Bayt alshier 6

Page 1

1

issue (6)- November - 2012


‫‪2‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫ليس دفاعا عن القصيدة العمودية‬ ‫قلنا يف افتتاحية العدد األول من هذه املجلة اننا لن ننحاز اىل شكل شعري معني‪،‬‬ ‫واكدنا عىل ان هذه املطبوعة لن تكون ناطقة باسم اتجاه شعري بعينه‪ ،‬واذ تبلغ‬ ‫«بيت الشعر» شهرها السادس فإن رهاننا يظل عىل بقاء هذه املجلة منربا للشعر‬ ‫بينام هو يعرب كل االشكال التي احيته من العمودي اىل النرثي‪ ،‬ومن الرعوي اىل‬ ‫مابعد الحدايث من دومنا حبس للخيارات الجاملية يف شكل واحد‪.‬‬ ‫يف سياق هذا الخيار حاولنا ان نقيم توازنا بني االشكال الشعرية يف اعدادنا الخمسة‬ ‫السابقة‪ ،‬ولكننا مل نوفق يف جميع املرات‪ ،‬والسبب يتجاوزنا إىل طغيان امناط‬ ‫الكتابة الشعرية الجديدة من تفعيلة ونرث عىل حساب قصيدة العمود التي يرتاجع‬ ‫حضورها يوما بعد يوم‪ .‬ونحن هنا نقر بأن ذلك يشكل معضلة كبرية مل يتم الوقوف‬ ‫حيالها يف ادبنا العريب الراهن‪ ،‬وأهملها النقد رغم ان التنظري حولها يستمر منذ اكرث‬ ‫من ستة عقود‪ .‬واىل يومنا مل يحسم هذا الجدل لصالح اتجاه بعينه فال الحديث‬ ‫كسب كليا معركة الشعرية وال العمودي القى السالح واعرتف بالهزمية‪ .‬اننا نعيش‬ ‫وسط حال من تعدد االشكال وتنوع يف الذائقة والرؤى واالحكام واملعايري‪ ،‬ورغم كل‬ ‫هذا االختالف الصحي والحيوي علينا ان نعرتف بأن سيادة شكل شعري بعينه عىل‬ ‫املنابر ال يعني حكم قيمة‪ ،‬ال بل العكس فاملوهبة والصدق واالبتكار هي املعايري‬ ‫االساسية للنص‪ ،‬وهي التي تحكم عىل موقعه من زمنه الحارض واالزمنة الالحقة‬ ‫والسابقة‪.‬‬ ‫وألن ليس من مهامت املنرب الشعري تقديم الجواب عىل قلق الشكل‪ ،‬وان هذا‬ ‫من عمل الشعر نفسه‪ ،‬وألن املنرب هو منصة للتجارب جميعها وملعب الشعراء‬ ‫فقد افردنا مساحة خاصة يف هذا العدد للقصيدة العمودية‪ ،‬قدميها وراهنها‪ ،‬وال‬ ‫ننطلق هنا من رضورة التوازن بني االشكال الشعرية فقط‪ ،‬وامنا من عميق امياننا‬ ‫بأن الشعرية العربية كل ال يتجزأ‪ ،‬وان حارضنا الشعري غري مقطوع عن ماضينا‬ ‫بقدر ماهو ذاهب نحو مستقبلنا‪ ،‬ونجد من الرضورة مبكان التأكيد عىل هذه‬ ‫البديهية‪ ،‬ليس من اجل الرد فحسب عىل انصار االتجاه الذين يريدون طي صفحة‬ ‫تراثنا الشعري تحت ذريعة دعوات الحداثة‪ ،‬بل للوقوف باحرتام امام هذا الرتاث‬ ‫الذي نعتز ونفاخر به االمم والشعوب األخرى‪ .‬فنحن امة شعر‪ ،‬ولغتنا العربية‬ ‫لغة شعر بامتياز‪ ،‬وعلينا ان نعرتف بأن أحد أعمدة رصح الشخصية العربية هو‬ ‫الشعر‪ ،‬الذي استحق تكريم اجدادنا له باعتباره «ديوان العرب»‪ .‬كام ان الحكم‬ ‫عىل تراثنا الشعري بأنه بات قدميا‪ ،‬إمنا هو حكم تعسفي ال ينم عن فهم ال للرتاث‬ ‫وال للحداثة‪ ،‬ولنا يف ذلك مثال الحداثة االوروبية التي مل تنطلق من نفي الرتاث‪،‬‬ ‫بل اكدت عىل استمراريته‪ ،‬فالحداثة مل تكتف بذاتها‪ ،‬ومل تنطلق من مسلمة ان كل‬ ‫الجديد حديث وكل القديم قديم‪ ،‬بل اعلت من مكانة الخيال الشعري‪ ،‬واعتربته‬ ‫واحدا وان تعددت االشكال واختلفت األزمان‪ ،‬دانتي إىل جوار هومريوس وبودلري‪،‬‬ ‫فكل هؤالء قدموا مزيجا جديدا ومدهشا من العنارص نفسها‬

‫بشري البكر‬

‫تصدر كل أول شهر عن بيت الشعر يف أبوظبي‬ ‫نادي تراث اإلمارات‬

‫مدير التحرير‬ ‫بشير البكر‬ ‫سكرتري التحرير‬ ‫عبد اهلل أبو بكر‬ ‫التحرير‬

‫جهاد هديب‬ ‫رنا زيد‬

‫املدير الفني‬ ‫فواز ناظم‬ ‫االخراج والتنفيذ‬ ‫ناصر بخيت‬

‫املراسلون‬

‫بيروت‪ -‬فيديل سبيتي‬ ‫الرباط‪ -‬حكيم عنكر‬ ‫باريس‪ -‬محمد المزديوي‬ ‫القاهرة‪ -‬حمزة قناوي‬ ‫روما‪ -‬حذام الودغيري‬ ‫صنعاء‪ -‬أحمد السالمي‬


‫ديوان‬ ‫العرب‬ ‫‪149 - 113‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪ 23‬نصوص‪ :‬يوسف عبد العزيز‪ ،‬طالل سامل‪ ،‬حسن شهاب الدين‪ ،‬ياس السعيدي‪،‬‬ ‫سالم ابو جمهور ‪ ..‬ريشة الكالم‬

‫أحمد‪ ،‬الصويري‪ ،‬رابح ظريف‪ ،‬عامر معتصم‪ ،‬مهدي منصور‪ ،‬عيل جازو‪ ،‬نزار كربوط‬ ‫أرشف محمد قاسم‪ ،‬أديب كامل الدين‪ ،‬غازي الذيبة‪ .‬محمد العديني‪ ،‬روجيه عوطة‪ ،‬أسامء‬ ‫السوافريي‪ ،‬رنيم ضاهر‪ ،‬عائشة البرصي‪ ،‬عاطف الفراية‬

‫‪42‬‬ ‫‪ 43‬عبداهلل البردوني ‪ ..‬ج ّواب العصور‬ ‫‪ 49‬الشعر والنقد ‪ ..‬جدل بيزنطي‬ ‫‪ 54‬حوار ‪ ..‬عباس بيضون‬ ‫‪ 62‬حاشية ‪ ..‬حسن نجمي‬ ‫‪ 63‬مختارات ‪ ..‬عبد امللكيان ‪ -‬بول أوسرت‬ ‫‪ 70‬قصيدة اآلباء والبنون ‪ ..‬سؤال املرجعية‬ ‫نظري ًا ‪ ..‬صبحي حديدي‬

‫‪www.poetryhouse-ad.ae‬‬

‫‪127‬‬ ‫امرؤ القيس‬

‫قراءة حديثة لألثر‬

‫املواد املنشورة تعرب عن رأي اصحابها وال تعرب بالرضورة عن رأي املجلة‬ ‫‪4‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫الغالف‪:‬‬

‫ الواسطي ‪ -‬القرن الثالث عشر ميالدي‬‫‪ -‬لوغو بيت الشعر للفنانة الرا قبطان‬

‫عناوين املجلة‬ ‫االدارة والتحرير‪:‬‬ ‫االمارات العربية املتحدة‪-‬ابوظبي‬ ‫هاتف‪+97124916333 :‬‬ ‫امييل‪bashir@cmc.ae :‬‬

‫أبوظبي لإلعالم‪-‬توزيع‬ ‫الرقم املجاين ‪8002220 :‬‬ ‫لالتصال من الخارج‬ ‫‪+97124145000‬‬ ‫فاكس ‪+971 24145050 :‬‬

‫‏‪distribution@admedia.ae‬‬ ‫مسؤول التوزيع‪ :‬زياد النجار‬

‫حقوق نرش الصور واملوضوعات الخاصة محفوظة للمجلة‬


‫المحتويات‬

‫‪155‬‬

‫‪160‬‬

‫‪74‬‬ ‫‪ 80‬في الشعر ‪ ..‬هرني ميشونيك‪ ،‬فخري صالح‪ ،‬ابراهيم الحسن‪،‬‬ ‫حوار ‪ ..‬الشاعر االيطايل اليساندرو مويش‬ ‫عبدالله ابوبكر‬

‫‪86‬‬ ‫‪ 89‬حسن نجمى ‪ ..‬رشفة األبدية‬ ‫‪ 92‬ألن غينسبرغ ‪ ..‬أيقونة جيل‬ ‫‪ 95‬التيجاني بشير ‪ ..‬الصويف املعذب‬ ‫‪ 98‬تحقيق ‪ ..‬لحظة الكتابة‬ ‫‪ 103‬شعرية القصة ‪ ..‬البحر يف بريوت‬ ‫‪ 108‬علي جعفر العالق ‪ ..‬يوتوبيا الشعر‬

‫آالن روب غرييه ‪ ..‬روايئ يتحدث عن الشعر والشعراء‬

‫سعر النسخة‬ ‫اإلمارات العربية املتحدة‪ 10 :‬دراهم ‪ -‬اململكة العربية السعودية ‪10‬‬ ‫رياالت ‪ -‬الكويت دينار واحد ‪ -‬سلطنة عامن ‪ 800‬بيسة ‪ -‬قطر ‪ 10‬رياالت‬ ‫ مملكة البحرين دينار واحد ‪ -‬اليمن ‪ 200‬ريال ‪ -‬مرص ‪ 5‬جنيهات ‪-‬‬‫السودان ‪ 250‬جنيهاً ‪ -‬لبنان ‪ 5000‬لرية ‪ -‬سورية ‪ 100‬لرية ‪ -‬اململكة‬ ‫األردنية الهاشمية ديناران ‪ -‬العراق ‪ 2500‬دينار ‪ -‬فلسطني ديناران ‪-‬‬ ‫اململكة املغربية ‪ 20‬دره ًام ‪ -‬الجامهريية الليبية ‪ 4‬دنانري ‪ -‬الجمهورية‬ ‫التونسية ديناران ‪ -‬بريطانيا ‪ 3‬جنيهات ‪ -‬سويرسا ‪ 7‬فرنكات ‪ -‬دول االتحاد‬ ‫األورويب ‪ 4‬يورو ‪ -‬الواليات املتحدة األمريكية وكندا ‪ 5‬دوالرات‪.‬‬ ‫االشتراكات‬ ‫لألفراد داخل دولة اإلمارات‪ 100 :‬درهم‪ /‬لألفراد من خارج الدولة‪150 :‬‬ ‫دره ًام ‪ -‬للمؤسسات داخل الدولة‪ 150 :‬دره ًام‪ /‬للمؤسسات خارج الدولة‬

‫‪89‬‬

‫‪93‬‬

‫‪112‬‬ ‫‪ 113‬ديوان العرب ‪ ..‬الشنفرى‪ ،‬ابن زيدون‪،‬أحمد‬ ‫حائط ابيض ‪ ..‬نوري الجراح‬

‫شوقي‪،‬دوقلة املنبجي‪،‬األخطل الصغري‪،‬امرؤ القيس‪،‬محمد مهدي‬ ‫الجواهري‪،‬الشعر الكالسييك يسابق الزمن‪،‬القصيدة الكالسيكية يف‬ ‫االمارات‪،‬أحمد أمني املدين‪،‬القصيدة العمودية‪..‬مالحظات افقية‪.‬‬

‫‪ 150‬ديوان النبط ‪ ..‬محمد عبدالله الربييك‪ ،‬محمد نور الدين‪،‬‬ ‫محمد سعيد املشيخي‪ ،‬ابراهيم أحمد الشامي‪ ،‬خالد عيل الشعيبي‪ ،‬أدب‬ ‫البدو‬

‫‪160‬‬ ‫‪ 161‬مركز سلطان بن زايد ‪ ..‬املنصف املزغني‬ ‫‪ 162‬كاميرا‬ ‫أخبار البيت ‪ ..‬سيف السعدي‬

‫‪54‬‬

‫عباس بيضون‬

‫ال فرق بين شعرية الشعر‬ ‫وشعرية النثر‬

‫‪200‬درهم‪.‬‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪5‬‬


‫ُكتاب العدد‬

‫‪20‬‬

‫‪21‬‬

‫‪39‬‬

‫‪2‬‬

‫تخطيطات ُ‬ ‫الكتاب‪ :‬نارص بخيت‬

‫‪9‬‬

‫‪11‬‬

‫‪4‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ .1‬عبد الرحمن مراد‬

‫‪ .10‬الفاضل ابوعاقلة‬

‫• ناقد وشاعر ميني يقيم يف صنعاء صدر له يف‬ ‫الشعر «وجهي والجدار»‪،‬و «وطني غائب كأيب»‪.‬‬

‫• صحايف سوداين يقيم يف أبوظبي‬

‫ما أخذت‪ ،‬سليل املاء‪ ،‬كالليل استيضء‬ ‫بنجومي‪.‬‬

‫• شاعرة ومرتجمة بني الفارسية والعربية‬

‫• شاعرة وصحافية ليبية تقيم يف‬ ‫بنغازي‪.‬صدرت لها مجموعة شعرية‬ ‫بعنوان ينتظرونك‪.‬‬

‫• شاعر من فلسطني‪ ،‬صدر له‪ :‬هروبا‬ ‫من الشعر‪ ،‬حني أمسك بالفرح‪،‬‬ ‫وأرمل السكينة‪.‬‬

‫• شاعر وناقد مغريب‪ .‬صدر له يف‬ ‫ْت َع َّ‬ ‫يل وعــد‬ ‫الشعر» ملاذا ْأش َهد ِ‬ ‫السحاب؟»‪« ،‬تريـاق»‪.‬ويف النقد‬ ‫«تح ُّوالت املعنى يف الشعر العريب»‪.‬‬

‫• شاعر وناقد من فلسطني‪ ،‬يقيم‬ ‫يف االمارات‪ .‬أصدر ست مجموعات‬ ‫شعرية من بينها «صباحات‬ ‫النسكافيه»‪.‬‬

‫‪ .2‬مريم حيدري‬

‫‪.3‬وليد عالء الدين‬

‫• شاعر وناقد مرصي يقيم يف ابوظبي‪،‬مدير‬ ‫تحرير مجلة «تراث»‪.‬‬

‫‪ .4‬خلدون عبد اللطيف‬

‫• شاعر وكاتب من األردن صدر له ديوان «بني‬ ‫املنزلتني»‬

‫‪ .5‬مهند صالحات‬

‫• قاص ومخرج أفالم وثائقية‪ ،‬يقيم يف ستوكهومل‪.‬‬

‫‪ .6‬احمد لوغليمي‬

‫• شاعر ومرتجم مغريب يقيم يف ايطاليا‪.‬‬

‫‪ .7‬فخري صالح‬

‫• ناقد وكاتب من األردن‪ .‬يعمل يف الصحافة‬ ‫الثقافية املحلية والعربية‪ ،‬صدر له أكرث من‬ ‫سبعة عرشة كتاباً يف النقد تراوحت بني التأليف‬ ‫والرتجمة‪.‬‬

‫‪ .8‬رنا زيد‬

‫• شاعرة وصحافية صدر لها ديوان «مالك‬ ‫مرتدد»‪.‬‬

‫‪ .9‬فيديل سبيتي‬

‫• شاعر وصحايف لبناين يقيم يف بريوت‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫بيت الشعر‬

‫‪ .11‬خلود الفالح‬

‫‪ .12‬عبد اللطيف الوراري‬

‫‪ .13‬محمد الحجريي‬

‫• صحايف وكاتب لبناين يقيم يف‬ ‫بريوت‪.‬‬

‫‪ .14‬خالد بلقاسم‬

‫ناقد من املغرب‪ ،‬من بني ما صدر له‬ ‫يف حقل النقد‪ :‬أدونيس والخطاب‬ ‫الصويف‪ ،‬الكتابة والتصوف عند ابن‬ ‫عريب‪ ،‬والكتابة وإعادة الكتابة يف‬ ‫الشعر املغريب املعارص‪.‬‬

‫‪ .15‬محمد الغزي‬

‫• شاعر وناقد وكاتب قصص لألطفال‬ ‫من تونس‪ ،‬صدر له العديد من‬ ‫املجموعات الشعرية‪ ،‬منها كتاب املاء‬ ‫كتاب الجمر‪ ،‬ما أكرث ما أعطي ما اقل‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫‪ .16‬محمد عريقات‬

‫‪ .17‬سامح كعوش‬

‫‪ .18‬حنني عمر‬

‫• شاعرة وروائية جزائرية تقيم يف‬ ‫الجزائر‪،‬صدر لها يف الشعر «باب‬ ‫الجنة»‪،‬ويف الرواية « حينام تبتسم‬ ‫املالئكة»‬

‫‪ .19‬سعد العبدالله الصويان‬

‫• كاتب وباحث سعودي متخصص‬ ‫يف الرتاث يقيم يف الرياض‪،‬من بني‬ ‫اصداراته «ذائقة الشعب وسلطة‬ ‫النص»‪»،‬فهرست الشعر النبطي»‬ ‫و«حداء الخيل»‬

‫وفي الشعر‬

‫‪-20‬يوسف عبد العزيز‬ ‫‪ -21‬طالل سامل‬ ‫‪ -22‬حسن شهاب الدين‬ ‫‪ -23‬ياس السعيدي‬ ‫‪ -24‬أحمد الصويري‬ ‫‪ -25‬رابح ظريف‬ ‫‪ -26‬عامر معتصم‬ ‫‪ -27‬مهدي منصور‬ ‫‪ -28‬عيل جازو‬ ‫‪ -29‬نزار كربوط‬ ‫‪ -30‬أرشف محمد قاسم‬ ‫‪ -31‬أديب كامل الدين‬ ‫‪ -32‬غازي الذيبة‬ ‫‪ -33‬محمد العديني‬ ‫‪ -34‬روجيه عوطة‬ ‫‪ -35‬أسامء السوافريي‬ ‫‪ -36‬رنيم ضاهر‬ ‫‪ -37‬عائشة البرصي‬ ‫‪ -38‬عاطف الفراية‬ ‫‪ -39‬محمد عبدالله الربييك‬ ‫‪ -40‬محمد نور الدين‬ ‫‪ -41‬محمد سعيد املشيخي‬ ‫‪ -42‬ابراهيم احمد الشامي‬ ‫‪ -43‬خالد عيل الشعيبي‬


‫شعر وشعراء‬

‫بدءا‬ ‫سواء أغاب الشعر عن جائزة نوبل أم أن جائزة‬ ‫نوبل هي التي غابت عن الشعر‪ ،‬فقد بدا‬ ‫هذا األمر غري ذي بال‪ ،‬عربيا‪ ،‬قبل اإلعالن عن‬ ‫فوز الروايئ الصيني مو يان‪ ،‬فلم يكن أحد من‬ ‫املرشحني ينتمي إىل هذا الحقل من بني األسامء‬ ‫املتداولة‪ .‬لقد خ ّفت كثريا حدة الجدل حول‬ ‫الجائزة بالقياس إىل سنوات سابقة عندما كان‬ ‫شاعر أو أكرث مرشحا لهذه الجائزة‪ ،‬يف الوقت‬ ‫الذي كنّا نعلم فيه جميعا أن نوبل‪ ،‬بكل تكوينها‬ ‫املعريف والثقايف والسيايس‪ ،‬سينتظر العرب طويال‬ ‫يك يحصلوا عليها مرة أخرى‪ ،‬فقد انتظرت الصني‪،‬‬ ‫بكل ّ‬ ‫قضها وقضيضها‪ 111 ،‬سنة يك ُيبلغ إليها نبأ‬ ‫الجائزة‪.‬‬ ‫لذلك مل يعد أمر نوبل قضية وهذا أفضل‪ ،‬ألن‬ ‫الشعر عندما ينشغل بذاته وبأزمته فإنه يكون‬ ‫مؤهال ملراجعة نفسه‪ ،‬هكذا استمرت دور النرش‬ ‫يف إصدار الشعر والكتب التي تدور حوله‪ ،‬بل‬ ‫إن دار نرش جديدة ظهرت يف رأس الخيمة‪:‬‬ ‫نون‪ ،‬للنرش والتوزيع‪ ،‬وترشف عليها لجنة عىل‬ ‫رأسها الشيخة نجالء القاسمي‪ ،‬سفرية االمارات‬ ‫يف اململكة السويدية وكانت اوىل إصداراتها‬ ‫مجموعة شعرية بعنوان‪« :‬الهواء ثلثا زجاجتي‬ ‫‪ ..‬وندميي البحر» للشاعر السوري حنّا حيمو‪،‬‬ ‫وذلك يف سياق مرشوع ثقايف واعد منفتح بهويته‬ ‫وثقافته العربية واإلسالمية عىل فضاء كوين‬ ‫يستوعب آخر وآخرين‪.‬‬ ‫أيضا‪ ،‬مل يكن شهر سبتمرب مثمرا عىل صعيد‬ ‫الفعاليات الشعرية‪ ،‬ال عربيا وال سوى ذلك‪ ،‬إذ يبدو‬ ‫أن الخريف موسم كتابة الشعر ال قراءته‬ ‫التحرير‬

‫ملتقى اإلمارات لإلبداع الخليجي في الشارقة‬

‫كشفت األمانة العامة مللتقى اإلمارات لإلبداع الخليجي الذي ينظمه اتحاد كتاب‬ ‫وأدباء اإلمارات سنوياً عن أنه قد ت ّم تكريس الدورة الثالثة مللتقى الشعر الخليجي‬ ‫التي ستنعقد يف الفرتة من ‪ 4‬إىل ‪ 6‬نوفمرب الحايل‪.‬‬ ‫كام أعلنت األمانة يف مؤمتر صحفي عقد يف مقر االتحاد بالشارقة عن أسامء كل‬ ‫من الشعراء والنقاد‪ :‬جعفر حسن‪ ،‬وأحمد العجمي‪ ،‬وإميان أسريي من البحرين‪،‬‬ ‫ود‪ .‬ميساء الخواجا‪ ،‬وهدى الدغفق‪ ،‬وعبد الرحمن العمري من السعودية‪ ،‬ود‪.‬‬ ‫حسن مجاد‪ ،‬وأحمد عبد الحسني‪ ،‬وطالب عبد العزيز من العراق‪ ،‬ود‪ .‬حمود‬ ‫الدغييش‪ ،‬وعبد الله العرميي‪ ،‬وسعيدة الفاريس من عامن‪ ،‬وصالح أحمد غريب‪،‬‬ ‫وزكية مال الله‪ ،‬وعيل مريزا من قطر‪ ،‬وسامل خدادة ونشمي مهنا وصالح دبشة‬ ‫من الكويت‪ ،‬وإبراهيم أبو طالب‪ ،‬وجميل مفرح‪ ،‬وعلوان الجيالين من اليمن‪ ،‬ود‪.‬‬ ‫طارق ثابت‪ ،‬ومسعود حديبي‪ ،‬وبن عزوز عقيل من الجزائر‪.‬‬ ‫أما الندوة النقدية املصاحبة فتحمل عنواناً عريضاً حول «القصيدة الحديثة يف‬ ‫الخليج‪ :‬جذور وآفاق»‪ ،‬ضمن املحاور الرئيسية‪ :‬حداثة القصيدة يف الخليج‪ :‬بحث‬ ‫يف األصول واملالمح‪ ،‬والقصيدة الحديثة يف الخليج‪ :‬التح ّوالت واالستجابة‪ ،‬والقصيدة‬ ‫و االنفتاح عىل األجناس والفنون األخرى‪ ،‬والقصيدة وهواجس التغيري»‪.‬‬

‫خلود المعال تقرأ في الشارقة‬

‫تجربة الشاعرة االماراتية خلود املعال كانت موضوع ندوة وامسية يف منتدى الثالثاء يف بيت الشعر بالشارقة‪ .‬قرأت الشاعرة يف االمسية‬ ‫تنويعات من شعرها‪ ،‬وتلت القراءات حوارات حول تجربتها الشعرية‪ ،‬بحضور عدد من الشعراء والنقاد واإلعالميني واملهتمني ومحمد الربييك‬ ‫مدير بيت الشعر بالشارقة‪ .‬ويف تقدميه للشاعرة قال الشاعر وسام شيا‪« :‬ال ميكن ان اختزل وأوجز تجربتها الرثية بروائع القصائد التي ال تشبه‬ ‫إال ذاتها» وأضاف‪« :‬حاولت ان انتقي من معجمها بعض الشواهد للداللة عىل غنى تجربتها فشعرت وكأنني فتحت أمامي باب مد ونافذة‬ ‫مدى؛ فمراكبها مألى بالدر النفيس والوقت ال يتسع لإلبحار أو االنتقاء»‪ .‬وذكر شيا أن املعال ابنة أم القيوين صدحت بصوتها الشعري يف‬ ‫العديد من املنابر يف مختلف األقطار ممثلة بلدها اإلمارات خري متثيل وحازت جوائز وشهادات تقديرية لعطائها املميز‪.‬‬ ‫الشاعرة التي سبق أن صدر لها مجاميع شعرية عدة منها «هنا ضاع مني الزمن» و«أنت وحدك»؛ و«هاء الغائب» ثم «رمبا هنا» ‪،‬و«دون أن‬ ‫ارتوي» وجدت تجاوبا الفتا من جمهور األمسية ويف فقرة املداخالت قالت إنها تكتب ألنها تشعر برغبة يف الكتابة وليس لسبب آخر‪.‬‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪7‬‬


‫شعر وشعراء‬ ‫حمد خليفة بوشهاب‬

‫الموت يغيِّب حسين نصر‬ ‫اهلل‬

‫فاضل العزاوي‬ ‫اطروحة دكتوراه‬

‫الشاعر العراقي فاضل العزاوي‬ ‫موضوع اطروحة دكتوراة تقدم‬ ‫بها الناقد والباحث العراقي‬ ‫الدكتور محمود خليف الحياين‪،‬‬ ‫أستاذ األدب العريب يف جامعة‬ ‫املوصل وصاحب العديد من‬ ‫الكتب النقدية‪.‬االطروحة صدرت‬ ‫يف كتاب عن دار نرش غيداء تحت‬ ‫عنوان ‹التأويلية ـ مقاربة وتطبيق‪:‬‬ ‫مرشوع قراءة يف شعر فاضل‬ ‫العزاوي›‪.‬‬ ‫يدرس الباحث يف هذا الكتاب‪،‬‬ ‫تجربة العزاوي التي يقول عنها‬ ‫إنها ذات أشكال متعددة ومتنوعة‬ ‫من منظور النظرية التأويلية‪،‬‬ ‫موضحا أنه من أوائل الذين جددوا‬ ‫القصيدة العربية من خالل قصيدة‬ ‫النرث واستخدام الكوالج والتشكيالت‬ ‫الفنية الجديدة يف قصيدة التفعيلة‬ ‫ومزج النرث بالشعر‪ .‬وهو يرى‬ ‫أن العزاوي أدخل عنارص شكلية‬ ‫وتقنيات متنوعة مل تكن مألوفة‬ ‫يف منت القصيدة العربية‪ ،‬متجسدة‬ ‫يف التقطيعات الكتابية‪ ،‬والرقمية‪،‬‬ ‫واعتامد اللقطات املبعرثة ‪ ،‬فضال‬ ‫عن تداخل األجناس‪ ،‬وإفادته من‬ ‫تقنيات الرسد والدراما‪.‬‬

‫فاضل العزاوي‬ ‫‪8‬‬

‫بيت الشعر‬

‫حمد بوشهاب ‪ ..‬الشاعر ودوره‬ ‫أقام مركز الشارقة للشعر الشعبي‪ ،‬أواخر سبتمرب املايض‪،‬‬ ‫يف قاعة املؤمترات بالشارقة‪ ،‬ندوة تكرميية استذكارية‬ ‫للشاعر واألديب واملؤرخ واللغوي اإلمارايت‪ ،‬حمد خليفة‬ ‫بوشهاب‪ ،‬مبناسبة مرور عرش سنوات عىل رحيله‪ ،‬وجاءت‬ ‫بعنوان «الهزار الشادي مبدع الكلمة وسيد الفكرة»‪.‬‬ ‫بداية ألقى رئيس دائرة الثقافة واإلعالم يف الشارقة‬ ‫عبدالله العويس كلمة أشاد فيها بدور الشاعر الراحل‬ ‫ومكانته اإلبداعية والثقافية‪ ،‬ذاكرا ً أن آخر أمسية للشاعر‬ ‫كانت يف بيت الشعر يف العام‪ 2002 ،‬كام رسد مدير مركز‬ ‫الشارقة للشعر الشعبي راشد رشار بعض ذكرياته مع‬ ‫الشاعر الراحل‪ ،‬ليتبعها بقراءة قصيدة نبطية مؤثرة يف‬ ‫هذه املناسبة‪ ،‬وذلك عىل اعتبار أن الراحل كان شاعرا‬ ‫وظل‬ ‫كتب شعره بالفصيح والعامي وأبدع يف املجالني ّ‬ ‫معروفا بهام عىل مستوى الخليج العريب وليس دولة‬ ‫االمارات وحدها منذ ما قبل نشوء االتحاد‪.‬‬ ‫تال ذلك عرض فيلم وثائقي قصري تناول وعىل نحو عاجل‬ ‫مفاصل مهمة من حياة وإبداع هذا العلم اإلبداعي‬ ‫اإلمارايت ‪.‬‬ ‫ثم قدم الباحث عيل محمد املطرويش مستشار الرتاث‬ ‫والتاريخ املحيل يف دائرة التنمية السياحية يف عجامن‬ ‫ورقة بعنوان «حمد خليفة بوشهاب ‪ . .‬مالمح النشأة‬ ‫واملوهبة»‪ ،‬سلط فيها الضوء عىل عائلة الشاعر‪ ،‬وأن‬ ‫أباه كان تاجر لؤلؤ محباً للشعر واألدب‪ ،‬مبيناً أنه ولد‬ ‫يف العام‪ 1932‬يف مدينة عجامن‪ ،‬ليلحقه والده مبدرسة‬ ‫من مدارس الكتاتيب التي كانت تضطلع بتعليم القرآن‬ ‫الكريم والقراءة والكتابة‪.‬‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫رحل يف العاصمة الروسية موسكو‬ ‫الشاعر حسني نرص الله (لبنان)‬ ‫الذي كان أقل أبناء جيله نرشا ً‬ ‫للشعر وزهدا يف الظهور االعالمي‬ ‫مع أنه كان يعمل يف الحقل‬ ‫االعالمي‪ .‬كتب عنه الشاعر اسكندر‬ ‫حبش يف يومية السفري‪« :‬اآلن ميسك‬ ‫بالجوهر‪ .‬يف رحيله املفاجئ‪ ،‬يف‬ ‫«منفاه» الرويس األخري‪ .‬كان يبدو‬ ‫أكرث متاسكاً‪ ،‬يف تلك البالد‪ ،‬عماّ كان‬ ‫عليه هنا‪ ،‬يف هذه املدينة (بريوت)‬ ‫التي نجدها يف مقطع شعري كتبه‬ ‫يف ديوانه «أثاث الروح»‪ ،‬يقول فيه‪:‬‬

‫«أنت الذي عاش تحت‪ /‬جرس‬ ‫الحياة‪ /‬قرب املياه الغريبة‪ /‬صانعاً‬ ‫لنفسه كوخاً من نثار األحياء‪/‬‬ ‫وسقفاً من حطامهم‪ /‬أنت الذي‬ ‫عاش يف ليايل األرق‪ /‬وأدار وجهه‬ ‫للحائط األعمى‪ /‬مصغياً إىل‬ ‫السيول يف املمرات‪ /‬إىل الخطى‬ ‫تبتعد‪ /‬إىل الضوء يغيب‪ /‬أنت‬ ‫الذي عاش أيامه ناسكا‪ /‬وقاسياً‬ ‫كهدوء الحقل‪ /‬تلتهب اآلن‪/‬‬ ‫وتسيل من عروقك مياه النسيان‪/‬‬ ‫ونسميك الغياب‪.»..‬‬

‫حسني نرص الله‬


‫بول شاوول‬

‫نجوم الغانم إلى عضوية‬ ‫مجلس أمناء البوكر‬

‫دخلت الشاعرة واملخرجة السينامئية‬ ‫اإلماراتية نجوم الغانم إىل عضوية‬ ‫الجائزة العاملية للرواية العربية‬ ‫املعروفة بالبوكر العربية لدورة‬ ‫(‪ )2013‬التي تتزامن مع الدورة‬ ‫السادسة للجائزة وذلك إىل جوار‬ ‫النارش األردين ماهر الكيايل ‪ ,‬والنارش‬ ‫اللبناين – األمرييك ميشال مشبك‪.‬‬ ‫وقد أعلن عن ذلك مؤخرا جوناثان‬ ‫تايلور‪ ,‬رئيس مجلس أمناء الجائزة‬ ‫الذي أبدى عن ترحيبه بثالثة أعضاء‬ ‫جدد يف مجلس أمنائها ينضمون اليه‪.‬‬ ‫كام كشف تايلور عن أن هيئة أبو‬ ‫ظبي للسياحة والثقافة هي املؤسسة‬ ‫الراعية للجائزة العاملية للرواية‬ ‫العربية « البوكر» بدءا ً من العام‬ ‫املقبل أيضا‪.‬‬ ‫وفضال عن مشاركتها يف إحدى‬ ‫مسابقات مهرجان أبو ظبي السيناميئ‬ ‫الدويل لدورته السادسة التي أقيمت‬ ‫الشهر املايض‪ ،‬شاركت نجوم الغانم‬ ‫ضمن احتفالية سينامئية بالسينام‬ ‫االماراتية أقامها مهرجان ماملو‬ ‫للسينام العربية أواخر الشهر قبل‬ ‫املايض‪ .‬ولهذا العام كانت الغانم قد‬ ‫أصدرت ديوانها األخري «أسقط يف‬ ‫نفيس»‪.‬‬

‫شعراء مصر وموسيقيوها‬ ‫في اليوم العالمي «من أجل‬ ‫التغيير»‬

‫بول شاوول يُشعل سيجارة في‬ ‫القاهرة‬ ‫هاجمت صحيفة «الحرية والعدالة» التي تتبع جامعة‬ ‫االخوان املسلمني كتاب الشاعر بول شاوول (لبنان)‬ ‫«دفرت سيجارة» الصادر يف طبعة ثانية عن سلسلة‬ ‫«آفاق عربية» ‪ -‬الهيئة املرصية العامة لقصور الثقافة‪.‬‬ ‫كام اتهمت الهيئة التابعة لوزارة الثقافة املرصية بإهدار‬ ‫املال العام يف نرش كتب ترض وال تنفع؛ ما يعيد إىل‬ ‫األذهان أزمة نرش رواية «وليمة ألعشاب البحر» حيدر‬ ‫حيدر (سوريا) لدى الهيئة نفسها قبل نحو ‪ 12‬عاماً‪.‬‬ ‫حدث ذلك مع أن الشاعر بول شاوول حاول أن يقول يف‬ ‫كتابه هذا إن أشياء بسيطة وصغرية ال نعريها الكثري من‬ ‫االنتباه أصبحت يف الزمن الحديث متثلنا‪ ،‬كام أصبحت‬ ‫جزءا ً من وجودنا عىل األرض‪ ،‬وإن املسافة الفاصلة بني‬ ‫اإلنسان واألشياء التي يستخدمها أصبحت أضيق من‬ ‫القدرة عىل التفريق بينهام‪.‬‬ ‫يضعنا «دفرت سيجارة» بول شاوول بفكرته الجميلة‬ ‫وتقنيته الشعرية املتقنة أمام جانب من وجوه االختالف‬ ‫بني منطني لقصيدة النرث‪ :‬اللبناين واملرصي‪ ،‬فهو ينتمي يف‬ ‫هذا الكتاب أو الديوان‪ ،‬إىل الكتابة ملء بياض الصفحة‪،‬‬ ‫مبا يستلزمها من تقنيات يف الرسد‪ ،‬واإلمعان يف آلياته‪،‬‬ ‫من أجل الوصول إىل القرار يف اللحظة الشعرية‪ ،‬بينام‬ ‫ما زالت غالبية النصوص املرصية تزاوج ما بني شكل‬ ‫قصيدة التفعيلة بأسطرها املوزعة عىل البياض كخريطة‬ ‫إلزامية للقارئ بالتوقف عن القراءة أو االستمرار فيها‪،‬‬ ‫وما ينتج منها من استخدام البياض كبديل لعالمات‬ ‫الرتقيم‪.‬‬

‫شارك شعراء وموسيقيون مرصيون‬ ‫يف اليوم العاملي للشعر الذي صادف‬ ‫الرابع من اكتوبر املايض تحت عنوان‬ ‫«‪ 100‬ألف شاعر وموسيقي من أجل‬ ‫التغيري» مبشاركة ‪ 110‬مدن يف العامل‪.‬‬ ‫وقد شهد املركز املوسيقي يف وسط‬ ‫القاهرة افتتاح هذا اليوم بالتزامن مع‬ ‫أمسيات للشعر واملوسيقى أقيمت يف‬ ‫اإلسكندرية وبورسعيد وطنطا‪.‬‬ ‫وتهدف أنشطة اليوم العاملي للشعر‬ ‫هذا العام إىل اإلعالء من شأن قيم‬ ‫الحرية والعدل واملساواة‪ ،‬حيث‬ ‫تشتد الحاجة إىل التمسك مبثل هذه‬ ‫القيم اآلن‪ ،‬وذلك من خالل القراءات‬ ‫الشعرية واملوسيقى‪.‬‬ ‫من بني الشعراء املرصيني الذين‬ ‫شاركوا‪ :‬زين العابدين فؤاد ومحمد‬ ‫آدم وعالء خالد وعاطف عبد العزيز‬ ‫وجرجس شكري وغادة نبيل ونجاة‬ ‫عيل‪.‬‬ ‫واختتم االحتفال يف املركز املوسيقي‬ ‫بعرض قدمته فرقة «بهية» التي تقدم‬ ‫يف العادة أغنيات ملغنني وملحنني‬ ‫مرصيني منهم سيد درويش والشيخ‬ ‫إمام عيىس‪.‬‬

‫نجوم الغانم‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫زين العابدين فؤاد‬ ‫‪9‬‬


‫شعر وشعراء‬ ‫أدونيس‬

‫هل يصبح «المثقف» ارهابي ًا‬ ‫في اليمن «السعيد»؟‬

‫مجدد ًا‪ ..‬غراس يواجه‬ ‫إسرائيل بـ «ذباب مايو»‬

‫أصدر األديب األملاين البارز غونرت‬ ‫غراس ديواناً جديدا ً بعنوان‬ ‫«ذباب مايو»‪ ،‬ينذر بعودة‬ ‫اشتعال الخالفات السياسية‬ ‫مع إرسائيل مجددا ً‪ ،‬وذلك بعد‬ ‫شهور من قصيدته الشهرية «ما‬ ‫يجب أن يقال»‪ ،‬التي انتقد فيها‬ ‫السياسة اإلرسائيلية‪ .‬وكان غراس‬ ‫قد نرش‪« :‬ما يجب أن يقال» يف‬ ‫أبريل املايض‪ ،‬واتهم فيها إرسائيل‬ ‫بأنها تهدد السلم الدويل «الهش‬ ‫بطبيعته»‪ ،‬من خالل اعتزامها‬ ‫شن رضبة عىل املنشآت النووية‬ ‫اإليرانية‪ ،‬كام دان فيها اعتزام‬ ‫بالده بيع غواصات دولفني‬ ‫إلرسائيل‪ ،‬وطالب األديب الحائز‬ ‫جائزة نوبل يف اآلداب بإخضاع‬ ‫املنشآت النووية يف كل من إيران‬ ‫وإرسائيل لرقابة دولية‪.‬‬ ‫ويف الديوان الجديد الذي يضم‬ ‫‪ 87‬قصيدة ميتدح األديب العاملي‬ ‫يف إحدى هذه القصائد مردخاي‬ ‫فعنونو الخبري النووي اإلرسائييل‬ ‫الذي كان قد حكم عليه بالسجن‬ ‫ملدة ‪ 18‬عاماً بتهمة افشاء أرسار‬ ‫نووية خطرية‪ ،‬وأطلق رساحه‬ ‫مؤخرا‪.‬‬

‫أدونيس ‪ ..‬وسام جوقة شرف‬ ‫من فرنسا‬ ‫منحت الدولة الفرنسية وسام جوقة الرشف للشاعر‬ ‫أدونيس تقديرا ً ملساره الشعري والفكري‪ .‬ففي‬ ‫احتفال أقيم يف دار مريكور دو فرانس ‪ -‬غاليامر سلّم‬ ‫الفيلسوف الفرنيس إدغار موران الشاعر الوسام ممثالً‬ ‫الرئاسة الفرنسية يف حضور جمع من الشعراء والكتّاب‬ ‫الفرنسيني والعرب‪ .‬وألقى موران يف املناسبة كلمة حيا‬ ‫فيها أدونيس ومام قال فيها‪« :‬أعتقد أ ّن من خلفية‬ ‫إنسانية مشرتكة‪ ،‬يمُ كنني القول إنني أعترب أدونيس‬ ‫طفالً بالنسبة إ ّيل‪ ،‬أنت ولدت يف العام ‪ ،1930‬وأنا‬ ‫كنت أميض أعوامي العرشة الحاسمة قبل والدتكم‪...‬‬ ‫وأكرث ما أحببته يف سريتك هو أنك مثلّث الهويات‬ ‫التي متثلك‪ :‬سوري‪ ،‬ولبناين‪ ،‬وفرنيس‪ ،‬وهذا يسعدين‬ ‫فعالً ألنني طاملا رفضت أن أع ّرف نفيس حرصا ً ضمن‬ ‫هوية واحدة من هويايت التي ال كوابح لها‪ .‬وهنا أقول‬ ‫إنّه إىل جانب (هويّاتنا) يمُ كن إضافة واحدة أخرى‪:‬‬ ‫املتوسطية‪ ،‬وهي تجمعنا أيضاً أل ّن من بني أساليف من‬ ‫عاش قرناً كامالً يف ربوع السلطنة العثامنية‪ ،‬أو مبعنى‬ ‫أوضح يف ذاك الرشق الذي أتيت أنت منه‪ ،‬هذا الرشق‬ ‫الذي يُشكّل جزءا ً مني»‪.‬‬ ‫ثم ألقى أدونيس كلمة قال فيها‪« :‬يسعدين أن متنحني‬ ‫فرنسا هذا الوسام‪ ،‬استمرارا ً يف تحقيق رؤيتها لإلنسان‬ ‫والكون والثقافة‪ .‬وهي رؤية فريدة يف انفتاحها عىل‬ ‫تكويني من أبعاد الذات‪.‬‬ ‫اآلخر‪ ،‬بحيث يبدو كأنه بُع ٌد‬ ‫ٌّ‬ ‫أدونيس ليس أول وآخر الشعراء العرب الذين كرمتهم‬ ‫الدولة الفرنسية بهذا الوسام‪ ،‬فقد سبقه إليه محمود‬ ‫درويش وعبد اللطيف اللعبي وآخرون‬

‫غونرت غراس‬ ‫‪10‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫أشار الشاعر والناقد علوان مهدي‬ ‫الجيالين‪ ،‬أمني لجنة الحقوق والحريات‬ ‫باتحاد األدباء والكتاب اليمنيني‪ ،‬إىل‬ ‫أن هناك قتالً متعمدا ً للمبدع اليمني‬ ‫والسيام املثقفني والشعراء واألدباء‪.‬‬ ‫وأوضح يف ترصيح صحفي‪ ،‬بأن الدولة‬ ‫ترتك املبدعني ميوتون من الجوع‬ ‫واملرض‪ ،‬بسبب اإلهامل والتهميش‪،‬‬ ‫حيث يعانون مختلف أصناف العذاب‬ ‫بسبب ما وصفه ب»شظف العيش‬ ‫والفاقة»‪ .‬وأضاف الجيالين‪ « :‬إذا مل‬ ‫تهتم الدولة برشيحة املبدعني فإنهم‬ ‫نتيجة هذه الظروف سيتحولون‬ ‫إىل إرهابيني ومتطرفني‪ .‬فاإلرهاب‬ ‫والتطرف بشكل عام ناتج عن اختالل‬ ‫يف وظيفة الدولة تجاه املجتمع‪،‬‬ ‫خاصة فئة املثقفني والكتاب‪ .‬لذا فإن‬ ‫االختالل الثقايف واالقتصادي والفكري‬ ‫واالجتامعي‪ ،‬يعد من األسباب الرئيسة‬ ‫لإلرهاب والتطرف»‪.‬‬ ‫واختتم بالقول‪« :‬إن الشاعر الشعبي‬ ‫أحمد سليامن الذي يحظى بشعبية‬ ‫كبرية يف البالد‪ ،‬نراه ميوت يوماً بعد‬ ‫يوم‪ ،‬كام مات قبله الشاعر محمد‬ ‫الجبيل‪ ،‬متعفناً يف خيمته بساحة‬ ‫التغيري بصنعاء‪ ،‬بعد معاناته من مرض‬ ‫الرسطان‪.‬‬

‫علوان مهدي‬


‫درويش‬

‫غوته في بيت الشعر‬ ‫بالشارقة‬

‫قاضية تمنع البحث‬ ‫عن قبر لوركا‬

‫أصدرت إحدى القاضيات يف إسبانيا‬ ‫مؤخرا قرارا منعت مبوجبه البحث‬ ‫عن قرب الشاعر اإلسباين الشهري‬ ‫فيديريكو غارثيا لوركا (‪- 1898‬‬ ‫‪ )1936‬الذي قتل إبان الحرب‬ ‫األهلية اإلسبانية التي دارت رحاها‬ ‫بني عامي ‪ 1936‬و‪.1939‬‬ ‫آورورا فرنانديز‪ ،‬وهي قاضية‬ ‫املحكمة الثالثة يف مدينة غرناطة‪،‬‬ ‫بجنوب إسبانيا‪ ،‬قررت حفظ امللف‬ ‫الخاص بالتحقيق حول مكان دفن‬ ‫غارثيا لوركا باعتبار أن هذا «ليس‬ ‫من اختصاص القضاء»‪ ،‬وبذا أسدلت‬ ‫الستار عىل التحقيق يف مقتل‬ ‫األديب الالمع الشهري أو املكان‬ ‫الذي دفنه فيه جثامنه‪.‬‬ ‫وكان القايض بالتاسار غارثون قد‬ ‫أمر عام ‪ 2008‬بفتح تحقيق حول‬ ‫االنتهاكات والجرائم املرتكبة من‬ ‫عام ‪ 1936‬حتى عام ‪ ،1975‬أي‬ ‫إبان فرتة حكم الديكتاتور السابق‬ ‫الجرنال فرانشيسكو فرانكو‪ .‬غري أنه‬ ‫دخل عىل األثر يف مواجهات مع‬ ‫الكثريين من قيادات اليمني اإلسباين‬ ‫حول قضايا عديدة‪ ،‬انتهت لصالح‬ ‫اليمني‪.‬‬

‫«غياب» محمود درويش يحظى‬ ‫بجائزة أميركية‬ ‫رمبا مل تكن سرية الناقد ادوارد سعيد التي حملت‬ ‫العنوان‪« :‬خارج املكان» أكرث صعوبة عىل الرتجمة إىل‬ ‫العربية من ترجمة «يف حرضة الغياب» إىل االنجليزية‬ ‫التي هي السرية الذاتية لصديقه الشاعر محمود‬ ‫درويش‪ ،‬ورمبا حدث ذلك بسبب الشعرية العالية التي‬ ‫حملتها مقاطع كثرية من هذه السرية‪.‬‬ ‫مع ذلك حازت الرتجمة اإلنكليزية لكتاب محمود‬ ‫درويش «يف حرضة الغياب» التي أنجزها الشاعر‬ ‫والروايئ العراقي سنان أنطون‪ ،‬جائزة أفضل ترجمة‬ ‫أدب ّية يف الواليات املتحدة وكندا لعام ‪ .2012‬وتم اإلعالن‬ ‫عن الجائزة التي يقدمها اتحاد املرتجمني األدب ّيني يف‬ ‫الواليات املتحدة ‪ ALTA‬أثناء املؤمتر السنوي الذي‬ ‫أقيم هذه السنة يف مدينة روشسرت مطلع الشهر املايض‪.‬‬ ‫وقرأ أنطون مقطعاً من كتاب درويش يف حفلة تسلّم‬ ‫الجائزة التي تبلغ قيمتها خمسة آالف دوالر‪ .‬وكان «يف‬ ‫حرضة الغياب» قد اختري باإلجامع من لجنة التحكيم‬ ‫من بني ‪ 119‬كتاباً مرتجامً صدرت يف العام السابق‪.‬‬ ‫وأشادت لجنة التحكيم باملستوى العايل للرتجمة‬ ‫وباملقدمة والهوامش واملالحظات التي أضافها املرتجم‬ ‫إلضاءة تفاصيل النص وخلفيته الثقافية والتاريخية‬ ‫للقارئ‪ .‬ويذكر أ ّن هذه أ ّول مرة يفوز بها عمل أد ّيب‬ ‫مرتجم من العربية بهذه الجائزة منذ استحداثها عام‬ ‫‪ .1998‬وكانت الرتجمة التي صدرت آخر العام املايض‬ ‫عن دار آرشبيالغو يف نيويورك قد حلت أيضاً يف املركز‬ ‫الثاين يف مسابقة جائزة «بني» السنوية للرتجمة يف‬ ‫الواليات املتحدة‬

‫كانت حياة ومؤلفات الشاعر‬ ‫األملاين األشهر يوهان غوته‪ ،‬هي‬ ‫عنوان األمسية التي استضافها‬ ‫بيت الشعر بالشارقة الشهر املايض‬ ‫وشارك فيها الكاتبان‪ :‬زكريا أحمد‬ ‫والدكتور إبراهيم الوحش‪.‬‬ ‫ومام جاء يف ورقة الباحث زكريا‬ ‫أحمد حديثه‪« :‬مل يكن من قبيل‬ ‫املصادفة أن تختار أملانيا اسم‬ ‫غوته ليكون علامً عىل معاهدها‬ ‫الثقافية املنترشة يف كل عواصم‬ ‫العامل‪ ،‬ولتقول إن غوته هو‬ ‫الواجهة الثقافية والحضارية التي‬ ‫تفخر وتعتز بها»‪ ،‬وقال‪« :‬كان‬ ‫غوته وال يزال شخصية استثنائية‬ ‫يف تاريخ الثقافة اإلنسانية‪ ،‬عندما‬ ‫رآه نابليون هتف‪ :‬هذا هو‬ ‫اإلنسان اإلنسان‪ ،‬واعتربه نيتشه‬ ‫اإلنسان السوبر مان‪ ،‬اإلنسان‬ ‫األسمى الذي يحلم به»‪ .‬كام‬ ‫أوضح أن غوته كان يسعى ألن‬ ‫يكون عاملياً ومنفتحاً عىل جميع‬ ‫الثقافات واألديان واآلداب أيضاً‪،‬‬ ‫وهو أول من استخدم مصطلح‬ ‫األدب العاملي ودعا إليه‪ ،‬كام كان‬ ‫له اهتامم باألديان والثقافات‬ ‫والفنون الرشقية وخاصة ما يتعلق‬ ‫بالدين اإلسالمي واألدب العريب‪.‬‬

‫يوهان غوته‬

‫لوركا‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪11‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫جو بدوي ببنية حداثية‬ ‫الكتاب‪ :‬وحيدا يف امتداد خطاك‬ ‫الشاعر‪ :‬فاضل الجابر (العراق)‬ ‫النارش‪ :‬دار فضاءات للنرش والتوزيع ‪ -‬عماّ ن‬ ‫عدد الصفحات‪ 112 :‬صفحة من القطع املتوسط‬

‫احتفاء‬

‫خاص بالديوان الثاين للشاعر العراقي‬ ‫فاضل الجابر تستهله دار النرش بتقديم‬ ‫خاص هو «شاعر يلتحف بساطة الصحراء ومطر املفردة‪،‬‬ ‫متشحا حاالته الشعرية املتدفقة بغزارة وألق يشيان بشاعر‬ ‫متمكن من صياغة جملته الشعرية‪ ،‬ينحت بصمت مفتشا‬ ‫عن مالمح نصه الخاصة‪ ،‬تلك املالمح التي ال تتنكر لكينونته‬ ‫املحلية‪ ،‬وال تفصله عن قدرة نصه وسعيه يف اتجاه ما هو أكرث‬ ‫إيغاال يف الذات املتفردة‪ ،‬الباحثة عن نص يحلق أبعد من‬ ‫األمكنة املرئية»‪ ،‬ونضيف إىل ذلك أيضا‪« :‬يف بحثه عن قدرة‬ ‫مخبوءة لديه يف سرب أغوار النص‪ ،‬يقرش فاضل عوامله املرئية‪،‬‬ ‫عله يجد من يرافقه يف طرائق الكشف‪ ،‬والخوض يف املستور‪.‬‬ ‫وعن هذا الكتاب‪ ،‬وهو الثاين‪ ،‬لفاضل الجابر قال الشاعر‬ ‫سلطان القييس‪“ :‬ما يلفت أن فاضل الجابر استطاع منذ‬ ‫الكتاب الثاين أن ال يشبه أحدا‪ ،‬كام عملت قصيدته عىل‬ ‫استثامر الرتاث املمتد‪ ،‬بني الفصيح والنبطي‪ ،‬فلقد اقتبس يف‬ ‫إحدى قصائده من أيب متام مثال‪ ،‬ولكنه ض َّمن اقتباسه كام قلنا‬ ‫آنفا إىل ج ِّوه البدوي وبيئته األصيلة‪ ،‬يف بنية حداثية ال تخلو‬ ‫من الخروج عىل قانون القبيلة”‪.‬‬ ‫أما الكاتبة رقية مهدي فكتبت تقول‪« :‬يستطي ُع الجابر أ ّن‬ ‫خالصا إال من ُح ِّبه الذّي‬ ‫َ‬ ‫يجرد َ​َك ِم ْن أتعابِك‬ ‫نصه ً‬ ‫روح ِّ‬ ‫لتدخل َ‬ ‫يحملُه عىل ا ْمتدا ِد وحدتِ ِه‪َ ،‬وتع ِب ِه الخاص»‬ ‫ونالح ُظ يف هذا الديوان طريقة توزيع بدأتْ بـ” ُم ْفتَتَ ٍح” ال‬ ‫يحوي سوى فرا ٍغ يغري املتلقي لدخول عاملَ الشاعر‪ ،‬حامالً‬ ‫تأويل الغالف وصورته التّي اختارها بعناية األلوان وحيلها‬ ‫وأنثويتها‪ ،‬باإلضافة للمدى الفارع الذي كُتب به العنوان‪ .‬كل‬ ‫هذه التفاصيل تفضح فراغ املفتتح املتواري خلف شهيته”‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫مرايا الكتابة‬

‫الكتاب‪ :‬مرثية البوح األخري‬ ‫الشاعر‪ :‬أنس الفياليل (املغرب)‬ ‫النارش‪ :‬منشورات وزارة الثقافة ‪ -‬الرباط‬ ‫عدد الصفحات‪ 100 :‬من القطع املتوسط‬

‫هذا الكتاب‪ ،‬بقصائده الواحدة والثالثني‪ ،‬يشعر القارئ أنه‬ ‫ما كان الشعر إال للكشف عن زيف العامل وتناقضاته‪ ،‬وهذا‬ ‫يبدو واض ًحا من خالل عناوين القصائد التي حواها الديوان‪.‬‬ ‫وما يلفت النظر يف أول وهلة يف هذا العمل الشعري هو‬ ‫تقسيم الشاعر ملرثياته‪ ،‬حسب التوزيع الشكيل الذي ال‬ ‫يختلف يف املوضوع املوحد‪ ،‬فكانت األوىل معنونة بـ «مرثية‬ ‫تزخ من بعيد»‪ ،‬ومتيزت قصائدها بالنفس الطويل ذات‬ ‫الصور الشعرية واالستعارات التخيلية الخاصة‪ ،‬فيام جاءت‬ ‫املرثية الثانية بعنوان «مرثية الرماد األخري» وهي قصائد‬ ‫تختلف عن القسم األول شكالً وتبقى وفيّة للمضمون الذي‬ ‫سبح فيه الشاعر بخياله يف بحار النهايات ومدار األموات‪،‬‬ ‫تاركاً بؤرة ضوء ألمل الصباح‪ ،‬مقتحماً العمل يف قسمه الثاين‬ ‫بسياقات وصور شعرية ذات نربة قامتة وخاصة‪ ،‬أما املرثية‬ ‫األخرية فقد اختار لها الشاعر عنوان «مرثية الجمر الثاقب»‪،‬‬ ‫وهي قصائد موزعة بني النفس املتوسط وقصيدة الومضة‪،‬‬ ‫حيث اختزلت معانٍ عميقة ظلت‬ ‫تداعب خيال القارئ وسطوة قلقه‬ ‫املمتد بلغة الجمر الثاقب يف مرثية‬ ‫شديدة التفصيل والدقة لهذا البوح‬ ‫التي تتداخل فيه أشكال وأنواع‬ ‫البوح التي اشتغل عليها أنس‬ ‫الفياليل يف هذا العمل‪ ،‬الذي حاول‬ ‫من خالله تقديم صورة قامتة عن‬ ‫واقع شديد الغموض واإلبهام يف‬ ‫بعض األحيان‪ ،‬وغري خفي يف أحيان‬ ‫أخرى‪ ،‬هو أشبه ما يكون بواقع الكتابة يف سدمييتها الدنيا‬ ‫واملثىل‪ ،‬والتي حاورها يف ثنائيتها الضدية يف أشكال مختلفة‬ ‫ومتنوعة يف الكتابة والبوح‪ ،‬لكن مبضمون وبوح واحد أشبه‬ ‫ما ميكن القول عنه‪ ،‬بأنه إدانة لفعل الكتابة ومديح لها يف‬ ‫أحيان قليلة أخرى‪ ،‬خصوصاً يف إهداء الشاعر مجموعته لــ‬


‫«كل الكائنات العجيبة يف قبحها وجاملها‪ ،‬يف هذا الغاب‬ ‫القاحل»‪ ،‬أو فيام احتوته مجموعته من نصوص معنونة‬ ‫مبرايا الكتابة‪ ،‬خاصة يف قصائده‪« :‬أدونيس» و«محمود‬ ‫درويش» و«شاعر» و«الشاعر الرببري» و«قصيدة قدمية» أو‬ ‫من خالل بعض النصوص األخرى‪.‬‬ ‫الجسد وصبواته‬

‫الكتاب‪ :‬يكاد يكون المرئيا‬ ‫الشاعر‪ :‬مارك سرتاند (الواليات املتحدة)‬ ‫النارش‪ :‬دار ألفرد نوبف ‪ -‬نيويورك‬ ‫عدد الصفحات‪ 50 :‬صفحة من القطع املتوسط‬

‫يعترب مارك سرتاند (‪ 88‬عاما‪ ،‬جائزة بوليتزر للشعر ‪)1999‬‬ ‫أحد أبرز الشعراء األمريكيني األحياء‪ ،‬ومن املمكن وصفه بأنه‬ ‫مثقف شعري إذ أسهم يف إنتاج حساسية شعرية جديدة‬ ‫يف أمريكا الشاملية مع عدد من الشعراء البارزين‪ ،‬فضال عن‬ ‫أنه مرتجم ألبرز شعراء أمريكا الجنوبية إىل ح ّد أنه قال مرة‬ ‫ما معناه‪« :‬إذا أردت أن تكون شاعرا فعليك أن تقرأ شعراء‬ ‫أمريكا الالتينية» أو ما هو أقرب إىل ذلك‪.‬‬ ‫كتابه «يكاد يكون المرئيا»‪ ،‬يض ّم سبعاً وأربعني قصيدة‬ ‫بالنرث‪ ،‬ممتدة أفقياً قي شكل أحجيات رسدية‪ ،‬يتخلّلها‬ ‫حوارات متقطّعة‪ ،‬ومزق فلسفية من منولوجات مل تكتمل‪،‬‬ ‫واستبصارات نفسية مفاجئة‪ ،‬يعتم ُد سرتاند نربة نوستالجية‪،‬‬ ‫مفعمة بالحنني‪ ،‬تسرتجع مشاهد ملوانئ بعيدة‪ ،‬وصورا ً‬ ‫لقوارب مهجورة وأشجارا ً هاربة‪ ،‬كأنمّ ا هي بحث عن طفولة‬ ‫بعيدة نائية‪ ،‬وفضاءات تشكيلية تذكّر بلوحات فان كوخ‪،‬‬ ‫بحسب ما يقول الشاعر عابد اسامعيل (سوريا)‪.‬‬ ‫رسب التامعاتُ الف ّن‬ ‫ويقول أيضا‪« :‬ليس غريباً أن تت ّ‬ ‫التشيكيل إىل نصوص الشاعر الذي درس الرسم أكادميياً‬ ‫يف جامعة ييل‪ ،‬وخرب تقنياته ومدارسه‪ ،‬بل إنه نرش كتاباً‬ ‫عن ال ّرسام األمرييك الشهري إدوارد هوبر‪ ،‬ويف هذا الكتاب‬ ‫يتحدّث سرتاند عن شخوص هوبر‪ ،‬ويصفهم ٍ‬ ‫بأناس فقدوا‬ ‫كل أمل بالخالص‪ ،‬ما جعلم يقعون يف ف ّخ االنتظار األبدي‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫مستقبل بانتظارهم»‪.‬‬ ‫من أجواء الديوان‪ُ :‬‬ ‫«كنت قد رأيتهم عند الغسق‪ ،‬ميشون‬ ‫عىل ّ‬ ‫الشاطئ‪ ،‬أو يقفون أمام مداخل البيوت‪ ،‬أو ينظرون‬

‫من النّوافذ‪ ،‬أو يقتفون الحرك َة‬ ‫عش ُ‬ ‫البطيئ َة ّ‬ ‫للظل‪ .‬إ ّنهم ّ‬ ‫اق‬ ‫الحرية‪ ،‬ال هم هنا وال هم هناك‪،‬‬ ‫ال يف الداخل وال يف الخارج‪...‬‬ ‫ني واحد ٍة‬ ‫يستلقون يف أ ّ‬ ‫رستهم‪ ،‬بع ٍ‬ ‫شاخصة وأخرى مغلقة‪ ،‬يأملون‬ ‫باصطياد ال ّلحظة األخرية للوعي‪،‬‬ ‫وأ ّول النوم‪ ،‬ليك يسكنوا أرضاً ال‬ ‫يسكنُها ٌ‬ ‫برش»‪.‬‬ ‫ولعل السمة األبرز يف قصائد سرتاند هي نزوعه للتجريد‪ ،‬ورسم‬ ‫ّ‬ ‫مشاهد إنسانية تلفّها الوحشة‪ ،‬عرب استلهام العبثي‪ ،‬واملفاجئ‪،‬‬ ‫وبخاصة إذا عرفنا أن مواضيعه تركّز اإلحساس الدفني بالعجز‬ ‫أمام صبوات الجسد‪.‬‬ ‫المرايا إذ تبصر‬

‫الكتاب‪ :‬املرايا ال ترى النور‬ ‫الشاعر‪ :‬سعيف عيل (تونس)‬ ‫النارش‪ :‬دار كلمة للتوزيع والنرش (القاهرة)‬ ‫عدد الصفحات‪ 156 :‬من القطع املتوسط‬

‫يكتب الناقد املرصي حسام عبدالعزيز‪،‬‬ ‫عن هذا الكتاب‪« :‬إن املتأمل يف شاعرية‬ ‫سعيف عيل يدرك أنه بالرضورة ال يقرأ‬ ‫شعرا ً أصم‪ ،‬بقدر ما يقرأ تنويعات لغوية‬ ‫ال تحقق دورها الوظيفي‪ ،‬وإمنا يقرأ لوحة‬ ‫تكتمل ألوانها غالبا بريشة من يتصدى لقراءتها»‪.‬‬ ‫لج‪،‬‬ ‫من أجواء الكتاب‪«:‬املرآة للذين ال يعرفون املرايا‪ ،‬بحر ٍ‬ ‫كان قد كتب موجة ال تتكرس إال عىل ردف كتب مدورة‪ ،‬وعىل‬ ‫غصن ينبت حينا وحينا يعود إىل خبئ األرض‪ ،‬ليقيس عىل الربيع‬ ‫ثناياه‪ ،‬و يعلن فسوقه عن الطريق البالغ طرفها صخر ًة مقدم ًة‬ ‫عىل قعر يطري يف أرجائك‪ ،‬ويجوس يف الكالم القادم من قطعان‬ ‫القريض‪ ،‬و من أجساد األشجار املبعرثة بعد زلزال خفيف‪ ،‬لن‬ ‫يكون األمر بسيطا سنعلن أن املرايا مل تقرتف يف كل حياتها غري‬ ‫العمى‪ ،‬و غري املخاتلة‪ ،‬و لعب أدوار رديئة عىل حلبات عروض‬ ‫األزياء‪ .‬املرآة عامء‪ ،‬ال يليق باألسامء وال يثق برسبال الرؤية‪ ،‬و ال‬ ‫يحمل ا َّال عصا بيضاء‪ ،‬يتفقد بها سري الحلم إىل مداره‪ .‬و يقيس‬ ‫عىل الربيع ثناياه‪، .‬فهو املع َّرج عىل كل الترُّ اب»‪.‬‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪13‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫الموروث مقروءا بأدوات الحداثة‬

‫الكتاب‪ :‬لعنات مرشقية‬ ‫الشاعر‪ :‬محمود قرين (مرص)‬ ‫النارش‪ :‬دار األدهم للنرش والتوزيع‬

‫أخطاء القلب البسيطة‬

‫الكتاب‪ :‬أخطاء بسيطة‬ ‫الشاعر‪ :‬مهدي سليامن (البحرين)‬ ‫النارش‪ :‬دار مسعى للنرش والتوزيع‬

‫عدد الصفحات‪ 120 :‬صفحة‬

‫عدد الصفحات‪ 82 :‬من القطع املتوسط‬

‫جاءت‬

‫يف هذا الكتاب يقدم الشاعر محمود قرين تجربة جديدة تستخدم‬ ‫هذه املجموعة الشعرية رابعة ملهدي سلامن‪،‬‬ ‫تقنيات الرسد‪ ،‬وترتكز عىل دراما املشهد الشعري‪.‬‬ ‫يف تسعة عرش نصا توزعت عىل أربعة أبواب‬ ‫الديوان هو الثامن يف تجربة محمود قرين‪ ،‬وهو عبارة عن قصيدة‬ ‫هي‪ :‬صورة ومخدوشة‪ ،‬قطعان الهمس السوداء‪ ،‬كتابة عىل‬ ‫طويلة من ثالثة وأربعني مقطعا تستعيد الرتاث العريب كمرجعية‬ ‫بخار الزجاج‪ ،‬من دون فائدة‪.‬‬ ‫معرفية وروحية يف اآلن نفسه‪ ،‬بعد أن ظل مطرودا ً من فردوس‬ ‫ميكن القول أن هذه املجموعة هي تجربة ذاتية متكاملة‬ ‫النرثية الجديدة التي بدت يف العديد من مفاصلها متهمة بالتغريب حيث يقوم كل نص من نصوصها عىل ثيمة واحدة‪ ،‬هي أمر‬ ‫وباحتقار الرموز الحكائية املوروثة والعمل عىل الخفض من شأنها‬ ‫الذاكرة والقلب‪ ،‬بل هي محاولة لالقرتاب أكرث من القلب ومن‬ ‫تلبية ملعايري ما بعد حداثية‪.‬‬ ‫أخطائه وصواباته يف طريقه ليعرف أكرث‪ .‬وهي من جهة أخرى‬ ‫غري أن اللعنات التي يتوقف أمامها الديوان‪ ،‬ليست إال فردوسا‬ ‫قد اشتغل عليها الشاعر قرابة الثالثة أعوام املاضية كام ألقى‬ ‫وخالل‬ ‫مفقودا يحاول الشعر استعادته‪ ،‬عرب رموز للمعرفة اإلنسانية‬ ‫الشاعر بعضا من نصوصها يف أمسيات متفرقة يف البحرين‬ ‫متثيالت الثقافة الرشقية التي تستقطرها التجربة عرب قصة «األمرية‬ ‫والسعودية وليبيا وفرنسا‪.‬‬ ‫أنس الوجود واألمرية الورد يف األكامم»‪ .‬ويبدو الديوان عبارة عن‬ ‫من نصوص الديوان‪ ،‬ومن أجوائه‪ :‬رمبا هو قلبي ‪ /‬ولكنني‬ ‫منطقة نادرة يف الثقافة الرشقية تحيلها األدبيات املستقرة‪ ،‬السيام‬ ‫لست أذكر ُه هكذا ‪ /‬رمبا نحتت قل َب ُه ٌ‬ ‫مسيح ٌ‬ ‫ُ‬ ‫مريض‬ ‫طفلة ‪ /‬أو‬ ‫ٌ‬ ‫أدبيات االسترشاق‪.‬‬ ‫الغيم‪،‬‬ ‫بذاكر ِة املعجز ِ‬ ‫ات ‪ /‬من الوج ِد أبرأ ُه ‪ /‬هكذا ‪ /‬يشب ُه َ‬ ‫وتتعزز هذه االستعادة بقوة الشعرية املعتدة بطاقاتها الجاملية عرب‬ ‫ُيشب ُه بيتاً من الشع ِر ‪ّ /‬‬ ‫ضل‪ ..‬وملّا يد ِّو ُن ُه بعدُ شاعرهُ‪ / ،‬يشب ُه‬ ‫استكشافات رسدية وتاريخية من خالل صورة األمرية العربية يف ألف‬ ‫الدين» مني‪ / ،‬فأ ّنبني إخويت ‪/‬‬ ‫ليلة وليلة‪ ،‬وكذلك عرب صورتها منترصة ومنهزمة يف الحروب العربية‪ ،‬اسمي الذي ‪ /‬ضاعَ يف «حص ِة ِ‬ ‫البيت من دون ِه ‪ /‬ول ُه ُ‬ ‫حني ُ‬ ‫العواطف‪،‬‬ ‫ذات تأتأيت يف‬ ‫ِ‬ ‫عدت إىل ِ‬ ‫ثم صورتها يف العصور الحديثة عرب مناذج تعبريية متعددة رشقاً وغرباً‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ُ /‬‬ ‫القديم‪ / ،‬ولكنني لست أعرف ُه هكذا»‬ ‫ذات غبايئ‬ ‫ِ‬ ‫وتتداخل وسط هذه الرسديات مناذج معرفية ذات صبغة إنسانية‬ ‫عمقت عالقاتها بالروحية الرشقية‪.‬‬ ‫فواصل للحذف‪..‬‬ ‫شعرية بنعومة آسرة‬ ‫الكتاب‪ :‬فواصل للحذف‬ ‫الشاعر‪ :‬جيتون كلمندي ‪ -‬ألبانيا‬ ‫املرتجمة‪ :‬ياسمني العاين‬ ‫النارش‪ :‬دار رشقيات ‪ -‬مرص‬ ‫عدد الصفحات‪ 238 :‬من القطع املتوسط‬

‫‪14‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫ما يلفت االنتباه يف تجربة كلمندي هو شغفها العميق بالرغبة يف‬ ‫التعبري عن املشاعر اإلنسانية العميقة‪ :‬وما هو مقصود بالشغف‬ ‫هنا أن الشاعر يذهب نحو مالمسة الجزيئ من تلك املشاعر يف‬ ‫تفاصيلها الصغرية‪:‬‬ ‫وها قد جاء وقت ‪ /‬محيرّ كالبهجة ‪ /‬وال أحد ميكن أن مي ّيز بياضه‬ ‫من سواده ‪ /‬مل نستطع أن نجد أنفسنا ‪ /‬وال أن نراها وال حتى أن‬ ‫نلتقي بها ‪ /‬أو رمبا فقدناها»‪.‬‬ ‫يلتصق جيتون كلمندي بالشعر فنكاد ال نلمحه مستغرقاً يف‬ ‫مبارشة واقعية يف صور العيش يف بالده ألبانيا‪ ،‬إذ هو يرسمها‬


‫رغبات ومخاوف‬

‫خنساء اإلمارات تصدر ديوانها األول‬

‫الكتاب‪ :‬مالك مرتدّد‬ ‫الشاعرة‪ :‬رنا زيد ‪( -‬فلسطني)‬ ‫النارش‪ :‬منشورات الدار العربية للعلوم نارشون – بريوت‬

‫الكتاب‪ :‬ارتباك الشمس‬ ‫الشاعرة‪ :‬زينب عامر (االمارات)‬ ‫النارش‪ :‬دار العامل العريب للنرش والتوزيع‬

‫عدد الصفحات‪ 79 :‬من القطع املتوسط‬

‫عدد الصفحات‪ 120 :‬من القطع الصغري‬

‫تكتب رنا زيد‪« :‬أيها الغيم املشتهى كل شتاء ‪ /‬ها أنذا أقرتب ‪/‬‬ ‫ألض َمك ‪ /‬ال تخف ‪ /‬قبلني كورقة خريف ماضية» ‪ .‬يكتب عن ذلك‬ ‫الشاعر راسم املدهون يف يومية الحياة البريوتية‪« :‬تأيت (مجموعة‬ ‫رنا زيد) محتشدة برغبة عارمة يف التكثيف‪ .‬القصيدة عندها تسعى‬ ‫تتأسس عىل ال َرسم‪ ،‬والشاعرة تأيت إىل مجموعتها الشعرية‬ ‫لبنائية َ‬ ‫األوىل وهي تحمل تجربة حيوية يف التجريب الشعري‪َ .‬‬ ‫لعل هذه‬ ‫املسألة بالذات تجعل قصائد رنا زيد «األوىل» تتجاوز كثريا هذه‬ ‫الصفة وتدفعنا للتعامل معها باعتبارها تجربة تحسب لها وعليها‬ ‫بكل املعايري النقدية‪ .‬ويضيف‪« :‬مالك مرتدّد» الفتة عريضة لقصائد‬ ‫«تعبث» يف املساحة الشائكة بني الرباءة مبعناها العام‪ ،‬وبني قلق عارم‬ ‫ال يخفي نفسه بني سطور وجمل الشعر‪ ،‬بل هو يتج َول هنا وهناك ‪،‬‬ ‫فيمنح القصائد ومينحنا معها متعة قراءة قلق جميل»‪.‬‬ ‫ويصف رنا زيد يف «مالك مرتدد» بأنها «ابنة تجربة قصيدة النرث‬ ‫العربية عموما‪ ،‬وهي بهذا املعنى إذ تستفيد من هذه التجربة تنجح‬ ‫يف تحقيق افرتاق بينّ عن مناخات الشعر الفلسطيني «الشائعة»‪ ،‬أما‬ ‫الشاعر هيثم حسني‪ ،‬إذ يكتب عن حضور ثيمة «الوحش»‪ ،‬فيكتب‬ ‫يف القدس العريب اللندنية‪« :‬ال تقف عىل الحياد‪ ،‬وال تقف مبنأى عن‬ ‫صوت›‪،‬‬ ‫تأثريات الوحش واالشتياق الخطر إليه‪ ،‬يف قصيدتها ‹أح ّبي بال ٍ‬ ‫املتوجس بطبيعتها الوحش ّية‪ ،‬وانسكانها بتلك الطبيعة‬ ‫ترصح للحبيب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغرائب ّية»‬ ‫من حدقة أقرب للمخيلة منها للواقع‪ .‬قصائده تنتبه للعميق‪ ،‬أو‬ ‫لتلك املساحة التي تزدحم فيها الذاكرة بالعيش الراهن يف محاكاة‬ ‫شفيفة لألىس‪ ،‬محاكاة تجعل «اليأس» أليفاً ومفع ًام ببهجة ما‪،‬‬ ‫غامضة وتليق بالشعر‪.‬‬ ‫يف «فواصل للحذف» شعرية تأخذ القارئ نحو جدل املحليّ والكوين‬ ‫بنعومة آرسة‪ ،‬فهذا الشاعر األلباين املسكون بحيوية التعبري عن‬ ‫معاناة راهنة يف بالد «محدَدة» وواضحة االسم يحمل يف قصائده‬ ‫روحاً أخرى ال مبالغة يف وصفها بأنها روح إنسانية «عا َمة»‪ ،‬والالفت‬ ‫هنا أن َ‬ ‫كل قصائد املجموعة كتبت يف السنوات القليلة الفائتة‬

‫يحتوي الديوان عىل خمس عرشة قصيدة وزعتها الشاعرة عىل‬ ‫صفحات كتاب بحجم «كتاب الجيب»‪ ،‬تخترص فيها مترد أنثى أغوتها‬ ‫الحرية الفكرية والتحرض بدالً عن التمدّن وبعيداً عن االبتذال‬ ‫واإلسفاف‪ ،‬كام جسدت من خالل قصائدها األسئلة الوجودية املباغتة‬ ‫التي تقتحم الخطوط الحمراء ملجتمع تقوقع عىل ذاته بسسب‬ ‫العادة والعرف بالقياس إىل نظرتها الشمولية لإلنسانية‪ ،‬وحالة من‬ ‫االنتامء إىل العراء املوحش والشاسع‪.‬‬ ‫وقد خصصت زينب عامر يف آخر الديوان مساحة نرثية صغرية‬ ‫باحت من خاللها ببعض رشارات متقلبة املزاج بني الحب والفراق‬ ‫واالنتقام واألسئلة التي ال متلك إجابة عن نفسها‪ ،‬وهي مبثابة رسائل‬ ‫خفيفة للقارئ‪ ،‬تستوجب دواخله من خاللها وتثري فيها ارتباك ما بعد‬ ‫السؤال‪ ،‬أو ما بعد اإلجابة‪.‬‬ ‫«نحن أغبى من أن َ‬ ‫ندرك أننا أذكياء!!» ‪ ..‬هكذا يصدمك غالف‬ ‫الكتاب الخلفي املقتطف من إحدى نرثياتها يف آخر الديوان‪ ،‬لتقف‬ ‫أمام مرآة ذاتك وتتساءل‪ :‬هل نحن أغبياء؟ أم أذكياء؟ أم هي مدارات‬ ‫الغفلة عن ذكائنا أوقعتنا يف دائرة‬ ‫الغباء؟ أم غباؤنا املتعملق الذي يوهمنا‬ ‫أننا أذكياء؟ كام تثري حواس تفكريك‬ ‫وانتامءاتك اإلنسانية يف إحدى قصائدها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫وجدت ‪/‬‬ ‫«متلؤين هبا ًء كالذي أحياه منذ‬ ‫ال أهيل كأهيل ‪ /‬ال الطريق يسري يب ‪ /‬ليس‬ ‫انتهايئ كالذي أبغيه ‪ /‬ال عييش رغيدٌ ‪ /‬ال‬ ‫فق ٌري ‪ /‬ال مدايَ مدايَ ‪ /‬ال التاريخ‬ ‫يغويني ‪ /‬وال ُّ‬ ‫تصيب صوابها»‪.‬‬ ‫كل احتاماليت‬ ‫ُ‬ ‫سبق لزينب عامر أن شاركت يف مسابقة أمري الشعراء ‪ ،2007‬ولقبها‬ ‫د‪ .‬عبدامللك مرتاض بخنساء اإلمارات» وحصلت من املسابقة عىل‬ ‫درع «شاعر اإلنسانية»‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪15‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫الوطن مجازا وجوازا‬

‫الكتاب‪ :‬تشبه وردا رجيام‬ ‫الشاعر‪ :‬فرج بريقدار (سوريا)‬ ‫النارش‪ :‬دار الغاوون‬ ‫عدد الصفحات‪112 :‬‬

‫كتبت قصائد هذا الكتاب يف سجن صيدنايا يف السنني الخمس‬ ‫األخرية من القرن املايض‪ ،‬ويف أجواء ما قبل «ربيع دمشق»‪.‬‬ ‫كتبها وه ّربها لتسبقه إىل حريتها ثم بعد ذلك أفرج عن الشاعر‪.‬‬ ‫يف القصائد الست عرشة نجد السجن يف أبشع حاالته‪ ،‬وأكرثها‬ ‫تكثّفاً‪ ،‬رمبا ألنها يف أكرثها وضوحاً‪ .‬يسأل بريقدار يف إحدى‬ ‫قصائده‪« :‬ملاذا إذن ال أقول الذي ينبغي ‪ /‬أن ْ‬ ‫يقال؟! ‪ /‬أليس‬ ‫الطغاة طغاةً؟ ‪ /‬بىل…‪ /‬واملواعي ُد زرقاء ‪ /‬تدنو سامواتها ثم‬ ‫تغيب»‪.‬‬ ‫تنأى ‪ /‬ولكنها ال ْ‬ ‫تظهر قتامة السجن يف هذه القصائد بقدر الجامل الذي نقرؤه‬ ‫فيها كذلك‪ ،‬إمنا بكل تناقضاتهام‪ ،‬الكتاب ميلء بها‪ ،‬وكل منهام‬ ‫ميعن يف تباعده عن اآلخر‪ ،‬كلّام تجاورا بني األسطر‪ .‬قصيدة‬ ‫«شكوى» قد تلخّص بقرصها مكمن الجامل يف هذه القصائد‪،‬‬ ‫وهو ما يوصلنا إىل مكمن البشاعة يف حياة السجن‪« :‬أحالمي‬ ‫بيضاء ‪ /‬وكم يؤملني ‪ /‬أن أكتبها ‪ /‬يف آخر الليل ‪ /‬بح ٍرب أسودْ»‪.‬‬ ‫كتب بريقدار قصائده يف املعتقل‪ ،‬يف ظروف ال نعرف كيف‬ ‫أ ّمن بها قلامً وورقاً‪ ،‬ثم كيف ه ّربها‪ ،‬ال نعرف شيئاً عن ظروف‬ ‫وحاالت الكتابة‪ ،‬إال أن األوطان تظهر يف أكرث حاالتها نصاعة يف‬ ‫أدب يُكتب يف املعتقالت‪ ،‬هذا إجامالً وهو كذلك هنا‪ .‬فكرة‬ ‫الوطن تختلف من إنسان آلخر‪ ،‬من مثقف وشاعر آلخر‪ ،‬وطاملا‬ ‫أن التسمية تلحق املس ّمى ال تسبقه‪ ،‬سيكون ما نراه من خارج‬ ‫السجن وطناً‪ ،‬سيكون عنواناً ضائعاً‪ ،‬أو محجوباً‪ ،‬عند من يرونه‬ ‫من داخله‪ ،‬ليبحثوا من عندهم عن وطن فقدوه‪ ،‬تاه عنهم‪،‬‬ ‫تنسق كل‬ ‫سيكون خليطاً من ذكريات وخياالت وأمنيات وأفكار ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬فتكون فكرة «الوطن» بأنضج وأجمل حاالتها‪ ،‬وهي التي‬ ‫يجدها املعزول عنها يف املعتقل ‪ -‬كام كان بريقدار ‪ -‬واملنفي‬ ‫منها‪ ،‬كام هو اآلن يف ستوكهومل‪ .‬يختم قصيدة «ربيع ‪»1999‬‬ ‫باآليت‪« :‬فأنا أبحث عن عنوان ضيَّعه الرعيان ‪ /‬وسماّ ه الشعراء‬ ‫مجازا ً وجوازا ً‪ / :‬وطني»‪.‬‬ ‫‪16‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫جائزة «فويل» للشعراء الناشئين‬

‫النارْ ‪ ..‬أسرارُها‪ ،‬وتأمـــ‬

‫باستثناء‬

‫نوبل لآلداب السويدية والبوكرمان‬ ‫االنجليزية والغونكور الفرنسية‪ ،‬وبعض الجوائز األخرى «األقل‬ ‫أهمية» من وجهة نظر عربية‪ ،‬قلّام انشغل االعالم العريب‬ ‫بجوائز أخرى‪ ،‬أو سعى إىل التقيص حول فحواها والهدف‬ ‫منها والحقل االبداعي األديب الذي تنشغل به والجمهور الذي‬ ‫تتوجه إليه وكذلك طريقة دعمها وأساليب تقدميها للمجتمع‬ ‫عرب وسائل اإلعالم وتعزيز دورها الرتبوي أو التثقيفي عىل‬ ‫مدار العام‪.‬‬ ‫من بني هذه الجوائز جائزة لندنية تدعى «جائزة فويل‬ ‫للشعراء الش ّبان» تتوجه إىل الشعراء الناشئني فقط والناطقني‬ ‫باالنجليزية يف كل البالد االنجلوسكسونية فحسب‪ ،‬وتدعى‬ ‫جائزة فويل للشعراء الشبّان ما بني (‪ 11‬إىل ‪ )17‬ويفوز بها أول‬ ‫خمسة عرش شاعر ناشئ – متسابق‪ ،‬تبعا لقرار لجنة ومحكِّمة‬ ‫تتألف بالعادة من شعراء إنجليز معروفني‪ ،‬ويتم إعالن النتائج‬ ‫يف الرابع من كل أكتوبر الذي هو اليوم العاملي للشعر عىل‬ ‫خالف ما أق ّرته اليونسكو يف الحادي والعرشين من كل مارس‪.‬‬ ‫وتتوزع الجائزة عىل فئتني‪ ،‬األوىل منهام‪ ،)31 – 11( :‬وتتم‬ ‫مكافأتهم باصطحابهم إىل مدارسهم أينام كانت يف اململكة‬ ‫املتحدة فيلقون أشعارهم فيها ويع ّرفون أقرانهم بالجائزة‬ ‫صحبة الشعراء املحكِّمني وإدارة الجائزة من ذوي االختصاص‬ ‫الذين يشجعون التالميذ عىل املشاركة يف مسابقة الجائزة بدءا‬ ‫من هذه السن‪.‬‬ ‫أما الفئة األخرية‪ )17 – 14( ،‬فيقيض الفائزون من بني‬ ‫املشاركني يف هذه الفئة أسبوعا مع الشعراء ولجنة التحكيم‬ ‫ضمن ما يعرف ب«كورس إقامة آفرون»‪ .‬إىل ذلك‪ ،‬فإن مئة‬ ‫من املشاركني يف دورة هذا العام عىل سبيل املثال سوف يلقون‬ ‫قصائدهم التي كتبوها مؤخرا يف اليوم العاملي للشعر العام‬ ‫املقبل‪ ،‬أي اليوم الذي سوف ت ُعلن فيه نتائج الدورة املقبلة‪.‬‬ ‫وذلك فضال عن صدور كل تلك القصائد املشاركة يف انطولوجيا‬


‫ـــــالتُها الغاضبة‬

‫وما الكتابة عن هذه الجائزة هنا في‬ ‫«بيت الشعر» سوى دعوة للتورّط‬ ‫في مسابقة عربية شبيهة تأخذ‬ ‫بعين االعتبار التطور الذي طرأ على‬ ‫القصيدة والشعر العربيين‬

‫تحمل اسم «أنطولوجيا»‪.‬‬ ‫وبحسب املوقع االلكرتوين للجائزة فهي فرصة ألي‬ ‫رسع يف تشكيل سرية كتابية له‪ ،‬ومنذ‬ ‫شاعر ناشئ إذ ت ّ‬ ‫نشأتها قبل خمسة عرش عاما استهلت الجائزة السرية‬ ‫الذاتية للبعض من الشعراء الذين ينتمون لألصوات‬ ‫االنجليزية وغري االنجليزية املثرية لالهتامم مثل الشاعرة‬ ‫هيلني مورت التي هي اآلن عىل وشك إصدار مجموعتها‬ ‫الشعرية الثانية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لدورة هذا العام‪ ،‬التي أعلن عن نتائجها يف الرابع من‬ ‫الشهر املايض‪ ،‬شارك سبعة آالف ووثالمثئة شاعر ناشئ‬ ‫من بريطانيا وجميع أنحاء العامل‪ .‬ويف حقلها تعترب جائزة‬ ‫فويل للشعراء الش ّبان املسابقة الشعرية األضخم واألكرث‬ ‫أهمية أيضا بحسب ما هو مشهود لها عىل نطاق واسع‪.‬‬ ‫وحقيقة األمر فإن ما يثري الغرية بحق‪ ،‬ليس وجود هذه‬ ‫الجائزة بحد ذاته‪ ،‬بل هي النتائج التي تتمخّض عنها‪ ،‬إذ‬ ‫يجد القارئ نفسه أمام سيل من الشعر الطفويل املفاجئ‬ ‫إىل درجة اإلدهاش‪ ،‬والربيء إىل ح ّد السذاجة أحيانا‪.‬‬ ‫وما الكتابة عن هذه الجائزة هنا يف «بيت الشعر» سوى‬ ‫دعوة للتو ّرط يف مسابقة عربية شبيهة تأخذ بعني االعتبار‬ ‫التطور الذي طرأ عىل القصيدة والشعر العربيني‪.‬‬ ‫ومن بني هذه النتائج اخرتنا قصيدتني‪ ،‬ال ب ّد وأن الرتجمة‬ ‫قد أفقدتهام بعضا من روحهام الربيئة ‪...‬‬

‫النار تعرف‬

‫جييس رودريجرز ‪ 13‬سنة ‪ -‬الواليات املتحدة‬

‫تعرف النار أرسار الحطب‬ ‫عندما ِّ‬ ‫يدخر تأمالتها الغاضبة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫النار تعرف كيف تدف ُء‬ ‫األيدي الباردة‪ ،‬واألقدام الباردة‪ ،‬والوجوه الباردة‪.‬‬

‫تعرف كيف ُت َر ِّق ُص و ُت َر ِّن ُح‬ ‫َ‬ ‫أصوات الليل‪.‬‬ ‫تعرف النا ُر كيف ُت َغ ُّص وتطقطقُ ُمحدث ًة جلبةً‬ ‫تحديدا‪ ،‬عندما َ‬ ‫أنت ال تريدها‬ ‫أخريا‪ ،‬وليس آخرا‪ ،‬تعرف النا ُر كيف متوت‪ ،‬وكيف تزدهر‬ ‫وكيف تلتهب؛ وتعشق‪ ،‬وكيف تكون جمر ًة تغم ُز‬ ‫ثم باردة ومتحجرة ومسو َّد ًة وصامتة‪.‬‬

‫اإلطار‬

‫سونيا مور‪ 16 ،‬سنة ‪ -‬انجلرتا‬

‫صورة‪ ،‬ما تزال فوق النافذة البيضاء‬ ‫تجمع جديلتي الصبية إىل ابتسامتها‬ ‫القوية وال َي ِقظة‪ ،‬يف اإلطار املعدين‪.‬‬ ‫نوم أختها‬ ‫إنها تنظر إىل األسفل؛ إىل شكلِ ِ‬ ‫الذي ّ‬ ‫ظل صيفا وشتاء عىل حاله يف الفصول كلها‪.‬‬ ‫أسمع ضحكتَها‪،‬‬ ‫املرصع بالنجوم‪ُ ،‬‬ ‫ورغم الزجاج ّ‬ ‫رقيق ًة وهادئ ًة‪ ،‬كالتي يل؛‬ ‫إنها تركب الريح‪ ،‬وتناديني باسمي‪.‬‬ ‫ّس‪ ،‬فوق النافذة‪،‬‬ ‫أبق ْي ُت هذا‬ ‫َ‬ ‫الرضيح املقد َ‬ ‫ما زال عبارة رسمدية‪،‬‬ ‫بظهرها الذي إىل الغرب‪ ،‬ولهبها الذي يحترض‪.‬‬ ‫يجد القارئ نفسه أمام سيل من الشعر الطفويل املفاجئ‬ ‫إىل درجة اإلدهاش‪ ،‬والربيء إىل ح ّد السذاجة أحيانا‪ ،‬لكن‬ ‫الخلو من الصنعة إال ما ندر‬ ‫بيت الشعر‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪17‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫سالم أبو جمهور‬

‫يرسم لوحته بريشة الكالم‬

‫من‬

‫من يقرأ للشاعر سامل أبو جمهور ديوانه‬ ‫األخري «رسام األمرية» الصادر عن اتحاد كتاب‬ ‫وأدباء اإلمارات ووزارة الثقافة والشباب وتنمية املجتمع‪،‬‬ ‫يذهب بعيدا يف تخيّل شخصيته‪ ،‬وليس قوله أو قصائده‬ ‫فقط‪ ،‬ويجد أنه عفوي لدرجة أنه ال يخفي عبارة خلف‬ ‫ِّذب أو ننقلب عىل‬ ‫أخرى‪ ،‬وصادق لدرجة تجعلنا نُك ُ‬ ‫مقولة «أعذب الشعر أكذبه»‪ .‬فهو ال يستهوي محسنات‬ ‫اللغة‪ ،‬وال يشغل نفسه بالبحث عن ألفاظ أو تراكيب من‬ ‫قاموس جديد‪ ،‬بل يقول عبارته كام هي‪ ،‬طازجة وصافية‪،‬‬ ‫تلتحف الصدق والعاطفة التي متيز أبو جمهور شاعرا‬ ‫وإنسانا‪ ،‬ويراه يهبط من عىل سلم القصيدة عىل مهله‬ ‫ليقول يف خامتتها حكمته أو مفارقته التي تحمل املعنى‬ ‫والقصيدة بيد واحدة ‪.‬‬ ‫هناك من يقول إن الشاعر»شاع ٌر حتى يف تقليم أظافره»‪.‬‬ ‫هذه املقولة تحيل إىل فهم صفة «الفارس» أيضا بطريقة‬ ‫مختلفة بعيدا عن الفهم السائد‪ ،‬إذ مل تكن تطلق قدميا‬ ‫عىل من يجيد ركوب الخيل‪ ،‬بل عىل من يتحىل مبكارم‬ ‫األخالق والشجاعة والنخوة‪ .‬وقياسا عىل ذلك‪ ،‬ميكن القول‬ ‫إن الشاعر أيضا ليس من يتقن نظم الكالم شعرا‪ ،‬بل من‬ ‫يستطيع أن يكون شاعرا بكل حاالته‪ ،‬شاعرا يف جلسته‪،‬‬ ‫وشاعرا يف مشيته‪ ،‬وشاعرا يف نظرته‪ ،‬وشاعرا حني يقول‬ ‫ويتحدث ويعيش ‪.‬‬ ‫سامل أبو جمهور من فصيلة الشعراء هذه‪ ،‬الذين نتلمس‬ ‫يف كل قول وترصف لهم‪ ،‬صورة الشاعر وهيئته وهالته‪.‬‬ ‫وهو الذي شرَ ِب بداوته من فنجان الصحراء‪ ،‬ووضع‬ ‫دالله عىل طاولة القول‪ ،‬لتفوح منها رائحة األصالة والهال‬ ‫املقفّى‪.‬‬ ‫الحرب‬ ‫إين أكر ُه‬ ‫َ‬ ‫وال أعشقُ ذكراً للنّضالِ‬ ‫‪18‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫فتعالوا‬ ‫يك أرى وج َه الرجالِ‬ ‫ُ‬ ‫الخوف سهواً‬ ‫رمبا يستيقظ هذا‬ ‫من خيايل !‬ ‫بهذا اإليقاع يرسم صوت قصيدته‪ ،‬فهو شاعر مولع باملوسيقى‪،‬‬ ‫لذلك نجد قوافيه تسبق نفسها إىل كل سطر‪ ،‬لتل ّحن القول‪،‬‬ ‫وتستدرج السامع أو القارئ إليها دون عناء‪ .‬وبالرغم من كون‬ ‫ذلك قد يعترب ميزة للشاعر‪ ،‬إال أنه يف مواضع أخرى قد ال‬ ‫يخدمه‪ ،‬خصوصا عندما يعلو وقع اإليقاع عىل صوت الفكرة‬ ‫واملعنى ‪.‬‬ ‫هذا اإليقاع‪ ،‬أجاده الكثري من الشعراء‪ ،‬الذين اخترصوا املسافة‬ ‫بني القصيدة والجمهور‪ ،‬عندما قدموا لهم الكالم عىل طبق‬ ‫الشعر البسيط وغري املتكلف‪ .‬كذلك فعل نزار قباين ومظفر‬ ‫النواب وغريهام يف الكثري مام قدموه من قصائد ظلت تحايك‬ ‫نبض الشارع بلغة سهلة وتعابري مبارشة يف وصفها ودالالتها‪.‬‬ ‫ويف «رسام األمرية» يسري أبو جمهور عىل ذات تلك الطريق‪،‬‬ ‫التي تبدو مساراتها واضحة وبيّنة‪ ،‬وال تحتاج إىل بوصلة أو‬ ‫الفتات إرشادية عريضة‪.‬‬ ‫هكذا تبدو قصيدة أبو جمهور‪ ،‬خفيفة الظل‪ ،‬تجر نفسها‬ ‫بنفسها إىل حيث يريد الشاعر‪ .‬تراقب األشياء من حولها‪،‬‬ ‫لتقتنص الواقع بعدسة الشعر‪ ،‬وتحمله كام هو‪ ،‬لتوصله إىل‬ ‫القارئ صافيا‪ .‬كام ال يضيع أبو جمهور يف قصيدته فرصة‬ ‫للسخرية‪ ،‬أو التهكم‪ ،‬وال يرىض إال أن يرسم ابتسامة يف ذهن‬ ‫اآلخر املتلقي ‪.‬‬ ‫بالرســم حتى تســــمعي‬ ‫ال تقنعي‬ ‫ِ‬ ‫صوت الجامل يسيل من فرشايت‬ ‫ٌ‬ ‫صامت‬ ‫لــــن يرتقـــي بالفــن فـنٌّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫باألصـــوات‬ ‫األلـــوان‬ ‫يخلـــط‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫الشعر هو رسم أيضا‪ ،‬هذا ما يريد قوله الشاعر يف هذين‬


‫الكتاب‪ :‬رسام األمرية‬ ‫الشاعر‪ :‬سامل أبو جمهور (اإلمارات)‬ ‫النارش‪ :‬اتحاد كتاب وأدباء اإلمارات ‪-‬‬ ‫وزارة الثقافة والشباب وتنمية املجتمع‬ ‫عدد الصفحات‪ 168 :‬من القطع‬ ‫املتوسط‬

‫البيتني‪ ،‬وهو يحيلنا إىل عنوان مجموعته الشعرية «رسام‬ ‫رسام بالرضورة‪ ،‬ولكنه ال يرسم بريشة‬ ‫األمرية»‪ ،‬فالشاعر ّ‬ ‫األلوان‪ ،‬بل بريشة الكالم‪ .‬يشري إىل ذلك الشاعر عبدالله‬ ‫السبب يف تقدميه للمجموعة حيث يقول ‪»:‬للشاعر ريشة‬ ‫ال ميلكها الفنان التشكييل ذاته‪ ،‬وللشاعر حبكة إبداعية‬ ‫ليست للقاص أو الروايئ أو املرسحية أو السيناريست‬ ‫نفسه‪ ،‬والشاعر يستطيع أن يكون كل أولئك‪ ،‬وأن يكون‬ ‫حالة درامية تكنيكية عالية‪ ،‬فهو املايسرتو بجملته‬ ‫الشعرية الساحرة وهو السيناميئ بلقطته الغريبة األطوار‬ ‫واألطوال‪ ،‬وهو فالح القصيدة بكل حذافريها واحافريها‬ ‫وأساطريها وواقعيتها»‪ .‬مضيفا بعد ذلك ‪»:‬أبوجمهور هو‬ ‫ذلك الشاعر الذي يدرك متى يرسم قصيدته‪ ،‬ومتى يكتب‬ ‫لوحته‪ ،‬ومتى ميرسح صورته»‪.‬‬ ‫هي لوحة الكالم إذا‪ ،‬يلونها الشاعر بكل ما ميكنه أن‬ ‫يتحفها بالبهاء والضوء والصوت‪ ،‬ليعلقها عىل أسوار‬ ‫الشعر‪ ،‬وينصف الفن والذائقة معا ‪.‬‬ ‫أبو جمهور يف هذه املجموعة‪ ،‬يبدو شاعرا غري أناين‪،‬‬ ‫فهو يبتعد عن هموم الذات‪ ،‬ويقرتب كثريا من الهم‬ ‫العام‪ ،‬متحدثا عن قضايا اجتامعية عديدة‪ ،‬تفرس لنا ذلك‬ ‫«اإليثار» املاثل يف عدد من قصائد هذه املجموعة‪ ،‬ومنها‬ ‫قصيدة «صحوة الطفل» التي يصف فيها براءة الطفل‬ ‫وكنوزه الفقرية ‪..‬‬ ‫أسياد ٌة للطفل غري براءته ‪..‬‬ ‫أقضية للطفل غري طفولته ‪..‬‬ ‫ال ريب فالدنيا العريضة‬ ‫ال تساوي قطع ًة من لعب ِته‬ ‫كام يتميز يف هذه املجموهة بخضوعه لسلطة الواقع‪،‬‬ ‫وعدم ابتعاده عن محيطه‪ ،‬لذلك نلمس يف شعره ذلك‬ ‫الصدق‪ ،‬وتلك العفوية التي تتسلل كثريا إيل سطوره‬

‫وتتسلق أسوارها لتفرض حضورها يف مساحات القصيدة‬ ‫وطقوسها‪ .‬وكأن الواقع هو وقود النص الشعري‪ ،‬والدليل‬ ‫الذي يتبعه الشاعر ليقبض عىل مطلع قصيدته ثم يكتبها‬ ‫بقلمه ولكن بصوت اآلخرين عندما يتعلق األمر بحدث أو‬ ‫قضية تعني الجامعة ال الفرد فقط ‪.‬‬ ‫هذه الفوارق‪ ،‬ال نجدها يف «رسام االمرية» حرصا‪ ،‬بل يف‬ ‫معظم ما أصدره أبو جمهور عرب مسريته الشعرية التي‬ ‫توجها قبل هذا العمل كام ذكرنا بتسع مجموعات منها‬ ‫«روائح النور‪ ،‬تصاريح‪ ،‬دكان أمني‪ ،‬جرس الزجاج‪ ،‬مالعب‬ ‫البالون‪ ،‬رجايئ» وغريها‪ .‬فقد ظل سامل مخلصا لواقعه دون‬ ‫أن يخرج عنه أو يتمرد عليه‪ .‬يرتقبه وينهل منه فكرته‬ ‫يحب هو ‪..‬‬ ‫ليصوغ املعنى كام ّ‬ ‫صورة التاريخ تزداد خياال‬ ‫يف عيون اليوم‬ ‫ال تبدو حقيقةْ‬ ‫ُ‬ ‫قلت ‪:‬‬ ‫جئت غريباً‬ ‫يا هذا رجا ًء عد كام ِ‬ ‫َ‬ ‫أنت ده ٌر‬ ‫وأنا كليّ دقيقةْ‬ ‫إن للشاعر قدرة عجيبة عىل استيعاب كل ما يدور حوله يف‬ ‫مساحة صغرية‪ ،‬ولكنها يف نفس الوقت‪ ،‬ذات دالالت واسعة‬ ‫تعلو وتبتعد‪ ،‬وتلملم ما تريده يك تجمع نفسها وتتوالد‬ ‫قوال وشعرا‪ .‬هنا‪ ،‬نشري إىل قدرة أبو جمهور عىل استيعاب‬ ‫ما حوله‪ ،‬غري آبه بالتعبري عنه بحرفية شعرية عالية‪ ،‬النه‬ ‫الحريص عىل حضور عبارته وإن مل ت ُج ّمل كثريا‪ ،‬فهو يسعى‬ ‫لقول ما يريد‪ ،‬بعيدا عن التكلف والعناء والحفر عميقا يف‬ ‫أرض الكالم‬ ‫عبدهللا ‪...‬‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪19‬‬


‫شعر وشعراء‬ ‫الهواء ثلثا زجاجتي‬

‫تاريخ شخصي من الشعر‬ ‫الكتاب‪ :‬الهواء ثلثا زجاجتي ‪ ..‬وندميي البحر‬ ‫الشاعر‪ :‬حنا حيمو (سوريا)‬ ‫النارش‪ :‬دار نون للنرش والتوزيع ‪ -‬رأس الخيمة (االمارات)‬ ‫عدد الصفحات‪ 132 :‬صفحة من القطع املتوسط‬

‫توج‬

‫شاعرية القول ومضمونه بالتساوي‪ .‬إال أن القصائد تتنوع‬ ‫الشاعر السوري املقيم يف العاصمة السويدية‬ ‫أيضاً يف موضوعاتها‪ :‬فتتوزع ما بني التأمل‪ ،‬والعبث‪ ،‬والتوق‪،‬‬ ‫ستوكهومل حنا حيمو مسريته مع الشعر مبجموعة‬ ‫والشوق‪ ،‬واستحضار الذاكرة والحالة اإلنسانية بتأمالت‬ ‫شعرية صدرت مؤخرا ً عن دار نون للنرش والتوزيع يف إمارة‬ ‫يرافقها وفاؤه ألصدقائه الذين تأثر بهم وتأثروا به‪.‬‬ ‫رأس الخيمة‪ ،‬انحاز فيها لقصيدة النرث بعد مسرية طويلة مع‬ ‫قصيدة التفعيلة‪ ،‬مشتملة عىل ثالثِة وثالث َني نصاً شعرياً تنتمي ويف قراءته للمجموعة يقول الشاعر والناقد سعد اليارسي‬ ‫جميعا لقصيدة النرث‪ ،‬فاتحاً َ‬ ‫تحت عنوان‪« :‬سادن الريح»‪ ،‬بأن حيمو «اعتم َد عىل مقدر ٍة‬ ‫بذلك طريقاً جديدا ً له مع قصيدة‬ ‫والسينام‬ ‫النرث التي هي بالنسبة إليه أكرث رحاب ًة وأقل قيودا‪.‬‬ ‫بَرصيَّ ٍة الفت ٍة‪ ،‬وهو َمدي ٌن للفوتغراف (ثابتًا) ِّ‬ ‫بعض بُنى قصائد ِه؛ مجته ًدا يف الوفاءِ‬ ‫(سيَّالةً) يف اجرتا ِح ِ‬ ‫و«الهواء ثلثا زجاجتي ‪ ..‬وندميي البحر» هو أيضاً باكورة‬ ‫ِ‬ ‫نص ال َّنرث دون استغراقٍ يف منط َّي ٍة سائد ٍة‬ ‫كتابة‬ ‫لتقنيات‬ ‫الدار‬ ‫إصدارات دار نون للنرش والتوزيع‪ ،‬والتي استكملتها‬ ‫ِّ‬ ‫حسب لهُ»‪.‬‬ ‫مبجموعة من اإلصدارات لعدد من الكتاب والشعراء‪.‬‬ ‫ومنفِّر ٍة‪ ..‬وذا مماَّ يُ ُ‬ ‫ويضيف اليارسي كذلك بأن الشاعر قد «سعى يف عناوين‬ ‫انكتبت القصائد يف االغرتاب السويدي وتحديدا ستوكهومل ما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ولعل التلقائيَّ َة‬ ‫الحفاظ عىل خصوصيَّ ِة املتونِ ‪َّ ،‬‬ ‫القصائد إىل‬ ‫بني العامني ‪ 2011‬و‪.2012‬وميكن القول أنها تنتمي إىل التأمالت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫خدمت القارئَ –‬ ‫الباديَّة يف نحت بعض هذه العناوينِ قد‬ ‫الشعرية املكثفة‪ ،‬املتميزة‪ ،‬مبعنى أنها ليست مجموع ًة من‬ ‫ْ‬ ‫قبل غري ِه – يف ال ُّدخو ِل إىل عا ِمل ح َّنا ِحيمو دو َن كثريِ عنا ٍء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫النصوص الشعرية القامئة عىل رؤية مغايرة للواقع‪ ،‬بل هي أكرث‬ ‫وندميي البح ُر»‬ ‫كام جاء عنوان العملِ «الهوا ُء ث ُلثا زجاجتي‪..‬‬ ‫تحمل الكث َري من الرؤى الفلسفية التي استطاع‬ ‫من ذلك‪ ،‬فهي ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫كيب‬ ‫الشاعر أن ينسجها يف بناء القصيدة بطريقته الخاصة ما جعلها ثريًّا متوافقًا مع‬ ‫اشتغاالت الشَّ اع ِر يف اقتفا ِء أث ِر الترَّ ِ‬ ‫امل ِ‬ ‫ُفرط الحساسيَّ ِة؛ والذي عاد ًة ما يكو ُن جمل ًة اسميَّ ًة –‬ ‫مختلفة برؤيتها ولونها وفرادتها‪ ،‬إذ يحرض الرمز التاريخي‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يزيح امل َعنى إىل نقيضه أو‬ ‫والفلسفي بقوة يف نسيج القصائد‪ ،‬مانحاً إياها جاملي ًة عالية مل إخباريَّة ‪ -‬ال َ‬ ‫طلب ُ‬ ‫فعل فيها‪ ،‬وال ٌ‬ ‫ِ‬ ‫تأت عىل حساب شاعرية النص أو انسيابيته‪ ،‬بل إضافة جاملية إىل حدو ِد نهائيت ِه»‪.‬‬ ‫ويؤكد أن ح ّنا حيمو يف ديوان ِه األ َّو ِل «بالغِ الج ِّديَّ ِة «الهوا ُء‬ ‫رغم التكثيف العايل يف شكل النص وتكنيك بنائه وكتابته‪.‬‬ ‫وندميي البح ُر»؛ يعل ُن عن ِشعريَّ ٍة نابض ٍة‪،‬‬ ‫ث ُلثا زجاجتي‪..‬‬ ‫هكذا‪ ،‬ميكن وصف املجموعة الشعرية األوىل لحيمو بأنها‬ ‫َ‬ ‫شخيص‬ ‫ونص وع ُد ُه الخصوبةُ‪ .‬مث َّ َة تاري ٌخ‬ ‫حملت خصوصية ذاتها‪ ،‬حيث امتلك صوته الخاص الذي‬ ‫وتلقائيَّ ٍة سائل ٍة‪ٍّ ،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ٍ‬ ‫أيضً ا‪ ،‬ورصا ُع ذاكرة‪ ،‬وراحلونَ‪ ،‬وحارضو َن سريحلونَ‪ ،‬وباقو َن‬ ‫ميزه‪ ،‬فيبدو شاعرا ً واثقاً من أفكاره ورؤاه وأدواته‪ ،‬وكذلك‬ ‫برزت مقدرته عىل توظيف الصور واالستعارات وأحياناً الطباق حتَّى ال ِّنهاي ِة‪ ..‬هؤال ِء كلُّهم مثَّلوا شهاد َة الشَّ اع ِر عىل نفس ِه‬ ‫املحموم ِة‬ ‫والجناس‪ ،‬ما جنب الكثري من القصائد رتابة الوصف والرسد‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫برضوب القلقِ ؛ وهل الشِّ ع ُر إالَّ قلقُنا ال َّناف ُر؛ كورمٍ‬ ‫ينحاز الشاعر بشكلٍ واضح ملضمون القصيدة وبنائها الفكري‬ ‫يف ال ُّرو ِح‪ ..‬كورمٍ َجميل!»‬ ‫عىل حساب املوسيقى الشعرية التي تحرض أيضاً يف مواض َع‬ ‫ّ‬ ‫عدة‪ ،‬بحيث أنها تش ُري إىل شاع ٍر متمكنٍ من أدواته‪ ،‬ويزاوج بني‬ ‫مهند صالحات‬ ‫‪20‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫أعالي القرنفل‬

‫االحتفاء بالمكان‬ ‫ومعجمه البصري‬ ‫الكتاب‪ :‬أعايل القرنفل‬ ‫الشاعر‪ :‬يوسف املحمود (فلسطني)‬ ‫النارش ‪ :‬األهلية للنرش ‪ -‬عامن واالتحاد العام للكتاب‬ ‫واألدباء الفلسطينيني‬ ‫عدد الصفحات‪ 188 :‬من القطع املتوسط‬

‫ملَن‬

‫هذا الصدد‪« :‬يقدم لنا يوسف املحمود ما ميكن تسميته شعرا‬ ‫يطل‪ ،‬ولو نسبيا‪ ،‬عىل التجارب الشعرية‬ ‫قُ ّدر له أ ْن ّ‬ ‫فسيدرك‬ ‫كتب‪،‬‬ ‫أو‬ ‫قصائد‬ ‫يف‬ ‫املحمود‬ ‫ليوسف‬ ‫السابقة‬ ‫حسيا عىل فالحة العامل وتذ ّوقه والولوج فيه‬ ‫‬‫يشتغل‬ ‫ريفيا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أي ح ّد تطورت تجربة هذا الشاعر الذي بدا مفاجئا ومباغتا‪ ،‬بوصفه امتدادا للجسد‪ .‬وتحرض الطبيعة مبعجمها البرصي‬ ‫إىل ّ‬ ‫إذ أحدث قطيعة معرفية بالكامل مع إرثه الشعري السابق‬ ‫الهائل الذي يح ّول الوجود إىل نشيد إنشاد‪ ،‬ويرفع املكان عاليا‬ ‫تهب عليه ليؤسس لصوته الخاص عرب‬ ‫واملؤثرات التي كانت ُّ‬ ‫كحلم تتحرك فيه األرض كإله ٍة أ ٍّم يف عقيدة خصب»‪ ،‬يتجلىّ‬ ‫حفر شعري يجمع تأمالته الخاصة بالحياة والوجود إىل املشاغل ذلك يف طريقة استخدامه ملفردات الحياة اليومية الريفية‬ ‫الجاملية التي بات ينشغل «الشعر الفلسطيني الراهن» بها‪،‬‬ ‫وتجليتها لتقع يف القصيدة متاما كام يقع الحلم يف منام‪ ،‬رمبا‬ ‫دون تقديم أية تنازالت معرفية أو حدسية‪ ،‬إذا جاز التوصيف‪ ،‬ألنها تحمل ذاكرة قدمية وروائح‪.‬‬ ‫باتجاه شكل شعري آخر للقصيدة‪ ،‬هو الذي بدأ بالقصيدة‬ ‫بهذا املعنى ميكن للقارئ أ ْن يضيف بدوره إىل ما قال الشاعر‬ ‫وظل وفيّا لها حتى اآلن‪:‬‬ ‫املوزونة ‪ -‬التفعيلة ‪ّ -‬‬ ‫أبو شايب‪ ،‬أن هذا القول الشعري يف «أعايل القرنفل» يتغزل‬ ‫أريد تلك الوردة ‪ /‬أشتهي أن أطعنها ‪ /‬لو بقلبي ‪ /‬أو بفمي‬ ‫بهذه التفاصيل الريفية اليومية مثلام تتغزل كامريا بتفاصيل‬ ‫املتي ّبس كمنقار الطري‪ / .‬أشتهي أن أرى دمها ‪ /‬يفور بني يديّ معشوقة تكاد تعرى‪.‬‬ ‫‪ /‬ألشم رائحة القش والرتبا والكواكب ‪ /‬أريد أن أطعنها ‪/‬‬ ‫خاصة وأ ّن الشاعر املحمود يستفيد من موروث الحكايا القدمية‬ ‫حتى أرى مطلع الشمس يف عنقها ‪ /‬أريد تلك الوردة»‪.‬‬ ‫التي كانت سائدة يف الريف الفلسطيني‪ ،‬ولو عىل نحو موارب‪،‬‬ ‫لقصيدة يوسف املحمود يف «أعايل القرنفل» اتصال ب‪« :‬حداثة» فيخلّصها من فائض الرسد ويُدخلها إىل مطهره الشعري الخاص‬ ‫الشعر العريب بل وب«حداثة» نرثه أيضا‪ ،‬و َم ْن الكتاب سوف‬ ‫لتخرج من الجهة األخرى مبللة بالندى‪ ،‬إذا جاز التوصيف‪.‬‬ ‫يُدرك اتصال القصيدة بالنرث العريب بنامذجه الراقية‪ ،‬كالكتاب‬ ‫فالطبيعة هنا‪ ،‬قصيدة يوسف املحمود‪ ،‬هي امتداد ملشهد كوين‪،‬‬ ‫الكريم ونرث أيب ح ّيان التوحيدي إىل جوار قراءته العميقة للشعر‬ ‫إمنا كام لو أنه قد غ ُِسل مباء شتوة أوىل م ّرت به للت ّو‪:‬‬ ‫العريب املعارص‪ ،‬إىل ح ّد أنه بهذا املعنى‪ ،‬فإن «أعايل القرنفل»‬ ‫«هذا اسمها ‪ /‬املكتوب بالنايات ‪ /‬والخرز املل ّون والنشيد ‪/‬‬ ‫هو كتاب مصنوع عن وعي شعري رصني ووعي شخيص بالشعر‪:‬‬

‫اليو َم أعرف كم ع َّ‬ ‫يل ‪ /‬بأن أهاجر يف الجنون ‪ /‬وكم ع ّ‬ ‫يل بأن‬ ‫أعنّي ‪ /‬تعال أعنّي ع ّ‬ ‫يل ‪ /‬وخذ كل ما ّ‬ ‫ظل مني ‪ /‬تعال كام‬ ‫أنت ‪ /‬بالورد والطيب والخمر‪ / ،‬واليوسف الحسن‪ / ،‬ثم تعال أسري عىل املياه ‪ /‬ليك أغادر تأتآيت ‪ /‬حني أذكره أمام البحر ‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والتفاح‪ / .‬كم دارت األشجار فيه ورددته الكواكب ‪َ /‬‬ ‫خوف‬ ‫وكنّي»‪.‬‬ ‫واالفت لالهتامم يف هذه التجربة أيضا‪ ،‬هي أن الشاعر يوسف الذبول واالنطفاء كم أسبلت أجفانها األنهار ‪ /‬بني حروفه‬ ‫وتوسلت ‪ /‬يك تتقن الرقص املخاتل والغناء»‬ ‫املحمود ال ينهل «مادة» قصائده من قراءاته املتعدد فحسب‪،‬‬

‫إمنا يالحظ املرء أن هناك حضورا للبيئة واملكان الفلسطينيني‪،‬‬ ‫فيكتب الشاعر زهري أبو شايب عىل الغالف األخري للكتاب يف‬

‫بيت الشعر‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪21‬‬


‫شعر وشعراء‬ ‫مقعد وجدار‬

‫الشارع ونبضه‬

‫الكتاب‪ :‬مقعد وجدار‬ ‫الشاعرة أمينة العدوان (األردن)‬ ‫النارش‪ :‬دار أزمنة للنرش والتوزيع‬ ‫عدد الصفحات‪ 110 :‬من القطع املتوسط‪.‬‬

‫بقصائده‬

‫التي جاءت قصرية جدا ومكثفة تنترص‬ ‫الشاعرة أمينة العدوان للحياة يف مواجهة‬ ‫املوت‪ ،‬ومتجد الحرية يف مواجهة األرس‪ ،‬وترصد االنتهاكات التي‬ ‫تعرض لها األرسى والظروف الالإنسانية التي مروا بها‪ ،‬سواء‬ ‫وهم يف العزل االنفرادي‪ ،‬أو تحت التعذيب يف أبشع األمكنة‪،‬‬ ‫وترى فيهم الهوية‪ ،‬والعلم‪ ،‬والكوفية‪ ،‬واملقاومة التي تحول دون‬ ‫ضياع الوطن‪ ،‬واألجنحة التي تحول دون تكسرّ األفق‪ ،‬واألمن يف‬ ‫وقت الخطر‪ ،‬والحب الذي يهزم اإلرهاق‪ ،‬والحياة مقابل املوت‬ ‫واالحتالل واالقتالع واالغتيال‪ ،‬وتحيي قدرتهم عىل تجاوز املوت‬ ‫البطيء واالغتيال املقصود‪.‬‬ ‫يقول األسري يف شعر أمينة العدوان‪« :‬أصوم ضد موت وعبودية‪،‬‬

‫‪ /‬ووحدها الحرية‪ / ،‬أعلنت غضبها‪ / ،‬وأسمع رصختها‬ ‫اآلن»‪ ،‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬تضع العدوان يف شعرها من الجامليات‬

‫الفنية ما يدفع قارئها للتأويل يك يدرك ما وراء كلامتها فتقول عن‬ ‫صيام األرسى تحت عنوان‪« :‬مائدته طعامها كالجوع»‪:‬‬

‫«أصوم ‪ 77‬يوما‪ / ،‬أسمع السجان‪ / ،‬يقلد صوت املضغ»‪/ ،‬‬ ‫يف املعتقل‪ / ،‬وجوه صامدة‪ / ،‬رافضة‪ / ،‬مرهقة من النظر‬ ‫طويال‪ / ،‬يف مرآة السجان»‪ .‬بل وتضيف‪« :‬أهو الذي حمل‬ ‫بحار الوطن‪ / ،‬وأنهاره‪ / ،‬قامتُه‪ ،‬أكرث اتساعا‪ :‬من ضيق‬ ‫الزنزانة»‪ ،‬وعن «العزل االنفرادي» تقول‪« :‬أصوم‪ / ،‬أحارب هذا‬ ‫االختناق‪ / ،‬الجدار سامء‪ / ،‬هواء‪ / ،‬هواء»‪ ،‬بل إنها تسرتجع‬ ‫مبدعي املقاومة وشهداءها وتربط بينهم وبني األرسى‪ ،‬فتقول‬ ‫تحت عنوان‪« :‬غسان كنفاين»‪« :‬أسمع رصختنا‪ :‬ضد كائنات‬

‫تذوي‪ / ،‬يف عزلة وصمت املقربة‪ ،‬أسمع ‪ /‬رصختي‪ ،‬وأنظر‪،‬‬ ‫يدنا تدق الجدار»‪.‬‬

‫وكان يوم األرض من أبرز املناسبات الوطنية الفلسطينية التي‬ ‫توقفت عندها الشاعرة‪ ،‬أشادت بردود الفعل العربية يف مواجهة‬

‫‪22‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫االحتالل وقالت عن «املسرية املليونية يف يوم األرض»‪« :‬الوطن‬ ‫يسري‪ / :‬ترسانة أسلحة‪ / ،‬من البرش»‪ ،‬وترى يف الربيع العريب‬ ‫صوت الوطن العريب املقاوم الذي يعلو ويتقدم بالعريب ويدفعه‬ ‫إىل األمام‪ ،‬ويحول دون تفتيته‪ ،‬تقول يف قصيدة حملت العنوان‪:‬‬ ‫«تقسيم املدن العربية»‪ :‬لليد العربية الواحدة‪ / ،‬أن ال تقطع‬

‫أصابعها‪ / ..‬هناك يف هذه املدن العربية‪ / ،‬التي تقسم إىل‬ ‫شوارع وأحياء‪ / ،‬صفحات تضع كتاب تاريخ واحد‪ / ،‬أوراقا‬ ‫ضد التمزيق»‪.‬‬ ‫ويف الديوان‪ ،‬أيضا‪ ،‬قصائد تجمع بني الخاص والعام‪ ،‬قصائد ترى‬ ‫يف األب الراحل رمزا للشموخ والعنفوان‪ ،‬تقول يف قصيدة أخرى‬ ‫بعنوان «إىل أيب»‪« :‬جبال عاليا‪ / ،‬أحاول‪ / ،‬أن أصعد إليه»‪ ،‬ثم‬ ‫تسرتجع عباءته ملا فيها من دالالت عز وكربياء وحنان‪ ،‬وترى يف‬ ‫رحيل األم حرمانا من الطأمنينة والسكينة واأليام الجميلة التي‬ ‫كانت تحظى بها يف حياتها‪ ،‬وتتوقف عند الفراغ الذي أحدثه‬ ‫فقدها‪ ،‬واألمل الذي انعكس عىل كل يشء يف وجودها‪ .‬تقول يف‬

‫«أمي هي الغالية‪« :‬كل قدوم لها‪ / ،‬فرح يطري يب‪ / ،‬إىل‬ ‫األعىل‪ / ،‬كأنني أجنحة»‪.‬‬

‫يبقى القول أن لغة أمينة العدوان يف «مقعد وجدار» هي لغة‬ ‫شعرية واضحة وسهلة وليست عسرية عىل مخيلة التلقي‪ ،‬بالطبع‬ ‫كام هي حال لغتها يف أعامل سابقة‪ ،‬لكنها هنا‪ ،‬وبسبب هذا‬ ‫الدفق الج ّيش من املشاعر االنسانية أكرث دفئا مثلام أنها أكرث‬ ‫حزنا إىل ح ّد أنه ال مبالغة يف القول بأن هذه اللغة يشعر القارئ‬ ‫بصدى الكلامت التي ترتدد يف مخيلة التلقي‪.‬‬ ‫ورمبا ألن تجربة العدوان مل تحظ باهتامم نقدي يف األردن‪ ،‬فهي‬ ‫نادرة الظهور وأميل إىل العزلة‪ ،‬فقد اشتمل الكتاب يف نهايته عىل‬ ‫مقالة نقدية يف الديوان أنجزها الناقد سمري الرشيف وحملت‬ ‫العنوان‪« :‬الشاعرة أمينة العدوان ‪ ..‬الشارع ونبضه»‬


‫نصوص‬

‫يوسف عبد العزيز‬ ‫طالل سالم‬ ‫حسن شهاب الدين‬ ‫ياس السعيدي‬ ‫أحمد الصويري‬ ‫رابح ظريف‬ ‫عمار معتصم‬ ‫مهدي منصور‬ ‫علي جازو‬ ‫نزار كربوط‬ ‫أشرف محمد قاسم‬ ‫أديب كمال الدين‬ ‫غازي الذيبة‬ ‫محمد العديني‬ ‫روجيه عوطة‬ ‫أسماء السوافيري‬ ‫رنيم ضاهر‬ ‫عائشة البصري‬ ‫عاطف الفراية‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪23‬‬


‫نصوص‬

‫يوسف عبدالعزيز‬ ‫اليرغول‬

‫كأفعى ّ‬ ‫يعض الراقصــ َ‬ ‫ني بــصـــوت ِه‬ ‫ويرتكهم رصعى عىل د ّك ِة ال ّليلِ‬ ‫مريض يداوي َ‬ ‫ٌ‬ ‫بالصيح ِة التي‬ ‫االرض ّ‬ ‫كأظالف الرعو ِد عىل ِّ‬ ‫التـل‬ ‫تدب‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ولــــكنّه مــن فــــرطِ رق ِتـــ ِه بكـــى‬ ‫َ‬ ‫وأغمض أجفاناً و َغم َغ َم كالــطفلِ‬

‫ندامى‬

‫ني ٌ‬ ‫ـب‬ ‫بيت مق ّب ٌ‬ ‫ندامـايَ يف الخمســـ ِ‬ ‫يصيح كظه ِر الجنّ تحتي ويخفقُ‬ ‫ُ‬ ‫وســـرو عجو ٌز ٌ‬ ‫ناحل كان يسندُ ال‬ ‫ٌ‬ ‫الظالم تحـــدّقُ‬ ‫ســامء وأفعى يف‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫وريحانة مغرور ٌة َ‬ ‫فاض عطـــرها‬ ‫ّ‬ ‫الشباك تبيك وتشهقُ‬ ‫فحطت عىل‬ ‫ِ‬

‫امرأة ‪1‬‬

‫عىل حج ٍر تبيك وتطر ُد قلبها‬ ‫الشمس يف عزل ِة الور ِد‬ ‫لريعى رما َد‬ ‫ِ‬ ‫تطيرّ ُ ناراً من مفاز ِة صدرها‬ ‫وترعش كالعصــــفو ِر من شدة الرب ِد‬ ‫مسافر ٌة كالنرس يف ليل نفسها‬ ‫كن مسنون ُة الح ِّد‬ ‫وأســـــيافها يف ال ّر ِ‬

‫امرأة ‪2‬‬

‫لها سوسنٌ يف البال يخفقُ ريش ُه‬ ‫الغيم‬ ‫عىل بي ِتها العايل ٍ‬ ‫كدرع من ِ‬ ‫املوج يف ُك ِّم ثو ِبها‬ ‫وكا َنت تربيّ‬ ‫َ‬ ‫الحلم‬ ‫وتحرس برقاً الح يف ص َّف ِة‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ترف عىل الوديــانِ مثل حامم ٍة‬ ‫وتدرج ّ‬ ‫ّجم‬ ‫بيات يف‬ ‫كالظ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ملعب الن ِ‬ ‫‪24‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫طالل سامل‬ ‫كتابة الصبح‬ ‫الصبح يف روحــي ويعزف ُه‬ ‫من يكتب‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الحكايات واالحـــال ُم تر َت ِق ُب‬ ‫عزف‬ ‫ِ‬ ‫الشمس عمراٍ م َّر يف َشفتي‬ ‫من يورث‬ ‫َ‬ ‫تاريخ ُه ٌ‬ ‫تنســكب‬ ‫الحرف‬ ‫مقلة يف‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫األنغـــــام أجمـــــــلهــا‬ ‫أيامه أول‬ ‫ِ‬ ‫القلب تحت َِج ُب‬ ‫تلك التي يف خفايا‬ ‫ِ‬ ‫تلك التي مذ ُ‬ ‫عزفت الــور َد يف ُلغتي‬ ‫ْ‬ ‫طـــــــرب‬ ‫ني كل ُه‬ ‫ُ‬ ‫تناثرت يف حــــن ٍ‬

‫شغف‬ ‫تغازل الضو َء واألنســــا َم يف ٍ‬ ‫اللعب‬ ‫العشب يحنو نحو ُه‬ ‫يزهو بها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لحن ألـــــــف أمني ٍة‬ ‫أنا هنا ألف ٍ‬ ‫الهــــدب‬ ‫نامت‬ ‫ُ‬ ‫يغا ُر منها املدى ما ِ‬ ‫ْ‬ ‫حملت‬ ‫الروح ما‬ ‫يك‬ ‫َ‬ ‫بصبح ِ‬ ‫يسرتيح ِ‬ ‫َ‬ ‫العنب‬ ‫تلك الشفا ُه قطـــــوفاً خانها‬ ‫ُ‬ ‫وحي يراودين‬ ‫وترجع‬ ‫ُ‬ ‫الشمـــس يف ٍ‬ ‫الحب ما ْ‬ ‫ـحب‬ ‫الس ُ‬ ‫لينتيش ّ‬ ‫عادت هنا ُّ‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪25‬‬


‫نصوص‬

‫حسن شهاب الدين‬ ‫ات النابغة‬ ‫آخر ليليَّ ِ‬ ‫األرض َّ‬ ‫جف أد ُميه‬ ‫ٌ‬ ‫ظالم‪..‬كجل ِد ِ‬ ‫ُ‬ ‫متوت وتحيا يف يديَّ نجو ُمه‬ ‫كالذئب فوق قصيديت‬ ‫تر َّب َص يب‬ ‫ِ‬ ‫حجيمه‬ ‫شب‬ ‫قلق األوراق َّ‬ ‫ُ‬ ‫ويف ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نخوضه‬ ‫الكالم‬ ‫وقطعان‬ ‫وكنت‬ ‫ِ‬ ‫الصمت ْاس َ‬ ‫هشيمه‬ ‫تطال‬ ‫بوا ٍد من‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫الوقت حويل عقيمة‬ ‫وكانت مرايا‬ ‫ِ‬ ‫عقيمه‬ ‫فأمث َر عُ ْم ًرا ِمنْ فر ٍاغ ُ‬ ‫صباح ال يؤدِّي كأن َّـه‬ ‫َ‬ ‫ودرب ٍ‬ ‫ليس تفنى رسو ُمه‬ ‫متا ُه ظاللٍ َ‬ ‫ٌ‪..‬وباب الليلِ حو َيل مغلقٌ‬ ‫سجني ُ‬ ‫َّ‬ ‫فلم يبقَ يل أف ْـقٌ إيل أحو ُمه‬ ‫ْ‬ ‫كنت ُ‬ ‫وقت ُ‬ ‫أحمل حزنـَها‬ ‫وأحجا ُر ٍ‬ ‫أقيمه‬ ‫جدارا‪ ..‬وما بيني وبيني ُ‬

‫‪26‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫أرج املدى رج ًّـا بقبض ِة أحريف‬ ‫ُّ‬ ‫بص ْحرا ِء القصي ِدغيو ُمه‬ ‫لتهمي َ‬ ‫ُ‬ ‫وأسترصخ املوىت قبيال‪..‬فربمَّ ا‬ ‫رميمه‬ ‫ِمنَ‬ ‫العدم املَنس ِّي َّ‬ ‫هب ُ‬ ‫ِ‬ ‫باب قيام ِة ال‬ ‫أنا‪..‬شرُ فة ُالرائني ُ‬ ‫ورقيمه‬ ‫قصي ِد وصويت‪ ..‬كهف ُـه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الكالم وطائ ٌر‬ ‫صلصال‬ ‫أشك ِّـ ُل‬ ‫ِ‬ ‫أثيمه‬ ‫ِمنَ الليلِ ‪..‬يف األوراقِ حط َّـ ُ‬ ‫الخوف ‪ِ -‬ظل َّـه‬ ‫ِ‬ ‫أقشرِّ ُ عنها‪ِ -‬خيفة َ‬ ‫فتنمو عميقا يف يديَّ وشو ُمه‬ ‫ويل‪..‬يف عرا ِء األبجد َّية خيمة ٌ‬ ‫ذئب القصي ِد َو ِر ُميه‬ ‫يلوذ ُبها ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ضاقت بأحريف‬ ‫إذا‬ ‫اتسعت كالليلِ‬ ‫الخلق فيها كتو ُمه‬ ‫رس‬ ‫َ‬ ‫وباح‪..‬ب ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫عزيف الجنِّ يف جنبا ِتها‬ ‫كأن‬ ‫شهاب ْ‬ ‫توالت يف القصي ِد رجو ُمه‬ ‫ٌ‬


‫ياس السعيدي‬ ‫حصى المواعيد‬ ‫الهم‬ ‫تاج من ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ماض ُأفت ُِّش عن ٍ‬ ‫الزقزقات البيض عن رسمي‬ ‫وأسأل‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الروح َ‬ ‫فوق الليلِ أغني ًة‬ ‫ُأبعثرِ ُ َ‬ ‫َعليّ أَ ُ‬ ‫صادف يف أحزانها ُأ ّمي‬ ‫الدمع اسام ٌء تطاردين‬ ‫لصحو ِة‬ ‫ِ‬ ‫أنا املرش ُد يف الاليشء ِمن حلمي‬ ‫ْ‬ ‫أبحرت يف مياه الصمت متتمتي‬ ‫كم‬ ‫ُ‬ ‫الوهم‬ ‫مسافات من‬ ‫قطعت‬ ‫وكم‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ما ُصد ْ‬ ‫ِّقت معجزات البوح يف شفتي‬ ‫وال الحجار ُة يوماً‬ ‫ْ‬ ‫أمطرت قومي‬ ‫مل يبقَ‬ ‫الروح يا قلقي‬ ‫ٌ‬ ‫متسع يف ِ‬ ‫وموقدُ‬ ‫الفحم‬ ‫الجرح مل يرتك سوى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫درب للحناء أسلك ُهُ‬ ‫أجل وال َ‬ ‫ُ‬ ‫ليك أ ِّ‬ ‫باللوم‬ ‫شيب التي ِه‬ ‫خض َب َ‬ ‫ِ‬ ‫ف َّر ْت خيول سنيني من كتائب ِه‬ ‫للسلم‬ ‫سيجنح هذا الوقت‬ ‫متى‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫عىل ضمريي ُّ‬ ‫ُ‬ ‫يخط اللون حرس َت ُه‬ ‫َ‬ ‫الباكون من وشمي‬ ‫غداً سيعرفني‬ ‫وكيف أنىس صال َة الجم ِر يف لغتي‬ ‫وعندها ٌ‬ ‫مدن ْ‬ ‫نامت عىل جسمي‬ ‫ٌ‬ ‫تالوات ُيه ِّر ُبها‬ ‫وهل ستنجو‬ ‫والسهم‬ ‫السهم‬ ‫صدري املساف ُر بني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كل املواعي ِد يف آفاقِ وحشتها‬ ‫ْ‬ ‫غابت وظل حصاها يشتهي رجمي‬ ‫متى سيمنحني النعناعُ من دم ِه‬ ‫خرصاً ألطفيء يف أنوار ِه صومي‬

‫االوجاع سائر ًة‬ ‫أرى فصوالً من‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫وتبعث رؤيا قحطها باسمي‬ ‫خلفي‬ ‫ُ‬ ‫والقيض يدمي وجه سنبلتي‬ ‫دهران‬ ‫ُ‬ ‫بالغيم‬ ‫فمن يزخرف هذا الصبح‬ ‫ِ‬ ‫واالنكسارات يف قلبي سترت ُك ُه‬ ‫تم‬ ‫أباً ُيطيرِّ ُ أرساباً من ال ُي ِ‬ ‫ُيد ِّث ُر ُ‬ ‫الشك آمايل بحريت ِه‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫أدمنت ض ِّمي‬ ‫وذكريات الرزايا‬ ‫أكلام اخضرَّ َ ٌ‬ ‫طفل يف سهول يدي‬ ‫ُ‬ ‫اليم‬ ‫أوحيت‬ ‫للروح أن ألقيه يف ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ناي تصطفي تعبي‬ ‫ُ‬ ‫أحتاج لدغ َة ٍ‬ ‫وقد ُ‬ ‫بالسم‬ ‫أقايض هذا العم َر‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫وأبحث َ‬ ‫شوك يدثرين‬ ‫اآلن عن ٍ‬ ‫ألن َ‬ ‫سقف انتظار الورد اليحمي‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪27‬‬


‫نصوص‬

‫أحمد الصويري‬ ‫كسر القوافي‬ ‫ُأ َ‬ ‫عيذك من عواقـب مبتداهـا‬ ‫َ‬ ‫قصائدُ‬ ‫بايعتك عىل رضاهـا‬ ‫ُتزغر ُد ُ‬ ‫تحت لحمتها القوافـي‬ ‫فتسبي الياسمني عىل سداهـا‬ ‫ُ‬ ‫وتبلغ ِسدر ًة فـوق الخزامـى‬ ‫َ‬ ‫رسبـل بالبنفسـج منتهاهـا‬ ‫َت‬ ‫تنادي يف األز ّقـة ّ‬ ‫كـل ليـلٍ‬ ‫الصمت ّ‬ ‫يحتل الجباهـا‬ ‫ورمل ّ‬ ‫َ‬ ‫أحييت من ذكرى بكـا ٍء‬ ‫فهل‬ ‫ضامئ َر تسرتيح عىل نداهـا‬ ‫وهل بال ّريح تستوحـي يقينـاً‬ ‫والحداد عىل بكاهـا‬ ‫شموعُ َك ِ‬ ‫وشيت ّ‬ ‫َ‬ ‫بكل صرب النّاس لكـن‬ ‫سيول العجز قد بلغت ُزباهـا‬ ‫أمـاس‬ ‫تناجي الفرقدين علـى ٍ‬ ‫الصخر ال ُيرجى لقاها‬ ‫بروح ّ‬ ‫فلـ ّوح بالغيـاب أل ّم عينـي‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُج ِع ُ‬ ‫لت فداك يـا قلبـا فداهـا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫نسيت يا قلبـي هواهـا‬ ‫تقول‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ونبضك ما يزال عىل خطاها‬ ‫عىل األطالل تبيك ّ‬ ‫يـوم‬ ‫كل ٍ‬ ‫فام ُتجزى عيو ُنك عن ظامها‬ ‫تن ّه ْد فالهـوى بحـ ٌر عميـقٌ‬ ‫تدير بـه املبـادئ منتداهـا‬ ‫كأن عليـه لل ّذكـرى نـذوراً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تغطي املرشقني وما وفاهـا‬ ‫وميال ٍد عىل كسـر القوافـي‬ ‫يرتجم عن سطوري محتواها‬ ‫ُ‬ ‫‪28‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫َ‬ ‫بكانون اسرت ْ‬ ‫احـت شمعتـا ُه‬ ‫ٌ‬ ‫تنحـت فامتطـاهـا‬ ‫وثالثـة ّ‬ ‫عىل أمواجها ُص ْ‬ ‫لبت عصو ٌر‬ ‫طوى الن ُ‬ ‫ّسيان يف قلبي رحاها‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫أمنيـات‬ ‫باعـت هواهـا‬ ‫إذا‬ ‫فال ْ‬ ‫اليأس اشرتاهـا‬ ‫تحزن إذا ُ‬ ‫ُ‬ ‫الصفصاف هماّ ً‬ ‫َ‬ ‫سواك‬ ‫يشارك ّ‬ ‫بـه اآلال ُم ُتحيـي مبتغاهـا‬ ‫ُ‬ ‫ذكريـات‬ ‫يدغـدغ للقرنفـل‬ ‫ٍ‬ ‫وينيس َّ‬ ‫كل سوسنـ ٍة سناهـا‬ ‫كل نرجسـ ٍة غرامـاً‬ ‫و ُيصيل ّ‬ ‫لحـ ّر ِه طوعـاً دماهـا‬ ‫تُريقُ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّاعسـات لـه سبايـا‬ ‫كأن الن‬ ‫ِ‬ ‫وع ُني ّ‬ ‫الشمس مغبـ ٌّر مداهـا‬ ‫َ‬ ‫جناها يستديـ ُر‬ ‫عليـك لكـنْ‬ ‫ٌ‬ ‫العشق مجهول جناها‬ ‫ضحايا‬ ‫ِ‬ ‫تساف ُر والحن َ‬ ‫ني علـى غـر ٍام‬ ‫ّ‬ ‫أضل بك الن َ‬ ‫ثـم تاهـا‬ ‫ّوابض ّ‬ ‫صب ّياً ما تز ُال فكـنْ حليمـاً‬ ‫فكأس الوجد ج ّب ْت ما خالهـا‬ ‫ُ‬ ‫بها األلوان تحني َّ‬ ‫طيـف‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫عىل أقواس غربتـ ِه ِشفاهـا‬ ‫ّ‬ ‫كأن النّاظريـن لهـنّ أل َفـوا‬ ‫جرا َر العطر مخموراً شذاهـا‬ ‫َ‬ ‫سكرت بهنّ يا قلبـي بهـا ًء‬ ‫فلملم ذكريا ِت َ‬ ‫ـك عـن هَ باهـا‬ ‫ْ‬ ‫تئـم صـداها‬ ‫وقِ النّظر ِ‬ ‫ات ال ُي ْ‬ ‫فام للعيـن ُبـدٌّ عـن قذاهـا‬ ‫نيـن‬ ‫كأ ّن َك والهـوى ُخ ّفـا ُح ٍ‬ ‫ْ‬ ‫استقصت ِصباهـا‬ ‫فهل أ ّيامك‬ ‫اب‬ ‫أفقْ يا ُ‬ ‫قلب إ ّنك مـن تـر ٍ‬ ‫يعود ألرضه مهمـا جفاهـا‬


‫رابح ظريف‬ ‫رباعيات رجل التيه‬ ‫ني انتظاري ويت ِمه ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫قتيال هنا ب َ‬ ‫ملح حلمه‬ ‫سباخ‬ ‫أعيذ‬ ‫الشك من ِ‬ ‫مىض العم ُر يب والشمس خلف غيابه تحنّ ملجراها القـــديم بيــــتمه‬ ‫بعــــيني ‪..‬إذ حنّ الظالم لنجمه‬ ‫وتسألني عنّي‪ ..‬وتقصـــدُ وق َعه‬ ‫ّ‬ ‫الرياح ذكرته لتذكرين ريح الصــبابة باسمه‬ ‫متى نسيت شكيل‬ ‫ُ‬ ‫غريبا عــن الدنيا كأنــي مل أكن ســـوى خـــرب م ٍّر ملبــتدإ م ِّر‬ ‫رسي‬ ‫ولست ّ‬ ‫أحب الليل لكنّ يل به أح ّبة بع َد الليل يحيون يف ّ‬ ‫لهم ما لهذا القلب وهو يخونني ويل ما لهم يف القلب وهو بال صدري‬ ‫أح ّبة لو ّأن الســـنني تك ّلمت ملا نطقت إال لتمنحهم عمري‬ ‫أخدع النّايات‪ُ ..‬‬ ‫ُّ‬ ‫سكت لتبد َع ْه‬ ‫كنت وف ّيها إذا مل تج ْد لحنا‬ ‫ومل‬ ‫ِ‬ ‫البهي وترج َعه‬ ‫وإن ضاعت الصحرا ُء تهت بخطويت لرتجع للرمل‬ ‫ّ‬ ‫أنا ها أعـــــددت يا تيه قامتي ألي اتجاه سوف يبدو ألتبعه‬ ‫أه ّيئُ عمري ك َّله النطالقها وأجمع دمعي ك ّله يك أودّعه‬ ‫ُ‬ ‫منك يا حاجتي بعدُ‬ ‫مشيت وح ّررت الخطى من تعاستي ومل أتح ّرر ِ‬ ‫ُ‬ ‫مشيت وعارصت الجنازات ك ّلها وما لبكايئ خلف أمواتها عدُّ‬ ‫ُ‬ ‫مشيت‪ ..‬وقال الليل أنيّ واقف ومل أمش يف نجد ومل ميش يب وهدُ‬ ‫ولكنّها الصحراء تشهد داخيل بأنيّ مثل التيه‪ ..‬ليس له حدُّ‬ ‫الشقي عىل شكيل‬ ‫لقد م ّر يوما ما عىل جسدي ظليّ يفتّش يف الطني‬ ‫ّ‬ ‫وكنت عديم الصوت حتّى أد ّلــــه عىل شب ٍه منّي ‪ ..‬فريجع يف وحيل‬ ‫رفعت يدي والعشب فوق أصابعي ول ّو ُ‬ ‫حت واألحجار مصطفة حويل‬ ‫وكنت أرى املوىت وال ّ‬ ‫ظل خلفهم فهل ذاك رسمي أيها الناس أم ظليّ ؟‬ ‫الحب يا غمدَهم أميش ألسقط من أعىل األح ّبة يف رمــيش‬ ‫عىل ح ّد سيف ّ‬ ‫أحتـــــــــاج ربع دقيقة ألصنع من خويف عىل سيفهم نعـيش‬ ‫وبينهام‬ ‫ُ‬ ‫املنيس يف ح ّد سيفــــــهم سقطت برميش وارتفعت إىل عريش‬ ‫دمي‬ ‫َّ‬ ‫فيا َ‬ ‫ليعلم أهل الوج ِد ‪ّ ..‬أن صــــبابتي أشـــدُّ منَ الدنيا‪ ..‬وألطــــف من ِّ‬ ‫عش‬ ‫َ‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪29‬‬


‫نصوص‬

‫قتيال هنا‪ ..‬بني انتظاري ويتــمه أحــــدّث أقامر الطـــــفولة باس ِمه‬ ‫وأسألها كم شـــاب نجـــم لحلمه فتسألني كم شــــاب حلم لنجــــمه‬ ‫بعيني ‪ ..‬يـــــ ّمي حـــدُّ ه حـــدُّ ِّميه‬ ‫لقد قلــــــت لألنهار ملّا تج ّمعت‬ ‫ّ‬ ‫فإن شاءت األنهار ُ‬ ‫املندس يف غيـــم وهمه‬ ‫كنت دليلها إىل خدّي‬ ‫ّ‬ ‫الحب عط َرك يا صبحي وشاو َر أوجاعي الصغري َة يف جرحـي‬ ‫مسا ًء متنّى‬ ‫ّ‬ ‫قمح الطفول ِة ك ّلـــــــــام رأى جوعه يف النّاس‪ ..‬حنّ إىل قمـحي‬ ‫مي ّر عىل ِ‬ ‫الســــباخ بــــال ملـح‬ ‫ليمنحهم قمح الصباح وعـــــطره ويرتك يل هذي ِّ‬ ‫الحب ال أرى دماً فوق ك ّفي‪ ..‬بل أرى فو َقها روحي‬ ‫ولكنّني يا خـــنج َر‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫معي عم ٌر يكفي املحب َ‬ ‫يكف جثتهم ق ُرب‬ ‫ني يا عم ُر ويل‬ ‫الكون إن مل ِ‬ ‫أنا قم ُر املــاشني يف ليل يتمهم ويب يا رمال التيه من يتمهم بح ُر‬ ‫نقلت لهم ّ‬ ‫ُ‬ ‫شك األصابع يف يدي وظنّ ظالم الليل أنيّ لــــهم بـــد ُر‬ ‫لقد علقوا يف الصمت منذ منحتهم فمي‪ ..‬فمتي يا صبح ينطقك الفجر‬

‫‪30‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫عامر معتصم‬

‫مهدي منصور‬

‫الروح مطفأة‬

‫ألندلس‬ ‫سفرٌ‬ ‫ٍ‬

‫الروح مطفأة واألغنيات ظمى‬ ‫والقلب يسكب ماء الصرب بينهــام‬ ‫وكل يشء مىض نحو النهاية من‬ ‫قبل البداية ‪ ..‬واألفق الفسيح عمى‬ ‫وأنت ياصاحبي مازلت تحفر يف‬ ‫قــلبي لتزرع يف شــــــطآنه الندما‬ ‫أما سمعت رصاخي وهو محترض‬ ‫يف غــصتي ورأيت الضوء منهدما‬ ‫أما قطفت ذراعي من منابته‬ ‫لكنه بعد حـزن يف الزمـــان منى‬ ‫أما سمعت كثريا صوت عزف دمي‬ ‫أما رقصت عىل اإليقـــاع فيه‪ ،،‬أما‬ ‫تركتني غارقا يف اليأس ‪ ،،‬منتحرا‬ ‫بالفأس ‪ ..‬مسبرشا بالشمس مبتسام‬ ‫وصاعدا نحو برئ لست أعرفه‬ ‫وساقطا نحو قلب بالحنان ســمى‬ ‫يا صاحبي لست إال شهقة ولدت‬ ‫يف كفة العمر ثم اســـاقطت حلام‬ ‫رحلت عن جسدي يك ال أموت به‬ ‫وعـدت طفال ليك ال أعرف الندما‬ ‫وصحت ‪ ..‬كم صحت ‪ ..‬واأليام تجلدين‬ ‫ورصختي تكشف املســتور واألملا‬ ‫دعني ‪ ..‬أرتب أفكاري وأنرثها‬ ‫فـوق الغام غــامما للذي فهـــام‬ ‫دعني ‪ ..‬أطري كعصفورين من وطني‬ ‫عل الرحيل يزيد الحب بينهــــمـا‬

‫ما بني أوراقي ولونِ رشاعي‬ ‫ســحرك املتداعي‬ ‫وطنٌ ملشهد‬ ‫ِ‬ ‫الوهم أسئلتي حن ُني‬ ‫لغتي قطيع‬ ‫ِ‬ ‫والوحي انتباه ال ّراعــــي‬ ‫الناي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫عدت ذاك األسم َر العر َّيب‬ ‫ُ‬ ‫لست أنا أنا وجهي قناعُ قناعي‬ ‫منقلب عىل‬ ‫متم ّر ٌس باللغ ِو‬ ‫ٌ‬ ‫بخداع‬ ‫الحديث معــ ّم ٌم‬ ‫ســنن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ألندلس تسمى ذا ُتنا‬ ‫سف ٌر‬ ‫ٍ‬ ‫شـــعاع‬ ‫وذوا ُتنا يف الليل خـــ ُري‬ ‫ِ‬ ‫مرسح عم ِرنا‬ ‫نرىض‪ ،‬ونؤمن أن‬ ‫َ‬ ‫حــــطب لذاكــــــر ٍة ونا ُر ير ِاع‬ ‫ٌ‬ ‫تتخشب األحداث من دومينو‬ ‫يهـز ركودهــــا ٌ‬ ‫القاع‬ ‫بقاع ِ‬ ‫حزن ِ‬ ‫دم‬ ‫نروي‪ ،‬نف ّر ُغ ما‬ ‫َ‬ ‫ترسب من ِ‬ ‫الذكرى‪ ،‬قصائدنا حدا ُء الناعــي‬ ‫هي من دىن أخرى بريدٌ ل َّف ُه‬ ‫القد ُر الذي قد ًرا أضاع الســاعي‬ ‫أعمى يرى بعصاه ُ‬ ‫أترجم‬ ‫رصت‬ ‫ُ‬ ‫ني ضياعي‬ ‫الرؤيا إىل لغــــتي بع ِ‬ ‫لوال ُّ‬ ‫أخط ملا يكون معي غدًا‬ ‫ما أبعد النجوى وأقصـــر باعي‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪31‬‬


‫نصوص‬

‫رمبا تكون التحية األخرية‪،‬‬ ‫األصفى واألرق!‬

‫عيل جازو‬ ‫أربع قصائد إلى أماني الزار‬ ‫‪1‬‬ ‫ال َ‬ ‫مكان تلجأ إليه بعد اآلن‪ ،‬ال مكان‪.‬‬ ‫جسدُك البداية‪ ،‬جسدُك النهاية‪:‬‬ ‫والسالم املعاىف البعيد‪.‬‬ ‫للسؤال املرافق ّ‬ ‫النّا ُر املرشد ُة ّ‬ ‫شكوك حامية‪.‬‬ ‫يف الدّم محفور ٌة آثا ُر الخيبة ويف عظام‬ ‫ٍ‬ ‫هذا ما يجعل الخطوة مجنَّح ًة‪ ،‬عادل ًة كالغناء‪،‬‬ ‫الصاعد نح َو ال أح ٍد‬ ‫ويف طريقها ّ‬ ‫تحظى بسكين ٍة ملتهبة كالنّدم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أسامل التناقض!‬ ‫كجنونٍ يحرق‬ ‫***‬ ‫ال َ‬ ‫مكان يأوي قلبك ذا الرباعم الخفيفة‪.‬‬ ‫أنا مثلك أزحف يف دار الخيبة‪،‬‬ ‫يوم ُ‬ ‫ّ‬ ‫أزحف وأغ َر ُم باإلهانة‪،‬‬ ‫كل ٍ‬ ‫يف املحنة أتلوى‪ ،‬أخرف واتعفن‪،‬‬ ‫ويف جدوى أو ال جدوى املسعى القاهر املرير!‬ ‫***‬ ‫أيام ٌ‬ ‫ثقيلة قاسية‬ ‫ها هي ٌ‬ ‫تبصق رمادَها يف وجهك املسكني‪.‬‬ ‫تو َّق ْف لحظة‪ ،‬أرجوك تو َّق ْف‪:‬‬ ‫ألق تحية عىل جارك العجوز‬ ‫ِ‬ ‫منذ سنني قاحلة مييش بطيئاً بطيئاً‬ ‫يف الشوارع الضيقة القصرية ذاتها‬ ‫التي تخاصم نفسها ّ‬ ‫كل يوم‪.‬‬ ‫‪32‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫***‬ ‫‪2‬‬

‫هذه الليلة أيضاً‬ ‫سيجايف النوم عيني وروحي‪.‬‬ ‫آه آه!‬ ‫نسيت َ‬ ‫ُ‬ ‫مذاق الكلامت املدهش‬ ‫لقد‬ ‫لكنني أملحها رشيقة حميمة‬ ‫تتعذب وتنجو‬ ‫عرب ثنيات صغرية لستارة تحركها رياح الفجر‬ ‫ومن خلفها تلوح شجرة خرضاء مذهلة‪.‬‬ ‫***‬ ‫‪3‬‬ ‫ها نحن نتعرف عىل بعضنا‪،‬‬ ‫ببطء كريم وبحذر كريم‪ ،‬مبودة كالزّهد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ات املساء املغرية‪،‬‬ ‫يف الظالم امللغز‬ ‫نتبادل إشار ِ‬ ‫يف الظالم املتقدم كميا ٍه تجابه َ‬ ‫الغرق بالغرق‪.‬‬ ‫لساعات الغضب النزيه واألرق السامي‪،‬‬ ‫نتكلم ونصغي‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ات وديعة‬ ‫نتخاطف نظر ٍ‬ ‫إىل شكلِ أصابعنا ذات الظالل الضئيلة‪،‬‬ ‫ترتفع‪،‬‬ ‫وعيوننا املتعبة ُ‬ ‫ثقيل ًة وحاني ًة ترتفع‬ ‫بيوت سو َّيت باألرض!‬ ‫جه َة ٍ‬ ‫***‬ ‫‪4‬‬

‫آه‬ ‫نعم ونعم ونعم‪.‬‬ ‫من العيون ينبغي أن يزهر القمر‪،‬‬ ‫السامء التي تكرر عذابات النجوم‪.‬‬ ‫ال من ّ‬ ‫ُ‬ ‫فها هي الرغبة قو ّي ٌة وعميقة‪،‬‬ ‫إ ّنها تح ّو ُل الخيا َّيل املسحوق‬ ‫إىل منزل الحقيقة الوحيدة املمكنة!‬


‫نزار كربوط‬ ‫ظلي‬ ‫كلَّما تبعني ِ‬ ‫وحيد‬

‫أضواء املدينة كثرية‬ ‫و الغريب يف األمر‬ ‫أن ظيل وحيد‬ ‫أينام سافرت‬

‫أرسار‬

‫كلام طالت املسافات‬ ‫يكرب الظل‬ ‫تلك هي حكمة الضوء‬

‫أرشف محمد قاسم‬ ‫تمد بساط مواعيدها‬ ‫إىل امرأة أتعبتنى كثرياً‬ ‫وأشعلت القلب شوكاً‬ ‫ْ‬ ‫ومخمل‬ ‫تسافر يف العمر ميعاد حلم ٍ‬ ‫إذا كاد ينأى‪..‬وفرحاً‬ ‫ْ‬ ‫مؤجل‬ ‫إذا غبت ُ‬ ‫تسأل عنى النجو َم‬ ‫دت تيهاً عن القلب ْ‬ ‫وإن عُ ُ‬ ‫تغفل‬ ‫متد بساط مواعيدها‬ ‫وترضب صفحاً إذا الوعد ْ‬ ‫أقبل‬ ‫تطرز ثوباً من الياسمني‬ ‫ْ‬ ‫السفرجل !‬ ‫ومن وجد ما يشتهيه‬ ‫توشوش عنى براعم فل ٍ‬ ‫وتقرأ شعرى بوجه ٍ ْ‬ ‫تهلل‬

‫َّ‬ ‫فضاح‬ ‫ال يعرف معنى األرسار‬

‫ظلمة‬

‫يف رأيس ظالل كثرية‬ ‫ال تحتاج إىل ضوء‬ ‫يك ترسم ظلمتها‬

‫فراغات‬

‫أوراق ترفض الكلامت‬ ‫لقد ضاقت ذرعا‬ ‫بالفراغات‬ ‫و نقط الحذف‬

‫مساء‬

‫مساء سعيد‬

‫يسافر يف ظلمة الوقت‬ ‫يتجمل بحروف األبجدية الضيقة‬ ‫و مجازات‬

‫وحيدة‬

‫عبارة‬ ‫عبارة شاردة الذهن‬ ‫تتأمل‬ ‫يف بداية صغرية‬ ‫مل تنضج بعد‬

‫هوية‬

‫قوس قزح‬ ‫يعيد ترتيب األلوان‬ ‫يبحث عن هوية‬ ‫تليق بالبياض‬

‫تصفر لحناً رقيقاً ندياً‬ ‫ْ‬ ‫جدول‬ ‫وينساب من كفها ألف‬ ‫أحبك يا أم روحى وروحى‬ ‫لحن ْ‬ ‫وشعرى بدونك ُ‬ ‫ترمل‬ ‫ِ‬ ‫أقلىِّ‬ ‫يتيم‬ ‫إين‬ ‫عتابك‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫املؤمل !‬ ‫بدونك يا حلم عمرى‬ ‫إذا الحب يوماً أراد الحيا َة‬ ‫سيغدو أمرياً مهاباً ْ‬ ‫مبجل‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪33‬‬


‫نصوص‬

‫أديب كامل الدين‬ ‫إشارات األلف‬ ‫إشارة العارفني‬

‫إلهي‪،‬‬ ‫شمس‬ ‫اإلشار ُة الوحيد ُة التي لها ٌ‬ ‫وقمر‬ ‫هي التي تش ُري إليك‪.‬‬ ‫وهي التي ال وجود لها وال حضور‬ ‫قلوب العارفني‪:‬‬ ‫إال يف ِ‬ ‫قلوب الذين أبكاهم الفراق‪،‬‬ ‫يف ِ‬ ‫وزلزلَهم املنفى‪،‬‬ ‫وأغر َقهم الليل‪،‬‬ ‫ودفنَهم الحرمان‪،‬‬ ‫فامتوا وهم يف حبو ٍر عظيم!‬

‫قبل ْأن َ‬ ‫أغرق فيه؟‬ ‫َ‬ ‫غرق يف أعامقي السحيقة‬ ‫رصت ّ‬ ‫حتّى ُ‬ ‫كل ليلة‬ ‫أموت غريقاً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فأحمل ج ّثتي عىل خشبتي الطافية‬ ‫هامئاً دون ْأن يراين أحد‪،‬‬ ‫هامئاً لألبد‪.‬‬

‫إشارة أصحايب‬

‫إلهي‬ ‫أولئك الذين جاءوا‬ ‫إىل حفل ِت َك األرض ّية‬ ‫ومل يروا شمساً وال قمراً‬ ‫وال رغيفاً وال بيتاً‪،‬‬ ‫بكوا‬ ‫ُث َّم استغاثوا‪.‬‬ ‫إذ ُح ّملوا من األملِ أنهاراً‪،‬‬ ‫ومن األنها ِر سفناً تائه ًة‪،‬‬ ‫إشارة البحر‬ ‫السفن أحالماً وأوهاماً‬ ‫ومن‬ ‫ِ‬ ‫إلهي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يوم‬ ‫كل‬ ‫رب‬ ‫تع‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ماذا ُ‬ ‫فعلت‬ ‫الخوف والعبث‪.‬‬ ‫تحت جسو ٍر من‬ ‫ِ‬ ‫يك أنفقَ العم َر ك ّله مع البحر؟‬ ‫أولئك أصحايب‬ ‫وكيف أنجو منه‬ ‫ال أراهم إال باإلشارة‬ ‫وهو الذي ُ‬ ‫يحيط يب‬ ‫السجن بالسجني؟ وال يروين إال بالحرف‪.‬‬ ‫كام ُ‬ ‫تحيط جدر ُان‬ ‫ِ‬ ‫أولئك هم أصحايب‪،‬‬ ‫كيف أنجو منه‬ ‫أصحايب الذين اكتهلوا بنو ِرك‬ ‫وهو الذي يتع ّرى أمامي‬ ‫وزهدوا فرحني‪،‬‬ ‫بألوانه الباذخة‬ ‫زهدوا َِّ‬ ‫بكل يشء‬ ‫وأمواجه الغامضة‬ ‫ِ‬ ‫حتّى بقطر ِة املاء‪.‬‬ ‫فأذهب إليه كاملسحو ِر حيناً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وكالضائع حيناً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫إشارة الكالم‬ ‫وكاملجنونِ أحياناً أخرى؟‬ ‫إلهي‪،‬‬ ‫كيف أنجو منه‬ ‫الطريق إليك‬ ‫يف‬ ‫ِ‬ ‫وهوالذي َ‬ ‫غرق َّيف‬

‫‪34‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫ك ّل ُ‬ ‫مت الشمس‬ ‫لكنّها ْ‬ ‫كانت محكومة بالغروب‪.‬‬ ‫وك ّل ُ‬ ‫مت الغروب‬ ‫لكنّه َ‬ ‫كان محكوماً بالفجر‪.‬‬ ‫ُث َّم ك ّل ُ‬ ‫مت الفجر‬ ‫لكنّه َ‬ ‫كان مشغوالً بجامله‬ ‫مثل صب ّية تعشقُ للم ّر ِة األوىل‪.‬‬ ‫وك ّل ُ‬ ‫مت العشق‬ ‫ُ‬ ‫اكتشفت أ ّنه ال يجيد‬ ‫لكنني‬ ‫الص ِّم وال ُبكم‪.‬‬ ‫سوى لغة ُ‬ ‫ُث َّم ك ّل ُ‬ ‫الص َّم وال ُبكم‬ ‫مت ُ‬ ‫لكنّهم رفضوين‬ ‫أستطيع الكالم‪.‬‬ ‫حني عرفوا أنني‬ ‫ُ‬ ‫وك ّل ُ‬ ‫مت الكالم‬ ‫ُ‬ ‫الصمت له‪.‬‬ ‫فاكتشفت خيان َة‬ ‫ِ‬ ‫وك ّل ُ‬ ‫مت الصمت‬ ‫فعرفت أ ّنه ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫يعرف سوى لغة املوت‪.‬‬ ‫وك ّل ُ‬ ‫مت املوت‬ ‫ُ‬ ‫فسعدت أل ّنه حدّثني طوي ًال‬ ‫والشمس والفج ِر والعشق‪.‬‬ ‫عن النا ِر‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫سعدت ألن املوت‬ ‫نفسه‬ ‫كان يد ّلني عىل ِ‬ ‫مثل سكران يقودين إىل بي ِته‬


‫غازي الذيبة‬

‫ال أحد‬

‫‪ ..‬وال أحد يشبهك‬ ‫طيور الظالم‬ ‫الكالم قليل‬ ‫وقالت يل اآلن عد‪،‬‬ ‫واملحابر غافية يف أنني الزجاج‬ ‫فاملرايا تنادي عىل فرس املاء‬ ‫ورب يد من بعيد تشري إليك ‪:‬‬ ‫وتسهر مع رعشة النهر واألغنيات‬ ‫أأنت املوقع بالشدو‬ ‫القصرية‬ ‫أم أنه الشعر أبيض‬ ‫وترشب نخبا مع املتعبني‬ ‫مسرتسال يف اخرضار الكالم ؟‬ ‫‪..‬‬ ‫‪..‬‬ ‫وقالت لعودته ‪ :‬مرحبا‬ ‫وال أحد مر بني ارتفاع عمود الظالم‬ ‫يف ظالل الجنون‬ ‫وهذا الغامم الذي فز من حدقات‬ ‫مرحبا أيها الكبش ‪..‬‬ ‫الغياب‬ ‫كيف ستوقظ ماء العيون‬ ‫عىل الباب‬ ‫وتأوي اىل مذبح الفجر‬ ‫أرخى حرير الرتدد يف مقلتيك‬ ‫تهبط من ظلك املستدق عىل حائط وكنت تشابه طيفا جريحا‬ ‫الغدر‬ ‫ينئ من اآله‬ ‫يك ال ترى‬ ‫ثم إذا ما تركت الغياب‬ ‫ويك ال تخون‬ ‫وعدت بوقعك‬ ‫‪..‬‬ ‫كان أنينا يفيق عىل الصمت فيك‬ ‫وقالت لعينيه‪ :‬أيهام اآلن تبرص‬ ‫ويخرج منك إليك‬ ‫أم بيت روحك تلعب فيه طيور‬ ‫قريبا من النور والنار‬ ‫الظالم‬ ‫منهمرا مثل سهم طليق‬ ‫وتهوي عليه طيور املنون‪.‬‬ ‫يصب نهاياته يف ضلوع الحريق ‪.‬‬ ‫‪..‬‬

‫وال أحد يشبه املاء فيك‬ ‫أو يشبه االنهامر‬ ‫صدى صوتك البدوي خفيض‬ ‫ورجفتك الرعوية تأخذ نولك‬ ‫يك تنسج الصوت يف خيمة‬ ‫وتذوب عىل رسلها‪.‬‬ ‫‪..‬‬ ‫حقل قمح إذن‬ ‫سوف يخدش قلب القصيدة‬ ‫تدخل أنت وحيدا اىل السهل‬ ‫نار املهابة ترفع ياقتها يف قميصك‬ ‫صوت الحديقة‬ ‫آه التوله‬ ‫تدخل حتى تصري الكتابة نقشا‬ ‫ويغدو الكالم رنينا‪.‬‬ ‫‪..‬‬ ‫وال أحد يشبه الليل حني تكون‬ ‫وحيدا‬ ‫هامئا‬ ‫ترشد منك الظالل‬ ‫وتختبئ األنهار‬ ‫‪..‬‬ ‫وال‬ ‫أحد‬ ‫يشبه‬ ‫هذا‬ ‫النهار ؟‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪35‬‬


‫نصوص‬

‫محمد العديني‬ ‫طرائق‬ ‫محاكاة‬

‫زرت دار املخطوطات‬ ‫مخطوطات كثرية‬ ‫وجدت‬ ‫ٍِ‬ ‫لكنّي‬ ‫مل أجد‬ ‫مخطوطاً أنيقاً‬ ‫كعينيك‬ ‫و‬ ‫مخطوطاً تالفاً‬ ‫كقلبي ‪.‬‬

‫فصل منيس‬

‫الشجرة الشامخة‬ ‫تهاب العصافري‬ ‫تهاب مثارها‬ ‫خشية بعض الغربان الدخيلة‬ ‫والثامر الفاسدة‬ ‫البحرية الهاربة‬ ‫من قصف املطر‬ ‫أو ليس اليشء نقيض نفسه ؟ !‬ ‫فلامذا نغرتب ؟‬ ‫ملاذا ننفصل ؟‬ ‫وأي مصري‬ ‫قاحل‬ ‫ينتظرنا ؟‬

‫‪36‬‬

‫بيت الشعر‬

‫طريق‬

‫يحيا الصواب من خربة الخطأ‬ ‫ومع ذلك‬ ‫ق ّلام‬ ‫تخطئ‬ ‫النحلة‬ ‫طريقها‬ ‫للعسل ‪.‬‬

‫مفارقة‬

‫ليس مثة رشق أو غرب‬ ‫الشمعة محايدة‬ ‫لكنهم‬ ‫يطفؤنها مرة‬ ‫كل سنة‬ ‫ليستقبلوا عاماً جديداً‬ ‫ونحن‬ ‫نشعلوها‬ ‫كل يوم‬ ‫لتصفية‬ ‫حسابات‬ ‫قدمية ‪.‬‬

‫الطغاة‬

‫إنهم يجرفون أرواحنا‬ ‫اليبقون يف ذاكرتنا‬ ‫غري مخالبهم النتنة‬ ‫آه ‪ .....‬كيف مل أتذكر تلك التفاصيل‬ ‫العبقة‬ ‫لحياة أطفايل ؟‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫روجيه عوطة‬ ‫وصية حالق‬ ‫من باريس‬ ‫يوم‬ ‫يأيت ٌ‬ ‫تحمل فيه‬ ‫املقص بيد واإلبرة بيد‬ ‫وبخيط بني أسنانك‬ ‫تقطب ُندف الدم املنهمرة من‬ ‫عينيك‬ ‫يأيت يوم ٌ‬ ‫تزور فيه الخياطة العمياء‬ ‫ويف جيبك قطعة نقدية‬ ‫فأنت متاما ً مثلها‬ ‫مومياء تعاين من الروماتيزم‬ ‫وتكره الص ّور التذكارية‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫بعد أن غادرت باريس‬ ‫كأي مصاص دماء مصاب بداء السل‬ ‫كتبت وص ّيتي‬ ‫كأي حالق‪:‬‬ ‫"أرجوكم ال تلمسوا رأيس األصلع"‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫منذ أكرث من سبع سنوات وأنا أنظر‬ ‫يف اإلتجاه نفسه‪ ،‬حتى بات بإمكان‬ ‫عنقي أن يتحرك دون أي إشارة‬ ‫عصبية‪ ،‬أن يتحرك باتجاه ناس عىل‬ ‫هذه الرشفة أو تلك‪ .‬ليسوا بناس‪،‬‬ ‫بل شخص واحد ‪ ،‬أتذكر أنه كان‬ ‫بشعر أسود‪ ،‬عني خرضاء‪ ،‬نبتة بيده‬ ‫وزهرة بالستيكية بني أسنانه‪ ،‬أتذكره‬ ‫شخصا ً ال يلني أمام عيني وال يرد‬


‫عىل نظرايت املائلة إىل األثداء التي‬ ‫ك ّونت جذعه‪...‬تذكرت كانت فتاة‬ ‫‪...‬تذكرت كانت بال عني وال فم وال‬ ‫زهرة بالستيكية كتلك التي تضعها‬ ‫جاريت يف مزهرية من خشب ُبني‬ ‫بائخ‪ ،‬لتزيني الصالون أو للحفاظ‬ ‫عىل ذكرياتها عن زوج مات‪ ،‬وعن‬ ‫زوجة ما زالت تكوي قمصانه‬ ‫ّ‬ ‫وتنشف بدالته كلام دعاها إىل ذلك‬ ‫يف الحلم‪.‬‬ ‫منذ أكرث من سبع سنوات وأنا أتردد‬ ‫يف تخ ّيل النهاية‪ ،‬ولكن ها أنا أرمي‬ ‫عيني يف سلة املهمالت وأهرع إىل‬ ‫أقرب مسلخ وأشرتي عينا ً جديدة‬ ‫ً من جثة قبطان بيد واحدة‪ ،‬ع ّلها‬ ‫ُتريني ما مل أراه يف جلود الناس من‬ ‫وهن وعفونة‪ ،‬ع ّلها متنحني نعمة‬ ‫إباحة جفون اآلخرين‪.‬‬ ‫أهال ً بعني القبطان‪ ،‬أنا اآلن أحتاج‬ ‫إىل سفينة!‬ ‫‪...‬‬ ‫مظلتك الغارقة يف الدماء‬ ‫تنتظر هطول املطر‬ ‫ال لتغسل سوادها‬ ‫بل لتزيد من عنفها باتجاه الشمس‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫وقوعك يف حب العبة الجمباز‬ ‫لن يغري شيئا ً يف حزنك‬ ‫طي موتك أسهل‪.‬‬ ‫بل سيصري ّ‬ ‫‪...‬‬ ‫مرة ً نسيت عمودي الفقري يف‬ ‫رسير مومس‬ ‫عىل الطريق وقفت محدقا ً يف‬ ‫وجوه السائقني‬

‫بظرافة سألت إمرأة كثيفة الشعر‬ ‫يف األذنني عن أمي‬ ‫بكل رسور جاوبتني‪" :‬‬ ‫السوبرماركت قريبة"‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫تيك‪-‬تاك‬ ‫انكرس عمودي الفقري‬ ‫فنصحتني بأن أدهنه بطالء األظافر‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫عىل مقعدك املطوي‬ ‫متتأل باإلبر‬ ‫بفتور‪ ،‬تحرك حاجبيك للوقت‬ ‫ثم برجفة يد من وقع يف الفخ‬ ‫تتعلم النط عىل األرض‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫أمر يف الشارع‬ ‫يرن الهاتف العمومي‬ ‫لن أرد‬ ‫ً‬ ‫إنه حتام القناص‬

‫أو شبيهه‬ ‫م ّوظف السنرتال الوحيد‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫أجمل ما للغائب غيابه‬ ‫وأجمل ما للحارض أن يغيب‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫إنزع القبعة عن رأسك‬ ‫إصفع زوربا‬ ‫هذا ال رأس وال قبعة !‬ ‫‪...‬‬ ‫اآلن عرفت ملاذا يستظرفك الليل‬ ‫ألنك ِمثله‬ ‫تكذبني عىل الغرباء‪.‬‬ ‫‪..‬‬ ‫من يبيك يف ساحة الكنيسة؟ املهرج‬ ‫أو املنتحر؟‬ ‫املنتحر‬‫هل مات؟‬‫ ال‪...‬الزجاج ما زال قاسياً‬‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪37‬‬


‫نصوص‬

‫أسامء السوافريي‬ ‫ترقب‬

‫يعرتيني الخوف من غ ٍد‬ ‫يعرف عني‬ ‫ما ال أعرفه !‬ ‫دون أن أعرفه !‬ ‫يتحدث نياب ًة عن الحلم‬ ‫بـاسم التاريخ املؤجل‬ ‫ليوم سـيأيت‬ ‫ٍ‬ ‫ريثام يطمنئ القلب‬ ‫وال نخاف !‬

‫فلسفة ما ‪،،‬‬

‫ال جدوى‬ ‫من انهامر الضوء‬ ‫عىل عقولٍ ما زالت‬ ‫تضمر املساء !‬

‫موعدٌ أزرق‬

‫الغيم يجوب رأيس‬ ‫الحزن يغلق مخارج النجاة‬ ‫مط ٌر ‪ ،،‬مطر‬ ‫يهطل يف دمي ‪..‬‬

‫أمل‬

‫عىل رشفة االنتظار‬ ‫كنت عىل وشك السقوط‬ ‫لوال أن تشبث نظري‬ ‫بـ حافة األمل ‪..‬‬

‫ٌ‬ ‫زنبقة سوداء‬

‫يف الفضاء املخميل األسود‬ ‫تزهر الذاكرة‬ ‫وجوه البارحة ٌ‬ ‫حية ترزق‬ ‫تفاصيل األمس‬ ‫تعود من حيث ال يجب‬ ‫ومن كل ما ال يعقل‬ ‫أنا ما سقيت الليل من وريدي‬ ‫لكنه تفتح عنوة يف دمي !‬

‫يحدث أن أبتل بالحنني‬ ‫ُ‬ ‫واعدت زرقة البحر‬ ‫كلام‬ ‫كلام ارتشفت أجاج املدى‬ ‫و سافرت يف امتداد الغياب‬ ‫ذكريايت نوارس من ورق‬ ‫عاطفتي مراكب للغرق‬ ‫وجهٌ عتيقٌ يطفو‬ ‫عينان تنجوان‬ ‫أظنني أنا !‬

‫مط ٌر خافت‬

‫الكحل األسود الذي وضع بعناية‬ ‫يعيق الدمع من اإلنهامر‬

‫‪38‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫رنيم ضاهر‬ ‫عقد طفولية‬

‫نختبئ من عواء الذكرى‪ ‬‬ ‫من موت مشاعرنا الرسيري‪ ‬‬ ‫ننزلق يف مساءات حميمة‪ ‬‬ ‫كأن أجسادنا واجهة الرواح تائهة‪ ‬‬ ‫يسخر منا الوقت‪ ‬‬ ‫من الحب املرتهل‪ ‬‬ ‫من قيئ الخلد‪ ‬‬ ‫يف حفرته املعتمة‪ ‬‬ ‫يف كل يوم من الحكاية‪ ‬‬ ‫أشعر و كأنني صفحة بيضاء‪ ‬‬ ‫ُيعلق عليها القدر‪ ‬‬ ‫عقدا طفولية‪ ‬‬ ‫شهوة عابرة‪ ‬‬ ‫طفال صغريا‪ ‬‬ ‫يصل فجأة‪ ‬‬ ‫وقت إضايف‪ ‬‬ ‫وقت شاغر‪ ‬‬ ‫ال وقت ‪ .‬‬

‫طفولتي موضوع إنشاء‬ ‫عبارايت الطينية‪ ‬‬ ‫ُقصاصات ذكريات‪ ‬‬ ‫جد جدي عمالق ضخم‪ ‬‬ ‫يقلع بأسنانه االشجار‪ ‬‬ ‫يحدق يف سامء‪ ‬‬ ‫تثلج دون مقدمات‪ ‬‬ ‫جديت االوىل‪ ‬‬ ‫ُتنجب كقطة‪ ‬‬ ‫بينام يحلم أطفال حفاة‪ ‬‬ ‫بقصص معمرة‪ ‬‬


‫أرسد املايض‪ ‬‬ ‫بأفعال ماضية‪ ‬‬ ‫ُمراهقتي ُأرتب شذوذها‪ ‬‬ ‫ُأخبئ ثديني صغريينن‪ ‬‬ ‫حتى ال ينتبه أيب‪ ‬‬ ‫جدي املراهق‪ ‬‬ ‫سكن مع أخيه و أخيه‪ ‬‬ ‫خلف حيطان تدلف‪ ‬‬ ‫رائحة الروث يف الحظرية‪ ‬‬ ‫مل تؤثر عىل نسل العائلة‪ ‬‬ ‫بني قريته و مدينتي‪ ‬‬ ‫عامل من قطط متوء دون إذن‪ ‬‬ ‫و ال تكف عن اصطياد الفرئان‬ ‫‪ ‬‬

‫قرب نهاية اللغة‬

‫مخارج حروف أمية‪ ‬‬ ‫ريح عىل شكل حلزون‪ ‬‬ ‫عند آخر الحياة‪ ‬‬ ‫ُمدرج للطريان ‪.‬‬ ‫القصيدة الرابعة‪ ‬‬ ‫عبارات تسقط‪ ‬‬ ‫من سقف البيت‪ ‬‬ ‫أشباح ال تليق بهم ثيايب‪ ‬‬ ‫يخرجون بشخصيايت من الخزانة‪ ‬‬ ‫السوس يتناسل يف الحبوب‪ ‬‬ ‫العث يف ضمريي‪ ‬‬ ‫ُ‬ ‫سأوزع عقدي عىل الفقراء‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪39‬‬


‫نصوص‬

‫َشفا َع ًة لِ َخطايا ال َبشرَ ِ ‪،‬‬ ‫عائشة البرصي‬ ‫الريح تر َ‬ ‫اتيل عهو ٍد َمن ِْس ّي ٍة‪.‬‬ ‫َفتُعيدُ ُ‬ ‫ُخشو َن ِة الرملِ‬ ‫الرمل‬ ‫عزل ُة‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫أ ْل ِب ُسني ِخ ْر َق َة التص ُّو ِف‪،‬‬ ‫األسام ِء‪،‬‬ ‫حافي ًة أَدْهَ ُس أشواكاً سرِ ّ ي َة ْ‬ ‫بالشمس‪،‬‬ ‫ليس غروباً ما‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫وأصيح يف ا ُمل ْط َل ِق ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫هو الضو ُء ُي َل ْم ِل ُم أهداب ُه‬ ‫ما سرِ ُّ الحيا ِة يف ال َب ْد ِء؟‬ ‫يف َح َقا ِئ ِب الظ ْل َم ِة لِ َينا َم‪.‬‬ ‫ما ِح ْك َم ُة الرمل يف َعد َِم التشا ُب ِه؟‬ ‫لَ ْي َس َش َفقاً ما يف ُ‬ ‫األ ُف ِق‪،‬‬ ‫وماذا َب ْع َد هاو ّي ِة املَ ْو ِت و َم َص ِّب‬ ‫هو ُ‬ ‫َ‬ ‫الرمل َي ْل َعقُ‬ ‫الحج ِر‪،‬‬ ‫سيقان َ‬ ‫َ‬ ‫األ َب ِد َّي ِة؟‬ ‫ُ‬ ‫َف َتتَو َّر ُد الزرقة َخ َجال من َش َغ ِف‬ ‫َفيرَ ُ ُّد الصدى صدا ُه ‪:‬‬ ‫العاشق‪.‬‬ ‫ال سرِ َّ ُي ْخفى عَنْ َصفا ِء الرسي َر ِة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫كثبان ‪..‬‬ ‫الحج ِر‪،‬‬ ‫أجسادٌ لَ ْم َت ْحترَ ِ ْق َب ْعدُ ِبأَنامِلِ َش ْه َو ٍة‪َ ،‬حدِّقي َم ِلياً يف مرايا َ‬ ‫تك الرؤى ُمبا ِي َع ًة بني َي َد ْي ِك ‪.‬‬ ‫َت ْأ ِ‬ ‫وحش‪،‬‬ ‫َت َت َو َّحدُ يف عرا ٍء ُم ٍ‬ ‫ا ْب َت َع َد النها ُر عَنْ َض ْو ِئ ِه‪.‬‬ ‫ُت ُ‬ ‫صيخ الس ْم َع لِ َخ ْط ٍو ُم َت َو ِّج ٍس ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫جاويف الودْيانِ ال أ ُفقَ َي ْح ُج ُب املا َء عَنْ سرِ ّ ِه‪.‬‬ ‫هاث َينْمو َبينْ َ َت‬ ‫ِ‬ ‫َو ُل ٍ‬ ‫َص ْم ٌت أسو ُد َي ْعمي ال َبص َري َة‪،‬‬ ‫أحراشاً من َ‬ ‫الخ ْو ِف‪.‬‬ ‫توءات الظلم ِة‪،‬‬ ‫ال َم َف َّر ِمنْ َت َل ُّم ِس ُن ِ‬ ‫ُ‬ ‫الرمل يف عُ زلت ِه‪،‬‬ ‫الطريق ‪...‬‬ ‫مسالك‬ ‫لِ َفت ِْح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كاهنٌ ُ‬ ‫فيح‬ ‫يلوك صلوا ِت ِه عىل َص ٍ‬ ‫ا ْب َت َل َعتْنا ال َع َت َم ُة‪،‬‬ ‫ساخن‬ ‫ٍ‬

‫عاطف الفراية‬ ‫من أغاني الغزالة‬ ‫الركض‬

‫الغزالة فرت إىل وكر أم الغزاالت‬ ‫إذ ملت الركض يف تيهه‪....‬‬ ‫بينام الشنفرى‪..‬ظل يركض وحده‪.‬‬ ‫يحدق يف صفحة املاء‪..‬‬ ‫واملاء يقرأ َو ْجدَهْ ‪.‬‬ ‫الغزالة عائدة _قال همس الرمال‬ ‫له_‬ ‫‪40‬‬

‫بيت الشعر‬

‫واسرتدَّهْ ‪.‬‬ ‫متاهى مع الليل حتى طواه‬ ‫وال فجر يف األفق ينبئ عنها‪..‬‬ ‫تالىش مع الركض‪..‬والركض هدّهْ ‪.‬‬ ‫الغزالة تنأى طوي ًال‪..‬‬ ‫ويغدو األىس للقصيدةِ‪..‬والرملِ ‪..‬‬ ‫واملا ِء والشنفرى‬ ‫مضجعاً‪ ...‬ومخدّة‪.‬‬

‫نداء‬

‫تعايل‪..‬نسيام ند ّيا‬ ‫كضو ٍء تسامى عىل الضو ِء‪..‬‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫الت َ​َص َق ْت ْأجسادنا بالحدي ِد‬ ‫السياج‪.‬‬ ‫األصابع عىل‬ ‫ّتت‬ ‫َت َفت ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫هاو َية الظ ْل َم ِة ْأشهى ِمنَ الضو ِء‪....‬‬ ‫بعد قليلٍ ‪،‬‬ ‫َس َت َت َد َّفقُ‬ ‫الهواجس بني األ ْودي ِة‬ ‫ُ‬ ‫املهجور ِة‪،‬‬ ‫َس َي ْه ِم ُس ُ‬ ‫الرمل لِ ِظالل ِه‪:‬‬ ‫هذه ُ‬ ‫التالل أ ْع ِر ُفها‪،‬‬ ‫ليب النوقِ َبينْ َ‬ ‫و َي ْشتا ُقني َح ُ‬ ‫اس ال َبع ِري‬ ‫أَضرْ ِ‬ ‫ورائح ُة الز ْعترَ ِ البرَ يِّ ‪.‬‬ ‫َت ْح َت َخ ْي َم ٍة ِمنْ َو َب ٍر‪،‬‬ ‫الشاي‪،‬‬ ‫قاعات‬ ‫الح َط ِب و ُف ِ‬ ‫بني رائح ِة َ‬ ‫ِ‬ ‫ريب َ‬ ‫خلف املشه ِد‪،‬‬ ‫تمَ ْتد َيدُ ال َغ ِ‬ ‫النجوم ‪..‬‬ ‫مواقع‬ ‫ُت َعد ُِّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِمنْ لَ ْم َس ِت ِه ا ْنت َ​َش ْت ٌ‬ ‫نجمة‬ ‫وغا َد َر ْت رسي َر السام ِء‪.‬‬ ‫تاهَ ْت ُط ُر ُق ال َع ْو َد ِة َبينْ َ َمسالِ ِك‬ ‫الع ْزلَ ِة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال َت َم َع ْت عُ ُ‬ ‫يون الليلِ َبينْ َ ُشقوقِ‬ ‫حتى استوى‪ ..‬ليلك ّيا‬ ‫سالم عليك‪..‬سالم عل ّيا‬ ‫سالم عىل ورد ٍة قبلتك وتاهت‪..‬‬ ‫سالم عىل ريحها‪..‬ال كل ثاني ٍة يف‬ ‫قصيديَ يبعث ح ّيا‬

‫نداء أيضا‬

‫تعايل هبوبا خفيفا‬ ‫ليتساقط زهر املشمش مني‬ ‫وأنفخ يف الصور نحوك‪.‬‬ ‫فتنثال منك زهور الكون‪..‬بكل‬ ‫األلوان‬


‫ثناء‬

‫فهل يستوي من ميطط رقبته يك‬ ‫ير ِاك‪..‬‬ ‫مبن عينه تنتقي من أعايل الغامم‪.‬؟‬ ‫( تحية)‬ ‫صباح كام مشمش جاو َز الح َّد يف‬ ‫ٌ‬ ‫اإلحمرار‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫صباح كام‬ ‫الخوخ فا َر‪ ..‬وخدُّ‬ ‫ٌ‬ ‫الغزال ِة‪ ....‬غار‪.‬‬ ‫صباح لكم‪ ..‬كلام داعبت شفتاها‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫فراولة‪ ..‬أو كام‬ ‫طال عنقُ الغزالة‪ ..‬حني رأى‬ ‫الصائدين‬ ‫ِقصا ْر‬

‫شكرا‪..‬‬ ‫ألنك الندى‬ ‫والصوت حني انداح يف صدري‪..‬‬ ‫وأنك الصدى‬ ‫وأنك املزمار والدفىل وأوراقي‪..‬‬ ‫وكل دفء الكون واملدى‬

‫سامء الغزالة‬

‫ُ‬ ‫حواليك كثرْ ُ ‪..‬‬ ‫البغاث‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الصقر‪..‬لست أحب الزحا ْم‬ ‫وأنا‬ ‫كوكب يف املحالِ ألختار‬ ‫أط ُري إىل ٍ‬ ‫بيت القصي ِد‪..‬‬

‫الرسومات ‪ :‬أحمد عبد العال ‪2009 - 1946‬‬

‫الصخ ِر‪.‬‬ ‫يات أ ْذهَ لها ُف ُ‬ ‫شرَ ُد َْت ِس ِح ّل ٌ‬ ‫ضول‬ ‫الغربا ِء‪.‬‬ ‫ْاختفى ال َقم ُر من شرُ ْ َف ِت ِه‬ ‫رض»‪.‬‬ ‫حداداَ عىل َم ْو ِت عاملٍ» ُمت َ​َح ٍ‬ ‫الريح يف الصحرا ِء‪.‬‬ ‫ُم َخ َّر ٌم ِردا ُء ِ‬ ‫أجسادٌ ال َم ْر ِئ َّي ٌة َت ْلت َُّف ِبأجسا ِدنا‬ ‫زمن غاب ٍر ‪،‬‬ ‫َت ْفت َُح يف ِ‬ ‫أرواحنا نوافذ ٍ‬ ‫َ‬ ‫أصوات أ ّر َقها الحن ُني إىل اآليت‪:‬‬ ‫بقايا‬ ‫ٍ‬ ‫املجنون َي ْل َف ُح َ‬ ‫ُ‬ ‫ني‬ ‫هُ َو‬ ‫الرمل بقدم ِ‬ ‫ني‪،‬‬ ‫حافيت ِ‬ ‫ُينادي لَ ْيال ُه إىل سرَ ي ِر ال َب ْيدا ِء ‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫الصح ِو ؟‬ ‫هل َت َح َّس ْس ِت َنقا َو َة ْ‬ ‫َ‬ ‫هل أ ْغر ِاك ُ‬ ‫ْ‬ ‫الرمل باال ْغ ِتسالِ ‪،‬‬ ‫عاري ًة ِمنْ َز ْي ِف ال َت َمدُّ نِ ‪،‬‬ ‫الصخب والحدي ِد والدخانِ ؟‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الناي َو َش ْد ِو‬ ‫هل أ ْد َم ْع ِت لِن ِ‬ ‫ُواح ِ‬ ‫الح َج ِر؟‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫هل َته َّج ْي ِت ِح ْك َم َة ال َب ْد ِء يف أناشي ِد‬ ‫ال َب ْد ِو‬

‫َ‬ ‫دون ِذ ْك ِر األسام ِء‪..‬؟‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫هل َج َّر ْب ِت الرص َاخ يف ُمط َل ِق‬ ‫الفر ِاغ؟‬ ‫ضام ٌر هذا ُ‬ ‫الليل‪،‬‬ ‫الريح عىل صد ِر الرتب ِة‪،‬‬ ‫لَ ْوال َت َك ُّو ُر ِ‬ ‫الح َج ِر‪.‬‬ ‫كاس‬ ‫النجوم يف َصقيلِ َ‬ ‫وا ْن ِع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫األصوات‪،‬‬ ‫ا ْن َك َم َشت‬ ‫ُل َغ ٌة واحد ٌة ال َت ْكفي‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫‪....‬بياضات‪،‬‬ ‫ال َ‬ ‫صوت َي ْعلو عىل َص ْم ِت الصحرا ِء‪.‬‬ ‫َش ّفاَ َف ٌة َمرايا السام ِء‪،‬‬ ‫ال ُح ُج َب ب َ‬ ‫وكالم الله‪.‬‬ ‫ني ال َبشرَ ِ ِ‬ ‫َخ ِّف ِف َ‬ ‫الخ ْط َو‪،‬‬ ‫هنا سرُ َّ ُة الكون‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تاب األ َزلِ ‪.‬‬ ‫سرِ ُّ ال َب ِد ِء و ِك ُ‬ ‫ف َت َو ّض ْأ ِبطهار ِة الرملِ‬ ‫ِّ‬ ‫َصل َصال َة ال َغ َج ِر أما َم هذا ال َبها ِء‪.‬‬ ‫مأَ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫‪/‬وح ٌ‬ ‫شة ‪/‬ظ ‪...‬‬ ‫رس ٌ‬ ‫اب‪ /‬فر ٌاغ‪َ /‬ت َو ّحدٌ ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ولروحي ِرداء‪.‬‬ ‫أوصاف لِلصحرا ِء‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫لَ ْو َع َر َف ِت الصحرا ُء َم ْن َب َع ال َعط ِش‪،‬‬

‫لَبرَ ِ َئ ْت روحي ِمنْ ُدمَلِ الحيا ِة‪.‬‬ ‫ُن ْد َب ُة ضو ٍء‬ ‫أَ ْي َ‬ ‫الزمن‪،‬‬ ‫قظ ْت َغ ْف َو َة ِ‬ ‫كام ل ِو أَ ّننا ِمتْنا قليال‪،‬‬ ‫َ‬ ‫توابيت املدينة‪،‬‬ ‫كام ل ْو ُكنا‬ ‫َخ َّمن ُْت‪:‬‬ ‫النص عىل ع َت َم ِت ِه‪،‬‬ ‫َس ُأ ْغ ِلقُ َّ‬ ‫سيح ال َّر ْم ُل ِمنْ َبينْ ِ ُ‬ ‫الشقوقِ ‪،‬‬ ‫كيَ ْ ال َي َ‬ ‫َت َذ َّك ْر ُت دَرساً يف َ‬ ‫الجبرْ ِ‬ ‫« ال ُي ّأط ُر َما ال ْ‬ ‫أضالعَ لَهُ»‬ ‫َم ْر ِج ِع ّي ٌة سا ِئ َب ٌة‬ ‫و َفر ُاغ َم ْعنى ال َم ْعنى لَهُ‪.‬‬ ‫ال ذاكر َة للرملِ ‪،‬‬ ‫ال ُو َ‬ ‫األقدام‪،‬‬ ‫ثوق يف َمهاوي‬ ‫ِ‬ ‫هَ َّب ُة هوا ٍء عَبرَ َ ْت‬ ‫َم َح ْت آثار َ‬ ‫الكالم‪.‬‬ ‫الخ ْط ِو و سا ِئ َب‬ ‫ِ‬ ‫من بعي ٍد‬ ‫َس ِم ْع ُت الصدى ُيعيدُ َصداهُ‪:‬‬ ‫مواجع‬ ‫ال رَهْ با ِن َّي َة إال لِل َّر ْملِ يف‬ ‫ِ‬ ‫الصحرا ِء‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪41‬‬


‫ً‬ ‫نظريا‬

‫‪.‬‬

‫صبحي حديدي‬ ‫‪.............................................................................................................‬‬

‫الناقد األبكر‪ ،‬واألكبر‬

‫مثة‬

‫ما يشبه املس ّلمة التي توافقت‪ ،‬بعد أن اتفقت‪ ،‬عليها غالبية ال ُيستهان بها من املشتغلني بالكتابة اإلبداعية يف العامل‬ ‫العريب؛ مفادها أنه مىض زمان النقد املوضوعي الذي يواكب املبدع‪ ،‬والنقد الحايل ك ّله قائم عىل العصابات وال ُز َمر‬ ‫واملحسوبيات‪ .‬ويندر أن ُينرش حوار مع شاعر(ة) أو روايئ(ة)‪ ،‬دون أن يقرتن بهذا الحكم‪ ،‬الساحق املاحق‪ :‬أنا ال أعبأ بالنقد‬ ‫العريب السائد‪ ،‬ألنه ك ّله بال منهج‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويحدث‪ ،‬غالباً أيضاً‪ّ ،‬أن دواعي النفاق‪ ،‬وحفظ خط الرجعة‪ ،‬تدفع صاحب الحكم ذاته إىل إضافة العبارة السحرية‪« :‬طبعاً‪ ،‬مع‬ ‫بعض االستثناءات القليلة»‪ .‬ظريفة وماكرة وفاقعة هذه الالحقة‪ ،‬التي ُيراد لها أن تهبط برداً وسالماً عىل قلوب جميع النقاد‬ ‫دون استثناء؛ ال ليشء سوى ّأن ّ‬ ‫كل ناقد سوف يسارع إىل تصنيف نفسه (من تلقاء نفسه!) يف خانة مخلوقات االستثناءات تلك‪،‬‬ ‫رغم ّأن القياس املنطقي البسيط يشري إىل قاعدة ذهبية‪ ،‬بسيطة بدورها‪ :‬ما فسد كثريه فقليله فاسد أيضاً‪ ،‬بالعدوى عىل ّ‬ ‫األقل!‬ ‫والتاريخ األديب‪ ،‬رشقاً وغرباً يف الواقع‪ ،‬يع ّلمنا ّأن شيوع هذه املعارك ـ أو هذا النوع الزائف منها‪ ،‬تحديداً ـ إمنا يشري أ ّوالً إىل‬ ‫وجود أزمة عميقة أخرى‪ ،‬تتضافر مع أزمات اضطراب األشكال‪ ،‬وقلق األساليب‪ ،‬وانفالت األجناس‪ ،‬وتصارع الت ّيارات‪ ،‬وائتالف‬ ‫ال ُز َمر‪ ،‬وتكريس املحسوبيات‪ .‬إنها األزمة التي ال تضع املبدع يف خندق قتايل ض ّد الناقد هذه امل ّرة‪ ،‬بل تلك التي تضعهام معاً‪،‬‬ ‫يف خندق واحد‪ ،‬ض ّد القارىء‪ ،‬وض ّد القراءة‪ .‬وليس بغري دالالت حاسمة ّ‬ ‫وفضاحة متاماً‪ّ ،‬أن مفردة «القارىء» ال َت ِرد عىل لسان‬ ‫الشاعر(ة) أو الروايئ(ة) وهام يكيالن السهام للناقد؛ وال َت ِرد‪ ،‬كذلك‪ ،‬عىل لسان الناقد وهو ير ّد السهام إىل نحور أصحابها‪.‬‬ ‫املتخاصمون يفرتضون‪ ،‬سلفاً ودون عناء‪ّ ،‬أن القارىء املسته ِلك العريض إمنا يقع خارج «قوس الرصاع» بني جيوش اإلبداع‬ ‫وجيوش النقد‪ ،‬وأنه يف الحقيقة ليس رق ًام يف املعادلة «الحربية» الكفيلة برتجيح ك ّفة فريق عىل فريق‪ .‬أو رمبا ّ‬ ‫ألن املتخاصمني‬ ‫يفرتضون ضمناً ّأن القارىء الجدير بالدخول طرفاً يف الرصاع مل يولد بعد؛ أو ّأن والدته عسرية بالتعريف‪ ،‬أو قيرصية بالتمنّي‪،‬‬ ‫أو هي مؤجلة إىل زمن الحق ال صلة تجمعه بزمن اشتداد الرصاع بني الس ّيد املبدع والس ّيد الناقد‪ :‬زمن خارج األزمان‪ ،‬بعبارة‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫أين القارىء؟ ماذا يقرأ من إبداع أو نقد‪ ،‬وملاذا؟ ماذا يشرتي من أصناف البضائع ذاتها‪ ،‬وملاذا؟ هذه أسئلة نافلة‪ ،‬أو أسئلة‬ ‫متخلفة‪ ،‬أو أسئلة ال تتفق أطراف الرصاع عىل أمر قدر اتفاقها عىل تغييبها متاماً من ساحة القتال؛ وكفى الله املبدعني والن ّقاد‬ ‫ّ‬ ‫رش قتال غري محمود العواقب‪ ،‬حول قارىء غري محمود الصفات! الفاضح أكرث ّأن املبدع الذي يشتم النقد يتناىس هو ّية الناقد‬ ‫حصة لرشاء رواية أو مجموعة شعرية‪ ،‬فحسب؛ بل يفعل ذلك قبل‪ ،‬ودون‬ ‫األ ّول‪ ،‬القارىء‪ ،‬الذي ال يقتطع من قوته اليومي ّ‬ ‫حاجة إىل‪ ،‬ما قاله أو سيقوله الناقد عن هذه الرواية‪ ،‬أو تلك املجموعة الشعرية‪.‬‬ ‫ومسألة «قبل» نابعة من حقيقة أننا ال منلك‪ ،‬بعدُ ‪ ،‬تقاليد االعتامد عىل ما يقوله املنرب الثقايف يف ترشيد خيارات رشاء البضاعة‬ ‫الثقافية املطروحة يف السوق‪ .‬ومسألة «دون حاجة» تنبثق من حقيقة ّأن أهواء القارىء‪ ،‬يف اختيار البضاعة‪ ،‬ال تعتمد بالرضورة‬ ‫عىل نصائح يز ّوده بها النقد من أجل فرز وتقليب البضاعة‪ ،‬قبل اتخاذ القرار برشائها‪ّ .‬‬ ‫ولعل األمر‪ ،‬يف الجوهر‪ ،‬يخترصه ميل‬ ‫املستهلك إىل االرتياب يف نوايا اإلعالنات التي تر ّوج للبضاعة‪ ،‬وألنه نادراً ما ُيلدغ من جحر م ّرتني!‬ ‫وكان الفيلسوف والناقد الفرنيس غاستون باشالر يرضع إىل الله‪ ،‬صباح مساء‪ ،‬يك يعينه عىل اكتساب صفة «القارىء»‪ ،‬ليس‬ ‫بسبب من تواضع كاذب أو تقليل من قيمة التأ ّمل الفلسفي والنقدي حول ظاهرة اإلبداع‪ ،‬بل إجالالً ملفهوم القراءة ذاتها‪،‬‬ ‫واألهم‪ ،‬بوصفه‬ ‫تحديداً‪ .‬ف ِل َم ال يتعظ املبدع مبا يقوله الرجل عن قيمة القراءة؟ ولِ َم ال يحتكم إىل القارىء‪ ،‬يف املقام األ ّول‬ ‫ّ‬ ‫الناقد األبكر‪ ...‬واألكرب؟‬

‫‪42‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫نقد‬

‫البرودني ج ّواب العصور‬

‫الماضي يضعف الحاضر‬

‫«جوّ اب العصور» هو عنوان المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر اليمني عبدهللا البردوني‬ ‫صدرت عام ‪ ،1991‬وقد حملت عنوان إحدى قصائدها‪ ،‬التي تتحدث عن شخصية من عموم الشعب‬

‫ُتسمى زيد منسوبة إلى إحدى المناطق اليمنية وهي وصاب‪ ،‬وزيد الوصابي موضوع القصيدة هو‬ ‫عموم الشعب اليمني الذي ظل يكدح وراء لقمة العيش منذ األزل‬

‫عبد الرحمن مراد‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪43‬‬


‫نقد‬

‫يستهل الربدوين القصيدة باملرور يف السوق كرمز للوضع‬ ‫االقتصادي الذي يعاين منه ذلك املواطن املسكني «زيد»‪،‬‬ ‫وتتحدث عن ضيق ذات اليد‪ ،‬وعوامل إغراء السوق يف‬ ‫مقابل عجز مضن يف القدرة الرشائية‪ ،‬وتصف مقاطع‬ ‫القصيدة األوىل مشاهد لعلها تتكرر بصفة شبه دامئة يف‬ ‫الشارع عىل امتداده‪ ،‬ويتنازع النص ثالثة ضامئر لتأكيد‬ ‫صفة التالزم وواحدية الهم واملعاناة بني «األنا» وبني‬ ‫املتلقي ويتجىل ذلك يف‪:‬‬ ‫ما الذي تبتاع يا زيد الوصايب‬ ‫هل هنا سوق سوى هذا املرايب‬ ‫ويف قوله‪:‬‬ ‫سوف تلقى سبهم يا ليتهم‬ ‫أحسنوا احدوثة حتى سبايب‬ ‫كل يوم ال ترى ما ترتيض‬ ‫ثم تغيض آبياً أو غري آيب‬ ‫أما األنا الشاعرة فتتجىل بوضوح يف‪:‬‬ ‫هل أنا أسمعت حيني فلو‬ ‫صحت هل يستوقف السوق اصطخايب‬ ‫قل ملاذا جئت يا زيد إىل‬ ‫هذه األنقاض؟ أجرت اخرتايب‬ ‫من خالل األمثلة التطبيقية تتجىل «األنا» وتتوارى‪،‬‬ ‫وعندما تتجىل تحمل صفات الرافض الذي يطغى عليه‬ ‫الواقع كقوة قهرية تعيقه عن تحقيق آمال ثوريته‪.‬‬ ‫وشعور «األنا» بالهزمية أمام هذا الواقع تفرسه بعامل‬ ‫زمني وذلك بالعودة إىل املايض والبدايات األوىل‪:‬‬ ‫كنت يف عرص الرباءات بال‬ ‫درهم أهني طعامي ورشايب‬ ‫يف متاه الشنفرى أذهلني‬ ‫عن نداء الجوف دفعي وأنجذايب‬ ‫قلت يا صحراء خذي جمجمتي‬ ‫فأجابت ‪ :‬هاك لييل وذئايب‬ ‫تكشف رؤية الربدوين يف بعدها الزمني والفلسفي اإلرث‬ ‫الحضاري لـ «زيد الوصايب» إذ أن املايض يزحف إىل‬ ‫الحارض ويعيد إنتاج نفسه يف املجتمعات التقليدية كام‬ ‫يرى ذلك «ألفني توفلر» ولعلنا نستشف أن املايض مازال‬

‫‪44‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫يشكل معادلة صعبة مع حارض «زيد الوصايب»‪ ،‬وهذا‬ ‫يعني توقف دورة الزمن والحضارة وتراجع اندفاعات‬ ‫اإلبداع والتطور اإلنساين‪.‬‬

‫يا وصايب والدي يحتلني‬ ‫وجهه من داخيل يرخي حجايب‬

‫فاالحتالل هنا احتالل زمني ماضوي مازال يشكل مالمح‬ ‫الحارض ويعيد إنتاج نفسه يف أعامق «األنا» وما لبث‬ ‫يرخي الفواصل الزمنية املتسلسلة يف ذاكرة التاريخ مبا‬ ‫يحمله من دالالت ثقافية مازالت جزئياتها تتغلغل يف‬ ‫أسلوب تعاملنا مع واقعنا وثقافتنا العرصية‪:‬‬ ‫كلام مريت قالوا‪ :‬بنت مـــــن؟‬ ‫من أبوها؟ عنبيس بل شـــــوايب‬ ‫يا طريق البيت هذا أسمي هدى‬ ‫من هدى؟ يا بنت شعسان الربايب‬ ‫أنت يا زيد الذي أشكــيــتــــها‬ ‫بل شكت مأساة أختي و اغرتايب‬


‫عبد اهلل البردوني‬

‫أو عىل عمرو بن معد يعتدي‬ ‫ويف النص تحليل لواحدية الهم الذي ميتد عرب عصور‬ ‫فيالقيه بسيف غري ناب‬ ‫حضارية متعاقبة فرسه يف بداية النص بدءا ً من عرص‬ ‫الرخاء الذي وصفه بعرص الرباءات مرورا ً بالعرص الجاهيل أو يحث األشرت اآلن أعرتف‬ ‫أنت زيد يا أخا الجرد الكوايب‬ ‫الذي يحمل مدلوله «الشنفري» وانتها ًء بثامنينيات القرن‬ ‫رمبا يسطو عىل موىس الرضا‬ ‫املايض التي بدت املعاناة فيه بشكل أدهى وأفظع وقد‬ ‫أو إىل اإلعدام يقتاد عرايب‬ ‫أسهب الحديث عنها وفرسها باإلرث الثقايف املمتد‪:‬‬ ‫أو عىل الصايب يويش تهمة‬ ‫وقلت زيدي خمسة قالت أيب‬ ‫أنت زيد يف سجل الحزب صايب‬ ‫كان أيام الصليحني جايب‬ ‫وسيعزو كلام يعتاده‬ ‫قلت هل هذا ترايث؟ ضحكت‬ ‫من حامقات إىل مرمى صوايب‬ ‫وأضافت وترايث واكتسايب‬ ‫إن عودة الذاكرة إىل املايض اكتشاف للحارض وتفسري لـه‬ ‫كل تلك االنكسارات الحضارية يف املفاهيم واملعتقدات‬ ‫ومن ثم محاولة ترميمه وبنائه وفق رؤية جديدة ومن‬ ‫أوهنت «األنا» الشاعرة يف إعادة صياغة األشياء‪:‬‬ ‫هنا كانت اإلحالة التاريخية‪.‬‬ ‫انتبه يا زيد قف‪ ..‬سيارة‬ ‫«فتوح الشام» «شام همدان» «سبأ» «األشرت» «عمرو‬ ‫املنايا واملنى أحىل كعايب‬ ‫بن معد» «موىس الرضا» ذات مضامني ودالالت تحمل‬ ‫خنتني يا زيد كم أضعفتني‬ ‫معاين الحارض وتحاول اكتشافه يف املايض كمكون ثقايف‬ ‫مذ تخريت من املعهد اصطحايب‬ ‫صنع الحارض وذاب بني تفاصيل سويعاته وحركاته باعتبار‬ ‫أال تبدو «األنا» الشاعرة هنا آرصة تجمع بني التاريخ‬ ‫الزمن وعياً لحركة فعل اإلنسان وكثافة معرفية يف الذاكرة‬ ‫والحضارة لتكشف كيف يتحرك املايض يك يضعف الحارض‬ ‫تتجسد يف الفعل الذي يرتبط بالزمان الدال عىل هوية‬ ‫واملستقبل‪ ،‬لذلك تنكفئ عىل ذاتها وتبدع عاملها وفق‬ ‫اإلنسان الحضارية‪ ،‬ومن هنا يصبح الفن بديالً للواقع‬ ‫تطلعها وفنيتها وتصورها األكرث تحررا ً‪:‬‬ ‫من خالل إحداث تلك الهزات العنيفة يف جدار التاريخ‬ ‫إنني أبدع مني عاملاً ال تالقي‬ ‫فيه محبوا ً وحايب‬ ‫ليس فيه محكوم وال‬ ‫تكشف رؤية البردوني في‬ ‫أي حكم عسكري أو نيايب‬ ‫ولعل امتداد نفس النص «‪ 108‬بيت شعري» جعل‬ ‫بعدها الزمني والفلسفي‬ ‫الشاعر يفرس الظاهرة من أكرث من وجه تأكيدا ً لفكرته‬ ‫اإلرث الحضاري لـ «زيد‬ ‫وتأصيالً لها‪:‬‬ ‫الوصابي» إذ أن الماضي‬ ‫هاك الفني وحدد بيته‬ ‫يزحف إلى الحاضر ويعيد‬ ‫من رىب التاريخ يف أعىل الروايب‬ ‫يف فتوح الشام يثوي قائالً‬ ‫إنتاج نفسه في المجتمعات‬ ‫رد يل أزىك أب أصل انتسايب‬ ‫التقليدية‬ ‫إنه من شام همدان وما‬ ‫يف رباة صعبة نثني ركايب‬ ‫عله اليوم يسمي حمريا أو يبتغي‬ ‫سبأ‪ :‬من أنت‪ ،‬سايب‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪45‬‬


‫نقد‬

‫نعبئ الريح أشواقاً وأشعارا‬ ‫وإعادة صياغتها ومتطلبات الرؤية الفنية من أجل إحداث‬ ‫التوازن املطلوب بني الذات املتطلعة والواقع املحيط بها‪ :‬تبدو التجربة الشعرية هنا وكأنها قادرة عىل إعادة‬ ‫تشكيل املوجودات ذات الخصوصية السكونية حتى‬ ‫إنني أبدع مني عـــالـمـــا‬ ‫تنبعث منها الحركة والتمرد فهي تغوص يف املايض‬ ‫ال تالقي فيه محبوا ً وحايب‬ ‫لتكتشف حركة الجذور وتطاولها لتجعلها يف نسق متوحد‬ ‫والربدوين املبدع يرى اإلبداع تفكريا ً تؤطره حاجات‬ ‫املجتمع وصوالً إىل الغاية التي هي مصدر التحوالت التي مع حركة املستقبل‪ ،‬فامتدادها امتداد عدمي يف مقابل‬ ‫امتداد حركة املستقبل‪:‬‬ ‫يحققها الفعل يف املحيط من حوله ويف نفسه كمبدع‬ ‫متمرد عىل إرث ثقايف بات عاجزا ً عن صياغة فكرة قادرة يا كل شوط تطاول لن نقول متى‬ ‫ننهي وكم قطعنا منك أمتار‬ ‫عىل حل إشكاالته وحالت يف الوقت نفسه عن منو الحركة‬ ‫متتد‪ ..‬منتد‪ ..‬نصبي كل رابية‬ ‫إىل املستقبل‪ ،‬وعندما أفرط يف استعادة التاريخ كمعادل‬ ‫وندخل املنحنى والسفح أفكارا ً‬ ‫موضوعي وأسقطه عىل الراهن‪ ،‬إمنا أراد تعزيز حركة‬ ‫إن ثورية الربدوين يف النص تتجىل يف تثوير املكان‪ ،‬فهي‬ ‫فكرته إىل املستقبل وكان اختياره عىل أساس انتقايئ‪،‬‬ ‫تبدع فيه الحركة والتململ وتخلق فيه مشاعر الثورة‬ ‫مضيفاً إليه فعالً ثقافياً جديدا ً حتى يستطيع تشخيص‬ ‫والتحول كانتصار للحركة وتجاوز لخصوصيته السكونية‬ ‫وفهم قضايا الراهن ليصنع واقعاً جديدا ً متطورا ً يحمل‬ ‫فبدت املوجودات املكانية ذات أبعاد إنسانية تؤكد الفعل‬ ‫معاين العطاء واإلثراء‪ ،‬تحقيقاً للهوية العرصية التي‬ ‫الثوري كتجديد يرشئب إىل الغد‪ .‬الحظ أفعال األبيات‪:‬‬ ‫تتجسد يف مفهومه كفعل تغيريي متجدد‪:‬‬ ‫«نصبى‪ ،‬ندخل‪ ،‬نحيل‪ ،‬نعبئ‪ ،‬ننصب‪ ،‬نخرض‪ ،‬نفور‪ ،‬ترقى‪،‬‬ ‫عامل الربدوين النقي عامل مبدع يخلق عوامل التجدد غري‬ ‫تحتلنا‪ ،‬نجيش‪ ،‬تقلبنا‪ ،‬تكتبنا‪ ،‬نزكو‪ ،‬تصوبنا» ‪.‬‬ ‫مقيد بفكرة مستهلكة معيقة لحركة املستقبل‪ ،‬إنه عامل‬ ‫املالحظ أنها أفعال تغريية‪ ،‬ثورية ثم الحظ معموالتها‪:‬‬ ‫ثائر عىل كل يشء بحيث تصبح الحياة منتجاً ثرا ً‪ ،‬غري‬ ‫«كل رابية – املنحنى والسفح أفكارا ً – كل حصاة‪ ،‬شهوة‬ ‫متكررة أو مجرتة من ظالل املايض بل مفعمة بأسباب‬ ‫االرتقاء الجديد الذي يلبي حاجات الراهن ويتجاوز قيود وصبى – الريح أشواقاً وأشعارا ً» فالصورة الشعرية من‬ ‫املايض‪ ،‬بينام األفعال تسترشف املستقبل باعتباره فتحاً‬ ‫خالل تفاعلها مع املحيط املكاين تفيض إىل حركة تثويرية‬ ‫حيث تتجسد فاعلية املكان عرب‬ ‫جديدا ً‪ ،‬يف طياته أحداث متلمل‬ ‫الحركة التثويرية لتفيض إىل دالالت‬ ‫الشباب‪ ،‬كام أن املفردات ذات‬ ‫التحول‪.‬‬ ‫أبعاد داللية وأنزياحية تومي إىل‬ ‫والحركة هنا تجسد هوية الشاعر‬ ‫الفكرة كتجديد تغيريي متغاير‬ ‫ومبدأ التمرد وحضوره الفاعل يف‬ ‫ال مياثل إال الواقع املتحرك‬ ‫بلورة رؤيا شعرية تتمرد عىل اللحظة‬ ‫والطور الحضاري الذي يدل عىل‬ ‫الساكنة يك تبدع آفاقاً جديدة تتأبط‬ ‫الذات أو هوية الذات املعارصة‬ ‫آمال الجامهري التي ترفض أشكال‬ ‫واملتجددة‪:‬‬ ‫القهر والظلم واإلذعان‪:‬‬ ‫يا كل شوط تطاول لن نقول متى‬ ‫حني تغىش البيوت من أين تأيت‬ ‫ننهي وال كم قطعنا منك أمتارا‬ ‫من رياح كام تروغ الطريدة‬ ‫متتد منتد نصبي كل رابية‬ ‫فأراين حيناً بروقاً وحيناً‬ ‫وندخل املنحنى والسفح أفكارا‬ ‫أنثني غيمة خطاها ونيدة‬ ‫نحيل كل حصاة شهوة وصبى‬

‫‪46‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫عبد اهلل البردوني‬

‫ثورية البردوني في النص‬ ‫تتجلى في تثوير المكان‪،‬‬ ‫فهي تبدع فيه الحركة‬ ‫والتململ وتخلق فيه مشاعر‬ ‫الثورة والتحول كانتصار‬ ‫للحركة وتجاوز لخصوصيته‬ ‫السكونية‬

‫وأوانا أحسني فيضاناً‬ ‫التي ترى يف نفسها برقاً وغيمة وتحس أنها فيضان يطمر‬ ‫املايض ويعيد صياغة املوجودات املكانية واألبيات التالية‬ ‫ميضغ الرمل والشظايا البديدة‬ ‫تؤكد ما ذهبنا إليه‪:‬‬ ‫فالردى هنا يعادل العجز والسؤال يف صيغته املركبة‬ ‫قل تريد الهروب مت مرارا ً‬ ‫واملقصود بالصيغة املركبة كام قالها الناقد عبد الودود‬ ‫ونجت يل أراديت والعقيدة‬ ‫سيف الجمع بني التقرير والسؤال يف آن معاً‪ ،‬يف صيغة‬ ‫واحدة‪ ،‬وظاهر الصيغة السؤال ومضمونها الفعيل التقرير‪ ،‬كم مضت يب أغبى املنون املوايض‬ ‫وأنثنت يب أصبى املنايا املعيدة‬ ‫والسؤال يف تلك الصيغة من املميزات األسلوبية عند‬ ‫املعيدات هل طران مردا ً‬ ‫الربدوين وحتى تتضح الصورة نقول إن األبيات السابقة‬ ‫ما عالماتها الوجوه الرديدة‬ ‫من قصيدة بعنوان «ليلة يف صحبة املوت»‪ ،‬ومطلعها‪:‬‬ ‫هاك قاتاً وجرة وجريدة هل سريجعن ما بعثت وكم يل‬ ‫ساعة يا ردى أتم القصيدة‬ ‫بعثات طريفة وتليدة‬ ‫والضمري يف البيت األول يعود عىل الردى الذي أسلفنا‬ ‫هل سأوي الردى هنا؟ أي لحد‬ ‫القول عنه يف األسطر السابقة أنه يعادل العجز‪ ،‬إذ أن‬ ‫حني تنقض من هنا اللحيدة‬ ‫القصد الفعيل من السؤال «من أين تأيت» هو تغطية‬ ‫مضمونه املقرر فيه بصبغة السؤال «أمن رياح» كام تروغ بيد أن اإلنسان الذي يشكل املحور األسايس يف رؤيا‬ ‫الربدوين الشعرية يظل متأثرا ً باملحيط وباألرث الثقايف‬ ‫الطريدة‪ ،‬واملضمون كام نالحظ يرمز إىل التغري فالرياح‬ ‫والحضاري الذي يتغلغل يف الذاكرة كامتداد زمني‪-:‬‬ ‫يف مدلولها الذهني حركة وكذا الفعل تروغ يف مدلوله‬ ‫حركة والطريدة يف مدلولها حركة‪ ،‬وكأن تجربته مع الردى تصيح‪ :‬إظالمي أصول الرثى‬ ‫والضوء فيه حالة غاربة‬ ‫تعادل تجربته مع الحياة وصيغة السؤال ال تحمل املدلول‬ ‫مازال رغم النفط والكهربا‬ ‫القديم لها كاستنكار‪ ،‬ولكنها تتضمن معنى التمرد إذ‬ ‫أدجى حىش من أمة الحطابة‬ ‫ميكن االستغناء عنها وتصبح العبارة «حني تغىش البيوت‬ ‫تأيت من رياح كام تروغ الطريدة»‪ ،‬وبذلك يتجىل املعادل «اإلظالم» هنا كمفردة خرجت من مدلولها القامويس‬ ‫لتدل عىل «الجمود» والضوء عىل الحركة الزمنية املتغرية‪،‬‬ ‫كرافض للفناء مبعناه الحيس‪ ،‬الذهني كانتهاء وراغب‬ ‫فيه كتجديد يعيد صياغة الواقع وفق رؤيا األنا الشاعرة‪ ،‬ومازال اإلنسان رغم تغري املحيط من حوله يشعر بتجذر‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪47‬‬


‫نقد‬

‫االنتامء إىل املايض‪ ،‬كمنظومة متكاملة من القيم واألفكار‬ ‫واألعراف والتقاليد إىل أن تصبح محورا ً يكشف الكثري من‬ ‫اآللية النفسية وطبيعة الفكرة التي تفلسف الراهن‪:‬‬ ‫قررت أن أرفع سعر الكرى‬ ‫وأن أنيم األنجم الثاقبة‬ ‫أن تدفع الريح رسوماً عىل‬ ‫مرورها راحلة آيبة‬ ‫وأن تؤدي كل إمياضة‬ ‫رضيبة للطلقة الضاربة‬ ‫وأن يجول املنحنى البساً‬ ‫عاممة كالربوة الالهبة‬ ‫وأن متر الساعة العرش من‬ ‫وجه الضحى‪ ،‬كالخالة العاتبة‬ ‫أن تخرج األجداث متيش غدا ً‬ ‫وتنثني بعد غد راكبة‬ ‫متيز شعر الربدوين بقدرته عىل اكتناه حقيقة اإلنسان‪،‬‬ ‫والتعبري عن شهوته يف التسلط وقهر اآلخر‪ ،‬وهي حقيقة‬ ‫تاريخية ال ترتبط بالراهن وإمنا ترتبط باملايض كهوية كون‬ ‫اإلنسان صورة مصغرة لقبيلته مبا يختزنه يف الال وعي من‬ ‫قيم ومفاهيم وعادات وتقاليد‪.‬‬ ‫وقد انطلق الربدوين من حقيقة تاريخية محاوالً حث‬ ‫اإلنسان ليعيد صياغة واقعه وخلق حضارته بنفسه وفق‬ ‫رؤية شعرية تحاول إحداث عامل توازن بني الواقع‬ ‫والرؤية‪:‬‬ ‫يقولون‪ :‬أدمنت جوب العصور‬ ‫ورافقت أخطارا ً عىل الجبال‬ ‫نعم كان ذاك‪ ،‬وهذا‪ ،‬وكان‬ ‫رشايب وقويت غبارا ً وآل‬ ‫لقد أحدث الربدوين رصاعاً بني الرؤيا والواقع لكن الحلم‬ ‫ينهزم وتبقى اإلرادة كأقوى عامل تغيري‪:‬‬ ‫أمانيك تبدو كاملية‬ ‫أتسكر والخبز أعىل منال‬ ‫تريد الصدى قبل قرع الطريق‬ ‫دليل اإلرادات ومض الخيال‬ ‫غري أن الربدوين كان يشعر بهزمية الواقع وبرشوطه‬

‫‪48‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫التاريخية الضاغطة عليه‪ ،‬وكثريا ً ما كان ينفرد برؤياه‬ ‫الخاصة التي غالباً ما تحمل يف أذيالها ضالل الواقع‬ ‫وسوداويته املعتمة‪:‬‬ ‫ال تخف يا زيد شيئاً‪ ،‬ومتى‬ ‫خفت أو قيل رأي الهول اجتنايب‬ ‫جبت عرصا ً بعد عرص وأنا‬ ‫أنت‪ ،‬مازلت أنا ذاك الوصايب‬ ‫لقد أراد الربدوين من خالل غوصه يف أعامق التاريخ‬ ‫اعتامدا ً عىل ثقافته الواسعة واسقاطاته التاريخية أن‬ ‫يكتشف القيم الحضارية‪ ،‬ليعيد صياغة الثالثية التي‬ ‫تأسست يف فكره وفنه كأهم مرتكزات املستقبل‪ ،‬وقد‬ ‫خلقت فيه إخفاقاته شخصية صدامية مع الواقع الذي‬ ‫ما فتئ يعري سوءاته يف جل إصداراته اإلبداعية ومع‬ ‫املوجودات من حوله كدمى حاولت أن تلعب مبصري‬ ‫التاريخ واملستقبل وميكن القول إن الربدوين أو القصيدة‬ ‫الربدونية كانت فكرة متقدمة عىل واقعها‪ ،‬وقد عجز‬ ‫واقعها عن مواكبتها أو اللحاق بها‬


‫تحقيق‬

‫الشعر والنقد‬

‫إدانة متبادلة وحلول غائبة‬ ‫كثر الحديث مؤخرا عن موضوع غياب النقد‪ ،‬وابتعاده عن الشعر وعدم مواكبة ما يتم نشره من أعمال‬ ‫شعرية عربية‪ ،‬ما أنتج حالة من القطيعة‪ ،‬وتبادل االتهامات بين الشعراء والنقاد‪ ،‬ثم الدخول في مساحات‬ ‫الجدل الواسعة التي ابتعدت عن ايجاد حلول وأسباب واضحة‪ ،‬وظلت حاضرة في مكان واحد ال يُ سمع‬ ‫في فضائه سوى صوت االشتباك واللوم والحديث الذي يحاول الكشف عن المسؤول دون جدوى‪« .‬بيت‬ ‫الشعر» وقفت عند وجهات نظر الطرفين‪ ،‬في محاولة الستجالء أسباب تزايد الفجوة بين النقد واإلنتاج‬ ‫الشعري الحديث‪.‬‬

‫القاهرة‪ -‬حمزة قناوي‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪49‬‬


‫تحقيق‬

‫ثناء أنس الوجود‬

‫«ليست مسؤوليتنا والتقصري ليس م َّنا»‪ ..‬بهذه العبارة‬ ‫الواضحة‪ ،‬دافعت ثناء أنس الوجود‪ ،‬رئيسة قسم اللغة‬ ‫العربية بكلية اآلداب جامعة عني شمس‪ ،‬عن نُقاد الشعر‪،‬‬ ‫ورفضت تحميلهم مسؤولية تراجع دور الشعر وخفوت‬ ‫صوته عىل ساحة األدب‪ .‬إال انها أكدت عىل واقع غياب‬ ‫نقد الشعر يف الوطن العريب‪ ،‬بغض النظر عن إلقاء‬ ‫مسؤولية ذلك الغياب عىل كاهل أحد طريف املعادلة‪:‬‬ ‫الشعراء أو النقاد‪.‬‬ ‫ورأت أن اإلنتاج الشعري نفسه‪ ،‬وقصيدة النرث تحديدا ً‪،‬‬ ‫السبب الرئيس وراء تراجع اإلسهام النقدي ومالحقته ملا‬ ‫يتم طرحه من شعر‪ ،‬إلرساف شعراء النرث يف الغموض‪،‬‬ ‫وبالتايل إخراج منتج ال يجد قبوالً لدى املتلقي‪ ،‬ويحتاج‬ ‫إىل ثالثة أضعاف الجهد والوقت الالزمني لكتابة نص‬ ‫نقدي تحلييل حول قصيدة من قصائد التفعيلة‪.‬‬ ‫تتحرس الدكتورة أنس الوجود عىل «زمن الشعر الجميل»‪،‬‬ ‫عىل حد تعبريها‪ ،‬قائلةً‪« :‬حتى عندما َّأسست نازك‬ ‫املالئكة يف الخمسينيات لونًا جدي ًدا من الشعر‪ ،‬تعارفوا‬ ‫عليه فيام بعد باسم (شعر التفعيلة)‪ ،‬مل يكن إنتاجها‬ ‫شاذًّا أو غامضً ا‪ ،‬وال يشوبه االستسهال مثلام يحدث اآلن‬ ‫من قبل أنصاف املوهوبني‪ ،‬الذين ظنوا أن خلو الشعر‬ ‫من الوزن ميكن أن يعفيهم من أسس أخرى»‪ ،‬وتستطرد‬ ‫موضحة‪« :‬ليك أكتب قصيدة نرث جيدة ال بد أن أكون قد‬ ‫درست الشعر العمودي والتفعييل‪ ،‬وقرأت منهام مناذج‬ ‫كثرية‪ ،‬وأستطيع أن أكتب قصيدة عمودية أو تفعيلة‪،‬‬ ‫ووقتها عندما أكتب النرث‪ ،‬سيكون إنتاجي ناض ًجا‪ ،‬ولكن ما‬ ‫يحدث اآلن غري ذلك»‪.‬‬

‫لكي أكتب قصيدة نثر جيدة‬ ‫ال بد أن أكون قد درست الشعر‬ ‫العمودي والتفعيلي‪ ،‬وقرأت‬ ‫منهما نماذج كثيرة‬

‫‪50‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫وتنوه أنس الوجود إىل قضية‬ ‫أخرى تؤثر يف الحركة النقدية‪،‬‬ ‫وهي أن تراجع نقد الشعر‬ ‫رمبا «يعود إىل تأثري الحركة‬ ‫الشعرية‪ ،‬مشرية إىل أن الكتابة‬ ‫النقدية التي تعالج النصوص‬ ‫القصصية أو الروائية التي ال‬ ‫ترتبط مبرجعيات بعينها‪ ،‬أسهل‬ ‫بكثري عن الكتابة التي تعالج‬ ‫نصا شعريًّا؛ بسبب ما ميلكه‬ ‫ًّ‬ ‫الشعر العريب من تراكامت‬ ‫استمرت عىل مدى أكرث من ‪ 17‬قرنًا»‪.‬‬ ‫وترى أن اإلقدام عىل نقد قصيدة النرث مبثابة مغامرة‪،‬‬ ‫وأن النقاد يخشون مخاطر الوقوع يف األخطاء‪ ،‬خاص ًة‬ ‫مع دخول الشعر إىل الحداثة وقابليته للتامهي مع فنون‬ ‫الصورة‪ ،‬وقدرته عىل استيعاب األفكار والدالالت‪ ،‬وما‬ ‫يتمتع به الشعر من اختزال وقابليته الستيعاب الغموض‬ ‫الفني الذي يربر وجوده كفنٍ صعب يحتاج إىل ذائقة‬ ‫وحساسية ال تتوافران لدى الكثري من املتلقني‪.‬‬ ‫وتختتم أنس الوجود حديثها لـ«بيت الشعر» برأيها‬ ‫نص ُموا ٍز‬ ‫الصارِم يف قصيدة النرث‪ ،‬قائلة‪« :‬الكتابة النقدية ُّ‬ ‫تلق‪ ،‬فكيف أكتب‬ ‫للنص األديب‪ ،‬وقصيدة النرث تعاين أزمة ٍّ‬ ‫نصا موازيًا لنص مل يجد متلقيه؟»‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫‪...................................................................................‬‬

‫محمد عبداملطلب‬

‫الناقد محمد عبد املطلب‪ ،‬أستاذ البالغة بكلية اآلداب‬ ‫جامعة عني شمس‪ ،‬يربر تراجع إنتاج النقد الشعري‬ ‫مبا اعتربه «استحواذا ً» من الرواية عىل اهتامم الشعراء‬ ‫وال ُنقاد‪ ،‬وتخيل الكثري من نقاد عن الشعر‪ ،‬واتجاههم‬ ‫للرواية‪ ،‬حتى إن ناقدا ً للشعر مثل صالح فضل‪ ،‬أصبح‬ ‫يكتب نقده اآلن عن الرواية‪ ،‬وقال‪« :‬توجد يف البلدان‬ ‫العربية دراسات شعرية عديدة‪ ،‬ومعظم املؤمترات‬ ‫والجوائز مخصصة للشعر‪ ،‬أما يف مرص فاالهتامم يقترص‬ ‫عىل الرواية‪ ،‬ألنه غال ًبا ما تكتبها امرأة‪ ،‬وبالتايل تحظى‬


‫الشعر والنقد‬

‫االهتمام يقتصر على الرواية‪،‬‬ ‫ألنه غال ًبا ما تكتبها امرأة‪،‬‬ ‫فتحظى باالهتمام‪ ،‬أما الشعر‬ ‫فيكتبه رجل ويتم تجاهله‬

‫ويلفت «البحراوي» إىل أن النقد بصفة عامة‪ ،‬مل يتأسس‬ ‫بقدر كاف يف الحياة الثقافية الحديثة‪ ،‬بسبب عدم إتاحة‬ ‫مساحات حقيقية للنرش‪ ،‬باإلضافة إىل الخلط الدائم بني‬ ‫الناقد والصحفي املتخصص يف الكتابة األدبية‪ ،‬موضحاً أن‬ ‫نقد الشعر يحتاج بطبيعته إىل التخصص والدراسة التي‬ ‫ال يقدر عليها أحد‪ ،‬ومل يأخذ النقد يف املنطقة العربية‬ ‫باالهتامم‪ ،‬أما الشعر فيكتبه رجل‪ ،‬فيتم تجاهله»!‬ ‫بالتجارب النقدية الغربية ومدارسها املتطورة التي تركت‬ ‫ويرى عبد املطلب أن السينام والتلفزيون ساعدا يف‬ ‫أث ًرا كب ًريا يف حقل النقد عىل مستوى العامل كله‪.‬‬ ‫سطوع نجم الرواية عىل حساب الشعر‪ ،‬بتح ُّول العديد‬ ‫من النصوص الرسدية إىل مسلسالت أو أفالم‪ ،‬وأن «املتابع ويتفق البحراوي مع عبد املطلب يف أن هناك إنتاجاً نقدياً‬ ‫مكثفاً‪ ،‬ولكن ال يجد من يهتم به‪ ،‬مشريا ً إىل أن معظم‬ ‫للحركة الثقافية سيجد أن الشهرة هي التي تجري وراء‬ ‫كُتَّاب الرواية مثل عالء األسواين ومكاوي سعيد وغريهام‪ ،‬نقاد الشعر أكادمييون‪ ،‬ال تهتم بهم الصحف‪ ،‬وال تصدر‬ ‫دراساتهم يف كتب‪ ،‬وإذا صدرت ال يهتم بها أحد‪ ،‬حيث‬ ‫أما الشعراء فال أحد يعرف عنهم شيئًا‪ ،‬فمرص أهملت‬ ‫االهتامم األكرب اآلن بالدوريات والصحف‪ ،‬وليس بالكتاب‪.‬‬ ‫الشعر واللغة ليصبحا يف جانب مظلم»‪ ،‬ويستشهد عبد‬ ‫أي أنه‪ -‬باعرتاف النقاد أنفسهم‪ -‬فإن النقد تأخر عن‬ ‫املطلب مبقولة جابر عصفور‪« :‬إننا نعيش زمن الرواية»‪.‬‬ ‫مواكبة الحركة الشعرية‪ ،‬حتى أصبح مثل جواد يعجز عن‬ ‫وعىل الرغم من كل ما ذكره عبد املطلب‪ ،‬فإنه يرى أن‬ ‫جر العربة‪ ،‬التي باتت ال تعبأ به‪ ،‬وتنطلق عىل غري هدى‪،‬‬ ‫الصورة ليست قامتة متا ًما‪ ،‬وأن نقد الشعر ليس قليالً‪،‬‬ ‫وهو ما يلحظه أيضاً الشاعران رفعت سالَّم‪ ،‬وعبداملنعم‬ ‫بالعكس يرى أنه رمبا يكون أكرث من الرسد والرواية‪،‬‬ ‫رمضان‪ ،‬حيث يؤكدان أن الحركة النقدية اآلن‪ ،‬عاجزة عن‬ ‫ولكن املشكلة تكمن يف عدم وصول هذه الدراسات‪،‬‬ ‫مواكبة الحركة الشعرية‪،‬‬ ‫ويوضح قائال‪« :‬تصلني نحو خمس دراسات نقدية يف‬ ‫ومتأخرة عنها‪ ،‬وإن اختلفت‬ ‫الشعر شهرياً‪ ،‬فضالً عن أنني شخص ًّيا يصدر يل كتاب يف‬ ‫نقد الشعر كل ستة أشهر‪ ،‬وهناك إنتاج شعري غزير بعد أسباب كل منهام‪ .‬حيث‬ ‫معظم نقاد الشعر‬ ‫ثورة ‪ 25‬يناير يف مرص‪ ،‬وأنا اآلن أعكف عىل قراءة الديوان يرى الشاعر رفعت سالم‪،‬‬ ‫أكاديميون‪ ،‬ال تهتم‬ ‫أن سبب انفصال االشتباك‬ ‫األخري للشاعر حسن طلب»‪.‬‬ ‫بهم الصحف‪ ،‬وإذا‬ ‫‪ ...................................................................................‬النقدي عن الحركة‬ ‫الشعرية‪ ،‬يكمن يف أن النقاد‬ ‫صدرت دراساتهم ال‬ ‫متابعي الحركة الشعرية‬ ‫سيد البحراوي‬ ‫يهتم بها أحد‬ ‫تأخروا عنها‪ ،‬وتحولوا إىل‬ ‫الناقد سيد البحراوي‪ ،‬يرى أن تراجع دور النقد يف الفرتة‬ ‫نقاد تقليديني ال يستطيعون‬ ‫الحالية يعود إىل ما أسام ُه «االنفجار الشعري» الذي‬ ‫مواكبة التجديد الذي قدمه‬ ‫حدث بعد ثورة ‪ 25‬يناير‪ ،‬ويقول‪« :‬أصبحت وسائل‬ ‫الشعراء الجدد‪ ،‬فيام يتبنى الشاعر عبداملنعم رمضان‬ ‫عرض الشعر كثرية‪ ،‬ففض ًال عن امليادين‪ ،‬هناك اإلنرتنت‪،‬‬ ‫نفس الرؤية مبنظور مختلف‪ ،‬وهو أن االضمحالل العلمي‪،‬‬ ‫حيث صفحات املواقع والتدوينات‪ ،‬وصفحات التواصل‬ ‫الذي حدث يف فرتة نصف القرن املاضية‪ ،‬جعل النقاد‬ ‫االجتامعي‪ ،‬بينام ال الوقت وال الوسائل متاحة أمام النقد‬ ‫عال ًة عىل الغرب‪ ،‬ال يستطيعون استظهار كل النظريات‬ ‫ملتابعة هذا االنفجار‪ ،‬فالنفوس مشغولة بالثورة وإبداعها‪،‬‬ ‫النقدية‪ ،‬ويكتفون بآخرها فقط‪ ،‬فأصبحت أدواتهم قدمية‪،‬‬ ‫وليس هناك وقت للنقد‪ ،‬كام أن وسائل النرش غري مهتمة‬ ‫عىل الرغم من كونهم ينظّرون بلسان نقدي حديث‪.‬‬ ‫بهذا األمر اآلن»‪.‬‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪51‬‬


‫تحقيق‬

‫رفعت سلاّ م‬

‫يشري الشاعر واملرتجم رفعت سالَّم إىل أن الحركة الشعرية‬ ‫الجديدة يف الخمسينيات والستينيات تزامنت آنذاك‪ ،‬مع‬ ‫حركة نقدية قوية‪ ،‬ورصينة‪ ،‬وجديدة بالتوازي مع الحركة‬ ‫الشعرية‪ ،‬أي أن النقاد الذين كتبوا عن رموز جيل الريادة‬ ‫كصالح عبد الصبور والسياب وغريهام‪ ،‬مل يكونوا من جيل‬ ‫سابق عليهم‪ ،‬بل من جيل جديد من نقاد جدد يؤمنون‬ ‫بالتجديد الشعري‪ ،‬بقدر ما يؤمن به الشعراء أنفسهم‪،‬‬ ‫مؤكدا ً أن ذلك ما جعل الحركة النقدية تقدم هذه الحركة‬ ‫الشعرية الجديدة تقدميًا واس ًعا وعميقًا‪ ،‬ومدركًا ألبعادها‪،‬‬ ‫وأضاءت هذه الحركة الكثري من النصوص‪ ،‬وقدمت لها‬ ‫األسس النظرية‪ ،‬والنقدية‪ ،‬بحيث أصبح الشعراء والنقاد‪،‬‬ ‫رشكاء م ًعا يف هذه التجربة‪ ،‬ونذكر من بينهم رجاء‬ ‫النقاش‪ ،‬وعز الدين إسامعيل‪ ،‬و محمد النويهي‪ ،‬ولويس‬ ‫عوض‪ ،‬وعبد القادر القط‪ ،‬وكثريون غريهم‪.‬‬ ‫ويتابع سالَّم‪« :‬أما اآلن فالوضع بالغ االختالف‪ ،‬فالشعراء‬ ‫منذ السبعينيات‪ ،‬خرجوا عىل التقاليد الشعرية‪ ،‬السابقة‪،‬‬ ‫وقدموا تجارب جديدة خارجة عن املألوف‪ ،‬لكن الحركة‬ ‫النقدية مل تكن مواكبة لهذه الحركة اإلبداعية‪ ،‬فوقعت‬ ‫الحركة الشعرية‪ ،‬بني أيدي نقاد تقليديني‪ ،‬وعبد القادر‬ ‫القط نفسه وعدد من األكادمييني الذين انتحلوا صفة‬ ‫النقاد‪ ،‬وبالتايل حدثت فجوة بني اإلبداع الشعري والكتابة‬ ‫النقدية‪ ،‬ويف كثري من األحيان‪ ،‬كان النقد يقف موقفًا‬ ‫مناوئًا من التجديد الشعري‪ ،‬بل يحرض عليه‪ ،‬بدعاوى‬ ‫كثرية‪ ،‬سواء أكانت تستند إىل الرتاث أو األخالق‪ ،‬أو عمود‬ ‫الشعر‪ ،‬أو أي مربر من هذه املربرات التقليدية‪.‬‬ ‫ويضيف سالم‪« :‬بل إن النقاد الجدد‪ ،‬الذين تب ُّنوا فيام‬ ‫بعد هذه التجديدات‪ ،‬تناولوها من الخارج‪ ،‬ومل يستطيعوا‬ ‫لعب الدور الذي قام به نقاد الخمسينيات والستينيات‪،‬‬ ‫ذلك أن املشكلة تكمن يف تقليدية النقد‪ ،‬يف مقابل‬ ‫تجرييبية الشعر‪ ،‬والدليل عىل ذلك أنه حتى اآلن ليس‬ ‫لدينا كتاب واحد رصني‪ ،‬يتناول قصيدة النرث العربية‪ ،‬رغم‬ ‫أنها ظهرت يف األدب العريب أواخر الخمسينيات‪ ،‬عىل يد‬ ‫املاغوط‪ ،‬وأنيس الحاج‪ ،‬ثم تبناها شعراء السبعينيات‪،‬‬ ‫وبرغم مرور أكرث من ‪ 50‬سنة فإن الكتابة النقدية تفتقر‬

‫‪52‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫الشعراء خرجوا على التقاليد‬ ‫الشعرية السابقة‪ ،‬وقدموا‬ ‫تجارب جديدة‪ ،‬والحركة النقدية‬ ‫لم تكن مواكبة لها‬

‫إىل كتاب نقدي يصمد للنقاش عىل نحو ما يحدث يف‬ ‫اآلداب األجنبية األخرى‪.‬‬ ‫وعن العالقة بني النقد واإلبداع ‪ ،‬يشري سالم إىل أنها ال‬ ‫تؤثر عىل املبدع‪ ،‬بقدر ما تؤثر عىل املتلقي والجمهور‬ ‫الذي يتلقى التجربة الشعرية‪ ،‬باعتباره املستفيد األول من‬ ‫الكتابة النقدية‪ ،‬مضيفاً‪« :‬ألن الشاعر سيكتب تجربته هو‪،‬‬ ‫برصف النظر عن الرتحيب النقدي بها‪ ،‬أو رفضها‪ ،‬ولدينا‬ ‫يف التاريخ العريب أمثلة كثرية‪ ،‬لكن تخاذل الدور النقدي‬ ‫أدى اآلن إىل أن القارئ ال يدري ما الفرق بني قصيدة النرث‬ ‫وقصيدة التفعيلة‪ ،‬وملاذا يكتب الشاعر هذه القصيدة؟‬ ‫وما هو البديل الذي يقدمه الشاعر يف قصيدته عن‬ ‫الوزن؟ فكل هذه األسئلة تقاعس النقد املرصي والعريب‬ ‫عن طرحها بجدية وبحثها برصانة‪ ،‬وتقدميها للقارئ‪ ،‬ما‬ ‫صنع فجو ًة بني الشاعر واملتلقي‪.‬‬ ‫ويوضح سالَّم أن التحوالت يف الشعر أعمق وأكرث تسارعاً‪،‬‬ ‫بأكرث مام يحدث يف الرواية‪ ،‬مشريا ً إىل أنه كانت هناك‬ ‫حركات شعرية متتالية‪ ،‬تركت كل منها بصمتها الشعرية‬ ‫املغايرة‪ ،‬أما بالنسبة إىل الرواية فالحركة الروائية مل يُضف‬ ‫إليها الكثري عىل ما كتبه نجيب محفوظ‪ ،‬يف تحوالته‬ ‫املختلفة‪ ،‬وبالتايل فإنه من الصعب عىل ناقد الشعر أن‬ ‫يواكب التحوالت الشعرية الكثرية والعميقة‪ ،‬حيث كلام‬ ‫توصل إىل تصور معني لتيار شعري‪ ،‬جاء التيار التايل ليقدم‬ ‫وج ًها مغاي ًرا‪ ،‬فالشعر يبحث عن املخالفة واملغايرة‪ ،‬يف‬ ‫حركة دامئة ومستمرة‪ ،‬بينام النقد يبحث ثبات اإلطار‬ ‫واملالمح الفنية ليتمكن من تصنيف الشعراء‪.‬‬

‫عبداملنعم رمضان‬

‫أما الشاعر عبد املنعم رمضان‪ ،‬فيشري إىل أن النقد مبا أنه‬ ‫رشا بانهيار التعليم أو تقدمه‪،‬‬ ‫علم أيضً ا‪ ،‬فهو يتأثر تأث ًرا مبا ً‬ ‫وطوال الثالثني عاما األخرية يف مرص‪ ،‬واجهنا ما هو أبعد‬


‫الشعر والنقد‬

‫من انهيار التعليم‪ ،‬إىل التجريف الكامل له‪ ،‬مضيفاً‪« :‬أظن‬ ‫أننا لو نظرنا ألقسام اآلداب العربية وغريها‪ ،‬سنكتشف أن‬ ‫األساتذة «عىل قياس» ذلك التجريف‪ ،‬وبالتايل فإن سبب‬ ‫الفجوة بني الشعر والنقد‪ ،‬كامن يف التعليم وآلته‪ ،‬التي‬ ‫تراجعت متاماً عىل ما يزيد عن نصف قرن‪ ،‬طوال حكم‬ ‫مبارك‪ ،‬وهذا له تأثريه عىل النقد‪ ،‬فهذا من أبرز أسباب‬ ‫تراجع النقد عامة ليس فقط تراجع النقد الشعري»‪.‬‬ ‫ويضيف رمضان‪« :‬ال نزعم ألنفسنا أن تراجع الشعر‪،‬‬ ‫عائ ٌد لرتاجع النقد الشعري‪ ،‬إمنا تراجع النقد بشكل كبري‪،‬‬ ‫وهناك سبب آخر أن الزمن الحديث تطور‪ ،‬فام يحدث يف‬ ‫سنة واحدة‪ ،‬كان يستلزم قرناً كامالً فيام سبق‪ ،‬فام حدث‬ ‫من نهضة يف أوروبا‪ ،‬وتم استظهارها والتأثر بها يف مرص‪،‬‬ ‫يف عرشينينات القرن املايض‪ ،‬مل يعد يحدث اآلن بنفس‬ ‫املنوال إمنا النظريات األدبية تتتابع يف رسعة شديدة‪ ،‬ومبا‬ ‫أن نقادنا يريدون أن يكونوا عىل الحد األخري ملا ظهر يف‬ ‫الغرب‪ ،‬فهم ال يستظهرون كل ما ظهر من نظريات‪ ،‬إمنا‬ ‫يستظهرون آخرها فقط‪ ،‬مبا أنهم عالة عىل الغرب‪ ،‬ومبا‬ ‫أن وترية الزمن تغريت متاماً‪ ،‬وأصبح الوضع اآلن ال يتيح‬ ‫إعادة إحياء كل ما ظهر يف الغرب‪ ،‬فأصبح النقد اآلن‬ ‫مشقوقًا نصفني»‪.‬‬ ‫ويؤكد عبداملنعم رمضان أن أحد شقي النقد‪ ،‬ما يعرفه‬ ‫مختلف متا ًما عن شقه اآلخر النظري‪،‬‬ ‫بالنقد التطبيقي‬ ‫ٌ‬ ‫الذي ينقل مبارشة عام يقوله الغرب‪ ،‬ويعرف رمضان‬ ‫النقد التطبيقي بالنقد املحكوم عليه بعدم القدرة عىل‬ ‫تطبيق تلك النظريات الحديثة‪ ،‬ألنهم‪ -‬حسبام يشري‬ ‫رمضان‪ -‬مل يتمكنوا من تف ُّهمها متاماً‪ ،‬مضيفا‪« :‬نحن‬ ‫نعيش لحظة نقدية مرتبكة‪ ،‬نحن مبدعون فقط‪ ،‬ألن‬ ‫كل الشعوب سواء أكانت متقدمة أم متأخرة‪ ،‬قادرة عىل‬ ‫إنتاج فنونها‪ ،‬لكنها عندما تنتقل إىل العلم‪ ،‬يدخل التقدم‬ ‫يف املوضوع‪ ،‬والنقد علم‪ ،‬والشعر والرواية فن سهل‪،‬‬

‫لدينا نقاد ُمصابون بالفصام‪..‬‬ ‫لسانهم نظري حديث‪،‬‬ ‫وأدواتهم قديمة بالية!‬

‫ميكن للبالد املتخلفة جدا ً أن تنتج‬ ‫أعظم أشكال الشعر والرواية‪،‬‬ ‫لكن تخلفها ال ميكن أن يسمح‬ ‫لها أن تنتج أعظم أشكال النقد‪،‬‬ ‫وبالتايل‪ ،‬فالتق ُّدم يف الشعر ال‬ ‫يستتبعه بالرضورة تقد ٌم يف النقد‬ ‫ومالحقته مستواه الفني‪ ،‬فنقادنا‬ ‫جميعا ٌ‬ ‫«عيال عىل الغرب»‪ ،‬وبال‬ ‫استثناء»‪.‬‬ ‫وعن كيفية االستدالل بأن ما تنتجه‬ ‫الشعوب املتخلفة‪ ،‬إبداع جيد‪،‬‬ ‫يقول رمضان‪« :‬النقد يعطي أدوات‬ ‫للنظر‪ ،‬وميكن أن ترى بها أو ال ترى‪،‬‬ ‫املشكلة يف النقد‪ ،‬أنه عندما يتعامل مع النص‪ ،‬يستخدم‬ ‫أدواته القدمية‪ ،‬التي يعرفها‪ ،‬ويف هذه اللحظة يكتشف‬ ‫الجامل أو عدمه بنفس األدوات‪ ،‬لكنه عندما ينظّر ينقل‬ ‫لنا أحدث ما يكتب يف الغرب‪ ،‬فهذا فصام يعانيه النقاد‬ ‫ألن العلم ال ميكن أن يتحقق إال بنظريته األخرية فال ميكن‬ ‫للطبيب أن يعالج مرضاه بأدواته القدمية‪ ،‬هذا هو العلم‬ ‫الذي يجربك عىل أن تلتمس أحدث األدوات‪ ،‬لكن املشكلة‬ ‫أن النقاد يرون اإلبداع باألعني القدمية‪ ،‬ويتكلمون عنه‬ ‫باللسان الجديد‪ ،‬فال تصدق كالمهم‪ ،‬ألنه حصيلة لسان‬ ‫وعلم لسان جديد وعلم قديم‪ ،‬وأحياناً يدلوننا عىل‬ ‫األجمل‪ ،‬لكنهم يف النهاية حائرون»‪.‬‬ ‫وقال رمضان إن نقد الشعر أصعب من نقد الرواية‪ ،‬ألن‬ ‫األخرية تحتمل كل يشء‪ ،‬فيمكن الدخول إليها من طرق‬ ‫مختلفة‪ ،‬مثل طريق التاريخ‪ ،‬وعلم االجتامع وغريهام‪،‬‬ ‫وأضاف‪« :‬الرواية عبارة عن صندوق له أبواب عدة‪،‬‬ ‫أما الشعر فأصعب‪ ،‬اللغة يف الشعر ليست وسيلة ألداء‬ ‫أغراض كام يف الرواية‪ ،‬وهي موجودة فيه لذاتها‪ ،‬حتى لو‬ ‫أدت مها َم ما‪ ،‬وهي يف الشعر سيدة املهام‪ ،‬أما يف الرواية‬ ‫فهي تستخدم لغري ذلك‪ ،‬وبالتايل فالشعر يلزمه نقاد‬ ‫لديهم معرفة تامة بأرسار اللغة‪ ،‬وهذا متعذر حتى عىل‬ ‫بعض أساتذة اللغة يف الجامعات‪ ،‬فطريق الشعر طويل‬ ‫وصعب‪ ،‬وليس مثل الفنون األخرى‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪53‬‬


‫حوار‬

‫عباس بيضون‬

‫قصيدة النثر‬ ‫مزيج بين الشعر والنثر‬ ‫عباس بيضون شاعر يشكل عالمة متفردة في المشهد الشعري العربي‪ ،‬وما يميزه عن مجايليه أنه ثابر خالل‬ ‫عدة عقود على االشتغال بحرفية على قصيدته الخاصة في اللغة والشكل‪ ،‬تاركا تأثيرات واضحة على‬ ‫أصوات شعرية جديدة‪ .‬وباالضافة الى منجزه الشعري الثري (‪ 17‬مجموعة شعرية)‪ ،‬فالشاعر ذهب في اتجاه‬ ‫الرواية والنثر‬

‫حوار‪ :‬فيديل سبيتي‬

‫‪54‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫عباس بيضون‬

‫اعرف اىل متى سأبقى عىل هذه الحال او اىل أين سيفيض‬ ‫يف السنتني املاضيتني نرشت روايتني‬ ‫يب هذا األمر‪.‬‬ ‫هام «مرايا فرانكشتني» و»ألبوم‬ ‫الخسارة»‪ ،‬ومل تنرش شعرا‪ .‬هل توقفت رمبا تشعر بأنك أنجزت تراثك الشخيص يف الشعر واآلن‬ ‫حان الوقت لتنجز تراثك النرثي؟‬ ‫عن كتابة الشعر لصالح الرواية؟‬ ‫■ ال اكتب بأي قصد‪ .‬كل ما يف األمر أنني يف هذه املرحلة‬ ‫■ ال أدري ما هو السبب الذي يدفعني اىل إختيار كتابة‬ ‫النرث دون الشعر‪ ،‬لكني يف هذه الفرتة ال أجد دافعا لكتابة أجدين منجذبا لكتابة النرث‪ ،‬وأشعر بأنني قادر عليه‪.‬‬ ‫الشعر‪ ،‬رمبا يكون لحادث السيارة الذي تعرضت له عالقة بعد تجربة الكتابة النرثية‪ ،‬ما الفرق بني نوعي الكتابة‪:‬‬ ‫باألمر‪ .‬إذ أنني منذ وقوع تلك الحادثة توقفت تلقائيا عن الشعر والنرث؟‬ ‫كتابة الشعر‪.‬‬ ‫■ ال أريد أن أقيم مقارنة بني كتابة الشعر والنرث‪ ،‬رغم أنه‬ ‫لكن كيف ميكن الربط بني الحادثة والتوقف عن كتابة‬ ‫بإمكاين القول إن الشعر فن يقوم عىل اإليعاز واإلشارة‬ ‫الشعر؟‬ ‫والتلميح‪ ،‬وما يظهر منه هو رأس جبل الجليد‪ ،‬مبعنى أن‬ ‫املغمور منه والعميق واملكبوت أكرب وأوسع مام يظهره‪.‬‬ ‫■ ال ميكنني أن أجد الصلة بني الحادثة التي كانت ذات‬ ‫ففي مجموعايت الشعرية عالجت هذا الفن املكتوم‬ ‫تأثري مهم يف حيايت يف السنتني املنرصمتني والتوقف عن‬ ‫واملكبوت وشبه الصامت‪ ،‬وقد أكون ولو لوقت قد‬ ‫كتابة الشعر‪ ،‬لكن مثة تواقت بني األمرين‪ .‬هل من‬ ‫إحتجت اىل كتابة اكرث تبسطا وبوحا وأكرث كالما‪ ،‬وهذا ما‬ ‫صلة بني األمرين؟ ال أعرف‪ .‬هل يعني ذلك أين تخليت‬ ‫بت أجده يف الكتابة النرثية‪ .‬ليس لدي رغبة يف أن أصوغ‬ ‫عن الشعر؟ ال أعرف‪ .‬هل يعني أين أهملت الشعر؟ ال‬ ‫اعرف أيضا‪ .‬ما أعرفه أنني أكتب اآلن نرثا‪ ،‬وكتبي األخرية تصورات نظرية‪ .‬ال أريد التحدث عن معادلة نظرية بني‬ ‫كانت نرثا‪« ،‬مرايا فرنكشتاين» و»ألبوم الخسارة»‪ ،‬وما أنا الشعري والنرثي‪.‬‬ ‫بصدده هو أيضا نرث‪ ،‬حتى أنني إبتعدت عن قراءة الشعر يف النرث أريد أن أكتب نرثا كالنرث‪ .‬أظن أن الصحافة‬ ‫أعانتني عىل تجريب النرث وتجريب أساليب النرث‪ ،‬ليس‬ ‫أيضا لصالح قراءة النرث‪.‬‬ ‫يف املقاالت التي أكتبها أسبوعيا فحسب‪ ،‬بل يف الروايات‬ ‫هل هذا يعني أن هناك إحتامال بأن تتوقف عن كتابة‬ ‫التي كتبتها‪.‬‬ ‫الشعر؟‬ ‫■ أجل‪ ،‬قد يكون التوقف عن كتابة الشعر إحتامال أيضا‪ .‬للنرث متعته الخاصة‪ ،‬انه ينتهي إىل شعور بان «شعرية‬ ‫هل هناك إغراء ما يدفعك اىل كتابة الرواية وترك الشعر النرث» هي يف املستوى ذاته الذي لشعرية الشعر‪.‬‬ ‫جانبا يف هذه املرحلة؟‬ ‫■ ال أكتب الرواية أو النرث بداعي إغراء ما‪ ،‬مبعنى أنه‬ ‫ليس يف األمر حسابات أو مفاضلة بني الشعر والنرث‪.‬‬ ‫أنت تعلم كام اآلخرون أنني شاعر أوال‪ ،‬وما أزال حارضا‬ ‫ال أدري ما هو السبب الذي‬ ‫كشاعر‪ ،‬وقد أنجزت سبع عرشة مجموعة شعرية‪ ،‬وهذا‬ ‫بحد ذاته رقم كبري ويجعلني صاحب تراث شخيص‬ ‫يدفعني الى كتابة النثر دون‬ ‫وخاص يف الشعر‪.‬‬ ‫الشعر‪ ،‬لكني في هذه الفترة‬ ‫ال أريد أن أتخىل عن الشعر لكنني ال أحسن كتابته يف‬ ‫هذه املرحلة‪ .‬وهذا ما كان يحصل معي بإستمرار‪ ،‬فبعد‬ ‫ال أجد دافعا لكتابة الشعر‬ ‫كل مجموعة شعرية كنت أتوقف عن الكتابة وقتا يطول‬ ‫ويقرص‪ ،‬ثم حني أعود اىل كتابة الشعر أشعرين كاملبتدئني‪.‬‬ ‫وقد مىض حتى اآلن عامان مل أكتب خاللهام الشعر‪ ،‬وال‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪55‬‬


‫حوار‬

‫عىل جاملية الشعر فقط بل وعىل صفات النرث التشاؤمية‬ ‫لكن ال يبدو أنك الوحيد الذي تجذبه الرواية يف هذه‬ ‫اآلونة‪ ،‬إذ باتت الرواية تأخذ حيزا واسعا يف الكتابة األدبية والناقدة واملشككة‪ .‬وأكرر ما قلته سابقا بأن قصيدة النرث‬ ‫يف العامل العريب‪ ،‬وكأن الرواية تحاول أن تنتزع مجدا كان هي غري الشعر بالنسبة يل‪ ،‬ولذا ال ميكن وضع الشعر‬ ‫وقصيدة النرث يف مواجهة بعضهام وكأنهام يف معركة‬ ‫للشعر؟‬ ‫جذب للجمهور‪ ،‬أو مقارنتهام ببعضهام‪ .‬انا لست ممن‬ ‫■ أجد أن اإلنرصاف اىل كتابة الرواية يف العامل العريب‬ ‫يفاضلون بني الشعر وقصيدة النرث‪ ،‬الشعر هو الشعر وله‬ ‫أمر طبيعي‪ ،‬وهذا ما يحدث أيضا يف جميع انحاء العامل‪.‬‬ ‫قواعده وحرفته بينام قصيدة النرث هي نوع قائم بذاته‬ ‫فالرواية فن العرص أو كام يقول لوكاش هي «ملحمة‬ ‫وهي مل توجد لتحل محل الشعر وليست النوع الجديد‬ ‫الربجوازية»‪ .‬الرواية فن املدينة‪ ،‬بشكل أو بآخر‪ ،‬وبالتايل‬ ‫من الشعر‪ ،‬وهي ليست شعرا باملعنى املطلق للكلمة‪،‬‬ ‫تتمكن الرواية من جمع جمهور من القراء مل يعد‬ ‫بل هي مزيج بني الشعر والنرث‪ .‬فعىل سبيل املثال ال‬ ‫للشعر‪ .‬فالشعر بات فنا من دون جمهور عىل ما أعتقد‬ ‫ميكن إعتبار قصيدة التفعيلة قصيدة نرثية‪ ،‬إذ أن لكالهام‬ ‫وهذا يعود لفرط الرتكيب والكثافة واإليعاز والصمت‬ ‫والكبت وفرط التكتم‪ ،‬كل ذلك يجعل من الشعر فنا غري أسسه وقواعده‪.‬‬ ‫جامهريي‪ ،‬وهذا ليس جديدا عىل الشعر الذي كان دامئا هل ميكننا القول انك تعلن موت الشعر حني تقول أن‬ ‫بال جمهور عريض‪ ،‬ولكنه اآلن يصل اىل الدرك األسفل يف الشعر بات فنا بال جمهور؟‬ ‫■ ال أعلن موته‪ ،‬ولكن ال يسعني أن أنكر أن الشعر‬ ‫إنرصاف الجمهور عنه‪.‬‬ ‫يرتاجع ويتح ّول اىل فن فئوي‪ ،‬ويخص شيعة من كتاب‬ ‫لكن الشعر الحديث يف أواسط القرن املايض حاول ان‬ ‫وشعراء‪ ،‬حتى بات يقترص تبادله بني الشعراء أنفسهم‪،‬‬ ‫يكون بدوره معربا عن املدينة والحداثة‪ .‬هل فشل يف‬ ‫وقد ال نجد قراء له من خارج مجموعة هؤالء الشعراء‪،‬‬ ‫ذلك ؟‬ ‫■ بالطبع فإن لقصيدة النرث الحديثة صلة باملدينة‪ ،‬ولكني هذا رغم ان الشاعر حني يكتب فإنه يكتب اىل ق ّراء‬ ‫متخيلني اال أنه ليس بالرضورة أن يكون أو يش ّكل هؤالء‬ ‫افرق بني الشعر كفن وبني قصيدة النرث التي أعتربها فنا‬ ‫قامئا بذاته ال عالقة له بالشعر بالرضورة‪ .‬ألن الشعر يقوم القراء جمهورا‪ .‬هل هذا يعني موت الشعر؟ بطبيعة‬ ‫عىل الكثافة والتقطري واإليعاز واإلشاراتية والتلميح‪ ،‬وهذا الحال أنا ال أحب هذا النوع من الشعارات‪ ،‬لكن بالتأكيد‬ ‫فإن الشعر مل يعد فنا ينتج «نجوما»‪ ،‬فهو يعود اىل مكانه‬ ‫ال يؤهله ألن يكون فنا جامهرييا‪ .‬ثم أن هناك امرا آخر‪،‬‬ ‫فالشعر كان فن املديح واملباركة للعامل وفن تجميل العامل‪ .‬األسايس كفن صامت ويعود الشعراء اىل كونهم زهّ اد‬ ‫ونساك ومنتمون اىل شيعة ضيقة وصغرية‪ .‬وقد يكون هذا‬ ‫أما اآلن فالشعر يتبع النرث‪ ،‬والنرث فن متشائم وهو فن‬ ‫ّ‬ ‫النقد والتشكيك وكذا هو حال الرواية‪ .‬رمبا مل يعد محبو ملصلحة الشعر‪ ،‬فعدم الطلب عىل الشعر قد يجعله غري‬ ‫مرشوط ويتمتع بحرية اكرب‪.‬‬ ‫الشعر يجدون يف الشعر ما كانوا‬ ‫علينا أن نتفهم بأن هناك أنواع من‬ ‫يطلبونه من قبل كالغناء واملديح‬ ‫تهم الجمهور العريض‪ ،‬كام‬ ‫والحفز عىل التفاؤل والتجميل‪،‬‬ ‫الكتابة ال ّ‬ ‫هو علم اللغة الذي ال يهتم به اال‬ ‫رمبا اآلن بات الشعر عىل غرار النرث‬ ‫املهتمون باللغة‪ ،‬وهذا هو حال الشعر‪.‬‬ ‫«تقبيحي» متشائم وسلبي‪.‬‬ ‫لكن اال تساهم حالة الشعر هذه بإثباط‬ ‫أمل يكن الشعر الحديث متشامئا‬ ‫عزمية الشعراء؟‬ ‫وتقبيحيا منذ بداياته؟‬ ‫بالطبع فإن تراجع الشعر يثقل عىل‬ ‫■ مل يكن الشعر كذلك من البداية‪،‬‬ ‫الشعراء الذين يتعاملون مع حالته‬ ‫لكن قصيدة النرث مرتبطة بالنرث وهي‬ ‫هذه بقدر من الضيق والشعور بالغنب‬ ‫تلحق به وتتأثر مبزاياه‪ ،‬وهي ال تتكل‬ ‫‪56‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫عباس بيضون‬

‫والحرسة‪ ،‬وأنا أفهم ذلك‪ .‬وقد يلجأ الشعراء اىل محاوالت‬ ‫لتبسيط الشعر وتسهيله ما أمكنهم من أجل تحويله اىل‬ ‫فن مقروء وقريب من الجمهور‪ .‬وإذا فعلوا ذلك فلهم‬ ‫ملء الحق‪.‬‬ ‫لكن هناك شعراء يرفضون التنازل وال يقومون بهذه‬ ‫املساومة‪ ،‬وتبقى الكتابة بالنسبة لهم أمرا خاصا جدا‪.‬‬ ‫مبا أننا نتحدث عن حالة الشعر الذي بات يقترص عىل‬ ‫كتّابه ومجموعة صغرية ممن حولهم‪ ،‬ما هو رأي عباس‬ ‫بيضون الناقد والشاعر مبا يكتبه اليوم الشباب أو شعراء‬ ‫األجيال السابقة املداومني عىل الكتابة؟‬ ‫■ ال نزال نجد بني شعراء قصيدة النرث من يثريون إنتباهنا‪،‬‬ ‫ومن نجد فيهم جديدا ومن عندهم مغامرة خاصة‬ ‫والذين يتمتعون بحضور شخيص‪ .‬ال أجد الشعر كشعر‬ ‫يف حال سيئة‪ ،‬واجده فيام يختص بقصيدة النرث حارضا‬ ‫ومنتجا وحيا‪.‬‬ ‫أقصد هل تجد أن ما يكتب من شعر اآلن يعرب عن الحياة‬ ‫املعاشة وأساليبها والتساؤالت التي ترتبها عىل الشباب‪،‬‬ ‫كام حاولتم أن تفعلوا كجيل ما بعد الرواد يف إخراج‬ ‫القصيدة من بيانيتها التي أغرقها فيها الرواد يف أواسط‬ ‫القرن املايض؟‬ ‫■ أول ما يلفتنا يف نتاج الشباب يف أنحاء العامل العريب‬ ‫أنهم أصحاب مغامرة خاصة وجديدة‪ ،‬وبانهم يستمدون‬ ‫من صلتهم بعرصهم ومعيشهم وحياتهم وقناعاتهم ما‬ ‫نجده جديدا بالنسبة لنا‪ .‬وهو لن يكون جديدا لوال انه‬ ‫يتضمن تعبريا جديدا ومعالجة ورؤية جديدتني‪ .‬وأريد أن‬ ‫أؤكد لك أنه غالبا ما يدهشني الشعراء الشباب الذين يف‬ ‫العادة مل اعرف ألغلبهم إسام من قبل وأكون قد وقعت‬ ‫عىل كتبهم بالصدفة‪ ،‬ورغم انني أقرأ هذه الكتب قراءة‬ ‫رسيعة اال أنني غالبا ما اجد فيها ما يدهشني‪.‬‬ ‫مبا أنك تطرقت اىل شعر الشباب‪ ...‬نعرف أن إبنتك بانا‬ ‫وإبنك زيك يكتبان الشعر أيضا‪ ،‬كيف تصف عالقتك‬ ‫بشعرهام‪ ،‬وكيف تصف من خاللهام عالقة الجيل الشعري‬ ‫الجديد باألجيال السابقة؟‬ ‫ْ‬ ‫بوغت حني علمت أن زيك يريد أن ينرش كتابا كام‬ ‫■‬ ‫ْ‬ ‫بوغت حني علمت ان بانا تكتب‪ .‬لقد كان إعالنهام عن‬ ‫نفسيهام كشاعرين يف وقت مل أتوقعه ومن دون أن‬

‫كان الشعر دائم ًا بال جمهور‪،‬‬ ‫ولكنه اآلن يصل إلى الدرك‬ ‫األسفل في انصراف الجمهور‬ ‫عنه‬

‫أعاينه يف مراحله‪ .‬وأريد أن أعرتف بأن اإلثنني مل يقرآين‬ ‫جيدا‪ ،‬وال أظن أن ما يكتبه كل منهام يخرج من تجربتي‬ ‫ومن مغامريت‪ .‬أرى أن هناك كتابة تتعلق قبل كل يشء‬ ‫بصاحبها‪ .‬فهناك فرق كبري ما بني الشعر الذي يكتبه‬ ‫زيك وذاك الذي تكتبه بانا‪ ،‬هو فرق يتعلق بشخصيتهام‬ ‫وبعالقتهام بالحياة والعامل املحيط وكيف ينظران إليهام‪،‬‬ ‫وأعتقد ان املسافة الفاصلة ما بني شعر بانا وزيك هي‬ ‫نفسها الفاصلة ما بني شعر كل منهام عن شعري‪ .‬وال أظن‬ ‫أن قارئا حصيفا ميكنه أن يلتقط أي إشارات يف شعرهام‬ ‫ميكنها أن تدل يف إتجاه شعري‪.‬‬ ‫هل ميكن إسقاط هذه العالقة بني الشاعر األب وأبنائه‬ ‫عىل جيل الشعراء الشباب و»الشعراء اآلباء»؟‬ ‫■ ما يرث الشعراء عن الشعراء هو اللغة التي تكون‬ ‫قد عولجت وتطوعت عىل يد جيل كامل‪ ،‬وال يرثون نصا‬ ‫بذاته‪ .‬وقد يرثون أيضا النقطة التي يوصل إليها الجيل‬ ‫املايض تجربته الشعرية‪ ،‬وهي نقطة قد توفر عىل هؤالء‬ ‫الشعراء البدء من جديد او قد تفرض عليهم أن يبدأوا‬ ‫من خارجها‪ .‬فالشعراء السابقون خاضوا تجربة وف ّروها‬ ‫عىل الجيل الذي تالهم‪ ،‬وعىل هذا الجيل ان يوصلها اىل‬ ‫نقطة يبدأ منها الجيل الذي سيليه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قد نجد لدى الشعراء الجدد بعض ما أنجز لدى األجيال‬ ‫األخرى وبعض ما صار تراثا يف الشعر‪ ،‬ولكن بالتأكيد فإن‬ ‫كل شاعر ميلك مغامرته الخاصة‪ .‬والجيل الشعري ميلك ما‬ ‫يجمع بني أفراده‪ ،‬فثمة خطاب للشعر يتغري من جيل اىل‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪57‬‬


‫حوار‬

‫الذين يبدأون أمرا‪ .‬وال ميكننا أن ننسب اىل رواد الشعر‬ ‫اللبنانيني صفة أو ميزة أخرى غري أنهم كانوا البادئني يف‬ ‫املرشوع الشعري او الذين بادروا إليه‪ ،‬فهم ليسوا عاملقة‬ ‫وليسوا شعراء كبارا بالرضورة ملجرد أنهم رواد‪ .‬وهناك‬ ‫فروقات بني شعراء الرواد أنفسهم يف الشعر الذي كتبوه‬ ‫ويف املكان الذي بدأ منه كل منهم والطريق التي إتبعها‪.‬‬ ‫ال يشء يجمع بني هؤالء الرواد‪ ،‬فحني نقرأ شعراء التفعيلة‬ ‫من بني الرواد ال نجد تقاطعات مشرتكة كالتي تكون عادة‬ ‫بني أبناء الجيل الواحد‪ ،‬وذلك ألن كل منهم بدأ من محل‬ ‫مختلف‪.‬‬ ‫حسنا‪ ،‬لكن من تعترب أن كونهم رواد ملجرد «مبادرتهم‬ ‫اىل األمر» ما زال عدد كبري منهم سواء من بني األحياء او‬ ‫األموات مكرسا حتى اليوم‪ ،‬منهم –عىل سبيل املثال ال‬ ‫الحرص‪ -‬أدونيس وأنيس الحاج ومحمد املاغوط وشوقي‬ ‫أيب شقرا بدر شاكر السياب‪ ...‬إلخ‬ ‫■ هذا صحيح‪ ،‬لكن هناك شعراء من الرواد مل يتم‬ ‫تكريسهم وال ميكن تذ ّكر أسامءهم‪ ،‬اذا ال بد ان للشعراء‬ ‫الذين ك ّرسوا وما زالوا حتى اليوم أسباب أخرى لتكريسهم‬ ‫غري ريادتهم‪ ،‬أسباب تتعلق بكل واحد منهم عىل حدا‪.‬‬ ‫جيل‪ ،‬مثة وجهة لكل جيل‪.‬‬ ‫لذا ال يسعني أن أتحدث عن الرواد جملة او أن أضعهم‬ ‫أجيال‪،‬‬ ‫اىل‬ ‫اء‬ ‫ر‬ ‫الشع‬ ‫تقسيم‬ ‫عىل‬ ‫هل هذا يعني أنك موافق‬ ‫يف خانة واحدة‪ ،‬فلكل واحد منهم نتاجه وأثره‪ ،‬لذا‬ ‫كام هو الحال يف تقسيم الشعراء اللبنانيني مثال اىل جيل‬ ‫ميكنني ان أتكلم عنهم واحدا واحدا لو أردت تفصيل‬ ‫الرواد وجيل ما بعد الرواد وجيل الحرب وجيل ما بعد‬ ‫نتاجهم‪ .‬فأنا ال أجد بني أنيس الحاج وأدونيس ومحمد‬ ‫الحرب‪...‬؟‬ ‫املاغوط ما مي ّكنني من أن أضعهم يف خانة واحدة‪.‬‬ ‫■ ليس بهذه الطريقة‪ .‬ال أوافق عىل تقسيم الشعراء‬ ‫هؤالء غدوا روادا يف عمر مبكر‪ .‬أفراد هذا الجيل‪ ،‬كان‬ ‫عىل‬ ‫اىل خ ّالقني ومخلوقني او اىل رواد وتابعني‪ ،‬ال أوافق‬ ‫لهم الحق يف اإلكبار‪ ،‬وذلك يعود بوضوح إىل إنهم كانوا‬ ‫تقسيم الشعراء عىل هذا النحو‪ .‬لكن باملعنى الزمني‪ ،‬نعم مؤسيس قصيدة جديدة‪ ،‬مؤسيس مرحلة‪ ،‬بحيث غدت‬ ‫فلست انا وحدي من يقول ذلك فجاكوبسون مثال يقول‪ :‬مكانتهم التاريخية منذ اللحظة األوىل يف حكم املؤكد‪.‬‬ ‫«كل جيل جديد يبدأ تناوله للشعر من املطرح نفسه»‪.‬‬ ‫ولكن مع الزمن مل تعد الريادة كافية وحدها‪.‬‬ ‫وهذا املطرح يؤدي اىل إيجاد مناخ واحد لدى الجيل‬ ‫هذا الجيل اختلطت فيه الريادة مع االنجاز مع البيان‬ ‫الواحد‪ ،‬بحيث اذا ما قرأنا قصائد لشاعر ما ميكننا ان‬ ‫الشعري مع املوقع التاريخي‪ ،‬يف حني مل يكن االنجاز‬ ‫نتع ّرف بشكل تقريبي عىل الزمن الذي كتب فيه قصيدته الشعري نفسه إ ّال واحدا من عنارص اإلسم الذي بات لهم‪.‬‬ ‫أو الجيل الذي ينتمي إليه‪ ،‬ألننا نجد فيه بصامت هذا‬ ‫ما صنعته األجيال الثانية ليس قليال وصغريا‪ ،‬كام هو‬ ‫الجيل‪.‬‬ ‫سائد‪ .‬األرجح أن مع شعراء الجيل السبعيني ورمبا‬ ‫لبنانيا عبارة «جيل الرواد» ال تعني يل سوى تصنيف‬ ‫الستيني‪ ،‬تغري مفهوم الشعر‪ .‬كان تحوال يف عمق العملية‬ ‫زمني‪ .‬كلمة «رواد» هي كلمة تاريخية‪ ،‬فالرواد لغويا هم الشعرية‪ ،‬بدون مقابل نظري‪ .‬جيل الرواد قدم عمله‬ ‫‪58‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫عباس بيضون‬

‫الشعري والنظري‪ ،‬باعتباره جزءا من عملية تاريخية‬ ‫شاملة‪ ،‬وكأنهم طليعة ثقافية بديلة ملرشوع متكامل ليس‬ ‫فقط شعريا‪ ،‬بل تأريخي وثقايف وسيايس‪.‬‬ ‫مل يعد الشعر مرشوعا مستقبليا‪ ،‬أصبح مطلوبا من الشعر‬ ‫أن يكون شعرا بالدرجة األوىل‪ .‬مل يعد السؤال كم يستطيع‬ ‫الشعر أن يخلق املستقبل والتاريخ والثقافة‪ ،‬بل كيف له‬ ‫أن يكون شعرا‪ ،‬ويف الوقت نفسه تعبري حياة‪.‬‬ ‫لكن ال بد أن عددا كبريا منهم قد بات ابا روحيا لشعراء‬ ‫جاؤوا يف ما بعد جيل الرواد‪ .‬حتى أنت يصفك بعض‬ ‫النقاد بأنك أب روحي لعدد كبري من الشعراء الذين‬ ‫يحاولون تقليد صوتك او لغتك او نربتك الشعرية‪...‬‬ ‫■ ال يبدأ الشاعر من شاعر آخر‪ ،‬قد يتمثل أو ميتص شاعرا‬ ‫آخر‪ ،‬ولكن ال ميكن للشاعر أن يكون عمله يف الحياة‬ ‫التمثل بشاعر آخر‪ .‬كل شاعر يريد أن يبقى أو أن يثبت‬ ‫حضوره عليه ان يكون حارضا بنفسه فال نقيسه عىل‬ ‫شاعر آخر أو ننسبه اىل شعر آخر‪.‬‬ ‫لنعد اىل شعر عباس بيضون من قصيدة صور اىل الديوان‬ ‫األخري «بطاقة لشخصني»‪ ،‬كيف ميكن ان يروي الشاعر‬ ‫سرية شعره من القصيدة األوىل حتى اآلن؟‬ ‫■ أريد تجنب ان أتح ّول اىل قارىء لنفيس‪ ،‬أو أكون‬ ‫العمدة يف تقييم شعري او يف وصفه‪ .‬كل ما أستطيع‬ ‫أن اقوله أنني كتبت قرابة ‪ 17‬مجموعة شعرية‪ ،‬وعىل‬ ‫القارىء الذيك او املتابع أن مييز عدد القصائد املوجود يف‬ ‫هذه املجموعات‪ ،‬هل كل مجموعة قصيدة بذاتها‪ ،‬هل‬

‫ما يرث الشعراء عن الشعراء‬ ‫هو اللغة التي تكون قد‬ ‫عولجت وتطوعت على يد جيل‬ ‫كامل وال يرثون نص ًا بذاته‬

‫هناك قصيدتان أو ثالث او اربع تتكرر وتتامزج ويعاد‬ ‫إنتاجها‪ .‬هل هناك اكرث من قصيدة أو من جملة يف هذا‬ ‫الشعر‪ .‬هل هناك جمل تتامزج وتندمج يف جملة أخرى‬ ‫او يف قصيدة اخرى‪ .‬هذا ما يرتتب عىل الناقد ان يفعله‪.‬‬ ‫هناك شعراء يكتبون قصيدة واحدة‪ ،‬وهم ليسوا فقراء‬ ‫أو بخالء او فارغني‪ ،‬ألن من بني هؤالء شعراء كبارا‪،‬‬ ‫كسان جان بريس‪ ،‬الذي حني تقرأ أعامله من أولها إىل‬ ‫آخرها ستشعر أنه يكتب القصيدة نفسها التي تتمدد‬ ‫وتتطاول وتنفجر وتتامزج وتنفتح اىل مساحات جديدة‪،‬‬ ‫وهناك شعراء يكتبون اكرث من قصيدة يف خالل مسريتهم‬ ‫الشعرية‪ ،‬وهذا ال يتعلق بقيمة الشعر بل بأمزجة‬ ‫الشعراء‪ .‬هناك شعراء يضجرون من قصائدهم وأساليبهم‬ ‫فيتغريون من مجموعة شعرية اىل أخرى وأحيانا من‬ ‫مرحلة اىل أخرى‪ ،‬وأظن أنني أنتمي اىل املجموعة التي‬ ‫تضجر من نفسها والتي ال متلك طاقة عىل إعادة كتابة‬ ‫جملة سبق أن كتبتها‪ ،‬أظن أنني من فرتة اىل أخرى أبدأ‬ ‫من جملة جديدة او من قصيدة مختلفة‪ .‬رغم أن هناك‬ ‫أصدقاء يجدون جذور ما أكتبه يف أول أعاميل‪ .‬هذا يعود‬ ‫اىل القارىء او اىل الناقد‪.‬‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪59‬‬


‫حوار‬

‫عباس بيضون‬

‫الشاعر والنص‬

‫يف‬

‫السنتني املاضيتني نرش عباس بيضون روايتني «مرايا فرانكشتاين» و»ألبوم‬ ‫الخسارة»‪ .‬أخرج هاتني الروايتني بعدما أنهى عدة شهور يف العالج من آثار‬ ‫الكسور التي سببتها له حادثة صدمه بسيارة يف أحد شوارع بريوت بينام كان ميارس‬ ‫هوايته األثرية‪ ،‬امليش يف شوارع بريوت‪.‬‬ ‫كان لتلك الحادثة آثارها الجسدية والنفسية عىل عباس ولكن كان لها تأثريها عىل‬ ‫كتابته أيضا‪ ،‬رغم أنه ال صلة مبارشة بني الحادثة والكتابة‪ ،‬لكنه منذ ذلك الحني مل‬ ‫يكتب الشعر ومل يقرأه حتى‪ ،‬بل لجأ اىل كتابة النرث غري متأكد مام إذا كان إنرصافه‬ ‫عن الشعر سيكون مؤقتا أو دامئا‪ .‬املهم أنه يف هذه املرحلة يجد يف النرث مطرحا‬ ‫أكرث رحابة‪ ،‬متخففا من اإلختصار والكبت والرتميز وسائر املواصفات التي تحتاجها‬ ‫القصيدة يك تكتب‪ .‬وهذه الحالة تشبه ما جرى معه حني أجرى عملية القلب‬ ‫املفتوح قبل سنوات قليلة وحينها خرج برواية «تحليل دم» وهي روايته األوىل‪.‬‬ ‫كأن آالم الجسد تحيل اىل النرث الذي يتسع له ولحقيقيته‪ ،‬أي اىل األمل املحسوس‬ ‫والواقعي‪ ،‬بينام يرتك الشعر اىل آالم النفس تلك التي تنفصل عن الجسد يف لحظات‬ ‫الكتابة الشعرية‪.‬‬ ‫رغم رواياته الثالث وإنرصافه عن نرش الشعر‪ ،‬إال أن عباس بيضون ما زال يقدّم‬ ‫كأحد أبرز شعراء جيل ما بعد الرواد يف لبنان‪ ،‬منذ ستينات وسبعينات القرن‬ ‫املنرصم حتى اليوم‪،‬ويف مسريته الشعرية‪ ،‬التي أصدر خاللها ما يقارب السبعة عرشة‬ ‫مجموعة شعرية‪ ،‬أرىس بيضون تراثه الشعري الخاص‪ ،‬ذاك الذي يراه البعض قصيدة‬ ‫واحدة ممتدة ومتناسلة ومتطاولة ومتغرية يف نفس إطارها‪ ،‬بينام يعتربها البعض‬ ‫اآلخر ومنهم هو نفسه بأنها تجربة قصائد وجمل كثرية ومختلفة يف كل مجموعة‬ ‫شعرية‪ ،‬اذ أنه كلام أنتهى من مجموعة شعرية وأراد أن يبدأ بأخرى يشعر وكأنه‬ ‫يبدأ من جديد كام يشعر املبتدؤون يف كتابة الشعر‪ ،‬عىل حد وصفه‪ .‬لكن إبتداءه‬ ‫الشعر يف كل مرة ال يعني أنه ميكن تفكيك جملة الشاعر الشعرية بسهولة‪ .‬فجملته‬ ‫مكثفة ومخترصة مكبوتة كاملكبوت الذي تعالجه مشدودة اىل اإلختصار وتخبىء‬ ‫يف عمقها ما يخبئه جبل الجليد أسفل املاء بعدما يخدعنا براسه ّ‬ ‫املطل أعىل املاء‪.‬‬ ‫وشعر بيضون متنوع عىل مدى تنوع الجملة الشعرية التي تشكل القصيدة‪ ،‬ففيها‬ ‫كثري من امللحمية واإلنشادية‪ ،‬وفيه أيضا جفاف وقسوة وحدة‪ .‬هو أيضا شعر‬ ‫املوضوع والالموضوع‪ ،‬البناء والتهديم‪ ،‬التغني بالجامل وتقبيحه‪ ،‬شاعر اللغة الحسية‬ ‫واملحسوسة واالنفعالية والعصابية‪.‬‬ ‫أصدر عدداً من املجموعات الشعرية والكتب النرثية منها ‪»:‬الوقت بجرعات كبرية»‪،‬‬ ‫«صور»‪« ،‬صيد األمثال»‪« ،‬مدافن زجاجية»‪« ،‬ز ّوار الشتوة األوىل»‪« ،‬نقد األمل»‪،‬‬

‫‪60‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫عباس بيضون‬

‫رغم رواياته الثالث وإنصرافه‬ ‫عن نشر الشعر‪ ،‬إال أن عباس‬ ‫بيضون ما زال يق ّدم كأحد أبرز‬ ‫شعراء جيل ما بعد الرواد في‬ ‫لبنان‪ ،‬منذ ستينات وسبعينات‬ ‫القرن المنصرم حتى اليوم‬

‫«حجرات»‪« ،‬خالء هذا القدح»‪« ،‬أشقاء ندمنا»‪»،‬ملريض‬ ‫هو األمل»‪« ،‬لفظ يف الربد»‪« ،‬الجسد بال معلم»‪« ،‬شجرة‬ ‫تشبه حطاباً» و»ب ب ب»‪ ،‬و»بطاقة لشخصني»‪ُ .‬ترجمت‬ ‫مجموعاته ومختارات منها إىل الفرنسية‪ ،‬اإليطالية‪،‬‬ ‫اإلنكليزية‪ ،‬األملانية وغريها‪.‬‬ ‫مارس العمل الصحايف منذ شبابه وما زال حتى اليوم يتوىل‬ ‫مسؤولية امللحق الثقايف يف صحيفة «السفري» اللبنانية‪،‬‬ ‫وبحسب ما يردد (يف املقابالت التي أجريت معه سابقا)‬ ‫حول اإلشتغال يف الصحافة‪ ،‬يقول بأنه مل يتوقع من‬ ‫الصحافة سوى أن متنحه املعاش‪ ،‬لذا تأخر يف أن يتعلم‬ ‫من الصحافة‪« .‬كنت أكتب وال اسعى ألي قارئ‪ ،‬أكتب‬ ‫مقاالت ال تقدم أي تنازالت إلقامة جسور مع قاريء‪ .‬مع‬ ‫الوقت تع ّلمت تلمس حصة القاريء يف كتابايت‪ ،‬وتلمست‬ ‫تأثري الرشاكة الجديدة ‪ ،‬فقد بدأت بالتحول اىل النرث‪ ،‬هذا‬ ‫النرث ّ‬ ‫حرضني عىل كتابة الروايات»‪.‬‬ ‫ال تستهوي عباس بيضون العالقات ومنها تلك التي قد‬ ‫توفرها له مسؤوليته للملحق الثقايف‪« ،‬فالناس سين ّفضون‬ ‫عنك حال إدراكهم عجزك عن التقدم نحو أفق أفضل‬ ‫يف اإلبداع»‪ .‬عالقاته يبنيها وفقا ملزاجه فربأيه يجب عىل‬ ‫الكاتب أن يبقى فوضويا وعابرا للعالقات االجتامعية‪ ،‬ألن‬ ‫تحول الكاتب اىل مقام او مركز أمر مضاد للكتابة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«يف العمل األديب ال نعرف متى نسقط‪ .‬هناك عالقات‬ ‫تنافس مرعبة‪ .‬واحد فقط ينبغي أن يصل وينبغي أن‬ ‫يسقط االخرون وراءه وأن ال يصلوا‪ .‬علينا أن نفرح بأنهم‬ ‫تعثرّ وا‪ .‬علينا أن ننظر بطول بال إىل سقوطهم وإنسحابهم‬ ‫وموتهم األديب‪ ،‬وأحيانا موتهم الشخيص إذا كان موتهم‬ ‫األديب مستحيال ‪ .‬هذه مهنة عاقة وجنونية»‪.‬‬ ‫فجة لكن حقيقية‪ ،‬ال تحتاج اىل وسائط أو أقنعة‪،‬‬ ‫رصاحة ّ‬ ‫هو كذلك عباس‪ ،‬لطيف اىل أقىص الدرجات ولكنه ال‬ ‫يوارب يف رأي وال حتى حني يلجأ اىل نقد نفسه‪ .‬هذا نتاج‬ ‫عالقته العضوية مبا يكتبه سواء كان نرثا أم شعرا‪ .‬فحني‬ ‫تجالس عباس بيضون ستتخيل فيه نصه الذي تكون قد‬ ‫قرأته‪ ،‬وحني تقرأ نصا لعباس سرتى فيه صورة عباس‪ ،‬هام‬ ‫النص وصاحبه‪ ،‬كائن واحد ال ينفصم‪ ،‬وهذا ما يجعل‬ ‫اللقاء معه ميلء باملتعة والرهبة أيضا‬ ‫فيديل‪...‬‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪61‬‬


‫‪.‬‬

‫حسن نجمي‬ ‫‪.............................................................................................................‬‬

‫خصصت‬

‫وصي ْر‬ ‫ون ُدو ُ‬ ‫جن ُ ُ‬ ‫س ِّ‬

‫املجلة األدبية الفرنسية «املَا َغازينْ لِيتِّريي ْر»‪ ،‬يف آخر عدد لها (أكتوبر ‪ ،)2012‬مل ّفاً حول عالقة الجنون باألَدب (ما‬ ‫َي ْع ِر ُفه األدب عن الجنون)‪ .‬ويندرج هذا امللف ضمن نظر ٍة شامل ٍة قررت املجلة أَن تشمل بها تباعاً‬ ‫موضوعات‬ ‫ِ‬ ‫منغلق عىل نفسه‪ُ ،‬يتَحد َُّث عنه –غالباً‪ -‬من‬ ‫موضوع‬ ‫الجنون‪ ،‬واملوت‪ ،‬واآلخر‪ ،‬ومن داخل املنظور األديب‪ ،‬أي ما الذي يعرفه األَدب عن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫خارجه‪ ،‬وبدون تجربة ملموسة ؟ ثم كيف يضع األَدب يف مقدمة ْ‬ ‫املشهَد مناذج تعاين من حالة جنون ‪ ،‬سواء تع َّلق األمر بشعراء و ُكتَّاب أو‬ ‫؟وتشكلت مقارب ُة هذا امللف عرب أَربع حركات ‪ .‬الحركة الثانية‪ ،‬اهتمت مبا ع َقدَه ّ‬ ‫ْ‬ ‫الش ْعر من ِص َال ٍت مع الجنون‪.‬‬ ‫بشخصيات رسدية مت ََّخيلة‬ ‫ُ‬ ‫طبعاً‪ ،‬ليست هذه هي املرة األوىل التي َت ِقف فيها هذه املجلة الرصينة عىل موضوع الجنون يف عالقته بالكتابة والفكر‪ .‬وقد اعتدنا بفضلها‬ ‫روس ْ‬ ‫يل‪ْ ،‬ب ِريسيِّ ‪ُ ،‬ڤو ْل ْف ُس ْ‬ ‫ون (مع استحضار مناذج فلسفية أخرى لعل ِنيت َْشه أَشهرها‪،‬‬ ‫أن نتحدث عن‬ ‫ِ‬ ‫حاالت هُ و ْل َد ْرلن‪ ،‬أَ ْر ُطو‪ِ ،‬ن ْري َڤ ْال‪ُ ،‬مو َّب َاسان‪ِّ ،‬‬ ‫َاح ْت ال َعالِ َم اللغوي َّ‬ ‫وص ْري‪،‬‬ ‫الشهري ِف ْردين َْان دو ُس ِّ‬ ‫بالشك‪ .).‬ولكنَّ الجديد يف هذا امللف –بالنسبة إ َّيل عىل األقل‪ -‬هو حالة الجنون التي ْاجت َ‬ ‫األب الفعيل لِ ِّلسانيات الحديثة والفكر البنيوي‪ ،‬وهو ُي َن ِّقب عن املزيد من الكلامت الجديدة تحت ظالل الكلامت القدمية‪ ،‬وعن املعاين‬ ‫وص َف ُه ميشيل فوكو يف «تاريخ الجنون» بانقطاع ْ‬ ‫مط َل ِق لل َع َمل‬ ‫املبتكرة من خالل َق ْلب الحروف وتركيب‬ ‫ٍ‬ ‫كلامت ُأ ْخرى‪ .‬وذلك يف س َّياق ما َ‬ ‫(ولِ َم الَ؟) كأحد املصادر الرسية للكتابة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وص ْري ( ‪ ،)F. de Saussure 1913- 1857‬يف الوطن ال َع َريب‪ ،‬إِ َّال بأ ْل ِف خري وخري‪َ .‬ن ْذ ُك ُره ك َعالِم لساين سويسرْ ي كبري‪ ،‬وباألساس‬ ‫إِننا ال َن ْذ ُكر دو ُس ِّ‬ ‫َ‬ ‫كمؤسس للبنيوية يف اللسانيات‪ ،‬دون أن َننْىس إِسهامه بالغ األهمية يف دراسة اللغات الهند‪-‬أروبية‪ .‬وهل ي ْنسىَ أحد ِكتَا َبه الفذ «دروس يف‬ ‫اللسانيات العامة» (‪ )1916‬الذي ج َم َعه ونَشرَ َه تالمذته (بعد موته)‪ ،‬واع ُت َرب من أَهم الكتب التي أَضاءت القرن العرشين‪ .‬كام وفرت له‬ ‫ع ْنصرُ إِسناد علمي ومعريف ومنهجي ال غنى عنه‪ .‬نتذكر بالخصوص‪ ،‬التمييز بني اللغة والكالم‪ ،‬وبني النظرة الزمنية (ال ّْد َيا ْك ُرونية) والنظرة‬ ‫(السا ْنكرونية)‪ ،‬والتأكيد عىل الطابع ا ِإللزامي (الت ُّ‬ ‫املؤسسيِ للغة)‪ ،‬وما إىل ذلك من‬ ‫َّحكمي) للعالمة اللغوية (ما ُس ّمي الحقاً بالعامل َّ‬ ‫ال َّتزَا ُمنية َّ‬ ‫َ‬ ‫مفاهيم ومعطيات نظرية وإجرائية استفادت منها مختلف الحقول املعرفية كالفلسفة‪ ،‬واألنرثوبولوجيا‪ ،‬والتحليل النفيس والنظرية األدبية‪.‬‬ ‫بحاث لغوية‪ ،‬جانبية وتفصيلية ُو ِص َف ْت بال َّالعقالنية‬ ‫وص ْري إىل أَ ِ‬ ‫هكذا‪ ،‬إِىل جانب أَبحاثه املضنية التي ُو ِص َف ْت بالعقالنية‪ ،‬انرصف دو ُس ِّ‬ ‫والسرِّ ِّ ية واملجانية‪ ،‬أصابته يف النهاية بالخيبة‪ ،‬و َقا َد ْته إِىل الهذيان‪ .‬ومن َث َّم َج َذ َبتْه نهائياً إِىل الحقول املغناطيسية للجنون‪ ،‬ومن هناك إِىل‬ ‫صم ِت ِه ا ُمل ْط َلق األخري‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يومئ ٍذ‪ِ ،‬ق َ‬ ‫يل إِن هَ َذ َ‬ ‫وص ْري مل يكنْ منه بل من اآلخر‪ ،‬من النّصوص ِّ‬ ‫الش ْعرية التي مل يك ُت ْبها بل كان ُيعيد كتابتها‪ .‬لقد كان ينشغل‬ ‫يان دو ُس ِّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ثرَ‬ ‫ْ‬ ‫يومياً بالبحث عن القصائد والنصوص القدمية محاوال العثور عىل ما يجعل اللسانيات واألدب يتكلامن َنف َس اللسان‪ .‬ومن هناك ع (كام‬ ‫قيل‪ ،‬ولع َّلها عبارة للمدَاعَبة أو الت َ​َّش ِّفي) عىل ما ُي َق ِّر ُب األَدب من الجنون ! والواقع أَنه ك َّر َس جهداً ووقتاً هائ ًال لِ ُلعبة «األَ َنا ْغ َرا ْم»‪ ،‬أي َق ْلب‬ ‫الص َوايت‬ ‫الحروف يف الكلمة الواحدة أو يف مجموعة من الكلامت الستخراج املعاين الجديدة‪ ،‬وذلك عىل أساس األَ ُ‬ ‫وجه األسلوبية والبناء ِّ‬ ‫املمكن‪ .‬وكان ُيع ِّو ُل يف ذلك عىل استثامر خربته الطويلة يف االشتغال عىل التقنية الشعرية الهند‪-‬أروبية‪ ،‬حيث الن َُّّص َر ِح ٌم لل َّد َوال التي تتيح‬ ‫بنا َء دالالت محجوبة والنهائية ميكن الوصول إليها باستخدام بعض املفاتيح املعجمية والبالغية‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اف لَع َّل ُه من ُص ْلب العملية األدبية وجوهرها‪ .‬فاألدب‪ ،‬كام يؤكد‬ ‫لقد كانت مجرد لعبة لغوية شعرية حركها فضول معريف‪ ،‬فتحولت إىل إِسرْ َ ٍ‬ ‫ُجو ْر ْج َب َ‬ ‫اطايْ ‪ ،‬قو ٌة ُمزْعجة وحضور قائم عىل مواجهة الشك واالرتجاف‪َ ،‬ب ْل قادر عىل أن يكشف لنا حقيقة الحياة وإِرساف إِمكانياتها !‬ ‫آخ ِر ِه‪ ،‬عىل َّ‬ ‫وص ْري ‪ :‬الذهاب بعيداً يف تجربة مجابهته للغة حتى أمكنه أن يعرث عىل َ‬ ‫الشا ِع ِر يف داخله‪ ،‬وبالتايل‬ ‫وذلك‪ ،‬رمبا‪ ،‬ما عاشه دو ُس ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫االنزياح أو االنحراف الكامل عن الواقع‪ ،‬قبل الوصول إىل سرِ ِّ ِه «املهني»‪ .‬هناك حيث َتحط َم ْت سا َعة ال َعقل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ليس الجنون هو الداء الذي ُيتَع َّذ ُر أو ال ُي ْر َجى ِشفاؤه‪ .‬ما ال ُي ْش َفى هو َغ َبا ُء التأويل الذي استنكره نريڤال بأعىل صوته‪ ،‬وأدانه أ ْرطو‪ .‬ومل‬ ‫يسمع أحد‪ ..‬أو مؤسسة‬ ‫‪62‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫مختارات‬ ‫الفنان محسن وزيري‬

‫گروس عبد امللکیان‬

‫عند آخر نافذة‬ ‫في العالم‬

‫ترجمة ـــــ عن الفارسية‪ :‬مريم حيدري‬

‫ُيعد‬

‫الشاعر گروس عبد الملكيان‪( ،‬مواليد ‪ )1980‬من ابرز‬ ‫االصوات الشعرية الجديدة في ايران‪ ،‬حيث بدأ‬

‫النشر منذ سني المراهقة‪ ،‬ولكن مجموعته األولى صدرت عام ‪2001‬‬ ‫تحت عنوان «الطائر الخفي» وحصلت في العام نفسه على «جائزة‬ ‫كتاب العام للشعر اإليراني المعاصر» والتي كانت تقدمها مجلة‬ ‫«كارنامة»‪ .‬وفي عام ‪ 2003‬حصدت قصائده جوائز عدة منها «الجائزة‬ ‫العامة لشعر الشباب اإليراني»‪ .‬وأصدر ديوانه الثاني عام ‪2004‬‬ ‫بعنوان "االلوان الحائلة للعالم"‪ ،‬حيث طبع منه تسع طبعات وتم‬ ‫اختياره كأحد الكتب المختارة من قبل جائزة كتاب العام لشعر‬ ‫الشباب اإليراني‪ .‬ثم أصدر مجموعته الثالثة عام ‪ 2011‬تحت عنوان‬ ‫«السطور تغير أماكنها في الظالم» وطبع منها ثماني طبعات‪ ،‬وفي‬ ‫نفس السنة اصدر مجموعته الرابعة «الحفر»‪ ،‬التي أعيد طبعها سبع‬ ‫مرات حتى اآلن‪ .‬ويدير الشاعر‪ ،‬حاليا‪ ،‬قسم الشعر في دار نشر‬ ‫«جشمة» في طهران‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪63‬‬


‫مختارات‬

‫اللقاء‬ ‫املطر الذي مكث أياما طويلة‬ ‫فوق املدينة‬ ‫هطل أخرياً‬ ‫وكنت ستأتني إىل بيتي بعد سنني‪...‬‬ ‫عيناي‬ ‫مل تعودا متيزان لون شعرك‬ ‫وال الحنان‪ ،‬والحزن‪ ،‬والغضب‬ ‫وال األشياء التي أعددتها يف الخزانة‬ ‫وال الشموع فوق الطاولة‪...‬‬ ‫أنا وأنت نسينا الزمن‬ ‫مرات عدة‬ ‫يف املقاهي والشوارع‬ ‫إذ ذاك‬ ‫كان الزمان ينتقم منا‪.‬‬ ‫طرقت الباب‬ ‫ِ‬ ‫فتحته‪،‬‬ ‫ألقيت التحية‬ ‫ِ‬ ‫ومن دومنا صوت‪،‬‬ ‫حضنتني‬ ‫غري أين‬ ‫ملحت ظلك‬ ‫ويديه يف جيبه‬ ‫دخلنا الغرفة‬ ‫وأشعلنا الشموع‬ ‫لكن ال يشء اشتعل‬ ‫الضوء‬ ‫كان يخفي الظالم‪...‬‬ ‫ثم جلست فوق الكنبة‬ ‫غطست يف الكنبة‬ ‫ارتعشت يف الكنبة‬ ‫تصببت عرقا يف الكنبة‬ ‫ِ‬

‫‪64‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫ُ‬ ‫وكتبت عىل هامش املفكرة خلسة‪:‬‬ ‫الحوت الذي يتخبط يف الساحل‬ ‫مل يأت لزيارة أحد‪.‬‬ ‫دون عنوان‬ ‫عندما تهب الريح‬ ‫ينهض الرتاب الجالس يف الكريس‬ ‫يدور يف الغرفة‬ ‫يستلقي إىل جانب املرأة‬ ‫ويفكر‬ ‫يف األيام التي كانت له شفاه‪.‬‬ ‫الجرح‬ ‫تهرب من اليقظة إىل النوم‬ ‫ترى‬ ‫أثر السوار يؤملك يف يقظتك‬ ‫ويؤملك يف جبهتك أثر الشفاه الخاوية‬ ‫يؤملك مكانك يف الحياة‬ ‫فهو جرح‪...‬‬ ‫وعليك أن تحك الجرح‬ ‫تكشط جلده‬ ‫عليك أن تنزع الجلد‬ ‫وتلقيه عىل الكنبة‬ ‫ليصبح بيتك جميال‪.‬‬ ‫فالش باك‬ ‫ال وقت لدينا‬ ‫تعايل نحضن بعضنا‬ ‫وغداً‬ ‫إما أقتلك‬ ‫وإما تغسلني أنت املدية يف املاء‪.‬‬ ‫بضعة سطور‪،‬‬


‫كروس عبد الملكيان‬

‫الفنانة راشني خرييه‬

‫العامل صار بضعة سطور‬ ‫إمنا من األفضل‬ ‫أن يبقى اإلنسان صغريا‬ ‫ومن األفضل أن ال يولد‬ ‫أعيدي هذا الفيلم إىل الوراء‬ ‫إىل أن يتحول املعطف خلف الواجهة‬ ‫إىل منر‬ ‫يركض يف السهول البعيدة‬ ‫إىل أن تعود العكازات‬ ‫إىل الغابة‬ ‫والطيور‬ ‫تعود ثانية إىل األرض‪...‬‬ ‫األرض‪...‬‬ ‫ال!‬ ‫عودي أكرث من هذا‪.‬‬ ‫بال عنوان‬ ‫إىل رسول يونان‬

‫ّ‬ ‫ربت عىل كتفي‬ ‫وانفض عني وحديت‬ ‫ما خيط األمل هذا‪،‬‬ ‫أن تنفض الثلج‬ ‫عن عاتق رجل الثلج؟‬ ‫نملة‬ ‫أنا ميت‬ ‫وال يعرف هذا‬ ‫إال أنا‬ ‫وأنت‬ ‫أنت التي تسكبني الشاي يف فنجانك وحسب‪.‬‬ ‫متعب أكرث من أن أجلس‬ ‫أخرج إىل الشارع‬

‫أصافح أصدقايئ‬ ‫كأن ال يشء حدث‬ ‫لنفرتض أنك تديرين املفتاح يف قفل الباب‬ ‫وقلبك ال ينفتح!‬ ‫أعرف‬ ‫أنني ميت‬ ‫وال يعرف ذلك إال أنا وأنت‬ ‫حيث مل تعودي تقرأين الصحيفة بصوت عال‪.‬‬ ‫أنت ال تقرأين‬ ‫وهذا الصمت أصابني بالجنون‬ ‫فأرغب أحيانا‬ ‫أن أتحول إىل منلة‬ ‫ألبني بيتي يف حنجرة ناي‬ ‫ثم تأيت الريح إىل بيتي بالنوطات‬ ‫أو ترفعني من عتمة الرصيف الحجري يف الشارع‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪65‬‬


‫مختارات‬

‫وتضعني عىل فستانك األبيض‬ ‫أدرك‬ ‫أنك سرتمينني ثانية‬ ‫بني هذه السطور‪ ،‬وهذه األيام‪.‬‬ ‫هذه األيام‬ ‫يخيفني رشيط من الصور يف أحالمي‪:‬‬ ‫حبل يتدىل من السقف‬ ‫ورجل يتدىل من الحبل‬ ‫ظهره يل‬ ‫وال يعرف ذلك إال أنا وأنا‬ ‫أنا الذي يخاف أن يعيد ذلك الرشيط‪.‬‬

‫أن يترسب هكذا‬ ‫من بني شقوق اآلجر‬ ‫الذي رفعناه واحداً فوق اآلخر‪.‬‬ ‫وحده املاء يستطيع‬ ‫أن ينحدر عىل هذا الطريق الطويل‬ ‫من القمة‬ ‫إىل السفح‬ ‫والغابة‬ ‫وبحن ٍو‬ ‫ي ّربد فمنا‬ ‫يف كأس صغري‪.‬‬

‫قصيدة للحرب‬ ‫انس‬ ‫الرشاش‬ ‫واملوت‬ ‫وفكر بحكاية نحلة‬ ‫تبحث يف حقل األلغام‬ ‫عن غصن زهرة‪.‬‬

‫إجازة‬ ‫جئت من األشجار‬ ‫ال بد أ ّن ِك ِ‬ ‫ما دمت أتيت بالخريف إىل شعرك مثلام أتيت‬ ‫وجئت من األنهار‬ ‫مادامت األسامك الزرقاء والحمراء تسبح يف صوتك‪.‬‬ ‫أحيانا تتحدثني عن الحزن عىل نحو‬ ‫تحيا ّ‬ ‫كل دُماك‬ ‫لتنتحر‬ ‫وأحيانا عندما تطبقني جفنيك‬ ‫العامل كله‬ ‫يصبح حلام أراه‬ ‫مرات كثرية‬ ‫رأيت الثلج‬ ‫يهطل عىل الشباك‬ ‫ليجعل سريك أجمل‬ ‫والغيم رأيته‬ ‫جالسا فوق سطح الدار‬ ‫ليكمل صورة انتظاري‪...‬‬ ‫وال تنهض هذه الفراشة من فستانك‬ ‫إال لتجلس عىل حافة القمر‪.‬‬ ‫نزلت لخمس دقائق فقط‬ ‫من السد الرتايب‬

‫قصيدة للحب‬ ‫هنا‬ ‫خالصة العامل‬ ‫‪ 5\5‬مساء‬ ‫املوعد‬ ‫الضباب‬ ‫املحطة‬ ‫املطر‬ ‫وقطار‬ ‫إما أن يأيت بك‬ ‫وإما أن يأخذين‪.‬‬ ‫فيسوافا شيمبوريسكا‬ ‫وحده املاء يستطيع‬

‫‪66‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫كروس عبد الملكيان‬

‫الفنانة راشني خرييه‬

‫ومل أسعل إثر القنابل الكيمياوية‬ ‫ونسيت جهة اليمني وجهة اليسار‬ ‫مثلام كنت يف الثالثة من عمري‪.‬‬ ‫طلبت من الظالم‬ ‫إجازة لخمس دقائق فقط‬ ‫يك أكتب لك قصيدة حب‬ ‫بال عنوان‬ ‫ليس صوت القلب‬ ‫هذا‬ ‫إنه صوت قدميك؛‬ ‫تركضني ليال يف صدري‬ ‫فقط يكفي أن تتعبي‬ ‫فقط يكفي أن تقفي!‬ ‫بال نهاية‬ ‫كنا بضعة أشخاص‬

‫قتلنا برصاصة واحدة‬ ‫رصاصة مل تطلق أبدا‬ ‫آه يا صحراء بال نهاية!‬ ‫عندما أعانق هذه الوحدة الغريبة‬ ‫أشتاق حتى ألعدايئ‬ ‫ليت أحدا يستهدفني عىل األقل‬ ‫‪...‬‬ ‫عندما ال تكونني‬ ‫ألريك الطاولة عند نهاية املقهى‬ ‫عندما يكون الطائر أربعة حروف من األبجدية وحسب‬ ‫والنافذة‬ ‫ال تتجاوز جدار الفناء‬ ‫أستطيع أن أجلس‬ ‫وشيئا فشيئا‬ ‫أقص سبابتي‬ ‫ُّ‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪67‬‬


‫مختارات‬

‫بول أوستر‬

‫أربع قصائد‬ ‫ترجمة‪ -‬عن اإلنجليزية‪ :‬وليد عالء الدين‬

‫رعوي‬

‫يف األرض النائية‬ ‫حيث الطحالب واالنتظار‪.‬‬ ‫صغرية كأنها الكلمة‬ ‫التي تنتظر‬ ‫مثلها يف ذلك مثل اآلخرين ‪.‬‬ ‫عىل هذا النحو‬ ‫فإن الطحلب ما زال بانتظارك‪.‬‬ ‫الكلمة هي املشكاة‬ ‫التي تحملها إىل عمق األخرض املعشوشب‪.‬‬ ‫حتى الجذور‬ ‫تتحمل بالضياء‬ ‫واآلن صوتك أيضا‬ ‫‪68‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫ما زال يسافر عرب الجذور‬ ‫لذلك‬ ‫فانه حيثام توجد أشعة تنهمر‬ ‫فأنت أيضا تعرف أنك تعيش‬ ‫موشور‬ ‫وقت األرض‬ ‫تكتكة الحجارة يف فراغات الرثي‬ ‫الهواء الصالح للزراعة يضل الطريق عن الوطن‬ ‫سلك شائك وطريق قد محيت‬ ‫قرعتها تلك الحمى الحارقة يف رئاتنا‬ ‫النطفة أزهرت من البلور‬ ‫أنفاسنا القرمزية شتت أشعتنا‬ ‫لن ميكننا أن نتعرف عىل أنفسنا مرة أخرى‬


‫بول أوستر‬

‫كام لهب تائه بني أعمدة الضوء‬ ‫نحن أحياناً نستدعى املوت‬ ‫وأحياناً أخرى نزهر‬ ‫حتى وسط لهيب ال ينطفئ مثل هذا‪.‬‬ ‫كتابة الحائط‬ ‫ال يشء أقل من ال يشء‬ ‫يف ليل يجيء من العدم‬ ‫ألجل ال أحد يف ليلة ال تأيت‪.‬‬ ‫فكل ما يوازي حد البياض إما أنه غري منظور‬ ‫بالنسبة لعني الشخص الذي يشهد‪.‬‬ ‫أو أنه كلمة‬ ‫تأيت من حيث ال مكان‬ ‫يف ليلة ذلك الذي ال يأيت‪.‬‬ ‫أو رمبا يكون بياض الكلمة‬ ‫قد خربش يف الحائط‪.‬‬ ‫معاهدة‬ ‫حشد من العيون‬ ‫عدد ال يحىص‬ ‫يف عمق قاع الشبكية‬

‫إنها صورة العظيم عديم الصورة القابع هناك يف الباطن‬ ‫نحن‪ ،‬املرتزقة‬ ‫نعيش يف الشجر والدبش‬ ‫نقتطع ما تيرس لنا من رزق‬ ‫كنا نجتاز سرياً عىل األقدام‬ ‫ضاربني عىل غري هدي يف العمى‬ ‫تعلمنا فيام بعد‬ ‫كيف نبدي أنفسنا لاليشء‪.‬‬ ‫يشء ما مفقود‬ ‫يشء ما ليوجد‬ ‫اسم‬ ‫تتابع عرب غبار تلك التغريات الكثرية‬ ‫ومل يفش رس صوته أبدا‬ ‫كان الجبل هو األثر‬ ‫الذي من خالله استطاع األمل الشهواين‬ ‫أن يصل إىل موطنه‪.‬‬ ‫طوال الليل قرأت جروح بريل‬ ‫عىل الجدار الداخيل لبكائك‬ ‫وعيل الحافة الغليظة لطاحونة الصباح‬ ‫إليك مرة أخرى‬ ‫الذي تسلق ِ‬ ‫حيث بدأت عظامي يف قرع طبلة القلب‬ ‫حد التمزق‬

‫بول أوستر‬ ‫ليس معروفاً عىل نطاق واسع أن الروايئ األمرييك بول أوسرت‬ ‫يكتب الشعر فقد ذاع صيته كروايئ بارز يف العرشين عاماً‬ ‫األخرية وخصوصاً يف روايته «ثالثية نيويورك»‪ ،‬إال أن بدايات‬ ‫أوسرت ككاتب كانت مع الشعر حني جاء إىل باريس يف فرتة‬ ‫السبعينات وهناك كتب الكثري من القصائد التي مل تأخذ‬ ‫حظها بسبب طغيان شهرته الروائية‪ ،‬كام قام برتجمة كبار‬ ‫الشعراء الفرنسسني إىل اإلنجليزية‪.‬‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪69‬‬


‫جدل‬

‫قصيدة اآلباء والبنون‬

‫سؤال المرجعية‬ ‫يبدو سؤال المرجعية مهما في الوقت الراهن‪ ،‬في ظل ما يتم طرحه من كتابات تنتمى إلى اتجاهات‬ ‫ومدارس مختلفة‪ ،‬منها الحديث‪ ،‬ومنها ما احتفظ بتواصله مع التراث تحت عناون ومضامين متعددة ‪.‬‬

‫خلدون عبد اللطيف‬

‫سوا ٌء أكانت املقاربة داخلية أم خارجية‪ ،‬أي من عمق‬ ‫التجربة الشعرية‪ ‬وجدلية تصوراتها الضمنية أو احتكاماً‬ ‫والسامتية العامة‪ ،‬ال تخلو الساحة‬ ‫إىل أطرها الشكلية ّ‬ ‫وتقرتب كثريا ً‬ ‫تشف عن فراد ٍة‬ ‫الشعرية العربية من مناذج ّ‬ ‫ُ‬ ‫من توصيف الخصوصية وإقامة مرشوعها الشعري‪ ،‬مبا‬ ‫يف ذلك بعض املغامرات الفارقة بشكل أو بآخر‪ ،‬والتي‬ ‫مل تكرس غالباً حاجز التج ّرؤات أثناء دورانها يف فلك‬ ‫وأقل ما يقال بصددها أنها مل تتبلور بع ُد كفاي ًة‬ ‫التجريب‪ّ ،‬‬ ‫يرس ُخ مسارها‬ ‫أو تتمخّض عن مرشوع جا ٍّد وحقيقي ّ‬ ‫ومرحلتها‪ ،‬بينام الغالبية ما فتئت تسبح عىل الطرف‬ ‫املقابل يف العتمة بال وجه ٍة محددة أو رؤية واضحة‪.‬‬ ‫مثة فئ ٌة أخرى أعلنت متام الرباءة من األب ّوات الشعرية‬ ‫الشعري‪ ،‬وتب ّنت ن َُسخاً مش ّوهة عن‬ ‫وافرتاقها عن املوروث‬ ‫ّ‬ ‫الحداثة دون أن ت ُعنى بإعادة ال ّنظر أو التدقيق جيدا ً قبل‬ ‫اإلقامة فيها‪ ،‬فأنجبت‪ ،‬تداعياً عن ذلك‪ ،‬نصوصاً مش ّوهة أو‬ ‫ممسوخة مل تبلغ تخوم الشعر وأبعد ما تكون عن مرماه‪،‬‬ ‫تو ّرط يف إنتاجها وإفرازها «وهم» املقاربة الحداثية‪ ،‬ال‬ ‫ظل إعالن تلك الفئة ‪ -‬رصاح ًة أو ضمناً‪ -‬عن‬ ‫س ّيام يف ّ‬ ‫قطيعتها التامة مع موروث الشّ عر العريب وطالقها منه‬ ‫طالقاً بائناً‪ ،‬أو يف أحسن األحوال اختزال العالقة معه إىل‬ ‫أضيق ما ميكن بحكم انتامءات التاريخ وارتباطات اللغة‪.‬‬

‫ضبط املرجعية‬

‫يف معرض تناوله للعملية التواصلية‪ ،‬يذهب‬ ‫رومان‪ ‬جاكبسون إىل التعامل مع املرجعية بوصفها واحدة‬ ‫‪70‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫قصيدة اآلباء والبنون‬

‫الست إن مل تكن أهمها‪ ،‬أي كدالّ ٍة‬ ‫من وظائف اللغة ّ‬ ‫تعريفية وحاضنة إخبارية‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬وعطفاً‬ ‫عىل‪ ‬ما متثله اللغة وموقعها وروابطها بالنسبة للشاعر‬ ‫أكرث من سواه‪ ،‬نستطيع الحديث عن أثر املرجعيات‬ ‫الشعرية يف ثقافته ومعرفته‪ ،‬إذ يع ّد اختامرها التدريجي‬ ‫واحدا ً من عوامل تكوين رؤيته ونظرته الحاسمة‬ ‫الشعري‬ ‫إىل الوجود‪ ،‬وتأطري أبرز توجهات مرشوعه‬ ‫ّ‬ ‫وتالمحاته‪ .‬كام أنها‪ - ‬من ناحية ف ّنية ‪ -‬تصهر شعرية‬ ‫ال ّنص املتك ّون مبرجعيات ومصادر متعددة اكتنزت أصالً‬ ‫بتجارب إنسانية عميقة‪ ،‬فردية وجمعية‪ .‬فام من ٍّ‬ ‫شك‬ ‫يف أ ّن تنوع املرجعيات وتباينها وتفاوت أثرها‪ ،‬مبا تتيحه‬ ‫من إنفتاح عىل ثقافة األنا واآلخر واغتذاء منها‪ ،‬يراكم‬ ‫القيم املعرفية ويدفع بعيدا ً نحو شحذ الكتابة والتجديد‪.‬‬ ‫الشاعر مسكو ٌن بهاجس النبش والتنقيب عن أشباهه‬ ‫الشعريني ومكنوناتهم الشعرية ليستحرضها بافتنان‪ ،‬عن‬ ‫وعي أو ال وعي‪ ،‬ويعيد يف ضوئها إنتاج نصه الشعري‪،‬‬ ‫وهو يف تقديرنا ما يفسرّ اقرتاب الشاعر العريب املعارص‬ ‫من املرجعيات ضمن سياقات املعرفة‪ ،‬واتكائه عليها من‬ ‫منظور استلهامي كونها شكّلت رافداً من روافد منظومته وهم الرباءة‬ ‫الثقافية‪ ،‬وانصهارا ً يف تجربته الشعرية‪ ،‬وتفاعالً مبارشا ً‬ ‫بيد أ ّن السؤال الذي يطرح نفسه‪ :‬هل تتجلىّ الحالة‬ ‫معها‪ .‬آية ذلك منجز القصيدة العربية‪ ،‬واجرتاحاتها‬ ‫الشعرية العربية بلغة بريئة فعالً من أي مرجعية‬ ‫كل لحظة شعرية وحققت‬ ‫الحقيقية التي استوعبت ّ‬ ‫أي‬ ‫شعرية؟ بصيغة أخرى‪ ،‬هل يف اإلمكان قراءة ّ‬ ‫استمراريتها يف الوجود‪.‬‬ ‫تجربة شعرية ‪ -‬حديثة عىل وجه الخصوص‪ -‬بعيدا ً‬ ‫مؤخرا ً‪ ،‬بتنا نلمس انحسارا ً تدريجياً يف ضبط أبرز‬ ‫عن مرجعياتها ومواضعاتها الحقيقية؟ لنعرتف قبالً أن‬ ‫املرجعيات املطروقة تقليدياً‬ ‫هناك مغالط ًة موضوعية وابتسارا ً‬ ‫واستشعارها عىل الساحة‬ ‫ة أعلنت البراءة يف استقراء التجربة الشعرية‬ ‫ثمة فئ ٌ‬ ‫الشعرية العربية‪ ،‬أي ما هو‬ ‫العربية تاريخياً فحسب مبعزل عن‬ ‫من األب ّوات الشعرية‬ ‫والكتاب‬ ‫ديني مق ّدس (القرآن‬ ‫سياقات أخرى اجتامعية وسياسية‬ ‫الشعري‪،‬‬ ‫والموروث‬ ‫ّ‬ ‫املق ّدس)‪ ،‬وما هو شعري (موروث‬ ‫واقتصادية‪ ،‬سيَّام وأن الخصوصية‬ ‫ومدارس الشعر العريب والغريب)‪،‬‬ ‫سخ ًا مش ّوهة‬ ‫وتبنّت ن ُ َ‬ ‫املرتاكمة ألي تجربة شعرية ممهور ٌة‬ ‫ناهيك عن األسطوري والفكري‬ ‫بعدة مؤثرات حديثة أو تراثية نظري‬ ‫عن الحداثة دون‬ ‫والفلسفي (امليثيولوجيا‪ ،‬موروث‬ ‫اإلنجذاب إلغراء املرجعيات الكتابية‬ ‫التدقيق جيد ًا قبل‬ ‫العربية‬ ‫الفلسفة الغربية‪ ،‬وبعض‬ ‫الكربى التي تنطوي بالرضورة عىل‬ ‫اإلقامة فيها‬ ‫األسالمية الس ّيام يف جانبها‬ ‫مو ّرثات جينية‪ .‬الكتاب ُة الشعري ُة كام‬ ‫الصويف وتصوراتها العرفانية)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أسلفنا استجاب ٌة مبارش ٌة وغري مبارشة‬ ‫مقابل استحقاقات الظرف التاريخي وانفتاح غرف العامل‬ ‫وممراته عىل بعضها أكرث من السابق‪ .‬عالو ًة عىل احتشاد‬ ‫سواد ال ّنصوص الشعرية بنسيج بوليفو ّين من مؤثرات‬ ‫وفنون أخرى غري ما ذكرناه‪ ،‬وتفاعل تلك النصوص معها‬ ‫إىل حدود التامهي‪ ،‬كالسينام واملوسيقى واإلكتشافات‬ ‫العلمية والتجاذبات السياسية واأليدلوجيات‪...‬الخ‪ ،‬وهو‬ ‫ما تحقّق بأث ٍر من سقوط الحدود وانهيارها بني أشكال‬ ‫التعبري الفنية‪ ،‬مفضياً إىل صعوبة اإلملام بأكرب قدر من‬ ‫الشارد والوارد فيام يكتب ويقال مقارنة باألمس القريب‪.‬‬ ‫فال غرو إذا ً‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬أ ّن اإلحاطة مبا تراكمه الحداثة‬ ‫الشعرية العربية تحليالً ونقدا ً واستقرا ًء عملي ٌة شائكة‪،‬‬ ‫منهجي طويل‪ ،‬لك ّن األصعب‬ ‫وتحتاج إىل مراس ونفس‬ ‫ّ‬ ‫منها واألكرث تعالقاً واشتباكاً هو تقفي واستبطان أثر‬ ‫تتواشج‬ ‫املرجعيات الشعرية التي تكتنف كل تجربة‬ ‫ُ‬ ‫خصوصيتها عىل انفراد‪،‬كام فعل العديد من النقاد مثالً‬ ‫الصدد حيال تجربة بدر شاكر السياب أو توفيق‬ ‫يف هذا ّ‬ ‫صايغ‪.‬‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪71‬‬


‫جدل‬

‫تناسخاتها قدر املستطاع نفياً لإلحالة‪ٍ ،‬‬ ‫بجهد يعادل الجهد‬ ‫‪،‬يف أعامقها‪ ،‬ملرجعية أو أكرث متفاوتة املستوى والنمط‬ ‫كل كتابة شعرية يف لحظتها املبذول يف الكتابة أو يفوقه‪ ،‬رغم أن ال ّنص والتجربة‬ ‫والبعد التاريخي‪ ،‬حيث تغدو ّ‬ ‫عموماً يقوالن بخالف ذلك ويدالن عىل نقيضه‪ .‬يف هذا‬ ‫متثّالً لسابقاتها سواء بوعي ناقص أو كامل‪ .‬قصيدة‬ ‫اإلتجاه‪ ،‬تربز رشعية التساؤل ما إذا استطاع عموم الشعراء‬ ‫الجواهري مثالً كانت عرض ًة ألثر املتنبي وعصب ٍة من‬ ‫شعراء العرص العبايس الكبار الذين اكتسب إرثهم الشعري العرب تسخري الطيف الواسع للمرجعيات الكربى يف‬ ‫خدمة ال ّنص والخروج بكتابة مغايرة حقاً‪ ،‬تأخذ يف أوىل‬ ‫قيمة معيارية‪ ،‬وشكّل مرجعي ًة أحادي ًة نوعاً ما بالنسبة‬ ‫اعتباراتها رضورة التخلص من عقدة النقص املتمثلة يف‬ ‫لنص الجواهري يف مواضعاته األع ّم‪ ،‬بذات القدر الذي‬ ‫ّ‬ ‫مجاراة شعرية تلك املرجعيات الكربى‪ ،‬أم أنهم توقفوا‬ ‫متكّن من أن يصنع للجواهري وقصيدته قيمة معيارية‬ ‫أخرى وجديدة كذلك‪ .‬نفس الكالم‪ ‬ينسحب يف جزء كبري عند حدود املحاكاة العمياء برصف النظر عن قيمتها‬ ‫منه عىل تجربة متقدمة زمنياً ومفرتقة شكالً ومضموناً‬ ‫وموقعها؟ نتساءل عىل ذات الصعيد‪ ،‬إن كان للشعراء‬ ‫كتجربة أنيس الحاج‪ ،‬حيث انجذبت يف شكلها وانتامءاتها من مرجعيات سالبة أو موجبة‪ ،‬كيف ومن أي موقعٍ يقرأ‬ ‫وبأي مسطر ٍة‬ ‫املرجعية منذ البداية إىل الشعر الفرنيس وأخذت طابعه‪ ،‬الشاعر العريب‬ ‫ويتحسس قوس مرجعياته‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫يحاكمها؟ هل يواصل اكتشافها بوعي وعمقٍ نقدي بغية‬ ‫األمر الذي ك ّرر أنيس تأكيده يف حواره األخري مع مجلة‬ ‫بيت الشعر‪ ،‬العدد (‪ )1‬حزيران ‪ ،2012‬ومل ِ‬ ‫خرقها‪ ،‬مثالً‪ ،‬ومامرسة انقطا ٍع وافرتاقٍ منظمٍ عنها؟‬ ‫يخف ميله‬ ‫الظاهري إليه «أنا متأثر بشعر القرن التاسع عرش الفرنيس‬ ‫وبالشعراء السورياليني وبعض أصدقائهم»‪ ،‬مضافاً إىل ذلك القصيدة‪...‬مرجعية ذاتها‬ ‫األثر‬ ‫املسيحي الذي اتكأت قصيدته النرثية عليه‪ ،‬وظلّت املفارقة أن الوقوع يف شباك اإلنجذاب إىل مرجعي ٍة ما‬ ‫ّ‬ ‫تغتذي منه ردحاً طويالً‪ .‬آثرنا التمثيل رسيعاً بهاتني‬ ‫قد يفتح الباب عىل مرصاعيه ويفسح املجال ملرجعيات‬ ‫واملضمون‬ ‫التجربتني املتباينتني شعرياً عىل مستوى الشكل‬ ‫أخرى ثاوية‪ ،‬مل تكن يف الحسبان‪ ،‬يك تتحفّز وتتنشّ ط‬ ‫والنكهة‪ ،‬أل ّن َّ‬ ‫كل واحدة أعادت ترتيب نصوصها بأث ٍر من شيئاً فشيئاً‪ ،‬استدالالً بوجود خيوط مشرتكة وناظمة يف‬ ‫مرجعيات كربى سابق ٍة عليها ال نكاد نلمس بينها روابط‬ ‫العملية اإلبداعية ككل‪ .‬يقول أدونيس والحال هذه‪،‬‬ ‫مشرتكة‪ ،‬وعملت من ث ّم عىل إدماج نصوصها الجديدة‬ ‫معبرّ ا ً عن تجربته يف هذا الصدد «أعرتف أنني مل أتعرف‬ ‫بقوة يف مسار الشعرية العربية‪.‬‬ ‫عىل الحداثة الشعرية العربية من داخل النظام الثقايف‬ ‫بالكتابة‬ ‫وتكثيفها‬ ‫املرجعيات‬ ‫يف سياق متّصل‪ ،‬يودي حشد‬ ‫السائد وأجهزته املعرفية‪ .‬فقراءة بودلري هي التي غريت‬ ‫الشعرية إىل أن تفيض عن‬ ‫معرفتي بأيب نواس وكشفت يل عن‬ ‫ما تعانيه‪ ‬بعض‬ ‫حمولة القصيدة وشعريتها‪،‬‬ ‫شعريته وحداثته‪ ،‬وقراءة ماالرميه‬ ‫الشعرية‬ ‫الكتابات‬ ‫بدليل ما تعانيه‪ ‬بعض الكتابات‬ ‫هي التي أوضحت يل أرسار اللغة‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫تش‬ ‫من‬ ‫الجديدة‬ ‫الشعرية الجديدة من تشتّت‬ ‫الشعرية وأبعادها الحديثة عند أيب‬ ‫تؤهلها‬ ‫وعشوائية يف املرجعية‪،‬‬ ‫متام‪ .‬وقراءة رامبو ونرفال وبريتون‬ ‫وعشوائية في‬ ‫ألن تصبح عرضة لشحنات‬ ‫المرجعية‪ ،‬تؤهلها ألن هي التي قادتني إىل اكتشاف التجربة‬ ‫الغموض والالتجانس وأحياناً‬ ‫الصوفية بفرادتها وبهائها»‪ .‬رمبا يبدو‬ ‫لشحنات‬ ‫عرضة‬ ‫تصبح‬ ‫اإلبهام‪ ،‬حيث يلجأ‪ ‬أصحابها إىل‬ ‫الكال ُم ساذجاً عىل وقوع الشاعر بني‬ ‫والالتجانس‬ ‫الغموض‬ ‫تقصد التشتت الداليل وتشظية‬ ‫ّ‬ ‫ح ّدي اإلرث الشعري العريب وشعر‬ ‫سوى‬ ‫ليشء‬ ‫ال‬ ‫القصيدة‪،‬‬ ‫لغة‬ ‫«اآلخر» القادم من مرجعية ثقافية‬ ‫وأحيان ًا اإلبهام‬ ‫تغييب أثر املرجعية وإخفاء‬ ‫وهوية مختلفة‪ ،‬لكن ما سبق التنويه‬

‫‪72‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫قصيدة اآلباء والبنون‬

‫أنيس الحاج ‪ :‬مرجعية فرنسية‬

‫إليه وتشخيص تد ّرجاته يضيئنا‬ ‫يف محاولة تفسري ما هو‬ ‫أعمق من مج ّرد ازدواجية‬ ‫املرجعية أو تع ّددها‪.‬‬ ‫فالقصيدة لوح ٌة أو تخطيطات‬ ‫لوجه الشاعر‪ ،‬يكون لون العينني‬ ‫كل واحدة بلون‬ ‫فيها واحد‪ ،‬ال ّ‬ ‫يختلف عن األخرى‪ ،‬وإال خرجت‬ ‫مشوهة بال مالمح صافية وحقيقية‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬ال‬ ‫التمسك بخزائن‬ ‫نرى بوجود موانع يف عملية املفاضلة بني ّ‬ ‫بوعي يف تيارات الحداثة ما دام‬ ‫اإلرث أو اإلنخراط ٍ‬ ‫أي سلط ٍة مرجعية تح ّد من‬ ‫الشاع ُر قادرا ً عىل التح ّرر من ّ‬ ‫ابتكار خياالته الخاصة‪ .‬الشاعر ال يعيش حاالت طويلة‬ ‫األمد من التوازن‪ ،‬فهو دائم اإلقرتاب والحركة من طرف‬ ‫كل‬ ‫يتيح له اختيار األفضل يف ٍّ‬ ‫إىل آخر كال ّرقّاص‪ ،‬وهذا ُ‬ ‫منهام‪ ،‬وما هو جدي ٌر بإثراء اإلنسانية والوجود‪ ،‬ويفيض‬ ‫بالرضورة إىل اكتامل الذات‪ ،‬خاص ًة أن املرجعيات يف‬ ‫إطارها األعم ال تتوقف عن التم ُّدد ما َوس َعها ذلك‪ ،‬يف ظل‬ ‫استمرار التبشري بتحالف األيام القادمة مع قصيدة النرث‪،‬‬ ‫وتهيئة مستقبل الشعر العريب لتولّيها وإحتضان سريورتها‪.‬‬ ‫خالفاً ملا تع ّرضنا إليه‪ ،‬مثة‪ ‬دعوات رصيحة للتخلص من‬ ‫املرجعيات الشعرية والخروج عليها باملطلق‪ ،‬إمياناً بأ ّن‬ ‫القصيدة قادرة عىل توليد وتكوين مقولتها الشخصية‬ ‫وشكلها املميز‪ ،‬وتحولها بالتايل ‪ -‬إذا جاز لنا التعبري‪ -‬ألن‬ ‫تكون مرجعية نفسها األوىل واألخرية‪ .‬تحت عنوان‬ ‫«مالحظات حول الشعر الحي»‪ ،‬يؤكد الشاعر والكاتب‬ ‫العراقي فاضل العزاوي عىل رؤيته ومقرتحاته املتعلقة‬ ‫بالقصيدة التي يكتبها‪ ،‬من خالل الدعوة إىل «الخروج‬ ‫عىل أي مرجعية شعرية‪ ،‬حيث تبتكر القصيدة ذاتها‬ ‫ضمن قولها الخاص والشكل الذي يناسبه»‪ .‬بغض النظر‬ ‫شعري خالص‪ ،‬إال أنه‬ ‫عن إمكانية تحقق ذلك من منظور‬ ‫ٍّ‬ ‫رص بعض اليشء‪ ، ‬ويعني ارتهان القصيدة أوالً‬ ‫تص ّو ٌر قا ٌ‬ ‫وآخرا ً بنفسها وصوالً بها إىل اإلنكامش والتكرار آجالً أم‬ ‫نص شعري‬ ‫عاجالً‪ ،‬وما من شأنه إلغاء فرصة التن ّوع بني ٍّ‬ ‫وآخر‪.‬‬

‫املرجعية‪...‬خيا ٌر ثقايف‬

‫يحف بأصغر‬ ‫يحسب للشّ عر أنه ما زال ّ‬ ‫أشيائنا‪ ‬وأبسطها‪ ،‬ويتيح الفرصة تلو‬ ‫األخرى لتتبع أثره الراهن فيها‪ ،‬استنادا ً‬ ‫الجمعي‬ ‫الزمني يف املوروث‬ ‫إىل عمقه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وانرسابه يف روحية اإلنسان وتضاعيف‬ ‫العرص من جانب‪ ،‬وبحكم أشكاله التي‬ ‫جانب‬ ‫تفرض التن ّوع وتعدد الهيئات من ٍ‬ ‫آخر‪ ،‬تارك ًة الباب مفتوحاً عىل محاججات واستحقاقات‬ ‫السجال النقدي‪.‬بهذا املعنى‪ ،‬ليست املرجعية‬ ‫ومزيد من ّ‬ ‫الشعرية مرسحاً لإلستعراض أو ساحة للقتال‪ ،‬أو حتى‬ ‫شبه ًة تتطلّب إعالن الرباءة منها‪ ،‬لك ّنها خيا ٌر ثقايف‬ ‫بالدرجة األوىل يرى كثريون أنها ‪ -‬إضاف ًة إىل اختبارات‬ ‫وفض ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫مزيد من‬ ‫الحياة ‪-‬‬ ‫بوعي‪ّ ،‬‬ ‫استحقاق الكتناه الشّ عر ٍ‬ ‫أختامه‪ ،‬وحسم الخيارات يف وقت مبكّر‪ ،‬فهناك شعراء‬ ‫مرجعي‪،‬‬ ‫يقيمون صلتهم بالقصيدة وكتابتها عرب قرينٍ‬ ‫ّ‬ ‫ومينح دافعاً لإلخرتاق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بكل ما يرتكه هذا القرين من أث ٍر ُ‬ ‫منيل إىل مقاربة موضوع املرجعية مع‬ ‫عىل صعيد آخر‪ُ ،‬‬ ‫بعض الدراسات البنيوية حول تناص النصوص‪ .‬بالتايل‪،‬‬ ‫قد نعرث عىل تجربة شعرية تنهل من مرجعية مستقبلية‬ ‫غائبة‪ ،‬مل تكتمل مالمحها النهائية بعد وغري متزامنة‬ ‫الحضور‪ ،‬وإكسابها وجودا ً نص ّياً جديدا ً قد يتخطّى‬ ‫تكف عن إنجاب‬ ‫لحظته الراهنة‪ ،‬خاصة أن البرشية ال ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مزيد من الشعراء الحقيقيني‪ ،‬وأ ّن النصوص الحقيقية ال‬ ‫تستنفد أو يصيبها الوهن والتقادم‪ ،‬فيام الفرصة متاحة‬ ‫واملجال مفتوح إلنتاج نصوص مغايرة ال تقطع مع اإلرث‬ ‫التاريخي وال حتى مع حارض الحداثة وسريورتها‪ ،‬بل‬ ‫وذلك‪ ‬قريب مام تح ّدث‬ ‫تقطع مع مرجعية مستقبلية‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫عنه إليوت يف «املوروث واملوهبة الفردية» حول املبدع‬ ‫الذي «يرتك أثره ال عىل املسقبل فحسب وإمنا عىل املايض‬ ‫أيضاً»‪ ،‬وهي أطروح ٌة تنطوي عىل استيهامات ومقاربات‬ ‫مرهقة‪ ،‬ويحتاج تخ ّمرها‪ ،‬بال ّ‬ ‫شك‪ ،‬إىل مزيد من التدقيق‬ ‫واملراجعة والوقت قبل الحكم عليها بشكل قاطع‬ ‫ونهايئ‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪73‬‬


‫حوار‬

‫أليساندرو موشي‬ ‫الشاعر والروائي اإليطالي‬ ‫ّ‬

‫أنا اسم لجميع الشعراء الذين قرأتهم‬ ‫أليساندرو موشي شاعر‪ ،‬روائي‪ ،‬قصاص‪ ،‬ناقد أدبي وصحافي ايطالي‪ ،‬يعيش في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فابريانو‪ .‬موشي استطاع أن يُ ضلل الموت بجدية طفل يتابع مباراة في كرة القدم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أليساندرو موشي يتناغم‬ ‫والكتابة‪.‬شعْ ر‬ ‫هزم الموت بحبه ألمثولته‪ ،‬بشغفه باإلبداع‬ ‫ّ‬

‫وشكالً من اإليجاز ُ‬ ‫افتقِ د في الشعر اإليطالي في السنوات األخيرة‪ ،‬شعر ينتبه للحيوات الصغيرة الطبيعية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للتسكع المديني‪ ،‬للحياة الليلية‪ ،‬لالمرئي‪ ...‬لألشياء المهملة‪ ،‬التالل‪ ،‬الكراسي الحجرية‪ ،‬األشجار‪ ،‬الحدائق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫النكهات‪...‬قصيدته َق ِ‬ ‫رسام َط ِبيعَ ةٍ مَ ْيتَة‬ ‫صي َد ُة أمْ ِكنَةٍ ‪ ،‬تحتكم لشروط وجودية بحتة‪ ،‬مؤثثة بحذق‪ ،‬كأنه ّ‬

‫حوار‪ :‬أحمد لوغليمي‬

‫خرباتنا‪ ،‬حيث تولد أسطورة األرض‪ ،‬بالنسبة للكاتب‪.‬‬ ‫أريد أن أبدأ معكم هذا الحوار بالحديث عن الشعر‪،‬‬ ‫أليساندرو مويش حاصل عىل اإلجازة يف القضاء‪،‬‬ ‫اإلنسان‬ ‫من‬ ‫أليساندرو مويش‬ ‫ّ‬ ‫ولكن قبل ذلك لنقرتب من عوامل ّ‬ ‫ومحامي‪ ،‬لكنه ال ميارس مهنة قضائية‪ .‬أنا صحايف ومؤلف‬ ‫أليساندرو مويش اإلنسان‪،‬‬ ‫خالل عيون مويش‪ .‬من هو ّ‬ ‫كتب‪ .‬يعني أنني أقوم بيشء مختلف متاما عن تكويني‪.‬‬ ‫الكاتب والشاعر؟‬ ‫ُ‬ ‫لنعد للشعر‪ .‬متى بدأت عالقتك بالقصيدة؟‬ ‫■ لو مل أكن قد أ ِصبْ ُت مبرض « َغ َرن إيوين»‪ ،‬يف سن‬ ‫■ منذ الطفولة ـ طبعا بشكل بدايئ‪ ،‬ومبهم ـ ‪ ،‬لكنني‬ ‫الثالثة عرشة‪ ،‬عىل األرجح مل أكن ألكتب شيئا‪ .‬الكتابة‬ ‫ترميم‪ ،‬محاولة إلصالح يشء تم اختالسه مني بسبب تلك رشعت يف الكتابة الفعلية يف سن العرشين‪ .‬حينها‬ ‫كنت أعبرّ عام مل‬ ‫الحالة‪ ،‬بسب ال َق َدر‪ .‬اليوم أنا يف ال ‪ 43‬من العمر وبصحة‬ ‫فهمت أن الشعر هو لغتي‪ ،‬التي بها ُ‬ ‫ُ‬ ‫جيدة‪ ،‬لكنني أحس توترا وجوديا إزاء كل ما ميثله ال ُملْ ِغز‪ :‬يكن ميرسا يل التعبري عنه بشكل آخر‪ .‬الصامت‪ ،‬املهمل‪،‬‬ ‫الوالدة‪ ،‬األمل‪ ،‬الزمن‪ ،‬املوت‪ ...‬حيايت هي‪ ،‬شكل من املراقبة الالمريئ‪ ،‬العاطفة‪ ،‬قسوة الزمن‪ ،‬هذا هو ما يعنيني‪.‬‬ ‫الشباب الذي يتالىش‪ ،‬التساؤل‬ ‫والرصد الشعري‪ ،‬لهذا‪ ،‬فطريا‪ ،‬ما‬ ‫املغت ّم عن املعنى النهايئ للحياة‬ ‫أعرفه أكرث وما يعرفني أكرث‪ ،‬هي‬ ‫الشعر هو لغتي التي والقلق املتزايد يحمالين عىل زراعة‬ ‫مدينتي‪ ،‬فابريانو (التي ميكنها أن‬ ‫قصائد رغام عني‪ .‬لكن اإلحساس‬ ‫تكون أية مدينة من مدن إيطاليا)؛‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫عما‬ ‫بها‬ ‫اعبر‬ ‫بالزمن‪ ،‬كام ع ّرفته‪ ،‬كان دامئا‬ ‫العامل املديني للامركات‪ ،‬الوطن‬ ‫عنه‬ ‫التعبير‬ ‫لي‬ ‫ميسرا‬ ‫متاخام‪ ،‬كام اليزال حاله اآلن‪ ،‬يف‬ ‫املصطفى لليوباردي‪ ،‬برحابتها‬ ‫فضاء جغرايف محصور‪ .‬أعشق‬ ‫الالنهائية يف االزدواج البحري‬ ‫بشكل آخر‬ ‫الشعر الغنايئ‪ ،‬ليس التجريبي‪.‬‬ ‫و»األبينيني»‪.‬‬ ‫الشكل يتعالق بنظرتنا لألشياء‪،‬‬ ‫املكان هو الحقيقة حيث تتلقّح‬ ‫‪74‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫نحسه‬ ‫بطريقة يف الوعي واإلدراك‪ .‬بني ازدواجية التقليدية‬ ‫■ ما قلته‪ :‬التوت ّر الوجودي‪ ،‬الذي ميكن أن ّ‬ ‫يف أي مكان‪ .‬قد نفكر يف تشيزاري بافيزي والالنغي‪،‬‬ ‫والطليعية أنا قطعا إىل جانب تقليدية كوازميودو‪ ،‬صابا‪،‬‬ ‫كابروين‪ ،‬بريتولوتيش‪،‬غاطّو‪ ،‬يك نبقى يف الشطر األخري من ماركيز واملاكوندو‪« .‬إن أردت أن تكون كونيا تحدث‬ ‫عن بلدتك» كان يقول تولستوي‪ .‬القصيدة تستطيع‬ ‫القرن العرشين اإليطايل‪.‬‬ ‫أن تكون محلية وكونية حينام تالمس عنارص األسالف‪،‬‬ ‫ما هو الشعر؟‬ ‫■ هو لغة‪ ،‬قبل كل يشء‪ ،‬لكنه اكتشاف أيضا ملن يكتبه‪ ،‬اإلناسة ووجودية الكائن البرشي‪ .‬هذه العنارص تتوافر‬ ‫أيضا يف املحيك الشفهي‪ ،‬يف شكل من الشعر البدايئ إن‬ ‫لغة عجائبية للتحدث مع أنفسنا ومع عاملنا الخاص‬ ‫الذي أملحت إليه سلفا‪ .‬رش ٌط للنزوح عن الرتابة اليومية‪ ،‬صح القول‪ ،‬توجد يف فابريانو‪ ،‬حيث أعيش‪ ،‬ويف بعض‬ ‫بقاع العامل‪ .‬يتعلق األمر ببيئة ـ أمرية تصنع خلفية كام يف‬ ‫خارج التأريخ واإلخبار‪ .‬شكل ن ُْسكيِ ّ للحقيقة وللتوفيق‬ ‫منصة مرسح‪ .‬مكاين مينحني حنكة إدرايك الحيس ويع ّززه‪.‬‬ ‫بني ُه َنيْهات َغ َدت كريستاالً‪ُ ،‬ه َنيْهات نرديها غري قابلة‬ ‫أليساندرو مويش تحتفي بالهوامش وبالتفاصيل‬ ‫للمحو‪ .‬بافيزي كان يقول بأننا « ال نتذكر األيام‪ ،‬بل نتذكر قصيدة ّ‬ ‫الهنيهات»‪ .‬اإلنسان بحاجة ألن يحيك ذاته‪ ،‬ألن يمُ َ ّيز بني ما الصغرية التي تصنع يف النهاية نواة العامل‪ :‬اآلكام‪ ،‬الكرايس‬ ‫يخاله جديرا بالخلود و ما يَ ْعبرُ برسعة‪ ،‬ما هو جوهر وما الحجرية‪ ،‬النوافذ‪ ،‬البحر‪ ،‬الطرقات‪ ،‬األزقة‪ ،‬النكهات‪...‬‬ ‫هو محض باطل‪ .‬حينام يستشعر الحقيقة عىل إهابه‪ ،‬لن كيف تُ َع ِّرفون قصيدتكم؟ وما أهمية املكان يف األفق‬ ‫يستطيع الشاعر أن ينجو من الكتابة‪ .‬إنها سلطة تنتفض‪ ،‬الشعري ملويش؟‬ ‫ِ‬ ‫حتى ال تضمحل تلك الصورة ـ املثبّتة التي يتغيّى إبقائها ■ سأع ِّرف قصيديت بأنها قصيدة حيك ـ غنائية‪ .‬قَصي َد ُة‬ ‫أَ ْم ِك َن ِة تَأَ ُّمل‪ ،‬هي قصيدة توفِّر يل باستمرار نكهات‬ ‫لألبد‪ .‬كام يحدث يف سينام الكبار‪ ،‬كام أتصور‪.‬‬ ‫وعطور‪ ،‬لكن أيضا هيوىل األحياء‪ ،‬التعرجات‪ ،‬الحدائق‪،‬‬ ‫ما الذي يجعل من قصيدة محلية قصيدة كونية؟‬ ‫الدروب‪ ،‬األزقة حيث ينشط الخيال وحيث تعرث عىل‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪75‬‬


‫حوار‬

‫ذاكرة جمعية‪ .‬ليس مثة فقط القصيدة ذات املرجعية‬ ‫الذاتية‪ ،‬بل أيضا تلك التي تتواشج بشكل مبارش مع‬ ‫األشياء والناس‪ .‬مثلام هو األمر مثال مع إنسانية دار‬ ‫خص ْص ُت لها فصال من ديواين املقبل والذي‬ ‫العجزة التي َّ‬ ‫نشرَ َته مجلة «شعر» اإليطالية لشهري متوز‪/‬أغسطس‪.‬‬ ‫بعنوان «مقطوعة راقصة ألجل بيريينو»‪ .‬بيريينو كان‬ ‫مجنونا يتمتع بقدرة رؤيوية خارجة عن املألوف وكان‬ ‫يتح ّدث مع أرواح األموات عرب برئ دار العجزة‪ ،‬كام كان‬ ‫يفعل روبريتو بينيني يف فيلم فيلّيني «صوت القمر»‪ .‬ذاك‬ ‫املكان‪ ،‬تلك البرئ‪ ،‬ميتلكان شيئا ما شعريا‪ ،‬قدسيا ومهيبا يف‬ ‫نفس اآلن‪.‬‬ ‫أميكننا أن نع ّول عىل الشعر يك نغري العامل واإلنسان؟‬ ‫■ ال‪ ،‬الشعر لن يغري العامل‪ ،‬لكنه يستطيع أن يغري‬ ‫اإلنسان‪ .‬لو مل أكتب من يدري ما الذي كنت سأفعله‪.‬‬ ‫رمبا مل أكن حتى ألنجو من املرض الذي أصابني منذ‬ ‫الطفولة‪ ،‬من يدري‪ .‬وال أعتقد يف وظيفة أهلية للشعر‪،‬‬ ‫كام يدعم ذلك الكثريون‪ .‬الشعر قادر عىل املعرفة‬ ‫واإلدراك دون ادعاء إشارات للخالص‪ .‬إنه شهادة‪،‬‬ ‫وساطة‪ .‬الشعر ال يكذب‪ ،‬كام عىل عكسه تفعل الكثري من‬ ‫وسائط االتصال يف مجتمع إيطايل حيث القول اإلذاعي‬ ‫كيف تق ّيمون الشعر العاملي املعارص واإليطايل؟‬ ‫اصطناعي‪ ،‬مهيمن وصادح‪.‬‬ ‫■ يف مستوى عال جدا‪ ،‬خاصة يف العرشين سنة األخرية‪.‬‬ ‫ما هو الدور الذي يضطلع به الشعر يف زمننا؟‬ ‫القيمة النوعية ازدادت‪ ،‬ويبدو األمر متناقضا مع الكتب‬ ‫■ ليس مثة دور للشعر‪ ،‬لألسف‪ .‬اليوم أكرث من أي وقت التي ال تباع‪ .‬مثة خمرية وفتنة شائقة لَ َدى األجيال‬ ‫مىض‪ .‬يف إيطاليا الناس يقرؤون قليال جدا‪ ،‬والكتاب‬ ‫الجديدة‪ ،‬أعيد التأكيد عىل رضورة الشعر‪ ،‬وعىل جدارته‬ ‫الشعري ال يعترب مادة للتسويق حتى من قبل نارشيه‬ ‫بالعرفان‪ .‬كام أن تنوع الخطاب الشعري غني وفريد‪ .‬ال‬ ‫أنفسهم‪ ،‬عىل عكس ما هو عليه األمر يف رشق أوروبا‪.‬‬ ‫ميكن االستغناء عنه‪.‬‬ ‫الكل يكتب لكن ال أحد يقرأ‪ .‬وخرب لبضعة أيام‬ ‫عندنا ّ‬ ‫ما الذي ميثله لكم األدب والشعر العريب؟‬ ‫يجعل من صحيفة يومية إيطالية مهمة كصحيفة «إمتام‬ ‫■ بليغة جدا هي العالقة مع التاريخ ومع املوت يف‬ ‫التحفة» ترفض نهائيا القراءات يف األعامل الشعرية‪ .‬يف‬ ‫الثقافة العربية‪ .‬سجيتان متواشجتان بحميمية‪ .‬ثم‬ ‫التلفزة ال يُستدعى أبدا شاعر لقراءة قصائده أو للحديث هنالك أيضا حياة وتجربة أدباء املهجر وامل َه َّجرين من‬ ‫عنها‪ .‬األساتذة ال يعرفون الشعراء املعارصين ويف املدرسة أوطانهم‪ ،‬الذين يبدون وكأنهم بال وطن بينام يصونون‬ ‫يدرسون القليل جدا من األدب املعارص‪ .‬الوضع مثبط؛‬ ‫بداخلهم إحساسا قويا بالهوية‪ ،‬ال ميكن املساس به‪ .‬أيضا‬ ‫تسلّط أخبار الحوادث التي تحرتق يف يومها‪ .‬بينام الشعر الحياة والثورة‪ ،‬الحياة واملامنعة ملمحان خاصان تتميز‬ ‫حتمي وال مفر منه لألسباب التي ذكرتها‪ ،‬ولهذا لن ميوت‪ .‬بهام الثقافة العربية كام ال يحدث يف أي بقعة أخرى من‬ ‫العامل‪ .‬ومع ذلك ينفتح دامئا أفق آخر أمام الكتاب العرب‪.‬‬

‫‪76‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫أليساندرو موشي‬ ‫ّ‬

‫سأقول بأنه عندكم يزهر دامئا اعشق الشعر الغنائي يا موت الفنون جميعها» وأنتم‪ ،‬مثل‬ ‫درويش‪ ،‬مدين للمرض بروايتك الجميلة‬ ‫الخيال من التامس بالتيامت‬ ‫وأقف‬ ‫التجريبي‬ ‫ليس‬ ‫«عبقرية املرض ‪Il talento della‬‬ ‫الوجودية‪ ،‬بشكل مختلف‬ ‫الى جانب تقليدية‬ ‫‪ ،»malattia‬كتاب بني قليل من الخيال‬ ‫عام يحدث عندنا‪ ،‬من حاالت‬ ‫الربع االخير من القرن وكثري من السرية الذاتية حيث تحيك قصة‬ ‫محتملة‪ ،‬من أوضاع متوثبة‪،‬‬ ‫حقيقية التي هي قصتك‪ .‬مكابدة مرض‬ ‫من اشتباك عضال‪ .‬االغرتاب‬ ‫العشرين‬ ‫عضال‪ ،‬األمل‪ ،‬املستشفيات‪ ،‬املوت املحدق‬ ‫أيضا محسوس يف األمكنة ويف‬ ‫سيدفعون الطفل البالغ من العمر ثالث‬ ‫ساحات املعركة‪.‬‬ ‫أليساندرو مويش‬ ‫هو‬ ‫والذي‬ ‫سنة‬ ‫عرشة‬ ‫ّ‬ ‫إىل تح ّدي املرض واملوت بحبه لبطل عظيم يف كرة القدم‪،‬‬ ‫من هم الشعراء الذين خلقوا مويش أو وسموه بشكل‬ ‫جورجيو كيناليا‪ ،‬مهاجم الالتسيو يف السبعينيات‪ .‬يف‬ ‫خاص؟‬ ‫ِ‬ ‫■ سأرسد دانتي وليوباردي اللذان يتس ّنامن ق ّمة ُسلَّمي‪ ،‬اعتقادي كل أعاملك بني الشعر والنرث هي مثرة لصدمة‬ ‫وال ميكن أن يكون األمر بخالف هذا الرتتيب‪ .‬كوازميودو‪ ،‬املرض وللمعركة ضد املوت‪ .‬هل حقا صحيح إذا أن الوجع‬ ‫يصنع الكتاب الكبار؟‬ ‫أونغاريتّي‪ ،‬صابا‪ ،‬مونتايل‪ ،‬كابريوين‪ ،‬غاتو‪ ،‬بريتولوتيش‪،‬‬ ‫■ الوجع الجسدي والنفيس من األسباب التي تح ّرض عىل‬ ‫رابوين‪ .‬هناك أيضا الشعراء األحياء الذين أربط معهم‬ ‫عالقات إبداعية وصداقة لحد اآلن‪ ،‬كام مقايضات ثقافية‪ .‬الكتابة‪ ،‬ولكن سيكون األمر ُمبْتَسرَ ًا اعتبار الوجع عامال‬ ‫بيفيالكوا‪ ،‬مثال‪ ،‬الشعراء الرومانيوليني وإمييلياين بالديني‪ ،‬وحيدا‪ .‬نكتب لدواع عديدة‪ ،‬دون أن ننىس أن االصطدام‬ ‫الحاسم مع الكلمة قاس وانتقايئ‪ .‬مثة أيضا من يعترب أن‬ ‫غوي ّرا‪ ،‬رونديني‪ .‬ثم لوي‪ ،‬باتيس‪ ،‬بيريسانتي‪ .‬أقرأ طبعا‬ ‫األجانب‪ .‬أعشق والكوت‪ ،‬هيني‪ ،‬باتريكيوس‪ ،‬شيمبورسكا‪ .‬الكتابة عادة سيئة‪ ،‬كالخمرة والسجائر‪ .‬نكتب لخوفنا‬ ‫وسمني كل هؤالء الذين قرأتهم وأعدت قراءتهم العديد من املوت‪ ،‬أو لحنيننا للطفولة‪ ،‬نكتب بسبب الحرسة‬ ‫مستهل‬ ‫ّ‬ ‫والندم‪...‬إلخ‪ .‬بال شك‪ ،‬يف حالتي‪ ،‬كام أكدت يف‬ ‫من امل ّرات‪ ،‬ألن قراءة واحدة غري كافية عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫الحوار‪ ،‬لو مل أصب باملرض ملا أصبحت كاتبا‪ .‬لهذا أعز‬ ‫بعد تجربته مع املوت كتب الشاعر الفلسطيني محمود‬ ‫َ‬ ‫وأقرب أصدقايئ ال ميكن إال أن يكون طبيبا‪ .‬نكتب لنكون‬ ‫«هزمتك‬ ‫درويش‪ ،‬جداريته حيث يخاطب املوت قائال‪:‬‬ ‫محبوبني‪ ،‬أو مفهومني‪ ،‬أو نكتب بدل أن نحيا‪ .‬إجامال‪ ،‬إنها‬ ‫ورطة وستبقى كذلك‪ ،‬استهالل يستحيل مهامزا‪ .‬الطفل‬ ‫الذي يفهم أنه قد ميوت يخترب كمدى ال نظري له‪ ،‬كام‬ ‫كان يرى الرعب يف أعني رفاق مرضه الذين ليك يفلتوا‬ ‫من املوت يبرتون أيديهم وأرجلهم‪ .‬هذا املشهد الفظيع‬ ‫سيبقى بالنسبة يل هاجسا مستحوذا‪ ،‬أي رضة نفسية‪.‬‬ ‫سأتجاوزها فقط مستغيثا بأمثولتي‪ ،‬رمز القوة الجسدية‪:‬‬ ‫جورجيو كيناليا‪.‬‬ ‫باإلضافة إىل «عبقرية املرض» كتبتم رواية «املرت ّحل‬ ‫املقيم»‪ .‬حكاية عن الحكاية‪ ،‬رسد متعدد ومركّب‪ ،‬رسد‬ ‫عن الرسد‪ .‬من أين يتأتىّ كل هذا الغنى والتعدد‪ ،‬ومن‬ ‫ينترص يف الرسد‪ :‬الشاعر أم الروايئ؟‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪77‬‬


‫حوار‬

‫■ أعتقد أن الكتابة اإلنتقائية‪ ،‬مزورة‪ .‬ميكن أن نكون‬ ‫شعراء وروائيني يف نفس الكتاب‪ .‬بإمكاننا أن نكتب‬ ‫ميتارواية أو حيك داخل الحيك‪ .‬ال ينترص ال الشاعر وال‬ ‫الروايئ‪ .‬مثة أشياء ميكن إيصالها عرب تدبري مثايل‪ ،‬وهكذا‬ ‫ينبثق الروايئ‪ ،‬أشياء أخرى بعنف‪ ،‬بنزق ونزوة قلب‬ ‫أكرب‪ ،‬فنصري شعراء‪ .‬غري أن مثة مضض يف االعرتاف بكاتب‬ ‫مزدوج‪ ،‬عىل األقل يف إيطاليا‪ .‬كام لو أن الشعر والرواية‬ ‫جنسان متنافران وقطعا متاميزان‪ .‬بينام عىل العكس من‬ ‫ذلك هام متداخالن ومتعايشان‪.‬‬ ‫أنت أيضا ناقد أديب‪ .‬ما الذي يضيفه النقد للشاعر‬ ‫والروايئ؟‬ ‫■ النقد يتنكّب الدراسة الفيلولوجية حول اللغة‪ ،‬مع‬ ‫أين حاليا قد تخليت نهائيا عن الكتابة النقدية‪ .‬ولكنها‬ ‫كتابة تأيت يف املرتبة الثانية‪ ،‬تحتاج إىل إبداعية اآلخرين‪.‬‬ ‫بينام عىل العكس الشاعر والروايئ‪ ..‬مكتفون بذواتهم‬ ‫اإلبداعية ومنذورون لتقديم أنفسهم‪ ،‬دون اللجوء إىل‬ ‫كتاب آخرين‪ .‬لكن هذا ال يعني أن الكاتب املبدع أعىل‬ ‫من الناقد‪.‬‬ ‫أسستم جائزة كبرية‪ :‬الجائزة الوطنية للنرث والشعر ملدينة‬ ‫فابريانو‪ .‬ملاذا؟‬ ‫■ ألنها تسهم يف تنامي القراءة حتى يف وسط غري‬ ‫املشتغلني بها‪ .‬يف الحقيقة هناك لجنة تحكيم تقنية‬ ‫تختار القامئة النهائية‪ ،‬ولكن فقط لجنة شعبية مكونة‬ ‫من أشخاص من كل األعامر والرشائح هي من تحدد‬ ‫وتعلن الفائز النهايئ‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬نخصص كل سنة‬ ‫جائزة ملنجز كاتب إيطايل مرت َجم للغات عدة والذي‬ ‫يسهم يف دعم إيطاليا األدبية يف الخارج‪.‬‬ ‫ما هي الكتب التي أثرت أكرث يف مويش؟‬ ‫■ «الحرب والسلم» لتولستوي‪« ،‬صورة دوريان غري»‬ ‫لويلد‪« ،‬املسخ» لكافكا‪« ،‬املدن الالمرئية» لكالفينو‪،‬‬ ‫«الخليفة» لبيفيالكوا‪« ،‬األعامل الشعرية» لديكينسون‪،‬‬ ‫«الالنهاية وقصائد أخرى» لليوباردي‪« ،‬ديوان» صابا‪،‬‬ ‫«عظام الحبّار» ملونتايل‪« ،‬محطة إسالندا» لهيمي‪ .‬وكثريون‬ ‫آخرون‪..‬‬

‫‪78‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫الطفل والموت والكرة‬ ‫أليساندرو مويش مبرض َغ َرن‬ ‫يف سن الثالثة عرشة أصيب ّ‬ ‫إِوِي ْن ‪[ sarcoma di Ewing‬أحد أخطر الرسطانات التي‬ ‫تصيب العظام]‪ ،‬مرض أودى يف الثامنينات بحياة الكثريين‪،‬‬ ‫واضطر معه الطفل إىل التزام املصحات املختصة‪ .‬يف تلك‬ ‫السن سيخربونه يف مستشفى أنكونا ثم يف بولونيا بأنه‬ ‫سيعيش فقط لثالثة أشهر ـ (مل يتفاجأ ألنه كان قد تسلل‬ ‫بفضول صبي وقرأ البطاقة الطبية املعلقة عىل رسيره)‬ ‫ـ‪ ...‬ما الذي ميلكه صبي يقولون له ستموت بعد ثالثة‬ ‫أشهر‪ ،‬سيكون األمر حتام صادما‪ ،‬بدل أن يلعب مع أقرانه‬ ‫َس ُيضْ طَ ّر ألن يلعب مع املوت‪ .‬الطفل واملوت وجها لوجه‪،‬‬ ‫كيف سيترصف الطفل أمام مأساة كهذه ؟‬

‫بإرادته يف الحياة سيبتكر أمنوذجا يتشبث به ويعتربه‬ ‫رصخة املعركة‪ .‬حبه لجورجيو كيناليا ‪Giorgio Chinaglia‬‬ ‫أسطورة كرة القدم‪ ،‬كرمز للصحة والقوة البدنية‪ ،‬سريافقه‬ ‫وسيتابع بشغف بطوالته قراء ًة ومشاهدةً‪ .‬سيكتب الطفل‬ ‫رسالة مؤثرة إىل جورجيو كيناليا ‪ ،‬وهو يتأمل صديقه‬


‫أليساندرو موشي‬ ‫ّ‬

‫جئت‬ ‫من أين‬ ‫ُ‬

‫سريجيو الذي انتقل الرسطان من عظامه إىل رئتيه وهو‬ ‫ميوت يف الرسير اآلخر بجواره‪ ،‬صديقه الذي كان يسميه‬ ‫«رفيق اإلغامء» لشدة ما كانا يتقاسامن حاالت اإلغامء‬ ‫بالتناوب‪ ،‬أخذ مويش ورقة وقلام ورشع يكتب رسالة‬ ‫لكيناليا‪ ،‬نعرث عليها يف كتابه «عبقرية املرض» يقول فيها‪:‬‬ ‫« جورجيو أرجوك‪ ..‬أرجوك ال تذهب أنت أيضا‪ ..‬عىل األقل‬ ‫أنت ال تذهب‪ ،...‬س ّجل ألجيل هدفا‪ ...‬أمتعني بواحدة من‬ ‫اري‪ ...‬إنني‬ ‫ِس َها ِمك‪ ،‬رشقة من رجلك اليمنى أو بفمك ال ّن ّ‬ ‫أحاول أ ْن أُنْ ِق َذنيِ ‪ ...‬سنلتقي عاجال أم آجال‪ ..‬إن نظرتُ حويل‬ ‫أرى جثة‪ ..‬إن بقيت محدقا يف الجريدة أرى بطال يُ َحيِّي‬ ‫الناس أمام نُزله‪ ...‬األشياء املبتذلة تتالىش‪ ...‬األشياء املأساوية‬ ‫نحملها بداخلنا‪...‬لهذا لن أنساك جورجيو‪...‬ألنك يف خريف‬ ‫‪ ... 1983‬أعني هذا العام أنت معي دون أن تعرف ذلك‪...‬‬ ‫أستخف باملوت‪.»...‬‬ ‫صديقي املحرتم الذي يعلمني كيف‬ ‫ّ‬ ‫يف الساعات املديدة من الوحدة و األمل‪ ،‬وكل ليلة قبل‬ ‫أن يخلد للنوم كان يتخيل كيناليا ويتحدث معه‪ .‬حينام‬ ‫ستتناهى القصة لسمع جورجيو كيناليا سيعوده‪ ،‬سيعانقة‬ ‫ويداعب وجنته بلطف‪.‬‬ ‫رمبا بسبب حبه لكرة القدم‪ ،‬رمبا بسبب رغبته املتأججة‬ ‫يف محاكاة انتصارات أمثولته مهاجم الالتسيو‪ ،‬رمبا بسبب‬ ‫إرادته وقوته وتشبثه بالحياة والحلم‪ ،‬بسبب إبداعيته‪...‬‬ ‫املهم أن مويش سيشفى كام يحدث يف األساطري والخرافات‪،‬‬ ‫ضمن تسعني حالة مثله مل ينج منها سوى اثنان‪ ،‬كان‬ ‫مويش أحدهام مع أن وضعه كان ميئوسا منه‪ .‬حالته‬ ‫سيتم الحديث عنها يف املجالت العلمية العاملية‪ ،‬حتى أن‬ ‫املستشفيات املختصة يف الرسطان ستهتم بحالته بشكل‬ ‫الفت‪.‬‬ ‫ال أحد استطاع أن يفرس شفاءه من مرض مميت‪ ..‬بقيت‬ ‫الحكاية بالنسبة ألطبائه ضمن مجاهل األرسار‪ ،...‬وحده‬ ‫الطفل مل يَغ َْش عينيه كَ َدر العقل‪ ،‬فقد كان رائيا بقلبه‪...‬‬ ‫وحده رآى مصريه و َر َس َمه‪.‬‬

‫جئت من بحر أنكونا املنبسط‬ ‫ومن أرض مل أعرفها كام يجب‪،‬‬ ‫من حكاية مكتوبة باسمي‬ ‫تحت فجر ّ‬ ‫مخضب بشمس أغسطس‪،‬‬ ‫بني الصخور البحرية وريح امليناء‪،‬‬ ‫من منحدر سكة الحديد‬ ‫ومتاهة األزقة‬ ‫التي تفوح بالرطوبة والقرميد‪.‬‬ ‫جئت من شكل القمر‬ ‫من سامء واطئة تلطم السفن‬ ‫حينام تندى املدينة‬ ‫من األشغال والقطران يف األوراش‪،‬‬ ‫من النجوم الكامدة ألول صيف‬ ‫من أب يشيخ أمام شاشة التلفاز‪،‬‬ ‫من أم محبوسة يف فقاعة ابتسامات‪،‬‬ ‫يف بيت مرشعة غرفه عىل العراء‬ ‫يقطن تلة الشحارير ال َّال َز َو ْر ِد َّية‪.‬‬ ‫الحديقة تنبسط أمام العيون الواقفة‪،‬‬ ‫يف نافذة تض ّمد كل الفصل‬ ‫من بريق املنارات وفوانيس الغاز‪.‬‬ ‫جئت من إحساس ّ‬ ‫يرن‬ ‫ّ‬ ‫كل صباح مع زقزقات الفجر‬ ‫و ُي َح ِّيي هواء األحياء واألموات الشاحب‬ ‫الذين يحيكون لبعضهم مقالب أمام الصيدلية‪،‬‬ ‫الذين يرتاهنون عىل املباريات‬ ‫بينام يعلنون نرشة األخبار يف التلفزيون‪.‬‬ ‫أعرفني من هنا‪،‬‬ ‫بني من يتحدث ومن يوافق‪،‬‬ ‫بني من ينتظر الباص ومن يتذ ّمر‪.‬‬ ‫جئت من دقائق النسيم‬ ‫ّ‬ ‫تنفتح عىل الكتب واملجالت مع السلوفان‪،‬‬ ‫يف صدريات الصوف النهارية‬ ‫التي تسرت األجساد‬ ‫وترتك الوجوه يف العتمة‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪79‬‬


‫في الشعر‬

‫الحياة القصيدة‬ ‫هنري ميشونيك‬

‫توجد‬

‫حيايت يف قصائدي‪ .‬قصائدي هي لغة حيايت‪ .‬فبواسطتها تنقلت من مجهول إىل مجهول‪ .‬لقد خلقتني أكرث مام‬ ‫خلقتها‪ .‬وتم التعرف عليها من طرف الذين يقفون إىل جانب اللغة‪ .‬إىل جانب الحياة مثيل‪.‬‬ ‫القصيدة‪ ،‬بالنسبة يل ال تحيك حكايات‪ .‬قصائدي هي تكثيف ملعنى حيايت‪ .‬لذلك فهي تشغل حيزا أقل من باقي عميل لكنها‬ ‫هي من جعلني أترجم التوارة‪ ،‬مبا أنني مرتجم‪ .‬هي من جعلني أفكر يف اللغة‪ ،‬يف القصيدة‪ ،‬يف الرتجمة كتلك التي أنجزت‪.‬‬ ‫القصيدة‪ ،‬بالنسبة يل‪ ،‬هي ما يحول الحياة باللغة واللغة بالحياة‪ .‬إنها مكاين‪ ،‬وأنا أقتسمه‪.‬‬ ‫الحظتم‪ ،‬لقد تم استدعاء الشاعر‪ .‬وليس املنظر‪ ،‬أو املرتجم‪ .‬وها هم قد جاؤا ثالثتهم‪ .‬وإضافة إىل ذلك‪ ،‬رفقة العائلة‪ :‬زوجة‪،‬‬ ‫رفيقة العمل‪ .‬قال هوغو ‪ Hugo‬أن كل رجل تقف إىل جانبه امرأة تقوم بنصف عمله‪ ،‬صديق‪ ،‬شاعر‪ ،‬سريج مارتان‪ ،‬ونارش هو‬ ‫‹›برينار دميارشيز ‪ .»Bernard Dumerchez‬نعم‪ ،‬كلهم‪ ،‬ألنني لست أنانيا‪ ،‬وال أهوى انفصام الشخصية‪ .‬فكلام كنت مفرداً‬ ‫كلام كنت جمعا‪.‬‬ ‫أسجل برسعة‪ :‬يكون الشاعر شاعراً عندما يجعل ما يقوم به‪ .‬املنظر هو منظر عندما يفكر يف ما يجهله‪ .‬واملرتجم هو مرتجم‬ ‫عندما يساعد عىل إدراك ما تقوم به القصيدة وليس فقط ما تقوله‪ .‬إدراك كل ما تعمل الرتجمة العادية عىل محوه‪ .‬يحاول‬ ‫الثالثة إيجاد األسئلة التي تخفيها أجوبة املجال الثقايف‪.‬‬ ‫إنها عملية غسيل للعالمة‪-‬العالمة‪ ،‬هذه األسطورة األكرب يف حضارتنا‪ ،‬وعملية غسيل كربى للذات التي تم الخلط بينها وبني‬ ‫«أنا»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إنها ابتهاج‪ ،‬واختبار‪ .‬فنحن ال نكتب إلثارة اإلعجاب أو الغيظ‪ ،‬بل من أجل الحياة‪ ،‬من أجل أن يكون الحارض حارضا وليس‬ ‫ماضيا مموهاً يف الحارض‪ .‬إنها واحدة من أشكال العالقة باللغة والحياة‪ .‬وهذه العالقة تبدأ فقط عندما نبدع شكال من أشكال‬ ‫الحياة‪ ،‬ونعيد إبداع‪ ،‬تغيري اللغة‪ ،‬و إبداع اللغة هذا يغري شكل الحياة‪.‬‬ ‫يف هذه اللحظة تبدأ حرب الحياة – اللغة ضد نظام بعض أشكال الفكر الثقافية‪ :‬فكر الذات‪ ،‬أخالقي وسيايس‪ .‬إذن‪ ،‬إنها فقط‬ ‫فعل شعري‪ .‬إال أنها فعل أخالقي أوال‪.‬‬ ‫إننا نكتب إلعادة إبداع‪ ،‬يف كل لحظة‪« ،‬حياة إنسانية»‪ ،‬باملعنى الذي ذهب إليه سبينوزا يف «مقالة سياسية»‪ .‬أي حياة محددة‬ ‫ليس فقط بالدورة الدموية‪ ،‬التي نقتسمها مع الحيوانات‪ ،‬بل بالقوة الحقيقية وبحياة العقل‪ .‬إنها كلامته كام استعملها هو‪.‬‬ ‫ال نحتاج إىل الكثري من الكلامت لنقول عالقتنا بالعامل‪ ،‬وبذواتنا‪ .‬واملثال األكرث بساطة‪ ،‬وهو األول الذي يحرض يف ذهني‪ ،‬سيكون‪،‬‬ ‫من بني أمثلة أخرى‪ ،‬قصيدة ل «جيوسيب أونغاريتي» ‪:Giuseppe Ungaretti‬‬ ‫‏‪M’illumino‬‬ ‫‏‪D’immenso‬‬

‫‪80‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫(أتألق بالكرثة)‬ ‫َّ‬ ‫عىل القصيدة أن تنقل العامل‪ ،‬فهي تنقل عالقتنا بالعامل‪ ،‬وإال لن تكون شعراً بل شعرنة‪ .‬بتعبري آخر‪ ،‬القصيدة هي الوحدة العليا‬ ‫بني اللغة والحياة‪ .‬كتابة قصيدة هي خلق الحياة‪.‬‬ ‫قراءة قصيدة هي اإلحساس بالحياة التي تخرتقنا وبالتغيري الذي تحدثه‪ .‬أن تفكر وتكتب هو أن تعمل عىل أن تصبح حراًّ‪ ،‬أي‬ ‫حياًّ‪ .‬وكل يشء غري ذلك ليس إ َّال تقليداً‪ .‬ونحن محاطون ومخرتقون ثقافيا‪ ،‬بالتقليد‪ .‬بتقليد الفكر‪ ،‬بتقليد‪ -‬القصيدة‪ ،‬بتقليد‬ ‫الفن‪ ،‬بتقليد األخالق‪ ،‬بتقليد السياسة‪ ،‬بتقليد اإلله يف الالهوت السيايس‪.‬‬ ‫والتفكري يف العالقة بني الحياة واللغة‪ ،‬هو بالرضورة تفكري يف القراءة‪ ،‬يف ماهية القراءة‪ .‬وما يحدث‪ ،‬وما ينبغي أن يحدث عند‬ ‫معرفة االختالفات والقيم واملعايري املوجودة بني الكلامت التي تحرر والكلامت التي تسجن‪ ،‬لن يحدث إ َّال يف األفكار املتلقاة‪.‬‬ ‫هنا‪ ،‬ينبغي وضع السخرية يف املقام األول‪ ،‬يف مقابل كل الجد بني املزيف و العالمة الفارقة هي‪ :‬الجديون املزيفون ال يرون أن‬ ‫كل معرفة تنتج الجهل‪ .‬وأن املعرفة ال ترى أنها أنتجته‪ ،‬والنتيجة أنها تحول دون معرفته‪ .‬املعرفة هي صيانة للنظام‪.‬‬

‫حياة يف اللغة‬

‫إذن ماذا تفعل القصيدة؟ القصيدة تخلق القصيدة‪ .‬وإال‪ ،‬فإنها ستكون مخدوعة من ذاتها‪ .‬مخدوعة‪ ،‬بكل معاين الكلمة‪ .‬ما هو‬ ‫ذلك؟ إنه ليس رسد قصة‪ ،‬وليس قول حقيقة ما‪ ،‬الحقيقة‪ ،‬أية حقيقة‪ .‬ال أرى شيئا يتبقى‪ ،‬وإال فلتخلق لنفسك لغة‪ ،‬وتعيش‬ ‫حياتك‪ ،‬حياة لغة‪ .‬انطالقا من هنا‪ ،‬يوجد مكان للتفكري يف معنى كلمة «شعر»‪ .‬وهناك معاين كثرية‪ .‬يعمل الثقايف عىل خلطها‪.‬‬ ‫لكن ما قلته اآلن يختلف كليا عن املعنى املجازي الذي تعنيه كلمة «شعر»‪ .‬مثلام نتحدث عن الشعر يف غروب الشمس‪ ،‬الشعر‬ ‫يف اللوحة‪ .‬قال «مالرميه ‪ Mallarmé‬عن القمر‪Elle est poétique, la :‬‬ ‫‪( .»grace‬إنه شاعري‪ ،‬هذا ال َّداعر)‪ .‬ما هو هذا املعنى‪ ،‬إن مل يكن متجيداً‬ ‫ملشاعر شائعة‪ ،‬إحساسا قويا وشائعا‬ ‫كان الشعر هو ذلك الجانب‬ ‫يف نفس اآلن‪ ،‬نستطيع أن نسميه «جاميل»‪ ،‬يعطي االنطباع بالتوحد مع‬ ‫الالعقالني‪« ،‬ضربة نرد» ماالرميه‬ ‫قوى العامل‪ ،‬كام لو أنك أمام فرجة البحر‪ .‬إنه أيضاً‪ ،‬وتحديداً‪ ،‬وحدة املقدس‪.‬‬ ‫التي نعثر فيما وراءها على‬ ‫ينبغي الحذر من هذا املعنى العاطفي الشائع‪ ،‬القوي والواقعي ألنه مينح‬ ‫االنفعال‬ ‫وهم التفكري‪ .‬من هنا فهو يحجب حقيقة أننا يف الواقع ال نعرف ما نقول‪.‬‬ ‫وهذا أمر متواتر‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬والقضية هي العمل عىل االنتباه لذلك‪.‬‬ ‫نستطيع أن نسمي هذا اإلحساس «العاطفة الشعرية»‪ .‬وكلام كان إحساساً‬ ‫واقعياً‪ ،‬يستطيع كل إنسان الشعور به‪ ،‬كلام اقتىض متييزه‪ ،‬كام هو‪ ،‬عن الشعر‪ ،‬الذي تخلقه القصيدة‪.‬‬ ‫ومن بني كل االنفعاالت والعواطف األخرى‪ ،‬فإن رسد ووصف انفعال ما‪ ،‬أو عاطفة ما‪ ،‬ليس قصيدة‪ .‬إن ذلك عبارة عن خلط‬ ‫بني الذات واألنا‪.‬‬ ‫نستطيع أن نقول إن هذا املعنى العاطفي‪ ،‬باعتباره تجربة مشرتكة‪ ،‬هو األول تجريبيا‪ .‬وبرسعة تطرح مشكلة الخلط من‬ ‫العاطفة الشعرية‪ ،‬والجهل مباهية كتابة قصيدة‪ ،‬وقراءة قصيدة‪ ،‬أي معرفة القصيدة‪ .‬باختصار‪ ،‬العاطفة الشعرية مأخوذة‬ ‫باعتبارها شعراً‪ ،‬تحت املظهر الخادع للتجربة‪ ،‬والتي تنتج خلطاً ال يعطي سوى الهذر‪ .‬وتحديداً ألن هذا ما نعتقد أنه شعر‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬عقب ذلك‪ ،‬يدخل هذا املعنى يف منافسة مع معنى آخر لكلمة «شعر»‪ ،‬هو املفهوم األكادميي لكلمة «شعر» و حده كام‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪81‬‬


‫في الشعر‬

‫تسجله كل القواميس‪ .‬هو املامثلة بني الشعر واألبيات الشعرية؛ «فن صناعة البيت»‪ ،‬تقول القواميس‪.‬‬

‫املشكل الجاميل‬

‫هذا ما يحدث عندما نضع الشعر يف مقابل النرث‪ ،‬ألننا نضع األبيات الشعرية يف مقابل النرث‪ .‬فيكون لذلك انعكاس اختالطي‪،‬‬ ‫أي الخلط بني النرث‪ .‬والرسد أو الرواية‪ .‬يف حني أن أرسطو كان يدرك أن األبيات الشعرية ليست هي الشعر‪ .‬إذن‪ ،‬الشعر ليس‬ ‫هو شكل – بيت‪ .‬ليس هناك‪ ،‬وجود ل «شكل ‪ -‬قصيدة»‪ ،‬رغم أنه طيلة قرون من الثقافة كان يتم تلقني الخلط بني األبيات‬ ‫الشعرية والشعر‪.‬‬ ‫املشكل الثاين‪ ،‬وهي نتيجة ملا سبق‪ ،‬ويزيد الطني بلة‪ ،‬هو أننا انتقلنا ثقافيا من كتابة البيت الشعري‪ ،‬كام يقول معجم «ليرتي»‬ ‫‪ ،Littré‬إىل «الخصائص التي متيز األبيات الشعرية الجيدة‪ ،‬والتي ميكن أن توجد يف البيت الشعري وخارجه»‪.‬‬ ‫املشكل الثالث‪ ،‬وهو ذو طبيعة منطقية‪ :‬إذا كانت تلك الخصائص «متيز األبيات الشعرية الجيدة»‪ ،‬كيف ميكن أن «توجد يف‬ ‫البيت الشعري وخارجه؟»‪.‬‬ ‫واملشكل الجاميل هو أنه حدُّ شكيل‪ .‬وإذن‪ ،‬فهي تفرض ثنائية الشكل واملضمون‪ ،‬اللغة الشعرية واللغة العادية‪ ،‬والتي تتطور‬ ‫إىل ثنائية أخرى‪ :‬النافع – النفعي والجامل باعتباره ترفا‪ .‬كتب سارتر‪« :‬الشعراء هم أشخاص يرفضون استعامل اللغة»‪ .‬لقد قارنا‬ ‫أيضا ثنائية لغة عادية – لغة شعرية إىل التناقض املوجود بني امليش والرقص‪ .‬كل ذلك ينبني عىل الخلط بني اللغة والعالمة‪،‬‬ ‫الذي هو ليس سوى متثيال جزئيا‪ .‬حتى إن السخرية الخفية يف هذه الوضعية‪ ،‬أننا اعتقدنا أننا نفكر يف القصيدة‪ ،‬يف حني أننا‬ ‫نتكلم عن العالمة‪.‬‬ ‫غري أن املشكل املنطقي‪ ،‬هو تلك الخصائص املوجودة يف األبيات الشعرية وخارجها (جاء يف قاموس‪« :Le petit Larousse‬ما‬ ‫يلمس‪ ،‬أيها التلميذ‪ ،‬يدفع إىل التفكري»)‪ .‬وهذا املشكل يؤدي إىل مشكل ثالث‪ :‬اعرتاف بالفشل بكل املعاين‪ .‬ألننا عرثنا من‬ ‫جديد‪ ،‬وباختالف طفيف‪ ،‬عىل املعنى العاطفي‪ .‬إن الكليشيه الثقايف هو من يقول بأن الشعر ال ميكن تحديده‪ .‬بعبارة أخرى‪،‬‬ ‫كلام قدسنا الشعر‪ ،‬كلام قلت معرفتنا مبا نقول‪ .‬ونكرر هذه األشياء الغامضة بندم‪.‬‬ ‫هناك قراءة أخرى‪ ،‬وأثر آخر لغياب الحد هذا‪ ،‬فكام نضع الشعر يف مقابل النرث‪ ،‬نضعه يف مقابل الرواية‪ .‬ومبا أن الرواية جنس‬ ‫أديب‪ ،‬فإننا نجعل من الشعر جنساً أدبيا‪ .‬هذا ما يقوله «كنز اللغة الفرنسية « ‪ .»trésor de la langue française‬لكن الشعر‬ ‫ليس جنساً أدبيا‪ ،‬فالشعر يضم‪ ،‬حسب الغرض‪ ،‬مجموعة من األجناس‪ :‬الشعر ‪ ‬الغنايئ‪ ،‬الشعر الرسدي‪ ،‬الشعر املرسحي‪ .‬ال‪،‬‬ ‫الشعر ليس جنساً أدبيا‪ .‬ينبغي أن نجتهد يف البحث‬ ‫* هرني ميشنيك‪:‬شاعر ومرتجم فرنيس واستاذ يف فقه اللغة‪،‬تويف يف باريس سنة ‪.2009‬‬ ‫ترجمة‪ :‬محمود عبد الغني‬

‫‪82‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫لحظة مفصلية في تاريخ الشعر العربي‬ ‫فخري صالح‬

‫ليس صعود الشكل الروايئ السبب الوحيد الذي يدفع الشعر إىل خلفية املشهد يف الثقافة العربية‪ ،‬بل مثة أسباب داخلية تتعلق‬ ‫بالشكل الشعري نفسه‪ ،‬ووصوله إىل لحظة مفصلية من اللحظات التي تصلها األشكال اإلبداعية عىل مدار تاريخها‪ .‬فالشعر‬ ‫العريب يف الوقت الراهن مير يف حالة من تحلل الشكل ومتزقه وتهلهله‪ ،‬أي مبا يسميه بعض النقاد «اإلرهاق الجاميل»‪ ،‬مبعنى‬ ‫أن الخيارات الشكلية والجاملية تضيق‪ ،‬ويصبح أمام الشكل الشعري طريقان ال ثالث لهام‪ :‬إما أن يتجدد‪ ،‬أو يغرق يف العادية‬ ‫واستنساخ الخيارات والكشوفات السابقة التي أصبحت محفوظة ومتداولة وميكن متييزها بسهولة من قبل الشعراء‪ ،‬ورمبا من‬ ‫قبل القراء أيضا‪ .‬وما يحدث اآلن هو أن القصيدة العربية‪ ،‬وبعد رحلة من التجديد يف الشكل اإليقاعي واللغوي‪ ،‬وكذلك يف طرق‬ ‫مقاربة العامل‪ ،‬وصلت ما سامه الشاعر اللبناين يوسف الخال «جدار اللغة»‪ ،‬أي إىل نقطة العقم أو التجدد والتغري الفاصلة‪ .‬فهي‬ ‫مدعوة إذن إىل إحداث ثورة يف داخلها لتستطيع التعبري عن تجربة الوجود والعامل‪.‬‬ ‫لقد مرت القصيدة العربية يف نهايات القرن التاسع عرش وبدايات القرن العرشين‪ ،‬وعىل أثر االحتكاك بالثقافة الغربية الغازية‪،‬‬ ‫بلحظة وعي للذات اللغوية والقومية دفعتها إىل إحياء الشعر العريب القديم‪ ،‬ثم فتح هذا الشعر عىل تيارات شعرية تهب من‬ ‫جهة الغرب‪ :‬بارناسية‪ ،‬ورومانسية‪ ،‬ورمزية‪ ،‬وحتى نرثية (فيام أنتجه أمني الريحاين وجربان خليل جربان) ما أفىض يف أربعينيات‬ ‫القرن املايض إىل العمل عىل انتهاك الشكل اإليقاعي‪ ،‬الذي قاوم التغري حوايل خمسة عرش قرنا من الزمان‪ .‬وقد ترافق هذا التغري‬ ‫يف الشكل اإليقاعي‪ ،‬الذي ظل يحتفظ بعنرص اإليقاع الخارجي الذي تستطيع األذن والعني املدربتان التعرف عليه‪ ،‬مع ثورة‬ ‫جذرية تسقط اإليقاع الخارجي لصالح شكل هجني يتخىل عن اإليقاع ولكنه يحتفظ من تعريف الشعر بالقصدية واستخدام لغة‬ ‫الصور واالستعارة واملجاز‪ ،‬وحتى توزيع األسطر عىل الصفحة البيضاء لتبليغ القارئ أن ما يقرؤه شعر وليس نرثا‪ .‬حدث ذلك يف‬ ‫خمسينيات القرن املايض مع ظهور مجلة «شعر» التي فتحت صفحاتها للراغبني يف تجديد الشكل الشعري من خالل التقريب‬ ‫بني لغة الشعر ولغة النرث‪ ،‬وإن ظلت معظم التجارب الشعرية التي أسهمت يف تجربة «شعر» محافظة عىل الحدود الفاصلة بني‬ ‫الشعر والنرث بوصفهام خطني أسلوبيني متاميزين يف الكتابة ميكن أن نتبني الفارق الواضح بينهام بنظرة عني‪.‬‬ ‫لكن ما طرأ يف سبعينيات القرن املايض ومثانينياته هو أن القصيدة العربية أخذت تغذ الخطى نحو هدم الجدار الذي يفصل‬ ‫العوامل الشعرية عن العوامل النرثية‪ ،‬سواء يف توزيع الكتابة الشعرية عىل الصفحة‪ ،‬أو ما يسمى «قصيدة الكتلة»‪ ،‬أو يف التخفف‬ ‫من الصور واالستعارات‪ ،‬وتخليص القصيدة من شحنة املجاز التي تجعل من الشعر عاملا هيوليا بال مالمح وال ميكن رده إىل أية‬ ‫مرجعيات واقعية‪.‬‬ ‫هكذا دخلت القصيدة العربية عرصا جديدا‪ ،‬يلتحم فيه الشعر بالنرث‪ ،‬وتغزو التقنيات األسلوبية للرسد عامل قصيدة النرث‪ ،‬بحيث‬ ‫بدأت الحدود متحي بني األنواع الشعرية واألنواع الرسدية‪ ,‬لقد وجهت قصيدة النرث‪ ،‬رغم عدم تجذرها يف واقع القراءة والتداول‪،‬‬ ‫وعدم متتعها بجامهريية شعر العمود والتفعيلة حتى هذه اللحظة‪ ،‬رضبة قاصمة لنظرية األنواع األدبية العربية التي مازالت‬ ‫تتمسك مبراتبية لألنواع واألشكال ع ّفى عليها الزمن‪ .‬وأظن أن علينا أن نعيد النظر يف تصوراتنا لنظرية األنواع‪ ،‬التي تبناها مؤرخو‬ ‫األدب العرب يف العرص الحديث‪ ،‬ألنها ال تصلح حتى للنظر إىل الرتاث األديب العريب القديم الذي يبدو أغنى بكثري من التصنيف‬ ‫التخطيطي الذي وضعه له هؤالء املؤرخون الكساىل الذي نقلوا التصنيف الغريب لآلداب الغربية وطبقوه دون متحيص عىل‬ ‫اآلداب العربية‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪83‬‬


‫في الشعر‬

‫الشعراء في زماننا‬ ‫ابراهيم الحسن‬

‫الشعراء اثنان ‪ ،‬شاعر يكتب القصيدة ‪،‬وشاعر تكتبه القصيدة ‪،‬فاألول ذيك ذو ذاتية مقتبسة جاء إيل بوابة الشعر بالصنعة ‪،‬والثاين‬ ‫ملهم اعتاد باإللهام والقريحة اإليحاء يف الشعر ‪ .‬والفرق بني الذكاء واإللهام يف الشعر كبري جدا وواضح جدا ‪ ،‬فتاريخ الشعر‬ ‫موصول باملعاين يسرتفدها من خارجها وتبقى العربة يف طرائق العرض وأساليب األداء‪.‬‬ ‫غري أن طريقة الشاعر ومقدرته عىل قول الشعر يف يشء ما‪ ،‬قد تختلف عن مقدرة املرء عىل رشح نفس اليشء رشحا عقالنيا‬ ‫‪،‬فالشعر ليس هدفه الرشوح العملية أو العلمية‪ ،‬لهذا فالقصيدة ال يجب أن تعني‪ ،‬بقدر ما يجب أن تكون‪ ،‬ومن خالل كينونتها‬ ‫نتعرف عىل شخصية القائل‪ .‬وبعض القصائد تستعيص عىل الشاعر الذيك وال تخضع لثنائية املعني والداللة ‪ ،‬فيصبح الشاعر‬ ‫صنيع اللغة بعد أن كان صانعها‪ ،‬ويقع أسريا لحركتها اإلبداعية الحرة‪ ،‬ما يجعل املتلقي يحصل عىل اللغة أجراسا وألوانا وأشكاال‬ ‫بال معنى وبال مضامني‪ ،‬ومعروف أن اللغة عىل امتداد تاريخها الطويل ‪،‬ظلت تتواطأ مع املعاين تحتضنها وتفصح عنها‪ ،‬غري أنها‬ ‫تستجيب للشاعر امللهم وتخضع له‪ ،‬ألن املتعة يف قصائده ال تأيت من جهة حضور املعنى‪ ،‬وإمنا من جهة غياب املعنى واختفائه‪.‬‬ ‫والشعراء قد تتشابه إبداعاتهم مع اختالف العصور ‪ ،‬غري أنهم قد يشرتكون يف مصدر ما لإللهام ‪،‬والله سبحانه وتعاىل وهب‬ ‫الشاعر نعمة املوهبة وزادها باإللهام ‪،‬ما ميكن الشاعر أن يأيت مبا ال يستطيعه اآلخرون‪ ،‬حيث تتأرجح موهبته بني اإللهام واملقدرة‬ ‫عىل تنسيق الحروف أو مخارج الكالم‪ ،‬لهذا فالشاعر تولد من فمه اللغة ‪ ،‬ومن اللغة تولد كل األشياء ‪.‬‬ ‫وشاعر قصيدة النرث ال يقل أهمية عن أخيه شاعر القصيدة العمودية يف هذا املجال ‪،‬غري انه عليه أن يتجنب الغموض يف قصائده‬ ‫ليفهمه اآلخرون مبارشة بدل االنشغال عنه بفك رموزه وحكاياته ‪ ،‬وأعني أن يقول ما يفهمه اآلخرون‪ .‬غري أن أهمية الشاعر‬ ‫امللهم تأيت من خالل تفحصه لذاته الخفية وعبقريته امللهمة تلك التي يتجىل فيها حبه لآلخرين ‪،‬ومبا يحمله يف نفسه من تعبري‬ ‫عن طويته الساكنة وموهبته األصيلة ومقدرته املكتسبة‪ ،‬ألن روحه تنبعث منها القصيدة مبا توضحه الصورة الشعرية ‪،‬كأمنا‬ ‫تتجوهر فيها الطقوس والتقاليد ‪،‬فيحدق فيها باحثا عام توضحه يف صورة أكرث انسيابية وأكرث توازيا مع فنونها املختلفة يف البالغة‬ ‫والبيان‪ .‬أما الشاعر الذيك ذلك الباحث عن الرس غالبا ما يعود مبتئسا إذا ما استغلقت عليه نوايا األشياء‪.‬‬ ‫ويبدو يل‪ ،‬أن قدر الشاعر هو أن يعيش يف قلق دائم‪ ،‬يدفعه هذا القلق إىل التعبري واإلبداع‪ ،‬فالشاعر أحق الناس بالقلق وباألمل‬ ‫وأقربهم إليه ‪،‬ألنه أكرث بحثاً عن الغاية يف شعره‪ ،‬والبحث إحدى وظائف الشعر املهمة‪ .‬ولعل الشاعر يف بحثه عن األفضل يحاول‬ ‫أن يخلق إيقاعا متميزا ً يتوازن مع ما يعتمل يف دواخل نفسه ويتحرك مبقدرته ‪ ،‬مع إيقاع بديع لهذا العامل املضطرب ‪.‬‬ ‫وألن الشاعر مصدره اإللهام‪ ،‬وألن اإللهام مصدر الهي محض ‪،‬غرس يف طبيعة الشاعر عند التكوين قبل الوالدة‪ ،‬فال بد لشعره‬ ‫أن يكون أشبه بلهب ينبعث من فؤاده ليديفء به اآلخرون‪ ،‬ال بد لشعره أن يكون ناضجا ال تشوبه شائبة وال افتعال‪ ،‬ينبع من‬ ‫عني كأنه النطاف الخالص‪ ،‬والسلسبيل الجاري‪ ،‬أو يأيت غاضبا هادرا كأنه البحر الهائج‪ ،‬خاصة يف القصائد ذات املغزى الوطني‪.‬‬ ‫والشاعر امللهم هو من يأيت بالشعر املطبوع مثل الشذى األخاذ الذي ينطلق كأشعة الشمس‪ ،‬أما الشاعر املكتسب شعره بالتعلم‬ ‫والصنعة فهو كمن ينحت يف كومة من رمل‪ ،‬وكأين أراه كلام تكامل نحته تهدم جانب منه‪ ،‬فشتان بني هذا وذاك‬ ‫‪84‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫الحي !‬ ‫دفن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫عبد هللا أبو بكر‬

‫قبل‬

‫عدة أعوام‪ُ ،‬أقيمت يف العاصمة عماّ ن ندوة حول الشعر‪ ،‬حرضها الكثري من الشعراء العرب‪ ،‬وناقشوا فيها قضايا شعرية‬ ‫عديدة‪ ،‬وأكرث ما لفت انتباهي يف النقاشات الدائرة يف الندوة هي مقولة أطلقها الشاعر اللبناين محمد عيل شمس‬ ‫الدين يف معرض رده عن سؤال يتعلق مبوضوع ما بعد الحداثة حيث قال إن «ما بعد الحداثة هو ما قبلها»‪.‬‬ ‫هذه املقولة تحمل الزمن يف كلتا يديها‪ ،‬وتلملمه لتضعه يف لحظة راهنة‪ ،‬لتؤكد أن ما سبق إنتاجه ليس رضبا من رضوب‬ ‫االنقراض‪ ،‬ومل يقع بعد يف حفرة الزمن ولن يقع كذلك‪ ،‬ما دام الدوران هو حقيقة األرض وبالتايل هو حقيقة الشعر واألدب ‪.‬‬ ‫‪‎‬شهدنا يف العقود األخرية دعوات كثرية أطلقها عدد من الشعراء العرب تنادي بالقطيعة وذبح الزمن عرب قطعه إىل جزئني‪ ،‬قدميه‬ ‫وحديثه‪ ،‬وقد القت هذه الدعوات رواجا كبريا‪ ،‬بعد أن سار خلفها اإلعالم واحاطها باالهتامم وتجاوز ذلك الدور إىل أن أصبح‬ ‫رشيكا مخلصا لها‪ .‬وليس الحديث هنا من أجل الدفاع عن املوروث أو التقليل من شأن الحداثة بقدر ما هو محاولة لعرض بعض‬ ‫النقاط التي تتعلق بالحركة الشعرية العربية وبعض األصوات التي انشغلت بهذه القضية ‪.‬‬ ‫‪‎‬إن أبرز ما يقال يف هذا الشأن إن الحداثة _كمذهب فكري وأديب_ ليست صنيعا عربيا‪ ،‬فقد تالقفها البعض من الغرب‪ ،‬واندمج‬ ‫فيها مقلدا‪ ،‬وتابعا‪ ،‬بعد أن دعا إليها العديد من الشعراء الغربيني والفرنسيني عىل وجه الخصوص‪ ،‬كشارل بودلري‪ ،‬وغوستاف‬ ‫فلوبري‪ ،‬وماال راميه‪ ،‬والرويس مايكوسفيك وغريهم‪ .‬أما بعض الشعراء العرب فقد وجدوا فيها صيدا مثينا‪ ،‬ميكن من خالله تسليط‬ ‫األضواء عىل أعاملهم وأسامئهم‪ .‬وقد قادوا االنقالب عىل املوروث تحت هذه املسميات املستوردة من اآلخر‪ ،‬بعضهم من أجل‬ ‫الرتويج لنفسه‪ ،‬والبعض اآلخر بدا مقتنعا وحريصا عىل التجديد وإن كان من صنيع اآلخر‪ ،‬وهذا ما يفسرّ لنا ان بعض االعامل‬ ‫الشعرية لهؤالء جاءت متقنة ومقنعة‪ ،‬ولكن بعضها اآلخر جاء ضعيفا وركيكا وال يرقى ملستوى األدب والشعر ‪.‬‬ ‫‪‎‬ال اريد هنا الحديث عن النوايا الشعرية لدى هؤالء‪ ،‬وال عن تجاربهم الشخصية‪ ،‬مع أنها جزء من هذا املرشوع «الحداثة» الذي‬ ‫اعتقد أصحابه انه ال ميكن فرضه إال بإقصاء كل ما يخالفه‪ ،‬وهذا أبرز مأزق تعرض له هذا املرشوع‪ ،‬فمنذ البداية كان مرشوعا‬ ‫إقصائيا‪ ،‬بدال من أن يكون إضافة يف تاريخ الشعرية العربية‪ .‬وإن تناولنا قصيدة النرث كجزء من هذا املرشوع لوجدنا الكثري من‬ ‫دعاتها انساقوا وراء فكر اإلقصاء هذا‪ ،‬و استهلوا مسريتهم بالدعوة إىل إلغاء جميع األشكال الشعرية األخرى حتى تلك التي مل‬ ‫الحي !‬ ‫تعش سوى لعقود قليلة‪ ،‬وباتوا أشبه مبن يريد دفن ّ‬ ‫‪‎‬إن الدافع وراء هذا الحديث‪ ،‬هو ذلك الجدل الذي ال يزال قامئا حول موضوع الحداثة الشعرية والذي امثر عن انشقاقات‬ ‫وخالفات كثرية‪ ،‬مل تكن لتصب يف صالح الشعر‪ ،‬ولعل املقولة الذي أطلقها شمس الدين تربهن عىل أن الشعر ال ميكن وضعه‬ ‫يف القفص‪ ،‬أو تكبيل حركته‪ ،‬تبعا لتحوالت الزمن‪ ،‬وانحارف مساراته‪ .‬فمن العبث القول إن قصيدة الشطرين العربية أصبحت‬ ‫منتهية الصالحية‪ ،‬طاملا أنها ُتكتب حتى اليوم بفنيات عالية‪ ،‬وتبللنا مباء الشعر والكالم‪ ،‬كام من العبث أيضا إنكار أي عمل أديب‬ ‫أو تجاوزه إن كان يشكل رصيدا إضافيا لخزانة الشعر واألديب العريب عموما‪ ،‬وهذا ما ينطبق عىل الكثريمن األعامل الشعرية التي‬ ‫ُأدرجت تحت عنوان «قصيدة النرث»‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪85‬‬


‫شعر ورواية‬

‫آالن روب غرييه‬

‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫م‬ ‫الش ْعر‬ ‫ء الذين أ ُ ِحب ُّ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫والش َ‬ ‫عرَا ُ‬ ‫صدر قبل سنوات كتاب شيق للروائي وكاتب السيناريو الفرنسي الراحل أالن روب غرييه‪ ،‬بعنوان»مقدمة‬ ‫لحياة كاتب»‪ .‬ويتعلق األمر بسلسلة طويلة من المحاضرات التي ألقاها سنة ‪ 2003‬على أمواج «راديو‬ ‫كولتور»‪.‬وكان البرنامج يتلخص في أن يتحدث الكاتب عن عالقاته مع األدب والكتابة والقراءة‪ ،‬في حرية‬ ‫تامة‪ .‬وهنا‪ ،‬حديثه عن العالقات التي تربطه بالشعر والشعراء‬

‫باريس‪ -‬محمد المزديوي‬

‫هذه‬

‫املادة األدبية‪ ،‬هذه النصوص التي ت ُشكّل‪،‬‬ ‫يف آنٍ واحد‪ ،‬كتبي وشخيص ليست فقط‬ ‫محكيات نرثية‪ .‬أعتقد أن الكثري من الشعراء أيضا أغنوا‬ ‫نصويص الشخصية‪ .‬ميكن يل أن أذكر ماالرميه‪Mallarme‬‬ ‫وميشو ‪ Michaux‬وأبولينري ‪ Apollinaire‬وأندري بروتون‬ ‫أي فإنه يوجد‪،‬‬ ‫‪ ، Andre Breton‬وكثريين آخرين‪ .‬وعىل ّ‬ ‫يف كثري من األحيان‪ ،‬يف روايايت ومحكيايت النرثية مقاطع‬ ‫شعرية أُعي ُد كتابَتَها من دون وضعها بني قوسني أُدمجها‬ ‫يف ُج َميل الخاصة‪ .‬ال ُنقَّاد وامل ُعلِّقون القادمون‪ ،‬كام يقول‬ ‫ماالرميه‪ ،‬سيتعرفون‪ ،‬مبرح‪ ،‬عىل تتابع الكلامت التي‬ ‫تنتمي‪ ،‬جليّا‪ ،‬إىل شاعر ما‪ ،‬باملعنى الذي يفهمه جان بول‬ ‫سارتر‪.‬‬

‫شعرية النص‬

‫ال أم ّيز كثريا ما بني النرث والشِّ عر‪ ،‬وأعتقد أنه يوجد‪ ،‬عىل‬ ‫يك يف الشعر‪ .‬إننا نض ُع توصيف «رواية»‬ ‫كل حال‪ ،‬مح ّ‬ ‫عىل غالف الكتاب حني يكون لبُ ْعد الخاليا الرسدية‬ ‫يك ما‪.‬‬ ‫متواصل ملح ٍّ‬ ‫ٌ‬ ‫بعض االمتداد‪ ،‬وإذن يُوجد ُحضو ٌر‬ ‫ُ‬ ‫ولكن‪ ،‬عىل النقيض‪ ،‬إذا كانت هذه الخاليا قصرية‪ ،‬بشكل‬ ‫البدهي أنه‬ ‫الفت‪ ،‬كام هو الحال لدى ماالرميه‪ ،‬فإنه من‬ ‫ّ‬ ‫يصعب اعتبار األمر محكيّا‪ .‬إ ّن ما أردده مبتعة كبرية حني‬ ‫أمتىش‪ ،‬أو حني أستح ّم أو حني أحلم‪ ،‬هو قبل كل يشء‬ ‫الشعر‪ ،‬باملعنى التقليدي للكلمة‪ .‬بالتأكيد مل يكتشف‬

‫‪86‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫امليل‪ ،‬وكانوا يعتقدون أن نصويص ال‬ ‫قرايئ األوائل هذا َ‬ ‫تحدثت‬ ‫أن‬ ‫يل‬ ‫سبق‬ ‫لقد‬ ‫شعر‪.‬‬ ‫أدنىى‬ ‫شعرية‪ ،‬من دون‬ ‫ُ‬ ‫عن اهتاممي بعلم وزن الشِّ ْعر‪ ،‬وهذا االهتامم دفعني‬ ‫إىل نوع من الكتابة الشعرية مختلفا جدا عن ما يتصور ُه‬ ‫الناس حني يتحدثون عن كُتُبي‪.‬‬ ‫ُجيب‬ ‫سأقرأ قصيدتني ملاالرميه يُفترَ َ ُض أن إحداهام ت ُ‬ ‫األخرى‪« :‬الخالص»‪ ،‬الخالص األويل الذي حرص ماالرميه‬ ‫عىل وضعه عىل رأس قصائده الكاملة‪ ،‬حني قام بتجميعها‬ ‫من أجل املعلقني والنقاد القادمني‪ ،‬و»للعارية امل ُ ْر ِهقة‬ ‫ِ‬ ‫أنت»‪ ،‬التي ال تحمل عنوانا‪ ،‬والتي ميكن أن تكون اعرتافا‬ ‫بالفشل مقارن ًة مع األمل الذي يوجد يف الـ»خالص»‬ ‫األويل‪ .‬إن شئنا‪...‬‬ ‫لست أدري عىل وجد‬ ‫كيف تع َّرف ُْت عىل هؤالء الشعراء؟ ُ‬ ‫تاب قرأت ُ ُه كثريا يف طفولتي‪،‬‬ ‫التحديد‪ ،‬رمبا بالصدفة‪ .‬مثة كِ ٌ‬ ‫وهو مراسالت أالن فورنيي ‪ Alain Fournier‬وجاك‬ ‫ريفيري‪ . Jacques Riviere‬مل يعد هذا النوع من الكتب‬ ‫استقيت منه بعض االنجذاب‬ ‫يُق َرأ اليو َم ولكني أعتقد أين‬ ‫ُ‬ ‫إىل هذا النص األديب أو إىل ذاك‪ .‬أعتقد أين عرفت دوبويس‬ ‫شغف هذه‬ ‫‪ Debussy‬يف هذه املراسالت‪ .‬ففيها يوجد ُ‬ ‫نفسه بقوة ويثري‬ ‫الشبيبة بالفن واألدب‪ ،‬الذي يَ ْفرِض َ‬ ‫الذهول‪ ،‬وميكننا إذن أن نغتذي منها بطريقة غري مبارشة‪،‬‬ ‫وسواء كان األمر يف املوسيقى أو يف األدب‪ ،‬فإن األمر كان‪،‬‬ ‫بالنسبة يل‪ ،‬مفيدا‪ .‬كان فورنيي وريفيري يُح ّبان الشعراء‬


‫أحببت كثيرا أعمال هنري ميشو‬ ‫ُ‬ ‫وكنت دائما أحس‬ ‫‪،Michaux‬‬ ‫ُ‬ ‫بالحزن حين يصدر طبعة جديدة‬ ‫ويتخلص فيها من قصائد‬ ‫سابقة‬

‫الذين اختفوا بعض اليشء‪،‬مثل ألبري سامني ‪ainAlbert‬‬ ‫‪ ،Sam‬الذي ال أز ُال قادرا عىل إنشاد بعض قصائده‪ ،‬وليس‬ ‫ِيل الفُورغ ‪Jules‬‬ ‫من املستحيل أن يكونا قد تح ّدثا عن ج ْ‬ ‫‪ ، Laforgue‬الذي قرأته كثريا‪.‬‬ ‫وكنت دامئا‬ ‫أحببت كثريا أعامل هرني ميشو ‪ُ ،Michaux‬‬ ‫ُ‬ ‫أحس بالحزن حني يصدر طبعة جديدة ويتخلص فيها‬ ‫من قصائد سابقة‪ .‬ت ّم توظيفي يف دار مينوي كمستشار‬ ‫لدي بعض‬ ‫أديب لجريوم لندون ‪ ،Jerome Lindon‬وكانت ّ‬ ‫الصعوبات يف بيع بعض ال ُكتُب‪ ،‬ليس يف نرش ما ميكن‬ ‫بيعه‪ ،‬ولكن يف النجاح يف بيع كُتُب ملؤلفني يُع َر ُف عنهم‬ ‫أنهم ال يبيعون‪ ،‬مثل ناتايل ساروت ‪Nathalie Sarraute‬‬ ‫وكلود سيمون ‪ Claude Simon‬أو روبرت بينجي‬ ‫‪ . Robert Pinget‬وهرني ميشو ‪ Henri Michaux‬عىل‬ ‫النقيض كان يَ ْعتَبرِ ُ أ َّن بيع ال ُكتُب فيه يشء من العار‪ .‬كان‬ ‫أي كتاب تتجاوز مبيعاته‬ ‫ميقت الجمهور‪ .‬قال يل مرة إن ّ‬ ‫‪ 200‬نسخة هوـ عىل كل حال‪ ،‬كتاب رديء‪ .‬بطبيعة‬ ‫الحال كان يف األمر مبالغة‪ ،‬ألن ميشو نفسه كان يبيع‬ ‫ُت قصائدَهُ مبجرد‬ ‫أكرث من ‪ 200‬نسخة بكثري‪ .‬وكان ميق ُ‬ ‫ما أن تحظى بنوع من النجاح‪ ،‬فكان يتخلص منها‪ .‬كلام‬ ‫كانت طبعة ثانية لنفس الديوان كلام كانت قصيد ٌة َما‬

‫حفظت قصيدة له عن ظهر‬ ‫تختفي فجأة من الديوان‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قلب وأنش ْدت ُها أمامه‪ ،‬مبحض إراديت‪ ،‬ولكني مل أعد أتذكر‬ ‫عنوانها‪ ،‬وليس باإلمكان قراءتها‪ ،‬اآلن‪ ،‬ألنها اختفت‪.‬‬

‫بروتون والعني املشؤومة‬

‫عرفت أندريه بروتون‪ ، Breton‬وقد عاملني بكثري من‬ ‫املودة بعد صدور روايتي «املتلصص»‪ .‬كان ينتمي لهذه‬ ‫الفئة من الناس التي ال تحب الرواية‪ ،‬بصفة مبدئية‪.‬‬ ‫اثنان من الشعراء الذين أحبهم عبرّ ا عن احتقارهام‬ ‫للرواية‪ :‬بروتون وفالريي‪ . Valery‬مل أتعرف عىل بول‬ ‫فالريي ‪Paul Valery‬شخصيا‪ ،‬ولكنه لعب دورا يف تكويني‬ ‫الشعري‪ .‬وميكن اعتباره واحدا من اآلباء الرسميني للرواية‬ ‫الجديدة‪ ،‬وأعتقد أنه كان سيقبل األمر‪ .‬وقد كان األب‬ ‫الرسمي لـ»تيل كيل»ـ عىل الرغم من أن فيليب سولريز‬ ‫‪ Philippe Sollers‬ادّعى‪ ،‬الحقاً‪ ،‬أن مجلته مل تكن لها‬ ‫أي عالقة بسلسلة بول فالريي‪« :‬تيل كيل» ‪ ،Tel Quel‬يف‬ ‫الوقت الذي جاءت فيه تسمية املجلة بهذا االسم تكرميا‬ ‫لبول فالريي‪ .‬أما بروتون فقد قال يل بعد صدور روايتي‬ ‫«املتلصص» بأنها ليست من نوع األدب الذي كان يتمنى‬ ‫أن يكتبه‪ ،‬ولكن األمر يتعلق بِعالَمٍ ما‪ ،‬ولديه تقدي ٌر ألي‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪87‬‬


‫شعر ورواية‬

‫يشء يُ ِح ُّس فيه بنوع من ال ُق ْرب مع أعامله الخاصة‪ .‬ومن‬ ‫جهتي أستطيع‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬إنشاد نصوص بروتون‪،‬‬ ‫التي ميكن اعتبارها يف كثري من األحيان نصوصا نرثية‪.‬‬ ‫كنت أحبه كثريا‪ ،‬وقد حفظته‬ ‫نص ُ‬ ‫من بني نصوصه يوجد ّ‬ ‫عن ظهر قلب‪ ،‬بطول صفحة واحدة‪ ،‬وهو بعنوان‪« :‬فعل‬ ‫كان»‪ .‬إنه نص جميل يتحدث عن اليأس‪« .‬نادجا»ميكن‬ ‫اعتبارها محكيّا عىل الرغم من أن بروتون يرفض ذلك‪.‬‬ ‫أتذكر أنه ما أن انتهينا من فيلم « السنة املاضية يف‬ ‫مارينباد» ـ أردنا‪ ،‬رينيه (املخرح السيناميئ الفرنيس‬ ‫أالن رينيه) وأنا (قام غرييه بكتابة سيناريو الفيلم)‪،‬‬ ‫إهداءه إىل أندري بروتون‪ .‬اعرتفنا بنوع من ال َّديْن تجاه‬ ‫السوريالية‪ ،‬عموما‪ ،‬وتجاه أندري بروتون بصفة خاصة‪.‬‬ ‫ولهذا فكّرنا‪ ،‬من البداية‪ ،‬بأن نعهد إىل بول ديلفو ‪Paul‬‬ ‫‪ ،Delvaux‬وهو رسام سوريايل‪ ،‬بإعداد ديكور الفيلم‪.‬‬ ‫عرضنا الفيلم أمام بروتون‪ ،‬متص ِّو َريْن‬ ‫أن الفيلم سيثري إعجابه‪ ،‬ولكنه عبرَّ عن‬ ‫مقته‪ .‬كان من خاصيته الحذ ُر الشدي ُد‬ ‫من الناس الذين يُال ِمسون ميدانَهُ‪.‬‬ ‫مل يكن من السهل يف تلك الفرتة عىل‬ ‫املرء أن يكون سورياليا‪ .‬ملْ أنتَمِ أبدا ً‬ ‫إىل الحركة‪ ،‬وال إىل أي فصيل صغري يف‬ ‫هذه املجموعة‪ ،‬ولكني كنت أعرف عن‬ ‫طريق أصدقايئ الذين أُعاشرِ ُ ُهم‪ ،‬مثل‬ ‫أالن ُجوفَ ْروا‪ ، Alain Jouffroy‬إىل أي‬ ‫درجة كانت العالقات معه صعبة‪ .‬وعىل‬ ‫الرغم من عدم الترصيح بأشياء أمامه إال أنه كان يراها‪.‬‬ ‫ذات يوم‪ ،‬وبعد أن زار الرسام برينارد دوفور‪Bernard‬‬ ‫‪ ، Dufour‬قال لِ ُجوفَ ْر َوا ‪ « :Jouffroy‬هذا الرجل ميتلك‬ ‫َع ْينا الَ َّمة(مشؤومة)‪ ،‬كام أ َّن ُرسوماتِ ِه متتلك َع ْينا الَ َّمة»‪.‬‬ ‫بُع ْيد موت بروتون كان أصدقاؤه عىل وشْ ك أن يُح ِّملوا‬ ‫ّ‬ ‫الرسام دوفور مسؤولية موته‪ ،‬فقط بسبب هذه «ال َعينْ‬ ‫الالَّ َّمة»‪ .‬كان يُطْل َُق عىل بروتون لقب « بابا السوريالية»‪.‬‬ ‫يل لقب بابا الرواية الجديدة‪ ،‬ولكني‬ ‫أما أنا فقد أطلق ع َّ‬ ‫مل ُأس َّن أبدا فقاعات‪ ،‬وال قوانني‪ ،‬ال من أجيل وال من‬ ‫أجل أصدقايئ‪ .‬أما هو‪ ،‬ففي املقابل‪ ،‬مل يتوقف عن‬

‫‪88‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫إطالق األحكام ومنح النقاط الجيدة‪ .‬أطلق عليه بريفري‬ ‫نصه الذي‬ ‫‪ revertP‬اسم‪ « :‬ثاقب تذكرة قرص الرساب» يف ِّ‬ ‫ظهر سنة ‪ 1930‬يف املنشور الجامعي الذي حمل اسم‪:‬‬ ‫«الجثة»‪ .‬كان أندري بروتون يكره‪ ،‬بشكل ظاهر‪ ،‬فيلم‬ ‫«السنة املاضية يف مارينباد» ‪ Marienbad‬ولهذا السبب‬ ‫مل نكتب بطاقة اإلهداء‪.‬‬ ‫أعتقد أن بروتون كان كاتبا مهام جدا‪ ،‬وكان قبل كل يشء‪،‬‬ ‫كاتبا أنيقا‪ .‬إن نصوصا مثل « ِف ْعل كان»‪ ،‬نصوص ها ّمةٌ‪،‬‬ ‫نصوص ها َّمةٌ‪،‬‬ ‫مفتوح وإشكا ٌّيل‪ .‬توجد‬ ‫حيث املعنى دامئا‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مثل نصوص بوسويه ‪ ،Boussuet‬وهي ليست مفتوحة‬ ‫وال إشكالية‪.‬إنها نصوص ذات نظام إلهي‪ ،‬ولكنها ربوبية‬ ‫تُعبرِّ عن نفسها بوضوح‪ .‬أما بروتون فقد كان ربوبية‬ ‫من منط مالئيك‪ .‬قد نفهم عىل نحو غامض ِقطَعاً من‬ ‫تأويل كالمه‪ .‬كان‬ ‫ُج َمل املالك‪ ،‬لكن يتو َّج ُب‪ ،‬بعد ذلك‪ُ ،‬‬ ‫ينتمي إىل هذا الصنف من ال ُكتَّاب القريبني‬ ‫جدا مني أكرث مام ينتمي إىل أولئك الذين‬ ‫ميتلكون الحقيقة‪ .‬حني كان بروتون يُنظِّ ُر‬ ‫كان لديه نزوعٌ‪ ،‬أحيانا‪ ،‬إىل أن يبدو َمالِكاً‬ ‫للحقيقة‪ ،‬ولكن ع َملَ ُه كُلَّهُ‪ ،‬ولله ال َح ْم ُد‪ ،‬كان‬ ‫يناقض هذا االدعاء‪.‬‬ ‫تعرفت يف نفس املجموعة عىل ميشيل‬ ‫لرييس ‪.Michel Leiris‬مل أكن قارئا متعصبا‬ ‫له ولكن كتابه‪ « :‬أفريقيا الشبح»‪ ،‬ساعد يف‬ ‫عجبت بدرجة أقل بثالثيته ‪La‬‬ ‫تكويني‪ .‬أُ ُ‬ ‫‪ regle du jeu‬و ‪ Biffures‬و‪Fourbis et‬‬ ‫‪ ، Fibrilles‬حيثُ قام لرييس‪ِ ،‬ب َو ْح ٍي من افتتانه بالتحليل‬ ‫فعل ال يُعتَبرَ ُ يف‬ ‫النفيس‪ ،‬بعمل تحلييل عىل نفسه‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫نظري من أُ ُمور األدب‪.‬‬ ‫إ ّن ما يُؤث ِّ ُر َّيف كثريا‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬يف الشِّ ْعر‪ ،‬هو م ْزج أشياء‬ ‫ملموسة و ُمح َّددَة بِتأمالت غري واضحة‪ ،‬بل ميكن القول‬ ‫إنها تأمالت غامضة و ُمغلقَة‪ .‬نَعثرُ ُ عىل هذا املزج يف آن‬ ‫واحد‪ ،‬يف « ِف ْعل كان» لربوتون ويف قصيدة ماالرميه‪« ،‬‬ ‫للعارية امل ُ ْر ِهقة ِ‬ ‫أنت «‪ ،‬وأعتقد‪ ،‬أيضا‪ ،‬أن هذا امل َ ْز َج‬ ‫ِ‬ ‫نجده يف قصيدة «املقربة البحرية» لبُول فالريي‪ ،‬التي‬ ‫تبدو نهايَتُها برصيّ ًة جدا‪ ،‬بشكل خاص‪ ،‬بينام يتعلق األمر‬ ‫بِتأمالت ُمج َّردَة خالصة‬


‫نقد‬

‫حسن نجمي‬

‫ّ‬ ‫تطل‬ ‫كأنها شرفة‬ ‫على األبدية‬ ‫بدأ الشاعر حسن نجمي الكتابة مبكرا‪ ،‬إذ أصدر ديوانه األول حين كان في الثانية والعشرين من‬

‫ُ‬ ‫عمره‪ِ :‬‬ ‫اإلمارة أيتها الخزامى» وكان ذلك في العام ‪ ،1982‬فإذا كانت إشارة هنا فهي تتصل بأن «أذى‬ ‫«لك‬ ‫كالحب» كما لو أنه نتاج تلك الخبرة الشعرية في التعامل مع «النص» شعرا ونثرا‪ .‬لقد تنوع المنجز‬ ‫ّ‬ ‫األدبي لحسن نجمي ما بين الشعر بسبعة كتب‪ ،‬والدراسة النقدية واليوميات والرواية‪ .‬هذا الغنى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الملحة‬ ‫المبكر في التجربة ومالحظة التحوالت الطارئة على الطبيعة والمكان والجسد والرغبة‬

‫والعالية في إعادة صياغة الكون شعريا‪ ،‬هي من أبرز ما تقصد الشاعر أن يبرزه عبر تفاصيله‬

‫جهاد هديب‬

‫ِع َوضا‬

‫عن مرجعيات شعرية‪ ،‬األمر الذي يحتاج إىل‬ ‫تفسري يأيت هنا يف تضاعيف السياق‪ ،‬فإن ما‬ ‫يلحظه املرء يف قصيدة حسن نجمي يف «أذى كالحب»‬ ‫هو أنها زاخرة ب»تقاطعات» لشعريات متجاورة وحديثة‬ ‫ومشهديات تاريخية وغري تاريخية ويومية هامشية‬ ‫وعابرة جعل منها الشاعر مر ّويات شعرية‪ ،‬أكرث من‬ ‫أنها صور شعرية فقط‪ ،‬مستفيدا من شعراء معروفني‬ ‫وآخرين كانوا هامشيني يوما ما يف الشعريات الغربية‪،‬‬ ‫عىل املستوى التقني الكتايب وطرائق يف التخييل‪ ،‬أولئك‬ ‫الشعراء الذين جعلوا من الهامش متنا ومن الزائل انتصارا‬ ‫عىل فكرة الغياب األبدي لألشياء واملشاعر االنسانية التي‬ ‫تعرب بقلوبنا كل يوم‪.‬‬ ‫وألن الشخص السارد يف قصيدة حسن نجمي هو صوت‬ ‫الفرد‪ ،‬فقد أصبحت هذه املرويات هي الرسدية الكربى‬ ‫للفرد ذاته‪ ،‬إذ تعيد كتابة تاريخ الجسد مبا هو عليه‬ ‫من أنه ُعرضة للزوال والفناء لكنه يظل حيا نابضا يف‬ ‫رسديته تلك‪ .‬مع ذلك ليس الكتاب‪ ،‬مبا يشتمل عليه من‬ ‫تن ّوع وغنى يف أحوال وتقلّبات املزاج الشعري‪ ،‬احتفاء‬

‫محض بالجسد‪ ،‬إمنا عرب تذك ّره أو إعادة بنائه من طريق‬ ‫الذاكرة مبا هو مزيج من روح ومادة‪ ،‬إذا جاز التوصيف‪،‬‬ ‫دون أن يكون ذلك كله بعيدا عن أن هذا الكتاب هو‬ ‫مشغل شعري يخترب الشاعر فيه طاقة اللغة وإمكاناتها‬ ‫عىل التعبري واإلحاطة باملخيلة الشعرية ما أمكن إىل ذلك‬ ‫سبيال‪.‬‬ ‫***‬ ‫لجهة صفته‪ ،‬هو الذي حاز جائزة املغرب للكتاب يف‬ ‫الشعر للعام املايض التي متنحها وزارة الثقافة املغربية‪،‬‬ ‫فقد جاء «أذى كالحب» يف ستة أبواب‪« :‬يأس مشمس»‬ ‫و«أقىص الغموض» و»جهة الحب» و «قصائد برتقالية»‬ ‫و«يوميات إيطالية» و«جهة الظل» ال فاصل بينها أو ح ّد‬ ‫سواء أكان عىل مستوى املخيلة أم عىل مستوى الصنعة‪،‬‬ ‫بل هو افرتاق يف املزاج الذي يجمعها أنها متثل جميعا‬ ‫مشاغل رجل يقف عىل عتبة الخمسني اآلن ويحسن‬ ‫التذكر‪ .‬و«التذكر الذي يعاقب النسيان» هنا أيضا هو‬ ‫جامع آخر بني القصائد مثلام أنه قد أفىض إىل ذلك املزاج‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪89‬‬


‫نقد‬

‫التأمل يف ذوات شعراء آخرين وهو ما جرت اإلشارة‬ ‫إليه مطلع هذه السطور‪ .‬لكن الشاعر هنا ال يتخىل عن‬ ‫الصمت وال يتنازل عن يأسه املعريف من العامل والحياة‬ ‫نظل نح ّدق يف الغيم»‪.‬‬ ‫والعيش‪« :‬حتى حني نيأس ّ‬ ‫والقصائد بكل ما تتضمنه من صور شعرية هي تعبري عن‬ ‫حالة ذاكرة ثقافية ‪ -‬شعرية وقد امتزجت‪ ،‬حتى تلك التي‬ ‫تتناول عالقة الرجل باملرأة أو حالة الحب التي مصدرها‬ ‫الشخص السارد يف القصيدة‪ ،‬أي الشاعر يف آخر األمر‪ ،‬هي‬ ‫تصب يف االتجاه ذاته إذ يتأمل يف الشعر والصنيع‬ ‫قصائد ّ‬ ‫الشعري ويف شعراء من طراز األرجنتيني خورخي لويس‬ ‫بورخيس واليوناين يانيس ريتسوس‪.‬‬

‫الشعري عىل األرجح‪.‬‬ ‫لكن نربة اليأس هنا هي التي تغلب عىل طابع التذكر‬ ‫ذاك‪ ،‬ففي «يأس مشمس» مثلام يف «أقىص الغموض»‪،‬‬ ‫فإن الصمت يكاد يكون صوت اليأس املد ّوي يف القصائد‪،‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫«صار يل يأس مشمس» و»ألن اسمي ليس ألحد ‪ُ /‬‬ ‫لِ َم ال أتخىل عنه للهاوية» ‪ ..‬إنه اليأس الذي كأنه والعزلة‬ ‫وجها عملة قدمية‪« :‬األجمل يف السجن أن نعتزل العامل‬ ‫والناس»‪.‬‬ ‫هكذا‪ ،‬يصري الصمت حاضنة لإلحساس بالذات والعامل‬ ‫وموقف منهام أيضا‪« :‬الصمت الذي حولك ميكنه أن‬ ‫يسعفك أكرث ‪ /‬لك أن تستمع إىل رصاخك القديم كلّه»‪.‬‬ ‫غري أن بالغة الصمت لدى حسن نجمي يف هذين البابني أما قصائد «جهة الحب» فهي‪ ،‬حقا‪ ،‬نتاج مخيلة‬ ‫تبلغ قمر اكتاملها يف قصيدته «دمعة»‪« :‬مل يكن يبيك‪ .‬مل عالقة حسية ومخيضة وملموسة بامرأة من لحم ودم‪،‬‬ ‫يكن يفكر يف البكاء‪ .‬لك ّن دمع ًة فاجأته‪ .‬كأنها تأخرت عن وتترسب من هذه املخيلة صور إيروتيكية عديدة‪:‬‬ ‫ذروتك كأيّلٍ ‪ / .‬كأن َّ‬ ‫ظل القبلة‬ ‫موعد‪ .‬كأنها مل تأت مع بكائها القديم‪ .‬كأنها جاءت تسبق «أر ِاك عالي ًة فأقفز إىل‬ ‫ِ‬ ‫بكاء قادما ‪ -‬كأنها مل تكن دمعة‪».‬‬ ‫يزيح عن خد ِّك حمرة الوشاح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لكن اليأس والصمت والعزلة‪ ،‬بوصفها‬ ‫وأخف ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫أستخلصك‬ ‫أخف‪.‬‬ ‫‪/‬‬ ‫ِ‬ ‫جميعا أحاسيس ومشاعر فردية‪،‬‬ ‫إ ّيل»‪.‬‬ ‫القصائد بكل ما‬ ‫مع‬ ‫وليس ثيامت أو أفكار‪ ،‬تتداخل‬ ‫وألن هذه القصائد أيضا‬ ‫تتضمنه من صور‬ ‫مشاعر أخرى متناقضة – متآلفة يف‬ ‫يطل عىل‬ ‫هي تأمالت «رجل ّ‬ ‫اآلن نفسه‪« :‬هذا التذكر الذي يعاقب‬ ‫شعرية هي تعبير عن‬ ‫الخمسني»‪ ،‬فهي قامئة عىل فعل‬ ‫النسيان‪ .‬وهذا االغتباط ييضء وجهي‪.‬‬ ‫تذكري أساسا‪ ،‬ما يعني أنها‬ ‫حالة ذاكرة ثقافية ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫كأنه وجه ميِّتبال عزاء» هي مشاعر‬ ‫حالة إنسانية يقوم الشعر هنا‬ ‫شعرية وقد امتزجت‪،‬‬ ‫معا‬ ‫املوت والغبطة إذ هام يتغذّيان‬ ‫بإحالتها إىل صور بعد أن قامت‬ ‫حتى تلك التي تتناول‬ ‫من حالة غري متصالحة بني التذكّر‬ ‫الذاكرة الشخصية برتميم هذه‬ ‫والنسيان‪.‬‬ ‫عالقة الرجل بالمرأة‬ ‫الصور‪.‬‬ ‫وإذا كان مزاج «يأس مشمس»‬ ‫يف الوقت نفسه يشعر املرء‬ ‫يؤسس لحالة شعورية محددة‬ ‫وكأنها قصائد جاءت من مخيّلة‬ ‫بنزوع‬ ‫فإن «أقىص الغموض» يبرش‬ ‫اإلحساس بالخواء أو الفراغ الذي يعقب الفراغ من‬ ‫الشاعر حسن نجمي إىل «اللعب» مع «شكل»ين من‬ ‫الجنس حيث «مل يبق ما يُقال»‪ .‬فتجد هذه القصائد‬ ‫قصيدة النرث العربية والتجريب بهام‪ :‬السطرالشعري‪ ،‬ثم اكتاملها يف القصيدتني «رصيف آخر» وسابقتها «أذى‬ ‫كتابة الشعر بالنرث عىل الصفحة بدءا من الهامش وانتهاء‬ ‫الحب‪.‬‬ ‫صمت‪ .‬يف هدو ٍء‬ ‫كالحب»‪« :‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫شاحب ‪ -‬يبلغان ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫بالهامش املقابل للصفحة حيث تنبني القصيدة‪ ،‬هنا‪ ،‬من‬ ‫الزمن ّ‬ ‫بشغف ّ‬ ‫كتف‪ .‬يصالن‬ ‫بربو ٍد‪.‬‬ ‫حط ْت عىل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أقل‪ .‬بيد ِ‬ ‫الجملة فالفقرة ثم الفقرات التالية ‪ ..‬وهكذا‪.‬‬ ‫الحب ‪ -‬يؤذيان أحدهام اآلخر»‪.‬‬ ‫إىل ّ‬ ‫يف الوقت نفسه يعيد «الشاعر» كتابة ذاته من خالل‬ ‫ويف «قصائد برتغالية» يتوقف املرء مطوال عند قصيدة‬ ‫‪90‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫أذى كالحب‬ ‫ً‬

‫«كازّا دي ماتيوس»‪ .‬هل هي شعر‬ ‫حقّا؟ أتنتمي إىل قصيدة النرث؟ أم أنها‬ ‫خليط من جنسني آخرين‪ :‬السرية‬ ‫الذاتية واليوميات؟ أم هي اقتطاع من‬ ‫رواية مكتوبة بنرث حميم ومشهديات‬ ‫رسدية محضة قامئة عىل التذكّر‪،‬‬ ‫وتذكِّر بعض اليشء باقتطاعة من‬ ‫روايات الغرائبية السحرية الالتنينية؟‪.‬‬ ‫وما يجعل اإلجابة عن أي من هذه‬ ‫األسئلة فعال خ َِطرا بالفعل هو أنها‬ ‫تتأثر بالتأكيد بإرث قرايئ شخيص‬ ‫لدى قارئها‪ ،‬إرث بات اآلن مزيجا من قراءات شعرية‬ ‫مرتجمة أو غري مرتجمة من ثقافات العامل‪ .‬لكن مع ذلك‬ ‫ميكن البحث يف اإلجابة عن السؤال الثاين من بني ما هو‬ ‫مطروح يف الفقرة السابقة‪ ،‬حيث من املمكن القول أنها‬ ‫قصيدة مكتوبة بالنرث وتتفق مع ذائقة قراءة هذا النوع‬ ‫الشعري يف مراحله املتطورة والراهنة‪ ،‬لكنها قد تكون‬ ‫عىل النقيض من ذلك بالنسبة لقارئ عريب حتى لو كان‬ ‫متعاطفا مع قصيدة النرث‪.‬‬ ‫مثة اتجاه يف قصيدة النرث ‪ -‬ال يقترص حضوره عىل الثقافة‬ ‫الغربية وحدها بل حتى يف ثقافات مجاورة مثل الثقافة‬ ‫الهندية – جعل من حضور اليوميات والرسديات بل‬ ‫وحتى املقالة والتي تكون أحيانا ناشفة متاما من أي‬ ‫تشبيه أو استعارة‪ ،‬جعلها جميعا «رضورة شعرية»‬ ‫لقصيدة النرث‪ ،‬وهذه التجربة القصيدة «كازّا دي ماتيوس»‬ ‫تنتمي إىل هذا النوع من الجدل الشعري الراهن غري‬ ‫املوجود حتى اآلن يف الثقافة العربية إال متناثرا يف قصائد‬ ‫هنا أو هناك‪.‬‬ ‫إنها القصيدة األكرث إثارة للجدل يف «أذى كالحب»‪ ،‬أو أنها‬ ‫عىل األقل من املمكن أن تكون كذلك لو توفرت اإلرادة‬ ‫الثقافية العربية الحقيقية إلثارة جدل حول قصيدة‬ ‫النرث عربيا دون مواقف مسبقة أكانت إيديولوجية أم ال‬ ‫وتستطيع وبذهن صاف قادر عىل التمييز بني القصيدة‬ ‫التي ت ُكتب خارج الوزن وبأشطر شعرية والقصيدة التي‬ ‫ت ُكتب حقا بالنرث والتي متثّل بحثا جامليا مختلفا متاما‬

‫عن القصيدة املوزونة بفرعيها العمودي‬ ‫والتفعيلة والقصيدة التي ت ُكتب مبنأى‬ ‫عن النرث وتنشغل بالشعر أكرث مام تنشغل‬ ‫بالصورة الشعرية‪.‬‬ ‫عىل أية حال‪ ،‬فإذا كانت «يوميات إيطالية»‬ ‫هي استعادة من نوع ما ل»جهة الحب»‬ ‫من حيث مناخاتها وأجوائها‪ ،‬فإن الباب‬ ‫األخري من الديوان هو األقرب إىل القلب‪،‬‬ ‫رمبا ألنها تجعل الشخص السارد يف القصيدة‬ ‫والقارئ يعيشان التجربة ذاتها يف أفق‬ ‫التلقي‪.‬‬ ‫يف «يوميات إيطالية ندرة من التشبيهات واالستعارات‪،‬‬ ‫تلك التي تجعل القول شعريا‪« :‬نتبادل القبالت كام يُتبادَلُ‬ ‫األرسى»‪ ،‬لكن هناك بناء ملشهدية شعرية متكاملة‪ ،‬مبعنى‬ ‫أن وحدة البناء األساسية ليس يف الصورة الشعرية بل يف‬ ‫انثياالت جمل تتاىل وفقا ملنطق رسدي خاص بها بل يخص‬ ‫كل قصيدة عىل حدا‪ .‬لنتأمل هذه االقتطاعة من قصيدة‬ ‫«رخام – هنا يتكلم الحجر» املهداة إىل النحاتة األردنية منى‬ ‫السعودي‪:‬‬

‫«رخامها ساخن‪ .‬ميلؤها ضوء الظهرية بالحياة‪.‬ظاللها مثلة‬ ‫وتعربها عتمة غزيرة الخمرة‪ .‬قد غمرتها ذبذبات الشغف‬ ‫فمدت رخام يديها َ‬ ‫إليك»‪.‬‬ ‫أما يف «جهة ّ‬ ‫الظل» فإن منطق قراءة املايض الشخيص‬ ‫هو املثري لالهتامم بحقّ ‪« :‬مل نقتسم شيئا غري خوفنا ايل‬ ‫تبادلناه من بعيد‪َ / .‬‬ ‫الكلامت التي ف ّكرنا أن نقولها‬ ‫تلك‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫انتعطفت –‬ ‫ومل نقلها‪ / .‬إحساس بندم صغري‪ .‬منذئ ٍذ‬ ‫رصت أعرث عىل معنى لصمتي‪ / .‬أسمع ما يقوله القمر‬ ‫للمياه يف قيعان اآلبار»‪.‬‬

‫أخريا‪ ،‬فإنه لو أتيح لكاتب هذه السطور أن يعيد تسمية‬ ‫الكتاب القتطع هذه العبارة من قصيدة «العائلة» من باب‬ ‫تطل عىل‬ ‫«جهة الظل» لتكون عنوانا للكتاب‪« :‬كأنها رشفة ّ‬ ‫كالحب» رغم جامليته‬ ‫األبدية» بدال من «أذى‬ ‫ّ‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪91‬‬


‫عالمات‬

‫«عواء» ألن غينسبرغ‬ ‫ايقونة جيل‬

‫عام ‪ 1955‬كتب الشاعر األميركي آلن غينسبرغ قصيدته الشهيرة "عواء"‪ .‬تلك القصيدة ‪ ،‬كانت كافية‬

‫ً‬ ‫رأسا على عقب في أميركا‬ ‫لتكريس صاحبها وقلب المشهد الشعري والنقدي‬

‫محمد الحجيري‬

‫أدهشت‬

‫قصيدة «عواء» بلغتها الساخطة‬ ‫الصادقة الوسط الثقايف ورمبا‬ ‫السيايس‪ ،‬وانقسم حولها النقاد‪ ،‬بعضهم اعتربها «خطبة‬ ‫تقريع مسهبة تك ّن العداء لكل من ال يُشارك الشاعر‬ ‫أصوله اإلجتامعية والجنسية»‪ ،‬وآخرون أقروا بأنها‬ ‫«استطاعت قلب معايري الشعر األمرييك التقليدي يف‬ ‫الخمسينات»‪ .‬عبرّ غينسربغ يف قصيدته عن مخاوفه‬ ‫وقلقه وهواجسه من الحرب والتلوث البيئي والقمع ‪،‬‬ ‫كان الناطق باسم جيل كامل‬ ‫وأصبح قائدا ً بارزا ً يف حركة‬ ‫«البيتنكس»( ترجمت إىل‬ ‫العربية «الجيل املنهك»‪،‬‬ ‫«جيل الرصخة»‪« ،‬الجيل‬ ‫الهاميش» إلخ) الشعرية وذلك‬ ‫لقوة قصيدته الساخرة وصوتها‪ ،‬التي‬ ‫جاءت لتعبرّ متاماً عن املنطق الثوري‬ ‫لهذه الحركة‪ ،‬وعن نزعتها الرومانسية‬ ‫والراديكالية ضد الحرب‪ ،‬ومن شاعر‬ ‫ساهم يف تنظيم العديد من التظاهرات‬ ‫امل ُناهضة للحرب الفيتنامية‪ ،‬ويف الرتويج السرتاتيجية‬ ‫أسامها «نفوذ الزهرة»‪ ،‬حيث يسعى املتظاهرون من‬ ‫خاللها إىل تعزيز قيم السالم واملحبة والتسامح‪.‬‬ ‫«عواء» (ترجمت اىل العربية بطرق مختلفة تراوحت‬ ‫بني «عواء» و«عويل» و«رصخة») وصدرت يف ديوان‬ ‫مع قصائد أخرى عام ‪ ،1956‬وظهرت أكرث من خمسني‬

‫‪92‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫قراءة نقدية يف أكرث من خمسني كتاباً عىل مدى أكرث من‬ ‫نصف قرن‪ .‬وال تزال القصيدة تستهوي كثريا ً من الشعراء‬ ‫العامليني‪ ،‬وتحظى برتجامت من هنا وهناك‪ .‬يف العامل‬ ‫العريب‪ ،‬هناك أكرث من ترجمة لهذه القصيدة‪ ،‬من بينها‬ ‫ترجمة مجتزأة للشاعرة اللبنانية أمال نوار نرشت عىل‬ ‫بعض مواقع اإلنرتنت‪ ،‬وترجمة ألحمد عمر شاهني صدرت‬ ‫عن دار سندباد‪ ،‬وأخرى للشاعر العراقي الراحل رسكون‬ ‫بولص نرشت يف مجلة «الكرمل» عام ‪1992‬‬ ‫وتستعد «دار الجمل» إلصدارها يف كتاب‬ ‫مع قصائد أخرى‪ .‬وكان املخرجان روب‬ ‫إبشتني وجيفري فردمان صورا فيلامً‬ ‫عن حكاية «عواء»‪ ،‬يعترب احتفاء‬ ‫باللغة اىل جانب توثيق حياة الشاعر‬ ‫وقصيدته امللحمية‪ .‬ويتبدى هذا االحتفاء‬ ‫غري املعهود من هوليوود مبوضوع مثل اللغة‬ ‫والشعر‪ ،‬يف حوار املدعي العام واستاذ جامعي‪.‬‬ ‫إذ يطلب االدعاء العام بكل علياء القانون وسطوته‬ ‫أن يرشح االستاذ مقطعاً من قصيدة‪ .‬فيجيبه اإلستاذ‬ ‫الجامعي بأدب‪« :‬سيدي‪ ،‬الشعر ال ميكن ان يُرتجم‬ ‫وجسد املمثل‬ ‫اىل نرث‪ .‬وهذا هو السبب يف كونه شعرا ً»‪ّ ،‬‬ ‫األمرييك جيمس فرانكو دور غينسربغ‪.‬‬

‫قنبلة زمنية‬

‫قصيدة «عواء» كأنها أيقونة غينسربغ الذي اشتهر‬ ‫بالقصائد أكرث من الدواوين‪ ،‬أو هو من الشعراء الذين‬


‫ألن غينسبرغ‬

‫ارتبطت شهرتهم بإسم قصيدة بعينها‪،‬‬ ‫ال بإسم هذا الديوان الشعري أو ذاك‪.‬‬ ‫«عواء» أوالً و«قاديش» (االسم كناية‬ ‫عن الصالة اليهودية التي تقام عىل روح‬ ‫املوىت) ثانياً و»أمريكا» ثالثاً‪ ،‬قصائد من‬ ‫بني مجموعة أعامل غينسربغ الكاملة‪ ،‬متحورت حولهم‬ ‫معظم الدراسات النقدية التي تناولت تجربته الشعرية‬ ‫وحياته‪ .‬عىل أن األولوية يف اإلهتامم ظلّت من نصيب‬ ‫«عواء» لـ»كونها الحجر األساس يف تجربة شعرية شاهقة»‬ ‫بحسب الشاعرة اللبنانية أمل نوار‪ ،‬وتضارع قصيدة‬ ‫«األرض اليباب» إلليوت من حيث أه ِّميَّتها ورمزيَّتها‪.‬‬ ‫يف إحدى املقابالت الصحفية عبرّ غينسربغ عن شعوره‬ ‫لحظة كتابته القصيدة‪« :‬اعتقدت أين لن أكتب قصيدة‪،‬‬ ‫بل ما أردت كتابته فحسب‪ ،‬من دون خوف‪ ،‬أطلق العنان‬ ‫ملخيلتي‪ ،‬أفضح رسيّتي‪ .‬أخربش سطورا ً سحريّة من ذهني‬ ‫الحقيقي أستخلص فيها حيايت‪ ،‬وأكتب شيئاً لن يكون يف‬ ‫وسعي عرضه عىل أحد‪ ،‬أكتب ألُذنِ روحي أنا‪ ،‬ولقليلٍ‬ ‫من اآلذان الذهبية األخرى»‪ .‬يف مقدمته املنشورة لطبعة‬ ‫كنت مهتامً برتك‬ ‫‪ 1986‬يكتب‪« :‬من خالل نرش «عواء»‪ُ ،‬‬ ‫قنبلة عاطفية زمن ّية وراء جييل‪ ،‬ال تتوقف عن االنفجار‬ ‫يف الوعي األمرييك‪ .»....‬كان مؤمناً بأهمية ما يكتب‪ ،‬لذلك‬ ‫أرسل نسخاً من «عواء» إىل‬ ‫اهت ّم برتويج قصيدته ونفسه‪َ ،‬‬ ‫كبار أدباء عرصه‪.‬‬ ‫«عواء» القصيدة هي صوت الجامعة املضادة للحرب‬ ‫وأنشودة طويلة مهداة إىل «كارل سولومون» الشاعر‬ ‫الدادايئ املغمور الذي التقاه غينسربغ عام ‪ 1948‬إبّان‬ ‫تلقيه العالج يف أحد مراكز الطب النفيس‪ .‬كان قد م ّر يف‬ ‫ذلك املصح كام كان قد مر به أيضاً الروايئ جاك كريواك‬ ‫صاحب أشهر عمل روايئ وقتها «عىل الطريق» (أو «يف‬ ‫الطريق» بحسب رأي الباحث وضاح رشارة)‪ ،‬سيقول‬ ‫يل جعلني أقرر أن أكون‬ ‫غينسربغ «إن تأثري كريواك ع ّ‬ ‫كاتباً»‪ ،‬وكريواك كان الشخص األول الذي بعث إليه‬ ‫نصحه صديقه يف‬ ‫غينسربغ باملسودات األوىل لـ»عواء»‪َ .‬‬ ‫إحدى رسائله باالحتفاظ بعفوية الكتابة وتدفقها من‬ ‫دون شطب وتدقيق‪ .‬مل ميتثل غينسربغ لنصيحة أحد‪ .‬أما‬

‫سولومون وباعرتاف غينسربغ هو مصدر‬ ‫الوحي املبارش لـ»عواء»‪ ،‬إذ أن أفكاره‬ ‫ومفاهيمه التقدمية حول ما تقتضيه‬ ‫الطبيعة املعارصة للشعر األمرييك‪ ،‬كان‬ ‫لها وقعها يف نفس غينسربغ‪ ،‬وال سيام يف‬ ‫خصوص رضورة توسيع آفاق الشعرية األمريكية‪ ،‬وترويضها‬ ‫عىل التنفس من رئة الواقع مع كل ما يتطلبه ذلك من‬ ‫جرأة وصدق يف التعبري‪ ،‬وقدرة وقابلية عىل رفض السائد‪.‬‬

‫رس القصيدة‬

‫كان غينسربغ يكتب الشعر من خالل استلهام مصادر‬ ‫عدة‪ ،‬فهو بعدما تقرب من البوذية والفلسفات الرشقية‪،‬‬ ‫الغنوصيّة والهندوسية والصوفية‪ ،‬إضافة إىل اهتامماته‬ ‫امليتافيزيقية األخرى‪ ،‬ألقى محارضات عدة يف الجامعات‬ ‫األمريكية حول موضوع الرياضة التأملية وخصوصاً رياضة‬ ‫«الشاماذا» وأهميتها لكونها وسيلة خارقة الستنهاض وعي‬ ‫الذات واستدراجها إىل الكتابة‪.‬‬ ‫مل يشأ غينسربغ لـ»عواء» أن تحقق نجاحها كقصيدة‬ ‫عادية‪ ،‬لذا حشدها مبرجعيات شخصية ال يعرفها إال‬ ‫املقربون منه‪ .‬وتتناول مواقف مستقاة من تجربة الشاعر‬ ‫وتجارب جامعته من الشعراء والفنانني وأباطرة موسيقى‬ ‫الجاز ‪ ،‬وفيها إشارات إىل عدد من أصدقائه مثل نيل‬ ‫كاسيدي‪ ،‬وجاك كريواك‪ ،‬ووليم بوروز‪ .‬وتو ِّجه القصيدة‬ ‫نقدا ً للصناعية األمريكيّة وهي مفعمة باإلشارات عن‬ ‫أماكن وبارات ومطاعم ومحطات مرتو معروفة‪ ،‬وتتطلب‬ ‫ترجمتها الكثري من الجهد لرشح الكثري من هذه االشارات‬ ‫التي قد تتطلب عرشات الصفحات‪ ،‬وهذا ما يشري إليه‬ ‫الشاعر رسكون بولص قائالً‪« :‬هي قصيدة مليئة بأسامء‬ ‫األماكن‪ ،‬وال ميكن لك أن تفهم هذه األشياء ما مل تذهب‬ ‫إىل سان فرانسيسكو بالتحديد فهي مكتوبة هناك «‪.‬‬

‫أبيات «عواء» األوىل هي األشهر يف الشعر األمرييك‬ ‫«رأيت َ‬ ‫ُ‬ ‫أفضل العقولِ يف جييل وقد دمرها‬ ‫املعارص‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫يجرجرون أنفسهم‬ ‫الجنون‪ ،‬يتض ّورون عرا َة و ُمه َْسرتين‪/‬‬ ‫عرب شوارع زنجي ٍة يف الفجر باحث َ‬ ‫ني عن إبر ِة مخ ّد ِر‬ ‫ساخطة»(من ترجمة رسكون بولص)‪.‬‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪93‬‬


‫عالمات‬

‫يشري غينسربغ إىل حال اليأس التي خيّمت عىل نفوس‬ ‫الشبان يف أعقاب الحرب‪ ،‬وال يقول لنا بوضوح يف بداية‬ ‫القسم األول ما الذي دمرهم‪ ،‬عىل الرغم من إيراده‬ ‫للكثري من التلميحات‪ .‬معظم األبيات تبدأ بكلمة‬ ‫«الذين»‪ ،‬يليها الفعل‪.‬‬ ‫يف الجزء الثاين يلفت الشاعر إىل دوافع السخط اإلنساين‬ ‫رش‬ ‫واإلحباط العام لدى الشباب‪ ،‬إذ يشخّص مصادر ال ّ‬ ‫جميعها‪ ،‬من البريوقراطية السياسية إىل الخضوع لألعراف‬ ‫والتقاليد‪ ،‬إىل تفشيّ النزعة املادية يف الفكر وسيطرة‬ ‫التكنولوجيا الحديثة وغريها‪.‬‬ ‫يف الجزء الثالث واألخري يحتفي الشاعر بانتصاره عىل‬ ‫«مولوخ» وتحرره من سيطرته عىل هويته العاطفية‬ ‫والجنسية‪ ،‬ويتصدى لكارل سولومون‪ ،‬الصديق الحميم‬ ‫لغينسربغ والذي كان نزيالً يف معهد الطب النفيس‪ .‬ويشري‬ ‫الشاعر إىل هذا املستشفى الخاص باألمراض النفسية‬ ‫بإسم «روكالند»‪ .‬وهو يعبرّ عن تضامنة مع صديقة برتديد‬ ‫عبارة «أنا معك يف روكالند» أكرث من مرة‪.‬‬

‫‪94‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫واستفاد غينسربغ يف هذا الجزء من تأثره بالفن التشكييل‪،‬‬ ‫خصوصاً عند الرسام الفرنيس بول سيزان‪ ،‬فالفجوات بني‬ ‫معاين الكلامت املوضوعة جنباً إىل جنب‪ ،‬مرتوكة ليكملها‬ ‫القارئ من عنده‪ ،‬وهي تشبه الفراغ يف اللوحة بني شكل‬ ‫وآخر‪ ،‬أو بني لون وآخر‪.‬‬ ‫تع ّرض ديوان «عواء» للمصادرة عام ‪ 1957‬عىل يد رشطة‬ ‫سان فرنسيسكو‪ ،‬فضالً عن أنها أدّت إىل محاكمة الشاعر‬ ‫لورنس فريلنغيتي عىل نرش القصيدة‪ ،‬بتهمة ترويج‬ ‫البذاءة واملجون‪ ،‬إال أن القايض حكم برباءة الشاعر الذي‬ ‫كان ميلك مكتبة‪ ،‬وأُحيل غينسربغ نفسه إىل املحاكمة‬ ‫بسبب تلك املجموعة اعرتاضاً عىل ما تضمنته من آراء‬ ‫رصيحة حول قضايا مل َّحة عدة‪ ،‬وكان لوقوف الجامعات‬ ‫املدافعة عن حرية التعبري إىل جانبه األثر الكبري يف براءته‬ ‫يف املحكمة التي قالت «إن تلك املجموعة الشعرية‬ ‫تناقش قضية اجتامعية مل َّحة ومهمة»‪ ،‬األمر الذي أدّى‬ ‫إىل السامح بتوزيع «عواء وقصائد أخرى» بعد صدور‬ ‫الحكم القضايئ الخاص بنقض الدعوى القضائية‪.‬‬ ‫وال ب َّد من اإلشارة اىل أن كاتب مقدمة هذه املجموعة‬ ‫الشعرية هو وليم كارلوس وليمز‪ ،‬ومام جاء فيها‪:‬‬ ‫«مل أتوقع أبدا ً أن يصبح ألن غينسربغ ناضجاً ويكتب‬ ‫مجموعة شعرية‪ ،‬لقد أذهلتني قدرته عيل االستمرار‬ ‫والسفر ومتابعة الكتابة‪ ،‬وكان مدهشاً حتى بالنسبة ا َّيل‬ ‫استمراره يف تطوير فنه وإيصاله اىل الذروة‪ ،‬واآلن بعد ‪15‬‬ ‫أو ‪ 20‬عاماً ها هو غينسربغ ينبثق بقصيدة مدهشة…‬ ‫لقد عرب الجحيم… هذا مؤكد»‪ ،‬وأضاف‪« :‬عندما كان‬ ‫فتى وكنت أكرث شباباً‪ ،‬عرفت ألن غينسربغ شاباً يسكن‬ ‫يف باترسون يف نيوجريس حيث ُولد وكرب وكان ابناً لشاعر‬ ‫ذائع الصيت‪ .‬كان جسدياً ذا بنية نحيلة وكان فكرياً قلقاً‬ ‫بالحياة التي كان يواجهها»‪.‬‬ ‫بعض النقاد األمريكيني أطلقوا عىل «عواء» مسمى‬ ‫«القصيدة املعجزة» ألنها كانت أشبه ما تكون بحجر‬ ‫الزاوية يف تجربة غينسربغ الشعرية‪ ،‬ووصفها الناقد بيل‬ ‫مورغان يف كتابه «أنا أحتفي بنفيس» بأنها «القصيدة التي‬ ‫صنعت األسطورة فدخلت ذاكرة األدب الشعبي لحظة‬ ‫والدتها»‬


‫ذاكرة الشعر‬

‫التيجاني يوسف بشير‬

‫الصوفي‬ ‫ً‬ ‫المعذب‬

‫التيجاني يوسف بشير شاعر شغل السودان على مدار السنين وجعل ديوانه الوحيد الذي أصدره‬ ‫مثارا للدراسات والقراءة‪ ،‬ورغم سنين عمره القصيرة فقد استطاع أن ينتج ديوانا ضم قصائد‬ ‫مختارة جمعها وحده‪ ،‬واختار له اسم «إشراقة»‪ ،‬فخلدت به وخلد بها‬

‫أحمد‬

‫من دون أن تبدو عليه أي دالئل لنبوغ أو متيز‪ ،‬وبعدها‬ ‫التيجاين بن يوسف بن بشري بن اإلمام‬ ‫جزري الكتيايب‪ ،‬الشاعر السوداىن املعروف انضم التيجاين إىل املعهد العلمي بأم درمان‪ ،‬الذي‬ ‫يد ّرس الفقه والبالغة وعلوم التوحيد واألدب‪ ،‬وال يقدم‬ ‫ولد يف بيئه ذات فضل وثقافة دينية محافظة‪ ،‬وكان‬ ‫مولده يف أم درمان عام ‪1912‬م‪ .‬وانعكست هذه الثقافة العلوم الحديثة مثل الجغرافيا والتاريخ وغريها املتوفرة‬ ‫يف املدارس االبتدائية األخرى التي يدخلها أبناء األرس‬ ‫عىل شعره الصويف‪.‬‬ ‫أُ ِ‬ ‫دخل التيجاين الخلوة كبقية أقرانه لحفظ القرآن الكريم الغنية‪ ،‬وألن املعهد العلمي يقدم خدماته مجاناً‪ ،‬التحق‬ ‫به التيجاين ملواصلة تعليمه‪ ،‬ومل يكن غريباً أبدا ً أن يكون‬ ‫والحديث الرشيف‪ ،‬وليتعلم القراءة والكتابة بأم درمان‪،‬‬ ‫نبوغ التيجاين وجل اهتاممه منحرصا بحقل اآلداب دون‬ ‫ولعل ابن يوسف صور الكثري عن الخلوة التي كان‬ ‫العلوم األخرى‪.‬‬ ‫يرتادها وصور معها اختالجات نفسه من خالل قصيدة‬ ‫أحب التيجاين املعهد العلمي بسبب اإلهتامم الذي‬ ‫«الخلوة» التي وصف فيها تفاصيل حياة الصبي الذي‬ ‫وجده من أساتذته وعىل رأسهم أبو بكر محمد عيل‬ ‫ينهض متكاسالً ليقطع عليه أيام لهوه ولعبه ويكون‬ ‫تحت رحمة الدروس والحفظ واملسؤولية والشيخ الذي ال عليم وغريه من املعلمني‪ ،‬وكلهم تركوا بصامت واضحة‬ ‫عىل شخصيته‪ ،‬وشجعوا كتاباته ووضعوه عىل بداية‬ ‫يرحم‪ .،‬ويصف التيجاين هذه اللحظات بقوله ‪:‬‬ ‫هب من نومه يدغدغ عينيه مشيـــحاً بوجهه يف الصباح الطريق‪.‬‬ ‫ومىش بارماً يدفع رجلــــــــــــيه ويبيك بقلبه امللــــتاح كان التيجاين مولعاً بالشاعر أحمد شوقي وله رأي واضح‬ ‫ضمخت ثوبه الدواة وروت رأسه من عبـــــريها الفياح يف كتابات حافظ إبراهيم‪ ،‬ولعل أحد آرائه يف هذا الشأن‬ ‫هو الذي عجل بفصله من املعهد العلمي‪ ،‬ألنه ذكر يف‬ ‫ومرت مرحلة الصبا بكل بؤسها وصخبها عىل الشاعر‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪95‬‬


‫ذاكرة الشعر‬

‫إحدى املناقشات مع زمالئه يف املقارنة بني شوقي وحافظ‪ :‬الحالة بعد أن أصيب بداء الصدر يف آخر أيام عمره‬ ‫وفرض عليه عزلة إضافية ‪.‬‬ ‫« إن الفرق بني شعر شوقي والبقية مثل املقارنة بني‬ ‫القرآن وأي كتاب برشي»‪ ،‬فتم تحوير حديثه هذا بقولهم إذن فإن املرتكز األسايس الذي قاد التيجاين إىل أربع‬ ‫مراحل عقدية يف حياته كام ذكر الناقد عبد الله الشيخ‬ ‫إن التيجاين ذكر أن كتابات شوقي أفضل من القرآن‬ ‫الكريم‪ ،‬وكان هذا سبب طرده من املعهد العلمي والذي البشري‪،‬الذي قال إن التيجاين مر بأربعة أطوار هي‪ :‬مرحلة‬ ‫اإلميان التقليدي الهادئ‪ ،‬ومرحلة تزعزع اإلميان نتيجة‬ ‫كان رضبة قاصمة له ولطموحه‪.‬‬ ‫وهو ما دفعه ليكتب قصيدته «املعهد العلمي» فيام بعد اطالعه عىل كتب الفالسفة والتي استدل عليها بقصائد‬ ‫«قلب الفيلسوف» و»أنبياء الحقيقة»‪ ،‬ومرحلة الشك‬ ‫والتي سكب فيها كل وجعه عىل ما حدث حني قال‪:‬‬ ‫املجتاح من خالل قصائده «ودعت أميس‪ ،‬يؤملني شيك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف���ي���ك ِم���ن أَس��ب��اب��ه‬ ‫ف��ي��ك َو‬ ‫ال��س��ح��ر‬ ‫الصبي العابد وحرية»‪ ،‬ومن ثم مرحلة اإلميان الكامل‬ ‫َدع�����ة امل�����دل بِ��� َع���ب���ق���ري شَ ��ب��اب��ه‬ ‫و»الله»‪.‬‬ ‫من خالل قصيدة «الصويف املعذب»‬ ‫ي��ا َم��ع��ه��دي َو َم���ح���ط َع��ه��د ِص��ب��اي‬ ‫وكان التيجاين يحمل فقره مسؤولية الحال التي وصل‬ ‫ِم���ن دار تَ���ط��� ُرق َع���ن شَ ��ب��اب نابه‬ ‫إليها ويؤكد أنه السبب الرئيس لبؤسه وتعاسته‪ ،‬وقد ذكر‬ ‫َ‬ ‫َ���ي���ك يف أَق����داره‬ ‫ق��س��م ال��بَ��ق��اء إِل‬ ‫ذلك يف أكرث من موضع يف ديوانه‪ ،‬حيث قال يف قصيدة‬ ‫َم���ن ش���ا َد َم��ج��دك يف قَ��دي��م كِتابه‬ ‫«ثورة»‪:‬‬ ‫َوأَ‬ ‫َ‬ ‫ف��ي��ك ِم���ن ال�� َه��دى آي��ات��ه‬ ‫ف������اض‬ ‫َ‬ ‫حسب قلبي من األســــــى ما أالقـــي‬ ‫َو ِم���ن ال�� َه��وى َوال��س��ح��ر م��لء نِصابه‬ ‫م�����لء ج��ن��ب��ي م����ن ك��ل��ال وأي����ن‬ ‫ثم مييض ليصور الحادثة ‪:‬‬ ‫وب���ح���س���ب���ي م����ن ح����اج����ة ع���وز‬ ‫فَ��أَع��ي��ذ ناشئة ال��تُ��ق��ى أَن يرجفوا‬ ‫يدفــــع نفســـي إىل فـــــراق وبيـــن‬ ‫بِ��فَ��ت��ى يمَ����ت إِلَ����ي���� ِه يف اح��س��اب��ه‬ ‫رغم بؤسه م ّجد التيجاين الفقر يف كثري من قصائده‪،‬‬ ‫م��ا زِل��ت أَك�َب�رَ يف ال��شَ ��ب��اب َوأَغ��تَ��دي‬ ‫إال أن ذلك يعترب حالة من التالطم والتاموج والتقلبات‬ ‫��ي�ن ب��خ َوي����ا َم��رح��ى بِ�� ِه‬ ‫َوأَروح بَ َ‬ ‫التي عاشها ليتعايش مع فقره ورضورة استمرار الحياة‪،‬‬ ‫َ��س��ت أَول كَ��وكَ��ب‬ ‫َح��تّ��ى َرم��ي��ت َول‬ ‫ُ‬ ‫ولعل بعض األمثلة عىل هذا قوله يف قصيدة «قلب من‬ ‫نَ��ف��ث ال�� َزم��ان َع��لَ��ي�� ِه فَ��ض��ل ِشهابه‬ ‫ذهب»‪:‬‬

‫الفقر والعزلة‬

‫يف الوقت الذي يرى فيه الكثري من النقاد أن التيجاين‬ ‫يوسف بشري استطاع أن يتعايش مع فقره‪ ،‬ويفلسفه‬ ‫تارة ويسخط عليه تارة أخرى‪ ،‬إال أننا نجد أن الفقر‬ ‫من العوامل األساسية التي أثرت تأثريا ً مبارشا ً عىل نظرة‬ ‫التيجاين للحياة‪ ،‬ومن ثم التأرجح بني الشك واليقني يف‬ ‫كثري من الحاالت‪ ،‬هو يف األصل ينطلق من حالة الفقر‬ ‫املدقع التي كان يعيشها والحاجة التي حرمته من تحقيق‬ ‫طموحاته ومواصلة مشواره‪.‬‬ ‫ولعل الفقر يفرس الكثري من الضيق والعزلة التي كان‬ ‫يعيشها التيجاين‪ ،‬وهي التي جعلت صدره ضيقاً‪ ،‬وازدادت‬ ‫‪96‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫أينا لو عدلت يكتنز العامل يف صدره ويف تفكيــــــره؟‬ ‫أينا يزحم الوجود جناحيه ومتيش الحياة بني ضمريه؟‬

‫ويف قصيدة «هوى وفقر»‪:‬‬ ‫ويل يف ك��ن��وز ال���روح س��ل��وى وغنية‬ ‫ب��ح��س��ب��ي ال خ��ل��ف ل��دي��ه��ا والم��ط��ل‬ ‫وح��س��ب��ي ال أث���ري���ت م��ن��ه��ا وإن��ن��ي‬ ‫ل��ي�صرف ن��ف�سي ع��ن ن��ض��ارك��م شـغل‬ ‫وانطالقا من هنا ميكننا القول بأن التيجاين عاش حياة‬ ‫مليئة بالتناقضات‪ ،‬ولعب الفقر فيها دورا ً كبريا ً فهو الذي‬ ‫قاده لإلجتهاد ليتغلب عىل رصفائه ويثبت أفضليته‬ ‫ونبوغه ليتغلب عىل حاجز الفقر داخله‪ ،‬وعمل ليالً‬


‫التيجاني يوسف بشير‬

‫أضاف التيجاني ولعل ذلك يعيدنا إىل املحور األسايس يف حياته‪،‬‬ ‫أي الفقر الذي جعل الحب بالنسبة إليه ترفا‪،‬‬ ‫إلى التراث‬ ‫إذا ما استصحبنا معنا أنفة الشاعر وترفعه عن‬ ‫األدبى السودانى أن ينزلق بنفسه يف مهاوي املقارنة بني وضعني‬ ‫والعربى ديوانا اجتامعيني‪ ،‬فنمو الحب يف البيئات الفقرية يكون‬ ‫دامئاً مشوباً بالتوجس والدونية خصوصاً إذا كانت‬ ‫رائعا أسماه‬ ‫املحبوبة من طبقة غري التي ينتمي إليها أي‬ ‫«إشراقة» تسمت انسان‪ ،‬ويف قصيدة «هوى وفقر» يوضح الشاعر‬ ‫به الكثير من بنات نظرته الخاصة لهذا العامل‪:‬‬ ‫السودان في حينه َو َحسبي ال أَث َريت ِمنها َوإِنَّني‬ ‫لِ َيرصف نَفيس َعن نضاركم شُ غل‬ ‫َو َه���ل ك��ا َن م��ا أَس��م��و نَ��ض��ارا ً َوفُضة‬ ‫ونهارا ً ليوفر أساسيات معيشته ويبذل جهدا ً أكرب لتثقيف‬ ‫َوم���ا ك���اث َ���روا ال�� ُدن��ي��ا بِ��� ِه َو ُه����م قل‬ ‫نفسه مبا هو متاح من كتب‪ ،‬ووقف الفقر عائقاً يف طريق‬ ‫َوم��ا َوه��م��وا في ِه ال�� َزم��ان َولَ���م يَ�� َزل‬ ‫تحقيق أمنيته بالذهاب إىل مرص التي ظلت حلام يراوده‬ ‫حتى نهاية عمره‪ ،‬ولعلنا إذا نظرنا إىل أشعار التيجاين فإن‬ ‫يُ��ق��دس ِم��ن َرح�مان��ه العلم َوال َجهل‬ ‫أكرب رصخة سنجدها يف حرمانه من الوصول إىل هناك‪.‬‬ ‫ِس���وى ال�ت�رب َواط��أن��ا ِس��وان��ا فصكه‬ ‫َدن��ان�ير لَ��م يَ��أخُ��ذ بِ��ن��ارصه��ا ال�� َع��دل‬ ‫إشارات الحب‬ ‫ضَ لَلنا َوس��ايَ��رن��ا ِخ��داع��اً َوبَ��ه�� َرج��ا‬ ‫مل يثبت أبدا ً أن التيجاين تعلق بفتاة بعينها وذلك من‬ ‫َونَكب َع��ن نَهــج ال َحقيقة ِم��ن ضلوا‬ ‫عن‬ ‫خالل قصائده التي مل يكن فيها إال إشارات متباعدة‬ ‫أصابه مرض عضال‪ ،‬فرزح الشاعر تحت وطأة اآلالم‬ ‫وصف حبيبة تارة من القبط الذين يسكنون حي املساملة النفسيه والجسدية والروحية التي ظهرت يف شكل يشء‬ ‫املجاور لحيهم وتارة سودانية وتارة يهودية‪ ،‬فالتيجاين‬ ‫من الوسواس القهرى يف قصيدته (يؤملنى شكيّ ) ثم يصف‬ ‫شاعر مرهف الحس وبالتأكيد يبقى عاشقاً للجامل أينام حالته املرضيه يف آخر قصيدة كتبها وهو يصارع املوت‬ ‫كان‪ ،‬وقد ابتعد كثريا ً عن التوصيف الجسدي لألنثى‬ ‫إىل صديقه محمود أنيس بعنوان «فأحتفظها للذكرى» إذ‬ ‫اإلسمية‬ ‫وسام به بعيدا عن الحسيات‪ ،‬وتجنب اإلشارات‬ ‫تويف عام ‪ 1937‬م عن عمر مل يتجاوز ‪ 25‬عاماً فقط‪.‬‬ ‫إىل أنثى أو فتاة بعينها وآثر التعميم والتعمق يف وصف‬ ‫فقد مات شاباً وكتب شعره الرائع هذا وهو صغري مقارنة‬ ‫دالالت الجامل والسري مبحاذات فلسفته له‪ .‬كام أرسه‬ ‫باملبدعني الذين خاضوا التجارب عرشات السنني‪.‬ويؤكد‬ ‫ُحسن «النصارى» الذين كانوا يقطنون حي املساملة أو‬ ‫الشاعر العراقي فالح الحجية يف كتابه شعراء النهضة‬ ‫من خالل عمله يف رشكة «سينجر» التي كانت ترتادها‬ ‫العربية‪« :‬التيجاىن يوسف بشري ميتاز بروعة شعره وقوته‬ ‫خالل‬ ‫مختلف الجنسيات‪ ،‬وظهر ذلك جلياً يف شعره من‬ ‫ومتانته وجزالته‪ ،‬فإنه برغم قرص سنني عمره التي مل‬ ‫عدد من األبيات املتفرقة التي م ّجد من خاللها حسن‬ ‫تتجاوز الخمس والعرشين سنة أضاف إىل الرتاث األدىب‬ ‫املسيحيات وجاملهن‪.‬‬ ‫السوداىن والعرىب ديوانا رائعا أسامه «إرشاقة» تسمت‬ ‫ولقد تعلم الكنائس كم أنف مدل بها وخــــــــد مورد الكثري من بنات السودان يف حينه‪ ،‬يضم قصائد روعة يف‬ ‫ولقد تعلم الكنائس كم جفن منىض وكم جامل منضد‬ ‫اإلنشاد والبالغة والخيال»‬ ‫بعينها‬ ‫كان التيجاين محباً للجامل ومل يثبت تعلقه بفتاة‬ ‫اعداد الفاضل ابو عاقلة‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪97‬‬


‫تحقيق‬

‫الفنان يارس أبو الحرم‬

‫لحظة كتابة الشعر‬

‫بين اإللهام‬ ‫و اإليهام‬

‫تبدو لحظة الخلق الشعري أو ما يحفز‬ ‫لقطتنا الشعرية لالعالن عن نفسها‬ ‫بحرية سهلة عندما نتحدث عنها‪ ،‬ولكنها‬ ‫في ذات الوقت صعبة أو قد تكون‬ ‫عصية على البوح‪ ،‬فنعيش أسرى لفلكها‬ ‫فترة من الزمن‪ .‬قديما فسر الشعراء‬ ‫الشعر بااللهام‪ ،‬ماذا يقول شعراء اليوم‬ ‫في االجابة على السؤال االشكالي‪ :‬ما‬ ‫الذي يفجر لقطتك الشعرية؟‬

‫تحقيق‪ :‬خلود الفالح‬ ‫‪98‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫لحظة الكتابة‬

‫باسم فرات (العراق)‬

‫ابتسامة بوذا وحكايا وأيقونات‬ ‫إحدى مميزات الشعر أنه عيص‬ ‫عىل التعريف وبهذا تكون‬ ‫أية محاولة لتعريف وتوضيح‬ ‫السبب يف تفجر اللحظة‬ ‫الشعرية ال يخلو من مغامرة‬ ‫هي أقرب للفشل‪ ،‬حيث لكل‬ ‫قصيدة ظروف كتابتها وتجربتها‬ ‫وبهذا تختلف أسباب تفجر اللحظة الشعرية من قصيدة‬ ‫إىل أخرى‪ .‬ورغم مرور أكرث من ثلث قرن عىل محاواليت‬ ‫لكتابة قصيدة (بدأت املحاوالت وأنا يف اإلبتدائية ومازلت‬ ‫أحاول أمالً يف كتابتها) فمرة مشهد ما يفجر هذه اللحظة‬

‫وال أستطيع فكاكًا منه حتى أد ّونه يف ذات املكان كام‬ ‫حدث يل يف مدرسة تشاو فوين يات يف كمبوديا‪ ،‬بينام‬ ‫رؤيتي للساموراي يف قلعة هريوشيام ألول مرة وكانت‬ ‫قصيدة الساموراي تنازعني فلم أنم مام اضطرين لرتك‬ ‫الرسير وتدوينها وذات الحال متا ًما ينطبق عىل قصيديت‬ ‫الرباق يصل إىل هريوشيام‪ ،‬ولكن بعض القصائد تأيت نتيجة‬ ‫معايشة تامة للحدث أو املكان كام يف متحف السالم‬ ‫يف هريوشيام وبينام يبتسم بوذا وأرضحة تتناسل حكايا‬ ‫وأيقونات‪ ،‬يف أحيان أخرى تفجر لحظتها عىل مراحل حتى‬ ‫أجد صعوبة يف امتامها بجلسة واحدة أو جلستني وكأن‬ ‫كل مقطع يأىب أن يُكتب مع آخر‪ ،‬ويصبح عندئذ كل‬ ‫مقطع ابن لحظته الشعرية املتفجرة‪.‬تبقى تجارب السفر‬ ‫واالحتكاك بثقافات متعددة ومتنوعة مفج ًرا رئيسيًا‬ ‫للحظة الشعرية يف تجربتي‪.‬‬

‫مها بكر (سوريا)‬

‫ضوء صغير يبدد عتمة كبيرة‬

‫لحظة الكتابة لدي ال تحتاج‬ ‫إىل طقوس وتعريفات هي‬ ‫بسيطة وواضحة كالحب أيضاً‪,‬‬ ‫ال ت ُنتج بل تبدو وكأنها هب ًة‬ ‫متنحها يل طاقة غري مرشوطة‪،‬‬ ‫تأيت وقد أكون أستمع إىل‬ ‫أغنية ٍ ما ‪ ،‬أو وأنا أسقي أشجار الحديقة أو أحضرّ الطعام‬ ‫ألوالدي‪ ،‬ال أستطيع أن أفصح عنها كام ينبغي يل‪ ،‬إنني‬ ‫أتذكّرها متاماً وأنىس عندما أريد تدوينها‪ ،‬تشبه املفاجأة‬ ‫يل أن أكون مستع ّدة لها دامئاً وكص ّياد ألتقط ُكل ما‬ ‫وع َّ‬ ‫يُح ّرضني عىل الكتابة ابتدا ًء من آالمي العظيمة ومخزوين‬ ‫الثقايف املتواضع ومعرفتي بالحياة حتى أبسط التفاصيل‪,‬‬ ‫أستخرج الشعر من حركة الناس وعالقتهم يب من الطبيعة‬ ‫ُ‬ ‫واملطبخ الرشير‪ ،‬من بيوت الجريان وقوانني الحيوانات‬ ‫األليفة‪ ،‬من الحروب ‪ ،‬الفقر والحب‪ .‬ت ُسميني ابنتي إيفار‬

‫بالفأرة الساحرة التي ت ُنقّب عن الشعر حتى بني أكياس‬ ‫الطحني‪ .‬ثم أدفع بكل ذلك إىل مخربي الروحي ألشحنها يب‬ ‫و بها‪ ،‬وهي تتخلّق أي القصيدة من برهة ٍمرك ّبة‪ :‬تلقائية‬ ‫بذلت‬ ‫يف البوح مفتعلة وهي تستحرض أدواتها بقدر ما ُ‬ ‫من جهد من أجل ِأن تكون هذه الذات الشعرية محققّة‬ ‫التي أعمل عىل إحيائها دامئاً وأج ّنبها قدر املستطاع من‬ ‫الضمور‪ .‬فالشعر مع مرور الوقت والتجربة يصبح عضوا ً‬ ‫من جسد الكاتب أو الكاتبة‪ ،‬ويوجب اإلعتناء به كام‬ ‫يُعتنى بالقلب والكبد لتكون روحه حارضة وهي تنسج‬ ‫هذا العامل املح ّرض بإبرة اللغة والخيال وهو يح ّول أي‬ ‫تفصيل مهام كان مقداره إىل طاقة فنية‪ ,‬جاملية وروحية‬ ‫مبهرة كضوء ٍصغري يُب ّد ُد عتم ًة كبرية‪.‬‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪99‬‬


‫تحقيق‬

‫نرص الدين عيل (ليبيا)‬

‫‪100‬‬

‫محمد الفوز (السعودية)‬

‫فتح أبواب ونوافذ القصيدة‬

‫حنين األشياء في القصيدة‬

‫يف حقيقة االمر‪ ...‬أن اللحظة‬ ‫األوىل أو كام ساسميها يف‬ ‫اعتقادي هي لحظة االنبهار‬ ‫األول بالفكرة‪،‬اقصد انبهار‬ ‫الشاعر ذاته مبا ورد اليه من‬ ‫فكرة‪ ،‬فمن الرضوري جدا‬ ‫ان يكون الشاعر متفاجئا بفكرته مثله مثل القارئ متاما‪،‬‬ ‫ولكن يصعب جدا ان يحدد الشاعر حقيقة ماهو الدافع‬ ‫ألن يخط الكلمة األوىل لينهمك يف قصيدته‪ ..‬ثم ان عامل‬ ‫القصيدة ذاتها اليقترص عىل باب واحد ليفتح‪ ،‬اعتقد‬ ‫انه باب‪ ،‬يجب ان تفتح بعده كل النوافذ املحيطة بك‪،‬‬ ‫وليك يقرتب الشاعر من لحظة االندفاع األوىل أن صح‬ ‫األمر‪ ،‬يجب عليه ان مير يف مراحل عديدة أولها التهيئة‬ ‫أو االستعداد لكتابة قصيدة ما‪ ،‬هذا طبعا لدى الكثري‬ ‫من الشعراء؛ هذا االستعداد الفطري والنفيس لدى‬ ‫الشاعر سيولد لديه مجرى أو لنقل هوة ً يصعب النظر‬ ‫إىل ماتحتويه مختلطة مبشهدية هائلة من الذكريات‬ ‫االنفعالية أو ما يعرف بـاللحظات الجزئية أو املشاهد‬ ‫الساكنة الخاملة التي تتواجد يف لحظة ما لتقع يف منحنى‬ ‫شعوري‪ ،‬لدي خيال كاتب ما ‪..‬وأقول (كاتب ما) مع هذا‬ ‫التقدم املذهل للقصيدة وبنائها‪ ،‬ان هناك كاتبا يكتب‬ ‫شعرا وهناك شاعر يكتب شعرا‪ ..‬والفرق واضح‪ ،‬وهذا‬ ‫ال يعني ان قصيدة معينة‪ ،‬لكاتب معني التعني شيئا‪...‬‬ ‫عىل العكس متاما اآلن أصبحت القصيدة أمرا ملحا جدا‬ ‫قد تكتب عن طريق كاتب وليس شاعر‪ ...‬ويف الواقع‬ ‫ان االنقضاض عىل سبب ما يجعلك تكتب أو ما يجعلك‬ ‫يف إطار ملا تكتب أو ما ذاك الشعور الذي يجب ان‬ ‫تتفاعل معه يف لحظة لتكتب‪ ،‬هو يشء يكاد يكون ليس‬ ‫يف املتناول‪ ،‬واستطيع ان اقول لك ِ ان دافعي الوحيد‬ ‫وما الذي يجعلني اكتب نصا ما؟‪..‬هو احساس (كم أود‬ ‫أن اكتب)‪ ..‬أو مبعنى آخر مايجعلني اكتب هو حاجتي‬ ‫امللحة لكتابة نص‪.‬‬

‫مثة دهش ٌة مضمر ٌة يف حنني األشياء‪ ،‬كلام أدرتُ َ‬ ‫فلك‬ ‫الشوقِ تهفو عيني إىل أبعد من ورا ِء الحقيقة‪ ،‬فالبُ ّد من‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫الوقت‪ ،‬وحني تتهادى خطوات‬ ‫ارتباك طويلٍ عىل حافة‬ ‫القصيدة عىل درج ِ‬ ‫ٍ‬ ‫بصمت‬ ‫الفقد نكو ُن منسيني‪/‬ونلوذ‬ ‫عاري‪ ،‬وال يُغلِ ُق أزرا َر اللهف ِة سوى شع ٍر مائلٍ عىل جدار‬ ‫البوح‪ ،‬كلام أكتب‪/‬أجد ذايت دافئة‪ ،‬وكلام أرته ُن للعزلة‬ ‫ألتقي بالبياض امل ُشع بكريستالة الروح‪ ،‬ال املسافات وال‬ ‫ال ُح ُجب متنعنا الوصول إىل من‬ ‫ُحب‪ ،‬والشعر ذلك الباب العظيم‬ ‫ن ّ‬ ‫أنامل خادرة بشهوة الكالم‪،‬‬ ‫تفتحه ٌ‬ ‫برباء ٍة متناهية‪ُ ،‬‬ ‫أدرك حساسية‬ ‫الكونِ عىل هوامش الكتابة‪،‬‬ ‫فأسمو‪ ...‬أسمو بأجنح ٍة من ورق‪.‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫محمد خرض (السعودية)‬

‫شيء يشبه التفاعل مع كل‬ ‫معطيات الحياة‬ ‫الحقيقة أنها لحظة ظلت‬ ‫عصية عىل فهمي لكني أعتقد‬ ‫عموما أنني أختزل من قراءايت‬ ‫ومشاهدايت يف الحياة‪ ،‬وما‬ ‫مير يب ما يفجر هذه اللقطة‬ ‫ويصنعها‪ ،‬العالقة بني كل هذا‬ ‫وعالقتنا مع اللغة ومداها‪ ،‬مل أكتب سابقا تحت وقع‬ ‫لقطة محددة أو أثر مبارش أو موقف‪ ،‬لكن مايحدث يشء‬ ‫يشبه التفاعل مع املعطيات كلها إنه يشء يشبه تبادل‬ ‫الخربات أو الحصاد‪ ،‬وبالتايل تتمخض هذه التفاعالت كلها‬ ‫وقت الكتابة وتكون اللقطة أو الصورة الشعرية‪ ...‬من‬ ‫جهة أخرى أين نجد هذه اللقطة؟ إنها يف كل مكان لكن‬ ‫الشاعر مع رصيده وقدرته عىل استخدام اللغة ضمن رؤاه‬ ‫هو القادر عىل التقاطها كام يجب‪.‬‬


‫لحظة الكتابة‬

‫ذلك مالحظة أظنها املرجعية الحقيقية لسؤال‪ ..‬وتتمثل‬ ‫محمود قرين (مرص)‬ ‫ىف االعتقاد‪ ،‬الذى رمبا يعشش ىف قلوب وعقول الكثري من‬ ‫نحو المزيد من اذدراء الكتابة‬ ‫الشعراء من أن مثة غموضاً البد أن يكتنف العامل الرسى‬ ‫للكتابة ومن ثم تحظى لحظة الخلق الشعري‪ ،‬مبا تحويه‬ ‫ميثل السؤال مأزقًا فضائحيًّا للشعراء الذين يفتقرون‬ ‫من دوافع‪ ،‬بيشء ليس قليالً من القدسية واإليهام‪.‬‬ ‫إىل القدرة عىل االحتفاظ بطقوسهم اليومية البسيطة‪.‬‬ ‫وأظن أننا بشكل أو بآخر ما زلنا نعتقد ىف أن عنرص‬ ‫وأنا مثل كثريين من أقراين‪ ،‬أزعم أحيانًا أن الشعر يأىت‬ ‫اإللهام يقف خلف ما نكتبه ويعضد سحره األخاذ بالنسبة‬ ‫من الوحدة والتوحد‪ ،‬ثم أضطر لكتابته ىف حافلة أو ىف‬ ‫لنا عىل األقل‪ ..‬وخطورة بقاء هذا االعتقاد يعني أننا مازلنا‬ ‫مقهى‪ ،‬وأحيانًا ما نضطر المتهان بعض األعامل‪ ،‬التى‬ ‫نؤمن بأن الشعر يوحى به‪ ،‬وأن الشيطان الذى كان ينفخ‬ ‫أستأذن قارىئ ىف وصفها بالوضاعة‪ ،‬دون أن أسميها‪،‬‬ ‫ىف فم «ذى الزمة» هو نفسه الذى ينفخ ىف أفواهنا حتى‬ ‫ووسط هذه األعامل نكتب أشعا ًرا يبدو‬ ‫هذه اللحظة‪ ..‬وخطورة استمرار هذا االعتقاد‬ ‫عمرها أطول من أعامرنا‪ ،‬أو هكذا‬ ‫تتمثل ىف بقاء الشاعر رهن نبوة كاذبة‪ ..‬ومن‬ ‫أعتقد مدفو ًعا بثقتى ىف الشعر‪ .‬لذلك ال‬ ‫ثم فإن اعتداده مبا يفعل‪ ،‬ىف الشعر وخارجه‪،‬‬ ‫ميكننى الحديث عن املحفزات الشعرية‬ ‫يأىت عىل خلفية من امتالكه شيئًا من مس‬ ‫أو الطقس الشعري دون خوف من‬ ‫النبوة‪ ..‬وتنامي هذا االعتقاد خلق لنا شعراء‬ ‫املسؤولية‪ ،‬أقصد مسؤوليتى األخالقية‬ ‫شبه أميني يعتقدون أن الثقافة واملعرفة من‬ ‫عن احرتام قارئ ال يشغل نفسه برثثرات‬ ‫أدوات تعطيل الفطرة الشعرية املعضدة‬ ‫أمثايل‪ ،‬ومسوحهم الكهنوتية‪ .‬أتصور أن كشف بعض هذه‬ ‫الحيوات الرسية الهشة يعنى أننا نستحرض الشيطان الذى بالوحى وفرادة الخلق‪.‬‬ ‫يسكن التفاصيل‪ ..‬وهذا ال يعنى أب ًدا أن مثة أرسارا البد أن وال أظن الشاعر الحديث الذى يؤمن بالبناء االجتامعى‬ ‫ً‬ ‫نخفيها‪ ..‬فاألمر أهون من ذلك حسبام أتصور‪ .‬أضيف إىل املتعادل واملتساوى ميكنه أن يؤمن بهذه القناعات‪،‬‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪101‬‬


‫تحقيق‬

‫فالسوريالية مثالً ح ّولت الشاعر الذى يعيش عىل جبال‬ ‫الربانس ينتظر شيطانه إىل ساحر فقري مضحك‪ ..‬بل تحول‬ ‫الشعر إىل الكثري من السخرية باألقانيم وعىل رأسها أقنوم‬ ‫الشاعر نفسه‪ ،‬وأظن أن التجارب الحضارية الكربى مل تعد‬ ‫ىف حاجة إىل استعادة شعراء الوحي‪ ..‬فقد كانت التعرية‬ ‫املؤملة التى خلفتها الحروب الكربى آلالم اإلنسان موضع‬ ‫سؤال عميق ظل يضج باألمل والسخرية‪ ..‬ويبدو أننا نحتاج‬ ‫إىل يشء من هذا الوعي‪.‬‬ ‫وقد كان «أبو متام»‪ ،‬وهو أحد حكامء الشعر العريب‪،‬‬ ‫يعتقد دامئًا أن صورة الشاعر منحة «قدرية»‪ ،‬وهو اعتقاد‬ ‫يشاركه فيه الكثري من الكبار ىف الشعرية العربية‪ ،‬وال‬ ‫أعلم إذا كان هذا االعتقاد سببًا ىف تواضعه الجم الذى‬ ‫دفعه إىل القول عن أستاذه «البحرتي» عندما ُسئل عنه‪:‬‬ ‫«ج ِّيده أفضل من ج ِّيدي‪ ،‬ورديئى أفضل من رديئه»‪ .‬بهذا‬ ‫املعنى ميكننا أن نرشع ىف فهم الطقوس الشعرية يف تراثنا‬ ‫اإلنساىن ىف الشعر وغريه‪ ،‬حيث تتبدى القيمة «الجودة»‬ ‫ىف الكتابة بعيدة عن تصورات الحداثة والقدامة‪ .‬وتؤكد‬ ‫هذا املعنى فعالية النصوص القدمية وبقاؤها حية حتى‬ ‫اآلن‪ ،‬ومن يتمثل كتاب «صوت أىب العالء» وأشواق طه‬ ‫حسني لالرتقاء بنرثه ىف قراءة النص إىل مصاف الشعرية‬ ‫يتأكد من ذلك‪ .‬وبقاء النص ىف التاريخ يعنى أن عنارص‬

‫الحادثة ترتبط وثيقًا بامتالك العنارص النسبية للتجويد‪،‬‬ ‫فجودة النص هى رس بقائه‪ ،‬لذلك فإن بورخيس كان‬ ‫يقول «إن كل نص جيد حديث بالرضورة‪ ،‬حتى لو كان‬ ‫مكتوبًا قبل آالف السنني»‪.‬‬ ‫من هذه الزاوية يجب أن ننظر إىل حداثتنا وما نزعمه‬ ‫حولها بكثري من التواضع‪ ..‬فهذا هو ما يدلنا عىل املواقع‬ ‫الصحيحة ألقدامنا‪ ،‬وأنا بشكل شخيص‪ ،‬ومن هذا املنظور‪،‬‬ ‫ال أتصور أن فهام للمشهد الشعري ميكنه أن يقوم مبعزل‬ ‫عن فهم املايض الذى نطمح للوقوف عىل أطالله‪ ،‬مايعني‬ ‫ترسيخ املزيد من سوء الفهم‪.‬‬ ‫رمبا لهذا السبب تتعاظم العزلة التى وصل إليها الشعر‬ ‫إعالميًا ومجتمعيًا‪ ،‬ورمبا كان ذلك ترجمة النغالق املسام‬ ‫التي تؤدي إىل سبل التجديد‪ ،‬لدرجة بات معها الكالم عن‬ ‫النص الجديد يعنى نو ًعا من الهزل ويدفع ملزيد من عدم‬ ‫اإلنصات‪.‬‬ ‫وبدت الصورة كام لو كان املجتمع الذى يكتب الشاعر‬ ‫من أجله هو من يقاوم ويرفض بل ويسخر من فكرة‬ ‫التجديد نفسها‪ ..‬وهو تعبري قاس عن هزمية املرشوع‬ ‫النهضوى وإجهاضه كلية‪ ،‬بغض النظر عن القيمة التى‬ ‫حاول النص الشعرى ترسيخها‪.‬‬

‫نعيم عبد مهلهل (العراق)‬

‫امللتقطة من لحظتها وأغلبها مصنوعة بالتأمل والتفكري‬ ‫والفائدة من التجربة والذكريات واللحظة الغرامية‪.‬‬ ‫يفجر اللحظة الشعرية ولقطتها هاجيس الذي ورثه من‬ ‫عيون أيب من الطفولة من الحياة بوقائع الجمر التي‬ ‫تصنع احالم الحب والخبز والسياسة‪ .‬فيتشكل وعي‬ ‫املوضوعية وتسقط نجوم التخيل العنوان والشطر االول‪.‬‬ ‫وبدون وعي تنثال بقية ما متلك لتسكن تفاصيل الروح‬ ‫ورعشة االصابع‪!...‬‬

‫قصائد الفيس وعولمته‬ ‫الشعر رؤيا يصنعها الخفي‬ ‫يف الذات الشاعرة‪ .‬انه‬ ‫صريورة اليشء املميز يف‬ ‫هاجس البرش منذ دمعة آدم‬ ‫عىل موت ولده يف شجاره‬ ‫مع أخيه إىل قصائد الفيس‬ ‫بوك وعوملته‪.‬‬ ‫هذا الهاجس ال تصنعه سوى لحظة تسكن الرمض أو‬ ‫نبض يسارع دقات القلب فيأيت الخلق بصورة القصيدة‬ ‫‪102‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫شعرية القصة‬

‫«ال بحر في بيروت»‬ ‫شعرية مدينة هرب منها البحر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حقيقيا على األقل‪ ،‬وألن غواية المدينة في بحرها‬ ‫بحرا‬ ‫أعطت بيروت الكتاب‪ ،‬في زمن كتابة القصة‪،‬‬ ‫يستطيع الجميع التواجد على شاطئه لكتابة القصيدة اآلسرة عن البحر‪.‬وهنا تكمن مفارقة المدينة التي‬ ‫رأتها غادة السمان بال بحر‬

‫رنا زيد‬

‫الفنان محمد قدورة‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪103‬‬


‫شعرية القصة‬

‫قد‬

‫ِ‬ ‫وجهك امللطّخ باألصباغ‪ِ ،‬‬ ‫تصادف يف مدينة بريوت‪ ،‬اليوم‪ ،‬شاعرا ً وحيدا ً‬ ‫لست ُمزيّفة‪ ،‬لك ّن‬ ‫حزينة‪ ،‬يا‬ ‫ولست رشيرة‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ألنك دمشق‬ ‫األصباغ صارت جلد العامل‪،‬‬ ‫وعبثياً‪ ،‬يجلس مواربةً‪ ،‬عىل كرسيّه يف املقهى‬ ‫ِ‬ ‫وباريس والصني وكل مكان؛ وألنك من نفوسنا‪ ،‬ويوم نجد‬ ‫العرصي‪ ،‬ثم يستدير إليك فجأة‪ ،‬ليقول‪« :‬ال بحر يف‬ ‫ّ‬ ‫جميعاً بحرنا‪ ،‬يعود ِ‬ ‫إليك بحرك»‪.‬‬ ‫بريوت»‪ ،‬الجملة التي تبدو شعرية رصفة‪ ،‬تحيل إىل‬ ‫مجموعة قصصية‪ ،‬نرشتها غادة السامن (‪ ،)1942‬تحت‬ ‫غالف القصة‪ ،‬يشبه كثريا ً سوريالية املدينة التي مل تتغيرّ‬ ‫يف نسيجها العمراين التكويني كثريا ً‪ ،‬يف الوقت الحايل‪ ،‬إنها‬ ‫عنوان «ال بحر يف بريوت»‪ ،‬يف العام ‪ ،1963‬وفيها عرش‬ ‫املدينة ذاتها‪ ،‬لك ْن تتخلل جدران أزقتها الضيّقة‪ ،‬ثقوب‬ ‫قصص قصرية‪ ،‬واحدة منها تحمل عنوان املجموعة‪،‬‬ ‫املنفي من املدينة‪ ،‬يف العنوان‪ ،‬يظهر بطريقة‬ ‫ع ّدة‪ ،‬والبحر‬ ‫القص العادي‪ ،‬يك تدخل‬ ‫وفيها تتجاوز السامن هاجس ّ‬ ‫ّ‬ ‫أخرى‪ ،‬يف غالف املجموعة‪ ،‬أي لوحة «قيم ذاتية» للفنان‬ ‫يف مناخات شعرية جادة وملتبسة‪ ،‬حول لغز مدينة‬ ‫البلجييك رينيه مارجريت (رسمها عام ‪ ،)1952‬حيث‬ ‫«بريوت»‪ ،‬وبحرها املبتور من ذهن بطلة القصة‪ .‬إن‬ ‫العمل يكاد يكون قصيدة‪ ،‬تتخلّلها تأتأة ما‪ ،‬أو وقفات من البحر فيها سامء بديلة من جدران غرفة شخصية‪ ،‬لكنها‬ ‫زجاجية كام مقاهي بريوت يف القصة‪ ،‬علب تطل عىل‬ ‫التنفّس الطويل (الحوار‪ ،‬والتوصيف)‪.‬‬ ‫البحر‪ ،‬هي تلخيص لبريوت امل ُعلّقة يف السامء‪ ،‬واملفتوحة‬ ‫هكذا تنسج السماّ ن صورها عن أسطورة البحر واملدينة‬ ‫عىل البحر‪ ،‬بريوت املسحورة والساحرة‪.‬‬ ‫و»األنا»‪ ،‬حتى تصل إىل املقطع األخري‪ ،‬ويكاد يكون هذا‬ ‫رسب إىل من يسري يف هذه املدينة‪،‬‬ ‫يل‬ ‫واقعياً‪ ،‬هناك أمل ما‪ ،‬يت ّ‬ ‫املقطع قصيد ًة تا ّمة‪ ،‬وهو عبارة عن املونولوج الداخ ّ‬ ‫األخري للبطلة‪ ،‬وهي تش ّد العزم‪ ،‬ماضي ًة يف طريق العودة تفاقمه الثقوب الباقية يف األبنية من زمن الحرب‪ ،‬أو‬ ‫فجوات القذائف يف الجدران املطلة عىل البحر املكتظ‬ ‫إىل دمشق‪ ،‬لتعطي حبيبها السابق أمين‪ ،‬زجاجة عطر‪،‬‬ ‫عبّأتها مبياه البحر البريويت‪ ،‬البحر املقتول‪ ،‬بعدما دهسته بالعابرين‪ ،‬والثقوب ذاتها‪ ،‬ميكنها أن تضيق عىل عابر‬ ‫واحد أمام البحر‪ ،‬وبريوت قصيدة معاشة‪.‬‬ ‫حافلة يف الشارع‪ ،‬كربهان عىل أنها نجحت يف إيجاد‬ ‫مالذها الفردا ّين أو بحرها‪ ،‬تقول‪« :‬بريوت‪ ،‬يا حلوة‪ ،‬يا‬ ‫‪104‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫ال بحر في بيروت‬

‫فالبحر ليس صورة شعرية معجزة‪ ،‬ال‬ ‫شعرية بريوت‬ ‫ميكنها التحقّق‪.‬‬ ‫النص القصيص عىل‬ ‫إن قدرة هذا ّ‬ ‫الروتيني‪ ،‬يصبح مع‬ ‫القصيص‬ ‫السياق‬ ‫استحضار شعرية «بريوت» كمدينة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصورة املواربة للبحر ملتوياً‪ ،‬ويتح ّول‬ ‫الهية ودامية وغاوية‪ ،‬جعلته‬ ‫النص أدبياً‪ ،‬إىل مكان مزدحم بالجمل‬ ‫يُلخّص وحشة املدينة املستم ّرة‪،‬‬ ‫الشعرية الط ّنانة‪ .‬ومن تصعيد الحالة‬ ‫نزقَها املستمر‪ ،‬وكر َمها املستمر‪،‬‬ ‫الواقعية‪ ،‬وتضخيمها‪ ،‬وإدخالها يف مرحلة‬ ‫يف آن واحد‪ ،‬ملن يعايشها‪ .‬ت ُركّز‬ ‫من الوهم الخالص‪ ،‬الوهم الذي يبدو‬ ‫السامن عىل أ َّن غواية املدينة يف‬ ‫أكرث جامالً وإقناعاً من الواقع الرتيب‪،‬‬ ‫بحرها‪ ،‬فتسعى البطلة املتحدثة‬ ‫ومن البحر املشمس‪ ،‬املتاح للجميع‪ ،‬تبدأ‬ ‫بأنا الكاتبة‪ ،‬إىل إقناع أمين برغبتها‬ ‫شعرية «بريوت» كمكان مفتوح عىل السامء والبحر‪،‬‬ ‫يف السفر إىل املدينة‪ ،‬تارك ًة وراءها دمشق‪ ،‬ومدرسة‬ ‫مكان يُ ّ‬ ‫شك يف أنه مرسوم‪ ،‬كلوحة وهمية‪ ،‬بينام تتج ّول‬ ‫الراهبات‪ ،‬باحث ًة عن الفردوس املفقود لروسو ودانتي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الشخصيات يف اللوحة‪ ،‬متل ّمسة املكان‪ ،‬ومحاولة التحقّق‬ ‫تقول ألمين‪ ،‬مستدعي ًة بحرا ً طيوره بيض‪ ،‬ونظرات تلك‬ ‫من واقعيته‪.‬‬ ‫الطيور‪ ،‬وديعة كالجريان الطيبني‪ ،‬وقاصدة يف املعنى‬ ‫تجد البطلة نفسها معزولة مقصي ًة عن البحر‪ ،‬رغم‬ ‫بحرها الذي تسعى إليه‪« :‬البحر القديم الذي ليس ديرا ً‬ ‫وصولها إىل املدينة‪ .‬إن مكانية بريوت‪ ،‬تخرج كل قسوتها‪،‬‬ ‫كبريا ً‪ ،‬وال امرأة مزيفة‪.»..‬‬ ‫فالسور الذي ُوضع عىل طول الشاطئ مينع متاس البحر‬ ‫الصدمة التخ ّيلية الشعرية يف هذا النص‪ ،‬يف أن صورة‬ ‫مع املدينة‪ ،‬وكأنه متاس مح ّرم‪ ،‬يجعل البحر غريباً‬ ‫البحر يشوبها االلتباس‪ ،‬فحني يجيب أمين البطل بأن‪:‬‬ ‫ومنبوذا ً‪ ،‬وبعيدا ً عن كونه امتدادا ً طبيعياً لألفق‪ ،‬وامتدادا ً‬ ‫«البحر الذي تتح ّدثني عنه مات منذ زمن بعيد»‪ ،‬ليثبت‬ ‫حقيقي‪:‬‬ ‫غري‬ ‫السامن‬ ‫غادة‬ ‫بحر‬ ‫يصبح‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫وإلهي‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫لوني‬ ‫لغط وجود البحر أو عدمه‪ ،‬يجعلها تدخل حال ًة من الوله‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫«إنه لوحة رمادية مدقوقة يف األفق‪ ،‬لوحة صلدة‪ ..‬تتمة‬ ‫فيام يفرتض أنه صورة واقعية‪ ،‬إذ يطلب منها أن متأل له‬ ‫كهدية العودة زجاج ًة ماء من ذاك البحر‪ ،‬بحرها املتخ ّيل ألسفلت الشارع‪ ،‬اهتم الخرباء بجعل لونه أكرث زرقة»‪.‬‬ ‫إنها تعرتف بطريقة ُمبطّنة بأن املدينة زرقاء بالرضورة‪،‬‬ ‫يف بريوت‪ ،‬يف حال كان موجودا ً‪.‬‬ ‫وبالتأكيد‪ ،‬تأخذنا داللة األزرق إىل املوت‪ ،‬أو إىل الرساب‬ ‫إ ّن غادة السامن‪ ،‬تلعب يف هذه القصة لعبة نفسية‬ ‫احرتافية‪ ،‬فهي تضع سياق األحداث وشخصياتها يف طابع والغياب املاورايئ للبحر‪ ،‬بريوت كام تقول البطلة عنها‪:‬‬ ‫«ج ّنية أسطورية‪ ،‬تنفث الضباب نحو الجبال‪ ،‬تتع ّرى من‬ ‫عادي‪ ،‬فتاة مثقفة‪ ،‬كالسيكية الشكل‪ ،‬بجديلة طفولية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تذهب لزيارة أختها يف بريوت‪ ،‬وتلتقي يف سهرات بريوت غالالتها‪ ،‬تنبسط مغري ًة مثريةً‪ ،‬غامضة العري»‪ ،‬هكذا‬ ‫تلح يف رأس‬ ‫الفاخرة‪ ،‬األديب (املفرتض) سلامن عزمي‪ ،‬فتعرث معه‬ ‫تبدو بريوت كام لو أنها يف قصيدة تقليدية‪ّ ،‬‬ ‫الربي الواصل بني املدينتني‪،‬‬ ‫الطريق‬ ‫بعد‬ ‫دمشق‪،‬‬ ‫يرتك‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫التقليدي‪ ،‬الذي يراقص‬ ‫عىل ما أضاعته مع أمين الشاب‬ ‫ّ‬ ‫ليصل مدينة البحر املفقود‪ ،‬وتتساءل السماّ ن عىل لسان‬ ‫الفتيات يف جامعة بريوت‪ ،‬وال يسمح إلخواته اإلناث‬ ‫البطلة‪ ،‬مستفز ًة مدينة بأكملها‪« :‬ت ُرى‪ ،‬لو هرب البحر‬ ‫مبراقصة أحد‪ .‬إن سلامن يرتك لها حرية االختيار‪ ،‬ولذة‬ ‫أي سؤال هذا! إنه‬ ‫االكتشاف وحدها‪ ،‬إنه يريد للبذرة الطيبة فيها‪ ،‬أن تنمو‪ ،‬إىل دمشق‪ ،‬أكان ميكث فيها طويالً؟»‪ّ ،‬‬ ‫بذرة االختالف عن البقية‪ ،‬فيقنعها‪ ،‬برضورة أن متأل قارورة بداية لقصيدة طويلة‪ ،‬فال بد من أ ّن بحرا ً ما‪ ،‬قد هرب‬ ‫منذ زمن‪ ،‬من مدينة «دمشق»‪ ،‬املدينة التي ال ترتك أمام‬ ‫العطر من ماء البحر بنفسها‪ ،‬لتثبت ألمين أن البحر‬ ‫املتجول فيها‪ ،‬سوى ملجأ األزقّة للخالص‪ ،‬أو باألحرى‪،‬‬ ‫مل ميت‪ ،‬وهنا‪ ،‬يعيد إليها األمل يف أن امل ُتخيّل موجود‪،‬‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪105‬‬


‫شعرية القصة‬

‫ليس أمام العاشق العابث سوى الهرب إىل علّيتها (جبل‬ ‫التلصص عليه‪ ،‬إ َّن البحر منقذ‬ ‫قاسيون) ليخفت إيقاع ّ‬ ‫للحب بالرضورة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫قصيدة املدينة‬

‫تتصاعد من قصة «ال بحر يف بريوت» مساحات من‬ ‫التوصيف الشعري الالواقعي‪ ،‬فحجارة املدينة‪ ،‬التي تشبه‬ ‫جسامً هشّ اً‪ ،‬قدمياً جدا ً‪ ،‬مثقوباً ومعطوباً‪ ،‬أو حديثاً‬ ‫اليوم ُم ّ‬ ‫جدا ً‪ ،‬بالستيكياً وكرتونياً‪ ،‬تتح ّول أمام البطلة‪ ،‬لتتض ّمن‬ ‫فيها قوة سحرية كقوة شخصية «امليدوزا» يف األسطورة‬ ‫اليونانية‪ ،‬تلك الفتاة التي طارحت اإلله «بوسيدون»‬ ‫الغرام يف حرم معبد اآللهة «أثينا»‪ ،‬فغضبت عليها‬ ‫وح ّولتها إىل مخلوق بشع‪ ،‬له أنياب‪ ،‬وصار شعر امليدوزا‪،‬‬ ‫بعدها‪ ،‬ثعابني متف ّرقة تخرج من رأس‪ ،‬يتح ّول إىل حجر‬ ‫كل من ينظر إىل عينيه؛ لقد تح ّجرت البطلة يف مكانها‪ ،‬ال‬ ‫تستطيع مغادرة املدينة البحرية‪ ،‬وال تستطيع يف الوقت‬ ‫ذاته إيجاد بحرها‪ ،‬تح ّجرت يف منتصف غنائها لقصيدة‬ ‫املدينة‪ ،‬وتبني مع هذا التح ّجر شخصيتها سوسيولوجياً‬ ‫وسيكولوجياً‪ ،‬إنها «بريوت» أعطت األنتلجنسيا الصاعدة‪،‬‬ ‫يف زمن كتابة القصة‪ ،‬بحرا ً حقيقياً عىل األقل‪ ،‬يستطيع‬ ‫الجميع الوجود عىل شاطئه لكتابة القصيدة اآلرسة عن‬ ‫البحر‪.‬‬ ‫وإن كانت السماّ ن استدعت أسطورة «امليدوزا» يف قصتها‬ ‫الشعرية الطابع‪ ،‬بطريقة جعلت‪ ،‬فتاة الثعابني‪ ،‬متتلك‬

‫نص يمتلك‬ ‫«ال بحر في بيروت» ٌّ‬ ‫قدرة اكتشاف الواقع‪ ،‬وتكثيف‬ ‫الشعري‪ ،‬إنه يرصد‬ ‫معناه‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مدينة منهارة‪ ،‬من بحر يهجرها‬ ‫في الصباح والمساء‬

‫‪106‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫السطوة‪ ،‬واألب ّوة األسطورية‪ ،‬أكرث من األنوثة‪ ،‬كام يف‬ ‫معناها القديم‪ ،‬فإن يف بريوت وأبنيتها الحجرية‪ ،‬اليوم‪،‬‬ ‫معنى يقرتب من حضور «امليدوزا» يف الف ّن حني جعلها‬ ‫ً‬ ‫الرسم والنحت‪ ،‬بعد القرن السادس عرش‪ ،‬مصدرا ً برصياً‬ ‫للخوف‪ ،‬وبثّ الرعب يف الناظر إىل هيئتها القاسية عىل‬ ‫األبنية‪.‬‬ ‫ال ترتك بطلة القصة بريوت‪ ،‬حتى تجد نفسها املرسوقة‪،‬‬ ‫والقابعة تحت غبار هائل السامكة‪ ،‬رافقها من املدينة‬ ‫بحاسة الخيول الوحشية‪،‬‬ ‫السابقة دمشق‪« :‬لن أهرب‪ّ ،‬‬ ‫أش ّم رائحة املاء‪ ،‬البحر ال بد من أن يكون‪ ،‬يف مكان ما»‪.‬‬ ‫الحب النزق‪ ،‬القابع يف أعامق األنا‬ ‫إن الطائر املُلِ ّح‪ ،‬طائر ّ‬ ‫يف القصة‪ ،‬يتزعزع عند وصوله إىل مدينة مفتوحة عىل‬ ‫بيولوجي من‬ ‫أي موروث‬ ‫السهر‪ ،‬السهر املوروث كام ّ‬ ‫ّ‬ ‫اآلباء إىل األبناء‪ ،‬حتى اليوم‪ ،‬يف مدينة بريوت؛ فام تلبث‬ ‫تقصها‪،‬‬ ‫الجديلة أن تختفي شكالً عن كتفي البطلة بعد أن ّ‬ ‫حتى تأيت القصة عىل مقطع‪ ،‬هو أكرث بوهيمي ًة من أجواء‬ ‫الصخب الليلية يف املدينة‪ ،‬إذ يتقلّص الطائر ّ‬ ‫الدال عىل‬ ‫الحب إىل أن يختفي‪« :‬الطري يف أعامقها يحترض‪ ،‬يهذي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وريشه يتناثر‪ ،‬يتناثر من فمها وعينيها‪ ،‬ويختلط بشعرها‬ ‫املجزور املتناثر‪ ،‬ويستق ّر معه عىل األرض»‪ ،‬تستمر الصور‬ ‫هنا‪ ،‬بطريقة حاملة‪ ،‬وتصف السامن األمل الناتج من‬ ‫التح ّول يف الشخصية‪ ،‬بأمل وضع املرأة الحامل‪ ،‬إنها تغرق‬ ‫يف املعنى‪ ،‬وتح ّول الجمل القصرية إىل ومضات شعرية‬ ‫متحركة ومتطورة‪ ،‬كام لو أنها تصنع من قصائد ع ّدة‪،‬‬ ‫مقطعاً نصياً واحدا ً‪ ،‬يش ّد ويوجع يف تفاصيله املعتمة‪:‬‬ ‫«سوف تظل هنا حتى تجد بريوت البحر»‪.‬‬ ‫نص ميتلك قدرة اكتشاف الواقع‪،‬‬ ‫«ال بحر يف بريوت» ٌّ‬ ‫ً‬ ‫الشعري‪ ،‬إنه يرصد مدينة منهارة‪ ،‬من‬ ‫وتكثيف معناه‬ ‫ّ‬ ‫بحر يهجرها يف الصباح واملساء‪ ،‬وال يظهر إالّ عىل جسد‬ ‫شاب ريايض‪ ،‬يتلصص عىل ج ْمع ساهر‪ ،‬كحبيبات ماء‬ ‫ّ‬ ‫تلتصق بالجسد‪ ،‬إنه عرص من التح ّول يف الطبائع؛ واملدينة‬ ‫التي نسيت بحرها‪ ،‬تتذكّره يف وجوه أناس يعيشون‬ ‫ُمتخيَّلَه‪ ،‬مع االنشداد إليه يف صورته الحالية املبتورة عن‬ ‫املدينة‪ .‬قصيدة وحشية أخرى‪ ،‬يف القصة‪ ،‬تتكلّم عن‬ ‫رشه الجدد مع‬ ‫البحر األسفلتي الجديد‪ ،‬الذي يتعايش ب ُ‬


‫ال بحر في بيروت‬

‫الفنان سمري الصايغ‬

‫استطاعت البطلة أن تقفز عن السور‪ ،‬وأن متأل قارورة‬ ‫صخوره ذات الطوابق املتعددة واملصاعد الكهربائية‪:‬‬ ‫«رماله األسفلتية‪ ،‬التي انغرست يف جسدها رماحاً طويلة‪ ،‬العطر الفاخرة؛ لقد صنعت بحرها الخاص‪ ،‬ومل تبال‬ ‫تتدحرج عليها حافالت متخمة بالناس والعرق وامللل»‪.‬‬ ‫بنظرات الجالسني أمام البحر‪ ،‬وخلفهم سيّاراتهم الفارهة‪،‬‬ ‫إن البحر هنا‪ ،‬يكاد يكون عاشقاً خائناً للمدينة‪ ،‬عاشقاً ال لقد أعادت إىل املدينة بحرها‪ ،‬قبل أن تعيده إىل ذهنها‬ ‫والحب‬ ‫الحب الحقيقي‪ ،‬إنه ُمتّه ٌم بالخيانة‬ ‫حقيقياً ومدهشاً‪ ،‬بحرا ً ال يتقشرّ كالطالء عند االبتعاد عنه‬ ‫ّ‬ ‫يدري معنى ّ‬ ‫مسافة ما‪« :‬ملاذا يُس ِّورون البحر هكذا يف بريوت؟ بحري‬ ‫معاً‪.‬‬ ‫الذي أبحث عنه‪ ،‬ال ميكن أن يكون ُمس ّورا ً»‪( .‬من القصة)‪،‬‬ ‫وميكن أن يضاف إىل هذا املعنى‪ ،‬أن البحر يهرب وقت‬ ‫شعرية القصة‬ ‫ميكن حذف بعض الكلامت من بعض املقاطع‪ ،‬يف القصة‪ ،‬الحروب أيضاً‪ ،‬لهذا يحرس يف السلم‪.‬‬ ‫لتنتج منها مقاطع شعرية‪ ،‬وهي تصل رغم التطويل الذي لقد ج ّردت غادة السامن مدينة بريوت من أقنعتها‪،‬‬ ‫الشخيص‪ ،‬لكنه‪ ،‬يف الوقت ذاته‬ ‫نصاً أقرب إىل‬ ‫ُوضعت فيه‪ ،‬باختزال إضا ّيف‪ ،‬إذ ال مينع طول ال ُجمل من‬ ‫وكتبت عنها ّ‬ ‫ّ‬ ‫القص‪ ،‬حني ميتدح شعرية املدينة وغرائبيتها‪ ،‬إنها مدينة‪ ،‬مل تختلف‬ ‫الوقوع عىل املعنى الشعري‪ ،‬وتأثريه يف ثوابت ّ‬ ‫يل‪ ،‬وحني تتح ّدث‬ ‫النيص‬ ‫تغيب الشخصيات فجأةً‪ ،‬يف ظلمة التن ّوع‬ ‫املعنوي‪ ،‬منذ ذاك الوقت كثريا ً يف منحاها الشك ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متاماً‪ ،‬مثلام يغيب وجه سلامن ويرتاءى عنوةً‪ ،‬أمام البطلة‪ ،‬السماّ ن عن فندق «الريفريا» الشاهق أمام البحر‪ ،‬وحني‬ ‫تنادي أحد الشبان‪ ،‬عىل لسان البطلة‪ ،‬ليمأل قارور ًة من‬ ‫نبي» (كام تصفه القصة)‪.‬‬ ‫لـ»يعوم يف الظلمة كوجه ّ‬ ‫املاء املالح‪ ،‬ماء البحر‪ ،‬فهي أرادت الحديث عن مدينة ال‬ ‫لقد احرتقت البطلة يف أسابيع‪ ،‬كام مل يحرتق بقية من‬ ‫رصفات البرشية الشكلية‪ ،‬وال تتع ّمق يف‬ ‫يقطن بريوت باحثاً عن بحرها منذ سنوات‪ ،‬إنها تلتهم‬ ‫تقتنع سوى بالت ّ‬ ‫املارين بها‪ ،‬مدينة تشبه دمشق‪ ،‬وباريس‪ ،‬والصني‪ ،‬وكل‬ ‫معنى املدينة‪ ،‬ولغزها‪ ،‬ثم ترسمه من جديد يف ُمخ ّيلتها‪،‬‬ ‫مكان‪ ،‬إنها مدينة كقصائد الشعراء الغريبة‪ ،‬ال ّ‬ ‫تدل عىل‬ ‫وتلصقه بصورة بحر ُمف َرتض‪ ،‬يتقاطع وصفه الشعري‬ ‫الحقيقة‪ ،‬لكنها تشري إىل معناها امللتبس‪ ،‬لذلك يسخر‬ ‫القص الرتيب‪ ،‬ومع الحدث البديهي املحتمل‪ ،‬كام‬ ‫مع ّ‬ ‫منها العاديّون وامل ُسطَّحون‪ ،‬ونصل إىل سؤال‪ :‬هل البحر‪،‬‬ ‫الجندي الواقف عىل شاطئ البحر‪ ،‬يك يحميه‬ ‫صورة‬ ‫يف‬ ‫ّ‬ ‫يف بريوت مرسوم أم مخلوق؟‪ ،‬من امل ُؤكّد أ ّن النتيجة التي‬ ‫من اللصوص‪« :‬يض ّم بندقيته‪ ،‬ويروح ويجيء يف حراسة‬ ‫وصلت إليها البطلة عن شعرية «بريوت» الحزينة الحاملة‪،‬‬ ‫فأي‬ ‫البحر»‪ ،‬تضعنا السامن هنا‪ ،‬أمام سوريالية املشهد‪ّ ،‬‬ ‫تنطبق عىل كل مدينة‪ ،‬عىل الرغم من أن بريوت هي‬ ‫بحر هذا الذي يُحرس من الجنود‪ ،‬ويمُ نع االقرتاب منه‬ ‫املثال األكرث كشفاً للكذب‪ ،‬واألكرث قدر ًة عىل التسترّ عليه‬ ‫إال بعد إبراز بطاقة؟ إنه بحر بريوت‪ُ ،‬مس ّور‪ ،‬وغري متاح‬ ‫للّمس الشخصاين‪ ،‬إنه متمنع‪ ،‬ورافض للجنس البرشي‪ ،‬أو وإهامله أيضاً‪ ،‬تقول غادة السماّ ن‪« :‬ال بحر يف بريوت‪،‬‬ ‫مبني بطريقة تشبه أفكار من مي ّر إىل جانبه‪ ،‬ففي النهاية للذين ال بحر يف نفوسهم»‬ ‫ّ‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪107‬‬


‫نقد‬

‫علي جعفر العالق‬

‫يوتوبيا الشعر في زماننا‬ ‫في ديوانه الجديد "ذاهب الصطياد الندى"‪ ،‬ال يزال الشاعر العراقي علي جعفر العالّق ينحت كتابة‬

‫الخاصة‪ ،‬بقدرما يُ عمّ ق مالمحها الشعرية التي ال ُنخطئ ّ‬ ‫ّ‬ ‫بحة الحزن اإلنساني الرفيع فيها؛ وهي‬ ‫قصيدته‬

‫تطل ً‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫تظل‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬بالغة الكثافة ومُ‬ ‫بة لذلك باستمرار‬ ‫القصيدة التي‬

‫ّ‬ ‫عبداللطيف الوراري‬

‫تحتشد‬

‫عرب نصوص‬ ‫ال ّديوان‪ ،‬األسئلة‬ ‫القصوى لإلنسان يف مواجهة مصريه‬ ‫وسط موجات الخوف والظلم‬ ‫واالبتعاد القرسي‪ ،‬وهي تلك التي‬ ‫كل لحظة يفرح بها‪،‬‬ ‫يحلم الشعر‪ ،‬يف ّ‬ ‫أن يعكسها ويُجلّيها بتوقيته هو‪ ،‬أل ّن‬ ‫هذا هو دوره الحقيقي‪ ،‬وبه يُعيد‬ ‫إليه شهوة أطرافه التي ينقص منها ضعاف املوهبة‪،‬‬ ‫وت ُيسء إليها ُمنغّصاتهم‪ .‬مصري الشعر من مصري اإلنسان‪،‬‬ ‫مصري ُمضاعف تسلك مغامرته ذاتُ الشاعر ضمن الحركة‬ ‫وتظل ت ُقاتل يف دربها‬ ‫املتب ّدلة ـ املتبادلة يف ال ّزمن واملكان‪ُّ ،‬‬ ‫الحق بأرسه‪ ،‬يف الخيال والتذكُّر‬ ‫الحق‪ّ ،‬‬ ‫حتّى يبقى لها ّ‬ ‫واالختالف‪.‬‬

‫ّذاوت واإلقامة يف املا بني‬ ‫الت ُ‬

‫من البدء‪ ،‬نتلقّى رفيف املغامرة من الدروب الغامئة‬ ‫التي تسلكها ذات الشاعر‪ ،‬وهي تتعاطى مع أشياء العامل‬ ‫وتُفكّر فيها مبنطقٍ تلتبس فيه الحدود التي يُقيمها الدليل‬

‫‪108‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫وثنائ ّياته‪ ،‬بشكلٍ يجعل األخرية عاطلة عن‬ ‫حل محلَّها منطق الكتابة‪،‬‬ ‫أن تعمل‪ ،‬ويُ ّ‬ ‫الغائم وامل ُش ّع‪ ،‬داخل تجربة املا بني التي‬ ‫بها يخت ُّط املعنى مساره‪ ،‬ويُ ْنشئ فعاليّته‬ ‫يف غفل ٍة من الحدود‪ ،‬ومن الذّات نفسها‪.‬‬ ‫الحيوي بني اإلقامة‬ ‫نكتشف هذا االلتباس‬ ‫ّ‬ ‫والسفر ابتدا ًء من املقتبس الذي ص ّدر به‬ ‫ِ‬ ‫الخوص‪/‬‬ ‫الشاعر عمله‪« :‬حني ناولني سلّة‬ ‫العذاب‪ /،‬وهذا التش ّهي‪ ،‬لك اس ٌم‪/‬‬ ‫ريّانةً‪ ،‬قال يل‪ /:‬لك هذا‬ ‫ُ‬ ‫شبي ٌه بأ ّول هذي البال ِد‪ /‬أعني‪ :‬السفر‪».‬‬ ‫يف خض ّم عبورات العمل وترحيالته‪ ،‬نتلقّى صيغاً أخرى‬ ‫من التباس الحدود التي تتامهى مع بعضها اآلخر سواء‬ ‫بني املوت والحياة‪ ،‬املجاز والحقيقة‪ ،‬النشوة والعذاب‪،‬‬ ‫الدم والحرب‪ ،‬الجسد والذكرى‪ ،‬القرب والبعد‪ ،‬الحضور‬ ‫والغياب‪ ،‬األسطورة والواقع‪ .‬يت ُّم ذلك‪ ،‬من جهة أوىل‪،‬‬ ‫داخل سريورة املعنى الذي تجرتحه األنا الشعرية يف‬ ‫عالقتها باملكان املتهاوي الذي يُعاد تشكيله باستمرار‪،‬‬ ‫ومبوازاة مع السفر (يف ال إىل) ليالً حيث العالقة املجروحة‬ ‫باألثر تُص ّعد مكبوتها الهاجع يف الروح والذاكرة‪ ،‬والقابل‬ ‫ألن يُعاش م ّرة أخرى وبصيغٍ تطفح بالحياة والرغبة فيها‬


‫علي جعفر العالق‬

‫بتسمي ٍة جديدة‪« :‬وحيدا ً‪ /،‬ليس يل ليْ ٌل لنميض‪ /‬ليلنا‬ ‫اي التي يكرسها‬ ‫اب‪ /‬إلاّ صحار َ‬ ‫سويّةً‪ /..‬ال ق ْو َس‪ /‬النُشّ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫وأي‬ ‫أي امرأة تفوح من أصابعي‪ /‬اآلنَ‪ّ ،‬‬ ‫الوه ُم إىل نص َفينْ ‪ّ /:‬‬ ‫األكواب‪..‬؟»‬ ‫حري ٍة‪ /‬تش ّع يف‬ ‫ْ‬ ‫وترتيباً عىل ذلك‪ ،‬يت ُّم داخل الوهم الذي يغرف شعريّته‬ ‫املتوت ّرة من روح اإلنسان التي يسكن الشاعر ويسري‬ ‫معه جنباً إىل جنب‪ ،‬فيشطر ذاته‪ ،‬ويُف ّجز دخائله عرب‬ ‫تقنية املرآة التي يصطنعها ويتّخذ منها ذريعة الشبيه‬ ‫(السيموالكر) الذي يُحاوره ويو ّجه إليه الكالم‪ ،‬أل ّن مثله‬ ‫يف منفاه ال ميلك من سالح إلاّ حريته البيضاء وحزنه‬ ‫الصايف خارجاً للصيد‪ ،‬أو مواجهاً البحر‪ ،‬أو ُمصغياً لِلّيل‪،‬‬ ‫أو مستد ّرا ً غيوم الذكرى والجسد‪ « :‬كان كالنا يُغذّي‬ ‫حز َن‪ /‬صاحبه منذ التقينا بال ٍ‬ ‫قصد‪ /..‬ومذ‪ /‬كُسرِ تْ ‪ /‬أيامنا‬ ‫كاملرايا‪ /‬ذات كارث ٍة‪ /..‬ومذ‪ /‬تناااااءتْ ‪ /،‬وغامت بيننا‪/..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ونفرتق‪»..‬‬ ‫الطرق‪ /..‬ندنو‪/،‬‬ ‫يف عامل من مرايا تقرتب وتنأى‪ ،‬تسكن الذات آخرها‬ ‫وتف ّوض أمرها إليه‪ ،‬وال يكون هذا اآلخر إال مبدى بُعد‬ ‫الذات عن نفسها‪ ،‬ومبا يجعلها‪ ،‬يف اختالفها‪ ،‬شبيه ًة باآلخر‬ ‫مبقدار ما هي تتجىل وتتوارى‪ ،‬وتقرتب وتنأى يف آن‪ .‬ويف‬ ‫هذا املعنى املستأنف باستمرار‪ ،‬فإ ّن هذا العامل يحكمه‬ ‫العود األبدي الذي ال وجود فيه لليشء إال يف عودته‪،‬‬ ‫خارج خطّية الزمان وتق ُّدمه‪ .‬وباستيهامه‪ ،‬يصري هذا‬ ‫العود األبدي ـ كام يشري إىل ذلك جيل دولوز ـ كإميان‬ ‫باملستقبل؛ وليس مثل الذات يف الشعر من يُقيم فيه عىل‬ ‫ّ‬ ‫حواف املغامرة والخطر‪ « :‬هو والل ُّيل‪ /‬كانا معاً يسهرانْ‪/‬‬ ‫كل إىل و ْجه ٍة‪/:‬‬ ‫يذهب ٌّ‬ ‫ويُطيالن عمرهام‪ /‬بالسه ْر‪ /..‬ث ُ ّم‬ ‫ُ‬ ‫يذهب الليل لل ّن ْومِ ‪ /،‬والريح تمُ ْيض بقيّة ليلتها‪ /‬يف أعايل‬ ‫الشج ْر‪»..‬‬ ‫تجرتح ذات الشاعر شبي َهها املختلف‪ ،‬فإ ّن ذلك ما‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫يفتأ يُظْهر كينونتها غري قا ّرة‪ ،‬بل تتجاوز نفسها باستمرار‪.‬‬ ‫يتجسد لنا ذلك يف أكرث من معنى داخل نصوص بعينها‬ ‫ّ‬ ‫مثل «غبطة الحجر»‪ ،‬و«هذه القصيدة»‪ ،‬و«يرفو ثياب‬ ‫قصيدته»‪ ،‬و«ربمّ ا‪ ،»..‬و«ما بني وهم وآخر»‪ .‬من معنى‬ ‫أن تتحقّق الذات بالوهم وتعرب يف املا بني‪ ،‬ومعنى‬ ‫االستمراريّة يف الحياة املحلوم بها يف املجهول‪ ،‬إىل معنى‬

‫أن يكون الشاعر هو آخره يف طريقٍ مل يخترَ ْها أو فاتَتْه‬ ‫لسبب قاهر‪ .‬ويف قصيد ٍة ال تكتمل‪ ،‬يتصادى صوت‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫األنا مع أصوات جريحة قادمة من القديم والحديث‪،‬‬ ‫ومن الرشق والغرب‪ .‬امرؤ القيس‪ ،‬أبو العالء املعري‪،‬‬ ‫السياب‪ ،‬محمد عفيفي مطر‪ ،‬رسكون بولص‪ ،‬باث‪ ،‬رامبو‪،‬‬ ‫خيمينيث‪ ،‬جنباً إىل جنب‪ .‬تذا ُوتٌ يحفر يف جينيالوجيا‬ ‫النصوص ويت ُّم كرتجيع ودوار ال ينتهي‪ .‬لكن يبقى صوت‬ ‫أيب العالء األضوأ واألبرز للب ّحة العطىش التي فيه‪ ،‬حيث‬ ‫يتجسد فيه بعد الشبيه‪ ،‬ويُستدعى كقنا ٍع يف آخر العمل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فيبني عليه الشاعر رؤيته امل ُفارقة التي تسأل‪ ،‬وت ُواجه‬ ‫وتتّهم عاملاً من القتل والخراب‪ .‬ال يعود القناع قناعاً‪ ،‬إنمّ ا‬ ‫شمس‬ ‫هو اآلخر يتح ّول من را ٍء قد ‹انتفضت يف حناياه ٌ‬ ‫من ّ‬ ‫الشك› إىل مج ّرد شاهد تعطّلت رؤياه وعجزت عن‬ ‫يح‪ /:‬م ّر النبي‪ /‬عىل هذه‬ ‫الفعل واالستبصار‪ « :‬قالت ال ّر ُ‬ ‫كل طاغي ٍة‪ /‬وثناً‪ ،‬يرتنّح بني ضحاياه‪/‬‬ ‫األرض ثانيةً‪ /‬فرأى ّ‬ ‫قتيل‪.»..‬‬ ‫شمس ُمخضّ بةٌ‪ /‬أو ْ‬ ‫ُمنتشياً‪ ،‬ومدى ما ترى الع ُني‪ٌ /‬‬ ‫ولست أعرف إن كان أبو العالء يوقظ الشاعر من وهمه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫غري أنّه ـ باأليقونة التي يظهر بها ويتط ّهر فيها أيضاً ـ‬ ‫يزيد وعي الشاعر ح ّد ًة وانتباهاً‪ ،‬ويُطلق معانيه يف رياح‬ ‫ّ‬ ‫الشك والحرية من جديد‪ ،‬حتّى ال يتكلّس كـ «معتقد‬ ‫جام ّيل» ويسرتخي باالطمئنان إىل الوهم نفسه‪.‬‬ ‫يف املقابل‪ ،‬تخرتق بنية اللغة عالقة جدليّة نلمحها عىل‬

‫يبقى صوت أبي العالء األضوأ‬ ‫حة العطشى التي‬ ‫واألبرز للب ّ‬ ‫يتجسد فيه بعد‬ ‫فيه‪ ،‬حيث‬ ‫ّ‬ ‫كقناع في‬ ‫الشبيه‪ ،‬ويُستدعى‬ ‫ٍ‬ ‫آخر العمل‪ ،‬فيبني عليه الشاعر‬ ‫مفارقة التي تسأل‪،‬‬ ‫رؤيته ال ُ‬ ‫وتُواجه وتتّهم عالم ًا من القتل‬ ‫والخراب‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪109‬‬


‫نقد‬

‫الدوام‪ ،‬ت ُعيد التوازن ملا يت ّم داخلها من توت ُّ ٍر واخرتاق‪.‬‬ ‫هي عالقة األنا ووعيها امل ُبتهج بجسدها‪ -‬جسد األنثى‬ ‫حيث يثوي موطن كينونتها الذي يعطر ويتو ّهج‪ .‬فعىل‬ ‫‹تقاسيم› الجسد وصنائع األنثى العجيبة التي ت ُحيي‬ ‫الحب وأهواءه‬ ‫امليت وتسكر الغافل‪ ،‬يُفلسف الشاعر ّ‬ ‫حيت تصري املرأة معادالً لالنطالق إىل الحياة‪ ،‬كام يش ّد‬ ‫خطابها الالفح إىل املوت متوتّرا ً بني نشوة العذاب وليل‬ ‫املاء الال متناهي‪« :‬فال ليْ َل لهذا اللّيْل‪ /‬إلاّ ليلها ال ّنديانُ‪/‬‬ ‫يبعثُ يف دمي ُر ُسلَهْ‪ .»..‬فالجسد يصري شبيهاً‪ ،‬أنا ـ آخر؛‬ ‫فهو ذات الشاعر ومرآته يف آن‪ ،‬مماّ يجعل من الجسد‬ ‫َح ْقالً مثريا ً يستيض ُء برمزيّة املاء واستعارات اللغة‪« :‬قال‬ ‫لها‪ِ /:‬‬ ‫يداك ما أشهاهام‪ /‬حني مت ّران عىل ُحلْمي‪ /،‬هذا‬ ‫القاحل‪ /،‬أو حني تج ّران قطيعاً من غيوم الله‬ ‫ُ‬ ‫األشيب‬ ‫ُ‬ ‫للغرفة‪ /..‬ما أدر ِ‬ ‫محض صخر ٍة‪ /‬عاري ٍة‬ ‫اك ما الغرفةُ؟‪ُ /‬‬ ‫من دومنا اثنينْ ِ‪ /‬يُضيئانِ عىل الرسيرِ‪ ،‬أو يفوحان‪ /‬عىل‬ ‫الرسي ْر‪.»..‬‬ ‫ويف سياقٍ ُموا ٍز ومنبثقٍ عنه‪ ،‬تتجاوز ذات الشاعر ما هو‬ ‫جمعي يستدعي الوطن‬ ‫فردي ـ شخصا ٌّين فيها إىل ما هو‬ ‫ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ُمشْ بعاً مبفردات التاريخ واألسطورة مثلام يف نصوص «لغ ٌة‬ ‫ٍ‬ ‫وعندئذ يكون مللفوظ الذّات طعم‬ ‫للقطا والحامم»‪،‬‬ ‫الصعق‪ .‬فالشاعر‪ ،‬وهو ابن واسط الخصيبة‪ ،‬بقدرما يذكر‬ ‫للوطن نعمته التي لوالها مل يكن شيئاً‪ ،‬ويتذكّر ما كان‬ ‫يفعله ماء دجلة يف الجسد واألرض من عنفوان به يرتوي‬ ‫الحب والحكمة فيها‪ ،‬بقدرما‬ ‫نسغ الحياة وترتقي آداب ّ‬

‫يتحسرّ عىل ما آل إليه الوطن يف «مهرجان الكراهة» بعد‬ ‫االحتالل وما صاحبه من مأساة حقيقيّة‪ ،‬كأ ّن أرضه طُويت‬ ‫السجل»‪ ،‬ويُناديه من قاع خوفه ليك ال يفقد األمل‬ ‫ّ‬ ‫«طي‬ ‫ّ‬ ‫يف حريته العالية الناجمة عن الشعور باالغرتاب والحنني‬ ‫كنت أحميك م ّني‪/:‬‬ ‫إىل الوطن املفقود واملحلوم به‪« :‬كَ ْم ُ‬ ‫يل‪ ،‬أعلّقها‪ /‬عالياً‪،‬‬ ‫أمشّ ط أيامك َ‬ ‫البيض‪ /،‬أغمر أحزانها بال ُح ّ‬ ‫فوق ن ْه ٍر صغريٍ‪ /‬صغ ْري‪ /‬وطناً قاسياً‪ /‬كالحري ْر‪.»..‬‬ ‫ولكن «عبثاً ينصبون كامئنهم لل ّندى‪ ..‬عبثاً يرسقون‬ ‫أسامي الينابيع‪ .»..‬ذلك ما يجعل الشاعر‪ ،‬يف متاعه‬ ‫الشحيح‪ ،‬يبحث عن «قمر ذابل فوق أوروك»‪ ،‬ويجعل‬ ‫روحه الحائرة تطفح باألمل عرب صريرورة ـ ذاته يف‬ ‫املعنى الذي يتطلّب واجب التذكُّر والحنني ملواجهة‬ ‫العزلة والنسيان‪ ،‬ومقاومة الشعور بالخوف واليأس وسط‬ ‫أكوام الخراب‪ ،‬وهو ما نجده يكثّف سريورته يف «مديح‬ ‫الرمل»‪ ،‬عندما يرصخ من بطن الحوت وينتفض‪ ،‬مثل‬ ‫اللديغ‪ ،‬ض ّد ‹الطغاة‪ ،‬القساة‪ ،‬الجناة‪ ،‬الغزاة‪ ،‬الذئاب‪.‬‬ ‫ووراء هذا االنفعال الذي يصطرع بداخل الذّات ويصبغ‬ ‫رؤيتها الوجودية املحفوزة بسخاء األمل‪ ،‬ما يق ّوي وهم‬ ‫الشاعر ويجعله مستأنفاً باستمرار‪ ،‬فيصري كرضورة عندما‬ ‫الخاصة ج ّدا ً‪ ،‬وهي اللغة نسلها من‬ ‫يستيضء بلغة الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫بابل وربّاها باملاء وعطّرها بدم األضحيات‪ « :‬نحن شتّانَ‪/:‬‬ ‫ذهب الر ْملِ ‪ /،‬أو فضّ ةُ‪ /‬القاع‬ ‫يل لغتي‪ /،‬ولكم لغةٌ‪ /..‬أنت ُم ُ‬ ‫العذاب‪.»..‬‬ ‫باردةً‪ /،‬وأنا ابن‬ ‫ْ‬ ‫شعرنة الوهم‪ ..‬دفاعاً عن الشعر‬

‫الفنان ضياء العزاوي‬ ‫‪110‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫علي جعفر العالق‬

‫من ذات إىل ذات‪ -‬آخر‪ ،‬ت ُك ّرس نصوص ديوان «ذاهب‬ ‫الصطياد الندى» جهدها الجام ّيل والتياميت دفاعاً عن‬ ‫الوهم وتعمل عىل شعرنته متوتّرا ً‪ ،‬يف لحظة حادّة من‬ ‫الوعي‪ ،‬بني الحضور والغياب؛ فام الوهم إلاّ وجه الحقيقة‬ ‫الغائبة التي يذهب إليها الشعر ويلوذ بها‪ ،‬مثلام تذهب‬ ‫حاولت أن‬ ‫أنا القصيدة وآخرها القرين‪ ،‬باستمرار‪« :‬كم‬ ‫ُ‬ ‫أستدرج ال ّندى‪ /‬ليك يسيل من شجر ٍة‪ /‬توشك أن تلفظ‬ ‫خرضتها‪ /‬األخريةْ‪.»..‬‬

‫ثنائية املكتوب والشفاهي‬

‫ال ّندى هو نسغ الوهم‪ .‬ذلك الذي ال يزال ُّ‬ ‫يرف عالقاً‬ ‫بالذاكرة‪ ،‬واملكان‪ ،‬والجسد‪ ،‬والكتابة‪ .‬إنّه ما يجعل الشاعر‬ ‫يواصل البحث يف أسئلة كينونته كأنّه يُصغي إىل «بطْنٍ‬ ‫ُحبْىل»‪ ،‬ويُح ّرض شعره عىل الغناء والبوح مبا يُبْقي األمل‬ ‫لديه ح ّياً‪ .‬فالعنوان نفسه يقيم‪ ،‬أيقون ّياً واستعاريّاً‪ ،‬يف‬ ‫هذه اللحظة امل ُفارقة من بحث الذات لكينونتها وزمنها‬ ‫العيص واملتفلّت باستمرار‪ ،‬وهو ما يجعلها تشتبك‬ ‫ّ‬ ‫بآخرها‪ ،‬وتعود بقصيدتها إىل زمن البدايات األوىل يف‬ ‫صفائها واالندهاش بها‪.‬‬ ‫يلح عيل جعفر‬ ‫ملاذا‬ ‫نفهم‬ ‫بهذا املعنى‪ ،‬يجب أن‬ ‫ُّ‬ ‫العالق ـ بوعيه الشعري والنقدي معاً ـ عىل أنّه يكتب‬ ‫الخاصة به‪ ،‬القصيدة الصافية‪ .‬فهي ال تنتمي‬ ‫قصيدته‬ ‫ّ‬ ‫إال له‪ ،‬وال ت ُذكّر إال به‪ ،‬عرب لغته هو فحسب‪ .‬يف فضاء‬ ‫الصفحة امل ُشظّاة واملدبوغة بحرب دمه ورفيف أنفاسه‪،‬‬ ‫الخاص للغة‪ ،‬وبالتايل للشعر‪ ،‬كنداء‬ ‫يمُ ارس تص ُّوره‬ ‫ّ‬ ‫حيث ترسح متوالياتها كرسب ظباء جافالت يُسمع لها‬ ‫صوت‪ ،‬وحرشجة‪ ،‬وإيقاع خافت؛ وحيث يتناوب املعلوم‬ ‫واملجهول‪ ،‬املقول واللاّ مقول‪ ،‬الثابت والصدفوي‪ .‬وهذه‬ ‫ٍ‬ ‫إمكانات‪/‬‬ ‫الصفحة‪ ،‬املتع ّددة بخطّيتها‪ ،‬ت ُعطي للبيت‬ ‫تشك ِ‬ ‫ُّالت ال حرص لها من التوقيع الذّايت الذي تخرتقه‬ ‫القوايف‪ ،‬والتوازيات‪ ،‬والبياضات‪ ،‬وأشكال التكرار والرتقيم‬ ‫والتفقري والتقطيع ضمن عمل اللغة وأساليبها املشدودة‬ ‫إىل حركة املعنى‪ ،‬مثلام إىل عالقات التناظر والرتجيع‬ ‫والتدوير الناشئة عن أعاريض البحور البسيطة (املتدارك‬ ‫أ ّوالً‪ ،‬ثم الرجز فالرمل والوافر) والبحور املركبة (البسيط‬

‫تحديدا ً)‪ .‬وإذا كانت قصائد الديوان تنتظم يف سياق‬ ‫شعر التفعيلة ـ باستثناء قصيدة نرث بعنوان «ما بني‬ ‫وهم وآخر»ـ إلاّ أنّها ت ُعقِّد الوضعية الوزنية للبيت الحر‪،‬‬ ‫وتخرق نظام الوحدات الثالث (العروضية‪ ،‬النظمية‬ ‫والداللية)‪ ،‬وت ُعيد بناء القافية وترتيب ثنائية املكتوب‬ ‫والشفاهي داخل القصيدة بر ّمتها‪ .‬فنحن‪ ،‬بهذا املعنى‪،‬‬ ‫نوعي‪ ،‬ال واعٍ‪ ،‬متقطّع و ُم ْدرك بشكْلٍ يُظهر‬ ‫أمام إيقا ٍع ٍّ‬ ‫حاالت الذّات داخل اللغة التي ال ت ُختزل‪ ،‬هنا‪ ،‬إىل‬ ‫التواصل واإلعالم الذين ال يهتماّ ن سوى بتجريد الذّات‬ ‫املتكلمة‪ .‬هكذا‪ ،‬يبحث الشاعر أفكاره ال عن طريق‬ ‫العقل‪ ،‬بل عرب فضيلة اإليقاع السليم الذي ينتظر معجزة‬ ‫الكلامت إذ تقع كام يجب‪ ،‬سواء أكانت طوالً أو جرساً‬ ‫معنى‪ ،‬وفيام بعد‪ ،‬تحت مسحة الحزن‪ ،‬يجد العاطفة‬ ‫أو ً‬ ‫الوارفة التي ت ُطلق األفكار جميعاً‪.‬‬ ‫إ ّن القصيدة ـ كام يتص ّورها العالق ـ أه ّم من أن تكون‬ ‫أغنية‪ ،‬ولن تكون حكاي ًة وال كانت إعالناً يف الصفحة‬ ‫خاص‪ ،‬غائ ٌم و ُمش ٌّع يف آن‪.‬‬ ‫الرابعة‪ .‬إنمّ ا هي ٌ‬ ‫فني ّ‬ ‫عمل ٌّ‬ ‫ولهذا‪ ،‬فهي تتطل ُّب م ّنا ـ كق ّراء ومؤ ّولني ـ إصغا ًء من نوع‬ ‫التامس حيث مكمن الضوء‪ ،‬واملاء‬ ‫خاص يصلنا إىل نقطة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والرسيرة‪ ،‬عرب طرق الوهم الجميل التي نسلكها‪ .‬ال أن‬ ‫نكون ـ كام يف حكاية يرويها الشاعر األمرييك ألن تيت ـ‬ ‫مثل ذلك الرجل العابر الذي يفزع الصيّاد املستغرق يف‬ ‫وهم جميل أمام نهر صغري يتخيّله طافحاً بهدير األمواج‬ ‫وفضّ ة الزبد‪ ،‬بعد أن يخربه بأن ال يشء يف النهر‪ ،‬فيفسد‬ ‫عليه وهمه ويطرد من مياه مخ ّيلته األسامك والنوارس‬ ‫وأجراس القاع الدافقة إىل األبد‪.‬‬ ‫إ ّن هذا الوهم الذي تقدحه ذات الشاعر‪ ،‬وتحرسه‬ ‫مخيّلته مشبوباً مبياه اللغة واإليقاع‪ ،‬لهو رديف األمل‬ ‫التامس تلك‪،‬‬ ‫الذي ينادينا عرب العصور واألزمنة‪ ،‬من نقطة‬ ‫ّ‬ ‫عند شعراء صنعوا من وهمهم الجميل رضورة أن يكون‬ ‫وتظل‬ ‫الشعر بيننا‪ ،‬ألجل أن نتطلّع باستمرار إىل الحياة‪َّ ،‬‬ ‫قلوبنا قادر ًة عىل االنفعال بها؛ وبالتايل‪ ،‬يسهم الشعر يف‬ ‫إضاءة جوهر الحياة ويُهيّىء لنا تراثاً ملستقبل مل يأت‬ ‫بعد‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪111‬‬


‫حائط أبيض‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الجراح‬ ‫نوري‬ ‫‪.............................................................................................................‬‬

‫تعويذة خائف‬ ‫(حول الشعر وجدواه)‬

‫يخيل‬

‫إ ّيل مرات‪ ،‬أن اإلنسان املعارص أشبه ما يكون بشخص محتجز يف برئ‪ .‬وما الشعر إال صوت األمل يف ذلك الكائن‪ .‬والشاعر‬ ‫هو ذلك الصوت الذي يتحدث إىل العامل من ذلك البعد القيص‪ ،‬من تلك الغيابة التي يف الجب‪ ،‬حيث كل إنسان ما أن يعي‬ ‫وجوده يف العامل حتى يكتشف حقيقة انه ذلك الشخص األسري‪ ،‬وليس لديه سوى صوت األمل‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫تصويت من سائر يف طريق موحش‪.‬‬ ‫قصيديت هي ذلك الصوت‪ ،‬ومرات تكون القصيد ُة ويكون مثلها كمثل تعويذة خائف من قدر‪،‬‬ ‫لكن عالقتي بالكلامت‪ ،‬وعالقة كلاميت بالرؤى التي تجسدها‪ ،‬إمنا هي منحرفة‪ ،‬مورابة‪ ،‬العبة‪ ،‬موهمة ببساطتها‪ ،‬وملتبسة مراراً‪ ،‬وتشتغل‬ ‫عىل اإليهام‪ .‬وطوال الوقت اإلبهام خالق الشفافية وابنها‪.‬‬ ‫إن ولعي االكرب هو يف التقاط تلك املشاعر الشفافة الهاربة‪ ،‬املشاعر العصية عىل الفهم‪ ،‬املشاعر التي تغمر كياننا بالضوء‪ ،‬لكنها أيضاً‬ ‫املشاعر التي تضعنا أمام حقيقة أن قدر الكائن أن يواجه مبفرده املنظومة األقنومية القاسية للوجود مؤلفة من عالقات الحياة باملوت‪،‬‬ ‫واآلىس‪ ،‬والحب‪ ،‬واملرح‪ ،‬والفقدان‪ .‬وأن يشتبك بكامل كيانه مع العامل‪ ،‬ليؤلف شعره من دم الحرية‪ ،‬ومن الشوق الذي ينسج صورتها‪.‬‬ ‫رس ال تقوله الكلامت‪.‬‬ ‫فالشعر مرة بعد أخرى‪ ،‬وبال كلل‪ ،‬صوت الحرية‪ .‬وهو الجامل األكرث اشتباكاً بها‪ .‬لكن الشعر أيضاً ٌّ‬ ‫ثالثة أمور لطاملا أثارها السؤال حول قوة الشعر‪ :‬األول يتعلق باللغة كابتكار يخالف العادي والدارج‪ ،‬أي أن يكون الشاعر وشعره عىل‬ ‫النقيض من اللغو الرائج‪ ،‬واالفكار الشائعة‪ ،‬واألزياء اللغوية السائدة‪.‬‬ ‫واألمر الثاين يتعلق مبدى قوة موضوعات هذا االبتكار‪ ،‬وقدرة لغته عىل خلق قيم جاملية جديدة‪.‬‬ ‫واألمر الثالث يتعلق مبوقف الشاعر من الوجود‪ ،‬وجدوى الشعر‪.‬‬ ‫لطاملا شغلتني هذه االسئلة ومعها أسئلة اخرى‪ .‬ولطاملا امتحنت صربى يف تأملها‪ ،‬بال أمل يف جواب شاف‪.‬‬ ‫لست ممن يأخذون بفكرة أن كل شعر يكتب اليوم تحت يافطة الجديد هو شعر جديد بالرضورة‪ .‬بل إنني أكاد أرى يف كثري من هذا‬ ‫الشعر نسخا من غريه متفاوتة القيمة‪ .‬وملا كانت الحياة الشعرية العربية الراهنة تفتقر بصورة مخجلة إىل أسئلة نقدية كاشفة‪ ،‬فلك أن‬ ‫تتصور يف أي عمى أديب نحن‪ .‬ويف أي فوىض يعيش الشعر العريب منذ عقود‪.‬‬ ‫إمنا‪ ،‬يف يقيني‪ ،‬أن الشعر املكتوب باللغة العربية‪ ،‬اليوم‪ ،‬يضمر مناطق قوة هائلة‪ ،‬وهناك يف جغرافيته الواسعة تجارب شعرية ترقى‬ ‫إىل مستويات جاملية رفيعة‪ ،‬وميكن وصف بعض هذه التجارب بانها حديثة بامتياز‪ .‬مقابل بحر من الكتابة الشعرية التي ال تصدر عن‬ ‫مواهب كبرية‪ ،‬لكنها يف الوقت نفسه تعرب عن شغف هذه األمة بالشعر‪ ،‬وتعلقها به‪.‬‬ ‫من الناحية الجاملية أرى أن الشعر العريب استطاع أن يتغري ويجاري العرص بفضل تلك الحيوية التي متتع بها‪ ،‬عرب مختلف املحطات‬ ‫الكربى من عصور تطوره‪ ،‬ويف نظري ونظر آخرين‪ ،‬أن الشعر العريب يف القرن العرشين شهد تطوراً مذه ًال يف تسارعه وشموليته‪ ،‬ويف‬ ‫استيعابه ملفردات الحداثة‪ .‬وقد اثبتت الشعرية العربية أنها ليست أقل شأناً أو شأوا وخصوصية من أي ثقافة شعرية ألمة من األمم‬ ‫الحديثة‪ ،‬رغم فشل املجتمعات العربية عىل صعد مختلفة وأخصها السيايس واالقتصادي‪ .‬فالروح العربية‪ ،‬والحيوية اإلنسانية وتوق البرش‬ ‫إىل الجامل والحق والحرية ميد الشعر ببأس ال ينقطع‪.‬‬ ‫الشع ُر أخط ُر ما يتيحه قلقُ‬ ‫الروح اإلنسا ِّين من تعبري يف اللغة‪ ،‬وهو يصدر من مناطق متطرفة ويسلك عند تلك االنحدارات العميقة‬ ‫ِ‬ ‫للشعور يف عالقته بالالشعور‪ .‬من تلك املزالق الخطرة ُيطرح السؤال حول جدوى وجود اإلنسان عىل هذه االرض؟‬ ‫إن جدوى الشعر مرتبطة بجدوى الوجود اإلنساين‪ .‬وإن كنا ال نرى من ذلك الوجود جدوى‪ ،‬فال جدوى إذن من أي يشء!‬

‫‪112‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫صـحـب الـناس قبلنا ذا ال ّزمانا‬ ‫وعـنـاهـم مـن شأنه ما عنانا‬ ‫بـغـصـة كـ ّلهم منـــــه‬ ‫وتـولـّوا‬ ‫ّ‬

‫وإن سـر‬

‫بـعـضـهـم أحيانا‬

‫ديوان‬ ‫العرب‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪113‬‬


‫خارج السرب‬

‫الشنفرى في «المية العرب»‬

‫قصيدة عكس الزمن‬

‫ُيعد‬

‫ّ‬ ‫الشنْفرى ابرز الشعراء العرب الصعاليك يف فرتة ما قبل االسالم‪ ،‬الذين عاشوا حياتهم وشعرهم خارج الرسب‪،‬‬ ‫ورغم ان الشاعر خلف ديوانا كامال فإن التي بقيت خالدة رغم الزمن وذاع صيتها من قصائده هي «المية‬ ‫العرب» التي زاحمت يف شهرتها املعلقات‪ ،‬كونها «من بني القصائد املفردات التي ال مثل لها يف الشعر العريب»‪ ،‬حسب‬ ‫قول املسترشق األملاين كارل بروكلامن عنها‪ ،‬إِذ ذكر أنها متثل مذهبا شعريا مستقال‪ ،‬وما الحظه عليها املسترشق األملاين‬ ‫جورج ياكوب من أن «الالمية تختلف عن سائر قصائد الشعر الجاهيل من حيث عدم االلتزام بنظام القصيدة والوقوف‬ ‫عىل األطالل والوصف واملشاهد»‪ ،‬إِذ يرى أَنه‪« :‬عىل حني يجعل الشعر الجاهيل وصف الطبيعة من الجبال والفيايف‬ ‫وغريها غرضا مقصودا لذاته‪ ،‬يتخذ شاعر الالمية هذا الوصف مبثابة منظر أسايس بهيج لتصوير اإلنسان نفسه وأعامله»‬ ‫حفل األدب العريب بالقصائد الالمية منذ أن عرف الناس الشعر ‪،‬ويجمع النقاد عىل انه مل تبلغ قصيدة من هذه القصائد‬ ‫يف شهرتها وذيوعها ما بلغته المية َّ‬ ‫الشنْفرى‪ ،‬بل مل تحظ قصيدة عربية مبثل ما حظيت به المية العرب من اهتامم سواء‬ ‫يف القديم والحديث‪ .‬ومن مظاهر أهميتها اهتامم العلامء واألدباء بها ‪،‬انه تداولها الرواة ثم تناقلها كثري من العلامء‬ ‫واملؤلفني ثم تواِىل عليها عدد كبري من الرشاح يف رشوح خاصة بها‪ ،‬ويعترب النقاد انها بلغت هذا املبلغ بفضل ما فيها من‬ ‫«جودة الشاعرية وطرافة املشاهد املصورة‪ ،‬ووفرة املادة اللغوية التي اغرت العلامء برشحها وإعرابها» وهي أيضا «من‬ ‫خري الشعر الذي ميثل األسلوب الجاهيل‪ ،‬اسلوب البداوة ‪ ،‬وهذه القصيدة يتغنى بها املتأدبون كام يتغنون بأحداث الشعر‬ ‫أسلوبا ورقة‪ ،‬وذلك الن روح الخشونة والقوة واألنفة والحامسة ماثلة فيها»‪.‬‬ ‫سميت بالمية العرب متييزاً لها عن سائر القصائد الالمية يف األدب العريب وقد علل احد العلامء هذه التسمية بقوله‪:‬‬ ‫«فكأنها من تأليف العرب مجتمعني‪ ،‬أو كأن َّ‬ ‫الش ْن َف َرى اسقط عن العرب كلفة الحديث عن أنفسهم وبيان مفاخرهم‬ ‫املتعلقة بالقيم املركوزة يف أنفسهم»‪ .‬أما زمن إطالق هذه التسمية عليها ‪ ،‬فقديم ولعل أول من أطلق عليها هذه التسمية‬ ‫– إَن صحت الرواية – سيدنا عمر بن الخطاب إِذ قال‪« :‬علموا أوالدكم المية العرب فإِنها تعلمهم مكارم األخالق» ‪.‬وقد‬ ‫رشحها العديد من اعالم االدب العرب مثل بن قتيبة والزمخرشي‪.‬‬

‫‪114‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫ديوان العرب‬

‫أقيموا بني أمــــي ‪ ،‬صدو َر َم ِطيكم‬ ‫الحاجات ‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫والليل مقـــم ٌر‬ ‫فقد حمــت‬ ‫ويف األرض َمنْأىً ‪ ،‬للكــريم ‪ ،‬عـــن األذى‬ ‫أمـــرئ‬ ‫ـــم ُر َك ‪ ،‬ما باألرض ضيقٌ عىل‬ ‫ٍ‬ ‫لَ َع ْ‬ ‫َ‬ ‫أهــــلون ‪ِ :‬س ْيدٌ َع َم َّل ٌس‬ ‫ويل ‪ ،‬دونكــم ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ذائع‬ ‫هــم‬ ‫األهـل ال مســـتودعُ الســــ ِّر ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫باســــل غـــــــري أنني‬ ‫وكل أ ِّيب ‪،‬‬ ‫وإن ْ‬ ‫مـدت األيدي إىل الزاد مل أكــــــن‬ ‫َ‬ ‫وماذاك إال َب ْســط ٌة عـــن تفــــضلٍ‬ ‫وإين كفــاين َف ْقدُ مــــن ليس جازياً‬ ‫مشيع‪،‬‬ ‫ثالث ُة‬ ‫أصحــاب‪ :‬فــــــــؤادٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ـــتوف‪ ،‬مــن الم ُ ْل ِس ا ُملتُـونِ ‪ ،‬يزينها‬ ‫هَ‬ ‫إذا ّ‬ ‫الســهــم‪َ ،‬حن َّْت كأنها‬ ‫زل عنها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مبهــــــــياف ‪ُ ،‬ي َعـشىِّ َسـوام ُه‬ ‫ولســت‬ ‫ٍ‬ ‫بعـــــرس ِه‬ ‫وال جبأ أكـهــى ُمـــــ ِر ِّب‬ ‫ِ‬ ‫وال َخــــــ ِرقٍ هَ ْي ٍق ‪ ،‬كـــأن ُفـــــ َؤاد ُه‬ ‫خــــالف دار َّي ٍة ‪ُ ،‬مت َغــــــــــــزِّلٍ ‪،‬‬ ‫وال‬ ‫ِ‬ ‫ولست ِب َع ٍّ‬ ‫ــــــل شرَ ُّ ُه د َ‬ ‫ُ‬ ‫ُون َخري ِه‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫الم ‪ ،‬إذا انتحــت‬ ‫ولست مبحيار الظ ِ‬ ‫الص َّوان القى مناســــــمي‬ ‫إذا األمع ُز َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُأ ِد ُيم ِم َ‬ ‫الجــــوع حتى أ ِميتهُ‪،‬‬ ‫طال‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫األرض يك ال يـــرى ل ُه‬ ‫وأستف ُترب‬ ‫ِ‬ ‫رشب‬ ‫ولوال اجتناب الذأم ‪ ،‬مل ُي ْل َف َم ٌ‬ ‫تقيم يب‬ ‫ولكنَّ نفســــاً ُمر ًة ال‬ ‫ُ‬ ‫وأط ِوي عىل ُ‬ ‫ْ‬ ‫انطوت‬ ‫الخمص الحوايا ‪ ،‬كام‬ ‫القوت الزهي ِد كام غدا‬ ‫وأغدو عىل‬ ‫ِ‬ ‫يح ‪ ،‬هافياً‬ ‫ُ‬ ‫غدا َطاوياً ‪،‬‬ ‫يعارض ال ِّر َ‬ ‫فلماَّ لوا ُه ال ُق ُ‬ ‫وت من حيث أ َّم ُه‬ ‫يب الوجو ِه ‪ ،‬كأنها‬ ‫ُم َه ْل َه َل ٌة ‪ِ ،‬ش ُ‬ ‫ُ‬ ‫حثح َ‬ ‫أو َ‬ ‫الخشرْ َ ُم‬ ‫ث َد ْب َر ُه‬ ‫املبعوث َ‬ ‫ُم َه َّر َت ٌة ‪ُ ،‬فو ٌه ‪ ،‬كأن ُشدُ وقها‬ ‫َف َض َّج ‪َ ،‬‬ ‫وض َّج ْت ‪ِ ،‬بالبرَ َ ِاح ‪ ،‬كأ َّنها‬ ‫وأغضت ‪ ،‬واتىس وا َّت ْ‬ ‫ْ‬ ‫ست به‬ ‫وأغىض‬ ‫َ‬ ‫َشكا وشك ْت ‪ ،‬ثم ارعوى بعدُ وارعوت‬

‫ُ‬ ‫ألميل‬ ‫قوم ِســــــواكــم‬ ‫فإين ‪ ،‬إىل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وأرح ُل؛‬ ‫وشــدت ‪ ،‬لِ ٍ‬ ‫طيات ‪ ،‬مطايا ُ‬ ‫وفيها ‪ ،‬ملن خاف ال ِقــىل ‪ُ ،‬متعـز َُّل‬ ‫ُ‬ ‫يعقل‬ ‫سرَ َى راغباً أو راهباً ‪ ،‬وهــو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫جيأل‬ ‫وأرقط ُزهـــلول َوعَـــــرفا ُء‬ ‫لديهم ‪ ،‬وال الجاين مبا َج َّر ‪ُ ،‬ي ْخ َذ ُل‬ ‫ُ‬ ‫أبسل‬ ‫إذا عـــــرضت أوىل الطرائ ِد‬ ‫القوم أعجل‬ ‫بأعجلهم ‪ ،‬إذ ْأج َش ُع‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫املتفض ُل‬ ‫األفضل‬ ‫َع َلي ِهــــم ‪ ،‬وكان‬ ‫ِب ُحســــنى‪ ،‬وال يف قــــربه ُم َت َع َّل ُل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫عيطل‬ ‫إصليت ‪ ،‬وصفـــرا ُء‬ ‫وأبيض‬ ‫رصائع قد نيطت إليها ‪ ،‬و ِم ْحــ َم ُل‬ ‫ُ‬ ‫ُم َر َّزأ ٌة ‪ ،‬ثكــــىل ‪ ،‬ت ِر ُن و ُتعـــــ ْـ ِو ُل‬ ‫ُم َجــــ َد َع ًة ُسقبانها ‪ ،‬وهـــي ُب َّه ُل‬ ‫ُ‬ ‫يفعل‬ ‫ُيطالعـها يف شـــــأنه كيف‬ ‫َي َظ ُّل به امل ّكـــــــا ُء يعلو و َي ْس ُف ُل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يتكحل‬ ‫يروح ويغدو ‪ ،‬داهـــــناً ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اهتاج ‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫أعزل‬ ‫ألف ‪ ،‬إذا ما ُرعَته‬ ‫َ‬ ‫هوج ُل‬ ‫هدى الهوجلِ‬ ‫ِ‬ ‫العسيف يهام ُء َ‬ ‫قـــــادح و ُم َف َّل ُل‬ ‫تطــــــاير مــــنه‬ ‫ٌ‬ ‫وأرضب عنه ال ِّذك َر صفحاً ‪ ،‬فأذهَ ُل‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َع َّ‬ ‫يل‪ ،‬مـــــن الط ْولِ ‪ ،‬ام ُرؤ ُمتط ِّو ُل‬ ‫ُ‬ ‫ومأكـــــل‬ ‫ُيعـــــاش به ‪ ،‬إال لديِّ ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أتحول‬ ‫عىل الضيم ‪ ،‬إال ريثــــام‬ ‫ُخ ُي َ‬ ‫ُ‬ ‫وتفتل‬ ‫وط ُة مــــاريّ ُتغــــا ُر‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫أطحــــــل‬ ‫أزل تهــــاداه التَّنا ِئ ُف‪،‬‬ ‫وت بأذناب ِّ‬ ‫ُ‬ ‫يخ ُ‬ ‫الش َعــــاب‪ ،‬وي ْع ِس ُل‬ ‫دعا؛ فأجـــــابته نظـــــــائ ُر ُن َّح ُل‬ ‫بكفي ياسرِ ٍ ‪ ،‬ت َت َق ْل َق ُل‬ ‫داح‬ ‫ِق ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َم َح ُ‬ ‫ابيض أرداهُ نَّ َس ٍام ُم َع ِّس ُل؛‬ ‫ُش ُق ُ‬ ‫ٌ‬ ‫كالحات َو ُب َّس ُل‬ ‫وق ال ِعصيِ ِّ ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫وإيا ُه ‪ ،‬ن ْو ٌح َ‬ ‫فوق علياء ‪ ،‬ثك ُل؛‬ ‫َم َر ُ‬ ‫اميل َعزَّاها ‪ ،‬و َعزَّت ُه ُم ْر ِم ُل‬ ‫ُ‬ ‫أجمل!‬ ‫لص ُرب ‪ ،‬إن مل ينفع الشك ُو‬ ‫ولَ َّ‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪115‬‬


‫خارج السرب‬

‫ْ‬ ‫ات‪ ،‬و ُك ُّلها‪،‬‬ ‫َو َفا َء‬ ‫وفاءت با ِدر ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وترشب أسآ ِري القطا الك ْد ُر ؛ بعدما‬ ‫ُ‬ ‫وأس َدلَ ْت‬ ‫هَ َم ْم ُت وَهَ َّم ْت ‪ ،‬وابتدرنا ‪ْ ،‬‬ ‫َف َو َّل ْي ُت عنها‪ ،‬وهي تكبو لِ َع ْقر ِه‬ ‫كأن وغاها‪ ،‬حجرتي ِه وحول ُه‬ ‫ني ِمن َشتَّى إلي ِه‪َ ،‬‬ ‫تواف َ‬ ‫فض َّمها‬ ‫ُ‬ ‫َف َع َّب ْت غشاشاً ‪ ،‬ث َّم َم َّر ْت كأنها ‪،‬‬ ‫وآلف وجه األرض عند افرتاشها‬ ‫ُ‬ ‫وص ُه‬ ‫وأعدل َمنحوضاً كأن‬ ‫ُ‬ ‫فص َ‬ ‫فإن تبتئس بالشنفرى أم قسطلِ‬ ‫َ‬ ‫تيارسن لَ ْح َم ُه ‪،‬‬ ‫نايات‬ ‫َط ِريدُ ِج ٍ‬ ‫تنا ُم إذا ما نام ‪ ،‬يقظى عُ ُيو ُنها ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هموم ما تزال َت ُعود ُه‬ ‫وإلف‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫وردت أصدر ُتها ‪ ،‬ث َّم إنها‬ ‫إذا‬ ‫فإما تريني كابنة ال َّر ْملِ ‪ ،‬ضاحياً‬ ‫فإين ملوىل الصرب ‪،‬‬ ‫أجتاب َب َّزه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُوأعد ُم ْأحياناً ‪ ،‬وأغنى ‪ ،‬وإمنا‬ ‫فال َجزَعٌ من ِخل ٍة ُم ِّ‬ ‫تكش ٌف‬ ‫ُ‬ ‫وال تزدهي األجهال ِحلمي ‪ ،‬وال أرى‬ ‫نحس ‪ ،‬يصطيل القوس ربها‬ ‫وليل ِة‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وبغش ‪ ،‬وصحبتي‬ ‫دعست عىل غط ٍش‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وأيتمت ِو ْل َد ًة‬ ‫فأيمَّ ُت ِنسواناً ‪،‬‬ ‫بالغميصا ِء ‪ ،‬جالساً‬ ‫وأصبح ‪ ،‬عني ‪ُ ،‬‬ ‫فقالوا ‪ :‬لقد هَ َّر ْت ِبليلٍ ِكال ُبنا‬ ‫فلم َت ُك إال نبأ ٌة ‪ ،‬ثم ه َّو َم ْت‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ألبرح طارقاً‬ ‫فإن َي ُك من جنٍّ ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ويوم من ِّ‬ ‫يذوب ُلعاب ُه ‪،‬‬ ‫الشعرى ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫َن َص ْب ُت له وجهي ‪ ،‬والكنَّ دُو َن ُه‬ ‫وضاف ‪ ،‬إذا ْ‬ ‫الريح ‪ ،‬طيرَّ ْت‬ ‫ٍ‬ ‫هبت له ُ‬ ‫ِّهن والفَلىْ عُ ْهدُ هُ‬ ‫مبس الد ِ‬ ‫بعي ٍد ِّ‬ ‫َ‬ ‫الرتس ‪َ ،‬ق ْف ٍر قطعت ُه‬ ‫وخرقٍ كظهر‬ ‫ِ‬ ‫وألحقت أوال ُه بأخراه ‪ُ ،‬موفياً‬ ‫ُ‬ ‫الص ْح ُـم َح ْويل كأ ّنـها‬ ‫َت ُرو ُد األ َرا ِوي ُّ‬ ‫باآلصـالِ َح ْوليِ كأ ّننـي‬ ‫و َي ْر ُكـد َْن‬ ‫َ‬ ‫‪116‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫عىل َن َكظٍ ِمماَّ ُيكا ِت ُم ‪ُ ،‬م ْج ِم ُل‬ ‫ُ‬ ‫تتصلصل‬ ‫رست قرباً‪ ،‬أحناؤها‬ ‫ُم َت َم ِّه ُل‬ ‫َفا ِر ٌط‬ ‫ِمني‬ ‫َو َش َّم َر‬ ‫ُي ُ‬ ‫بارش ُه منها ُذ ٌ‬ ‫وح ْو َص ُل‬ ‫قون‬ ‫َ‬ ‫أضاميم من َس ْف ِر القبائلِ ‪ُ ،‬نز َُّل ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كام َض َّم أذواد األصاريم َم ْنهَل‬ ‫ركب ‪ ،‬من ُأ َحاظة ُم ْج ِف ُل‬ ‫الص ْب ِح ‪ٌ ،‬‬ ‫مع ُّ‬ ‫ناسنُ ُق َّح ُل ؛‬ ‫بأهْ دَأ ُتنبيه َس ِ‬ ‫العب ‪ ،‬فهي ُم َّث ُل‬ ‫اب دحاها‬ ‫ِك َع ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫قبل ‪ُ ،‬‬ ‫اغتبطت بالشنفرى ُ‬ ‫ْ‬ ‫أطول !‬ ‫ملا‬ ‫َع ِقــــــــ َري ُت ُه يف أ ِّيهـــــا ُح َّم ُ‬ ‫أول‪،‬‬ ‫ِحثاثاً إىل مكروهـــــ ِه َت َت َغ ْل َغ ُ‬ ‫ــــل‬ ‫بع ‪ ،‬أوهي ُ‬ ‫أثقل‬ ‫ِعياداً ‪ ،‬كحمى ال َّر ِ‬ ‫تثوب ‪ ،‬فتأيت ِمن ُت َح ْي ُت ومن ع َُل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أتنعل‬ ‫عىل رق ٍة ‪ ،‬أحفـــــــى ‪ ،‬وال‬ ‫الس ْمع ‪ ،‬والحزم ُ‬ ‫أنعل‬ ‫عىل ِمثل قلب ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ينال ال ِغنى ذو ال ُب ْعـــ َد ِة املت َب ِّذ ُل‬ ‫ُ‬ ‫أتخيل‬ ‫وال َمــــــ ِر ٌح تحت ال ِغنى‬ ‫ُ‬ ‫سؤوالً بأعقـــــــاب األقاويلِ أمن ُِل‬ ‫ُ‬ ‫يتنبل‬ ‫وأقطعـــــ ُه الاليت بهـــــــا‬ ‫ُ‬ ‫ُسعــــــا ٌر ‪ ،‬وإرزي ٌز ‪َ ،‬و َو ْج ٌر ‪ ،‬وأفك ُل‬ ‫وعُ د ُْت كام أ ْبد ُ‬ ‫َأت ‪ ،‬والليل أل َي ُل‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫يسأل‬ ‫مســـــــؤول ‪ ،‬وآخ ُر‬ ‫فريقان ‪:‬‬ ‫عس ُفرعُ ُل‬ ‫فقلنا ‪ :‬أ ِذ ٌ‬ ‫عس ؟ أم َّ‬ ‫ئب َّ‬ ‫ريع ْأجد َُل‬ ‫يع ‪ ،‬أم َ‬ ‫فقلنا قطا ٌة ِر َ‬ ‫اإلنس َتف َع ُل‬ ‫وإن َي ُك إنســـــاً ‪َ ،‬ماكها ُ‬ ‫أفاعيه ‪ ،‬يف رمــــــضائ ِه ‪ ،‬تتم ْل َم ُل‬ ‫األتحمي ا ُمل َر ْع َب ُل‬ ‫وال ســـــــرت إال‬ ‫ُّ‬ ‫ترج ُل‬ ‫لبائ َد عن أعـــــــطاف ِه ما َّ‬ ‫الغسل ُم ْح َو ُل‬ ‫له َع َب ٌس ‪ٍ ،‬‬ ‫عـاف من ْ‬ ‫ُ‬ ‫يعمل‬ ‫ِب َعــــــــا ِملتني ‪ ،‬ظهـر ُه ليس‬ ‫عىل ُق َّن ٍة ‪ُ ،‬أقعـــــي ِمراراً وأم ُث ُل‬ ‫عَـ َذا َرى َع َل ْي ِهـنَّ الم ُ َال ُء ا ُمل َذ َّي ُـل‬ ‫يح أ ْع َق ُل‬ ‫ِمنَ ُ‬ ‫الع ْص ِم أدْىف َي ْنتَحي ال ِك َ‬


‫محاكاة شعرية‬

‫شوقي يعارض ابن زيدون‬ ‫إبن زيدون‪ :‬رسم متخيل‬

‫شوقي‬

‫املحاكاة‬

‫او املعارضة مسألة دارجة جدا يف الشعر العريب‪،‬‬ ‫وعرفت يف كافة االزمنة‪ ،‬وشملت كافة اغراض‬ ‫الشعر‪ ،‬وحاىك بعض الشعراء شعراء زمانهم‪ ،‬وتبارزوا معهم شعرا‪ ،‬سواء‬ ‫يف املديح او الهجاء او السري عىل نفس املنوال‪ ،‬واملثال الناصع هنا هو‬ ‫جرير والفرزدق‪.‬كام ان شعراء آخرين ذهبوا اىل معارضة شعراء من‬ ‫ازمنة غابرة كام هو حال امري الشعراء احمد شوقي الذي حاىك العديد‬ ‫من شعراء الحقب املاضية مثل ابن زيدون‪ ،‬او‪...‬سامي البارودي اليب‬ ‫فراس الحمداين‬ ‫الداللة املعجمية للفظة « املعارضة» لها معان كثرية ‪ ،‬منها ‪ :‬عارضته‬ ‫معارضة يف الرأي إذا خالفته وناقضته‪ .‬ومنها ‪ :‬جانبته وعدلت عنه ‪،‬‬ ‫و قريب من ذلك القول ‪ :‬عارضته مبثل صنيعه أي فعلت مثل فعله‬ ‫وأتيت إليه مبثل ما أىت به‪ .‬ويتضح من هذه الداللة االخرية معنى‬ ‫املحاكاة والتقليد ليشء سابق ‪.‬‬ ‫املعارضة بوجه عام قد تكون أثرا أدبيا أو فنيا أو موسيقيا يحايك فيه‬ ‫صاحبه أسلوب أثر سابق‪ .‬ولكن النقاد يف العرص الحديث اعتادوا عىل‬ ‫ربط كلمة « معارضة « بفن الشعر حتى شاع مصطلح «املعارضات‬ ‫الشعرية « وأصبح يشري إىل فن قائم بذاته انترش يف فرتات مختلفة‬ ‫يف العصور االدبية ‪ ،‬وكان مجاال للتنافس بني الشعراء إلظهار قدارتهم‬ ‫اإلبداعية يف محاكاة بعض القصائد املشهورة التي انترشت بني الناس‬ ‫بسبب جودتها ومتيزها ‪ .‬واملعنى اللغوي لكلمة « معارضة « ال يحمل‬ ‫تخصيصا بشعر أو نرث بل يعني بشكل عام املحاكاة واملجاراة ‪ .‬وقد‬ ‫استعمل النقاد ودارسو االدب يف القديم كلمة « معارضة « قي حلقي‬ ‫الشعر والنرث عىل حد سواء قبل أن تكتسب معناها كمصطلح شعري‬ ‫معروف ‪.‬‬ ‫و املعارضة الشعرية هي محاكاة قصيدة ألخرى موضوعا ووزنا وقافية‬ ‫مثل معارضة شوقي البن زيدون‪.‬‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪117‬‬


‫محاكاة شعرية‬ ‫ابن زيدون‬ ‫ْ‬ ‫أض َحى التّنايئ َبدي ًال عنْ َتدا ِنينَا‪،‬‬ ‫أ ّال َو َقد َ‬ ‫ني‪َ ،‬ص ّب َحنا‬ ‫حان ُص ُ‬ ‫بح ال َب ِ‬ ‫ُ‬ ‫هم‪،‬‬ ‫مبلغ‬ ‫َمنْ‬ ‫امللبسينا‪ ،‬بانتز ِاح ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫أَ َّن الز َ‬ ‫ضحكنا‬ ‫َمان ا َّلذي ماز َال ُي ِ‬ ‫ِغ َ‬ ‫يظ ال ِعدا ِمنْ َتسا ِقينا اله َوى فد َع ْوا‬ ‫انح ّل ما َ‬ ‫كان َمع ُقوداً بأَ ْن ُف ِسنَا؛‬ ‫َف َ‬ ‫ُ‬ ‫َو َق ْد َنك ُ‬ ‫ون‪َ ،‬و َما ُيخشىَ َت َف ّر ُقنا‪،‬‬ ‫يا َ‬ ‫ليت شع ِري‪ ،‬ومل ُنع ِت ْب أعاد َيكم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بعدكم إ ّال الوفاء لك ْم‬ ‫مل نعتق ْد‬ ‫ْ‬ ‫ما ح ّقنا أن ُت ِق ّروا ع َ‬ ‫ني ذي َح َس ٍد‬ ‫أس ُت ْس ِلينا َع َوا ِر ُضه‪،‬‬ ‫ُكنّا ن َرى ال َي َ‬ ‫ِب ْنتُم َو ِبنّا‪َ ،‬فام اب َت ّل ْت َج َوا ِن ُحنَا‬ ‫َنكادُ‪ِ ،‬ح َ‬ ‫َاج ُيك ْم َضامئ ُرنا‪،‬‬ ‫ني ُتن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َحالَ ْت لِفق ِدك ُم أ ّيا ُمنا‪ ،‬ف َغد َْت‬ ‫يش َط ْلقٌ من تأ ُّل ِفنا؛‬ ‫إ ْذ جا ِن ُب ال َع ِ‬ ‫َوإ ْذ هَ صرَ ْ َنا ُفن َ‬ ‫ُون ال َو ْصلِ دانية‬ ‫ل ُيسقَ عَهدُ ُك ُم عَهدُ السرّ ُ و ِر َفام‬ ‫ال َت ْح َس ُبوا َنأ َي ُك ْم َعنّا يغيرّ ُنا؛‬ ‫َوالل ِه َما َط َل َب ْت أهْ واؤ َنا َب َدالً‬ ‫اسق به‬ ‫يا سارِيَ البرَ ْقِ غا ِد‬ ‫َ‬ ‫القرص َو ِ‬ ‫ُّ‬ ‫َو ْ‬ ‫اسأل هُ نالِ َك‪ :‬هَ ْل َعنّى َتذك ُرنا‬ ‫الص َبا ب ّل ْغ تح ّي َتنَا‬ ‫نسيم‬ ‫َو َيا‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫فهل أرى الدّه َر يقضينا مساع َف ًة‬ ‫َ‬ ‫لك‪ ،‬ك ّأن ال َّل َه أ ْن َشأ ُه‬ ‫َر ُ‬ ‫بيب ُم ٍ‬ ‫أ ْو َصا َغ ُه َو ِرقاً َم ْحضاً‪َ ،‬و َتوج ُه‬ ‫فاه ّية ‪،‬‬ ‫إ َذا َتأ ّو َد آ َد ْتهُ‪َ ،‬ر ِ‬ ‫كانت لَ ُه ّ‬ ‫ْ‬ ‫مس ظرئاً يف أ ِك ّلته‪،‬‬ ‫الش ُ‬ ‫حن وجن ِت ِه‪،‬‬ ‫كأنمّ ا أثبت َْت‪ ،‬يف َص ِ‬ ‫ما ضرَ ّ ْأن ْمل َن ُكنْ أكفاءه َ‬ ‫رشفاً‪،‬‬ ‫يا َر ْو َض ًة طالَام ْأجن َْت لَ َو ِاح َظنَا‬ ‫و َيا حيا ًة مت ّل ْينَا‪ ،‬بزه َر ِتهَا‪،‬‬ ‫و َيا ن ِعي ًام خط ْر َنا‪ِ ،‬منْ َغضا َر ِت ِه‪،‬‬ ‫يك ْإجالالً َو َت ْك ِر َمة؛‬ ‫لَسنا ُن َس ّم ِ‬

‫‪118‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫طيب ُل ْقيا َنا تجافينَا‬ ‫اب عَنْ‬ ‫َو َن َ‬ ‫ِ‬ ‫للحينْ ِ َناع ِينَا‬ ‫َحينْ ٌ‪َ ،‬ف َقا َم ِبنَا‬ ‫َ‬ ‫مع الده ِر ال يبىل و ُي ْبلينَا‬ ‫ُحزْناً‪َ ،‬‬ ‫ُأنساً ِب ُقر ِب ِه ُم َقد عا َد ُيبكينا‬ ‫ِب ْأن َن َغ َّص‪َ ،‬ف َ‬ ‫قال الدهر آمينَا‬ ‫َ‬ ‫كان َم ْو ُصوالً بأ ْي ِدينَا‬ ‫َوا ْن َب ّت ما‬ ‫فاليو َم نحنُ ‪ ،‬و َما ُي ْرجى َتالقينَا‬ ‫العت َبى أعادينَا‬ ‫هَ ْل َن َال َح ّظاً منَ ُ‬ ‫َرأياً‪ ،‬ولَ ْم َنتَق ّل ْد َغ َري ُه ِدينَا‬ ‫كاشحاً ِفينَا‬ ‫ِبنا‪ ،‬وال أن َتسرُ ّ وا ِ‬ ‫َو َق ْد َي ِئ ْسنَا فَماَ‬ ‫لليأس ُي ْغ ِرينَا‬ ‫ِ‬ ‫َش ْوقاً إلَ ُيك ْم‪َ ،‬وال َج ّف ْت مآ ِقينَا‬ ‫تأسينَا‬ ‫َيقيض ع َلينا األسىَ لَ ْوال ّ‬ ‫ْ‬ ‫وكانت ُبك ْم ِبيضاً لَ َيالِينَا‬ ‫ُسوداً‪،‬‬ ‫اف ِمنْ َت َصا ِفينَا‬ ‫َو َم ْر َب ُع ال ّل ْه ِو َص ٍ‬ ‫ِق َطا ُفها‪َ ،‬ف َج َن ْينَا ِم ْن ُه ما ِشـــــينَا‬ ‫ُـــم ألر َو ِاح َن‍ا إ ّال َرياحـــي َن‍ا‬ ‫ُك ْنت ْ‬ ‫ْأن طـــــالَام َغيرّ َ النّأيُ ا ُمل ِح ّبينَا!‬ ‫انرص ْ‬ ‫عنكـــم أمانينَا‬ ‫فت‬ ‫ِمن ُْك ْم‪َ ،‬وال َ‬ ‫ْ‬ ‫َمن َ‬ ‫كان صرِ ْف الهَوى َوال ُو َّد َيسقينَا‬ ‫ُّ‬ ‫يعنّينَا؟‬ ‫إلفاً‪ ،‬تذك ُر ُه أمسىَ‬ ‫َمنْ لَ ْو عىل ال ُب ْع ِد َح ّيا كان يح ِيينا‬ ‫وإن مل ُيكنْ غ ّباً‬ ‫ِم ْنهُ‪ْ ،‬‬ ‫تقاضينَا‬ ‫ِ‬ ‫ِمســــكاً‪َ ،‬و َق ّد َر إنشا َء ال َو َرى ِطينَا‬ ‫حسينَا‬ ‫اص ِع ال ّت ِرب إ ْبداعاً و َت ِ‬ ‫ِمنْ َن ِ‬ ‫الع ُقو ِد‪َ ،‬وأدم َت ُه البرُ َى لِينَا‬ ‫ً ُتو ُم ُ‬ ‫َب ْل مـــــــا َت َجلىّ لهـــا إ ّال أحا ِيينَا‬ ‫ُزهْ ـــــــ ُر ال َك َوا ِك ِب َتع ِويذاً َو َت َز ِيينَا‬ ‫كاف ِمنْ َت َكا ِفينَا؟‬ ‫َويف املَ َودّة ِ ٍ‬ ‫الصبا ّ‬ ‫غضاً‪َ ،‬و َن ْســــ ِرينَا‬ ‫َو ْرداً‪َ ،‬جال ُه ِّ‬ ‫ات أفانينَا‬ ‫نى رضو َباً‪ ،‬ول ّذ ٍ‬ ‫ُم ً‬ ‫سحبنا َذي َله حينَا‬ ‫يف َوشيْ ِ ُن ْع َمى ‪َ ،‬‬ ‫َو َق ْد ُر ِك ا ُمل ْعتَيل عَنْ ذاك ُي ْغ ِنينَا‬


‫ديوان العرب‬

‫كت يف ِص َفة‪،‬‬ ‫إذا انف َرد َِت وما ُشو ِر ِ‬ ‫يا جنّة َ الخل ِد ُأب ِدلنا‪ ،‬بسد َر ِتها‬ ‫ُ‬ ‫والوصل ثال ُثنَا‪،‬‬ ‫كأ ّننَا مل ن ِب ْت‪،‬‬ ‫بكم‬ ‫ْإن كان قد ع ّز يف الدّنيا ال ّلقا ُء ْ‬ ‫خاط ِر ّ‬ ‫الظلام ِء َيكت ُ​ُمنا‪،‬‬ ‫سرِ ّانِ يف‬ ‫ِ‬ ‫ني ْ‬ ‫ال َغ ْر َو يف ْأن ذك ْرنا الحز َْن ح َ‬ ‫نهت‬ ‫إ ّنا ق َرأنا األسىَ ‪ ،‬ي ْو َم النّوى ‪ُ ،‬سو َراً‬ ‫فلم نع ِد ْل مبَ ْن َه ِل ِه‬ ‫هواك‪،‬‬ ‫أ ّما‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫أنت كوك ُب ُه‬ ‫ْمل َن ْج ُف أفقَ جاملٍ ِ‬ ‫َوال ْاخ ِتياراً َت َج ّن ْبنا ُه عَنْ َك َث ٍب‪،‬‬ ‫َليك إذا ُح ّث ْت‪ُ ،‬م َش ْع َش َعة‬ ‫نأسىَ ع ِ‬ ‫ؤس ال ّر ِاح ُتبدي من شام ِئ ِلنَا‬ ‫ال أ ْك ُ‬ ‫دومي عىل العه ِد‪ ،‬ما دُمنا‪ُ ،‬محا ِفظة ً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫يحبسنا‬ ‫منك‬ ‫َفام‬ ‫استعضنا َخلي ًال ِ‬ ‫ُ‬ ‫َولَ ْو ص َبا نح َو َنا‪ ،‬من عُ ل ِو مطلعه‪،‬‬ ‫أ ْبيك َوفا ًء‪َ ،‬و ْإن مل َت ْب ُذيل ِص َلة ‪ً ،‬‬ ‫عت ب ِه‬ ‫اب َمتَاعٌ ‪ْ ،‬إن َش َف ِ‬ ‫َويف َ‬ ‫الج َو ِ‬ ‫إليك منّا َسال ُم ال َّل ِه ما َب ِق َي ْت‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫إيضاحاً وت ْبيينَا‬ ‫فحس ُبنا ال َو ْص ُف‬ ‫العذب‪ ،‬ز ّقوماً وغسلينَا‬ ‫والكوث ِر‬ ‫ِ‬ ‫السعدُ َق ْد َغ َّض من أجفانِ َواشينَا‬ ‫َو ّ‬ ‫رش َنلقا ُك ْم َو َت ْل ُقو َنا‬ ‫يف َم ْو ِق ِف َ‬ ‫الح ِ‬ ‫ُ‬ ‫بح يفشينَا‬ ‫حتى يكا َد‬ ‫لسان ّ‬ ‫الص ِ‬ ‫ناسينَا‬ ‫عن ُه ال ُّنهَى‪َ ،‬وتر ْكنا ّ‬ ‫الصبرْ َ ِ‬ ‫الص َرب تلقينا‬ ‫َمكتو َبة‪َ ،‬و َأخ ْذ َنا‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫كان ُي ْر ِوينَا ف ُيظ ِمينَا‬ ‫شرُ ْ باً َو ْإن‬ ‫سالِ َ‬ ‫نهج ْر ُه قالِينَا‬ ‫ني عنهُ‪َ ،‬ومل‬ ‫ُ‬ ‫لكنْ َع َد ْتنَا‪ ،‬عىل ُك ْرهٍ‪َ ،‬ع َوا ِدينَا‬ ‫الش ُم ُ‬ ‫َّ‬ ‫ول‪ ،‬وغنَّا َنا ُمغنّينَا‬ ‫ِفينا‬ ‫تياح‪َ ،‬وال األ ْوتا ُر ُت ْل ِهينَا‬ ‫ِس ّيام ا ْر ٍ‬ ‫َ‬ ‫دان إ ْنصافاً كام دينَا‬ ‫فالح ُّر َمنْ‬ ‫َوال استفدْنا ح ِبيباً‬ ‫عنك يثنينَا‬ ‫ِ‬ ‫حاشاك يص ِبينَا‬ ‫بد ُر الدُّ جى مل يكنْ‬ ‫ِ‬ ‫َف ّ‬ ‫الط ُ‬ ‫يف ُي ْق ِن ُعنَا‪َ ،‬وال ّذك ُر َيك ِفينَا‬ ‫َ‬ ‫لت ُتولينَا‬ ‫بيض األيادي‪ ،‬التي ما ِز ِ‬ ‫َص َبا َب ٌة ِب ِك ُن ْخ ِفيهَا‪َ ،‬فت َْخ ِفينَا‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪119‬‬


‫محاكاة شعرية‬ ‫الفنان مصطفى الرزاز‬

‫أحمد شوقي‬ ‫يا نائح الطلح أش��ب��ا ٌه عوادينا‬ ‫تقص علينا غري أن يــدا ً‬ ‫م��اذا ُّ‬ ‫رم��ى بنا البني أيكاً غري سامرنا‬ ‫كل رمته النوى ريش الفراق لنا‬ ‫ٌّ‬ ‫إذا دعا الشوق مل نربح مبنصد ٍع‬ ‫فإن يك الجنس يابن الطلح ف ّرقنا‬ ‫لــم ُ‬ ‫تأل ماءك تحنانا وال ظلامً‬ ‫تجـر من فننٍ ساقاً إىل فنــنٍ‬ ‫أساة جسمك شتى حني تطلبـهم‬ ‫آهــا لنا نازحى إي��ك بأندلـس‬ ‫رس ٌم وقفنا عىل رسم الوفاء لـه‬ ‫لفتيـ ٍة ال تنـال األرض أدمعهم‬ ‫لـو لـم يسودا بدينٍ فيه منبه ٌة‬ ‫مل ن ِ‬ ‫�سر م��ن ح��رمٍ إال إىل حـرمٍ‬ ‫ملا نبا الخل ُد نابت عنه نسختـه‬ ‫نسقى ثراهم ثنا ًء ‪ ،‬كلام نثـرت‬

‫‪120‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫نشجى لواديك أم نأىس لوادينا ؟‬ ‫َ‬ ‫جناحك جالت ىف حواشينا‬ ‫قصت‬ ‫ّ‬ ‫أخـا الغريب ‪ :‬وظال غري نادينا‬ ‫سهامً ‪ ،‬وس ّ��ل عليك البني سكينا‬ ‫ع��ي ال يلبينــا‬ ‫مـن الجناحني ّ‬ ‫إن املصائب يجمع َن املصابينـا‬ ‫وال ادك��ارا ‪ ،‬وال شجوا أفانينــا‬ ‫وتسحـب الذي ترتاد املؤاسينـا‬ ‫فمن لروحك بالنطس املداوينـا‬ ‫وإن حللنا رفيـفاً من روابينــا‬ ‫ُ‬ ‫واإلج�لال يثنينـا‬ ‫نجيش بالدمع ‪،‬‬ ‫وال مفارقــهم إال مصلينـــا‬ ‫للناس كانت لهم أخالقهم دينــا‬ ‫كالخمر من (بابل) سارت (لدارينا)‬ ‫متاثل الورد (خرييا) و (نرسينـا)‬ ‫ُظمت منها مراثينــا‬ ‫دموعنـا ن ْ‬


‫ديوان العرب‬

‫ك��ادت عيون قوافينا تحركـــه‬ ‫رص وإن أغضت عىل مق ٍة‬ ‫لكن م َ‬ ‫علـى جوانبها رفّ���ت متامئنــا‬ ‫مالعـب مرحت فيها مآربنـا‬ ‫ٌ‬ ‫ومطل ٌع لسعو ٍد من أواخرنــا‬ ‫نخل من روح يراوحنـا‬ ‫بنا فلم ُ‬ ‫كأم موىس عىل أسم الله تكفلنا‬ ‫ومرص كالكرم ذي اإلحسان فاكه ٌ ة‬ ‫ساري الربق يرمي عن جوانحنا ‬ ‫يا َ‬ ‫مل��ا ت��رق��رق ىف دم���عٍ جوانحنا‬ ‫الليـــل يشهد مل تهتك دياجي ِه‬ ‫والنجـم مل يرنا إال عىل قــدمٍ‬ ‫ك��زف��ر ٍة ىف س�ماء الليل حائــر ٍة‬ ‫جبت ظلامء العباب عىل‬ ‫بالله إن َ‬ ‫تــر ُّد َ‬ ‫عنك ي��دا ُه كل عاديــ ٍة‬ ‫حتى حوتك سامء النيل عاليـ ًة‬ ‫وأح��رزت��ك شفوف ال�ل�ازورد عىل‬ ‫وح��ازك الريف أرج��اء مؤرجـ ًة‬ ‫فقف إىل النيل وأهتف ىف خامئل ِه‬ ‫ْ‬ ‫وأس مـا بات يذوى من منازلنا‬ ‫ويا معطر َة ال��وادى رستْ سحـرا ً‬ ‫ذكيـة الذيل لو خلنا غاللتهــا‬ ‫جشّ ِ‬ ‫مت َ‬ ‫شوك الرسى حتى أتيت لنا‬ ‫فلو جزيناك ب��األرواح غاليـة عن‬ ‫يك نح ّملــه‬ ‫هـل من ذيولك مس ٌّ‬ ‫إلـى الذين وجدنـا ود غريهـم‬ ‫يا من نغار عليهم من ضامئرنا‬ ‫ن��اب الحنني إليكم ىف خواطرنا‬ ‫جئنا اىل الصرب ندعو ُه كعادتنا‬ ‫ٍ‬ ‫جـلد‬ ‫وم��ا غلبنا عىل دم��عٍ وال‬ ‫ون��اب��غ��ـ��ي ك��ان ال��ح�شر آخـره‬ ‫ٌّ‬ ‫نطوي دج��اه بجر ٍح من فراقك ُم‬ ‫إذا رسا النجم مل ترفأ محاجرنا‬ ‫بتنا نقايس الدواهي من كواكبه‬

‫و ِكد َن يوقظن ىف الرتب السالطينا‬ ‫عيـ ٌن من الخلد بالكافور تسقينـا‬ ‫وحول حافاتـها قامت رواقينــا‬ ‫سـت فيها أمانينــــا‬ ‫وأرب�� ٌع أنِ ْ‬ ‫ومغـرب لجدو ٍد من أوالينـــا‬ ‫ٌ‬ ‫من بر مرص وري��ح��ا ٌن يغادينــا‬ ‫وباسمه ذهبت ىف اليم تلقينــا‬ ‫وأك���واب لبادينــــا‬ ‫للحارضين‬ ‫ٌ‬ ‫بعد الهدوء ويهمي عن مآقينــا‬ ‫هاج البكا فخضبنا األرض باكينــا‬ ‫عىل نيـامٍ ولـم تهتف بسالينـــا‬ ‫قيــا َم ليل الهوى للعهد راعينــا‬ ‫ممــا ن��ردد في ِه حني يضوينــا‬ ‫نجانب النور محد ّوا ً ( بجــرينا )‬ ‫إنسـاً يع َنث فسادا ً أو شياطينــا‬ ‫عىل الغيوث وإن كانت ميامينـا‬ ‫ويش الزبرجد من أفواف وادينـا‬ ‫ِ‬ ‫ربـت خامئل واهتزت بساتينـا‬ ‫الطل الرياحينا‬ ‫وان��زل كام نزل ّ‬ ‫بالحادثات ويضوى من مغانينـا‬ ‫فطاب كل ط��رو ٍح من مرامينـا‬ ‫قميص يوسف مل نحسب مغالينا‬ ‫بالورد كتباً وبال ّريّا عناوينـــا‬ ‫طيب م�سراك مل تنهض جوازينا‬ ‫غرائـب الشوق وشيا من أمالينا‬ ‫دنيـا ووده�� ُم الصايف هو الدينا‬ ‫ومن مصون هواهم ىف تناجينـا‬ ‫عن ال��دالل عليكم ىف أمانينــا‬ ‫ىف النائبات فلم يأخذ بأيدينــا‬ ‫حتى أتتنا نواكم من صياصينـا‬ ‫متيتنـا فيه ذك��راك��م وتحيينــا‬ ‫يكاد ىف غلس األس��ح��ار يطوينا‬ ‫حتى ي��زول ‪ ،‬ومل تهدأ تراقينـا‬ ‫حتى قعدنا بها ‪ :‬حرسى تقاسينا‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪121‬‬


‫محاكاة شعرية‬

‫يبــدو النهار فيخفيه تجلدنـا‬ ‫ٍ‬ ‫لعهد كأكناف ال��رىب رفـ ًة‬ ‫سقيا‬ ‫إذا ال��زم��ان بنا غيناء زاهيــ ٌة‬ ‫الوصل صافي ٌة ‪ ،‬والعيش ناغي ٌة‬ ‫والشمس تختال ىف العقيان تحسبها‬ ‫والنيل يقبل كالدنيا إذا احتفلـــت‬ ‫والسع ُد لو دام ‪ ،‬والنعمى لو اطردت‬ ‫ألقى عىل األرض حتى ردها ذهبـا‬ ‫أعداه من مينه ( التابوت ) وارتسمت‬ ‫لـه مبال ُغ ما يف الخلق من كــرمٍ‬ ‫عـرس‬ ‫لـم يجر للدهر اعذا ٌر وال‬ ‫ٌ‬ ‫وال حوى السعد اطغى ىف أعنت ِه‬ ‫اليواقيت خاض النار جوهرنا‬ ‫نحن‬ ‫ُ‬ ‫خلـق‬ ‫وال يحــول لنا صب ٌغ وال‬ ‫ٌ‬ ‫مل تنزل الشمس ميزانا وال صعدت‬ ‫أمل تؤل ُه عىل حافاتــــ ِه ورأت‬ ‫إن غازلت شاطئيه ىف الضحى لبسا‬ ‫وبات كل مجاج الواد من شجــ ٍر‬ ‫وهذه األرض من سهلٍ ومن جبلٍ‬ ‫ومل يضع حجرا ً ب��انٍ عىل حجـ ٍر‬ ‫كأن أه��رام مرص حائط نهضـت‬ ‫إيوانه الفخم من عليا مقاصــره‬ ‫كأنها ورم��االً حولها التطمـــت‬ ‫كأنها تحت ألالء الضحى ذهبـــاً‬ ‫أرض األب���و ِة وامل��ي�لا ُد ط ّيبهــا‬ ‫كانت محجل ًة ‪ ،‬فيها مواقفنـــا‬ ‫ف��آب م��ن ك��ر ِة األي���ام العبنـــا‬ ‫ومل ندع لليايل صافيا ‪ ،‬فدعـت‬ ‫لو استطعنا لخضنا الج ّو صاعق ًة‬ ‫سعياً إىل مرص نقيض حق ذاكرنا‬ ‫كنز (بحلوان) عند الله نطلبـــه‬ ‫لو غ��اب كل عزيز عنه غيبتنـا‬ ‫�صر أو له شجنــا‬ ‫إذا حملنا مل ٍ‬

‫‪122‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫للشامت َني وي��أس��و ُه تأسينـــا‬ ‫أنّ��ا ذهبنا وأعطاف الصبا لينـا‬ ‫ّ‬ ‫ت��رف أوقاتنا فيها رياحينـــا‬ ‫والسعد حاشي ٌة ‪ ،‬والدهر ماشينا‬ ‫ويش اليامنينا‬ ‫( بلقيس ) ترفل ىف ِ‬ ‫لو كان فيها وف��ا ٌء للمصافينـــا‬ ‫عف ‪ ،‬واملقدار لو دينا‬ ‫والسيل لو ّ‬ ‫ماء ملسنا به اإلكسري أو طينــا‬ ‫عىل جوانبه األن��وار من سينــا‬ ‫عه ُد الكـرام وميثاق الوفيينــا‬ ‫إال بأيامنــا أو ىف ليالينـــا‬ ‫منا جيادا وال أرخ��ى ميادينـــا‬ ‫ِ‬ ‫التشتيت غالينـــا‬ ‫ومل يهن بيد‬ ‫اذا تلو َن كالحرباء شانينــــا‬ ‫ىف ملكها الضخمِ عرشا مثل وادينا‬ ‫عليـه أبناءها الغ ّر امليامينــا ؟‬ ‫خامئل السندس املوش ّية الغينــا‬ ‫لوافظ القز بالخيطان ترمينـــا‬ ‫قبل (القيارص) دنّاها (فراعينــا)‬ ‫ىف األرض إال عىل آث��ار بانينــا‬ ‫به يد الدهر ال بنيان فانينــــا‬ ‫يُفني امللوك وال يبقي األوانينـا‬ ‫سفين ٌة غرقت إال أساطينــــا‬ ‫كنوز (فرعون) غطينْ َ املوازينـا‬ ‫م ّر الصبا يف ذي��و ٍل من تصابينـا‬ ‫غ�� ّرا ً مسلسلة املجرى قواقينـــا‬ ‫وثاب من سنة األح�لام الهينـــا‬ ‫نغص فقال الدهر ‪:‬آمينــا)‬ ‫(بأن ّ‬ ‫وغى ‪ ،‬والبحر غسلينـا‬ ‫وال ّرب نار ً‬ ‫فيها إذا نيس ال��وايف وباكينـــا‬ ‫خري الودائع من خري املؤدينــا‬ ‫مل يأته الشوق إال من نواحينــا‬ ‫أي هوى األ ّم�ين شاجينـا‬ ‫مل ن��د ِر ّ‬


‫شاعر وقصيدة‬

‫القصيدة اليتيمة‬ ‫موت الشاعر وحياة الشعر‬ ‫َع ِر َف‬

‫الشعر العريب ظاهرة شاعر القصيدة الوحيدة‪ ،‬التي مل يكتب‬ ‫سواها‪ ،‬ولكنها ذائعة الصيت‪ ،‬او انه كتب الكثري ولكن مل يصل من‬ ‫شعره سوى قصيدة واحدة باتت خالدة‪ .‬ورغم ان هذه القصائد‬ ‫قليلة فإنها تعد من عيون الشعر العريب يف الشكل واملضمون‪ ،‬ورمبا هذا هو‬ ‫السبب الكامن وراء عبورها الزمن بقوة واحتفاظها بقيمتها ونكهتها وطزاجتها‬ ‫حتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫من بني هذه القصائد الخالدة التي تؤرخ لحياة الشاعر يف شعره‪ ،‬تلك التي‬ ‫عرفت بــ «اليتيمة»‪ ،‬او التي تسمى يف اغلب الروايات بــ «الدعدية» ألنها‬ ‫نظمت يف مدح امرية من اليمن تدعى دعد كانت بارعة الجامل‪ .‬وتقول الروايات‬ ‫ان االمرية اليمنية دعت الشعراء إىل التباري يف مدحها والتغزل بجاملها عىل أن‬ ‫تتزوج صاحب أجود قصيدة‪ .‬وبدل ان يصل صاحب هذه القصيدة اىل تحقيق‬ ‫حلمه يف كسب ود االمرية والزواج منها‪ ،‬فإن قصيدته قادته اىل الهالك‪.‬‬ ‫اختلف الرواة حول الشاعر الذي نظم هذه القصيدة‪ ،‬ولكن هناك الغالبية‬ ‫أخذت برواية العالمة والقايض البرصي صاحب التصانيف عيل بن محسن‬ ‫التنوخي الذي عاش يف اواسط القرن الثالث للهجرة‪ .‬وقد جزم التنوخي بأن شاعر‬ ‫هذه القصيدة يقال له «دوقلة املنبجي»‪.‬‬ ‫حكاية «دوقلة» تتلخص يف انه صادف شاعرا آخر وهو يف طريقه إىل مديح‬ ‫األمرية‪ ،‬فأنشد كل منهام قصيدته عىل اآلخر‪ ،‬ومل تكن قصيدة هذا الشاعر األخري تصل ملستوى «اليتيمة» ال معنى وال‬ ‫حبكة وال لفظا‪ ،‬فقام بقتل صاحب «اليتيمة» بعد أن سمعها منه وحفظها‪ ،‬ثم ذهب إىل األمرية ليلقيها بني يديها لعلها‬ ‫تكون سببا بالفوز بقلبها والزواج منها وهو الهدف املنشود‪.‬‬ ‫وعندما وصل الشاعر الثاين إىل حمى االمرية مثل بني يديها وألقى القصيدة‪ ،‬فكانت املفاجأة ان االمرية التي اعجبت‬ ‫بالقصيدة اطلقت رصخة ‪ :‬وا بعاله‪ ...‬وا بعاله‪ ،‬لقد قتل هذا الرجل زوجي املرتقب‪ .‬فتجمع الحرس والحاشية وأخذوا‬ ‫يتساءلون‪ :‬مالخرب؟؟ فرشحت لهم أن شاعر القصيدة الفعيل من تهامة أما ترونه يقول‪:‬‬ ‫إن تتهمي فتهامة وطني** أوتنجدي إن الهوى نجد‬ ‫بينام هذا الرجل ليس من تهامة‪ ،‬بل ان لهجته نجديه‪ .‬فأمسكوا به وضيقوا عليه الخناق فاعرتف بأنه قتل صاحب‬ ‫القصيدة‪.‬‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪123‬‬


‫شاعر وقصيدة‬ ‫اليتيمة‬ ‫هَ ل ِب ُ‬ ‫الطلــــولِ لِســــــائِلِ َر ُّد‬ ‫الجديدُ َجدي َد َمع َه ِدها‬ ‫أبلــــــى َ‬ ‫ِمن طــــولِ ما َتبيك الغيو ُم عَىل‬ ‫َو ُت ِل ُّث ســــــــا ِر َي ٌة َوغـــــــا ِد َي ٌة‬ ‫َتلقــــــــى َشــــــآ ِم َي ٌة يمَ ا ِن َي ًة‬ ‫واه َرها‬ ‫واطنُها َظ ِ‬ ‫َف َكســـــــَت َب ِ‬ ‫سج ُه َح ِد ٌب‬ ‫َيغدو َف َيســــــدي َن َ‬ ‫يس ِبها‬ ‫َف َو َقفت أَســـــــأَلَها َولَ َ‬ ‫َو ُم َكــــــــد ٌَّم يف عا َن ٍة جـــزأت‬ ‫َفتَبا َد َرت ِد َر ُر ُ‬ ‫الشــــــؤونِ عَىل‬ ‫عيب َو َقد‬ ‫أَو َن ُ‬ ‫ضح عَزال ِء الشـــَ ِ‬ ‫لَهَفـــي عَىل دَع ٍد َوما ح َفلت‬ ‫ديم أديم‬ ‫َبيضا ُء َقد لَ ِب َس األَ ُ‬ ‫َو َيزينُ َفــــودَيها إِذا َحسرَ َت‬ ‫َفال َوجــــ ُه ِم ُ‬ ‫ٌ‬ ‫مبيض‬ ‫بح‬ ‫ثل ُ‬ ‫الص ِ‬ ‫ِضدّانِ لِام اِســـــتَج ِمعا َح ُسنا‬ ‫َو َجبينُهـــــا َص ٌ‬ ‫حــــاجبها‬ ‫لت َو‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َو َكأَ َّنهـــــا َوســـــنى إِذا َنظ َرت‬ ‫ني ما ِبهـــــا َر َمدٌ‬ ‫ِبفــــتو ِر َع ٍ‬ ‫َو ُت َ‬ ‫ــــم‬ ‫ريك ِعــــــرنيناً به َش َم ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َو ُت ُ‬ ‫اك عَىل‬ ‫جيل ِم‬ ‫ســــواك األر ِ‬ ‫والجـــيدُ منهــــــا جيدُ جازئ ٍة‬ ‫ِ‬ ‫َو َكأَنمَّ ا ُســـ ِق َيت َترا ِئ ُبهـــــــا‬ ‫عب أَد َر ُم ال َيب ُني لَ ُه‬ ‫وال َك ُ‬ ‫ني ُخصرِّ تا‬ ‫َو َم َشت عَىل َقد َم ِ‬

‫‪124‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫أَم هَ ـــــل لَها ِب َت َك ُّلـــم عَهدُ‬ ‫َف َكأَنمَّ ا هـــــــو َر َ‬ ‫يط ٌة ُجـــــر ُد‬ ‫َع َرصا ِتها َو ُي َقهـــــــ ِق ُه ال َرعــدُ‬ ‫حــــس َخل َفـــ ُه َســعدُ‬ ‫َو َي ُك ُّر َن‬ ‫ٌ‬ ‫لَهُــــام بمِ َــــــو ِر ُترا ِبها َســر ُد‬ ‫َنوراً َكأَ َّن ُزهـــــــــــا َء ُه ُبر ُد‬ ‫العـــــرى وين ُري ُه عهدُ‬ ‫واهــــي ُ‬ ‫إِلاّ املَـــــها َو َنقــــــا ِنقٌ ُربدُ‬ ‫َحتّى ُي َه ِّي َج َشأ َوهـــــــا الـــ ِور ُد‬ ‫َخدّى َكام َيتَنا َث ُر ال ِعـــــقدُ‬ ‫ر َاح ال َع َ‬ ‫سيف بمِ ل ِئهــا َيعـــدو‬ ‫إِلاّ بج ِّر ت َل ُّهـــــــفي دَعـــــدُ‬ ‫سن َفهُـــــــ َو لِ ِجل ِدها ِجلدُ‬ ‫ُ‬ ‫الح ِ‬ ‫فاح ٌم َجعدُ‬ ‫ضايف ال َغـــدا ِئ ِر ِ‬ ‫وال َفرعُ ِم َ‬ ‫ثل ال َليلِ ُمســـ َو ُّد‬ ‫الضدُّ‬ ‫الضدُّ ُيظهـــــِ ُر ُحسـ َن ُه ِ‬ ‫َو ِ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َش ُ‬ ‫ـــخت املَ َخــــط أ َز ُّج ُممتَدُّ‬ ‫أَو ُمد َن ٌف لَماّ ُي ِفــق َبعـــــدُ‬ ‫َو ِبهـــــــا ُتداوى األَعينُ ُ ال ُرمدُ‬ ‫و ُتريك َخ ّداً لَــــــو ُن ُه الــــ َور ُد‬ ‫رَتلٍ َكأَ َّن ُرضا َب ُه َ‬ ‫الشـــــهدُ‬ ‫تعطــــو إذا ما طـــالهــا املَر ُد‬ ‫ســــن إِذ َتبدو‬ ‫الح‬ ‫َوالنَحـــ ُر ما َء ُ‬ ‫ِ‬ ‫َح‬ ‫رأسـ ِه َحدُّ‬ ‫ليس لِ ِ‬ ‫ٌ‬ ‫جـــــم َو َ‬ ‫و ُالينَتا َفتَكــــا َم َل ال َقـــــــدُّ‬


‫ديوان العرب‬

‫إِن لَم َي ُكن َو ٌ‬ ‫َيك لَنا‬ ‫صل لَد ِ‬ ‫كــــــان أَو َر َق َوص َل ُكم َز َمناً‬ ‫َ‬ ‫َقد‬ ‫لِ َّل ِه أشـــــــواقي إِذا َنز َ​َحت‬ ‫إِن ُتت ِهـــــمي َفتَهــا َم ٌة َوطني‬ ‫تضمرينَ لَنا‬ ‫َمت أَ َّن ِك‬ ‫َو َزع ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الصدو َد فلمَ‬ ‫َوإِذا امل ِح ُّب َشكـــا ُ‬ ‫هي عىل‬ ‫َتخت َُّصها ِب ُ‬ ‫الح ِّب ُو َ‬ ‫أ َو ما َترى ِطمــــــ َريَّ َبي َنهُام‬ ‫يف َي َ‬ ‫الس ُ‬ ‫قط ُع وَهُ َو ذو َص َدأٍ‬ ‫َف َ‬ ‫الس َ‬ ‫يف ِحل َي ُت ُه‬ ‫هَ ل َتن َف َعنَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مــــــت ِبأ َّنني َر ُج ٌل‬ ‫َولَ َقد َع ِل‬ ‫ِ‬ ‫رح َم ٌة‬ ‫َبردٌ عَىل األَدىن َو َم َ‬ ‫َمن َ​َع املَطـــــا ِم َع أن ُت َث ِّل َمــني‬ ‫َفأَ ُّ‬ ‫ظل ُحـــــ ّراً ِمـــن َم ّذ َّل ِتها‬ ‫يت أَمد َُح مقـــــرفاً أ َبداً‬ ‫آ لَ ُ‬ ‫يهات يأىب َ‬ ‫هَ َ‬ ‫ذاك يل َس َل ٌف‬ ‫ُ‬ ‫ــــم‬ ‫الجدُّ حارث َوال َبنون هُ ُ‬ ‫َو َ‬ ‫ولَئنِ َق َف ُ‬ ‫ــــوت َحمي َد َفع ِل ِه ُم‬ ‫َ‬ ‫طالبت يف َط َل ٍب‬ ‫أَج ِمل إِذا‬ ‫وإذا َصبرَ َت لجهـــــد نازل ٍة‬ ‫َو َطــــــري ِد لَيلٍ قاد ُه َســ َغ ٌب‬ ‫عت ُجه َد َب َ‬ ‫وس ُ‬ ‫شاش ٍة َو ِقرىً‬ ‫أَ َ‬ ‫َف َتصرَ َّ َم املَشـــــــتي َو َمن ِز ُل ُه‬ ‫ُث َّم انثنى َو ِردا ُّو ُه ِن َع ٌم‬ ‫لِ َي ُكن لَد َ‬ ‫َيك لِســــائِلٍ َف َر ٌج‬ ‫يا لَ َ‬ ‫يت ِشعــــري َبع َد َذلِ ُك ُم‬ ‫َ‬ ‫لم أَم صرَ ُيع ردى‬ ‫أصرَ ُيع َك ٍ‬

‫الصبا َب َة َفل َي ُكن َوعدُ‬ ‫َيشفـــــى َ‬ ‫َ‬ ‫الصدُّ‬ ‫َف َذ َوى ال ِوصال َوأو َر َق َ‬ ‫دا ٌر ِبنا ونوىً ِب ُكـــــم َتعدو‬ ‫يكــــن الهَـــوى َنجدُ‬ ‫نجدي‬ ‫ِ‬ ‫أَو ُت ِ‬ ‫ــــــع ال ُو ُّد‬ ‫ُو ّداً َفهَـــــلاّ َين َف ُ‬ ‫َ‬ ‫عــــــطف َع َلي ِه َف َقت ُل ُه عَمدُ‬ ‫ُي‬ ‫َ‬ ‫ــــب َفهكذا ال َوجدُ‬ ‫ما ال ُن ِح ُّ‬ ‫الجــــدُّ‬ ‫َر ُج ٌل أَلَ َّح ِبهَـــــزلِ ِه ِ‬ ‫َوالن ُ‬ ‫َصل َيفري الها َم ال ال ِغمدُ‬ ‫الحدُّ‬ ‫الجـــــال ِد إِذا َنبا َ‬ ‫َيو َم ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫روح أو أغدو‬ ‫ِ‬ ‫حــــات أ ُ‬ ‫يف الصالِ‬ ‫الحـــوا ِد ِث ما ِر ٌن َجلدُ‬ ‫َوعَلــى َ‬ ‫ً‬ ‫أَنيّ لِ َمع َولِـــــــها َصفا َصلدُ‬ ‫الحـــــــ ُّر ح َ‬ ‫طيعها عَبدُ‬ ‫ني ُي ُ‬ ‫َو ُ‬ ‫َ‬ ‫ــــب الرفدُ‬ ‫ديح َويَذهَ ُ‬ ‫َيبقى امل ُ‬ ‫َ‬ ‫خمد لهُـــم َمجدُ‬ ‫َخ َمدوا َولَم َي ُ‬ ‫نج َب‬ ‫الجدُّ‬ ‫َ‬ ‫َفزَكا ال َبنون َوأَ َ‬ ‫ِب َذميم ِفعـــــــيل إِ َّنني َوغدُ‬ ‫الجدُّ ُيغـــــني ع َ‬ ‫الجدُّ‬ ‫َنك ال َ‬ ‫َف ِ‬ ‫َ‬ ‫الجهـــــدُ‬ ‫فكأ ّنه ما َم َّســـــك َ‬ ‫َوهـــــناً إِليَ َّ َوســــــا َق ُه َبر ُد‬ ‫الجهدُ‬ ‫َوعَىل ال َك‬ ‫ــــريم لِ َضي ِف ِه ُ‬ ‫ِ‬ ‫حب لَدَيَّ َوع ُ‬ ‫َيش ُه َرغدُ‬ ‫َر ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الحمـــدُ‬ ‫َ‬ ‫أســــــدَيتُها َو ِردائيِ‬ ‫حســـن ال َر ُّد‬ ‫إِن لِم َي ُكن َفل َي ُ‬ ‫ومحــــــــا ُر ُك ِّل ُم َؤ ِّملٍ لَحدُ‬ ‫يس ِمنَ ال َردى ُبدُّ‬ ‫أَودى َف َل َ‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪125‬‬


‫قصيدة وأغنية‬

‫األخطل الصغير وفيروز‬

‫القصيدة والصوت يحلقان معا‬

‫االخطل‬

‫االخطل الصغري من بني الشعراء الذين‬ ‫صدحت فريوز بشعرهم‪ .‬غنت له عدة‬ ‫قصائد يظل اشهرها «يبيك ويضحك»‪ ،‬و«يا عاقد الحاجبني»‪.‬‬ ‫ومن دون شك فإن صوت فريوز ذهب بشعر األخطل اىل‬ ‫مسافات بعيدة‪ ،‬كام بشعر غريه‪ ،‬وبدال من ان تبقى القصيدة‬ ‫حبيسة دفتي كتاب صارت تحلق يف األثري محمولة عىل صوت‬ ‫الفنانة االسطورة‪.‬‬ ‫األخطل الصغري هو اآلخر من كبار شعراء الكالسيكية العرب‪،‬‬ ‫وقد حمل هذا اللقب تيمنا بالشاعر األموي األخطل التغلبي‪،‬‬ ‫ولد يف بريوت سنة ‪ ،1885‬ورحل يف سنة ‪ .1968‬عارص فحول‬ ‫شعراء الكالسيكية العرب كشوقي وبدوي الجبل والجواهري‪،‬‬ ‫ومل يبايع بإمارة الشعر العريب بعد شوقي سوى بشارة الخوري‬ ‫وعباس محمود العقاد‪ ،‬ولكن األخطل الصغري عاش اكرث يف‬ ‫صويت فريوز ومحمد عبد الوهاب الذي غنى له عدة قصائد‬ ‫اشهرها «جفنه ع ّلم الغزل»‪.‬‬

‫يبيك ويضحك الحزناً وال فرحا‬ ‫من بسمة النجم همس يف قصائده‬ ‫قلب مترس باللذات وهو فتى‬ ‫ٌ‬ ‫ما لألقاحية السمراء قد رصفـت‬ ‫لو كنت تدرين ما ألقاه من شجن‬ ‫غدا َة ل َّو ْح ِت باآلمال باسم ًة‬ ‫ُ‬ ‫ولسان الحب يهتف يب‬ ‫ما همني‬ ‫ُ‬ ‫فالروض مهام ْ‬ ‫زهت قف ٌر اذا حرمت‬

‫‪126‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫كعاشق َّ‬ ‫خط سطراً يف الهوى ومحا‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ومن مخالسة الظبـي الذي سـنحا‬ ‫كربعم لـمـسته الريح فانفـتحا‬ ‫عـنّا هواها؟ أرق الـحسن ما سمحا‬ ‫لكنت أرفق مـن آىس ومن صفحا‬ ‫الن الذي ثار وانقاد الذي جمحا‬ ‫اذا تبسم وجه الدهر أو كلحا‬ ‫جانح َّ‬ ‫صادح صدحا‬ ‫رف أو من‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫فريوز‬


‫قصيد األسالف‬

‫امرؤ القيس‬

‫طريق َ‬ ‫ٌ‬ ‫ي‬ ‫خ ِف ّ‬ ‫األثر ُ‬

‫إمرؤ القيس‪ :‬رسم متخيل‬

‫َ‬ ‫قال امرؤ القيس يف الب ْي ِت الثاين ِمنْ ُمع ّلق ِته‪:‬‬

‫فتوض َح فاملِقراطِ ْمل َي ْع ُف َر ْس ُمها‬ ‫ِ‬

‫نوب َ‬ ‫وشمأْ لِ‬ ‫لِام َن َس َجتْها ِمنْ َج ٍ‬

‫ثم عا َد َ‬ ‫السادس‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫فقال يف الب ْي ِت َّ‬

‫َو َّإن ِشفائــي َع ْبــ َر ٌة ُم َه َراقـــــــة‬

‫فه َْل ِع ْن َد َر ْس ٍم‬ ‫دارس ِمنْ ُم َع َّولِ‬ ‫ٍ‬

‫خالد بلقاسم‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪127‬‬


‫قصيد األسالف‬

‫عىل ُم ْستَ َوى الظا ِهر‪ ،‬يَ ْبدو كام ل ْو أ َّن مث ّة ت َعا ُرضاً بينْ‬ ‫أي إبْعا ُد ال ُع ُف ِّو عن ال َّر ْسم‪،‬‬ ‫الق ْولينْ ‪ .‬ما نفا ُه الق ْو ُل األ ّو ُل‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هو ما َح َر َص الق ْو ُل الثاين عىل ن َْسخه‪ُ ،‬مق ّرا ً أ َّن ال َّر ْس َم‬ ‫الس َ‬ ‫ؤال‬ ‫دارس‪ .‬وق ْد َولَّ َد هذا ال َّن ْسخُ‪ُ ،‬منذ َز َمنٍ بَ ِع ٍيد‪ُّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫هل َعفا ال َر ْس ُم أ ْم ملْ يَ ْع ُف؟ ال ُوعو ُد التأويل َّية‬ ‫التايل‪ْ :‬‬ ‫السؤال‪ ،‬الذي نُعي ُد ط ْر َح ُه بخلفي ٍة‬ ‫املُضْ َم َرة يف أفق هذا ُّ‬ ‫ُمخالف ٍة لِ ُم َو ِّج ِ‬ ‫هات الق َدماء‪ ،‬ال تَتَكشَّ ُف ِم ْن تَ ْرجي ِح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫جواب يُق ُّر ب ُع ُف ِّو‬ ‫واب يَط َمئنِ ُّ إىل َوضْ عٍ نها ٍّيئ لل َّر ْسم؛‬ ‫َج ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عى كهذا أ ْن يُلج َم‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫أن‬ ‫شَ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ف‬ ‫‪.‬‬ ‫ه‬ ‫ئ‬ ‫قا‬ ‫ب‬ ‫أو‬ ‫م‬ ‫ال َّر ْس‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ً‬ ‫الس َؤ َال ويمَ ْ َن َع ا ْم ِتدادَهُ الحا ِمي لِت َج ُّد ِد امل َ ْعنى‪ .‬اال ْم ِتدا ُد‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫كل تأويلٍ ‪ ،‬ال‬ ‫أس ِّ‬ ‫الذي يَ ُصو ُن هذا التَّ َج ُّد َد باع ِتبار ِه َّ‬ ‫يَتهيَّأ إالّ بتأ ُّملِ االل ِت ِ‬ ‫باس املُتَ َول ِ​ِّد ِم َن الق ْولينْ ‪ ،‬ب َو ْص ِف ِه‬ ‫ِ‬ ‫باس‬ ‫َح ِقيقة ِم ْن َحقائِق امل َ ْوضُ وع امل ُثار يف البَيْتَينْ ‪ .‬فااللت ُ‬ ‫أصيل‪َ ،‬خ َّو َل ال ْمرئ‬ ‫باس ٌ‬ ‫بينْ َعفَا ِء ال َّر ْسم وبَقائِ ِه ال ِت ٌ‬ ‫القيس إضا َء َة َم ْعنى األثر‪ ،‬فيام َخ َّو َل لِل ِقرا َء ِة أ ْن تَتّ ِخذ ُه‬ ‫َم ْسلكاً يَقو ُد إىل َج ْعل ال َّن ِّص القديم يَتَ َح َّدثُ لغة ِم ْن‬ ‫خارج َز َم ِنه‪.‬‬

‫بني قراءتني‬

‫اإلنصات لِ ِ‬ ‫هذ ِه اإلضا َءة وإل ْم ِ‬ ‫ِ‬ ‫كانات تَ ْحيي ِنها‪ ،‬البُ َّد‬ ‫ق ْب َل‬ ‫ِم ْن إملا ٍح أ ّويل إىل ال ِقر ِ‬ ‫اءات القد َمي ِة‪ ،‬التي را َم ْت ْاس ِت ْجال َء‬ ‫اال ْح ِت ِ‬ ‫امالت ال ّدالل ّية لِل َج ْمع بينْ َ َعفَا ِء ال َّر ْسمِ وبقائِ ِه يف‬ ‫ري‪.‬‬ ‫بنا ِء امرئ القيس لل َم ْع َنى الشِّ ْع ّ‬ ‫أ ْو َر َد اب ُن األنْباري‪ ،‬يف ْاس ِت ْجال ِء هذا ال َج ْمع‪ ،‬أ ْربَعة شرُ ُ وح‪.‬‬ ‫األصمعي إىل أ ّن ال َر ْس َم َد َر َس بَ ْعضُ ُه‬ ‫األ ّول؛ ذ َه َب فيه ْ‬ ‫وملْ يَ ْد ُر ْس كلّه‪ .‬الثاين؛ َرأى في ِه أبو عبيدة أ ّن ا ْم َرأ القيس‬ ‫َفسه‪ ،‬بق ْولِ ِه‪ :‬ف َه ْل ِع ْن َد َر ْسمٍ ٍ‬ ‫دارس ِم ْن‬ ‫« َر َج َع‬ ‫فأكذب ن َ‬ ‫َ‬ ‫ُم َع َّول»‪ .‬الثالث؛ َرفَ َع فيه أبو بكر محمد بن آدم البكري‬ ‫التناقض َع ْن ق ْول ا ْمرئ القيس‪ ،‬برتْجي ِح امل َ ْعنى‬ ‫وآخَرون‬ ‫َ‬ ‫التايل‪ :‬ملْ يَ ْد ُرس ال َّر ْس ُم ِم َن القلْب وإ ْن كا َن يف ذاتِ ِه‬ ‫االس ِتقبال لِ َرفْع اللَّ ْبس‪،‬‬ ‫دارساً‪ .‬أ ّما الشرَّ ْ ُح ال َّرابع؛ ف َر َّج َح ْ‬ ‫مبَ ْع َنى أ ّن ال َّر ْس َم باقٍ ‪ ،‬لك ّنه َس َي ْد ُر ُس مبُرور ال َّز َمن‪.‬‬ ‫وح‪َ ،‬متى َو َّج َهتْها القرا َء ُة ال َح ِديثة‬ ‫تَ ْنطوي هذ ِه الشرُّ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تآويل‬ ‫الستنبات َ‬ ‫َص ْو َب ُسبُلٍ َجدي َدة‪ ،‬عىل بُذو ٍر ْ‬ ‫مفتوح ٍة‪ .‬يف الشرَّ ْ ِح األ َّول‪ ،‬نَ ْنتَب ُه إىل أ َّن ال ُع ُف َّو‪ ،‬مبا هو‬ ‫‪128‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫َم ْح ٌو‪ ،‬ال يكو ُن البتّة كلّياً‪ .‬مث ّة ما يَتَ َمل َُّص في ِه َد ْوماً ِم َن‬ ‫كل َر ْسم‪.‬‬ ‫امل َ ْحو‪ .‬يف الثاين‪ ،‬تتكشَّ ُف الحَيرْ َ ُة التي يُولِّ ُدها ُّ‬ ‫حَيرْ َ ٌة تمَ ْ َن ُع ِم َن االط ِمئنان إىل ق ْو ٍل قا ّر‪ ،‬ذلك أ َّن ما يَبْ ُدو‬ ‫ثبت ال َعكس‪ِ .‬‬ ‫وهذ ِه‬ ‫َم ْم ُح ّوا ً ال يَ ْنف َُّك يُ ُ‬ ‫عارض ذات َه لِ ُي َ‬ ‫الحَيرْ َةُ‪ ،‬التي ال َم َسها الشرَّ ْ ُح الثاين ِم ْن زَاوي ِة ما َسماّ ُه أبو‬ ‫عبيدة بتَ ِ‬ ‫ئيسة يف االقترِ اب ِم ْن ُهويَّ ِة‬ ‫كذ ِ‬ ‫يب الذات‪َ ،‬ر َ‬ ‫ال َّر ْسم‪ ،‬ب َو ْص ِفها ُهويَّة ا ْرتِيابيَّة‪ ،‬ألنّها تَتَ َح َّد ُد يف ُصو َر ِة‬ ‫ال َّنفي ويف ُصو َر ِة اإلثبات‪ ،‬بل تَتَح َّد ُد‪ ،‬كام َسيَأيت بَيَانُهُ‪،‬‬ ‫بال َج ْمع بينْ َ ال َّنفي واإلثبات‪ .‬الشرَّ ْ ُح الثالثُ ؛ يَ ْستَ ْو ِع ُب‬ ‫َ‬ ‫التناقض ِم ْن َم ْو ِقع التَّ ْمييز بينْ َ ال َّر ْسمِ املا ّد ِّي وال َّر ْسمِ‬ ‫ال َّنفسيِ ِّ ‪ ،‬وبذلك يَشُ ُّق هذا الشرَّ ْ ُح إ ْمكاناً ت َأويل ّياً أبْ َعد‬ ‫ِم َن التَّ ْمييز الذي قا َم عليْه‪ .‬أ ّما ال َّراب ُع فيرَ َى ال َّد ْر َس‬ ‫كل َر ْسم‪ُ ،‬م ْد ِمجاً َسطْ َو َة ال َّز َمن يف‬ ‫َمصريا ً ُم ْستَقبَليّاً لِ ِّ‬ ‫كل بَقاء‪.‬‬ ‫ت َقرير ال َهشاش ِة أفقاً لِ ِّ‬ ‫امل ُ ْحتَ َم ُل يف امل َ ْعنى الجا ِمع بَينْ َ ال ّنفي واإلثبات يَقو ُد إىل‬ ‫ْاستيعاب هذا ال َج ْمع ب َو ْص ِف ِه ُمال َم َسة بَ ِعيد ًة لِ َحقيق ِة‬ ‫األثر‪َ .‬ع ْن ِ‬ ‫تس َّنى الق ْول‪ :‬إ َّن مث َّة شَ يْئاً‬ ‫هذ ِه امل ُال َم َسة‪ ،‬يَ َ‬ ‫ِ‬ ‫أي ما يُ َنبِّ ُه‬ ‫َعفا وما َعفا‪ .‬هذا ما تُ َنبِّ ُه عليْه القصي َدةُ‪ْ ،‬‬ ‫الخاصة‪،‬‬ ‫عل ْي ِه الشِّ ْع ُر وهو ينفُذ‪ِ ،‬م ْن َم ْو ِقعِ َم ْعرف ِت ِه‬ ‫َّ‬ ‫كل أثر‪ ،‬مبا هو َعفَا ٌء وبقا ٌء يف آن‪ .‬إنَّها‬ ‫إىل َحقيق ِة ِّ‬ ‫كل ما يُصي ُب ُه ال ُع ُف ُّو وامل َ ْح ُو والتّل َُف وال َّد ْرس‪.‬‬ ‫َحقيقة ِّ‬ ‫ِم ْن ُهنا تَتَبَ َّدى َحيَويَّة إشرْ َ ِ‬ ‫اك امل َ ْعرف ِة الشِّ ْعريَّة يف َص ْوغ‬ ‫ِ‬ ‫َفهومات ال ِفكريَّة‪.‬‬ ‫امل‬ ‫ما يَ ْد ُر ُس ال يمَ َّحي كلِّية‪ .‬ل ْي َس مث َّة َم ْح ٌو تا ٌّم‪ .‬ما يَ ْعفو‬ ‫وح الق َد َماء‪ ،‬كام َس َب َق‬ ‫يَ ُعو ُد يف ت َ َب ُّدالتِه‪ .‬وق ْد ال َم َست شرُ ُ ُ‬ ‫أ ْن أمل َ ْحنا‪ ،‬ان ِْطوا َء ال َّد ِ‬ ‫ارس عىل ما يَ ْبقى‪ .‬يف هذه الع ْو َدة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ارس باقٍ ‪،‬‬ ‫يكو ُن ال ُع ُف ُّو هو ذاتُ ُه امل ُ َؤ ِّم ُن لِبَقاء ما َعفا‪ .‬ال ّد ُ‬ ‫إذن‪ ،‬إالّ أنَّ ُه ال يُ َرى إالّ ب َعينْ الشِّ ْعر التي تنفُذ إىل أ ْغ َوار‬ ‫التفا ُعل بَينْ َ َز َمن التذكّر و َز َمن ال ّنسيان‪ .‬بَقا ُء ما َد َر َس‬ ‫َسا ٍر يف تَ َح ُّولِ ِه إىل أثر‪ .‬ول ُربمَّ ا كان َْت َحقيقة األثر ُمضْ َم َر ًة‬ ‫األصل‪ِ .‬ف ْع ُل‬ ‫السيرْ ُو َر ِة امل ُ َعق َد ِة لِلتَّح ُّول الذي يمَ َ ُّس ْ‬ ‫يف َّ‬ ‫السيرْ و َر ِة هو‪ ،‬يف اآلن ذاتِ ِه‪ِ ،‬ف ْع ُل َصيرْ و َرة‪ .‬هكذا ت َ ْغ ُدو‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫داخل‬ ‫أصلٍ كامنة يف تَبَ ُّدالت ما يَ ْنفص ُل ع ْنه َ‬ ‫حيا ُة ِّ‬ ‫كل ْ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫األص ُل‬ ‫هو‬ ‫ى‪،‬‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫بهذا‬ ‫‪،‬‬ ‫ر‬ ‫األث‬ ‫هي‪.‬‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ح‬ ‫َْ‬ ‫َمسا ِر ت َ َ ُّ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُمتَ َح ِّوالً يف ال َّز َمن وامل َ ْعرف ِة واللغ ِة وال ّن ْسيان الف َّعال‪.‬‬


‫ديوان العرب‬

‫امرؤ القيس َم ْعنى‬ ‫أضاء ْ‬ ‫خ َّو َ‬ ‫األثر‪ ،‬فيما َ‬ ‫ء ِة‬ ‫ل ِل ِ‬ ‫لقرا َ‬ ‫سلك ًا يَقو ُد‬ ‫أن تَتّ ِخذ ُه َم ْ‬ ‫ْ‬ ‫ص القديم‬ ‫إلى َ‬ ‫ج ْعل النَّ ِّ‬ ‫ح َّد ُ‬ ‫ن خارج‬ ‫يَت َ َ‬ ‫ث لغة ِم ْ‬ ‫ز َ َم ِنه‬

‫األص َل ِم ْن‬ ‫ْرج ْ‬ ‫بال ُع ُف ِّو ذاتِ ِه يَبْقى ْ‬ ‫األصل‪ .‬لك َّن ُه بقا ٌء يُخ ُ‬ ‫َوضْ ِع ِه األ َّول ويَ ْج َع ُل ُصو َرتَ ُه تَتَل َّو ُن ب َز َمن التَّذكّر و َز َمن‬ ‫الصو َر ِة‬ ‫ال ّنسيان‪ ،‬ومبا يُ ْح ِدثانِ في ِه ِم ْن ف َْصلٍ يُ ْب ِعدُهُ َع ْن ُ‬ ‫انطلقت ُمعلّقة ا ْمرئ‬ ‫األوىل لِ َي ْبقى يف الت َب ُّدل‪ .‬لذلك‬ ‫ْ‬ ‫القيس ِم ْن أ ْم ٍر ٍّ‬ ‫دال‪ ،‬يَ ُحثُّ عىل ال ُوقوف‪ ،‬مبا يَتَطلّ ُب ُه‬ ‫ِ‬ ‫الصام ِت يف األثر‪ .‬إنَّ ُه أ ْم ٌر‬ ‫ِم ْن تَأ ٍّن وتمَ َ ُّعنٍ ‪ ،‬بغاي ِة َسماَ ِع َّ‬ ‫باالستغراق يف ُحضو ٍر‬ ‫باالن ِتقال ِم ْن َز َمنٍ إىل آخَر‪ ،‬أ ْم ٌر ْ‬ ‫قائمٍ عىل ال ِغياب‪.‬‬ ‫يل‪ ،‬قرا َء ُة بَ ْيتَ ْي ا ْمرئ‬ ‫يَتَم َّن ُع‪ ،‬يف ض ْو ِء هذا امل َ ْن َحى التَّأوي ّ‬ ‫السابقينْ يف انْ ِفصا ٍل عن ال َّد ْع َو ِة األوىل؛ َد ْع َو ِة‬ ‫القيس َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫االس ِت ْهالل‪« :‬قفا نَبْك من ِذكرى‬ ‫الوقوف امل ُكثفة يف أ ْمر ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫اج إىل قرا َءة َحديثة‬ ‫ٍ‬ ‫حبيب َو َم ْنزل»‪ .‬إنَّها َد ْع َو ٌة ت َ ْحتَ ُ‬ ‫ودي يف األ ْمر بال ُوقوف‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫بخ ِ‬ ‫الف‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫ال‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫َكش َ ُ ْ ُ ُ ِّ‬ ‫ما َه ْي َم َن عىل إضا َء ِة الق َدما ِء له‪ .‬ذلك أ َّن ال َب ْي َت األ َّو َل‬ ‫فتوح عىل تأويلٍ ال نِها ّيئ‪.‬‬ ‫ِم ْن ُم َعلّق ِة ا ْمرئ القيس َم ٌ‬ ‫لق ْد ت َ َو َّج َه شرَ ْ ُح الق َد َماء لأل ْمر امل ُتص ِّدر لل ُمعلَّقة إىل‬ ‫ْاس ِت ْجال ِء ُم َس ِّو ِغ األلِ ِف يف « ِقفا»‪ .‬وأ ْو َر ُدوا بشَ أنِ ِه ثالثة‬ ‫أقوال‪ .‬األ ّول؛ أ ْن يَكو َن الشا ِع ُر خاط َ​َب اثنينْ ‪ .‬الثاين؛ أن‬ ‫خاطب َر ِفيقاً واحدا ً َوث َّنى‪ .‬الثالث؛ أ ْن «يَكو َن أ َرا َد‬ ‫يكو َن‬ ‫َ‬ ‫ِق َف َن بال ّنون‪ ،‬فأبْ َد َل األلِ َف ِم َن ال ّنون‪ ،‬وأ ْج َرى ال َو ْص َل‬ ‫عىل ال َوقف»‪ .‬غيرْ َ أ َّن هذا التَّ َو ُّج َه يف الشرَّ ْ ح َح َج َب‬ ‫ذخائِ َر ال َّد ْع َو ِة يف ت َْص ِدير ن ٍَّص ت َِأسيسيِ ٍّ ‪ ،‬وأ ْخفَى بُ ْع َد َها‬

‫ال ُو ُجو ِد َّي‪ ،‬وأ َّج َل اإلنْصاتَ أل ْمر ال ُو ِ‬ ‫قوف يف َعالق ِت ِه‬ ‫ِ‬ ‫بال َعفا ِء وامل َ ْحو والبقا ِء والتب ُّدل‪ ،‬أي يف عالقته باألثر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الوقوف ت َ ْنطَوي‬ ‫ال َّد ْع َوةُ‪ ،‬يف ْاس ِت ْهال ِل ن ٍَّص ت َِأسيسيِ ّ ‪ ،‬إىل‬ ‫ليس بَسيطاً‪ .‬إنَّ ُه يَ ْحت ِف ُظ بتشَ ُّع ٍب‬ ‫عىل التَّ َن ُّب ِه إىل أ َّن األث َر َ‬ ‫واس ِتغراقاً؛ إنصاتاً‬ ‫ٍّ‬ ‫خاص يَقتَيض إن َْصاتاً خالِصاً‪ ،‬أي وقفة ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يُشرْ ُك ما َء ال َج َسد‪ ،‬ليَ ْعبرُ َ بالبُكاء إىل ما ال يَ ْعفُو يف ال َّر ْسمِ ‪.‬‬

‫بعد وجودي‬

‫طابَ ُع التَّشَ ُّعب يف األثر يَ ُعو ُد إىل ثالث ِة َع َناصرِ َ عىل‬ ‫ّ‬ ‫والسكن‬ ‫األقل‪ .‬أ ّولها أنَّ ُه ُم َؤ َّس ٌس عىل ت َدا ُخلٍ بَينْ َ ال ُح ِّب َّ‬ ‫( َحبيب و َمنزل)‪ ،‬مبا يَترَ َت َُّب عن هذا التَّداخُل ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫تَ َح ُّو ٍل يف ف ْهمِ امل َكان و ِمن انْ ِفصا ٍل لِل َمكان ع ْن بُ ْعد ِه‬ ‫وض األثر عىل َز َمنٍ يَتَداخ َُل في ِه‬ ‫ال ُجغرا ّيف‪ .‬ثانيها؛ نُ ُه ُ‬ ‫كل ت َقابُلٍ بَ ْين ُهام‪ ،‬أل َّن العالقة‬ ‫التَّذكّ ُر بال ّنسيان ِم ْن خَار ِج ِّ‬ ‫بَينْ َ ال ِف ْعلينْ ُم َع ّق َدةٌ‪ ،‬بها يَتَ َح َّر ُر ال َّز َم ُن ِم ْن َمفهو ِم ِه العا ّم‪،‬‬ ‫أي ِم َن الجانِ ِب امل َ ِق ِ‬ ‫يس فيه‪ .‬ثالثُ ال َعناصرِ ؛ أ َّن األث َر َعفَا‬ ‫ْ‬ ‫وما َعفا‪.‬‬ ‫والسكن‬ ‫َد ْع َو ُة ا ْمرئ القيس إىل ال ُوقوف عىل أثر ال ُح ّب َّ‬ ‫ت ِ‬ ‫جودي لل َّر ْسم‪ ،‬أي لِماَ يَ ْعفُو دو َن أ ْن‬ ‫َكش ُف ال ُب ْع َد ال ُو َّ‬ ‫يَ ْعفُو‪ .‬والبُ َّد م َن االن ِتبا ِه إىل اال ْم ِتدا ِد الذي شَ ِه َدت ْ ُه َه ِذ ِه‬ ‫ال َّد ْع َو ُة يف الشِّ ْعر الجا ِهيل َو ِه َي ت َ ْحضرُ ُ ِ‬ ‫بصيغٍ َع َّد َد ِت‬ ‫امل ُخاطَب ( ِقف‪ِ /‬قفي‪ِ /‬قفوا‪ ).../‬يكْ نُ ْد َرك ت َجا ُو َب‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪129‬‬


‫قصيد األسالف‬

‫ري‪ ،‬تَ ْدعيامً لِ َن َسبها إىل الوا ِقفني عىل األثر‪ ،‬وامل ُ ْن ِصتني‪،‬‬ ‫الشُّ َعرا ِء َم َع َها‪ ،‬ب َو ْص ِفها َسامعاً ُم َو َّجهاً إىل ال َح ِميمِ يف‬ ‫ِش ْع ٍّ‬ ‫الصميم يف ال ُو ُجود‪ .‬و َحتَّى ِع ْن َدما تَ َر َّد َد‬ ‫ال َحياة‪ ،‬وإىل َّ‬ ‫ِش ْعرا ً‪ ،‬لل ّدعو ِة املُتَ َص ِّد َر ِة لِ ُمعلّق ِة ا ْمرئ القيس‪ِ ،‬م ْن غيرْ‬ ‫َص َدى ِ‬ ‫أ ْن نَ ْنسىَ الشَّ ا ِه َد القرآين‪ ،‬أيضاً‪ ،‬الذي يُو ِم ُئ إىل ال َح ُمولةِ‬ ‫ظل‬ ‫هذ ِه ال َّد ْع َوة يف َز َمنِ ما بَ ْع َد الجاهليّة‪َّ ،‬‬ ‫اإلسال ُم يف تأ ُّمل األثر‪.‬‬ ‫والسكن‪ ،‬مبا ال ّدي ِن َّية التي استَ ْن َبتَها ْ‬ ‫ُم ْنطَوياً عىل َما ل ُه ِصلة بال ُو ُجود‪ ،‬أي ال ُح ّب َّ‬ ‫اب َع ْن‬ ‫ُهام منطقة أث َري ٌة لِتَشَ كُّلِ األثر‪َ .‬ص ِح ٌ‬ ‫يح أ َّن هذه ال َّد ْعوة يف ُمن َجز كِتاب «املنازل والديار»‪ ،‬ت َ َح َّو َل ال َج َو ُ‬ ‫أي ال َّد ْع َو ِة القا ِد َم ِة ِم َن البدايَ ِ‬ ‫ات األوىل لِلشِّ ْعر ال َع َر ّيب‪ ،‬إىل‬ ‫تَ َح َّولت‪ ،‬يف ال َع ِد ِيد ِم َن القصائِ ِد إىل تَ ْركِ ٍ‬ ‫يب ُمتَ َصلِّب‪ْ ،‬‬ ‫خاب َم ِ‬ ‫قاط َع ِش ْعريَّ ٍة ا ْعتَ َنى فيها أصحابُها بال ُو ِ‬ ‫قوف‬ ‫يب َميِّ ٍت ُم ْنف َِصلٍ َعنِ التَّ ْجربَ ِة ال َحيَّة للشا ِعر‪،‬‬ ‫إىل تَ ْركِ ٍ‬ ‫ان ِت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عىل ال َّدارس م َن امل َ َنازل وال ِّديار وامل َغاين واألطْالل‬ ‫بالصميم يف ال ُو ُجود َم ّك َنها م ْن‬ ‫لك َّن اقترِ ا َن ال َّد ْع َوة َّ‬ ‫أ ْن تَخترَ َق َز َم َنها إىل أز ِمن ٍة ِ‬ ‫وال ُّربُوع وال ِّد َمن وال ُّر ُسوم واآلثار‪َ ،‬وإىل ِح ْر ِص أسامة بن‬ ‫الحقة‪ ،‬بَ ْع َد أ ْن تَل َّون َْت مبا‬ ‫ُمنقذ عىل َص ْونِ امل ُ ْنتَخ َب ِ‬ ‫ات والتأليف بَ ْي َنها‪ ،‬مبا يَضْ َم ُن‬ ‫يَقتَضي ِه هذا االخترِ اق‪ .‬ولنا أ ْن نَتَ َسا َء َل‪ ،‬يف ض ْو ِء ال َو ْعي‬ ‫لها حيا ًة َج ِدي َدة عبرْ َ ت َجا ُورها‪ .‬وق ْد َع َّز َز أسامة ب ُن من ِقذ‬ ‫بهذا االخترِ اق‪ :‬أل ْي َس ما قا َم ب ِه أسامة بن ُمنقذ (‪488‬‬ ‫َاب مبَ ِ‬ ‫قاط َع ِم ْن ِش ْعر ِه الشَّ خْيص‪.‬‬ ‫ِف ْع َل االن ِتخ ِ‬ ‫– ‪584‬هـ) بَ ْع َد قرون‪ ،‬عبرْ َ امل ُختارات التي انتَ َخبَها َعنِ‬ ‫ِ‬ ‫خاب‪ ،‬يف الكتاب‪ ،‬هو الوقفة ذاتُها‪ .‬وهي وقفة‬ ‫ال ُّر ُسومِ واألطالل واآلثار يف كتابه «املنازل والديار»‪،‬‬ ‫االنت ُ‬ ‫ِ‬ ‫ْلق‪،‬‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫اء‬ ‫ر‬ ‫ع‬ ‫الشُّ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫الواقفني‬ ‫إىل‬ ‫د‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫ّها‬ ‫ن‬ ‫أل‬ ‫فة‪،‬‬ ‫ع‬ ‫ضا‬ ‫م‬ ‫أليس‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْاستجابة ال شُ ُعوريَّة لِ َد ْع َو ِة ا ْمرئ القيس األوىل؟ َ‬ ‫مبا اختا َرتْ ُه ِم ْن ن ُ​ُص ِ‬ ‫وصهم‪ ،‬تَ َجا ُورا ً بينْ َ ِ‬ ‫مقاط َع من‬ ‫الكتاب َوقفة‪ِ ،‬م ْن ج َهة‪ ،‬وا ْح ِتفا ًء بالواقفني عىل اآلثار‬ ‫ُ‬ ‫ِم ْن ج َه ٍة أ ْخ َرى‪ ،‬وإ ْن ِ‬ ‫ارب ُمتَ َباي َن ٍة ُصلباً يف‬ ‫خاب‬ ‫كانت ال َّدوا ِعي امل ُ َباشرِ َ ُة لِالن ِت ِ‬ ‫ِش ْعرهم‪ ،‬ف َيغ ُدو األث ُر القاد ُم ِم ْن ت َ َج َ‬ ‫كل ُع ُف ٍّو‪ ،‬ألنَّه‬ ‫أصاب ال ُج ْز َء الشاميل ِم ْن سورية الكتاب ِة واالن ِتخَاب وال َج ْمع‪ُ ،‬متَ َملِّصاً ِم ْن ِّ‬ ‫ُم ْرتَبَطة بال ِّزل َزال الذي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يَغ ُدو يف حامية التأويل‪ ،‬الذي يمَ ْتَ ُّد به ويُشَ ِّع ُب َم َسالكه‪.‬‬ ‫عام ‪552‬هـ‪ ،‬وفق َد في ِه أسامة ب ُن منقد أ ْهل ُه وأحبابَه؟‬ ‫َمتَى نَف ِ‬ ‫وكتاب «املنازل والديار» َمتنْ ٌ َرفي ٌع لِ ِقرا َء ِة األثر و ِقراء ِة‬ ‫َذت ال ِقرا َء ُة ِم ْن ظا ِهر ال َّد َوا ِعي إىل ال شُ ُعور‬ ‫هات ال َخ ِف َّي ِة له‪ ،‬ت َ​َس َّنى لها أ ْن تَ ْع َرث امل ُ َو ِّج ِ‬ ‫االن ِتخاب وإىل امل ُ َو ِّج ِ‬ ‫هات ال َجامل َّي ِة وال ُو ُجو ِديَّ ِة لِ ِف ْعلِ االنتخاب‪ ،‬مبا هو‬ ‫يل‪ .‬كام أ َّن هذا امل ُؤل َ​َّف يُ َوف ُر أ ْرضأً ِ‬ ‫عىل ط ْي ِف امرئ القيس يف هذا ال َع َمل‪ .‬لِ ُن ِ‬ ‫فسي َحة‬ ‫نص ْت لِ ُم ْم ِكنِ ِف ْع ٌل تأوي ّ‬ ‫عاب التي خطَّتْها َد ْع َوة امرؤ القيس األوىل‬ ‫هذا النفاذ‪.‬‬ ‫لِ ُمصا َحبَ ِة الشِّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يَ ُ‬ ‫يف مطلع ُمعلَّقته‪.‬‬ ‫قول أسامة بن ُمنقذ يف تَ ْعليل انتخَابه ملُخْتارات‬ ‫ُم َؤلَّ ِفه‪َ « :‬دعاين إىل َج ْمعِ َهذا ال ِكتاب‪ ،‬ما َ‬ ‫ين َبغي أال نَ ْنسىَ ‪ ،‬يف سياق تأ ُّمل ال َّر ْسمِ بينْ ال َعفا ِء‬ ‫نال بال ِدي‬ ‫الس َ‬ ‫ؤال الذي ْاستَ ْن َبتَ ُه ا ْمرؤ القيس يف ُمعلّق ِت ِه‪.‬‬ ‫وأ ْوطاين ِم َن ال َخراب؛ فإ َّن ال َّزما َن َج َّر َعل ْيها ذيْلهُ‪،‬‬ ‫والبقاء‪ُّ ،‬‬ ‫فأص َب َح ْت «كأ ْن ملْ‬ ‫ُس َؤ ٌال نُعي ُد َص ْوغ ُه عىل ال َّن ْحو التايل‪ :‬أيُ َع َّو ُل عىل‬ ‫وصرَ َ َف إىل تَ ْع ِف َي ِتها َح ْولَ ُه و َح ْيلهُ‪ْ ،‬‬ ‫تَ ْغ َن باأل ْمس» ُم ِ‬ ‫وحشَ ة ال َع َر ِ‬ ‫ويل أخَذ‪ ،‬يف الشِّ ْعر‬ ‫ال ّدارس؟ الال ِف ُت أ َّن هذا التَّ ْع َ‬ ‫صات بَ ْع َد األنْس‪ ،‬وق ْد‬ ‫األقل اختَ َّص بها‪ ،‬أل َّن‬ ‫الجا ِهيل‪َ ،‬م ْعنى امل ُحا َو َرة‪ ،‬أو عىل ّ‬ ‫َدث َر ُع ْمرانُها‪ ،‬و َهل َ​َك ُسكّانُها‪ ،‬فعادَتْ مغانيها ُرسوماً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫واملَسرَ َّاتُ بها حَسرَ َ ٍ‬ ‫ري َ‬ ‫أضاف إل ْيه ت َ​َسا ُؤالً ت َ َر َّد َد يف‬ ‫ع‬ ‫ش‬ ‫د‬ ‫دا‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫شَ‬ ‫ما‬ ‫ْت عليها‬ ‫َهُ‬ ‫ات و ُه ُموماً‪ ،‬ولق ْد َوقف ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ٍّ‬ ‫ُمعظم القصائِ ِد َع ْن إ ْمكان تَكليمِ ال َّر ْسم‪ ،‬الذي ت َ َح َّو َل إىل‬ ‫وهي «أ َّو ُل أ ْر ٍض‬ ‫بَ ْع َدما أصابَها ِم َن ال َّزالزل ما أصابَها‪َ ،‬‬ ‫ُس َؤا ٍل َع ْن َج ْد َوى ُمحا َو َر ِة األثر‪.‬‬ ‫َم َّس جلدي تُرابها»»‪.‬‬ ‫الص ْدفة أ ْن يَتَخل َ​َّل ِ‬ ‫كل الشُّ عراء ان َجذبوا‪ ،‬عىل نَ ْح ٍو ّما‪َ ،‬ص ْو َب ُمحا َو َر ِة األثر‪،‬‬ ‫صيص ُّ‬ ‫هذ ِه ال ِفق َر َة التَّ ْن ُ‬ ‫ليْ َس ِم ْن قبيلِ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ياب‬ ‫ْت‪ ،»...‬الذي‬ ‫بصي َغ ِة التَّ ْوكِ ِيد عىل ال ُوقوف‪« :‬ولق ْد َوقف ُ‬ ‫حتَّى و ُه ْم يَ ْرتابون يف َج ْد َوى هذا الف ْعل‪ .‬فكا َن االرت ُ‬ ‫ذاتُ ُه ِ‬ ‫انخراطاً‪َ ،‬مب ْعنى ّما‪ ،‬يف امل ُحا َو َرة‪.‬‬ ‫ن َْس َم ُع فيه َجواباً عىل َد ْع َو ِة ا ْمرئ القيس ال َبعيدة‪.‬‬ ‫وليس َع َبثاً أ ْن ت َْستَع َني ال ِفقر ُة يف َص ْو ِغها عىل شا ِه ٍد‬ ‫َ‬ ‫‪130‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫ديوان العرب‬

‫كتاب «المنازل والديار»‬ ‫السابق‪ُ ،‬م ْن ِت ٌج للتَّ َع ُّد ِد واالخ ِتالف‪َ .‬معنى ن ْعرثُ‬ ‫الشرَّ ْ ِح َّ‬ ‫عليْه‪ ،‬أيْضاً‪ ،‬يف اللغة العربيَّة‪ ،‬التي جا َء فيها‪َ « :‬عفا‬ ‫ء ِة األثر‬ ‫َم ْت ٌ‬ ‫ن رَفيعٌ ِل ِقرا َ‬ ‫ِ‬ ‫الشيَّ ُء يَ ْعفو ُع ُف ّوا ً‪ ،‬إذا كرثَ»‪ .‬التشبيهُ‪ ،‬يف بَيْت جرير‪،‬‬ ‫جماليَّ ِة‬ ‫ج‬ ‫و ِق‬ ‫هات ال َ‬ ‫م َو ِّ‬ ‫راءة ال ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يَ ْستَ ْجيل االخ ِت َ‬ ‫الف يف امل َ ْم ُح ِّو‪ ،‬بل إ َّن ال ُع ُف َّو هو ما يُ ْن ِت ُج‬ ‫ل االنتخاب‪،‬‬ ‫وال ُو ُ‬ ‫جو ِديَّ ِة ِل ِف ْع ِ‬ ‫االخ ِتالف‪ .‬ما َد َر َس ِم َن املأوى أث ٌر ُمتَع ِّد ٌد با ْخ ِتال ِف ِه الذي‬ ‫بما هو ِف ْع ٌ‬ ‫تأويلي‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ن َ​َس َج ُه البِىل‪ ،‬أي امل َ ْحو (ريش حامم ٍة محاها البِىل)‪.‬‬ ‫اللّ ْو ُن امل َم ُح ُّو ُمتَ َع ِّد ٌد‪ ،‬لك َّن ُه باقٍ ‪ .‬أال يَتعل َُّق األ ْم ُر بالل ْون‬ ‫ال َّن ْفسيِ ِّ الذي ت َْصطب ُغ صو َرت ُ ُه ب َو ْج ِد الوا ِق ِف َني عىل األثر؟‬ ‫إىل جانب هذا ال ِغنى الذي يَ ْنطَوي عل ْي ِه تفا ُعل بَ ْي ِت‬ ‫دروب رسية‬ ‫لنا أ ْن نَ ْنتَب َه إىل أ َّن التسا ُؤ َل َع ْن َج ْد َوى ُمحا َو َر ِة األثر ال جرير مع ما أ ْر َستْ ُه ُمعلّقة امرئ القيس‪ ،‬مث ّة أيضاً‬ ‫يَ ْنف َُّك يَعو ُد يف الشِّ ْعر القديم‪ ،‬مبا يَ ْج َع ُل ِ‬ ‫هذ ِه الع ِو َدة‪ ،‬االن ِْخ َرا ُط يف ُمحا َو َر ِة األثر‪ ،‬عىل نَ ْحو ما هو بَينِّ ٌ ِم ْن نِهايَ ِة‬ ‫البَيْت‪ .‬فهي ت ُش ِّد ُد عىل َص ْم ِت ال َّر ْسم‪ .‬لقد اقرتَ َن هذا‬ ‫تياب‪،‬‬ ‫يف ذاتِها‪ ،‬رضو َر ًة ُوجو ِديَّة حتَّى وإ ْن غلَّفَها اال ْر ُ‬ ‫الص ْم ُت‪ ،‬يف الغالب العا ّم‪ ،‬بالال َج ْد َوى وبال َع ْجز عن‬ ‫تياب ُمتولِّ ٌد ِم ْن حَيرْ َ ِة االنجذاب نَ ْح َو ما‬ ‫َّ‬ ‫بل إ َّن هذا اال ْر َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سيِ‬ ‫َ‬ ‫الصمت‪.‬‬ ‫ه‬ ‫قول‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫هو‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ء‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫يف‬ ‫ن‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫غ‬ ‫الكالم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫يف‬ ‫الف‬ ‫خ‬ ‫ال‬ ‫ى‪.‬‬ ‫و‬ ‫د‬ ‫ج‬ ‫ون‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫الظاهر‪،‬‬ ‫يَ ْب ُدو‪ ،‬عىل ُم ْستَوى‬ ‫َ ُ َّ‬ ‫ُ ََْ‬ ‫يرْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َّ‬ ‫لت هذا التَّسا ُؤ َل إىل ٍ‬ ‫الص ْم ِت كالماً‬ ‫تقليد‬ ‫أ َّن ال َع ْو َدة امل َ ِّيتَة‪ ،‬التي َح َّو ْ‬ ‫ذلك ما يَتطل َُّب تأويالً ينطلِ ُق ِم ْن َع ِّد هذا َّ‬ ‫باالس ِتغراق الذي تتطلَّ ُب ُه‬ ‫ري ٍّ‬ ‫جاف وجا ِم ٍد‪ ،‬ق ْد أف َر َغتْ ُه ِم َن ما ِء ال ُّن ُزوع نَ ْح َو‬ ‫خ ّ‬ ‫َاصاً ال يُ ْس َم ُع إالّ بالقلب‪ ،‬أي ْ‬ ‫ِش ْع ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫الوقفة الشِّ ْعريَّة يكْ ت َْستقي َم ُرؤية ما ال يُ َرى‪.‬‬ ‫ْاس ِتغوار ما يَبْقى يف ال َعفاء وب ِه‪ .‬ولك ْن‪ ،‬كلّام تولَّ َد ِت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أويل يف تأ ُّمل األثر‪،‬‬ ‫انطلق التّ ُ‬ ‫باس‪ ،‬الذي من ُه‬ ‫امل ُحا َو َر ُة َع ْن تَ ْجربَ ٍة َحيَّة‪َ ،‬م ّك َن ِت اللغة الشِّ ْعريَّة‬ ‫َ‬ ‫يَقو ُد االلت ُ‬ ‫كل أثر‬ ‫إىل َرفعِ التعا ُرض بينْ ال َعفا ِء والبقاء‪ ،‬أل َّن َح ِقيقة ِّ‬ ‫ِم َن ال َّنفا ِذ إىل ال َب ِع ِيد وأبَان َْت َع ْن َج ْد َواها ال ُو ُجو ِديَّة‬ ‫تظل َم َسالِ ُك التَّأويل‬ ‫تقو ُم عىل هذا االل ِتباس‪َ .‬و َس ْو َف ُّ‬ ‫وال ِفكريَّة والشِّ ْعريَّة‪ ،‬ال ال َج ْد َوى امل َ ْح ُجوبَة بامل َنف َع ِة‬ ‫ْصيب ما‬ ‫امل َ ْر ُسومة يف ت َْصدير امل ُعلّقة يف حاج ٍة إىل تَخ ٍ‬ ‫ال َوظيف َّية اآلن َّية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْن بَينْ امل َ َوا ِقعِ امل ُْس ِع َف ِة أيْضاً يف ْاس ِت ْجالء َح ِقيق ِة األثر‪ ،‬ملْ نُ َعضِّ دها مبا تُتي ُح ُه اللغة العربيَّة من ت َوغُّلٍ لل ِقراءة‪.‬‬ ‫ف ِمن أسرْ ار اللغ ِة العربيّة أ َّن َّ‬ ‫دال «ال َّدرس»‪ ،‬فيها‪ ،‬يَعني‬ ‫مبا هو َعفا ٌء وبقا ٌء يف آن‪ ،‬مث َّة التَّشابي ُه التي بها ن َ​َسج‬ ‫ِ‬ ‫َّريق ال َخ ِف ّي‪َ .‬م ْعنى َخال ٌّق‪ ،‬ب ِه ْاس ْرتشَ دنا يف بنا ِء‬ ‫ط‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الشُّ َع َرا ُء تَ َخ ُّيل ُهم لِل َّدارس‪ .‬إنَّ ُه َم ْوضو ٌع ُمستَ ِق ٌّل بذاتِ ماَ‬ ‫يعاب األثر ب َو ْص ِف ِه طريقاً ال‬ ‫ذب فيها التشبي ُه األث َر‬ ‫التأويل‪ .‬ف ُهو يُ ْريس اس ِت َ‬ ‫يَ ِع ُد ب ِه ِم ْن َم َسالِ َك تَأويل َّي ٍة يَجتَ ُ‬ ‫يُ َرى؛ طريقاً يُطالِ ُب عابريه ب َبص َري ٍة نَفّاذ ٍة ت َق َرأ امل َ ْم ُح َّو‪،‬‬ ‫نَ ْح َو ال َوشْ مِ والكتابة وغيرْ هام ِم َن املناطق التخييل َّية‪.‬‬ ‫خاص‬ ‫لذلك نَكتَفي بالتَّ ْمثيلِ لِماَ يَ ْنطَوي عليْ ِه التشبي ُه ِم ْن‬ ‫أي ال َخ ِف ّي‪ .‬األث ُر‪َ ،‬و َ‬ ‫فق هذا امل َ ْع َنى ال َخالّق‪َ ،‬مسا ٌر ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يَقتيض َعيْناً َمنذو َر ًة القتفاء ما ال يُ َرى‪.‬‬ ‫ُوعو ٍد تأويليَّ ٍة ببَيْ ٍت لِجرير؛ في ِه نس َم ُع ما أ ْرسا ُه ا ْمرؤ‬ ‫كف الشعرا ُء عن ْاس ِتغوار‬ ‫ما يَ ْد ُر ُس‪ ،‬إذن‪ ،‬هو ما ال يَ ُّ‬ ‫القيس يف ُم َعلّقته‪ ،‬جا َء فيه‪:‬‬ ‫أسرْ ار ِه وتقليب أ ْز ِم َن ِت ِه واإلن َْص ِ‬ ‫ات لِل ِغياب امل َ ْوشُ وم فيه‪،‬‬ ‫ريش َحامم ٍة َمحاها البِىل‬ ‫كأ َّن ُر ُسو َم ال ّدار ُ‬ ‫عابرين بال َعفاء إىل البقا ِء الذي تُ َؤ ِّم ُن ُه اللغة الشِّ ْعريَّة‪،‬‬ ‫فاست ْع َج َمت أ ْن تكلَّام‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫قبْل أ ْن يَ ْستَلِ َمها الق ّرا ُء ويُواصلوا َسماَ َع نِ َداء األثر فيها‬ ‫رشح أيب عبيدة معمر بن املث ّنى لهذا البَيْت‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫يف ْ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫«شبَّ َه ال َّدا َر ِ‬ ‫باستالمِ الكتابة‪ ،‬ث َّم القراءة بَ ْع َدها‪،‬‬ ‫ميل‬ ‫بريش َحام َمة ال ْختالف ل ْونِها»‪ .‬تَ ْح ُ‬ ‫عبرْ َ طُ ُرقٍ ال َم ْرئِيَّة‪ْ .‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫الل‬ ‫الف‬ ‫ت‬ ‫خ‬ ‫فق تأويلٍ َمفتوح‪ ،‬لألثر‪ ،‬يَ ْغ ُدو ُصلباً ألنَّ ُه يَشُ ُّق ُد ُروباً سرِ ِّ يَّة‬ ‫التّشبي ِه َمعنى ا ْ‬ ‫ْ ُ َ ضِّ ُ َ َ‬ ‫األصيل يف بَ ْيتَ ْي امرئ القيس‪ .‬فال ُعف ُّو‪َ ،‬ح َس َب‬ ‫َ‬ ‫باس‬ ‫االل ِت َ‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪131‬‬


‫أعمدة الشعر‬

‫محمد مهدي الجواهري‬

‫الشاعر في ذكراه‬ ‫بهاء الديباجة القديمة‬

‫كانت قصائد‬ ‫ّ‬ ‫بحق‪ ،‬ديوان‬ ‫الجواهري‬ ‫العرب في القرن‬ ‫وس ّ‬ ‫جل‬ ‫العشرين‪ِ ،‬‬ ‫أخبارهم‪ ،‬ومستودع‬ ‫أيّامهم‬

‫الجواهري‬ ‫وأدبي مختلف‪.‬لم يكن يعيش‬ ‫كان الجواهري ينتمي إلى ساللة شعريّ ة أخرى‪ ،‬وينتسب إلى تاريخ فنّي‬ ‫ّ‬

‫هاجس الحداثة وإنما هاجس استمرار التراث‬

‫محمد الغزي‬

‫‪132‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫ديوان العرب‬

‫مازالت‬

‫صورة الجواهري بقامته الفارعة‪،‬‬ ‫وطاقيته املائلة‪ ،‬ومسبحته التي‬ ‫يسلسل ح ّباتها باستمرار عالقة بذاكريت‪ ..‬رأيت الرجل يف‬ ‫أماكن مختلفة‪ ،‬ويف فرتات متباعدة‪ ،‬لكنّ صورته ظ ّلت‬ ‫واحدة مل تتغيرّ ‪ّ ..‬مثة إحساس كان يخالجني ك ّلام رأيت‬ ‫الجواهري هو أ ّنه أراد‪ ،‬عن وعي عامد‪ ،‬التش ّبث بتلك‬ ‫الصورة والحفاظ عىل تفاصيلها الصغرية‪ ،‬فلم يسع إىل‬ ‫ثم ّإن الزمن قد تواطأ معه فلم‬ ‫تغيريها أو تحويرها‪ّ ..‬‬ ‫يؤ ّثر يف مالمحه‪ ،‬عىل امتداد سنوات طويلة‪ ،‬تأثريا واضحا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سني حياته األخرية‪.‬‬ ‫فظل هو هو حتّى ّ‬ ‫كان الجواهري كلام حرض مهرجانا شعريا أو ندوة ثقافية‬ ‫لفت إليه االنتباه‪ .‬فللرجل «كاريزما» تجعله قويّ الحضور‬ ‫بني الناس‪ .‬فهو يش ّد األنظار قبل أن يش ّد األسامع‪ .‬ارتفاع‬ ‫قامته يجعله بارزا للعيان وصوته املجلجل يجعله ّ‬ ‫محط‬ ‫أنظار الجميع‪ ،‬لكن حضور ال ّرجل كان يتجلىّ أقوى ما‬ ‫يتجلىّ حني يعتيل املنرب وينشد قصائده‪ .‬كان‪ ،‬يف أكرث‬ ‫األحيان‪ ،‬ال يستعني بورقة‪ ،‬وإنمّ ا يع ّول عىل ق ّوته الحافظة‪،‬‬ ‫فيقرأ القصيدة‪ ،‬مهام تعدّدت أبياتها‪ ،‬دون تردد‪ ،‬تاركا‬ ‫املجال ليديه أن تتح ّركا‪ ،‬ولعينيه أن‬ ‫تحدّقا يف عيون الحارضين‪ ،‬ولجسده‬ ‫أن يفصح عن أحاسيسه وانفعاالته‪،‬‬ ‫مستحرضا من خالل نربته العالية‪،‬‬ ‫مراسم اإلنشاد التقليد ّية‪ .‬أذكر أ ّنني‬ ‫اقي ماجد السام ّرايئ‬ ‫كنت والناقد العر ّ‬ ‫نستمع للرجل يف إحدى اللقاءات‬ ‫األدب ّية وهو يرفع صوته يف ما يشبه‬ ‫اقي‪ :‬أنا‬ ‫النشيج فقال يل الناقد العر ّ‬ ‫عىل يقني ّ‬ ‫بأن الشعراء القدامى كانوا‬ ‫ينشدون قصائدهم بهذه الطريقة‬ ‫وبهذه النربة ‪.‬هكذا كان يتغنّى البحرتيّ واملتن ّبي وبشار‬ ‫بقصائدهم‪.‬‬ ‫وليس ذلك بغريب عن شاعر ّ‬ ‫ظل‪ ،‬طوال حياته املديدة‪،‬‬ ‫يستحرض أرواح الشعراء القدامى‪ ،‬يتامهى معهم‪،‬‬ ‫ويستدعي طرائقهم يف ترصيف القول وإقامة الوزن‬ ‫وعقد القوايف‪ .‬فالجواهري‪ّ ،‬‬ ‫ظل وف ّيا للسنّة الشعر ّية‪ ،‬ما‬ ‫فتئ‪ ،‬يستعيد‪ ،‬من خالل قصائده‪ ،‬أصولها‪ ،‬ويعيد إنتاج‬

‫عنارصها‪..‬محتذيا أمنوذجا قامئا يف الذاكرة اكتسب‪ ،‬من‬ ‫يحب‬ ‫أثر تكرار بعد تكرار‪ ،‬رضبا من القداسة‪ .‬فهو‪ ،‬كام ّ‬ ‫أن يصف نفسه‪ ،‬شاعر «السليقة العرب ّية» ير ّد عنها غوائل‬ ‫الزمن وعوادي التاريخ لتبقى محتفظة بصفائها األ ّول‬ ‫الوطني الذي يع ّد غرضا‬ ‫ونقائها القديم‪ .‬حتّى الشعر‬ ‫ّ‬ ‫شعر ّيا جديدا مل يتح ّرر من ذاكرة القصيدة التقليد ّية‬ ‫صورا وتراكيب وإيقاعا‪ .‬فالجواهري كان آخر شعراء‬ ‫القصيدة‪ ،‬باملعنى التقليدي ملصطلح القصيدة‪ .‬عن طريقه‬ ‫ّ‬ ‫ظل الرتاث يواصل حضوره امليضء‪ ،‬واللغة العرب ّية تواصل‬ ‫بيانها القديم‪ .‬لهذا كانت لقصائده رهبة يف السامع‪.‬‬ ‫فليس الشاعر هو الذي يتك ّلم من خاللها وإنمّ ا التاريخ‪،‬‬ ‫واللغة‪ ،‬وذاكرة العرب الذاهبة بعيدا يف الزمن‪.‬‬ ‫مل ته ّز رياح التحديث الشعري التي عرفها العراق‬ ‫قناعات الجواهري‪ ،‬ومل ترتك قصيدة الر ّواد يف مد ّونته‬ ‫أيّ أثر يذكر‪ّ .‬‬ ‫لكأن الجواهري كان ينتمي إىل زمن غري‬ ‫زمن شعراء الحداثة‪ .‬ففيام كان هؤالء يحاورون إليوت‬ ‫وستويل وأراغون كان الجواهري يحاور املتن ّبي واملع ّري‬ ‫والبحرتي‪ ،‬وفيام كان شعراء الحداثة يسعون إىل الخروج‬ ‫عن اللغة القدمية ودالالتها املوروثة‬ ‫وبنيتها اإليقاعية القدمية‪ ،‬كان الجواهري‪،‬‬ ‫عىل العكس من ذلك‪ ،‬يستعيد الذاكرة‬ ‫الشعر ّية‪ ،‬محتفيا بالبالغة التقليد ّية‪،‬‬ ‫مستحرضا بهاء الديباجة الشعرية األوىل‪.‬‬ ‫كان الجواهري معهم لكنّه مل يكن منهم‪.‬‬ ‫فالرجل كان ينتمي إىل ساللة شعر ّية‬ ‫أخرى‪ ،‬وينتسب إىل تاريخ فنّي وأد ّيب‬ ‫مختلف‪ ..‬مل يكن الجواهري يعيش‬ ‫هاجس الحداثة وإمنا كان يعيش هاجس‬ ‫استمرار الرتاث‪ ،‬فلم يسع‪ ،‬يف ّ‬ ‫كل ما‬ ‫كتب‪ ،‬إىل العدول عنه أو الخروج عن نواميسه املسطرة‬ ‫وقوانينه املقدّرة‪.‬‬ ‫لقد كانت قصائد الجواهري‪ ،‬بحقّ ‪ ،‬ديوان العرب يف القرن‬ ‫ّ‬ ‫وسجل أخبارهم‪ ،‬ومستودع أ ّيامهم‪.‬فالشاعر قد‬ ‫العرشين‪،‬‬ ‫أرشف من فوق سنواته التسعني عىل تاريخ الرشق العر ّيب‬ ‫فسجل ما كان‬ ‫عا ّمة‪ ،‬وتاريخ العراق عىل وجه الخصوص‪ّ ،‬‬ ‫أحقّ بالتسجيل‪ ،‬ود ّون ما كان أوىل بالتدوين‪ .‬هكذا‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪133‬‬


‫أعمدة الشعر‬

‫احتشد يف مد ّونته عدد هائل من أسامء امللوك‪ ،‬وأصحاب األبيات تحتوي عىل أمشاج من الصور التقليد ّية‪ ،‬بعضها‬ ‫يحيل عىل قصائد املتن ّبي الفخر ّية‪ ،‬وبعضها يحيل عىل‬ ‫السلطة والجاه‪ ،‬كام احتشد عدد هائل من أسامء املدن‬ ‫قصائد الحامسة الجاهل ّية‪ ،‬وبعضها عىل قصائد الحطيئة‬ ‫وتواريخ الكثري من األحداث التاريخية‪ ،‬فالشعر قد ارتدّ‪،‬‬ ‫الهجائ ّية‪ّ .‬‬ ‫عىل يدي هذا الشاعر‪ ،‬إىل وظيفته األوىل بوصفه ّ‬ ‫فكل ما يف القصيدة يؤكد ّأن الشاعر يعمد‬ ‫سجل‬ ‫ّ‬ ‫إىل أسلوب «التوليد» ليك يشكل صوره وينحت رموزه‪.‬‬ ‫وقائع األ ّمة عن طريقه تخ ّلد مآثرها وما يستج ّد لها من‬ ‫والتوليد كام ع ّرفه ابن رشيق هو «استخراج الشاعر‬ ‫أمور عظام‪ ،‬ومثل الشعر القديم كان شعر الجواهري‬ ‫معنى من معنى شاعر تقدّمه»‪ ،‬وهذا االستخراج يفيض‬ ‫يوقع يف نفوس السامعني «مح ّبة ألمر من األمور أو ميال‬ ‫إليه أو طمعا فيه أو غضبا وسخطا عليه» بحيث يتآخى‪ ،‬بالرضورة إىل تحوير املعنى األ ّول وتطويره وفتحه عىل‬ ‫إمكانات دالل ّية جديدة‪.‬‬ ‫يف صلبه‪ ،‬القوالن‪ :‬القول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نص‬ ‫الشعري والقول الخطايب‬ ‫إن الذي نريد أن نؤكده هو أن ّ‬ ‫يوقع‬ ‫الجواهري‬ ‫شعر‬ ‫أهم‬ ‫اث‬ ‫رت‬ ‫ال‬ ‫من‬ ‫متح‬ ‫وإن‬ ‫الجواهري‬ ‫اآلخر‪.‬‬ ‫ويصبح أحدهام عني‬ ‫ّ‬ ‫في نفوس السامعين عنارصه الداللية واإليقاع ّية فإ ّنه جاء‬ ‫هكذا استعاد الشاعر األغراض‬ ‫مض ّمخا مباء التجربة‪ ،‬تجربة الشاعر‬ ‫التقليد ّية من مديح وهجاء‬ ‫األمور‬ ‫من‬ ‫ألمر‬ ‫ة‬ ‫ب‬ ‫مح‬ ‫ّ‬ ‫وهو يرهف السمع إليقاع الحياة‬ ‫ووصف ورثاء وأدار عليها‬ ‫أو ميال إليه أو طمعا‬ ‫من حوله‪ .‬وقد ال نبالغ إذا قلنا إ ّننا‬ ‫قصائده كام استعاد معاجمها‬ ‫نستطيع أن نقرأ سرية الرجل من‬ ‫وصورها ورمزها‪ .‬وهكذا ح ّول‬ ‫فيه أو غضبا وسخطا‬ ‫خالل قصائده‪ .‬أن نقرأ مختلف‬ ‫«أمسياته» إىل احتفاالت كربى‬ ‫في‬ ‫يتآخى‬ ‫بحيث‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫املراحل الفكرية واإليديولوج ّية التي‬ ‫بالكلمة الشاعرة‪ ،‬يواكبها‬ ‫صلبه ‪ ،‬القوالن الشعري م ّر بها‪.‬فشعره ّ‬ ‫يشف عن شخص ّيته‪،‬‬ ‫املستمعون بالتصفيق‪ ،‬وأحيانا‬ ‫يكشف عن تاريخها بل إ ّنه تح ّول‪ ،‬يف‬ ‫بعبارات االستحسان واإلعجاب‪.‬‬ ‫والخطابي ويصبح‬ ‫العديد من املناسبات‪ ،‬إىل «وثائق»‬ ‫لكنّ هذا ال يعني بأ ّية حال‬ ‫اآلخر‬ ‫عين‬ ‫أحدهما‬ ‫ّ‬ ‫شعر ّية تكفل الشاعر نفسه برشحها‬ ‫ّأن شاعرنا اقترص عىل محاذاة‬ ‫والتعليق عليها‪.‬‬ ‫القصيدة التقليد ّية ومحاكاتها‪.‬‬ ‫هذا اإليقاع الذايت هو الذي جعل شعر الجواهري قريبا‬ ‫الجواهري كتب‪ ،‬من خالل الرتاث‪ ،‬قصيدته املخصوصة‬ ‫ّ‬ ‫من النفس عىل غريب لفظه يف بعض األحيان‪ .‬مثة يف‬ ‫التي تقول تجربته‪ ،‬وتفصح عن غائر مشاعره‪ ،‬وهذه‬ ‫هذا الشعر يشء من البوح وإن ارتدى أحيانا زيّ الفخر‪،‬‬ ‫القصيدة قصيدة قو ّية‪ ،‬الفتة‪ ،‬وأحيانا صادمة تشدّنا‬ ‫ّمثة يشء من االنكسار وإن لبس أحيانا ثياب الزهو‪.‬‬ ‫صورها املستف ّزه‪ ،‬وأحيانا الغريبة‪.‬قصيدة فيها توتر‬ ‫فالجواهري كان‪ ،‬مثل املتن ّبي‪ ،‬يكابد حزنا فادحا‪ ،‬وينوء‬ ‫وغضب‪ ،‬وفيها سالسة وانسياب‪:‬‬ ‫بأعباء غربة قاتلة‪:‬‬ ‫«كذبوا فملء فم الزمان قصائدي‬

‫أبدا تجوب مشارقا ومغار َبا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتحط من‬ ‫تستل من أظفارهم‬ ‫أقدارهم ّ‬ ‫وتثل مجدا كاذ َبا‬ ‫عليهم‬ ‫ألج البيوت‬ ‫هم ُ‬ ‫ُ‬ ‫أنا حت ُف ْ‬ ‫بشتمهم والحاج َبا»‬ ‫أغري الولي َد‬ ‫ْ‬

‫ّ‬ ‫الشك يف ّأن هذه القصيدة التي اقتطفنا منها هذه‬

‫‪134‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫أ ِر ْح ركابك من أ ْي ٍن ومن َعثرَ ِ‬ ‫محموال عىل خط ِرَ‬ ‫ك َف َ‬ ‫اك جيالنِ ْ‬ ‫تقطع ُه‬ ‫كفاك موحش درب رحت ُ‬ ‫َّ‬ ‫كأن ُمغ َّربهُ ليل بال َس َح ِر‬


‫حداثة القدماء‬

‫الشعر الكالسيكي‬ ‫يسبق الزمن إلى قلب الحداثة‬ ‫من يقرأ لبعض الشعراء القدماء‪ ،‬دون االلتفات إلى المسافة الزمنية التي تفصل بينهم وبين العصر الحديث‪،‬‬ ‫سيدرك أن هؤالء الشعراء هم من معاصريه ومشاركيه في الحياة االجتماعية‪ ،‬إضافة إلى الحالة النفسية‬ ‫الراهنة وانفعاالتها مع الواقع‪ .‬من هنا تتالشى هذه المسافة الزمنية بين الشعر وقارئه‪ ،‬وتتحقق الحداثة‬ ‫ويكون هذا الشعر مضارعا على الدوام‪.‬‬

‫محمد عريقات‬

‫هنالك‬

‫شاعر قديم‪ ،‬لكن ليس هنالك شعر‬ ‫تأسيسا عىل هذه املقولة‪ ،‬فإن‬ ‫قديم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫امرئ القيس‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬شاعر قديم لكن شعره‬ ‫الذي يخرتق الزمن عىل الدوام بتأثريه وفاعليته ليس‬ ‫قدميا‪ ،‬كذلك‪ ،‬كم من شاعر معارص تعود بك قصيدته‬ ‫إىل عصور سحيقة يف النسيان؟ أنت ال تطالبه برؤيوية‬ ‫حداثوية أكرث من تلك التي يختار بها ثيابه‪ ،‬لكن فيام‬ ‫يتعلق بالقصيدة تجد أن هذا الشاعر الحديث «زمنيا»‬ ‫ال يجد أصالة وجزالة لها إال بعالقتها املبارشة‪ ،‬بطبيعة‬ ‫الحال‪ ،‬مع املوروث والتقوقع فيه دون تجاوزه‪ ،‬ظنه أن‬ ‫مستقبل الشعر يف ماضيه كام لو أن الكامل الشعري قد‬ ‫تحقق وانتهى مع الشعر الجاهيل‪ .‬كلنا نتذكر الرصاصة‬ ‫التي أطلقها محمود درويش يف مهرجان قرطاج الدويل‬ ‫حني قال قاصدا مجايليه من الشعراء‪ :‬إن أبا الطيب‬ ‫املتنبي أكرث حداثة من كل الشعراء املعارصين‪ ،‬فام يسمى‬ ‫بالشعر العريب الحديث وقع يف منطية مبكرة وأصبح‬ ‫مصاباً بالتشابه والتكرار‪ .‬نقرأ آالف القصائد اليوم‪ ،‬وال‬ ‫نعرف من يكتبها لتشابهها وتطابقها»‪ ..‬ويف كالمه هذا‬ ‫إشارة كبرية عىل أن املسافة الزمنية بني الشعر والقارئ‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪135‬‬


‫حداثة القدماء‬

‫متثال للمتنبي‬

‫الشيخوخة وتحنيط الزمن لها داخل مرحلة معينة‪ ،‬حيث‬ ‫أنها ترفض الواقع املألوف وتعمل عىل منحى جديل‬ ‫مجازي‪ ،‬جاءت كشاهدة عىل رشعية العمل عىل تطور‬ ‫القصيدة‪ ،‬وهو الشاعر العبايس األول الذي ج ّذر للغموض‬ ‫واإلبهام يف الشعر‪ ،‬وذلك يرد ادعاء النقاد املعارصين‬ ‫الذين يدعون إىل العودة إىل املايض يف سبيل التخلص من‬ ‫اإلبهام‪ .‬قيل أليب متام‪« :‬ملاذا ال تقول ما يفهم؟ فرد‪« :‬ملاذا‬ ‫ال تفهم ما ُيقال!»‪ ،‬الغموض ليس قضيتنا‪ ،‬بقدر ما هو‬ ‫إعالن عن حداثة أيب متام يف عرصه‪ ،‬حداثته التي اخرتقت‬ ‫بشعره العصور التي تلته‪ ،‬يقول أبو متام عن قصيدته‬ ‫وخروجها عن القوالب السائدة‪:‬‬

‫لـي فـــي تـركـيـبـه ِبــدَعٌ‬ ‫السن َِن‬ ‫َش َغ َل ْت َق ْل ِبي عن َّ‬

‫ويقول‪:‬‬

‫طارت لـه ُش َع ٌل يهدّم لفحها‬ ‫أركــــانــه هـدمــاً بغــــري غــبار‬ ‫ففصلن منه كل مجمع مفصل‬ ‫وفعلن فـــاقـر ًة بـــــكل فــــــقــار‬

‫وهنا يصف فرادة قصيدته وتفوقها عىل أنها‪:‬‬

‫منز ٌ‬ ‫ّهة عن السرَّ قِ املو ّرى‬ ‫مك َر ٌ‬ ‫مة عن املعنى ا ُملعا ِد‬

‫وحني يؤكد عىل أن قصيدته ابنة الفكر‪ ،‬وأن لغته عصية‬ ‫عىل الهرم‪ ،‬مهام تعاقبت عليها األزمنة‪:‬‬

‫ليست معيارا أو مقياسا ألن يكون الشعر حديثا أو قدميا‪.‬‬ ‫ولعل من أبرز شعرائنا القدامى الذين حقق شعرهم‬ ‫هذا العبور الدائم لألزمنة هم بالدرجة األوىل «أبو ّمتام»‪،‬‬ ‫و»املتنبي»‪ ،‬و»أبو نواس»‪.‬‬

‫أبو متام‬

‫أبو متام‪ ،‬تجاوز مخرتقا النطق الشعري الذي كان سائدًا‬ ‫يف عرصه بأن أسس للغة جديدة لها أبعادها ودالالتها‬ ‫املتجاوزة بحركتها لصنمية املعنى‪ ،‬مام أنقذها من‬

‫‪136‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫خذها ابنة الفكر امله َّذب يف الدُّ جى‬ ‫واللـيــل أسـود رقــــعـة الجــبــــاب‬ ‫ِب ْك ٌر ُتـ َو َّر ُث فـي الحـيـاة وتنثني‬ ‫فـي السلم وهي كثرية األسالب‬ ‫ويزيدها مــ ُّر اللــيـايل ِجــ َّد ًة‬ ‫وتقاوم األيـــام حسنُ شــبــاب‪.‬‬

‫ومن غرائبيته الشعرية ذلك البيت الذي وجد أحد‬ ‫التقليدين من خالله فرصة إلحراج أيب متام‪:‬‬

‫ال تسقني (مــا َء املَالم) فإنـني‬ ‫َص ٌّب قد ْاستعذبت ما َء بكايئ‬

‫فأىت بقارورة فارغة إىل أيب متام‪ ،‬وقال له‪ :‬أعطني يف هذه‬ ‫القارورة شيئا من ماء املالم‪ .‬فكان ذكاء أيب متام إذ قال‬


‫ديوان العرب‬

‫له‪ :‬يك أعطيك شيئا من ماء املالم‪ ،‬أعطني ريشة من‬ ‫جناح الذل‪ ،‬يف إشارة إىل قوله تعاىل‪« :‬واخفض لهام جناح‬ ‫الذل من الرحمة»‪ .‬ولعل هذه االستعارة املربكة ملجايليه‬ ‫جعلته يتجاوز عرصه مبراحل‪ ،‬ومن قصص غرائبيته أيضا‬ ‫أن قال أحد التقليديني وهو «ابن األعرايب» عن شعر أيب‬ ‫متام‪« :‬إن كان هذا شعراً؛ فكالم العرب باطل»‪.‬‬

‫أبو نواس‬

‫أبو نواس‪ ،‬شاعر املدينة األول‪ ،‬وشعره خيايل مل يتحقق‬ ‫بعد‪ ،‬كذلك وصفه أدونيس يف كتابه «زمن الشعر»‬ ‫ويضيف بأن شعره يقدم نفسه عاريا من أي سالح عدايئ‪،‬‬ ‫إنه يقول الحرية‪ ،‬حرية كل فرد‪ ،‬ويحضنها‪ ،‬ويطوف معها‪،‬‬ ‫ويغنيها ويغني لها‪ ،‬يتبنى الرغبة ويهمل املؤسسة‪ ،‬يختار‬ ‫الحالة ويطرح البنية‪ ،‬وأنها تلغم االستيهام السيايس‪،‬‬ ‫ورهانه التغيريي‪ ،‬واستغراقه يف هذا الرهان إىل درجة ال‬ ‫يعود يرى فيها التاريخ‪ ،‬أو ال يرى من التاريخ إال قرشته‬ ‫الحديثة وتسلسله األعمى‪ ،‬كأن هذه الشعرية متوج‬ ‫الرغبة نفسها يف أعامق اإلنسان حيث ال إكراه وحيث‬ ‫يتالىش العنف من تلقائه‪ ،‬وال يعود له أي سلطة‪.‬‬ ‫ومن املؤكد أن هذه الرباعة الشعرية لدى هؤالء الشعراء‪،‬‬ ‫وتحقيقهم للحداثة الدامئة لشعرهم جاءت أوال من‬ ‫ثورتهم عىل السائد‪ ،‬وخروجهم عىل عمود الشعر املسيطر‬ ‫آنذاك‪ ،‬وإن كان أليب متام الفاعلية األكرب يف هذا املضامر‬ ‫حيث شمل تجديده بنية الشعر‪ ،‬وتراكيب لغته‪ ،‬ونسف‬ ‫عاموده‪ .‬أما أبو نواس فتجديده وخروجه عن النموذج‪،‬‬ ‫أي عن بنية ومواضيع النص الجاهيل‪ ،‬فبدل الوقوف عىل‬ ‫األطالل استعاض بإطاللة قصيدته املادحة للخمر‪ ،‬إضافة‬

‫نتذكر تلك الرصاصة التي‬ ‫أطلقها محمود درويش في‬ ‫قرطاج حين قال إن المتنبي‬ ‫أكثر حداثة من كل الشعراء‬ ‫المعاصرين‬

‫إىل تشخيص وتصوير الروحاين والشعوري‪ ،‬ومن حيث‬ ‫اإليقاع مل يكن ليعتمد عىل العروض كمصدر له‪ ،‬بل من‬ ‫خالل التكرار واستخدام الجناس والطباق‪ ،‬أي املوسيقى‬ ‫الداخلية للغة‪ ،‬كام أنه استعان باالستعارة لتشكيل صورته‬ ‫الشعرية‪ .‬فأنتج أدبا يعكس عرصه وزمنه الذي أعاد بناءه‬ ‫بعد تفكيكه بالفن ليحقق اخرتاق هذا الزمن وتجاوزه‪.‬‬ ‫وهنا يقول أدونيس أن جامليات وأسباب دميومة شعر أيب‬ ‫نواس تكمن يف أنها ال تدفع القارئ ألن يحن أو يتذكر أو‬ ‫يستعيد‪ ،‬بل يدفعه إىل الحلم واألمل وتلك هي‪ ،‬عىل حد‬ ‫تعبري أدونيس‪ ،‬سياسة الشعر‪ ،‬فاإلنسان طاقة رغبة وحلم‪،‬‬ ‫فشعر أيب نواس إذا ال يعلم وإمنا ميزق الحجب ويخرتق‬ ‫وييضء‪.‬‬ ‫كام أن موقفه من موضوعات الشعر الجاهيل‪ ،‬األطالل‬ ‫تحديدا‪ ،‬كان موقفا ساخرا يكشف عن ثورته عليها‪ ،‬ثورة‬ ‫مل تكن هادئة بقدر ما كانت عاصفة مدمرة‪:‬‬

‫ُق ْل ملنْ ي ْبيك عىل َر ْس ٍم َد َر ْس‬ ‫جلــس‬ ‫واقـفـاً‪ ،‬مـا ضرَ ّ لو كـان‬ ‫ْ‬ ‫وسـلمي جـانـبـــاً‬ ‫ِ‬ ‫اتـرك الـ َّر ْب َـع ‪َ ،‬‬ ‫القبس‬ ‫مثل‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫خ‬ ‫ر‬ ‫كــ‬ ‫واصطبح‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ ّ ً‬ ‫بن ُْت دهْ ٍر‪ ،‬هُ ْ‬ ‫جرت فـــي د ّنهـــا‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َنس‬ ‫ورمت‬ ‫كـــــــل َقـــــذاة ٍ ود ْ‬

‫ومبا أننا تكلمنا عن التجديد عىل أنه من أهم مظاهر‬ ‫الحداثة‪ ،‬فمن الرضوري التأكيد عىل أن هذا التجديد‬ ‫ال يكون عىل مستوى الشكل والبناء الشعري فقط‪ ،‬بل‬ ‫عليه أن يشمل فكر وسلوك الشاعر‪ ،‬تجديدا أصيال ال‬ ‫تقليد ملوروث أو لنتاج أجنبي‪ ،‬والحداثة ال تقاس بني‬ ‫شاعر وآخر مبدى ارتباط أحدهام أو ابتعاده عن الرتاث‪،‬‬ ‫بل بقدر نجاحه يف تفكيك الرتاث واعادة بنائه بذهنية‬ ‫التجربة الجديدة‪ ،‬وإضافة أساليب وأشكال ورؤى جديدة‪،‬‬ ‫فالحداثة بحقيقتها مرتبطة باألصالة غري منفصلة عنها‪،‬‬ ‫كام أنه ال يوجد حداثة مطلقة‪ ،‬فشعر امرؤ القيس‪،‬‬ ‫وبشار بن برد‪ ،‬واملتنبي‪ ،‬وأبو نواس‪ ،‬وأبو متام وغريهم‬ ‫من الشعراء‪ ،‬حقق فرادته من خالل اختالفه عن أسالفه‬ ‫ومجايليه‪ ،‬ومن هنا كانت انطالقته املاضية أبدا باتجاه‬ ‫املستقبل‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪137‬‬


‫القصيدة اإلماراتية‬

‫القصيدة الكالسيكية في اإلمارات حتى تأسيس الدولة‬

‫امتداد للتجربة العربية‬ ‫لم تبدأ الظاهرة األدبية في دولة االمارات بوصفها ظاهرة كتابية‪ ،‬بل حالها في ذلك حال البالد العربية‬ ‫األخرى‪ ،‬قد تأسست شفوية الطابع‪ ،‬لكن في ما بعد قد انشق عن هذه الشفوية نزعة كتابية ما استقلت‬ ‫إلى جوار تلك الشفوية لجهة فاعليتها االجتماعية وشيوعها بين الجمهور‪ ،‬وتأثر األمر بمدى انتشار التعليم‬ ‫ومؤثرات أخرى تتعلق مناقشتها بعلم االجتماع األدبي وتاريخه في المنطقة العربية‬

‫الفنان محمد مندي‬

‫‪138‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫ديوان العرب‬

‫كان‬

‫الشعر الشعبي والنبطي األقرب إىل‬ ‫الناس يف االمارات العربية املتحدة‬ ‫بسبب كون الذاكرة االجتامعية شفوية‪ ،‬ولذا كان األقدر‬ ‫عىل مخاطبة الوجدان الجمعي والقضايا اليومية والراهنة‪،‬‬ ‫وكان ْأن حمل هذا النوع من الشعر‪ ،‬منذ انطالقته يف‬ ‫دول الخليج العريب ومن بينها االمارات‪ ،‬شكل القصيدة‬ ‫العربية التقليدية‪ ،‬أي الشعر العمودي‪ ،‬وأغراض هذه‬ ‫القصيدة ألنه انبثق من املجال االجتامعي والبيئي ذاته‬ ‫الذي كان قد نشأ فيه الشعر العريب القديم‪ ،‬فحافظ عىل‬ ‫تقاليده وأوزانه وإيقاعاته وسياقاته األدبية واالجتامعية‬ ‫والتاريخية‪.‬‬ ‫إماراتيا‪ ،‬وإذا كان من املمكن البدء من اتفاقية العام‬ ‫‪ 1820‬ميالدية مع االستعامر االنجليزي بوصفها مفصال‬ ‫تاريخيا يف التحول االجتامعي‪ ،‬حيث كان املجتمع شفويا‬ ‫متاما وينتج ثقافة وأدبا شفويني يف سياق موغل يف‬ ‫تقليديته‪ ،‬وحيث ظهر العديد من الشعراء الذين أسهموا‬ ‫يف تأسيس تقاليد عريقة للشعر النبطي ما تزال آثارها‬ ‫فاعلة حتى اليوم‪ ،‬فإن هناك َمنْ يعيد القصيدة النبطية‬ ‫إىل ما يرقى عىل ذلك التاريخ‪ ،‬أي إىل القرن الثامن عرش‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬وألن الحديث هنا عن الشعر العمودي بوصفه‬ ‫استمرارية النقطاع معريف طويل مع مصادره األوىل‪،‬‬ ‫ولكونه امتدادا لتجربة شعرية عربية راهنة وناشئة للتو‬ ‫آنذاك‪ ،‬فإنه ينبغي علينا القفز عن هذه املرحلة املفصلية‬ ‫يف تاريخ املنطقة‪ ،‬لنبلغ إىل الفرتة املمتدة من مطالع‬ ‫القرن العرشين حتى منتصفه‪ ،‬حيث نشأ وعي شخيص‬ ‫لدى العديد من أبناء االمارات فأدركوا من خالله تلك‬ ‫الفجوة التي تفصل منطقة الخليج العريب برمتها‪ ،‬ليس‬ ‫عن محيطها العريب فحسب‪ ،‬بل عن العامل أيضا‪ .‬إنهم كبار‬ ‫هم الذين فعلوا ذلك‪ ،‬وهم الذين أبحروا باتجاه السواحل‬ ‫العربية والهندية واألفريقية ليعودوا من بعد كل رحلة‬ ‫موقنني أكرث بأن االستعامر لن يفعل شيئا يف تفعيل أي‬ ‫تطور اجتامعي ‪ -‬اقتصادي‪ ،‬فلم يقم ذلك االستعامر‬ ‫بشقّ طريق أو بناء مدرسة أو تأسيس مستشفى حديث‪،‬‬ ‫مبقاييس تلك األثناء‪ ،‬إال لتلبية مصالحه هو‪ ،‬ولهدف‬ ‫واضح تتمثل يف ربط هذه املنطقة باالحتياجات الحيوية‬ ‫واللوجستية لرشكة الهند الرشقية‪.‬‬

‫سامل بن عيل العويس‬

‫العويس رائدا‬ ‫األرجح‪ ،‬أن إدراك هذا األمر هو ما دفع كبار تجار‬ ‫اإلمارات واملنطقة إىل املبادرة بتأسيس بنية تحتية للثقافة‬ ‫بإنشاء املدارس شبه النظامية التي كانت تعلم القرآن‬ ‫ومبادئ اللغة والشعر‪ ،‬وكذلك املكتبات ورعاية حلقات‬ ‫الدرس يف املساجد لتعليم األطفال القراءة والكتابة‬ ‫والعودة إىل الكالسيكيات العربية يف األدب‪ ،‬خاصة‬ ‫بالنسبة للشعر ونقده‪ ،‬يف الوقت نفسه الذي مل تتبلور‬ ‫فيه بوادر ألشكال أدبية أخرى‪ ،‬وظلت الثقافة الشفوية‬ ‫هي األكرث شيوعا‪.‬‬ ‫يؤكد الشاعر عادل خزام‪ ،‬يف بحث تتداوله العديد من‬ ‫املواقع االلكرتونية أن اإلمارات قد عرفت "أول ظهور‬ ‫للشعر العريب الفصيح عىل لسان أحد أبنائها مع مطلع‬ ‫القرن العرشين‪ .‬وذلك عندما استطاع الشاعر سامل بن‬ ‫عيل العويس (‪ 1959 1887-‬وهو أحد أبرز تجار ذلك‬ ‫الزمان االماراتيني يف امتالك السفن وتجارة اللؤلؤ) أن‬ ‫يؤسس ملستوى متط ّور جداً يف نظم القصيدة العمودية‬ ‫سواء من ناحية الشكل العرويض املسبوك فنياً بأمناط‬ ‫الصور والبالغة الكالسيكية وامللتزم بقوانني البحور‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪139‬‬


‫القصيدة اإلماراتية‬

‫منشورات دائرة الثقافة واإلعالم بالشارقة العام ‪،2011‬‬ ‫والقافية‪ ،‬أو من ناحية املضمون الواعي واملستبرص‬ ‫بوصفه بحثا يف االنرثبولوجا الثقافية وكذلك كتاب‪« :‬تاريخ‬ ‫والقارئ لهموم املكان واإلنسان والعامل‪ .‬وكانت املعاين‬ ‫يف الساموات العربية ‪ -‬أثر املالحة الجوية عىل (نشأة)‬ ‫الكبرية لديه تتجىل أكرث يشء يف البوح العاطفي والوعظ‬ ‫املبطن بالحكمة ويعرب التاريخ واالعتزاز بالنفس»‪ .‬ويصف الرشق األوسط»‪ ،‬للكاتب الصحفي الربيطاين جريالد بوت‬ ‫الصادر باالنجليزية عن «دار الرمال للنرش» يف قربص‪،‬‬ ‫خزام الشاعر العويس بأنه «الرائد»‪ ،‬إذ يقول‪« :‬كام‬ ‫بوصفه استقصاء يف تاريخ املنطقة عرب الوثائق‪.‬‬ ‫كانت لهذا الرائد قصائد كثرية أخرى تناغي الهم العريب‬ ‫لقد تركت هذه الطبقة املرجعية التاريخية واالبداعية‬ ‫واإلسالمي منها‪ :‬نصوصه حول وعد بلفور‪ ،‬والوحدة‬ ‫امللموسة‪ ،‬عرب شخصياتها ومنجزها‪ ،‬لألدب يف االمارات‪،‬‬ ‫املرصية السورية‪ ،‬وجامل عبد النارص‪ .‬وقضايا الجزائر‬ ‫والعراق‪ ،‬والحروب مع إرسائيل‪ ،‬وغريها من تواشيح تلك بوصفه أدبا عربيا ينتمي إىل زمنه ومشاغل ثقافته‬ ‫العربية يف ذلك الزمن‪ .‬هذه املرجعية هي التي ميكن‬ ‫الفرتة»‪.‬‬ ‫التعامل معها باعتبارها اإلرث األديب والثقايف الحديث‬ ‫من سرية هذا الشاعر ومن سرية شعراء اماراتيني آخرين‬ ‫الذي يرتبط به األدب االمارايت‪ ،‬عميقا واآلن‪ ،‬بكل ما‬ ‫تجار ذلك‬ ‫جايلوه أو جاؤوا من بعده‪ ،‬فإن الكثري من ّ‬ ‫للكلمة من معنى‪.‬‬ ‫الزمان كانوا من املثقفني أيضا‪ ،‬أو باألحرى كانوا شعراء‬ ‫وهذا ما يشري إليه الشاعر عادل خزام يف بحثه ذاته‪ ،‬إذ‬ ‫كتبوا الشعر الكالسييك العريب إىل جوار النبطي‪ ،‬وكانوا‬ ‫يقول‪« :‬امتداداً لهذه االنطالقة الواعية‪ .‬والفردية لسامل‬ ‫البوابة التي ه ّبت منها رياح الثقافة العربية القادمة‬ ‫العويس بدأت تربز منذ األربعينات تقريباً أصوات أخرى‬ ‫من املراكز املتمثلة آنذاك بالعراق وبالد الشام ومرص‬ ‫متثلت يف بعض أبناء املنطقة املتعلمني الذين نشأوا‬ ‫واملغرب‪ ،‬أيضا دخل هؤالء املثقفون يف السجال الثقايف‬ ‫ً‬ ‫معا ويف املكان نفسه والفرتة نفسها فيام عرف بجامعة‬ ‫العريب‪ ،‬وبفضلهم تبلورت هوية و «ذات» ثقافية‬ ‫(الحرية) وهي بلدة صغرية تقع بني مدينتي الشارقة‬ ‫عربية اسالمية هي التي تحدد هوية املجتمع والدولة‬ ‫وعجامن‪ ،‬ومن أبرز أبناء هذه الجامعة الشاعر سلطان‬ ‫اآلن‪ ،‬مثلام كانت سابقا قبل قرون طويلة من العزلة‬ ‫واالستعامر‪ .‬يف هذا الصدد ميكن العودة إىل الجهد املميز بن عىل العويس (‪ )2000 – 1925‬الذي شكل عرب امتداد‬ ‫تجربته صيغة نادرة من الفعل الثقايف واإلنساين يف العامل‬ ‫الذي بذلته الباحثة ناديا محمد عيل ف ّواز يف أطروحتها‬ ‫العريب‪ ..‬وكذلك شقيقه أحمد وخلفان بن مصبح (‪1923‬‬ ‫تجار اإلمارات يف‬ ‫الجامعية «الدور الحضاري لطبقة ّ‬ ‫النصف األول من القرن العرشين» والصادرة يف كتاب عن – ‪ )1946‬الذي رغم وفاته وهو يف العرشينات من عمره‬ ‫إال أنه ترك قصائد هامة ومكتملة‪ ،‬ومنهم أيضاً الشيخ‬ ‫صقر بن سلطان القاسمي وإبراهيم املدفع ومبارك بن‬ ‫يمكن القول إن الخطاب‬ ‫سيف وعدد آخر من أبناء ذلك الجيل»‪.‬‬ ‫الوجداني في معاني‬ ‫ويضيف‪« :‬كانت النصوص التي قدمها هؤالء ال تزال‬ ‫الحب والشجاعة والنيل‬ ‫تحتفظ بانحيازها الكامل يف االلتزام بالشكل العمودي‬ ‫واألبعاد القومية واإلسالمية‬ ‫مع محاولة التجديد يف املعنى‪ .‬ورغم كالسيكية الطرح‬ ‫يف تجربة هذا الرعيل إال أن الدور التاريخي وظروف‬ ‫الوحدوية كانت األكثر‬ ‫تلك املراحل تجعل من إبداعاتهم شهادة عىل مستوى‬ ‫حضورا في مناخات تلك‬ ‫الوعي بالنسبة لفهم ابن املنطقة ورؤيته للعامل وقدرته‬ ‫القصائد والتي امتدت‬ ‫عىل اإلبداع‪ .‬وميكن القول إن الخطاب الوجداين يف معاين‬ ‫الحب والشجاعة والنيل واألبعاد القومية واإلسالمية‬ ‫لتغطي الفترة األولى‬ ‫الوحدوية كانت األكرث حضورا يف مناخات تلك القصائد‬ ‫‪140‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫ديوان العرب‬

‫تجربة املدين تحمل يف داخل تداعياتها اللغوية تناوالً‬ ‫مختلفاً ورؤية جديدة للعامل وللشعر‪ ،‬سواء يف غاياته الفنية‬ ‫أو يف مادته التعبريية التي‪ ،‬بسبب تحوالت املجتمع‪ ،‬لجأت‬ ‫إىل صيغ التكثيف والرمز واالختزال يف املضمون‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫ظلت تحافظ عىل املنحى الكالسييك ومل تبتعد عنه كثرياً‪..‬‬ ‫وقد أصدر املدين مجموعته األوىل (حصاد السنني) يف العام‬ ‫‪1968‬م‪ .‬ثم أرشعه وأمواج (‪ )1973‬وعاشق ألنفاس الرياحني‬ ‫(‪ .)1990‬وأسهم أيضاً يف التنظري للشعر الجديد يف مقاالت‬ ‫كثرية»‪.‬‬ ‫سلطان العويس‬ ‫والتي امتدت لتغطي تلك الفرتة وبعضها استمر يف العطاء لكن الثقافة الشفوية‪ ،‬وبالطبع يف القلب منها الشعر‬ ‫النبطي‪ ،‬كانت هي التي ما تزال سائدة‪ ،‬بل شهدت انتشارا‬ ‫حتى مراحل متأخرة»‪.‬‬ ‫أوسع مع ظهور اإلذاعة املطبوعات ورغم االنتشار الواسع‬ ‫سجل هنا أن أول كتاب شعري قد ُطبع يف‬ ‫للتعليم‪ ،‬إذ ُي َّ‬ ‫تجربة املدين‬ ‫العام ‪ 1968‬للشاعر راشد الخرض‪ ،‬ويف العام ‪ 1971‬ظهرت‬ ‫وبدءا من الخمسينات‪ ،‬تقريبا‪ ،‬أو قبل ذلك بقليل‪ ،‬وحتى‬ ‫أوىل إرهاصات الكتابة الروائية‪ :‬شاهندة‪ ،‬لرجل الدبلوماسية‬ ‫نشأة الدولة وظهور املؤسسات‪ ،‬التي تتبع الدولة أو‬ ‫االمارايت عبد الله النعيمي‪.‬‬ ‫تلك التي ما زالت تستلهم تراث تلك الطبقة من كبار‬ ‫لقد أسس املعلمون واملدرسون القادمون من مختلف البالد‬ ‫التجار‪ ،‬شهدت االمارات ظهور أمناط لالختالط االجتامعي‬ ‫ّ‬ ‫العربية إىل االمارات البنية األساسية للتعليم‪ ،‬يف غري إمارة‬ ‫بدا أنه حديث عىل املجتمع كاألندية الرياضية التي‬ ‫من االمارات خالل تلك الفرتة السابقة عىل نشأة الدولة‪.‬‬ ‫كان اهتاممها بالثقافة مثريا لالنتباه‪ ،‬إمنا لعب التعليم‬ ‫كان هذا التعليم حكوميا ذاتيا ومدعوما من دولة الكويت‬ ‫واالبتعاث األكادميي املتخصص والجامعي دورا كبريا يف‬ ‫التي أسهمت يف نرش التعليم واإلعالم بشكليهام الحديثني‪،‬‬ ‫تبلور شخصية ثقافية ذات مالمح وطنية ومحددة الهوية‬ ‫وبالتايل يف نرش الثقافة‪ ،‬ومن طلبة تلك الفرتة برز عدد من‬ ‫بأبعاد عربية واسالمية هضمت مجمل التيارات الفكرية‬ ‫املثقفني االماراتيني الذين أسسوا املشهد الثقايف واالبداعي‬ ‫التي كانت واسعة االنتشار آنذاك‪ ،‬ومبعنى ما مل تعد‬ ‫الحقا‪ ،‬أي بعد نشأة الدولة مثلام كانوا جزءا من نسيجها‬ ‫املنطقة معزولة كام كانت من قبل‪.‬‬ ‫وشغلوا مناصب سياسية وحكومية فيها‪ ،‬كانت يف كثري من‬ ‫وكان من الطبيعي أن تبلغ تجربة كتابة القصيدة‬ ‫األحيان بعيدة عن الحقل الثقايف يف جانبه الرسمي‪.‬‬ ‫العمودية‪ ،‬إماراتيا‪ ،‬مرحلة الستينات وقد «تطورت‬ ‫كان ظهور مؤسسات الدولة والحكومات الذاتية مؤثرا‬ ‫مع تطور املجتمع وخصوصاً التعليم ودخول الصحافة‬ ‫يف تبلور حركة ثقافية ناشئة خالل السبعينات من القرن‬ ‫والطباعة التي نقلت مستوى التحوالت الصوتية الكبرية‬ ‫املايض‪ ،‬لكن الحداثة يف األدب بوصفها امتدادا للحداثة‬ ‫التي حدثت يف مجال الشعر خاصة من ناحية بروز‬ ‫األدبية العربية وجزءا منها كانت سابقة عىل نشأة الدولة‪،‬‬ ‫قصيدة التفعيلة كشكل جديد يف تجارب شعراء الشام‬ ‫إذ‪ ،‬رمبا‪ ،‬بدأ ذلك الكرس لإليقاع الكالسييك للشعر عموما‪،‬‬ ‫ومرص والعراق»‪ .‬بحسب ما يقول أيضا عادل خزام»‪.‬‬ ‫الشعبي أو املكتوب اللغة العربية الفصيحة‪ ،‬يجد أول‬ ‫ويؤرخ خزام لظهور «هذا النوع من النصوص أوالً مع‬ ‫تجلياته مع شعراء كتبوا الشكلني الشعريني‪ :‬الشعبي‬ ‫تجربة املرحوم د‪ .‬أحمد أمني املدين الذي درس يف بغداد‬ ‫والفصيح‪ ،‬من طراز راشد الخرض‪ ،‬الذي ترك أثرا عىل البعض‬ ‫وعاد منها بتجربة ناضجة أسهمت يف انحيازه إىل قصيدة‬ ‫من كتّاب الشعر الشعبي والفصيح معا يف الثامنينات‬ ‫التفعيلة بعد أن كتب قصائد عمودية كثرية‪ .‬وقد كانت‬ ‫جهاد ‪...‬‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪141‬‬


‫بورتريه‬

‫أحمد أمين المدني‬

‫حكاية الشاعر العاشق‬ ‫يصنف الشاعر احمد مدني بين رواد القصيدة في االمارات العربية المتحدة الى جانب سلطان العويس‬ ‫وراشد الخضر و مانع سعيد العتيبة‪،‬ولكنه امتاز عن مجايليه بتنوع مصادره ومرجعياته بفضل دراسته‬ ‫في العراق‬

‫سامح كعوش‬

‫إن‬

‫عاطفة الحب كانت عرب العصور محفزا ً‬ ‫أولياً ورئيساً للشعراء عىل الكتابة‪ ،‬فيها‬ ‫وحولها‪ ،‬وقد رسخت يف اللغة واملجاز حتى باتت حكاية‬ ‫الحكايات‪ ،‬وأسطورة األساطري بل وثيمتها األوىل‪ ،‬فالحب‬ ‫كان عنرص الجاذبية الكيميائية بني الذكر واألنثى‪ ،‬كام‬ ‫عنرص الجاذبية الداللية يف مساقات املجاز إذ استحرض‬ ‫معه حيثام حرض االستعارات الدافقة بالفرح‪ /‬الحزن‪،‬‬ ‫والتشابيه املغرقة يف جامليتها العالية‪.‬‬ ‫وال يش ّذ الشاعر اإلمارايت أحمد أمني املدين عن قاعدة‬ ‫أحوال الشعراء يف الحب والوله‪ ،‬وهو من جيل كبار‬ ‫الشعراء الكالسيكيني اإلماراتيني‪ ،‬كحمد أبو شهاب‪ ،‬سلطان‬ ‫بن خليفة الحبتور‪ ،‬سلطان بن عيل العويس‪ ،‬عارف‬

‫‪142‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫الشيخ‪ ،‬مانع سعيد العتيبة‪ ،‬وغريهم‪ ،‬وهو الجيل نفسه‬ ‫الذي كتب الحب العذري ل»طبيعة املكان اإلمارايت»‪،‬‬ ‫ممزوجاً بجامليات خجولة تستعري من البوح بعض‬ ‫شهي خلف املفردات‬ ‫الحميمية التي تختبئ بسح ٍر ٍّ‬ ‫بالدالالت البعيدة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫حاالت شعوري ٍة يعيشها شعرا ً‪،‬‬ ‫والشاعر املدين يكتب عن‬ ‫عاشق حرف اسم‬ ‫ويحفرها يف ذاكرة الزمن كام يحفر ٌ‬ ‫حبيبته عىل جذع الشجرة‪ ،‬ويليق بالشاعر املدين أن‬ ‫نس ّميه العاشق بامتياز‪ ،‬ال يف مشهد الشعر الكالسييك يف‬ ‫اإلمارات فحسب‪ ،‬بل يف مشهد الشعر العريب أيضاً‪ ،‬ال ملا‬ ‫حشده ويف مرحل ٍة زمني ٍة متق ّدم ٍة محلياً وعربياً‪ ،‬يف نصه‬ ‫الشعري من مخاطبات عشقية وحوارات شغفية بينه‬


‫ديوان العرب‬

‫خصها به من مخاطبات‪،‬‬ ‫وبني اآلخر‪ /‬الحبيبة حيناً‪ ،‬أو ما ّ‬ ‫ولكنها هنا يف ما سقط من السامء كنجمة‪ ،‬وتشكّل‬ ‫بالكائن اإلنساين يف املكان اإلمارايت‪ ،‬كمعاد ٍل ألفروديت‬ ‫اليونانية‪ ،‬وفينوس الرومانية‪ ،‬وعشتار البابلية‪ ،‬وإنانا‬ ‫السومرية وعشتاروت الفينيقية‪ ،‬بل ملا م ّيزه عن غريه من‬ ‫الشعراء من نفحة شعرية طيبة‪ ،‬تقول بالهمس وتهذي‬ ‫بالسحر العشقي الخفيف والعذري دامئاً‪ ،‬دومنا لجوء إىل‬ ‫اإلباحة يف البوح أو الوقوع فيها‪.‬‬

‫وشاية الحب‬

‫وسالح الشاعر يف هذه املواربة الشعرية املكشوفة‪ ،‬نزعته‬ ‫الرومنسية الحاملة التي تخلط بني الحقيقة املج ّردة والرمز‬ ‫الطبيعي أو األسطوري‪ ،‬يف حراك شاعر نحو فعلٍ‬ ‫سحري‬ ‫ٍّ‬ ‫السحري‬ ‫يسبغ عىل املعشوقة‪ /‬املرأة كثريا ً من سامت‬ ‫ّ‬ ‫والخافت كام لو كان همساً‪ ،‬ووشوشةً‪ ،‬بني شاع ٍر وآخره‪،‬‬ ‫العلني الجريء يف القصيدة النزارية (نسب ًة‬ ‫يصبح الفعل‬ ‫ّ‬ ‫إىل نزار قباين)‪ ،‬وحتى املحمودية (نسب ًة إىل محمود‬ ‫درويش)‪ ،‬بل والعمرية حرصا ً (نسب ًة إىل عمر بن أيب‬ ‫الظل وبعيد الداللة‪ ،‬أسطورياً حاملاً‬ ‫ربيعة)‪ ،‬فعالً خفيف ِّ‬ ‫وحامالً شكله «الطبيعي» يف مبدأ الرومانسيني‪ ،‬حني‬ ‫تحرض أفعال «الوشوشة‪ /‬اللمس‪ /‬اإلرشاق‪ /‬عيش النعيم»‪،‬‬ ‫كام يف «توشوش الشاعر الطيور والزهور ‪...‬توشوشه‬ ‫يل‬ ‫النجوم املرشقات والعطور ‪ ...‬يلمسه النسيم املخم ّ‬ ‫ملس الحرير ‪ ...‬لتكون الخامتة املاضوية استرشافاً لآليت‬ ‫وكل وقت‪ :‬يف اختزال الشاعر لكل ما ينتج‬ ‫كأنه األمس ّ‬ ‫من حب وعنه‪ ،‬يف عبارة شعرية عميقة الداللة واألثر يف‬ ‫النفس‪ ،‬نفس الشاعر ونفس املتلقي معاً‪« :‬عاش نعيم‬ ‫الحب ٍ‬ ‫جنات وحور»‪ ،‬وبها وحدها يصري الحب وشاي ًة‬ ‫ككل‬ ‫بريئ ًة باإلرشاق والنور يف عتمة ليل العمر‪ ،‬لك ّنه ّ‬ ‫خفي‬ ‫الشعراء املتحدثني يف العاطفة والحب‪ ،‬يومئ بلومٍ ٍّ‬ ‫للمعشوقة التي ال تعي مقدار الحب الذي يك ّنه لها‬ ‫حبيبها‪ ،‬وهي كام عقدة املفصل يف كل حكاية حب‪ ،‬أو‬ ‫هي موقع االهتامم واله ّم الشاعر يك تنكتب القصيدة‬ ‫الغزلية بنعيم العذاب‪ ،‬بحاالت فرح‪ /‬حزن‪ ،‬حياة‪ /‬موت‪،‬‬ ‫نور‪ /‬عتمة‪ ،‬يقول املدين يف نصه «همسات قلب»‪:‬‬

‫المدني من جيل كبار‬ ‫الشعراء الكالسيكيين‬ ‫اإلماراتيين‪ ،‬كحمد أبو‬ ‫شهاب‪ ،‬سلطان بن‬ ‫علي العويس‪ ،‬عارف‬ ‫الشيخ‪ ،‬مانع سعيد‬ ‫العتيبة‬ ‫«وشوشتني عنك يف الروض طيور وزهور‬ ‫ومن األفق نجوم مرشقات وعطور‬ ‫ونسيم مخم ٌّ‬ ‫ملس الحرير‬ ‫ٌ‬ ‫يل ملســـــــه ُ‬ ‫وملن تاه بليل العمر إشـراق ونور‬ ‫جنات وحور‬ ‫وملن عاش نعيم الحـــــب ٍ‬ ‫آه لو يدرك من أهواه ما تحوي السطور»‪.‬‬

‫إنّه الحب الذي يغنيه الشاعر أغنية حياة ووجود‪،‬‬ ‫كل معاين العاطفة النبيلة والدافئة تجاه‬ ‫مستحرضا ً ّ‬ ‫الحبيبة‪ /‬اآلخر الرديف والقريب‪ ،‬عرب ما يأيت به من‬ ‫سياق مضموين وبنيوي‪ ،‬بدءا ً بالخطاب وصوالً إىل الغيب‬ ‫كمرحلة هذيانية مطلقة ونهائية‪ ،‬تؤيده وتؤكده مفردات‬ ‫الوحي الشعري والداللة املتحولة من «أنا» الشاعر إىل‬ ‫«هي‪ِ /‬‬ ‫أنت» الحبيبة‪ ،‬وصوالً ويف مراحل الحقة من‬ ‫الشعر والكتابة إىل «نحن» العاشقني معاً‪ ،‬فالشاعر يشري‬ ‫إىل حبيبته مبفردة «رفيق حياة حيايت»‪ ،‬ويشري إىل الحب‬ ‫الذي يجمعهام مبفردات «النقاء»‪« ،‬الدفء»‪« ،‬الهمس»‪،‬‬ ‫«النغم» «التجليّ »‪ ،‬ويبثّ يف حركية القصيدة الكثري من‬ ‫النفس الشعري الحامل والدافئ لتحيا كنموذج شعري‬ ‫خاص به‪ ،‬وتفرح حبيبته كأنها كل النساء‪ ،‬بأفعال ال‬ ‫زمنية عابرة للحظة اآلنية‪ ،‬مثل‪« :‬أترعُ» مرتبطاً بحرف‬ ‫سني االستقبال لآليت‪« ،‬ميوج» يف حركية الشغف املتالطم‬ ‫واملتداخل يف مساحة املشرتك بني اثنني‪ ،‬و»أبعثه» وأيضاً‬ ‫مرتبطاً بحرف سني االستقبال لآليت‪ ،‬وجامعاً بني طريف‬ ‫عالقة بني «مرسل (بكرس السني) ومستقبل (بكرس الباء)‪،‬‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪143‬‬


‫بورتريه‬

‫ماضوي‬ ‫ثم «أجلوه» أيضاً جامعاً بني حالتي زمن وشكل‬ ‫ٍّ‬ ‫يل سيكون‪ ،‬يقول املدين يف نصه «أغنية‬ ‫كان ومستقب ٍّ‬ ‫للحب»‪:‬‬

‫رفيقي‪ ،‬حياة حيايت‬ ‫سأترعُ ح ّبك أعامق ذايت‬ ‫نقياً‪ ،‬دفيئاً كهمس الرعا ِة‬ ‫النسامت‬ ‫ميوج عىل رائق‬ ‫ِ‬ ‫سأبعثه لك يف ّ‬ ‫كل نسمة‬ ‫حنيناً‪ ،‬ويف ِّ‬ ‫همس ونغمة‬ ‫كل ٍ‬ ‫وأجلوه يف أغنيايت نغمة‬ ‫ً‬ ‫من الغيب تنهل نورا ورحمة»‬

‫تحول الشاعر‬

‫كل شاع ٍر عريقٍ مقتد ٍر عىل أن يربط بخيط خفي‬ ‫وكام ّ‬ ‫األسطورة بالواقع‪ ،‬والوعي بالهذيان‪ ،‬والسحر باملوجود‬ ‫والكائن خارجه‪ ،‬يربط الشاعر املدين حالة الحب بأحوال‬ ‫الهذيان‪ ،‬كام لو أنه يشري إىل عميق الصلة بينهام‪،‬‬ ‫فالهذيان لو ٌن من ألوان الحب يف مراحله املتق ّدمة‪ ،‬بالوله‬ ‫كل ذلك شفيفاً خفيفاً‬ ‫والهيام والشغف‪ ،‬وهو يبقى يف ّ‬ ‫ال يقع يف إباحة‪ ،‬وال يقول بجرأة تجرتئ عىل املح ّرم‪،‬‬ ‫وتقتحم املحظور يف القول الشعري يف املكان الخليجي‬ ‫بعام ٍة واإلمارايت بخاصة‪ ،‬فالشاعر املدين يصنع بنيان شعره‬ ‫بقصيدته الكالسيكية الفصيحة‪ ،‬من حجارة هذا املكان‬ ‫ورمله وريحه وروحه‪ ،‬يعيش حاالت تح ّول الشاعر من أنا‬ ‫محايدة‪ /‬غري متورطة‪ ،‬إىل أنا‪ /‬شاعرة متحفزة ومدفوعة‬ ‫بكل الحب إىل عوامل الحلم الشهية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يتنازل الشاعر عن أدوار البطولة لذاته‪ ،‬وينسبها إىل جزء‬ ‫فيه هو القلب‪ ،‬وله لذة الخطاب والتحاور‪ ،‬ولذة الفرح‬ ‫بالنظر حتى‪ ،‬وله قيامة القصيدة يف محراب الحبيبة إىل‬ ‫أن تعرف مدى الشوق الذي يف القلب عليها‪ ،‬بل يتنازل‬ ‫الشاعر عن كلّه لجزئه‪ ،‬ويتمنى له أن يكون‪ /‬عىل حساب‬ ‫أن أكون «أنا» الشاعر‪ ،‬يقول يف نصه «أهواك»‪:‬‬

‫«ألين ُ‬ ‫رأيت بعينيك أجمل أحالم َيا‬ ‫مل ّونة برؤى حبيا‬ ‫فيا ليت قلبي يف جانحيك‬

‫‪144‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫ميوج‪ ،‬لتعرف‪ ،‬شوق إليك»‪.‬‬

‫وهو ال يبتعد عن صواب ما تعارف عليه البرش منذ‬ ‫القدم‪ ،‬أو رجوح حقيقة أن الحب شعو ٌر وال يكون إال‬ ‫يف القلب‪ ،‬أو هكذا علم الشعراء والعاشقون‪ ،‬فالقلب‬ ‫«يتلهف» شوقا‪« ،‬يخفق» عشقا‪« ،‬يتململ» خفقا‪ ،‬يف‬ ‫قل نظريها مبثل هذه الجاملية‪ ،‬اللهم إال يف‬ ‫أغنية عشقية ّ‬ ‫قصائد إلياس أبو شبكة‪ ،‬العاشق اللبناين عىل الطرف اآلخر‬ ‫من املرشق العريب‪ ،‬واملدين عىل أقىص رشق هذا املرشق‪،‬‬ ‫يف مكانه اإلمارايت‪ ،‬يتوافق النص بينهام لينقسم‪ ،‬كأننا مع‬ ‫املدين نردد ما قاله إلياس أبو شبكة‪:‬‬

‫القلوب‬ ‫تسع‬ ‫ُ‬ ‫«أح ّب ِك َفوق ما ُ‬ ‫بيب‬ ‫َوخ َّيل شا ِع ٌر َو َوعى َح ُ‬ ‫حاب ِعط ٍر‬ ‫السام ِء َس ُ‬ ‫لأَ َ ِ‬ ‫نت ِمنَ َ‬ ‫سح َع َّ‬ ‫َجيب‬ ‫نك َندىً ع ُ‬ ‫يل ِم ِ‬ ‫َي ُّ‬ ‫حس ِك يب َف ِعر ُق ِك صا َر ِعرقي‬ ‫ُأ ُّ‬ ‫َبيب»‬ ‫َومــــــــــا لِ َقذىً بعرقينا د ُ‬

‫واملدين يقرتب بقلبه من الحبيبة ل ُيسمعها نبضه الخافق‪،‬‬ ‫ويتمنى لو تعرف مقدار هذا الوجد والشوق‪ ،‬وهو «فوق‬ ‫ما تسع القلوب» متاماً‪ ،‬يقول يف نصه «أغنية للحب»‪:‬‬

‫أتعرف كم يتلهف شوقاً‬ ‫إليك فؤادي ويخفق عشقا‬ ‫مناه بأن يتململ خفقا‬ ‫ً‬ ‫بقربك آنا‪ ،‬عىس أن ترقا»‬

‫وككل حكاية‪ ،‬تنتهي سرية الشاعر العاشق بالخيبات أحياناً‬ ‫كثرية‪ ،‬ولكنها الخيبات الرائقة للشاعر‪ ،‬والتي تنكتب يف‬ ‫سريته كوجود محفور يف ذاكر ٍة من شغف وحب‪ ،‬رغم‬ ‫الشهي بالحرسة واكتواء القلب‬ ‫األمل أحياناً‪ ،‬وهو األمل‬ ‫ّ‬ ‫بنار عشقه‪ ،‬واملدين بار ٌع جدا ً يف هذا كام يف ذاك‪ ،‬فهو‬ ‫يتقن ف ّن الشغف مبحبوبته يف ما سبق‪ ،‬ولكنه هنا يتقن‬ ‫تجل واضح‬ ‫الشكوى منها‪ ،‬وهي التي «تنكر» حبه‪ ،‬يف ٍّ‬ ‫لقدرة الشاعر عىل الرسد بالحبكة الدرامية التي تجي ُد‬ ‫القول يف الحزن منذ بدايتها‪ ،‬كام يف فعل النكران والتمرد‪،‬‬ ‫لك ّن الشاعر يعاجلها برضبته القاضية التي تقول بالدعوة‬ ‫إىل اللقاء‪ ،‬كام عادة الشعراء الرومانسيني‪ ،‬اللقاء بينهام‬ ‫يف صفاء نية ورسيرة‪ ،‬ال تكون إال بإظهار فعل القاتل‬


‫ديوان العرب‬

‫المدني يكتب عن‬ ‫شعورية‬ ‫حاالت‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يعيشها شعر ًا‪،‬‬ ‫ويحفرها في ذاكرة‬ ‫ٌ‬ ‫عاشق‬ ‫الزمن كما يحفر‬ ‫حرف اسم حبيبته على‬ ‫جذع الشجرة‬

‫بضحيته‪ ،‬كام الذئب بليىل‪ ،‬كام الخنزير الربي بأدونيس‬ ‫يف األساطري‪ ،‬وهذا اإلظهار يستوجب مؤثرات صورية‬ ‫كام استجداء فعل التحديق باألمر «تعال وح ّدق مليا»‪،‬‬ ‫«الشحوب» يف الوجه‪« ،‬اإلبصار»‪« ،‬الطري كسري الجناح‪ ،‬ثم‬ ‫«الليل وهو ميوت»‪ ،‬إضاف ًة إىل مقاربات صوتية بالترصيح‬ ‫بحريف التأوه «اآله»‪ ،‬وم ّد حرف الياء الخاص بامللكية كام‬ ‫يف «مقلتيا»‪ ،‬و»بيا»‪ ،‬يقول املدين يف نصه «أهواك»‪:‬‬

‫أتنكر ح ّبي‬ ‫تعال وحدّق مل ّيا‬ ‫بوجهي الشحوب‪ ،‬ويف مقلت ّيا‬ ‫لتبرص آ ٍه عذايب‪ ،‬وما بيا‬ ‫م ّر من العمر من وحشة واغرتاب‬ ‫وإين بعدك ط ٌري كسري الجناح‬ ‫ٌ‬ ‫وليل ميوت انتظارا لوجه الصباح»‪.‬‬

‫إنها قصة الوجد القاهر والعذاب يف الحب وألجله‪ ،‬كأننا‬ ‫أمام حبكة درامية للرسد يتقنها الشاعر العريب‪ /‬اإلمارايت‪/‬‬ ‫أحمد أمني املدين‪ ،‬يف حشده مفردات القطيعة بني «أنا»‬ ‫الشاعر‪ ،‬و»أناه‪ /‬أنثاه» كام لو أنه يص ّور لنا املشهد بعني‬ ‫الكامريا‪« :‬متر الحبيبة بقربه ‪ ...‬يطريها صمت الغريب‬ ‫حب الشاعر‬ ‫‪ ...‬يف مقلتيها سكون العدم ‪...‬مل ين ّور حياتها ُّ‬ ‫‪...‬مل يكن بينهام ما كان يوماً من لحونٍ متوج عىل الشفتني‬ ‫بالشوق إليها»‪ ،‬يقول املدين يف نصه «نهاية حب»‪:‬‬

‫مت ّر بقريب‬ ‫عىل الدرب يطويك صمت الغريب‬ ‫ويف مقلتيك سكون العدم‬ ‫كأن مل ين ّور حياتك ح ّبي‬ ‫زماناً غريقاً بأحىل نغم‬ ‫ومل أك يوماً عىل شفتيك‬ ‫لحوناً متوج بشوقي إليك»‪.‬‬

‫إنها قصة العشق الشاعر بخوامتها الحزينة يف املكان‬ ‫الرشقي بعام ٍة‪ ،‬وهي يف املكان اإلمارايت أكرث إلحاحاً وأش ّد‬ ‫ٍ‬ ‫حضورا ً‪ ،‬لرضور ٍ‬ ‫وعادات سائدة‪ ،‬تجعل من‬ ‫ات مجتمعية‬ ‫املستحيل لشاعر أن يح ّدق ملياً وطويالً يف محبوبته‬ ‫الكائنة‪ ،‬فيلجأ إىل املخيلة ليعيش قصته كام ينبغي‪ ،‬ث ّم‬ ‫ليصطدم مبا تفرضه عليه الحياة نفسها من ٍ‬ ‫رفض كثري‪،‬‬ ‫وقبول يندر‪ ،‬ولو وجد الحبيبان إىل اللقاء درباً فإنها‬ ‫قصرية وغري يسرية‪ ،‬يسبقان عربها إىل فراقٍ رسيع ألسباب‬ ‫ورضورات قاهرة‪ ،‬أو رمبا هي غواية الشعراء بالعذاب‬ ‫كل‬ ‫يعيشونه ليكونوا‪ ،‬ويكتبونه ليرشبوا نخبه يف صورة ّ‬ ‫حبيبة‪ ،‬ثم يبكون عىل أطالل حضورها كام أجدادهم‬ ‫هناك عند أثر القوم وآثار الرحلة‪ ،‬وبقايا الخيام والنار من‬ ‫جمر ورماد‪ ،‬هذه العالقة األسطورية التي جمعت بني‬ ‫الشعراء ومحبوباتهم يف الجاهلية والعرص األموي كأنها‬ ‫نصه «نهاية قصة»‪:‬‬ ‫اآلن‪ ،‬يص ّورها املدين يف ّ‬

‫«ذلك األمس قد خبا يف عروقي‬ ‫وانطفت ناره بقلبي املشوق‬ ‫َ‬ ‫فغريب‬ ‫التقيت يب‬ ‫وإذا ما‬ ‫ٌ‬ ‫الطريق‬ ‫بغريب مي ُّر عرب‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫يف فتو ٍر أشيح عنك بوجهي‬ ‫السحيق‬ ‫ناسياً ذكريات حبي‬ ‫ِ‬ ‫ثم يطويني الزحام فأميض‬ ‫َ‬ ‫عنك ُّ‬ ‫العميق‬ ‫ألتف يف أسايَ‬ ‫ِ‬ ‫وتنادي وال يجيبك إال‬ ‫ٌ‬ ‫شهقات من ح ّبنا املسحوقِ »‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪145‬‬


‫تنظير‬

‫القصيدة العمودية‬

‫ثالث مالحظات أفقية‬ ‫تراجعت القصيدة العمودية الى غياهب النسيان بعد أن فشل «الكالسيكيون» من اتباعها في صد هجمات‬ ‫«الحداثيين» الذين استغلوا ضعف شعرائها ومبالغتهم في االعتناء بالشكل على حساب اللغة والمعنى‬ ‫والبناء لتوجيه ضربة قوية لها‬

‫حنين عمر‬

‫من قال إن القصيدة العمودية‬ ‫ضيقة وال يمكنها استيعاب‬ ‫حرية الشاعر وهي التي‬ ‫استوعبت تاريخا كامال؟‬

‫‪146‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫ديوان العرب‬

‫ال اعرف متاما كيف تحولت أزمة الشعر الراهن إىل أزمة‬ ‫أزمة «شكل»‬ ‫حينام عرثت عىل ديوان عنرتة بن شداد يف مكتبة بيتنا وأنا «شكل» بدل أن تكون أزمة «أسلوب» وال أعرف أيضا‬ ‫بالتحديد كيف تحول أتباع القصيدة العمودية من موقع‬ ‫مل اتجاوز بعد الثامنة‪ ،‬مل اشعر بأي عالقة تربطني بهذا‬ ‫النوع من الكالم الغريب الذي مل اكن أفهمه آنذاك ‪ ،‬فقد «املهاجمني « للتحوالت الشكلية إىل موقع «املدافعني»‬ ‫عن وجودهم‪ ،‬و الذين بالكاد ميكنهم الحفاظ عىل يشء‬ ‫كان كل ما يشدين للكتاب املصفر األوراق هو القاموس‬ ‫من ماء وجهها حاليا‪ ،‬خاصة مع تكاثر أعداد الذين اقبلوا‬ ‫امللحق بكل قصيدة‪ ،‬والذي كان يثري فضويل الطفويل‬ ‫من كل حدب وصوب ملساندة «الشكل الشعري الجديد»‬ ‫يف معرفة ما تعنيه الكلامت املبهمة املرتاصة يف شكل‬ ‫ألنه يتيح لهم التحول جميعا إىل شعراء بفعل «العصا‬ ‫عمودين‪.‬‬ ‫السحرية»! ‪ ،‬مستغلني بذلك غض الطرف من قبل شعراء‬ ‫لكن الكلامت وحدها مل تكن كل ما «يثري الفضول» إمنا‬ ‫النرث الحقيقيني الذين تقبلوا انضامم هذه الوفود ضمن‬ ‫ذلك الجرس املوسيقي الداخيل الذي يسمى العروض‪،‬‬ ‫كان أيضا اكتشافا تاريخيا يف حيايت‪ .‬فبعد سنوات طويلة صفوفهم كنوع من توسيع الدعم ملرشوعهم التحرري‪ ،‬و‬ ‫جدا أيقنت أن هذا الديوان كان ميثل شيئا أكرب من مجرد تم تشجيع زيادة الكمية عىل حساب النوعية طبعا‪ ،‬وإن‬ ‫كانت الخطة نجحت يف التضييق عىل القصيدة العمودية‬ ‫«ديوان شعر»‪ ،‬بل هو ‪ -‬مثله مثل كل دواوين الشعر‬ ‫بشكل أو بآخر‪.‬‬ ‫العمودي القديم ‪ -‬لوحة مثقلة بتاريخ أمة كاملة ‪،‬‬ ‫كام أنني أعتقد أن املشكلة الراهنة تتمثل يف كون أغلبية‬ ‫بتفاصيلها العاطفية واالسرتاتيجية والحربية واالجتامعية‬ ‫دل عىل يشء فإنه يدل الشعراء منذ خمسني سنة بدل أن يفكروا يف تجديد بنية‬ ‫وحتى االقتصادية أحيانا‪ .‬وهذا إن ّ‬ ‫عىل سعة استيعابها وقدرتها عىل التحول اىل وعاء حضاري النص ومعناه الصوري والجاميل راحوا يتسابقون لتجديد‬ ‫مام يسقط عنها كل هذه التهم التي يحلو للبعض الصاقها الشكل واالتجاهات والرصعات ‪ ،‬مثلهم مثل الخياطني‬ ‫بها يف عرصنا هذا‪ .‬فمن قال ان القصيدة العمودية ضيقة الذين يحاولون صناعة موضة جديدة تعتمد عىل مظهر‬ ‫املالبس فقط مهملني الخامات االساسية و نوعية القامش!‪ ‬‬ ‫وال ميكنها استيعاب حرية الشاعر وهي التي استوعبت‬ ‫هؤالء ‪ -‬لألسف ‪ -‬مل ينجحوا ال يف صناعة «ستايل» جميل‬ ‫تاريخا كامال عرب قرون؟‬ ‫وال يف صناعة ثوب جيد مقاوم!‬ ‫وإن كان شعراء الحداثة يتحملون جز ًءا من هذه‬ ‫املسؤولية التاريخية ‪ ،‬فإن شعراء «العمودي» يتحملون‬ ‫الجزء املتبقي منها بكل تأكيد‪ ،‬ألن انعزالهم ورفضهم‬ ‫مواكبة الروح الحداثية ‪ ،‬حبسهم يف قوقعة قضت عىل‬ ‫آفاق تطور معظم منجزاتهم ‪ ،‬فظلت القصيدة العمودية‬ ‫بذلك تعاين من املبارشة غالبا ومن الكالسيكية املفرطة‬ ‫التي مل تعد تجتذب الناس سوى يف احتفالية ما عىل منرب‬ ‫ما لشاعر ما لديه خامة صوت «جبلية» !‬

‫الوكالة الحرصية للتاريخ‬

‫البد أن ننتبه رمبا إىل أن تاريخ الشعر العريب ارتبط منذ‬ ‫العرص الجاهيل وإىل غاية العرص االندليس بالقصيدة‬ ‫«العمودية» ‪ ،‬وال ميكن أن نستثني سوى العرص الحديث‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪147‬‬


‫تنظير‬

‫الذي برزت فيه اشكال أخرى‪ ،‬ورمبا هذا دليل آخر عىل‬ ‫كونها استطاعت فعليا أن تصمد اىل غاية فرتة قريبة‬ ‫كوعاء شعري «وحيد وحرصي» تأقلم مع كل تغيرّ و‬ ‫واكب كل املستجدات قبل أن ينهزم مؤخرا ويتقلص‬ ‫نفوذه‪:‬‬

‫العرص الجاهيل ‪ 478‬م – ‪ 624‬م‬

‫يبقى المستقبل حول قصيدة‬ ‫العمود مبهما خاصة في ظل‬ ‫السبات الذي يغط فيه النقاد‬ ‫وتحولهم الى مجرد مواكبي‬ ‫«موضة»‬

‫ال ميكن معرفة تاريخ القصيدة العمودية ما قبل هذا‬ ‫العرص بشكل دقيق‪ ،‬لكن بكل تأكيد فإن العرص الجاهيل‬ ‫كان مرحلة تألق فيها عدد كبري من الشعراء الذين‬ ‫خلدوا عىل مر العصور مثل «عنرتة بن شداد» و» النابغة‬ ‫الذبياين» و « امرؤ القيس» و «املهلهل» وغريهم ‪ ،‬ومع‬ ‫الجاهيل‪ ،‬قد تحيلنا إىل نظرية الدكتور عيل الوردي يف‬ ‫أن هؤالء استعملوا قاموسا تقليديا جدا إال أنهم استطاعوا علم االجتامع حول اإلنسان العريب البدوي الذي هو‬ ‫تحويل «القصيدة العمودية « إىل ناقل زمني لألحداث‬ ‫«و ّهاب نهاب» عىل حد تعبريه‪ ،‬إنه يعطي من عواطفه‬ ‫ولعلم االجتامع وحتى لعلم النفس‪ ،‬و قدموا وصفا دقيقا ملحبوبته ويتباهى بكرمه وبوفائه ملعشوقته‪ ،‬ولكنه أيضا‬ ‫للبيئة السائدة آنذاك فأرخوا تاريخ قبائلهم وحروبهم‬ ‫يأخذ من أعدائه ويسلبهم حياتهم وثرواتهم‪.‬‬ ‫واتفاقياتهم وأفراحهم وأحزانهم وقصصهم العاطفية‬ ‫‪‎‬العرص االلعرص اإلسالمي واألموي ‪625 :‬م‪750 -‬م‬ ‫واإلنسانية وحتى أطاللهم «املهجورة» ‪.‬‬ ‫يف هذا العرص عرفت العرب أكرب تح ّول يف تاريخ أمتهم‪،‬‬ ‫وكمثال عىل هذا ميكن ان نستعرض تلك املعلقات التي فقد أثر االسالم عىل املشهد الشعري السائد لدى العرب‪،‬‬ ‫تعترب من أجود ما كتب العرب والتي كان ميكن فيها‬ ‫واختلفت البيئة املحيطة بهم عن سابقتها التي سادت يف‬ ‫بنيوية‬ ‫أن متتزج رقة الشاعر بقسوة الفارس يف وحدة‬ ‫الجاهلية مام أدى اىل اختالف االغراض يف القصيدة وتغيرّ‬ ‫متكاملة ومتامسكة ‪ ،‬مثال ‪:‬‬ ‫مفاهيمها ومعانيها وأساليبها لكنها حافظت عىل «شكلها‬ ‫قال عنرتة يف مطلع معلقته‪:‬‬ ‫العمودي» ‪ ،‬و خفت النعرات القبلية و نربة الفخر ليحل‬ ‫ْإن ُكن ِْت أ ْز َم ْع ِت ال ِفر َ‬ ‫اق َفإِنمَّ َـا‬ ‫محلها املدح والهجاء والرثاء وغريه ‪ ،‬وقد برز شعراء كرث‬ ‫َز َّمـت ِر َكا ِئ ُب ُك ْم ِب َل ْيلٍ ُم ْظ ِل ِـم‬ ‫يف هذه الفرتة و استطاعوا صناعة مشهد شعري مختلف‪،‬‬ ‫َمـا َراعَنـي إ َّال َحمول ُة أَهْ ِلهَـا‬ ‫مثل حسان بن ثابت ‪ ،‬جرير والفرزدق‪ ،‬ومجنون ليىل‬ ‫الخ ْم ِخ ِم‬ ‫وس َط ال ِّد َيا ِر َت ُس ُّف َح َّب ِ‬ ‫ْ‬ ‫(الذي تختلف اآلراء حول صحة وجوده )‪ ،‬وجميل بثينة‪،‬‬ ‫لكن ‪ ...‬غري بعيد عن هذا املوضع الذي يبث فيه الشاعر وقيس لبنى‪ ،‬وعمر ابن ايب ربيعة واألخطل وغريهم ‪ ،‬و‬ ‫مواجعه لحبيبته ‪ ،‬نجده يوزع مواجع املوت عىل غريه‪،‬‬ ‫تنوعت أغراضهم أيضا بتنوع اسالبيهم يف هذه الفرتة‪،‬‬ ‫إذ قال‪:‬‬ ‫لكن الروح الشاعرية بدت بكل تأكيد أكرث «تحرضا» واكرث‬ ‫َ‬ ‫عَهـ ِدي ِب ِه َم َّد النَّهـا ِر َكأنمَّ ـا‬ ‫«صقال» مام كانت عليه بسبب تأثري اإلسالم واشباعه‬ ‫ُ‬ ‫ـب ال َبن َُان و َرأ ُس ُه ِبال َع ْظ َل ِـم‬ ‫ُخ ِض َ‬ ‫للروح االنسانية وتحريكه لعواطفها وترقيته إلنسانيتها‬ ‫وارساء قواعد مرحلة «حضارية» جديدة بعيدة متاما عن‬ ‫ـح ُث َّـم َع َل ْو ُتـ ُه‬ ‫َفطع ْنتُـ ُه ِبال ُّر ْم ِ‬ ‫سابقتها‪.‬‬ ‫الحدي َد ِة ِم ْخـ َذ ِم‬ ‫بمِ ُ َهنَّـ ٍد صافيِ َ‬ ‫هذه الفكرة املطروحة عند عنرتة ويف مجمل الشعر‬ ‫‪148‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫ديوان العرب‬

‫العرص العبايس‪ 750 :‬م ‪1258 -‬‬

‫ال يختلف اثنان عىل كون العرص العبايس اكرث العصور‬ ‫زخام يف تاريخ الشعر العريب ‪ ،‬فالتحوالت السياسية‬ ‫واالجتامعية فيه كانت ذات أثر كبري يف كل يشء‪ ،‬وهنا‬ ‫البد أن نشري إىل ظهور علم العروض الذي أسس له‬ ‫«الخليل بن أحمد الفراهيدي ‪ « 789 – 718‬فهل كان‬ ‫لظهور هذا العلم عالقة مبحاولة التمرد عليه فيام بعد‬ ‫وعىل «القصيدة العمودية» ؟؟؟ ‪ .‬باالضافة اىل ذلك‬ ‫فقد ظهر فيه أبرز الشعراء العرب وأقواهم من حيث‬ ‫الصنعة اللفظية واملعنى والبناء‪ ،‬أمثال‪ :‬املتنبي ‪ ،‬وابو‬ ‫العالء املعري‪ ،‬و ابو متام‪ ،‬وابو نواس ‪ ،‬والبحرتي ‪ ،‬وما‬ ‫اكرث االسامء املتميزة يف العرص العبايس التي كتبت شعرا‬ ‫رقيقا جزل املعاين قوي البنية الصورية ‪ ،‬وفرضت بقاء‬ ‫مدرستها الشعرية لألبد‪ ،‬وقد كان البذخ الذي عاش فيه‬ ‫ملوك العرص العبايس و اغداقهم عىل الشعراء من فيض‬ ‫كرمهم حافزا جيدا لخلق نوع من املنافسة يف املشهد‬ ‫اشعري ولهذا نجد أن «املدح» كان احد أهم أغراضه ‪،‬‬ ‫لكن ذلك مل مينع ابدا تنوع األغراض فيه‪ ،‬و تفتح القرائح‬ ‫عىل مرصاعيها يف كل ما ميكن أن يقال «شعرا» ‪ ،‬و يبدو‬ ‫أن اصحاب هذه القرائح كانوا عىل قدر كاف من املعرفة‬ ‫بقدراتهم ‪ ،‬فنجد املتنبي مثال يقول عن نفسه ‪:‬‬ ‫‪‎‬أنَا الذي نَظَـ َر األ ْع َمـى إىل أدَبـي‬ ‫‪َ ‎‬و ْأس َم َع ْت كَلِامتـي َم ْن بـ ِه َص َمـم‬ ‫‪‎‬أنَا ُم ِم ْل َء ُجفُونـي َعـ ْن شَ َوا ِر ِد َهـا‬ ‫‪َ ‎‬ويَ ْس َهـ ُر ال َخل ُْـق َج ّرا َهـا َوي ْختَ ِصـ ُم‬ ‫وقد يرى البعض أن املتنبي بالغ كثريا يف وصفه لنفسه‪ ،‬إال‬ ‫أنه يحق له بكل تأكيد أن يقول ذلك مادام حتى يومنا‬ ‫هذا صاحب االمتياز يف تاريخ الشعر العريب ورمبا الحامي‬ ‫األكرب لـ «القصيدة العمودية» اآلن ‪.‬‬

‫العرص األندليس ‪ 750 :‬م ‪ -1492‬م‬

‫كانت االندلس وطبيعتها الساحرة مرحلة مؤثرة يف تاريخ‬ ‫القصيدة العمودية‪ ،‬الذي شهد اول مترد واضح عىل شكلها‬ ‫حينام ظهرت املوشحات‪ ،‬لكنها مل تكن ذات قوة كافية‬ ‫لتحطيم علم العروض بشكل تام‪ ،‬وظهر يف هذا العرص‬

‫شعراء كرث مثل ابن زيدون وابن هاينء االندليس ولسان‬ ‫الدين الخطيب‪ ،‬وقد بدا واضحا تاثرهم جميعا بالطبيعة‬ ‫يف شعرهم ‪.‬‬ ‫اىل حد هذه النقطة فإن القصيدة العمودية ظلت «سيدة‬ ‫املشهد» التي مل تكن تعرف ابدا ما يخبؤه املستقبل لها !‬

‫أزمة « مستقبل»‬

‫حينام حدث أول مترد مع بداية القرن املايض وظهرت‬ ‫التفعيلة‪ ،‬ظلت القصيدة العمودية اىل حد ما تحافظ عىل‬ ‫وجودها‪ ،‬لكنها بعد دخول «قصيدة النرث» عىل الخط‬ ‫‪ ،‬ودخول الشعراء «أفواجا» يف الشكل الجديد‪ ،‬وتزايد‬ ‫اعداده تراجعت القصيدة العمودية اىل غياهب النسيان‬ ‫بعد أن فشل «الكالسيكيون» من اتباعها يف صد هجامت‬ ‫«الحداثيني» الذين استغلوا ضعف شعرائها ومبالغتهم‬ ‫يف االعتناء بالشكل عىل حساب اللغة واملعنى والبناء‬ ‫لتوجيه رضبة قوية لها‪ ،‬ورويدا رويدا تراجعت لتتحول‬ ‫اىل «حالة نخبوية» ‪ ،‬قليلون من يحافظون عىل والئهم‬ ‫لها‪ ،‬ومل تستطع حركة «قصيدة الشعر» التي ظهرت يف‬ ‫العراق يف أن تنقذ القصيدة العمودية بعد ان اخفقت‬ ‫هي نفسها يف انقاذ نفسها وبهذا يبقى املستقبل « مبهام‬ ‫«بالنسبة لها خاصة يف ظل «السبات الذي يغط فيه‬ ‫«النقاد» و تحولهم اىل مجرد مواكبي «موضة» بدون أي‬ ‫تأسيس نقدي حقيقي يوضح معامل املستقبل لنا ولها ‪.‬‬ ‫والبد هنا أن اشري اىل مقال للدكتور عيل جعفر العالق‬ ‫بعنوان « القصيدة العمودية ‪ :‬هل لها مستقبل؟ « ‪،‬‬ ‫ويقول فيه ‪ « :‬من الصعب أن تشهد القصيدة العمودية‪،‬‬ ‫كام يبدو ‪ ،‬فرتة ازدهار أخرى كالتي شهدتها عىل يد‬ ‫آخر العاملقة‪ :‬الجواهري وزمالئه‪ .‬ميكن أن تظل ممكناً‬ ‫شعرياً يستثمره الشاعر الحديث برشوطه هو‪ :‬تنويعاً‬ ‫لنربته وإثراء اليقاعاته « ‪.‬وطبعا بانتظار أن يأيت شعراء‬ ‫«مخل ُّصون» يحملون جينات حداثية وروحا موسيقية‬ ‫خليلية يف آن معا ستبقى القصيدة العمودية تحارب من‬ ‫أجل حياتها ونحارب نحن معها من أجل ابتسامة كل‬ ‫القصائد الجميلة التي عربت يف تاريخنا العريب ومن أجل‬ ‫«أفق» شعري أفضل‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪149‬‬


‫ديوان النبط‬

‫محمد عبدالله الربييك‬ ‫جناح الحنين‬ ‫ٍ‬ ‫نــاس ت ْــسافــــر وال تلقى عيون‬ ‫واملطار يطـــــوف به من كل لون‬ ‫قبل ال طيـّـــارتـــــي تقلــــع بهون‬ ‫املسافر طيــــر والرحلــه غصون‬ ‫ليش يبيك عاشـق األرض بجنون‬ ‫ومن بىك للسحـب أو أصبح حنون‬ ‫بس يــــا هالقلـب الحساسك تخون‬ ‫املحبـــــّه أرض والرفقـــــه لحون‬ ‫واملدينه روحي وفيهـــــا السكـــون‬ ‫كل من يحمل وفاهــــا ما يهـــــون‬ ‫صــدق ماكل قول ترقص له لحون‬ ‫لــــو وفانـــــا فــوق هالدنيا سجون‬ ‫قلبي امــــدرج مطـــار وبه شجون‬ ‫لو رحل واحد عىل ج ْــناح الظنون‬

‫وناس تلقى ع ْــيــــون عند القادمني‬ ‫بس ما يسكن علــــى أرضــه ثنني‬ ‫اكتشفت أشياء يف فكــــري تبيــــن‬ ‫والسفــــر شنطــــــه بها حلم وأنني‬ ‫م��اي وطني‬ ‫ل��ن ه��و يف األصــل م��ن‬ ‫ٍ‬ ‫ليـــش يرجع أرض��ه بوج ٍه حزين؟!‬ ‫شوف دمعك فـــــاض مابني اليدين‬ ‫ش��وف كم ص��اروا عليهــــا عاشقني‬ ‫ادخلوها فــــــي ســـــالم ٍ آمنيــــن‬ ‫وما لحق فيها هل اإلحساس شيـــن‬ ‫ونحــــن من كرث التجارب فاهمني‬ ‫نحـــــــن نترشف نكون املجرمني‬ ‫كم جمع من قادميـــــن وراحليـــن‬ ‫رد يل غ�يره ع�لى ج ْــنــــاح الحنني‬

‫الفنان عبد الله سامل‬

‫‪150‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫نصوص‬

‫محمد نورالدين‬ ‫«التواضع»‬ ‫ب��اب ال��تّ��واض��ع للخَاليِق َم ْد َخلِك‬ ‫ِ‬ ‫وارق��ا ُع��روش قْلوبُهم واق َعد َم ِلك‬

‫ِد ْق َح��ل�� ِق��تَ�� ْه ك��انِ��ك تِ��ب��ا ِمنزاله‬ ‫ْ‬ ‫ط��اري��ك يبقى يف ال�� ِّز َم��ن وامثاله‬

‫النسان أخو االنسا ْن ما هو أسفلك‬ ‫ِم��ن ط�ين َربيِّ خ��الِ��ق��ك و ْمك ِّملك‬

‫ال ت ْ��ظّ��ن ح��ول��ك ي��وم مت�شي هاله‬ ‫ُ��ب جِس ِمك بْعماّ له‬ ‫وال��طِّ�ين يَ��رق ْ‬

‫ف��اح�� َذ ْر ِم��ن ال ِّدنيا وتِ��ذكَّ��ر َمنزلِك‬ ‫إن جيت ت َز ِقر جاوبِك خري ْع َم ِلك‬ ‫ْغض طَر ِفك َعن ُعيون ٍ تِسألِك‬ ‫ال ت ّ‬

‫توسد اليَمنى وتِ��ش��وف اهواله‬ ‫ِم ِّ‬ ‫م��ا يِس َم ِعك كِ ِ‬ ‫يسك وزود أمواله‬ ‫ل��و نَ��ظ��رِة الله تَ��رج��ي ي��وم تْساله‬

‫كَ��م واح��د َدرب ال��تِّ�� َك�ُّب�رُّ ِق��د ِسلِك‬ ‫خَذه الغُرور و ما ال ِتفَت يِستق ِب ِلك‬

‫وتْ��خ��رطَ��ف بْعن َده وشَ ��ع��ث نْعاله‬ ‫ط��� َّول ُر ِق���بْ���تَ��� ْه وال�� ُع�لا م��ا طاله‬

‫ِ‬ ‫صاحبي وِرد املَ��ح��بَّ�� ْه َمن َهلِك‬ ‫ي��ا‬ ‫��س�لام ال�لي ِي�� َع��رف ويِج َه ِلك‬ ‫إب��دا ال َّ‬

‫َع���ذب ٍ و يَ�ب�ري مقطِّع ٍ أوص��ال��ه‬ ‫َ����ل قَ�����درِك َذ ِّر ٍة ِمثقاله‬ ‫م��ا ق ّ‬ ‫وارع���ى ِصدي ِقك ي��وم ُع�سر ٍ حاله‬

‫ش��ا ِف��ك وك�� َّن��ه م��ا بَ�� َع��د يِت َخيَّلِك‬ ‫حتّى َس�لا ِم��ك يَب ِغضَ ه وم��ا يمَ ِه ِلك‬

‫وإذكِ��ر ِقصريك قَبْل ما تَذكِر َهلِك‬

‫وأقسم رغيفك نصف له والنصف لك‬ ‫وارح���م ع��دو ٍ ق��د ن��وى ان��ه يقتلك‬ ‫ه��ذي العلوم ال�لي َصداها تْج ّملك‬ ‫فـ ارق��ا ال ُّنوايف وال�� ِك�ِب�رِ ال يْثقـِّلك‬

‫وان��زِل قُلوب ال ّناس واس ِكن‪ ،‬تمِ ِتلك‬

‫يل َس��كَّ��ر ْع��ي��ونَ��ه و َح��� ّط اقفاله‬ ‫كَ��� ِّن���ك تُ��ب��ا ِ‬ ‫ت���اخ���ذ أَع����� ّز ْع��ي��ال��ه‬

‫ل��و ه��و غريب ٍ م��ا تعرف افعاله‬ ‫دام ال�� ّزم��ن ج��اب��ه يِ��جِ�� ّر اذي��ال��ه‬ ‫وإال ِك��ث�ير ت ْ��ش��وف َس�� ْم��ح اقباله‬ ‫تمِ���ل امياله‬ ‫ونَ�� ْه��ج ال��تّ��واضُ ��ع ال ّ‬ ‫���ل شَ �� ْه�� ْم قَ��� ْرم ٍ ناله‬ ‫ال��قَ��در يل ِك ْ‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪151‬‬


‫ديوان النبط‬

‫محمد سعيد املشيخي‬ ‫حفيت‬ ‫الوقفت روس القصايد عىل حفيت‬ ‫وقفت ان��ا شامخ أد ّور ع�لى بيت‬ ‫ه��ذا محمد ع��ايل املجد والصيت‬ ‫ه��ذا الكريم ال�لي عليه املناعيت‬ ‫غنيت يف وصفه وان��ا اق��ول غنيت‬ ‫سمح املقابل كلمته دون ياليت‬ ‫ح��ي وك��ل ميت‬ ‫يفرح بشوفه ك��ل ٍ‬ ‫زم��زم اذا قلنا سقت طايف البيت‬ ‫واليل عطا زمزم عطا صاحب الصيت‬ ‫كفه نهر تكريت ال وي��ن تكريت‬ ‫يعطي بسخاوة قلب من دون توقيت‬ ‫هذا وان��ا يف قمة حفيت يا حفيت‬

‫‪152‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫ق��م��ة ج��ب��ل يف ال��ع�ين يسمو ع��ل�� ّوه‬ ‫اي��ل��ي��ق يف ش���ف ال��س��م��و ل��س��م�� ّوه‬ ‫ه����ذا ول����د زاي����د وري����ث امل����ر ّوة‬ ‫يف ه��ي��ب��ت��ه يف وق��ف��ت��ه يف ه���د ّوه‬ ‫ي��ال��ي��ت م���ا غ��ن��ي��ت إال ع��ت�� ّوه‬ ‫غ��ي��ث��اً اذا أق���ب���ل ع��ل��ي��ن��ا ب��ن�� ّوه‬ ‫ح��ت��ى ع����دوه ل��و اف�ترض��ن��ا ع���د ّوه‬ ‫م���ن ف��ض��ل ريب م��ع��ت�لي يف ع��ل�� ّوه‬ ‫محمد اب���و خ��ال��د وري���ث امل���ر ّوه‬ ‫ال وال��ل��ه إال امليسيسيبي وج��� ّوه‬ ‫دام األب����و زاي����د ون��ع��م االب���� ّوه‬ ‫وق��ف��ت اك��ت��ب يف جنابه و سم ّوه‬


‫نصوص‬

‫ابراهيم احمد الشامي‬ ‫العزّه‬ ‫عـ ّزتــي كـالـذيــب وســط الـصــدر مــا قــد يــوم مـــال‬ ‫والـلـيــالــي مـظـلــمــه والــنــور فـــي قـلــبــي ضـــوا‬ ‫مـــا أقــول الـخــيــر جـــاي ومـــا أقـــول الــشــر زال‬ ‫بـشــكــر الله لــــو قــويـــت الــجـــرح ولاّ هــــو قــــوا‬ ‫اعـرف ا ّن الـسـعـد طـول الـعـمــر شــي مــن الـمـحــال‬ ‫والـصــبــر مـفــتــاح قـلــبــي لـــو تــصــ ّوب وانــكــوا‬ ‫لــــو شــربـــت الــهـــم والله مــــا شـكــيــتــه لــلــيــال‬ ‫لـــو جـــرا ســمــه بِــدمـّــي وكــــل شــريـــان ارتــــوا‬ ‫مـان ْـحـنـي مـن ثـقـلـهـا لـو هـي عـلـى ا ْمـتـونـي جـبــال‬ ‫لــو تـهـ ّمــش كــل ضـلــعٍ بــي ومــن تـحــتــي الْــتــوا‬ ‫والـحــزن غـابــت مـالمــح ضـحـكـتــه وشــد الـرحــال‬ ‫والــبــقــا بــالــجــرح يــالـــي خــلّــفـــه ذاك الـــهـــوا‬ ‫والـهـوا مــات بـكـفــوف االمــس مــن بـعــد الـوصــال‬ ‫مـــا تـقــطّــع مـن يـدين الــغــدر وســيــوف الــنـــوا‬ ‫والـنـوا فـي صـفـحـة الـمـاضـي عـلـيـهـا الـشـوق سـال‬ ‫وانـطــوت ذكــرا عــذابه والــنــوا مـعــهــا انــطــوا‬ ‫وانــطــوا حــبــك يــصــارع وحــدتــه قــبــل الــــزوال‬ ‫ٍ‬ ‫ولـــيـــف فـــــي مــواصــيــلــه دوا‬ ‫عــقــدتــه فـــرقــى‬ ‫والــدوا عـشــبــه ومــاتــت فـــي بـسـاتــيــن الــظــالل‬ ‫بــعــد مـــا فــاحــت خـيــانــه ثـــم تـنـفـســهــا الــهــوا‬ ‫والــهــوا قــصــة وراحـــت كـانّــهــا كــانـــت خــيـــال‬ ‫وكــل مـــا تــطــري ع بــالــي فـــ ّز ذيــبــي ثـــم عـــوا ‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪153‬‬


‫ديوان النبط‬

‫خالد عيل الشعيبي‬ ‫يا مدعي‬ ‫يا مدعي حسن الخاليق واإلمي��ان‬ ‫م��اين بقايل جيت ل��ك ب��س ولهان‬ ‫ودك تداري خاطرك عن هوى الشان‬ ‫الحب م��ا ب��ه م��ن تفضل واحسان‬ ‫شفني ببل الريق واجيك ظميان‬ ‫منحرك مثل النوق والله بها عان‬ ‫أقصد أنا من غمرة الشوق طربان‬ ‫جود البشاير ما ورى حسنك يبان‬ ‫والخشم جودي قد عىل راس عماّ ن‬ ‫هل يل عىل كرسيك غمرة من الدان‬ ‫إين ل��ذو ط��م��عٍ وه��ل يل باحسان‬

‫أن���ا ل���و إنيّ ج��ي��ت ب��اج��ي��ك ك�ّلّ‬ ‫إال ب��ق��ول ال��غ��ي��م ب��ال��ع��ش��ق ه�ّلّ‬ ‫ل��ك��ن ت���دري وأدري ال��ط��ي��ب ع�ّلّ‬ ‫وان��ت الحسن والزين والزين يالل‬ ‫وان��ت��ه ع��س��اك ل��ري��ق م��ث�لي تبل‬ ‫وال���خ�ص�ر م���ا ب�ي�ن ال��ث��ن��اي��ا ي��س�ّلّ‬ ‫ف��اع��ذر ك�لام��ي ك���ان م��ا ف���اد زل‬ ‫ي��ا ع���ود ب����انٍ وي���ن ح��لّ��ت تحل‬ ‫والعني ماهي من ورى الظيم هل ل‬ ‫ٍ‬ ‫م���ل���ك ق���د ف��ن��ا ال مي�ّلّ‬ ‫يف ب��ح��ر‬ ‫م��ن عند حسنك ُم وم��ن عند فل‬

‫الفنان عبد الله سامل‬ ‫‪154‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


‫أدب البدو‬

‫أدب البدو‬

‫في كتابات الرحالة والمستشرقين‬ ‫بدايات تدوين الشفوي‬ ‫لعب الرحالة والمستشرقون االجانب دورا هاما في جمع وتوثيق أدب البادية‪ ،‬وقد نشطوا في منتصف‬ ‫القرن التاسع عشر في الجزيرة العربية وبادية الشام والعراق‪ ،‬وجمعوا قدرا هاما من قصائد البادية (الشعر‬ ‫النبطي) التي تعد سجال صادقا ألحوال العرب‪.‬وفي طليعة هؤالء الرحالة كان الفنلندي جورج اوغست‬ ‫والين‪ ،‬الذي امضى فترة في منطقة الجوف السعودية وجمع عينات من قصائد شعرائها‬

‫سعد العبد هللا الصويان‬

‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪155‬‬


‫ديوان النبط‬

‫بذل‬

‫الجوف عام ‪1845‬م وهو يف طريقه إىل حائل مرورا بجبة‪.‬‬ ‫املسترشقون والرحالة األجانب جهودا‬ ‫ولد والني سنة ‪1811‬م يف وطنه فنلندا التي كانت آنذاك‬ ‫ال يستهان فيها وكانت لهم إسهامات‬ ‫تحت سيطرة روسيا‪ .‬وحيث أنه مل يكن يوجد بعد يف‬ ‫سباقة فيام يتعلق بدراسة لهجات الجزيرة العربية‬ ‫فنلندا لغة وطنية نشأ والني كغريه من سكان مقاطعته‬ ‫وجمع الشعر العامي‪ ،‬أو ما يسمى «الشعر النبطي»‪،‬‬ ‫يتكلم اللغة السويدية‪ .‬وأبدى اهتامما مبكرا ببالد‬ ‫وخصوصا بني أبناء البادية ويف شامل الجزيرة وصحراء‬ ‫الشام تحديدا‪ .‬وحيث أن معظم أعامل هؤالء املسترشقني‪ ،‬الرشق وشغفا بالصحراء وحياة البادية‪ .‬وحصل عىل يشء‬ ‫وخصوصا القدمية منها وما هو مكتوب بلغات أجنبية غري من الدعـم من جمعـية الجغرافيني امللكـية الروسـية‬ ‫اإلنجليزية‪ ،‬غري متاحة للكثريين من قراء العربية املهتمني التي تأسـست عام ‪1845‬م يف ســانت بيرتسـربج ‪St.‬‬ ‫‪ Petersburg‬ومن جمعية الجغرافيني امللكية يف لندن‪.‬‬ ‫بلهجات البادية وآدبها فإنني سوف أتحدث بيشء من‬ ‫يعرف نجيب العقيقي والني يف الجزء الثالث من كتابه‬ ‫التوسع عن ما تتضمنه هذه املصادر القيمة من نصوص‬ ‫وآراء‪ .‬وأعامل الرحالة واملسترشقني يف هذا امليدان ميتزج «املسترشقون» قائال‪:‬‬ ‫«ولد يف جزائر آالند غريب فنلندا‪ ،‬وتعلم يف كليتها وصنف‬ ‫فيها الجمع والرشح مع الدراسات األدبية واللغوية التي‬ ‫كتاباً بالالتينية أسامه‪ :‬أهم الفروق بني لهجات العرب‬ ‫تشكل بدورها فرعا من الدراسات اإلثنولوجية مبفهومها‬ ‫املتأخرين واملتقدمني‪ .‬ويف سنة ‪ 1841‬قصد روسيا‪ ،‬وتضلع‬ ‫األعم‪ .‬هذا يتطلب منا قدرا من االنفتاح يف بحثنا عن‬ ‫يف العربية عىل الشيخ محمد عياد الطنطاوي يف مدرسة‬ ‫املصادر بحيث ال نقترص عىل تلك التي تعنى بتدوين‬ ‫األلسن‪ ،‬حتى آخر سنة ‪ ،1842‬ثم رحل إىل الرشق فط ّوف‬ ‫نصوص الشعر فقط‪ ،‬بل علينا أن نتقىص كل ما يتعلق‬ ‫بلهجات الجزيرة وحياة البادية وكتب الرحالت‪ .‬مثل هذه خالل ست سنوات مبرص وجزيرة العرب وبغداد وأصبهان‬ ‫وبرصى ودمشق متزيياً بزي البدو متطبعاً بطباعهم باسم‬ ‫املصادر وإن كان أصحابها قصدوا منها أساسا أن تكون‬ ‫عبد الويل ‪-‬وقد نقشه عىل حجر قربه بحروف عربية‪-‬‬ ‫أبحاثا يف علم اللهجات العربية أو يف اللغات السامية‬ ‫حامالً حقيبة مملؤة بالعقاقري‪ ،‬فأحبته القبائل‪ ،‬ويسرّ ت له‬ ‫املقارنة أو يف االستكشافات الجغرافية‪ ،‬إال أنها ال تخلو‬ ‫أحيانا من بعض القصائد و»السوالف» التي ترد كشواهد دراسة عاداتها ولهجاتها‪ ،‬واستقصاء حالة بالدها الطبيعية‬ ‫والجغرافية‪ ،‬ثم سكن لندن (‪ ،)50-1849‬واشرتك يف إعداد‬ ‫أو كامدة خام‪.‬‬ ‫خريطة لبالد العرب‪ ،‬وعني أستاذا ً‪ ،‬فكان أول من استقل‬ ‫وأول من قام من املسترشقني بتدوين ودراسة مناذج من‬ ‫أشعار البادية هو جورج أوغست والني ‪ Georg August‬بكريس لها فيها‪ ،‬ثم سمي أستاذا ً للعربية يف كلية هلسنيك‪،‬‬ ‫‪ Wallin‬الذي جمع بعض القصائد أثناء إقامته يف منطقة وأقبل عليه الطالب‪ ،‬وأفادوا منه حتى وفاته»‪.‬‬

‫بذل المستشرقون والرحالة‬ ‫األجانب جهودا ال يستهان‬ ‫فيها وكانت لهم إسهامات‬ ‫سباقة فيما يتعلق بدراسة‬ ‫لهجات الجزيرة العربية وجمع‬ ‫الشعر النبطي‬

‫‪156‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫بدوي حر‬

‫وقد نرشت دار ‪ Falcon-Oleander‬كتيبا صغريا عن‬ ‫والن عنوانه رحالت يف بالد العرب ‪Travels in Arabia‬‬ ‫‪ )1848-(1845‬يتضمن التقارير التي سبق أن نرشها‬ ‫عن رحالته مع مقدمة قصرية كتبها ‪ W. R. Mead‬و ‪M.‬‬ ‫‪ Trautz‬تحتوي عىل بعض املعلومات البيوغرافية عن‬ ‫حياة والني‪ .‬جاء يف هذه املقدمة أن والني كتب يف يناير‬ ‫‪1851‬م بعد عودته من الجزيرة العربية حينام داهمه برد‬ ‫الشتاء القايس يف وطنه فنلندا يعرب عن حنينه إىل الصحراء‬


‫أدب البدو‬

‫الفنان إتيان دينيه‬

‫«كم أتوق اآلن أكرث من أي وقت مىض أن استبدل مناخ‬ ‫وطني الثقيل الوطأة والحياة املرهقة التي أنا مجرب عليها‬ ‫هنا (كأستاذ للعربية أدرس الطالب مبادىء الهجاء)‪. . .‬‬ ‫طموحي يف هذا الوجود أن أمتكن من العودة إىل الرشق‬ ‫وبالتحديد إىل الصحراء العربية‪ .‬ميكنني العودة هناك‬ ‫كرحالة أوريب ألستكشف علميا املناطق املجهولة يف بالد‬ ‫العرب وأقدم نتائج أبحايث للدوائر األكادميية يف العامل‬ ‫الغريب‪ ،‬وأخص بذلك الجمعيات العلمية يف لندن‪ .‬أو لرمبا‬ ‫أذهب إىل هناك لالستجامم والرتويح عن النفس‪ ،‬للبحث‬ ‫عن مالذ يف فيايف الصحراء من بيئة أوروبا الخانقة‪،‬‬ ‫ألجد السالم وراحة البال بعيدا عن التفاهات والزيف‬ ‫والعجرفة التي اعتاد عليها الغربيون‪ ،‬ألعيش بدويا حرا‬ ‫ثم أموت وأدفن بني أبناء البادية األحرار‪ ».‬ويف رسالة‬ ‫أخرى أوضح والني أهدافه والتي كان من ضمنها توثيق‬ ‫ودراسة اآلداب واألعراف البدوية التي كان يرى أنها «ما‬ ‫زالت تحكم حياة هؤالء الباترياركيني ‪ Patriarchal‬والتي‬ ‫ال تقل بأي حال يف أهميتها وأصالتها عن القوانني التي‬ ‫كان يحتكم إليها الغاليون القدماء‪ ،‬بل حتى تلك التي‬ ‫سادت بني أجدادنا القوطيني» ويف ميله للغات الدارجة‬ ‫واآلداب الشفهية كان والني متأثرا أميا تأثر بجهود زمالئه‬ ‫من األكادمييني والكتاب الفنلنديني الذين شمروا عن‬ ‫سواعدهم وجابوا أرياف فنلندا وسهوبها بحثا عن األغاين‬ ‫الشعبية والتي استطاع إلياس لونروت ‪Elias Lonnrot‬‬

‫فيام بعد أن يؤلف منها ملحمة الكاليفاال ‪.Kalevala‬‬ ‫ولهذا كان والني يتطلع إىل جمع «أدب البادية الشعري‬ ‫املثري‪ ،‬الذي ال ينضب وال يجارى يف ثرائه وجودته»‪.‬‬ ‫ويختتم والني رسالته بهذه الفرضية التي يقول فيها «يبدو‬ ‫أن الطبيعة اختارت هؤالء األعراب الذين مل تحد فاقتهم‬ ‫من إنسانيتهم وبساطتهم ليجددوا من وقت آلخر الدماء‬ ‫يف عروق الشعوب غري املتحرضة أو الشعوب التي أصابها‬ ‫الوهن والتفسخ‪ .‬من ناحية‪ ،‬نجد أن جدب أرضهم وشح‬ ‫مواردها يحميهم من االنحدار واالنحالل الذي عادة ما‬ ‫تؤول إليه األمم التي يتفىش فيها الغنى والنعيم‪ .‬ومن‬ ‫ناحية أخرى نرى هذه الفاقة تدفع بهم للهجرة وترك‬ ‫بالدهم للبحث عن رغد العيش ويضخون تبعا لذلك دماء‬ ‫جديدة قوية فيمن يحلون بني ظهرانيهم»‪.‬‬

‫قصائد من الجوف‬

‫كان والني مضطرا للبحث عن جهات متول رحالته‬ ‫االستكشافية إىل بالد العرب وخصوصا الجمعيات‬ ‫الجغرافية امللكية يف إنجلرتا وروسيا‪ .‬لكنه أيضا كان شديد‬ ‫الحرص عىل أن ال يعرف الرشقيون عن هويته وأغراضه‬ ‫الحقيقية ومصدر متويله حتى ال ينكشف أمره ويعرض‬ ‫نفسه ومشاريعه للخطر إذا ما شك املسؤولون يف بالد‬ ‫الرشق أن مهمته وأهدافه لها أبعاد سياسية‪ .‬فقد كتب‬ ‫إىل الدكتور نورتن شو ‪ ،Norton Shaw‬أمني رس الجمعية‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪157‬‬


‫ديوان النبط‬

‫الجغرافية امللكية يف لندن‪ ،‬يحذره من إعطاء األحاديث‬ ‫واإلدالء بالترصيحات عن رحلته «ألنه لو حملت األخبار‬ ‫أنني أبارش رحلتي محفوفا بهذه الرعاية العظيمة من‬ ‫إنجلرتا وروسيا فمن املحتمل جدا أنه حاملا أصل إىل‬ ‫القاهرة سيكون يل رشف تلقي دعوة من عباس باشا‬ ‫ألتناول معه فنجانا من القهوة والذي سيكون آخر يشء‬ ‫يدرج يف حلقي»‪.‬‬ ‫أمىض والني السنتني األخريتني من حياته أستاذا للعربية‬ ‫يف جامعة هلسينيك وداهمته املنية سنة ‪1852‬م وهو يف‬ ‫سن الواحدة واألربعني ومل يتمكن من تحقيق طموحه يف‬ ‫العودة إىل جزيرة العرب‪.‬‬ ‫جمع والني عددا من القصائد أثناء إقامته يف منطقة‬ ‫الجوف عام ‪1845‬م ونرشها تباعا برتجامتها ودراسات‬ ‫عنها يف العددين الخامس والسادس من مجلة الجمعية‬ ‫األملانية لالسترشاق ‪Zeitschrift der Deutschen‬‬ ‫‪ .morgenlandischen Gessellschaft‬نرش والني هذه‬ ‫القصائد خالل الفرتة ‪١٨٥٢-١٨٥١‬م تحت عنوان «عينات‬ ‫ألنثولوجيا قصائد عربية معارصة جمعت من البادية»‬ ‫‪Probe aus einer Anthology neuarabischer‬‬ ‫‪ .Gesang, in der Wuste gesammelt‬تضمنت هذه‬ ‫العينات مثان قصائد يعرض كل منها عىل النحو التايل‪:‬‬ ‫يبدأ بكتابة القصيدة باألحرف العربية ثم يكتبها كتابة‬ ‫صوتية مستخدما الرموز الالتينية وبعد ذلك يرتجمها إىل‬ ‫األملانية ويقدم للرتجمة مبعلومات عن الشاعر ومناسبة‬ ‫القصيدة وعن الظروف التي جمع فيها نص القصيدة‬ ‫والشخص الذي رواها له وينهي عرضه بدراسة لغوية‬ ‫مفصلة‪.‬‬ ‫وقد قام إمام املسجد الذي يدعوه والني «الخطيب‬ ‫الوهايب» مبساعدته يف نسخ القصائد‪ .‬ومن الواضح أن‬ ‫والني واإلمام غري متمرسني يف التعامل مع الشعر النبطي‬ ‫وتذوقه فالقصائد التي دوناها تعاين من خلل يف الوزن‬ ‫ويف طريقة التدوين‪ .‬وتعاين بعض القصائد من خلل يف‬ ‫القافية وهذا يعود‪ ،‬يف أغلب الظن‪ ،‬إىل عدم كفاءة الراوي‬ ‫سلامن الذي أخذ عنه والني هذه القصائد‪.‬‬ ‫القصيدة األوىل من حصيلة والني أمالها عليه الشاعر‬

‫‪158‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫بنفسه الذي ذكر أن اسمه مساعد وأشار إليه بأنه «عبد‬ ‫من عبيد الجوف»‪ .‬حينام وصل والني إىل الجوف وجد‬ ‫لهذه القصيدة صدى واسعا والحظ كرثة تردادها عىل‬ ‫ألسنة الرواة يف املجالس وتغنيهم بها عىل الربابة مام حدا‬ ‫به إىل البحث عن صاحبها ألخذها منه مبارشة‪ .‬وكان والني‬ ‫قد وصل إىل الجوف بعد أن أحكم عبدالله بن رشيد‪،‬‬ ‫أمري حائل‪ ،‬قبضته عليها‪ .‬وكانت قبل ذلك تتكون من‬ ‫أحياء بينها عداء مستحكم وتعيش حالة خوف ونزاع ال‬ ‫ينقطع‪ .‬ويتحدث والني يف مقدمته لهذه القصيدة والتي‬ ‫تليها عن الوضع السيايس يف الجوف‪ .‬وهذه القصيدة التي‬ ‫تتألف من اثناعرش بيتا قالها مساعد العبد من حي خذما‬ ‫يخاطب بها داره ويعلن تفانيه يف الدفاع عنها‪.‬‬ ‫والقصيدة الثانية تتألف من اثناعرش بيتا قالها سامل‬ ‫العوض من أهل الجوف ميدح عبدالله بن رشيد وأخاه‬ ‫عبيد عىل مساعدتهم ألهايل حي خذما عىل أهايل حي‬ ‫الدلهمية‪.‬‬ ‫القصيدة الثالثة تقع يف مثانية عرش بيتا قالها منر بن‬ ‫عدوان أمري قبيلة العدوان التي كانت تقطن نقرة الشام‬ ‫أو حوران يريث زوجته وضحاء من بني صخر‪ .‬وأمالها‬ ‫عىل والني شخص يدعى سلامن من سكان حي خذما يف‬ ‫الجوف والذي يصفه والني بأنه قوي البنية ويقول إن‬ ‫صحته جيدة عىل الرغم من سنه الذي يناهز الستني‪.‬‬ ‫وأكد سلامن لوالني أنه كان تلميذا لنمر بن عدوان تعلم‬ ‫عىل يده قرض الشعر وأن منر هو الذي شجعه عىل قول‬ ‫الشعر وأنه بعدما حفظ الكثري من أشعار منر بدأ شيئا‬

‫أول من قام من المستشرقين‬ ‫بتدوين ودراسة نماذج من‬ ‫أشعار البادية هو جورج‬ ‫أوغست والين الذي جمع‬ ‫بعض القصائد أثناء إقامته‬ ‫في منطقة الجوف‬


‫أدب البدو‬

‫الفنان إتيان دينيه‬

‫فشيئا بقرض الشعر بنفسه ويدعي بأن لديه صندوقا‬ ‫مأله بقصائد منر‪ .‬ويذكر والني بأن وصوله إىل الجوف سنة‬ ‫‪1845‬م كان بعد وفاة منر بسنوات قليلة‪ .‬ويضيف والني‬ ‫أن منر كان شاعرا واسع الشهرة وأنه متعلم وضليع يف‬ ‫استخدام املراجع األدبية والقواميس التي يستقي منها‬ ‫مفرداته الغريبة والجميلة التي يزين بها أشعاره وأنه‬ ‫يدخل يف قصائده مفردات من اللغة الفارسية وغريها من‬ ‫اللغات‪( .‬وأود هنا أن أسجل تحفظي عىل ما ذكره والني‬ ‫وأستبعد أن يكون منر عىل هذه الدرجة من العلم‪ ،‬ولرمبا‬ ‫يكون هذا جزء من النسيج األسطوري الذي يحوكه الرواة‬ ‫منذ ذلك الحني حول شخصية منر‪ .‬بل إنني يف ريبة من‬ ‫أمر هذا الراوي املسمى سلامن وأتردد يف قبول إدعاءاته‬ ‫ألن القصائد التي رواها عنه والني‪ ،‬سواء كانت من إنتاجه‬ ‫هو أو من إنتاج «أستاذه» منر ليست عىل املستوى‬ ‫املتوقع‪).‬‬ ‫والقصيدة التالية برواية سلامن لنمر أيضا تتألف من‬ ‫سبعة أبيات يسندها عىل ابنه حمود‪ ،‬وبعث بها معه إىل‬ ‫وضحاء حينام غاضبته وتركته وذهبت إىل أهلها‪ .‬ويقول‬ ‫والني يف معرض حديثه عن وضحاء أنها من األدب بحيث‬ ‫ال تدير ظهرها إىل منر حينام تنرصف من عنده وإمنا متيش‬ ‫عىل الوراء حتى تتعداه وتبعد عنه‪.‬‬ ‫القصيدتان الخامسة والسادسة براوية سلامن قصيدتان‬ ‫متبادلتان بينه وبني شاعر آخر يدعى سكران من أهل‬ ‫الرحيبيني بالجوف‪ .‬يقول والني عن سكران إنه شاعر‬ ‫فحل وراوية جيد وأنه سمعه مرة يف الجوف ومرة يف‬ ‫حائل ينشد األشعار دون توقف ملدة قد تزيد عىل ساعة‬ ‫ونصف وكانت قصائده دامئا تحظى بإعجاب الجامهري‬ ‫الغفرية من الحضور‪ .‬وهو شاعر متعدد املواهب يقول‬ ‫القصائد يف كل موضوع وبعضها يف املدح وكان يحصل‬ ‫مقابل ذلك عىل هبات عىل شكل «بالطو» أو «معطف»‬

‫أو ما شابه ذلك‪ .‬وغالبا ما ذهب سكران إىل ابن رشيد يف‬ ‫حائل ليمدحه بقصائده ويرجع من عنده محمال بالهدايا‪.‬‬ ‫وقد حاول سكران أن ينظم قصيدة يف مدح والني‪ ،‬الذي‬ ‫كان ميارس مهنة الطب بني أبناء البادية‪ ،‬عله يحصل منه‬ ‫عىل هبة سخية لكن والني كان يعاين من قلة ذات اليد‬ ‫وكان بحاجة للعطف أكرث من الشاعر وكان يعيش عىل‬ ‫كرم مضيفيه «معازيبه» من الشيوخ واألمراء وأجاويد‬ ‫العرب‪ .‬سبب القصيدتني هو أن سكران وسلامن وقعا معا‬ ‫«سـ َويّـر» (تصغري ساره) دون أن يعلم‬ ‫يف غرام فتاة تدعى ْ‬ ‫أحدهام عن اآلخر‪ .‬وبعدما اتضحت األمور لكليهام حاول‬ ‫كل منهام أن يتنازل عن الفتاة لآلخر ولكنه يف قرارة نفسه‬ ‫يأمل أن يغلبه صاحبه يف النبل والشمم ويتنازل عن‬ ‫الفتاة لتكون من نصيبه هو‪.‬‬ ‫القطعة السابعة التي يوردها والني تتألف من خمسة‬ ‫أبيات‪ ،‬ويزعم والني أن القصيدة أطول من ذلك بكثري‬ ‫وأن صاحبها‪ ،‬الذي نيس والني اسمه‪ ،‬رفض أن يرويها له‬ ‫وأن الذي روى له هذه األبيات الخمسة سلامن‪ .‬ويقول‬ ‫والني إن قائل هذه القصيدة شاب من أهل الجوف انتقل‬ ‫مع أبويه إىل الكرك وكان يقوم بزيارة قصرية إىل الجوف‬ ‫أثناء وجود والني فيها‪ .‬والقصيدة معروفة عند أهل نجد‬ ‫ومشهورة عند رواة الشعر النبطي وقائلها ابن رساح من‬ ‫أعيان الجوف‪.‬‬ ‫القصيدة األخرية مقطوعة قصرية من ستة أبيات التقطها‬ ‫والني من رواة قبيلة بيل حينام كان يتنقل معهم وكانت‬ ‫تدور عىل ألسنة الجميع ويلهجون بها‪ .‬ويقول والني إن‬ ‫«معـ ّزبه» من بيل ذكر له أنه كان مرة بصحبة رفيق له‬ ‫يدعى ِمـشَ ّـل يف زيارة ألحد شيوخ الفقرا (عنزة) وسمع‬ ‫أحد الحضور يتغني بهذه القصيدة عىل الربابة‪ .‬ويردف‬ ‫والني أن بدويا من قبيلة برش رافقه يف رحلته من تيامء‬ ‫إىل حايل أكد له أن هذه أبيات قدمية قالها عقاب‬ ‫العواجي‪( .‬وهذه املعلومة التي سجلها والني عام ‪١٨٤٥‬م‬ ‫لو توفرت لدينا قرائن ومعلومات مشابهة لها لساعدتنا يف‬ ‫تحديد الفرتة التي عاش فيها عقاب العواجي ورمبا تأريخ‬ ‫بعض الوقائع واملعارك التي حدثت بني الجعافرة بقيادته‬ ‫وبني شمر‪ ).‬ويعتقد والني أن القصيدة طويلة لكنه مل‬ ‫يتمكن من الحصول عىل أكرث من ستة أبيات‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪159‬‬


‫أخبار البيت‬

‫سيف السعدي في بيت الشعر‬

‫نشيد للوطن والحب واإلنسانية‬ ‫الشاعر اإلماراتي سيف بن حارب السعدي كان ضيف بيت الشعر في ابوظبي بمناسبة صدور ديوانه‬ ‫الجديد "ميثاق"‪.‬وقدم باقة من قصائده القديمة والجديدة لجمهور البيت‪ .‬وسط حضور نخبة من الشعراء‬ ‫اإلماراتيين والعرب والمهتمين بالشعر الشعبي‬

‫األمسية‬

‫التي أقيمت مساء يوم الثالثاء ‪/9‬‬ ‫اكتوبر املايض‪ ،‬قدمها الشاعر محمد‬ ‫نور الدين بقوله‪ »:‬سأقدم اليوم أدبا رصينا وشعرا صافيا‪،‬‬ ‫شعر مل يضع النقاط عىل الحروف فقط‪ ،‬بل متيز بوضع‬ ‫العالمات عىل حروفه يف تشكيل فريد‪ ،‬شعر مير كالهمسة‪،‬‬ ‫وقعها عىل القلب»‪،‬واضاف شعر يقول «همستك أعذب‬ ‫ٍ‬ ‫حديث‬ ‫من الشعر الشمول‪ /‬يل تناجينا تجدد ما درس‪ /‬لك‬ ‫كلام طال معسول‪ /‬يف الجسد والروح له جرس الجرس»‪.‬‬ ‫وقرأ السعدي منتخبات من شعره الذي تنوعت أغراضه‪،‬‬ ‫فتنقل بني الوطني والوجداين والتأميل‪ ،‬مبتدئا بقصيدته‬ ‫«شارب النخوة من الجدين» يف مديح صاحب السمو‬ ‫الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله‪،‬‬ ‫وقال «من حسن حظنا أن فينا خليفة بن زايد الذي أحب‬ ‫شعبه فبادله الحب كونه عىل سرية األب زايد رحمه الله‬ ‫وأجداده العظام»‪.‬‬ ‫كام قدم السعدي قصيدة مهداة إىل صاحب السمو الشيخ‬ ‫محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس‬ ‫مجلس الوزراء حاكم ديب ‪ .‬وتحدث السعدي يف قصائده‬

‫‪160‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬

‫عن اإلمارات والقيم والعادات العربية‪ ،‬وانتقل بعد ذلك‬ ‫إىل القصيدة اإلنسانية التي تصف عواطف الشاعر ورؤياه‬ ‫الذاتية «ما أبيك عىل يش يف دنياي ‪ /‬لو غايل»‪ .‬واستمر يف‬ ‫توصيف الذات العفيفة يف شفافية شعرية‪ ،‬حيث يصل‬ ‫إىل قوله «وأنا عىل العهد ما بدلت رسبايل» ‪.‬‬ ‫وراوح السعدي يف قصائده بني املدح‪ ،‬والفخر‪ ،‬والغزل‪،‬‬ ‫والحكمة والتوجيه‪ ،‬والحث عىل األخالق الحميدة‬ ‫والتمسك برتاث اآلباء واألجداد‪ ،‬ويف الغزل متيزت القصائد‬ ‫برهافة اإلحساس‪ ،‬وجزالة األلفاظ‪ ،‬وجامل التعبري‬ ‫واملعنى‪:‬‬

‫الله عىل ِرق ِته والله عىل َد ّمه‬ ‫َ‬ ‫أغىل الغنايم إذا غنم يل ْعلومه‬ ‫يا َويل وييل عىل مشمومه وش ّمه‬ ‫ْ‬ ‫يا عل روحي فدا شمه ومشمومه‬

‫يذكر أن الشاعر سيف السعدي ناشط يف اإلبداع الشعري‬ ‫منذ أكرث من ‪ 30‬عاماً‪ ،‬وهو مدير تحرير مجلة «جواهر»‬ ‫اإلماراتية‪ ،‬ونائب رئيس مجلس شعراء ديب‪ ،‬واملرشف عىل‬ ‫صفحة الشعر الشعبي يف جريدة البيان‬


‫مركز سلطان بن زايد‬

‫المنصف المزغني في مركز سلطان بن زايد‬

‫أسئلة حول الشعر وجمهوره‬ ‫الشاعر التونسي المنصف المزغني من بين الذين أسهموا في تشكيل الحركة الشعرية التونسية الحديثة‪،‬‬ ‫وله مشاركات كثيرة في مهرجانات وبرامج شعربية عربية‪ ،‬قدم مساء األحد ‪ 22‬سبتمبر الماضي قراءة‬ ‫حول موضوع الشعر وجمهوره خالل محاضره أقامها مركز سلطان بن زايد للثقافة واإلعالم‬

‫املحارضة‬

‫التي جاءت تحت عنوان «تساؤالت‬ ‫حول الشعر وجمهوره» طرحت‬ ‫العديد من اإلشكاليات واملسائل املتعلقة بعالقة الشعر‬ ‫بالجمهور كام أثارت نقاشا طويال حول قضية غياب‬ ‫الجمهور واختالف اهتامماته‪ ،‬وحرضها عدد من الشعراء‬ ‫واالدباء اإلماراتيني والعرب املقيمني يف الدولة ووسائل‬ ‫اإلعالم ‪.‬‬ ‫وقال الشاعر عبدالله أبوبكر يف تقدميه للمحارض «إن‬ ‫املنصف املزغني شاع ٌر ُ‬ ‫يطلق رصاص‬ ‫يعرف أي َن َ‬ ‫وكيف ُ‬ ‫ْ‬ ‫القول‪ ،‬ليحيي العبارةَ‪ ،‬ويلقي بالدهشة واالبتسامة بيننا‪.‬‬ ‫هو ساخ ٌر فذ‪ ،‬وساح ٌر يجمع الكالم بني يديه‪ ،‬ليصنع منه‬ ‫ما يريد‪ ،‬فال عجب من جامهرييته الواسعة تلك‪ ،‬ومن‬ ‫حضوره املتفرد‪ ،‬وهو الشاعر الحكّاء‪ ،‬الباحث عن الحكاية‬ ‫يف كل مكان يذهب إليه»‪.‬‬ ‫واستهل املنصف املزغني محارضته بشكر سمو الشيخ‬ ‫سلطان بن زايد آل نهيان ممثل صاحب السمو رئيس‬

‫الدولة رئيس املركز حفظه الله‪ ،‬عىل جهوده الثقافية‬ ‫الكبرية‪ .‬لينتقل بعذ ذلك إىل الحديث عن الشاعر املتعلم‬ ‫وغربة الشاعر الفصيح مع جمهوره ويقصد بالجمهور‬ ‫املتلقي عرب األساليب املتعددة ‪.‬‬ ‫كام أشار إىل مسألة الفهم والتذ ّوق‪ ،‬ودورهام يف‬ ‫استقطاب جمهور الشعر‪ ،‬مقارناً يف الوقت نفسه بني‬ ‫حدود انتشار الشعر الفصيح والشعبي‪ ،‬ومعتربا ً “أن‬ ‫الشاعر الفصيح يتفوق عىل الشاعر الشعبي من حيث‬ ‫اتساع رقعة الجمهور املمتدة عىل امتداد ما يوحد أرض‬ ‫اللغة العربية منذ الشعر الجاهيل‪ ،‬وإذا ظل الشاعر‬ ‫الشعبي ذا انتشار يف حيزه الجغرايف فإنه غري مضمون‬ ‫التواصل خارج زمانه بفعل ما يطرأ عىل اللغة من‬ ‫مدلوالت جديدة‪ ،‬واستثنى من ذلك الشاعر الشعبي‬ ‫املرصي عبدالرحمن األبنودي الذي يحظى برقعة انتشار‬ ‫واسعة يف الوطن العريب‬ ‫وتطرق املزغني إىل نوعني آخرين من الشعراء‪ ،‬وهام‬ ‫شاعر التفعيلة وشاعر قصيدة النرث‪ ،‬وأكد أنهام يعانيان‬ ‫من انعدام التواصل مع الجمهور‪ ،‬وأكد أن شاعر قصيدة‬ ‫النرث جاء فوجد أسئلة احتجاجية أمامه‪ ،‬وأشار إىل أن‬ ‫التجديد الشعري باب مل يغلق بعد‪ ،‬وأن الجمهور يسأل‬ ‫الشاعر ملاذا تكتب ما ال يفهم فيجيب الشاعر‪ :‬ملاذا ال‬ ‫تفهم ما يُكتب ‪.‬‬ ‫وأشار إىل دور الصحافة يف توصيف العالقة بني الشاعر‬ ‫وجمهوره وهناك شعراء يحيون الجمهور فردا ً فردا ً لقلة‬ ‫عدد الحارضين كون القاعة قد امتألت باملقاعد الفارغة ‪.‬‬ ‫واعترب املزغني الجمهور إطارا ً ميكن أن تدربه الثقافة‬ ‫الشعرية وتعوده عىل استقبال األداة الشعرية‪ ،‬وأكد أن‬ ‫األمايس أصبحت رتيبة إال من كونها مكابرة وإرصارا ً عىل‬ ‫الخطأ‬ ‫‪issue (6)- November - 2012‬‬

‫‪161‬‬


‫كاميرا‬

‫عدسة املصور محمد حيمورة‬


163

issue (6)- November - 2012


‫‪164‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )6‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪2012/‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.