‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.