ً نظريا
.
صبحي حديدي .............................................................................................................
تشابهات خافية
يف
مقالته البديعة "الصوت اآلخر" ،يقول الشاعر املكسييك أوكتافيو باث" :الشعر صوت اآلخر .وصوته آخر ألنه صوت املشاعر طوقي وإمياين، وصوت الرؤى .إنه صوت العامل اآلخر وصوت العامل الراهن ،صوت أ ّي ٍام عفا عليها الزمان مثل أ ّيام نعيشها اآلن .هَ ْر ّ بريء ومنحرف ،رائق و َع ِكر ،فضا ّيئ وتحت ـ ّ يخص الصومعة مثل ركن الحانة ،ويف متناول اليد لكنه دامئاً يف املنأى .ويف برهة أريضّ ، الشعر ،طالت أم قرصتّ ، فإن جميع الشعراء ـ إذا كانوا شعراء ـ يصغون إىل الصوت اآلخر .إنه صوتهم ،صوت سواهم ،صوت ليس ألحد سواهم ،صوت ليس ألحد ،وصوت للجميع .ال يشء مي ّيز الشعراء عن سواهم من البرش سوى تلك الربهة ،النادرة ولكن املألوفة ،حني يصبحون هم اآلخر َ آن يكونون هم أنفسهم". نص ّ يلخص ،عىل النحو التأ ّميل املع ّمق واملشبوب الذي م ّيز تنظريات باث ملسائل الشعر ،جملة املعضالت العديدة التي تكتنف هذا ّ ً مسألة حضور اآلخر وصورة ذلك اآلخر يف آداب األمم عموما ،ويف نتاجها الشعري بصفة خاصة .ذلك ّ ألن اإلشكالية تتجاوز بكثري حدود ثم استخالص مؤثراته ومحاسنه ومساوئه ،خصائصه ودينامياته النشاط الذي يكتفي برصد أو إحصاء ُص َور اآلخر يف موروث شعري ماّ ، وتفاعالته وفاعليته .هذه الرياضة النقدية ،عىل طرافتها وأهميتها املدرسية ،ال تنصف جوهر اإلشكالية يف أبعادها اإلبداعية والجاملية ثم يف أبعادها الثقافية والحضارية املقارنة من جهة ثانية. والفنّية من جانب أ ّولّ ، ّ ً ً ً إنها ،يف ّ ترض شاعرا كبريا ومنظرا للشعر رفيع الثقافة مثل أوكتافيو باث! فهو ،يف مقاطع أخرى أكرث حرارة ،يعترب ّأن فرادة كل حال ،مل ِ الشعر الحديث ال تتأىت من أفكار الشاعر أو مواقفه ،بل من صوته" :الشعر ذاكرة تنقلب إىل صورة ،وصورة تنقلب إىل صوت .الصوت اآلخر ليس الصوت املنبعث من القرب ،بل هو صوت اإلنسان الراقد عميقاً يف قلب قلوب اإلنسانية" .وبهذا املعنى ّ فإن حضور اآلخر يف الشعر يتصل مبارشة بوظيفة الشعر ذاتها ،ورمبا مبعنى الشعر أيضاً .فالشعر ،حسب باث ،يع ّلمنا إقرار الفوارق واكتشاف التشابهات، خصوصاً ّ حي من الصالت واملتضادات ،والقصيدة درس عميل يف التناغم والتوافق ،حتى حني يكون موضوعها غضبة وأن الكون "نسيج ّ البطل أو عزلة صب ّية مهجورة أو انغامس الروح يف املياه الساكنة للمرآة". وهكذا ّ فإن مفهوم اآلخر ،هنا ،ليس منحرصاً يف صورة "الغريب" أو "األجنبي" أو "املختلف"؛ وهو ،أيضاً ،ليس مقترصاً عىل تناظرات واستقطابات وثنائيات من نوع "امرأة/رجل"" ،رشق/غرب"" ،نحن/هم"" ،متمدّن/همجي"" ،املركز/املحيط"" ،س ّيد/عبد"" ،مدنية/ بربرية" ...اآلخر هو ّ كل ما ينفصل عن الذات ليك يقع أمامها ويف مواجهتها ،يكون شبيهاً بها أو عىل نقيض منها ،وتنبثق دينامية وجوده ّ من الحاجة إليه يف تعريف فارق الذات عن سواها .هي ،باختصار شديد ،عالقة "الذات/اآلخر" بكل ما تنطوي عليه من جوانب إبداعية وثقافية ومعرفية وسياسية وتاريخية وجغرافية وأنرثوبولوجية ،فض ًال عن عنارصها األخرى الوجودية والجنسية والفلسفية. ّ وألن هذا العدد من "بيت الشعر" يحتفي مبحمود درويش ،فإنني أتوقف عند واحدة من أبرز قصائده التي تناولت عالقة الذات باآلخر، وأعني "خطبة الهندي األحمر ـ ما قبل األخرية ـ أمام الرجل األبيض" .فمنذ السطور األوىل تفصح القصيدة عن جملة االسرتاتيجيات التي اعتمدها درويش لتحقيق َ غرضينْ حاسمني :تقويض التنميط املس َبق للهندي األحمر ،يف سياقاته الروحية والفلسفية والطبيعية؛ ثم االنطالق من ذلك إىل استجالء فضاء املواجهة بني أهل األرض (أينام كانوا ،ولكن يف املسيسيبي وفلسطني عىل وجه التخصيص)، واآلخر القادم ،الذي اجتاح واستوطن .الرتاجيدي هنا يلتحم يف أعرض فضاء متاح من املقدّس ،بحيث تتح ّول الذاكرة املنتهَكة (بعنارصها جتاحة ومنفية ومهزومة رمبا ،ولكنها وشعائرها وطقوسها وحركتها يف التاريخ) إىل إرث منتهَك تفقده ضحية فيزيائية ومجازية محدَّدةُ ،م َ متجذرة يف األرض ،وقامئة ،ومقا ِومة. ويف العودة إىل باث ،بعد استذكار درويش" :الخيال هو الطراز العمليايت للفكر الشعري ،والخيال يتألف جوهرياً من القدرة عىل وضع كل األشكال الشعريةّ ، فإن ّ الواقع املتناقض أو املتباين ضمن عالقة .ولهذا ّ املحسنات اللغوية ،تشرتك يف يشء واحد :أنها تبحث عن، وكل ّ وتعرث غالباً عىل ،التشابهات الخفية" .الذات هنا ،واآلخر هناك ...سيان! 106
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/