تأملات حول قرطبة في القرن الحادي والعشرين / Reflections on Qurtuba in the 21st Century

Page 1





‫ ‬ ‫مقدمة‬ ‫إدواردو لوبيث بوسكيتس‬

‫‪3‬‬

‫ ‬ ‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬ ‫بيري غيشار‬

‫‪5‬‬

‫ ‬ ‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬ ‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫‪31‬‬

‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية ‬ ‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫‪85‬‬

‫ ‬ ‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬ ‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫‪113‬‬

‫ ‬ ‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬ ‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫‪141‬‬



‫[‪ ]..‬وتُ َق َّدر ما إن تقرأ الالفتة الصغرية التي تشري لكونها مقلمة أندلسية من‬ ‫مطلع القرن الحادي عرش أنها ال بد من عاج قرطبة‪ ،‬فتأتيك كلمة قرطبة‬ ‫كعادتها‪ ،‬بصخب يجتاح الذاكرة يغلب حواسك الخمس‪( .1‬رضوى عاشور)‪.‬‬

‫من خالل هذا العدد الجديد من مجلة «أوراق» يود البيت العريب أن يؤكد عىل الواقع‬ ‫االستثنايئ الذي يجعل من قرطبة مدينة خارج الزمن‪ .‬ذلك أن مجرد ذكر اسمها يشيع انطباعاً أولياً‬ ‫تجريدياً‪ ،‬يستدعي أحاسيس المتناهية‪ ،‬وصورا ً ذهنية تتجاوز الحدود الزمانية واملكانية املعروفة‬ ‫لتخلف بصمة عن حارضها‪ ،‬عن تاريخها‪ ،‬ورمبا وهذا هو األهم‪ ،‬عام ميكن للمدينة أن تكون عليه‪.‬‬ ‫هذا الواقع‪ ،‬إىل جانب كون املدينة رائدة يف صالتها بكل ما هو عريب عىل مر تاريخها‪ ،‬قد‬ ‫حفز البيت العريب عىل فكرة إصدار دراسة متخصصة مكرسة للحديث عن تاريخها األندليس‬ ‫وحارضها املعارص‪.‬‬ ‫هدفنا ليس هو السعي لتقيص مسار استمراريتها التاريخية‪ ،‬إذ ال عالقة الستعراب املايض‬ ‫بالواقع الراهن باستثناء أن ذلك املايض يلهم يف جزء منه النظرة االسرتجاعية التي تتخلق من‬ ‫هذه املدينة ومن تراثها العريب اإلسالمي‪.‬‬ ‫الدراسات الخمس التي رفدنا بها متخصصون يف مختلف العلوم والتي ضمتها دفتا هذا‬ ‫الكتاب تحدثنا عن ذلك املايض عرب الحارض‪ ،‬من خالل التأمالت املتمعنة حول قرطبة يف القرن‬ ‫الحادي والعرشين من منظور علمي موضوعي‪.‬‬ ‫إدواردو لوبيث بوسكيتس‬ ‫مدير عام البيت العريب‬ ‫‪ 1‬رضوى عاشور (‪« ،)2011‬مقلمة أندلسية»‪ ،‬من كتاب «تأمالت ىف الفن اإلسالمى»‪ ،‬أهداف سويف‪ .‬الدوحة (قطر)‪ ،‬لندن‪:‬‬ ‫متحف الفن اإلسالمي‪ ،‬دار بلومزبري‪-‬مؤسسة قطر للنرش‪ ،‬ص ‪96.‬‬



‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬ ‫بيري غيشار‬ ‫قرطبة شأنها شأن غرناطة رغم اختالف األسباب هي إحدى «املدن األسطورية» التي يرتدد‬ ‫اسمها عادة عىل امتداد ضفتي البحر األبيض املتوسط يف إطار العالقات األوروبية العربية‬ ‫املتسمة بالفوىض‪ .‬وت ُعد قرطبة رمزا ً لعرص ذهبي و «تعايش» بني ثقافات وأديان أردنا له‬ ‫أن يكون منوذجاً لعرصنا هذا‪ .‬لكنه يف بعض الحاالت يغدو محض صورة كاريكاتريية‪ ،‬فقد‬ ‫استمعت يف حوار حول الحضارة األندلسية أقيم يف الجزائر عام ‪ 2007‬إىل أحد املحارضين‬ ‫وهو يقول –بطبيعة الحال دومنا إشارة ألي مصدر– إن الطالب كانوا يفدون من كافة أرجاء‬ ‫أوروبا إىل قرطبة يف عهد األمري األموي عبد الرحمن األول (‪ )788-756‬يك ينهلوا من العلوم‬ ‫العربية‪ .‬ومن املعروف أيضاً أن مسألة استعادة األندلس وقرطبة هي إحدى اليوتوبيات‬ ‫املحفزة لحركات إسالمية أصولية معروفة‪ .‬ويف أوروبا نفسها من السهل العثور عىل إشارات‬ ‫إىل «حضارة ]أندلسية[ براقة ازدهرت فيها املدن بسبب رواج التجارة والفنون وكانت فيها‬ ‫رصوح عظيمة وحدائق غناء احتضنت الشعراء واملوسيقيني واملفكرين والعلامء والفقهاء‬ ‫واملتصوفة من األديان الثالثة» وتجدر اإلشارة بشكل خاص إىل جو التسامح الذي اتاح للغات‬ ‫واملعتقدات املختلفة فرصة االختالط والقبول املتبادل‪ .1‬وهذا التزيني الفردويس إىل حد ما هو‬ ‫الذي دفع الصحفي الفرنيس جان دانييل يف مقالة نرشها يف «نوفيل أوبرسفاتور» يف أكتوبر‪/‬‬ ‫ترشين األول من عام ‪ 1994‬وهو يعرض للقرن العارش يف شبه جزيرة إيبرييا إىل التحدث عن‬ ‫«األندلس املقدسة» التي سادتها طوال ستني عاماً تقريباً هذه الظاهرة املدهشة واملذهلة‬ ‫التي يطلق عليها «روح قرطبة»‪.‬‬ ‫‪ 1‬حسب مقدمة ميشيل زنك لعمل ماريا روسا مينوكال (‪،)2003( )María Rosa Menocal‬‬ ‫‪L’Andalousie arabe: une culture de la tolérance, VIIIe-XVe siècle. París: Autrement, p. 5.‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫من نافلة القول إن بوسع املرء أن يتقىص األمور التي تنتمي إىل حقبتنا بشكل أفضل مام‬ ‫ميكن له أن يفعله عندما يتعلق األمر بأحداث املايض‪ .‬بيد أن األساطري ذاتها التي تشكل جزءا ً‬ ‫من التاريخ املعارص ليست محض هراء‪ .‬كام أنه ال ينبغي مقاومتها عىل نحو عبثي من خالل نرش‬ ‫املزيد من «األكاذيب» التي تنطوي عليها كام هو الحال مع بعض مواقع اإلنرتنت التي تزعم‬ ‫تكذيب أسطورة «التعايش» األندليس‪ .‬ولو تسنى االطالع عىل إحداها عىل سبيل املثال وعنوانها‬ ‫«تاريخ وأسطورة‪ :‬األندلس اإلسالمية» ‪ Histoire et mythe: l’Andalousie musulmane‬فإننا‬ ‫سنتيقن دومنا دهشة كبرية –ولو أننا سنقف متحريين بعض اليشء– من كونها تعج باألخطاء‬ ‫التاريخية‪ ،‬إذ من خالل حرصها عىل إضفاء صفة النسبية عىل القطيعة «الجيوسياسية» للبناء‬ ‫األموي الذي كان يتمدد صوب بالد املغرب‪ ،‬مل ترتدد يف التوكيد عىل أن املغرب شكل جزءا ً من‬ ‫إسبانيا القوطية‪ ،‬ويف الحديث عن قرطبة تحديدا ً تورد بأن مكتبة الخالفة الشهرية كانت «قد‬ ‫ُورثت عن القوط»‪ .‬وبخصوص موضوع التسامح الذي يُنسب إىل الحضارة األندلسية فثمة‬ ‫توكيد‪ ،‬دومنا اعتامد عىل أي مصدر‪ ،‬بأن مسيحيي قرطبة كانوا ضحايا مذبحة وقعت يف عام‬ ‫‪ 796‬ميالدية‪ .2‬لذا سنحاول يف هذا النص الحفاظ عىل نوع من التوازن بني وجهة نظر مثالية يف‬ ‫الغالب عىل نحو مبالغ فيه حتى باتت أشبه بـ «سري القديسني» (كام يف إشارة جان دانييل إىل‬ ‫قرطبة أعاله حني تحدث عن «األندلس املقدسة») ووجهة نظر أخرى وضعية جافة وصادمة‬ ‫إذ «تلغي الهالة األسطورية» وتركز فقط يف «املناطق املعتمة» التي ترتبط بالرضورة بالعصور‬ ‫الذهبية األكرث شهرة يف تاريخ البرشية‪.‬‬ ‫ومن خالل الرتكيز عىل التاريخ أكرث منه عىل األسطورة فإن أول ما ينبغي لنا فعله هو‬ ‫االعرتاف‪ ،‬عىل غرار ما فعله جان دانييل يف الفقرة املذكورة أعاله‪ ،‬بأن االزدهار الرمزي لخلفاء‬ ‫قرطبة يف القرن العارش وعاصمتهم الكبرية ذائعة الصيت مل يدم أكرث من عدة عقود وأن املدينة‬ ‫مل تسرتد عظمتها وصيتها اللذين متتعت بهام يف النصف الثاين من القرن العارش‪ .‬ومع ذلك فمن‬ ‫املهم أن ندرك ما مثلته قرطبة عندما أطلقت عليها شاعرة جرمانية يف تلك الحقبة تسمية «زينة‬ ‫العامل»‪ ،3‬ولكن ينبغي أيضاً أن نرى كيف حققت قرطبة هذا الرقي وما آل إليه حال املدينة الحقاً‪.‬‬ ‫‪ 2‬أنظر‪:‬‬ ‫_‪Le Messie et son Prophète, http://www.lemessieetsonprophete.com/annexes/Al-Andalus_histoire‬‬ ‫‪et_mythe.htm‬‬ ‫‪ 3‬نص يشار إليه كثريا ً للكاتبة الدينية الساكسونية هروسويثا غندرشيم‪ ،‬أنظر إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال (‪Évariste Lévi-‬‬ ‫‪،)1999( )Provençal‬‬ ‫‪Histoire de l’Espagne musulmane: le siècle du califat de Cordoue. París: Maisonneuve et Larose, t. iii, p. 383.‬‬

‫‪8‬‬


‫بيري غيشار‬

‫يف النص املشار إليه أعاله‪ ،‬املنشور يف اإلنرتنت الذي يزعم نسبية ازدهار قرطبة اإلسالمية‬ ‫نجد أنه يلح عىل أن هذه املدينة‪ ،‬املقر املستقبيل لخالفة الغرب العظيمة‪ ،‬كانت قبل وصول‬ ‫اإلسالم «مدينة أسقفية ذات حيوية كبرية»‪ .‬حقاً أنها كانت مدينة أسقفية مثلها مثل مدن‬ ‫كثرية يف إسبانيا القوطية لكن ال توجد أدلة كثرية عىل «حيويتها الكبرية»! يف حني كانت هناك‬ ‫أدلة أكرث يف القرن السابق لدخول املدينة دار اإلسالم عىل وجود نوع من الحيوية الثقافية‬ ‫واملعامرية يف طليلطة‪ ،‬عاصمة اململكة‪ ،‬ويف ماردة وإشبيلية وكلتاهام كانتا مقرين حرضيني‬ ‫كبريين‪ .‬والواقع أنه بدءا ً بعام ‪ 1990‬اكتشف علامء اآلثار شامل غريب املركز التاريخي للمدينة‪،‬‬ ‫يف موقع ثريكادييا بجوار محطة القطار والحافالت‪ ،‬مجمع قصور إمرباطوري يعود إىل نهاية‬ ‫القرن الثالث أو بداية الرابع ورمبا شغله أساقفة قرطبة يف وقت الحق‪ ،‬إال أن هذا املجمع‬ ‫اختفى وفقد صفته هذه يف القرن السادس عندما أدى تقليص الفضاء الحرضي إىل نقل‬ ‫األساقفة إىل ضفاف نهر الوادي الكبري مبحاذاة قرص الحكام القوطيني‪.4‬‬ ‫قرطبة مل تكن الهدف الرئيس للغزو اإلسالمي األول يف عام ‪711‬م‪ .‬فقد توجهت قبالً‬ ‫قوات أول غازٍ‪ ،‬وهو القائد الرببري طارق بن زياد‪ ،‬نحو طليطلة عاصمة اململكة واكتفت‬ ‫بإرسال كتيبة قوامها ‪ 700‬فارس لالستيالء عىل قرطبة‪ .‬هذا وتُروى ظروف االستيالء عىل قرطبة‬ ‫بتفصيل غري معتاد يف املصادر العربية ورمبا كان ذلك ألن األحداث املتعلقة بسقوط عاصمة‬ ‫األندلس قد ُحفظت بشكل أفضل من تلك املتعلقة مبدن أخرى‪ .‬لقد استغل الغزاة ثغرة يف‬ ‫السور قرب باب «القنطرة» وتم تحييد املدافعني عنه يك يتمكنوا من دخول املدينة واالستيالء‬ ‫عليها وأجربوا الحاكم القوطي عىل الخروج منها عرب بوابة إشبيلية ليلجأ مع خمسامئة رجل‬ ‫إىل الكنيسة الخاصة بالقديس أثيسكلو الواقعة خارج األسوار‪ .‬وقد صيغت فرضية مفادها أن‬ ‫هذا املبنى األخري كان موجودا ً يف موقع ثريكادييا املشار إليه‪ .‬وفعالً كان رضباً من البناء املتني‬ ‫وبحالة جيدة وقد متكن من مقاومة الحصار الذي فرضه املسلمون لثالثة أشهر‪.5‬‬ ‫تتفق املصادر العربية عىل أن القنطرة الرومانية املقامة عىل نهر الوادي الكبري كانت‬ ‫‪ 4‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Vicente Salvatierra Cuenca y Alberto Canto García (2008). Al-Andalus: de la invasión al Califato de‬‬ ‫‪Córdoba. Madrid: Síntesis, p. 132.‬‬ ‫هناك الكثري من الدراسات بخصوص تنقيبات ثريكادييا‪.‬‬ ‫‪ 5‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Cyrille Aillet (2010). Les mozarabes: christianisme, islamisation et arabisation en Péninsule Ibérique‬‬ ‫‪(IXe-XIIe siècle). Madrid: Casa de Velázquez, p. 79.‬‬

‫‪9‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫مهدمة جزئياً األمر الذي سمح بافرتاض تداعي حالة املدينة ومحيطها‪ .‬وعىل أية حال مل تكن‬ ‫قرطبة بل إشبيلية هي املدينة التي اختارها موىس بن نصري عاصمة للمحافظة الجديدة‬ ‫ومعروف أن ابن نصري الذي كان حاكام عىل القريوان هو من كان عىل رأس قوات الغزو يف عام‬ ‫‪712‬م‪ .‬وحني استدعاه الخليفة إىل دمشق يف عام ‪ 714‬أقام ابنه عبد العزيز يف إشبيلية بعد أن‬ ‫عهد إليه بإدارة املحافظة الجديدة قبل أن يُقتل يف عام ‪– 716‬وكان ذلك حسب بعض املصادر‬ ‫بتواطؤ سلطة الخالفة– عىل يد بعض القادة العرب من محيطه بسبب التقاليد «امللكية»‬ ‫التي تجرأ عىل اتخاذها أو رمبا بسبب الخالفات السياسية األمر الذي يصعب التكهن مبعرفة‬ ‫طبيعته عىل وجه التحديد‪.6‬‬ ‫استمر الحاكم املؤقت الذي توافقت عليه أركان القيادة يف أداء مهامه حوايل ستة أشهر‬ ‫يخل األمر من الصعوبات‪ .‬وال بد من أن نظاماً مركزياً عىل غرار نظام الخالفة يف‬ ‫فقط ومل ُ‬ ‫عي ال ُحر‬ ‫دمشق قد حاول السيطرة عىل املحافظة بأقىص قدر ممكن من الحزم لذا رسعان ما ّ‬ ‫بن عبد الرحمن الثقفي والياً وذلك وفقاً لرتاتبية منزلته‪ .‬وكان هذا الحاكم الثالث هو من‬ ‫قرر اإلقامة يف قرطبة‪ .7‬وعىل ما يبدو فإن تفسري بدرو تشامليطا لقرار الح ّر هذا كان منطقياً‪:‬‬ ‫فقد وصل عىل رأس قوة عسكرية قوية (رمبا عدة آالف من الرجال) وكانت رغبته تكمن‬ ‫يف التحرر من تأثري ال ُجند املقيمني يف إسبانيا ورمبا يف إشبيلية ومنطقة نفوذها املحيطة بها‪،‬‬ ‫وكذلك التحرر من العنارص الرببرية التي أىت بها عبد العزيز بن موىس إىل شبه الجزيرة للدفاع‬ ‫عن سياسته عىل ما يبدو‪ .‬ويف قرطبة ال بد له من أن يكون قد متتع بحرية أكرب ليفرض بعض‬ ‫اإلجراءات الخاصة بتنظيم الوضع اإلقليمي والرضيبي للمحافظة‪.8‬‬ ‫بهذا املعنى كان ال ُح ّر خالل سنوات حكمه الثالث حاكامً نشطاً واصل أيضاً الحرب املقدسة‬ ‫إىل ما وراء جبال الربانس يف سبتامنيا القوطية القدمية وإىل جنويب بالد الغال الفرنسية‪ .‬تاله‬ ‫حكام لبثوا لفرتات قصرية دون أن يتعرض للتغيري وضع قرطبة التي غدت بشكل نهايئ عاصمة‬ ‫‪ 6‬أنظر بيدرو تشامليطا (‪،)2003( )Pedro Chalmeta‬‬ ‫‪Invasión e islamización: la sumisión de Hispania y la formación de al-Andalus. Jaén: Universidad de‬‬ ‫‪Jaén, pp. 246-247.‬‬ ‫‪ 7‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪ ،254‬باالستناد إىل غالبية املصادر‪« :‬العمل األول للحاكم الجديد نقل العاصمة من إشبيلة إىل قرطبة»‪.‬‬ ‫‪ 8‬نجهل ما إذا كانت املنافسات بني «الفصائل القبلية» التي ستهز األندلس وكل الخالفة بعد زمن وجيز كان لها دور يف هذه‬ ‫األحداث‪ .‬من املهم أخذ هذا املوضوع يف سياق املناظرات حول «األحزاب» و «الفصائل القبلية» التي كانت متواجهة يف‬ ‫خالفة دمشق (انطالقاً من النظريات التي صاغها محمد عبد الحي شعبان (‪ ،)1971‬أنظر عىل وجه الخصوص الصفحات‬ ‫‪ 120‬والصفحات التالية)‪.‬‬ ‫‪Islamic History: a New Interpretation (A. D. 600-750, A. H. 132). Cambridge: University Press.‬‬

‫‪10‬‬


‫بيري غيشار‬

‫ملحافظة اإلسالم الجديدة‪ .‬ومنذ تلك اللحظة حدثت تطويرات حرضية مهمة تتسق مع ذلك‬ ‫السمح الذي أمر بإصالح‬ ‫الدور‪ .‬وهكذا كام هو معروف حل حاكم آخر محل ال ُح ّر هو َّ‬ ‫القنطرة بأحجار كبرية من السور‪ ،‬ثم رمم السور بقطع اآلجر العادي‪ .‬ومن ناحية أخرى أمر‬ ‫بإنشاء مقربة «الربض»‪ 9‬عىل الشاطئ األيرس للنهر عىل أر ٍ‬ ‫اض تخص امللكية العامة‪.‬‬ ‫قد يتناهى إىل تفكرينا أن هؤالء الحكام بدأوا سنتئذ بوضع املقومات التي تشكل «املدينة‬ ‫اإلسالمية» إال أن هذه املقومات ال تذكر إال عرضاً يف نصوص ترسد بعض األحداث السياسية‬ ‫–العسكرية‪ .‬وقد انتهى الربع الثاين من القرن الثامن يف األندلس بعقد من الحروب األهلية‬ ‫وكان هذا الوضع منسجامً مع املناخ العام لألزمة التي لحقت بدولة الخالفة يف دمشق قبل‬ ‫سقوطها عام ‪ .751‬وتشري املصادر املتعلقة بتلك الفرتة عىل سبيل املثال إىل وقعة شقندة‬ ‫التي وقعت عام ‪ 747‬بني فريقني عربيني (اليامنيون والقيسيون أو «عرب الشامل») عىل‬ ‫مشارف قرطبة‪ ،‬وعندما رأى قائد هؤالء األخريين نفسه يف موقف حرج قلب موازين القوى‬ ‫بوساطة «صاحب السوق» أو املسؤول عن السوق يف العاصمة وصناع سوق قرطبة‪ .‬فقد‬ ‫حرض أربعامئة منهم مجهزين بالعيص والرماح وسكاكني الجزارة وقُ ّدر للقيسيني النرص عىل‬ ‫خصومهم وكان كال الفريقني قد أنهِك بعد يوم من العراك‪ .‬غري أن الرواية نفسها التي تسمح‬ ‫بافرتاض تنظيم سوق قرطبة عىل أساس القواعد املستقاة من الفكر القانوين‪-‬الديني الجديد‬ ‫الصميل‪ ،‬قام بقتل القادة اليامنيني املقبوض عليهم وذلك بعد‬ ‫تشري أيضاً إىل أن قائد القيسيني‪ُّ ،‬‬ ‫ان جمعهم يف كنيسة داخل املدينة‪ .10‬وتؤكد املصادر العربية عىل أن هذه الكنيسة كانت يف‬ ‫املكان الذي أقيم فيه الحقاً مسجد قرطبة‪ .11‬ويف حالة قبول هذا الرأي‪ ،‬كام تردد غالباً‪ ،‬فإنه‬ ‫سيطرح مشكلة صغرية‪ ،‬إذ تبعاً ملصدر آخر متأخر نجد أن تلك الكنيسة الخاصة بالقديس‬ ‫بيثنته كانت هي الكاتدرائية نفسها املذكورة يف فرتة الغزو العريب التي تشاطرها املسيحيون‬

‫‪ 9‬أنظر إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال (‪،)1999‬‬ ‫‪Histoire de l’Espagne musulmane: la conquête et l’émirat hispano-umaiyade: 710-912. París:‬‬ ‫‪Maisonneuve et Larose, tomo i, p. 39 [primera edición en (1950). París, Leiden: Maisonneuve, Brill].‬‬ ‫‪ 10‬أنظر بيدرو تشامليطا (‪،)2003‬‬ ‫‪Invasión e islamización: la sumisión de Hispania y la formación de al-Andalus. Op. Cit., pp. 340-341.‬‬ ‫‪ 11‬أنظر أميليو الفوينته إي الكانتارا (‪« ،)1867( )Emilio Lafuente y Alcántara‬أخبار مجموعة»‪:‬‬ ‫‪Ajbar Machmua (colección de tradiciones). Madrid: Imprenta y Estereotipia de M. Rivadeneyra, p. 65:‬‬ ‫«يف إحدى الكنائس التي كانت تقع يف الجزء الداخيل من قرطبة حيث يوجد املسجد الكبري»‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫واملسلمون حينذاك‪ ،‬وكان املسلمون يستخدمونها إلقامة صالة الجمعة فيها‪ .12‬من هنا يصعب‬ ‫علينا قبول فكرة أن هذا املبنى –أو عىل األقل جزء منه– الذي كان يقوم بدور املسجد‬ ‫الرئيس يف قرطبة يكون مرسحاً لتقتيل القادة اليامنيني‪ .‬إال أن األمور تغدو أكرث منطقية يف‬ ‫ضوء النظريات املستندة إىل نتائج حفريات مسجد قرطبة يف العقد األخري‪ ،‬فهي تؤكد عىل أن‬ ‫هذا املكان مل يكن فقط يضم الكنيسة الكبرية التي هدمها عبد الرحمن األول يف نهاية القرن‬ ‫الثامن من أجل بناء املسجد الجديد بل كان عبارة عن مجمع مبان عائد لألسقفية‪ .13‬ويف هذه‬ ‫الحالة فمن املنطقي متاماً القبول بفكرة أن املسيحيني قد حافظوا عىل أحد املباين يف حني قام‬ ‫املسلمون بتحويل املبنى اآلخر إىل مسجد‪.‬‬ ‫من املهم اإلشارة إىل هذا التالقي النسبي بني النصوص التاريخية واملعلومات األثرية األمر الذي‬ ‫يسمح لنا بتقيص إمكانية توسيع معارفنا بعض اليشء بخصوص تلك الحقبة االنتقالية املمتدة ما‬ ‫بني نهاية اململكة القوطية وبداية اإلمارة األموية يف قرطبة‪ .‬ومع ذلك فابتداء فقط من فرتة والية‬ ‫«املهاجر» املرشقي عبد الرحمن األول الذي وصل هرباً من املذبحة التي تعرضت إليها أرسته عىل‬ ‫يد العباسيني يف املرشق‪ ،‬هؤالء الذين قضوا عىل دولة الخالفة يف دمشق (‪ )751‬وكانوا يوشكون عىل‬ ‫إقامة دولتهم يف بغداد‪ ،‬استجد الشعور بهذا البعد السيايس والثقايف الجديد واملتنامي للعاصمة‬ ‫الذي راحت تكتسبه قرطبة شيئاً فشيئاً‪ .‬كان واضحاً أن هدف األمري األموي الشاب لدى عبوره من‬ ‫بالد املغرب إىل إسبانيا يف عام ‪756‬م هو االستيالء عىل املدينة باالستعانة مبوايل أرسته من املقيمني‬ ‫يف األندلس‪ ،‬وكان قد انضم إليهم توا ً عدة آالف من املحاربني اليامنيني الغاضبني من خضوعهم‬ ‫لسلطة كانت متثل القيسيني الذي سيطروا عىل كل يشء إثر الرصاعات القبلية التي وسمت فرتة‬ ‫الصميل‬ ‫منتصف القرن‪ .‬ثم ُهزم الحاكم يوسف الفهري و «رجله وموضع ثقته» الزعيم القييس ُّ‬ ‫عىل أبواب قرطبة واستوىل القائد األموي عىل قرص الحكم وسعى يك يبايعه أهل قرطبة‪.‬‬ ‫‪ 12‬أنظر إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال (‪،)1999‬‬ ‫‪Histoire de l’Espagne musulmane: le siècle du califat de Cordoue. Op. Cit., tomo iii, p. 386.‬‬ ‫‪ 13‬أنظر إىل أعامل بدرو مارفيل رويث (‪ ،)2001( )Pedro Marfil Ruiz‬عىل سبيل املثال «التخطيط الحرضي لقرطبة»‪ ،‬كتاب‬ ‫ملاريا خيسوس بيغريا مولينس وكونثبثيون كاست ّيو كاست ّيو (منسقتا الكتاب)‪ :‬و «ازدهار أمويي قرطبة‪ :‬الحضارة اإلسالمية‬ ‫يف أوروبا الغربية»‪ .‬معرض يف مدينة الزهراء‪ ،‬من ‪ 3‬مايو‪ /‬أيار لغاية ‪ 30‬سبتمرب‪ /‬أيلول ‪ :2001‬دراسات‪ .‬غرناطة‪ :‬مستشارية‬ ‫الثقافة‪ ،‬بواسطة مؤسسة الرتاث األندليس‪ ،‬ص ‪ .371-360‬و «علم اآلثار يف جامع قرطبة»‪:‬‬ ‫‪http://www.ciberjob.org/suple/arqueologia/mezquita/mezqui.html‬‬ ‫أنظر أيضاً املالحظات يف سوسانا كالبو كابيّا (‪« ،)2007( )Susana Calvo Capilla‬مساجد األدلس األوىل من خالل‬ ‫املصادر العربية ‪ ،»)785/170 –711/92‬القنطرة‪ ،)1( 28 ،‬ص ‪ 166‬ومايليها‪.‬‬ ‫‪«Primeras mezquitas de al-Andalus a través de las fuentes árabes (92/711-170/785)», Al-Qantara, 28‬‬ ‫‪(1), pp. 166 y ss.‬‬

‫‪12‬‬


‫بيري غيشار‬

‫لقد سمحت فرتة حكم عبد الرحمن الطويلة (‪ )788-756‬للعاهل الجديد أن يؤسس يف‬ ‫قرطبة ألرسة حاكمة تقوم رشعيتها عىل تاريخ الخالفة يف املرشق (كان أمويو قرطبة يقولون حتى‬ ‫من قبل سعيهم للخالفة بإنهم «بنو خالئف»)‪ .‬وال ريب يف أن استقرار الدولة كان ال يزال بعيد‬ ‫املنال وكان الجزء األكرب من حكمه سيكرسه للحروب الداخلية الرضوس ضد مؤيدي الحكومة‬ ‫السابقة والعنارص القبلية اليامنية الساخطة إليصال «عريب من الشامل» إىل سدة السلطة‪ ،‬وكذلك‬ ‫لقمع االنتفاضة الدينية الرببرية يف وسط شبه الجزيرة األيربية‪ .‬ويف هذه املرحلة التي كان عىل‬ ‫األموي األول أن يصارع خاللها برشاسة من أجل البقاء يف السلطة كان من الصعب السيطرة عىل‬ ‫األطراف‪ .‬وهكذا فقد انفجرت اضطرابات مؤيدة للعباسيني يف باجة (‪ )763‬وبلنسية (‪.)777‬‬ ‫وما حدث يف بلنسية له صلة بحركات انشقاق الزعامء العرب الذين سيطروا آنذاك عىل وادي‬ ‫إبرة وكانوا وراء حملة شارملان الشهرية عىل رسقسطة عام ‪ .778‬ومل تؤد تلك السلسلة املتالحقة‬ ‫من الثورات املحلية سوى إىل تجذر السلطة «عميقاً» يف قرطبة‪ ،‬هذه السلطة التي تأسست يف‬ ‫املدينة من خالل آخر أحفاد األرسة األموية املتحدرة من قبيلة قريش‪ ،‬وبدعم الكثري من مواليها‬ ‫الذين شكلوا «الحلقة األوىل» لبسط نفوذها يف األندلس وسوف يشكلون عىل مدى فرتة حكم‬ ‫اإلمارة كلها «النواة الصلبة» لـ (الدولة) القرطبية‪ .14‬وعىل هذا األساس شهدنا عملية إعادة تشكيل‬ ‫للعاصمة ال نعرف تفاصيلها عىل وجه الدقة لكن مالمحها بصفة عامة ال تدع مجاالً للشك يف‬ ‫أن «أرستقراطية الدولة» القوية هذه تتمتع مبمتلكات أرستقراطية يف املدينة وبشكل خاص يف‬ ‫املناطق املحيطة بها‪ ،‬وقد استخدمت الضيعات الغنية «كنقاط انطالق» لتشكل األحياء واألرباض‬ ‫التي راحت تتوسع رسيعاً‪ .‬وخري مثال عىل ذلك هو «بالط املغيث» املوىل األموي الذي قاد يف‬ ‫سنة ‪ 711‬القوات التي استولت عىل قرطبة‪ ،‬وكان قد تسلم قطعة أرض كبرية خارج األسوار ما‬ ‫سمح بتطوير أحد األرباض الرئيسة يف العاصمة بجوار الجهة الغربية من قرص األمري مبارشة‪.15‬‬ ‫وكان بنو املغيث يف نهاية القرن الثامن وبداية القرن التاسع ميثلون واحدة من األرس العريقة‬ ‫التي قدمت للدولة رجاالً شغلوا أرفع املناصب فيها‪ .‬ومثة جزء من كتاب «املقتبس» البن حيان‬ ‫‪ 14‬أنظر إىل رسالة محمد مواك (‪،)1999‬‬ ‫‪Pouvoir souverain, administration centrale et élites politiques dans l’Espagne umayyade (IIe-IVe/VIIIe‬‬‫‪Xe siècles). Helsinki: Academia Scientiarum Fennica.‬‬ ‫‪ 15‬أنظر إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال (‪،)1999‬‬ ‫‪Histoire de l’Espagne musulmane: le siècle du califat de Cordoue. Op. Cit., tomo iii, pp. 375-376.‬‬ ‫ميكن الحصول عىل تحديد ألحياء قرطبة لدى خوان فرانثيسكو مورييو ردوندو‪ ،‬ماريا تريسا كاسال غارثيا وإلينا كاسرتو ديل‬ ‫ريو (‪ Juan F. Murillo, M. Teresa Casal‬و ‪« ،)2004( )Elena Castro‬مدينة قرطبة‪ .‬مقرتب من عملية تأهيل املدينة‬ ‫األمريية والخليفية عىل أساس املعلومات األثرية»‪ ،‬دفاتر مدينة الزهراء‪ ،5 ،‬ص ‪( 290-257‬أنظر الصورة والخريطة‪ ،‬ص ‪.)285‬‬

‫‪13‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫يتحدث فيه عن عملية النمو والتوسع التي امتدت حول مقر إقامته‪ ،‬ويرشح كيف قام أحد‬ ‫أعضاء األرسة األموية يف أعقاب الغزو‪ ،‬وكان «رئيس» املغيث‪ ،‬بالهجرة يف الوقت نفسه إىل‬ ‫األندلس ليستقر قريبا من مقر إقامة املوايل‪ .16‬ويف هذه الحالة يتبني لنا جلياً كيف تشكل نوع‬ ‫من «تجمع» العائالت القوية حوله وفقاً لبعض آليات املواالة والتبعية االجتامعية لكننا بطبيعة‬ ‫الحال المنلك معلومات كثرية عن هؤالء السكان‪.‬‬ ‫لقد تبلور رمز االستقرار الوطيد للساللة الحاكمة يف قرطبة –وكانت بال شك حديثة العهد‬ ‫يف األندلس لكنها كانت متتلك الصيت الذي نعمت به بحكم أصولها– ممثالً ببناء املسجد‬ ‫العظيم الذي بات «منارة» ساطعة يف الفن اإلسالمي‪ ،‬فقد كان أول بناء ديني رمزي أقيم خارج‬ ‫عاصمة مرشقية وهو ما ُع ّد بداية لتأسيس تقليد فني أندليس‪ .‬وقد بني هذا الرصح الذي‬ ‫رغب األمري األول بتشييده يف عام واحد عىل أنقاض الرواق الذي خلفه دمار عام ‪169‬هـ‪/‬‬ ‫‪785‬م الذي طال املباين القامئة يف املوضع املذكور للكاتدرائية القوطية القدمية وكان بال شك‬ ‫أول مصىل للمسلمني‪ .‬وهذا يربهن عىل مركزية تدابري الخزانة املالية التي كانت تسمح بجبي‬ ‫الرضائب الحكومية يف قرطبة ودرجة التخطيط التي وضعها مهندسون معامريون مجهولون‬ ‫كانوا يعملون يف خدمة األمري ومدى قدرتهم املدهشة عىل التجديد يف الوقت الذي كانوا فيه‬ ‫أوفياء لتقليد األمويني يف دمشق‪.‬‬ ‫وعىل الرغم من أن مسجد قرطبة األموي الكبري قد ُم ِّوه إىل حد ما بفعل عمليات التوسعة‬ ‫الالحقة التي تعرض لها إال أنه خضع للتحليل مئات املرات بحكم كونه أول معلم يتمتع بتقليد‬ ‫جاميل ومعامري مل يفارقه األمراء وال الخلفاء الالحقني للعاهل األموي األول‪ ،‬بل وقاموا بإثرائه‬ ‫أيضاً‪ .‬وعادة ما يُقدم عىل أنه نقطة االنطالق ملا سيتم الحقاً وكان عىل ما يبدو مبثابة «مرشوع‬ ‫خاص باألرسة الحاكمة» ما زال يُدهش كال من مؤرخي الفن والسياح‪ .‬وبديهي أننا هنا لن نقدم‬ ‫وصفا مكرورا ً له عىل نحو ال متناه لكننا سنؤيد رأي ترييسا برييث إيغريا ‪Teresa Pérez Higuera‬‬ ‫التي تصف مستويي األقواس التي تسند السطح بأنها «حل عبقري»‪ .17‬لعل ذكاء املعامريني كان‬ ‫‪ 16‬أنظر ابن حيان القرطبي (‪« ،)2001‬أخبار األمريين الحكم األول وعبد الرحمن الثاين مابني ‪ 706‬و ‪[ 847‬املقتبس ‪.»]II-I‬‬ ‫ترجمة محمود عيل ميك وفدريكو كو ّرينتي‪ ،‬رسقسطة‪ ،‬معهد الدراسات اإلسالمية والرشق األوسط‪ ،‬ص ‪.96‬‬ ‫‪ 17‬أنظر ترييسا برييث إيغريا (‪« ،)2001( )Teresa Pérez Higuera‬جامع قرطبة» يف كتاب ماريا خيسوس بيغريا مولينس‬ ‫وكونثبثيون كاستيّو كاستيّو (منسقتا الكتاب)‪:‬‬ ‫‪La mezquita de Córdoba, en María Jesús Viguera Molins y Concepción Castillo Castillo (coord.). El‬‬ ‫‪esplendor de los omeyas cordobeses: la civilización musulmana de Europa occidental. Exposición en‬‬ ‫‪Madinat al-Zahra, 3 de mayo a 30 de septiembre de 2001: estudios. Op. Cit., pp. 372-379.‬‬

‫‪14‬‬


‫بيري غيشار‬

‫يهدف إىل التوصل إىل بناء مسجد يتطابق متاماً مع مقتضيات العبادة يف اإلسالم ويف الوقت نفسه‬ ‫يشكل منوذجاً معامرياً جديدا ً يصعب من خالله معرفة إىل أي حد تم استلهام التقاليد املعامرية‬ ‫املحلية (كقنوات املياه الرومانية يف إسبانيا بالنسبة لألقواس املتداخلة التي أرشنا إليها توا ً‪ ،‬أما‬ ‫بالنسبة لألقواس التي تأخذ شكل حدوة الفرس يف املستوى السفيل فكانت هناك سابقات متثلت‬ ‫بالكنائس القوطية) أم أنه كان وفياً للنامذج املستقدمة من املرشق (مسجد دمشق الكبري الذي‬ ‫كان فيه أيضاً مستويان متداخالن من األقواس فضال عن القوس الذي يتخذ شكل الحدوة والذي‬ ‫كان حارضا ً يف عدة رصوح بناها األمويون أيضاً يف سورية)‪.18‬‬ ‫كان ورثة العاهل األول لألرسة الحاكمة قد انتهجوا بدقة خط هذا األخري بخصوص‬ ‫العاصمة هذه‪ .‬وهكذا مل تتوقف سلسلة (امل ُنيات) التي كانت تحيط باملدينة عن التوسع‬ ‫واالستزادة مببانٍ جديدة‪ .‬أبرزها كانت تلك الخاصة بهذه األرسة بدءا ً بال ُرصافة الشهرية التي‬ ‫أمر ببنائها عبد الرحمن األول‪ 19‬والتي أخذت اسمها من مقر إقامة سوري كان عزيزا ً عىل‬ ‫أسالفه بشكل خاص‪ .‬وكانت له حكاية مشوقة إذ اشرتاه األمري من زعيم بربري ال بد من‬ ‫أنه امتلك هذا املكان منذ الغزو‪ .20‬ومع ورثته ظهرت منيات أخرى مثل ( ُمنية الناعورة)‬ ‫عىل الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبري يف الجزء السفيل من املدينة وكانت قد شيدت وسط‬ ‫روض غناء عىل يد األمري عبد الله قبل صعوده إىل سدة الحكم يف عام ‪ .888‬وقد جاء اسمها‬ ‫من ناعورة كبرية كانت ت ُروى بواسطتها األرايض ومل تكن سوى واحدة من املنيات التي‬ ‫بناها أعضاء هذه األرسة‪ ،‬ومن بينهم بعض زوجات األمري مثل ُمنية «عجب» التي أسستها‬ ‫إحدى زوجات الحكم األول (‪.)822-796‬‬ ‫‪ 18‬أنظر خوان كارلوس رويث سوثا (‪ ،)2009( )Juan Carlos Ruiz Souza‬والتحليل املهم الذي يقوم به يف «عرش قشتالة‬ ‫واألندلس»‪« .‬االستعارات املعامرية ودرجات االستيعاب‪ .‬الفضاءات والوظائف واللغة الفنية‪-‬الشكلية»‪ ،‬يف‪:‬‬ ‫‪Pierre Toubert y Pierre Moret. Remploi, citation, plagiat conduites et pratiques médiévales (Xe-XIIe siècle).‬‬ ‫;‪Madrid: Casa de Velázquez, pp. 231-257‬‬ ‫يف ص ‪« :236‬الصيغة القرطبية ال ميكن أن تكون أشد من هذا «معارضة للكالسيكية» من خالل زيادة قطر الهيكل‬ ‫كله كلام زدنا االرتفاع‪ ،‬وذلك عىل عكس ما حدث متاماً يف قناة مياه ماردة‪ .‬هنا يكمن أحد الفوارق الكبرية بني العامرة‬ ‫الرومانية واإلسالمية‪ ،‬فإذا كنا قادرين يف األوىل عىل تخمني الهياكل الداعمة بدراسة أسس املباين نظرا ً لخصائصها املنطقية‬ ‫جدا‪ ،‬فإنه يف العامرة اإلسالمية يصبح مستحيالً‪ ،‬إذ من الصعب أن نتصور الجدران املعلقة وقباب مساجد قرطبة أو قرص‬ ‫الحمراء يف غرناطة لو أن كال الرصحني قد احتفظا فقط بأساسيهام»‪.‬‬ ‫‪ 19‬الرصافة كانت مقر اإلقامة املفضل لألمري األول وكانت عىل مسافة تزيد عىل الكيلومرتين من قرطبة‪ ،‬شاميل رشق املكان‪،‬‬ ‫يف التالل األوىل املحيطة بالسهل‪.‬‬ ‫‪ 20‬أنظر إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال (‪،)1999‬‬ ‫‪Histoire de l’Espagne musulmane: le siècle du califat de Cordoue. Op. Cit., tomo iii, p. 374, n. 2.‬‬

‫‪15‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫ولسوء الحظ ال تتوفر لدينا بيانات باألرقام وال دقة يف املعلومات الطوبوغرافية الخاصة‬ ‫بنمو مدينة قرطبة يف فرتة اإلمارة األموية‪ ،‬عىل ما لألمر من أهمية‪ .‬وقد تجىل هذا من‬ ‫خالل حدث تاريخي معروف بقدر ما هو مأساوي ونعني به الثورة الشهرية التي وقعت‬ ‫بربض قرطبة عام ‪ .818‬إذ تثبت هذه الواقعة التي رويت أحداثها عىل نطاق واسع يف‬ ‫املصادر املكتوبة مسألة وجود هذا الحي من أحياء قرطبة‪ ،‬وقد لخص ليفي‪-‬بروفنسال‬ ‫تطوره يف كتابه «تاريخ إسبانيا اإلسالمية» ‪ Histoire de l’Espagne musulmane‬بقوله‪:‬‬ ‫لقد تغري مظهر قرطبة كثريا ً منذ فرتة حكم عبد الرحمن األول‪ ،‬فهذه‬ ‫املدينة املهمة واملزدحمة بالسكان يف أثناء الحقبة القوطية كانت قد‬ ‫احتضنت داخل أسوارها الكثري من العرب القادمني من املرشق أو من‬ ‫إفريقية منذ أن أصبحت عاصمة اإلمارة اإلسبانية األموية إضافة إىل عدد‬ ‫من املغاربيني ذوي األصول الرببرية‪ .‬وقد بنيت أحياء جديدة يف شامل‬ ‫وغرب املدينة‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فمنذ ترميم القنطرة الرومانية املقامة‬ ‫عىل نهر الوادي الكبري عىل يد هشام األول مل يعد مجرى النهر الذي يحيط‬ ‫باملدينة من الجنوب يشكل عقبة بوجه توسعها عىل الضفة اليرسى وقد‬ ‫امتد هناك ربض صاخب ومكتظ بالسكان من شاطئ النهر إىل مشارف‬ ‫ضيعة شقندة املجاورة‪ ،‬أو سيكوندا القدمية‪.‬‬

‫‪16‬‬


‫بيري غيشار‬

‫يف ذلك الربض مل يكن يعيش العامة فقط بل كان هناك الصناع وصغار‬ ‫التجار «املولدون» أو املسيحيون‪ .‬وبحكم قربه من املسجد الكبري وقرص‬ ‫األمري –وكالهام يقع بجانب نهر الوادي الكبري ويفصل بينهام شارع طويل‬ ‫ينتهي بالقنطرة ويدعى بـ «املحجة العظمى»– فضّ ل الكثري من القرطبيني‪،‬‬ ‫ممن كانت وظائفهم أو دراساتهم تتطلب امليض إىل مقر الحكومة أو املبنى‬ ‫الرئيس للعبادة يف املدينة‪ ،‬السكن يف هذا الربض الجنويب إذ بدا لهم أكرث‬ ‫مدعاة للراحة وكان يعيش هناك عىل وجه الخصوص أغلب تالمذة مالك بن‬ ‫أنس من األندلسيني القدامى ممن أضحوا فقهاء بارزين ومؤثرين‪.21‬‬

‫وبرأيي فليس هناك أفضل من اإلشارة إىل مقطع للمؤرخ الكبري لتاريخ إسبانيا اإلسالمية‬ ‫يك نوضح رسعة التغريات وطبيعتها‪ .‬وتطور الربض الجنويب يف قرطبة ليس أكرث من منوذج منو‬ ‫كان له تأثريه بالطريقة نفسها عىل أطراف العاصمة يف الرشق والشامل والغرب باستثناء كون‬ ‫تسلسله التاريخي كان معروفاً بشكل جيد ذلك ألن توسعه توقف عىل نحو مفاجئ بسبب‬ ‫القمع الشديد الذي قام به األمري الحكم األول ضد التمرد الكبري الذي وقع هناك عام ‪818‬‬ ‫والذي أدى إىل تدمريه التام وتعرض سكانه للقتل أو الطرد‪ .‬من الواضح إذا ً أن مدينة قرطبة‬ ‫القدمية قد أحيطت منذ بداية القرن التاسع بأرباض ذات كثافة سكانية عالية ال مجال للشك‬ ‫يف طابعها «اإلسالمي»‪ ،‬وقد مثلت املعارضة املشرتكة بني رجال الدين و «العامة» الحرضية‬ ‫من التجار والصناع بشأن بعض التدابري –خاصة املتعلقة بالرضائب– التي ُع َّدت مجحفة‬ ‫وظاملة بوصفها ال تتسق مع قواعد اإلسالم سبباً للفتنة والثورة‪ .‬كان هذا الحدث كاشفاً لذروة‬ ‫التخطيط الحرضي يف ذلك الوقت بحيث أن القضاء عىل بضعة آالف من السكان املتمردين مل‬ ‫يكن له سوى تأثري مؤقت عىل منو املدينة مبجملها‪.22‬‬ ‫ويف أوج تطور عهد اإلمارة‪ ،‬يف ظل حكم عبد الرحمن الثاين (‪ )852-822‬ابن الحكم األول‪ ،‬حققت‬ ‫املدينة بالفعل ازدهارا ً مل تعرفه حتى تلك اللحظة‪ .‬وقد ربط ابن حيان الصيت الخارجي للعاهل‬ ‫‪ 21‬أنظر إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال (‪،)1999‬‬ ‫‪Histoire de l’Espagne musulmane: la conquête et l’émirat hispano-umaiyade: 710-912. Op. Cit., tomo‬‬ ‫‪i, pp. 161-162.‬‬ ‫‪ 22‬ميكننا أن نضيف بشأن موضوع التمرد أن إخفاق املتمردين كانت له نتائج إيجابية بالنسبة لعلامء اآلثار‪ .‬إذ نظرا ً لتدمري‬ ‫الربض وإصدار بيان يقيض بعدم العودة إىل البناء يف ذلك املكان فقد ساعد هذا األمر يف املحافظة عىل اآلثار‪ ،‬والحفريات‬ ‫التي متت مؤخرا ً قادت إىل كم كبري من املعلومات حول تنظيم الحي وثقافته املادية‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫مبا أدخله عىل املدينة من عمليات تزيني وتجميل فذكر بأنه راسل ملوك البلدان املختلفة وبنى‬ ‫القصور ونهض باألشغال العامة وشيد القناطر وأىت باملاء العذب من قمم الجبال حتى بالطه ما‬ ‫حمله عىل شق الصخور الصلدة لنقل املاء إىل قرصه من خالل خطة موضوعة بعناية وحصل عىل‬ ‫مياه وفرية للرشب وسقي رياضه وأوصل الفائض إىل حوض كبري (قبالة البوابة املركزية الجنوبية‬ ‫لقرصه املسامة ببوابة الحديقة) حيث املياه تتدفق عىل حوض من الرخام بوسع الناس كافة أن‬ ‫يصلوا إليه لدى دخولهم القرص أو لدى املرور به فينهل منه الجميع‪.23‬‬ ‫ويف عهد عبد الرحمن الثاين أيضاً تم القيام بتوسعة كبرية للمسجد فتضاعفت مساحة‬ ‫قاعة الصالة الستيعاب األعداد املتزايدة من املصلني وكان ذلك بال ريب بسبب ازدياد‬ ‫أعداد السكان يف مدينة متنوعة كان يقطنها العرب والرببر والسكان األصليون‪ ،‬ومن‬ ‫الناحية الدينية كان فيها يهود ومسلمون من نسل الفاتحني وكثري ممن اعتنقوا اإلسالم إىل‬ ‫جانب عدد كبري من املسيحيني‪ .‬كانت الحياة تدب يف العاصمة األموية عىل نحو مكثف‬ ‫وفيها تعيش طبقة متعلمة ومرفهة (العامة)‪ ،‬وكان عددها كبريا ً ما أدى إىل ظهور مركز‬ ‫ثقايف جذب املشارقة ممن راحوا يفدون بآخر التقليعات العراقية لسكان كانوا متعطشني‬ ‫الستقبالها‪ .‬كان هذا هو الدور الذي لعبه املوسيقي واملغني زرياب بقدومه من العراق‬ ‫ليصبح املفضل لدى علية القوم‪.24‬‬ ‫من الواضح أن أفضل ما بحوزتنا من معلومات هو املتعلق بالطبقة املسيطرة من العرب‬ ‫والرببر‪ .‬لقد ذكرنا أعاله السكن األرستقراطي «بالط املغيث» الذي كان يقع شامل رشق‬ ‫املنطقة السكنية وكان ألرسة قوية من موايل األمويني شكل أعضاؤها جزءا ً من صفوة القوم من‬ ‫ماليك السلطة‪ :‬ابن املغيث الذي دخل قرطبة عام ‪ 711‬وعبد امللك بن عبد الواحد بن املغيث‬ ‫القائد العسكري لهشام األول (‪ )796-788‬الذي قاد يف سنة ‪ 793‬الجيش ملهاجمة نربونة‬ ‫وحقق نرصا ً يف أوربيو ‪ Orbieu‬عىل الفرنجة‪ ،‬وشقيقه عبد الكريم بن عبد الواحد الذي شارك‬ ‫يف الحملة نفسها وقاد حمالت أخرى واضطلع مبنصب كبري هو منصب حاجب األمري الحكم‬ ‫‪ 23‬أنظر ابن حيان القرطبي(‪ ،)2001‬أخبار األمريين الحكم األول وعبد الرحمن الثاين مابني االعوام ‪ .847-796‬املقتبس‪،II-I .‬‬ ‫ص ‪.170-169‬‬ ‫‪ 24‬أنظر إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال (‪،)1999‬‬ ‫‪Histoire de l’Espagne musulmane: la conquête et l’émirat hispano-umaiyade: 710-912. Op. Cit.,‬‬ ‫‪tomo i, pp. 269-272.‬‬ ‫كان زرياب منوذجاً واضحاً لعملية إضفاء الطابع الرشقي الجارية آنذاك يف املجتمع والدولة يف قرطبة‪.‬‬

‫‪18‬‬


‫بيري غيشار‬

‫األول (‪ .25)822-796‬وتبعاً ملا يورده ابن حيان فإن هذا الرجل املتنفذ عندما كان يعود إىل‬ ‫قرصه بعد أن يويف بالتزامات منصبه الرسمي يف القرص القرطبي كان يتوقف ليحيي «رؤساء»‬ ‫أرسته من أبناء األموي حبيب بن عبد امللك الذين أقاموا بجوار بالط املغيث‪ ،‬كام رأينا سابقاً‪،‬‬ ‫وكان يربط حصانه عىل مسافة كبرية من الدار ليدخل ويخرج مشياً عىل قدميه كنوع من‬ ‫تأدية فروض االحرتام لهذه األرسة التي كان ال يزال «موالياً» لها رغم وظيفته العليا يف الدولة‪.‬‬ ‫كام كانت هناك صالت تربط بني ذوي املناصب الكربى يف الدولة وعنارص أخرى من املجتمع‬ ‫القرطبي‪ ،‬وخاصة الطبقة التي باتت األكرث تأثريا ً مبرور الوقت ونعني بها رشيحة الفقهاء أو‬ ‫العلامء‪ .‬ويروي فقيه مشهور أنه صاحب عبد الكريم يف حملته عىل نربونة يك يسهر عىل‬ ‫توزيع الغنائم عىل نحو عادل وانه تلقى منه ذات مرة مائة دينار هدية (أي نظرياً‪ ،‬مائة عملة‬ ‫نقدية من الذهب وزنها حوايل أربعة غرامات‪ ،‬ورمبا ُسلمت عىل شكل دراهم من الفضة إذ‬ ‫مل تكن بعد قد سكت العمالت الذهبية يف ذلك الوقت يف األندلس) األمر الذي يعطينا فكرة‬ ‫عن حالة الرخاء املايل الذي نعمت به تلك الشخصيات الرفيعة يف الدولة األموية‪.‬‬ ‫وهناك منوذج آخر ألرسة اضطلعت مبناصب عليا يف الدولة األموية وكان لها دور يف‬ ‫تطوير قرطبة هي أرسة «بنو زجايل» الرببرية املهمة‪ .‬ففي زمن الفتح استوطنت يف كورة‬ ‫تاكورونا (منطقة مالقة يف الوقت الراهن)‪ .‬وأول من ورد ذكره يف الكتابات هو محمد‬ ‫بن سعيد بن موىس بن عيىس الزجايل الذي تنبه إليه األمري عبد الرحمن بسبب من‬ ‫ملكته الشعرية واألدبية فعينه كاتب رس األمري وهو منصب مل يكن معروفاً من قبل‪.‬‬ ‫وعىل ما يبدو فاملنزل الذي سكن فيه مع ذويه بشامل الجزء القديم من قرطبة قد أسهم‬ ‫يف إعادة هيكلة هذه املنطقة اىل حد كبري حتى أن الحي اتخذ اسم هذه العائلة (ربض‬ ‫الزجايل)‪ .‬وبذلك فقد عدت األرسة آنذاك من بني األرس الرئيسية يف العاصمة إذ ضمت‬ ‫يف األقل ‪ 11‬عضوا ً ممن اضطلعوا مبناصب حكومية يف اإلدارة العليا للدولة األموية يف‬ ‫نهاية عهد اإلمارة ويف عهد الخالفة ‪ .26‬كام أطلق اسم أرستهم عىل متنزه (حري) وعىل‬ ‫مقربة أيضاً‪ ،‬وقد تطور وضعهم االجتامعي وتبدلت أحوالهم وأصبح لهم موالون بعدما‬ ‫‪ 25‬أنظر ابن حيان القرطبي (‪ ،)2001‬أخبار األمريين الحكم األول وعبد الرحمن الثاين ما بني األعوام ‪. 847-796‬املقتبس ‪.II-I‬‬ ‫املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ .99-95‬تويف عبد الكريم يف عام ‪ 824‬أو ‪.825‬‬ ‫‪ 26‬أنظر إىل رسالة محمد مواك (‪،)1999‬‬ ‫‪Pouvoir souverain, administration centrale et élites politiques dans l’Espagne Umayyade (IIe-IVe/VIIIe-Xe‬‬ ‫‪ Helena de Felipe (1997), Identidad y onomástica de los beréberes de al‬و ;‪siècles). Op. Cit., pp. 174-175‬‬‫‪Andalus. Madrid: Consejo Superior de Investigaciones Científicas (csic), pp. 255-258.‬‬

‫‪19‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫كانوا يحومون حول السلطة ‪.27‬‬ ‫ليس لدينا الكثري من املعلومات حول استقرار عائالت أخرى من «أرستقراطية الدولة»‬ ‫املتنفذة يف قرطبة يف عهد اإلمارة‪ ،‬ونعني بها العائالت التي شكلت نوعاً من «النواة‬ ‫الصلبة» للسلطة وركناً أساسياً من أركان الدولة األموية‪ .‬وكانت عنارصها األكرث تأثريا ً تنتمي‬ ‫إىل مجموعة املوايل ذوي األصول املرشقية (بنو أيب عبده وبنو حدير وبنو شهيد وعائالت‬ ‫قوية أخرى) وشكلوا األدوات التي سهلت صعود أول عاهل لإلمارة من األرسة الحاكمة‪.28‬‬ ‫وابتدا ًء من مثانينات القرن التاسع حدثت يف األندلس أزمة سياسية خطرية جدا ً امتدت‬ ‫لعدة عقود ووقعت خاللها فتنة وكانت فرتة خالفات وفرقة‪ ،‬ويف هذه األثناء شهدت البالد‬ ‫متزقاً سياسياً وضعفت السلطة املركزية فيها بحيث مل تُسك العمالت عىل مدى عرشين‬ ‫عاماً ومل تنظم حمالت الجهاد عىل الحدود‪ .‬وال يسع املؤرخ سوى الوقوف مندهشاً إزاء‬ ‫تلك العائلة األموية التي كانت مرفوضة عىل امتداد أرايض األندلس وشبه معزولة يف‬ ‫قرطبة خالل فرتة حكم األمري عبد الله (‪ )912-888‬ومع ذلك استطاعت االستمرار يف‬ ‫السلطة يف ظل تلك الظروف‪ .‬وهنا بوسعنا طرح فرضية مؤداها أن أحد العنارص التي‬ ‫سمحت لها بالبقاء‪ ،‬إىل جانب الطابع املحيل لغالبية حركات اإلنشقاق‪ ،‬يعود ألهمية‬ ‫العاصمة –السكانية واالقتصادية والثقافية– التي مل تكن موضع تشكيك يف سلطة األمويني‬ ‫وهكذا متت خاللها وبدون مشكالت عملية نقل خالفة األمري الضعيف والسلبي عبد الله‬ ‫إىل حفيده‪ ،‬األمري الثامن عبد الرحمن الثالث (‪ )961-912‬الذي عىل النقيض منه متكن من‬ ‫زيادة نفوذ قرطبة ونقلها إىل مرحلة من االزدهار من خالل استعادة هيبة السلطة املركزية‬ ‫واتخاذه لقب خليفة الذي حمله أجداده يف دمشق (يف سنة ‪.)929‬‬ ‫ويف حني أننا نحتاج عند اإلشارة إىل عاصمة األمويني يف القرن التاسع إىل االستعانة بإعادة‬ ‫بناء األحداث والعودة إىل فرضيات املؤرخني انطالقاً من إشارات وجيزة مبثوثة يف املصادر‬ ‫العربية وكذلك من املعلومات التي بدأت تصلنا عرب التنقيبات األثرية‪ ،‬نجد أن بوسعنا اإلشارة‬ ‫إىل حقبة الخالفة من خالل وصف أقل ما يقال عنه بأنه عرصي مفصل نسبياً وموثوق فيه‬ ‫ظاهرياً‪ :‬إنه وصف الجغرايف املرشقي ابن حوقل‪ ،‬هذا الرحالة العظيم الذي زار األندلس يف‬ ‫‪ 27‬أنظر إىل رسالة محمد مواك (‪،)1999‬‬ ‫‪Pouvoir souverain, administration centrale et élites politiques dans l’Espagne Umayyade (IIe-IVe/VIIIe‬‬‫‪Xe siècles). Op. Cit., p. 175.‬‬ ‫‪ 28‬رسالة محمد مواك تقدم معلومات حول هذه األرس ونفوذها‪ .‬املصدر نفسه‪.‬‬

‫‪20‬‬


‫بيري غيشار‬

‫أواسط القرن العارش‪ .29‬وفيام ييل نصه‪:‬‬ ‫وأعظم مدينة باألندلس قرطبة وليس بجميع املغرب لها شبيه وال بالجزيرة‬ ‫والشام ومرص ما يدانيها يف كرثة أهل وسعة رقعة وفسحة أسواق ونظافة‬ ‫ّ‬ ‫حممات وفنادق ويزعم قوم من سافرتها‬ ‫محال وعامرة مساجد وكرثة ّ‬ ‫الواصلني اىل مدينة السالم أنّها كأحد جانبي بغداد‪ ]..[ .‬وقرطبة وإن‬ ‫مل تك كأحد جانبي بغداد فهي قريبة من ذلك والحقة به وهي مدينة‬ ‫ّ‬ ‫ومحال حسنة ورحاب فسيحة [‪ ]..‬وفيها مل يزل‬ ‫ذات سور من حجارة‬ ‫ملك سلطانهم قدمياً ومساكنه وقرصه من داخل سورها املحيط بها وأكرث‬ ‫أبواب قرصه يف داخل البلد من غري جهة ولها بابان يرشعان يف نفس سور‬ ‫املدينة إىل الطريق اآلخذ عىل الوادي من الرصافة‪ ،‬والرصافة مساكن أعايل‬ ‫ربضها متّصلة مبانيها بربضها األسفل وأبنيتها مشتبكة مستديرة عىل البلد‬ ‫من رشقه وشامله وغربه فأ ّما الجنوب منه فهو إىل واديه وعليه الطريق‬ ‫والحممات ومساكن‬ ‫املعروف بالرصيف واألسواق والبيوع والخانات‬ ‫ّ‬ ‫العا ّمة بربضها ومسجد جامعها جليل عظيم ىف نفس املدينة والحبس‬ ‫منه قريب‪.‬‬ ‫وقرطبة هذه بائنة بذاتها عن مساكن أرباضها غري مالصقة لها واملدينة‬ ‫قريبة الحال ودرت بسورها غري يوم يف قدر ساعة وهي نفسها مستديرة‬ ‫حصينة السور وسورها من حجر[‪ ]..‬ولقرطبة سبعة أبواب حديد وهي‬ ‫رصف يف وجوه التن ّعم‬ ‫فخم واسعة الحال بحسن الج ّدة وكرثة املال والت ّ‬ ‫بج ّيد الثياب والكيس من ّلي الكتّان وج ّيد الخ ّز والق ّز واملتعة بفاره‬ ‫‪ 29‬تفيد املعلومات أن ابن حوقل كان يف األندلس يف صيف عام ‪ .948‬ولعله بقي هناك بعض الوقت وراح يخرب الحقاً مبا‬ ‫كان يحدث هناك‪ ،‬إذ قدم معلومات دقيقة حول األحداث التي وقعت‪ .‬وعىل ما يبدو فإن كتابه «صورة األرض» قد أعيد‬ ‫تحريره مرات عدة حتى نهاية القرن العارش‪ .‬أنظر التعليق حوله يف كتاب خورخي لريوال ديلغادو وخوسيه ميغيل بويرتا‬ ‫(‪،)2004‬‬ ‫‪Biblioteca de al-Andalus: de Ibn al-Dabbag a Ibn Kurz. Almería: Fundación Ibn Tufayl de Estudios‬‬ ‫‪Árabes, volumen 3, pp. 320-321.‬‬

‫‪21‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫املركوب واملأكول واملرشوب‪.30‬‬

‫لسنا بصدد وصف قرطبة القرن العارش بالتفصيل بل نسعى لنقل االنطباع الذي خرج به‬ ‫عن املدينة رحالة فضويل خبري كان قد زار العامل اإلسالمي كله تقريباً وبالتايل كان يف مقدوره‬ ‫أن يقارن ما يرى من عاصمة األندلس مبا كان يعرفه عن مدن أخرى كثرية قام بزيارتها وبنحو‬ ‫خاص أكرب هذه املدن‪ :‬بغداد‪ .‬بوسعنا أن نضيف أيضاً أنه كان مييل إىل النظام الفاطمي‬ ‫يف القريوان وأنه كان غاية يف النقد ألحداث أخرى شهدها يف شبه جزيرة أيبرييا من بينها‬ ‫حالة القوات العسكرية التي كان يعدها ضئيلة العدد‪ .‬وهذا يدعونا لتوكيد أهمية شعوره‬ ‫باإلعجاب تجاه عظمة املدينة وحسن تنظيمها وبهائها وثرائها‪ .‬فقد تراءت له عىل ما يبدو‬ ‫املدينة الوحيدة من «دار اإلسالم» التي ميكن مقارنتها ببغداد‪.‬‬ ‫لقد حذفنا يف االقتباس السابق بعض اإلشارات املتعلقة باملدينة األمريية مدينة الزهراء‬ ‫التي راح يشيدها الخليفة عبد الرحمن الثالث منذ عام ‪ 936‬عىل بعد بضعة كيلومرتات‬ ‫غرب مدينة قرطبة والتي رشع الحاكم والبالط باالنتقال إليها تدريجياً‪ .‬فعىل سبيل املثال‬ ‫يف الوقت الذي وصل فيه ابن حوقل إىل شبه جزيرة أيبرييا كان سك العملة الذي يتم‬ ‫يف قرطبة حتى ذلك الحني قد انتقل إىل مدينة الزهراء‪ .31‬وقد أقام الخليفة األول الحكم‬ ‫الثاين (‪ )976-961‬وابنه يف مدينة الزهراء األمريية بشكل شبه مستمر وكانت يف حد ذاتها‬ ‫كبرية كعاصمة إقليمية (مائة هكتار أي ما يعادل آنذاك مدينة بحجم طليطلة)‪ .‬وشُ يدت‬ ‫بأموال طائلة –استثمر فيها ثلث خراج الدولة عىل مدى سنوات– وكانت فيها أجمل املباين‬ ‫املشيدة من الحجر والرخام واألعمدة واملواد الفنية املستوردة من مختلف مناطق البحر‬

‫‪ 30‬أنظر ابن حوقل (‪،)1964‬‬ ‫‪Configuration de la Terre (Kitab surat al-ard). Introduction et traduction, avec index, par Johannes‬‬ ‫‪Hendrik Kramers et Gaston Wiet. Beirut y París: Commission internationale pour la traduction des‬‬ ‫‪chefs-d’oeuvre, Maisonneuve et Larose, tomo i, pp. 110-112.‬‬ ‫‪ 31‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Rafael Frochoso Sánchez (1996), Las monedas califales: de ceca al-Andalus y Madinat al-Zahra’ (316‬‬‫‪403 H., 928-1013 J. C.). Córdoba: Publicaciones de la Consejería de Cultura de la Junta de Andalucía,‬‬ ‫‪Obra Social y Cultural Cajasur, p. 15.‬‬

‫‪22‬‬


‫بيري غيشار‬

‫املتوسط‪ .32‬وقد اكتشف علامء اآلثار هذا املوقع العظيم وأظهروا هيكله وسلطوا األضواء‬ ‫عىل ثراء تفاصيله وتحويراته‪ .‬ويقع عىل مسافة بضعة كيلومرتات من قرطبة ويشكل عنرصا ً‬ ‫آخر يربهن عىل بهاء عرص الخالفة‪ .‬لقد شهد مجمع قرطبة‪-‬مدينة الزهراء زيادة وتكامالً‬ ‫خالل مثانينات القرن نفسه متمثلة يف بناء مدينة ملكية ثانية أسست هذه املرة رشق‬ ‫قرطبة عىل يد الحاجب العامري الكبري املنصور‪ ،‬خالل الفرتة التي استوىل فيها عىل السلطة‬ ‫وتحكم بشكل شبه ديكتاتوري يف خالفة قرطبة‪ ،‬وقد امتد سلطانه حتى املغرب الحايل‪.‬‬ ‫ويف نهاية القرن العارش كان هذا املجمع عبارة عن «تجمع حرضي» ضخم ميتد عرب رشيط‬ ‫عىل الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبري عىل مسافة تصل إىل حوايل ‪ 15‬كيلومرتا ُ‪ .‬وبفضل‬ ‫التنقيبات األثرية التي أجريت يف املناطق الواقعة بني املدينة القدمية ومدينة الزهراء‬ ‫امللكية عرث عىل بقايا مبانٍ تدعم الفكرة التي تؤكد عىل أن النسيج الحرضي كان كثيفاً أيضاً‬ ‫يف املسافات املمتدة ما بني النقاط الرئيسة التي كانت تشكل هذا املجمع‪ .‬كل هذا يدعونا‬ ‫إىل التفكري يف أن العاصمة األموية كانت تقف يومئذ يف مستوى يوازي حارضيت الخالفة‪،‬‬ ‫ونعني بهام املدينتني العظيمتني القاهرة الفاطمية وبغداد العباسية‪ .‬كانت هذه املرحلة‬ ‫األخرية من منو قرطبة يف عهد الخالفة قد حدثت استجابة للزيادة السكانية املتالحقة‪ ،‬إذاك‬ ‫متت توسعة املسجد الكبرية مرتني‪ :‬توسعة الحكم الثاين وتخللتها زينات بارزة (قباب أمام‬ ‫املحراب وزينة من الفسيفساء املستلهم من الفن البيزنطي وأنواع جديدة من األقواس)‬ ‫وتوسعة املنصور وهي األكرث تقشفاً وتناغامً مع األجزاء األوىل من املسجد‪ .‬وإجامالً فإن‬ ‫مساحة مكان الصالة زادت ألكرث من الضعف‪ .‬وميكن التفكري يف أن توسعة املنصور الذي‬ ‫أضاف مثانية أروقة جانبية عىل طول قاعة الصالة لتضاف إىل األحد عرش رواقاً املوجودة‬ ‫‪ 32‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Manuel Gómez-Moreno (1951), Ars Hispaniae: historia universal del arte hispánico. El arte‬‬ ‫;‪árabe español hasta los almohades. Arte mozárabe. Madrid: Plus Ultra, volumen 3‬‬ ‫أو عىل نحو مخترص يف إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال (‪،)1999‬‬ ‫‪Histoire de l’Espagne musulmane: le califat umaiyade de Cordoue (912-1031). París: Maisonneuve et‬‬ ‫‪Larose, tomo ii, pp. 138-139,‬‬ ‫هذه املصادر أتاحت لنا رسم صورة حول الرتف الذي كان سائدا ً يف مدينة الزهراء‪ .‬الكثري من املطبوعات امللونة نرشت يف‬ ‫السنوات العرشين األخرية صورا ً للبناء واملواد التي تشهد عىل هذا الرتف األمريي‪ .‬نذكر عىل سبيل املثال العملني املنشورين‬ ‫من قبل مؤسسة «الرتاث األندليس» مبناسبة معرض مدينة الزهراء املقام للفرتة من ‪ 3‬مايو لغاية ‪ 30‬سبتمرب عام ‪،2001‬‬ ‫‪María Jesús Viguera Molins y Concepción Castillo Castillo (coords.). El esplendor de los omeyas‬‬ ‫‪cordobeses: la civilización musulmana de Europa occidental. Exposición en Madinat al-Zahra, 3 de‬‬ ‫‪mayo a 30 de septiembre de 2001: estudios. Op. Cit.‬‬

‫‪23‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫من قبل تتامىش مع ازدياد أعداد قوات الجيش النظامي إثر تجنيد الصقالبة (وهم عبيد‬ ‫من أصل أورويب‪ ،‬ساليف بالدرجة األساس) ومن الرببر املتمركزين يف معظمهم يف العاصمة‬ ‫وأطرافها‪ .‬كام أنها كانت منطقية لتتناسب مع أبعاد عاصمة كبرية تحولت إىل مركز سيايس‬ ‫واقتصادي وثقايف إلمرباطورية امتدت عام ‪ 1000‬من وادي نهر إبرة حتى أطراف الصحراء‪.33‬‬ ‫هذا ويبدو من شبه املستحيل تحديد عدد سكان قرطبة يف ذلك الوقت‪ .‬وقد طرحت بعض‬ ‫األرقام التي ترتواح ما بني مائة ألف نسمة ومليون نسمة بيد أننا ال يسعنا سوى قبول هذين‬ ‫الرقمني بحذر‪ .34‬كام أننا ال نعرف إن كانت ضخامة العاصمة األموية املبالغ فيها مقارنة بإمكانات‬ ‫التموين يف تلك الفرتة قد أدت إىل الضعف الذي أصابها الحقاً عىل غرار ما حدث يف تراجع‬ ‫الخالفة العباسية يف بغداد‪ .‬كل ما هنالك هو أننا نجد أن هذا التقدم قد توقف بصورة مفاجئة‬ ‫يف أعقاب األزمة العميقة التي أثرت عىل الخالفة ابتدا ًء من «ثورة قرطبة» عام ‪ 1009‬الناجمة‬ ‫عن عجز االبن الثاين للمنصور‪ ،‬عبد الرحمن املعروف بـ «سانشويلو» أو شنجول‪ ،‬عن إدارة الحكم‬ ‫وكان هذا قد وصل إىل السلطة عام ‪ 1007‬بال شك نتيجة توترات داخلية متنوعة أثرت عىل‬ ‫النظام‪ .‬وقد خيمت الخصومات عىل العقدين التاليني بني مختلف الفصائل السياسية العسكرية‬ ‫التي كانت تطمع يف السيطرة عىل قرطبة ما أدى إىل ضعف متنام للسلطة املركزية وظهور قوى‬ ‫محلية متعددة‪ ،‬األمر الذي أفىض عىل نحو مضطرد إىل تشكيل جغرافية سياسية جديدة يف‬ ‫األندلس متثلت مباملك الطوائف الخمس عرشة التي ظهرت مع اختفاء خالفة قرطبة متاماً عام‬ ‫‪ .1031‬ويف قرطبة نفسها تشكلت سلطة‪ ،‬بتناغم تام مع الواقع االجتامعي التاريخي للعاصمة‬ ‫املتداعية‪ ،‬حينام قررت الصفوة الحرضية منح السلطة إىل إحدى أرس «أرستقراطية الدولة» التي‬ ‫‪ 33‬الطرح األكرث توفقاً حول املدينة األموية‪ ،‬كونه يركز عىل لحظة ازدهارها‪ ،‬هو الذي وضعه مانويل أثيني أملانسا و أنطونيو‬ ‫باييخو تريانو (‪،)2000( )Manuel Acién Almansa y Antonio Vallejo Triano‬‬ ‫‪Cordoue, en Jean Claude Garcin (dir.). Grandes villes méditerranéennes du monde musulman médié‬‬‫‪val. Roma: École Française de Rome, pp. 117-134.‬‬ ‫ال ريب يف أن فكرة وجود «إمرباطورية» أموية متتد من الصحراء الغربية حتى جبال الربانس تستلزم البحث املفصل‪ ،‬لكنها‬ ‫يف كل االحوال ميكن أن تستند إىل أحداث «ملموسة» مثل سك العمالت الذهبية باسم خلفاء قرطبة يف مدينة سجلامسة‬ ‫الواقعة عىل أطراف الصحراء الغربية‪.‬‬ ‫‪ 34‬ميكننا أن نشري إىل رقم معقول وهو ‪ 270‬ألف حسب خيسوس ثانون (‪ ،)1989( )Jesús Zanón‬يف كتابه الصغري‪،‬‬ ‫‪Topografía de Córdoba almohade a través de las fuentes árabes. Madrid: csic, Instituto de Filología, p. 18,‬‬ ‫دون أن نخفي أن السبب الوحيد لتبني هذا الرقم هو طابعه املعتدل‪ .‬مانويل أثيني أملانسا وأنطونيو باييخو تريانو‪،‬‬ ‫يف عملهام املذكور سابقًا يتحدثان عن تعداد أمر به املنصور وكان يرتاوح بني ‪ 200‬ألف و‪ 300‬ألف مسكن (يف املصدر‬ ‫املذكور) للعامة والخاصة واألمر يتعلق بفرضية «مرجحة» بالنظر لهذه األرقام ولبعض اإلثباتات األثرية التي تبني كثافة‬ ‫النسيج الحرضي (ص ‪.)122-121‬‬

‫‪24‬‬


‫بيري غيشار‬

‫شكلتها مجموعة موايل بني أمية‪ ،‬وهي أرسة بني جهور‪ ،‬لكنها سلطة مل تكن لتمتد إىل أكرث من‬ ‫املدينة وضواحيها القريبة فقد ظهرت يف مناطق مختلفة سلطات محلية أخرى مستقلة عن‬ ‫سلطة قرطبة كام حدث يف إشبيلية وغرناطة ومدن ثانوية أخرى مثل مورون أو قرمونة‪.‬‬ ‫وعىل النقيض من حالة االزدهار التي كانت سائدة يف القرن العارش فإن التاريخ السيايس‬ ‫لقرطبة خالل فرتة ماملك الطوائف يف القرن الحادي عرش كان باهتاً‪ .‬وكان حكم بني جهور‬ ‫قصريا ً (‪ )1070-1031‬شكله ثالثة حكام مثلوا تجسيدا ً لنظرية ابن خلدون حول تردي‬ ‫السلطات األمريية‪ .‬األول كان هو أبو الحزم بن جهور الذي حظي بعرفان الصفوة القرطبية يف‬ ‫فرتة تداعي الخالفة وكان املربز بني األنداد لالشتغال بقضايا املدينة‪ .‬لقد طرح كأبرز عضو يف‬ ‫مجلس الوزارة وتحاىش اتخاذ أي لقب مليك يضفيه عىل سلطته‪ .‬ثم قام ابنه أبو الوليد محمد‬ ‫الذي خلفه يف السلطة عام ‪ 1043‬باقتفاء أثره يف حصافته فهو مل يتخذ اسامً له سوى اللقب‬ ‫املتواضع «الرشيد»‪ .‬إال أن ابنه عبد امللك وصل من بعده إىل سدة الحكم يف عام ‪ ،1063‬بعد‬ ‫أن زعزع الدولة القرطبية مبناوراته وذلك يف حياة والده‪ ،‬فكرس تقليد التواضع يف الحكم ومنح‬ ‫نفسه ألقاباً طنانة عىل طريقة الخلفاء مثل لقب املنصور بالله‪ ،‬عىل غرار ما قام به بعض من‬ ‫ملوك الطوائف‪ ،‬وإن كان مبنطقية أكرب إذ كان لديهم سلطة أوسع وشعبية أكرب‪ .‬وقد افتقر‬ ‫حكم ثالث حكام بني جهور إىل أي قوة أو سند‪ .‬فهو مل تكن له شعبية وبالكاد كان يسك‬ ‫العملة يف قرطبة وقد أدى ضعفه العسكري إىل طمع جريانه من أمراء طليطلة وقرطبة ممن‬ ‫رغبوا يف ضم مدينة ذائعة الصيت تاريخياً إىل ماملكهم‪ .‬ويف عام ‪ 1070‬حسمت نهاية هذا‬ ‫الوضع لصالح مملكة بني عباد يف إشبيلية الذين كانوا يوحدون تحت لوائهم أكرب جزء من‬ ‫جنوب األندلس‪ ،‬من الغرب حتى مرسية‪.‬‬ ‫ومام ال شك فيه فقد شهدت عاصمة الخالفة يف القرن العارش نزاعات سياسية عسكرية‬ ‫خطرية وكثرية ترصدتها خاصة يف العقد الثاين من القرن الحادي عرش‪ .‬فقد تعرضت‬ ‫الحارضتان األمرييتان مدينة الزهراء ومدينة الزاهرة إىل النهب والخراب‪ .‬ووصلتنا أسامء‬ ‫بعض األشخاص الذين فقدوا حياتهم يف عمليات السلب هذه التي شاركت فيها الفصائل‬ ‫املتناحرة املنترصة عىل نحو خاطف‪ ،‬كام هو الحال مع املؤلف الشهري ألول معجم ألخبار‬ ‫علامء األندلس‪ ،‬ابن الفريض الذي قُتل عىل يد الرببر املؤيدين ألحد املتنازعني عىل سلطة‬ ‫الخالفة يف لحظة نهب العاصمة يف أبريل‪ /‬نيسان من عام ‪ .1013‬وهناك إشارات كثرية إىل‬ ‫ال ُنخب السياسية‪-‬اإلدارية والفكرية التي تفرقت عىل املحافظات بسبب هذه االضطرابات‪.‬‬ ‫كانت هذه هي حالة الكثري من املوظفني الصقالبة أو من أرسة «الطاغية» نفسه املنصور‬ ‫‪25‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫الذين سنجدهم الحقاً يف السلطة يف رشق األندلس ببلنسية‪ ،‬وكذلك حالة أشخاص آخرين‬ ‫كرث من ذوي النفوذ يف الحياة الثقافية األندلسية‪ .‬فمؤلف «طوق الحاممة» ابن حزم‬ ‫العظيم الذي يقال عنه إنه من قرطبة ألنه ولد هناك وبدأ دراسته فيها اضطر لرتك املدينة‬ ‫وهو يف الثامنة عرشة عىل أثر عمليات نهب قام بها الرببر ومل يعد إال ملاماً ما بني إقاماته‬ ‫يف األقاليم الرشقية والغربية‪ ،‬وحالته تبدو مهمة ألنها تلقي الضوء عىل اختفاء جزء من‬ ‫التجمع السكاين القديم الذي يعود إىل حقبة الخالفة‪ ،‬فنحن نعلم فعالً أنه بوصفه ابناً‬ ‫لوزير فقد أمىض طفولته يف منية أطلق عليها اسم «املغرية» يف حي أقيم حول مقر اإلقامة‬ ‫العامرية يف مدينة الزاهرة ثم يف منطقة أرستقراطية تقع يف بالط املغيث وكال املنطقتني‬ ‫ُدمرتا يف االضطرابات‪ ،‬وبعد ذلك أمىض فرتة يف املدينة فكان عليه أن يسكن يف منزل يعود‬ ‫إلحدى قريبات أرسته رمبا يف املنطقة القدمية من املدينة‪. 35‬‬ ‫وال يسعنا هنا سوى طرح فرضية حول تقلص مساحة الفضاء الحرضي القرطبي بحوايل‬ ‫الثلثني يف الفرتة الواقعة ما بني القرنني العارش والحادي عرش‪ .‬وقد فعل ذلك أنطونيو أملاغرو‬ ‫الذي اقرتح للحقبة الثانية مساحة ‪ 185‬هكتارا ً وتعداد سكان قدره ‪ 65‬ألف نسمة وهو بال‬ ‫شك رقم يقل عن تعداد القرن السابق عندما توزع عدد السكان الذي بلغ أكرث من ذلك أربع‬ ‫أو خمس مرات عىل مساحة واسعة تزيد عىل ‪ 2500‬هكتار‪ .36‬هذا العدد الذي بلغ عرشات‬ ‫اآلالف من السكان والذي رمبا بات صالحاً خالل القرن التايل يحيل إىل واقع حرضي ال يزال‬ ‫مهامً عىل الرغم من عدم التوصل إىل تحديد وضع املدينة يف املقام األول بالنسبة للعواصم‬ ‫األندلسية‪ .‬كانت إشبيلية تحافظ عىل وضعها يف القرن الثاين عرش وكانت دون شك أكرث اتساعاً‬ ‫وسكاناً إذ كانت تصل مساحتها إىل حوايل ‪ 300‬هكتار وسكانها نحوا ً من مائة ألف نسمة‪ .‬يف‬ ‫حني نجد يف الفرتة نفسها أن أياً من املدن الكربى يف الغرب مل يكن ليزيد عدد سكانها عن ‪50‬‬ ‫ألف نسمة‪ .‬كانت سمعة قرطبة قد واصلت تأثريها لتحتفظ يف القرنني الحادي عرش والثاين‬ ‫عرش بدور ثقايف رفيع من الطراز األول‪ .‬ومثة قول متداول البن رشد يف هذا السياق‪ ،‬ومعروف‬

‫‪ 35‬أنظر مقال خوسيه ميغيل بويرتا (‪ ،)2004( )José Miguel Puerta Vílchez‬عن ابن حزم يف‪:‬‬ ‫‪Jorge Lirola y José Miguel Puerta Vílchez, Biblioteca de al-Andalus: de Ibn al-Dabbag a Ibn Kurz. Op.‬‬ ‫‪Cit., volumen 3, pp. 392-443 (pp. 392-395).‬‬ ‫‪ 36‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Antonio Almagro (1987), «Planimetría de las ciudades hispanomusulmanas», Al-Qantara, viii, p. 427.‬‬

‫‪26‬‬


‫بيري غيشار‬

‫أنه كان قايض املدينة يف الفرتة من ‪ ،37 1190-1180‬مفاده أنه إذا تويف موسيقي يف قرطبة‬ ‫فإن أدواته تُحمل إىل إشبيلية يف حني أنه إذا ما مات عامل يف تلك املدينة فإن كتبه ستُحمل‬ ‫إىل قرطبة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فنحن نعرف أنه مع مطالع القرن الحادي عرش بدأ شاعر كبري مثل ابن‬ ‫زيدون حياته يف عام ‪ 1003‬يف قرطبة حيث عاش أعوامه األربعني األوىل لكنه أمىض العقدين‬ ‫األخريين من حياته يف إشبيلية حيث تويف عام ‪.38 1071‬‬ ‫يف نهاية القرن الحادي عرش انتزع الحكم من ملوك الطوائف عىل يد يوسف بن تاشفني‬ ‫زعيم حركة املرابطني القوي الذي فرض حكمه يف املغرب وانطالقاً من عاصمتها مراكش‬ ‫فرض نظاماً إصالحياً لإلسالم‪ .‬وقد شهدت «حرب االسرتداد» التي بدأها امللوك املسيحيون يف‬ ‫األندلس (اإلستيالء عىل طليطلة عام ‪ )1085‬توقفاً ملدة من الزمن‪ .‬وكان مصري بلنسية التي‬ ‫استوىل عليها مؤقتاً القنبيطور (‪ )1099-1087‬قد بات لصالح املرابطني الذين اسرتدوها يف‬ ‫سنة ‪ .1102‬ومنذ نهاية القرن الحادي عرش حتى بداية القرن الثالث عرش ارتبطت األندلس‬ ‫بإمرباطوريتني «إفريقيتني» كبريتني‪ :‬حكم املرابطني ومن ثم‪ ،‬منذ منتصف القرن الثاين عرش‪،‬‬ ‫حكم املوحدين الذين أسقطوا املرابطني‪ .‬كل هذا شمل أحداثاً أثرت عىل قرطبة من بينها‬ ‫االضطراب الذي شهدته املدينة يف ‪ 1121‬يف ظل حكم املرابطني وكذلك تأسيس سلطة مستقلة‬ ‫يوجهها قايض املدينة يف لحظة أزمة نظام املرابطني (يف ‪ 1146-1145‬عندما تأسس يف عدة‬ ‫مدن ما دعي مباملك الطوائف الثانية)‪ .‬وبديهي أننا لسنا هنا بصدد رسد تفاصيل التاريخ حتى‬ ‫حرب االسرتداد املسيحية التي طالت قرطبة عام ‪ .1236‬وقد حدث هذا بعد سقوط نظام‬ ‫املوحدين يف األندلس (‪ )1228‬وخالل مرحلة من التجزئة السياسية التي أطلق عليها عىل نحو‬ ‫منطقي «ماملك الطوائف الثالثة»‪ .‬ومع ذلك سيكون من املهم أن نشري إىل أنه بخالف ما‬ ‫حدث يف مدن أخرى (مرسية وبلنسية وغرناطة وإشبيلية بالدرجة األساس) مل تقم قرطبة هذه‬ ‫املرة بدور سيايس بارز ومل تشهد قيام سلطة سياسية مستقلة فيها‪.‬‬ ‫وكام يف الفرتات السابقة مل يكن من السهل تحديد الوضع الدميغرايف يف قرطبة خالل‬ ‫فرتة الحكم الرببري‪-‬األندليس‪ .‬ولكن عاصمة الخلفاء األمويني كانت ال تزال بال جدال مدينة‬ ‫إقليمية كبرية وما برحت تحتفظ بنشاط فكري مهم‪ .‬وللتدليل عىل ذلك تكفي اإلشارة إىل‬ ‫‪ 37‬أنظر مقال ابن رشد لعدة مؤلفني يف املجلد ‪ 4‬من كتاب خورخي لريوال ديلغادو (‪،)2006( )Jorge Lirola Delgado‬‬ ‫‪Jorge Lirola Delgado (2006). Biblioteca de al-Andalus: de Ibn al-Labbana a Ibn al-Ruyuli. Almería:‬‬ ‫‪Fundación Ibn Tufayl de Estudios Árabes, p. 524.‬‬ ‫‪ 38‬أنظر العرض الذي خصصه له خاميي سانتشيث راتيا (‪ )Jaime Sanchez Ratia‬يف املجلد رقم ‪ 6‬لخورخي لريوال ديلغادو (‪،)2009‬‬ ‫‪Biblioteca de al-Andalus: de Ibn al-Yabbab a Nubdat al-‘Asr. Op. Cit., pp. 287-304.‬‬

‫‪27‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫االسم الذي أوردناه ألكرب فيلسوف يف اإلسالم‪ ،‬ابن رشد الذي ولد وعاش جزءا ً كبريا ً من‬ ‫حياته فيها‪ .‬ومع ذلك فقد تعرضت املدينة إىل املزيد من االضطرابات السياسية‪-‬العسكرية‬ ‫التي وسمت تلك الفرتة وعىل وجه الخصوص الحروب التي نشبت بني املوحدين وأمري‬ ‫مرسية املستقل ابن مردنيش‪ ،‬وهي الحروب التي وقعت يف املنطقة يف نهاية الخمسينات‬ ‫من القرن الثاين عرش‪ .‬وال نعرف ما الذي عناه كاتب ومؤرخ من املوحدين هو ابن صاحب‬ ‫الصالة الذي أكد أنه يف سبتمرب‪ /‬أيلول عام ‪ 1162‬كان موجودا ً يف قرطبة ساعة دخول اثنني‬ ‫من أمراء املوحدين وهام يف طريق عودتهام من حملة ضد أمري مرسية‪ ،‬ابن مردنيش‪ ،‬ومل‬ ‫يكن يف املدينة سوى ‪ 82‬رجالً بعد أن رحل عنها أهلها والتجأوا إىل الحقول يف أثناء التمرد‬ ‫الذي حدث‪ .‬وكشف رحيل السكان وهجرتهم حجم البؤس والتعاسة فقد نزل الخراب‬ ‫ببالدهم وارتدى الناس األسامل‪ . 39‬مام ال شك فيه أنه كان يشري إىل «العامة»‪ ،‬األرستقراطية‬ ‫الحرضية‪ ،‬لكنها شهادة يجب أن تؤخذ يف الحسبان‪ .‬وما قيل أعاله حول غياب «تفاعلية»‬ ‫املدينة بعد زوال حكم املوحدين يأخذ بعدا ً يتجاوز مفهوم الدينامية التي تراجعت‬ ‫يف الواقع يف هذه املدينة التي راحت تعاين األحداث بسلبية‪ .‬وما من إمكانية لتقديم‬ ‫إحصائيات حقيقية لكن الثابت هو أن املستنريين وعلامء قرطبة املذكورين يف كتب األعالم‬ ‫كانوا يف قرطبة أكرث مام يف إشبيلية حتى منتصف القرن الحادي عرش‪ ،‬أما يف زمن املوحدين‬ ‫فقد احتَلت الصدارة املدينة الثانية التي هي إشبيلية‪.40‬‬ ‫كام اتضح تراجع حيوية قرطبة يف املعامل األثرية أيضاً‪ .‬فاإلنشاءات التي أقيمت عىل يد املوحدين‬ ‫‪ 39‬ابن صاحب الصالة (‪،)1969‬‬ ‫‪Al-Mann bil-imama: estudio preliminar [traducción de Ambrosio Huici Miranda]. Valencia:‬‬ ‫‪Anúbar, p. 49.‬‬ ‫الرقم قد يبدو غري معقول إال أنه ذكر بالضبط من قبل مؤلف آخر متأخر (ابن األبار) ومن سياق النص يتضح أن ابن‬ ‫صاحب الصالة يشري إىل «العائالت النبيلة» التي بقيت يف مدينة قرطبة التي ميكن أن نستنتج خروج قادتها ومعهم خرج‬ ‫املوظفون القادمون من إشبيلية –من بينهم املؤلف– الستقبال األمريين املوحدين ‪.‬‬ ‫‪ 40‬وهو ما أدركه متاماً مؤلف رشقي مثل ياقوت (‪ )1229-1179‬الذي يقول إن ازدهار إشبيلية يف زمنه كان قامئاً يف حني أن‬ ‫قرطبة كانت يف حالة انحطاط‪ ،‬ومل تكن أكرث من مدينة من مدن اإلقليم املركزي [ األندلس] جامل عبد الكريم (‪.)1974‬‬ ‫‪Gamal ‘Abd al-Karim (1974), La España musulmana en la obra de Yaqut (s. xii-xiii): repertorio enci‬‬‫‪clopédico de ciudades, castillos y lugares de al-Andalus: extraído del Mu‘yam al-buldan (diccionario‬‬ ‫‪de los países). Granada: Publicaciones del Seminario de Historia del Islam, Universidad de Granada.‬‬ ‫ضعف املدينة الثقايف أيضاً ميكن استنتاجه من احتساب عدد العلامء الذين كانوا يقيمون يف مختلف املدن األندلسية يف كل‬ ‫مرحلة من املراحل‪ ،‬أنظر الجداول املقرتحة من قبل كريستني مازويل غينتارد (‪،)1996( )Christine Mazzoli-Guintard‬‬ ‫‪Villes d’al-Andalus. L’Espagne et le Portugal à l’époque musulmane (VIIIe-XVe siècles). Rennes: Presses‬‬ ‫‪Universitaires de Rennes II, pp. 332-334.‬‬

‫‪28‬‬


‫بيري غيشار‬

‫يف إشبيلية كانت مشهورة (ابتدا ًء بربج الخريالدة واملئذنة القدمية للمسجد الكبري التي شيدت يف تلك‬ ‫الحقبة) ويف مرسية اكتشفت آثار تعود إىل القرنني الثاين عرش والثالث عرش ولكن ال توجد شهادات‬ ‫لنشاط مامثل للبناء يف قرطبة التي اكتفت بالرتاث املعامري املوروث من الحقبة األموية‪ .‬والواقع أن‬ ‫القرص املوروث عن األمويني مل تعد له رضورة يف سياق التواضع السيايس للمدينة‪ ،‬ووجود املسجد‬ ‫الكبري الذي ظل األكرب يف العامل اإلسالمي يف عرصه كان أكرث من كاف لسد احتياجات املصلني‪ ،‬ومع‬ ‫ذلك فقد واصلت املدينة االحتفاظ بشهرتها الرمزية‪ :‬فقد أحرق أمام بابها الغريب كتاب الغزايل يف‬ ‫عام ‪« 1109‬إحياء علوم الدين» نظرا ً ألنه مل يرق للفقهاء األندلسيني‪ .41‬وسيخصص املؤلفون العرب‬ ‫الذين يصفون قرطبة صفحات يف وصف بهائها وروعتها‪ .‬وهو ما حدث مع عبد املنعم الحمريي هذا‬ ‫املؤلف املغاريب الذي يعود إىل نهاية القرن الثالث عرش وبداية القرن الرابع عرش‪ ،‬إذ قال عن مسجد‬ ‫قرطبة بإنه‪ :‬أحد املباين األكرث روعة يف العامل سواء أكان لعظم مساحته أم لجودة بنائه وثراء زينته‬ ‫ومتانة بنيانه‪ ..‬إذ ال نظري لزينته وال لطوله وعرضه يف العامل اإلسالمي كله‪.42‬‬ ‫ميكننا أن نختتم هذه املساهمة مبقارنة هذه السطور التي متتدح املدينة والتي صدرت عن‬ ‫مؤلف عريب‪-‬مسلم لذا فإنها ال تثري الكثري من الدهشة نظرا باإلعجاب الذي أبداه املسيحيون‬ ‫بدورهم مبسجد قرطبة‪ .‬فقد كتب خوان كارلوس رويث سوثا موضحاً عىل نحو شديد اإليحاء‬ ‫هذه النقطة التي ميكن تلمسها من خالل تاريخ الفن والنصوص املكتوبة‪« :‬كان أثر مسجد‬ ‫قرطبة هائالً بني املاملك املسيحية طوال العصور الوسطى»‪ .43‬ليس إعجابًا فقط إذ حسب‬ ‫املؤلف نفسه‪:‬‬ ‫‪ 41‬أنظر‪:‬‬

‫‪Jacinto Bosch Vilá (1990), Los almorávides. Granada: Universidad de Granada, p. 248.‬‬ ‫‪ 42‬أنظر إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال (‪،)1938‬‬ ‫‪La péninsule Ibérique au Moyen Age d’après le Kitab ar-Rawd al-mi‘tar fi habar al-aktar d‘Ibn Abd‬‬ ‫‪al-Mun‘im al-Himyari: texte arabe des notices relatives à l’Espagne, au Portugal et au Sud-Ouest de la‬‬ ‫‪France. Leiden: E. J. Brill, p. 183.‬‬ ‫بخصوص الحمريي الذي كانت هويته محل موضع جدل‪ ،‬أنظر مقالة‪:‬‬ ‫‪Vicente Carlos Navarro Oltra (2012), en Jorge Lirola Delgado y José Miguel Puerta Vílchez (eds.).‬‬ ‫‪Biblioteca de al-Andalus: de al-Abbadiya a Ibn Abyad. Almería: Fundación Ibn Tufayl de Estudios‬‬ ‫‪Árabes, volumen 1, pp. 444-451.‬‬ ‫‪ 43‬أنظر خوان كارلوس سوثا )‪،(2009) (Juan Carlos Ruiz Souza‬‬ ‫‪La Corona de Castilla y al-Andalus. Préstamos arquitectónicos y grados de asimilación. Espacios,‬‬ ‫‪funciones y lenguajes técnico-formales, en Pierre Toubert y Pierre Moret. Remploi, citation, plagiat.‬‬ ‫‪Conduites et pratiques médiévales (Xe-XIIe siècle). Madrid: Casa de Velázquez, p. 240.‬‬

‫‪29‬‬


‫قرطبة‪ :‬من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي‬

‫لقد غدا جامع قرطبة ]‪ [..‬لهذا السبب مصدرا ً لنامذج «الثقافة البرصية ملا‬ ‫هو مقدس» منذ القرن التاسع فصاعدا ً‪ ،‬لكن بال شك كان الستيالء قوات‬ ‫فرناندو الثالث عىل املدينة يف عام ‪ 1236‬دور يف تعميق معرفتهم به‬ ‫وتقييمهم أياه وهو ما توضحه نصوص املديح التي خصته بها شخصيات‬ ‫مهمة من القرنني الثالث عرش والرابع عرش من أمثال بدرو خيمينيث‬ ‫دي رادا وألفونصو العارش ودون خوان مانويل أو املستشار بدرو لوبيث‬ ‫دي أياال‪.44‬‬

‫من هنا جاءت عملية استيعاب النامذج اإلسالمية التي تجلت عرب ازدهار الفن املدجن‪.‬‬ ‫وهذه الدرجة من الحيوية يف الفن القشتايل كانت‪ ،‬حسب رويث سوسا‪ ،‬تستوعب وتتبنى‬ ‫هذه النامذج بإبداع أكرب من الفن اإلسالمي الغرناطي نفسه الذي اتصف بطابع محافظ‬ ‫أكرب‪ .45‬إال أن هذا سيحملنا إىل الخوض حينئذ يف مرحلة أخرى من تاريخ الثقافة األيبريية‬ ‫العربية التي ال تندرج ضمن مهام داريس العصور الوسطى‪.‬‬

‫سرية املؤلف‬

‫بيري غيشار أستاذ فخري غري متفرغ يف مجال تاريخ العصور الوسطى يف جامعة لوميري‪-‬ليون‬ ‫‪ 2‬ومتخصص يف تاريخ إسبانيا اإلسالمية‪ .‬وهو عضو سابق يف القسم العلمي ببيت بيالثكيث‬ ‫يف مدريد املرتبط بأكادميية الكتابات املنقوشة واآلداب القدمية (املعهد الفرنيس)‪ .‬نرش عدة‬ ‫أعامل نذكر من بينها «األندلس‪ .‬بنية أنرثوبولوجية ملجتمع إسالمي يف الغرب (برشلونة‪،)1976 ،‬‬ ‫‪Al-Andalus. Estructura antropológica de una sociedad islámica en Occidente‬‬ ‫(‪ (Barcelona, 1976‬و «مسلمو بلنسية وحرب االسرتداد» القرنان الحادي عرش والثالث عرش‬ ‫(دمشق‪Les musulmans de Valence et la Reconquête (XIe-XIIIe siècles) ،)1991-1990 ،‬‬ ‫)‪.(Damasco, 1990-1991‬‬

‫‪ 44‬أنظر املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.253‬‬ ‫‪ 45‬رويث سوثا يشري يف هذا الصدد إىل كل من أملاغرو غوربيا و الديرو كيسادا )‪ Almagro Gorbea‬و ‪«( )Ladero Quesada‬ولهذا‬ ‫فإننا سنأخذ بطرح ميغيل أنخل الديرو كيسادا املعروض يف الصفحة السابقة‪ ،‬وسنتكلم عن استيعاب التاريخ املادي األندليس‬ ‫وتطوره الالحق يف ظل إبداع املجتمع الجديد مبجمله الذي متخض عن غزوات القوات املسيحية»)‪ .‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.245-244‬‬

‫‪30‬‬


‫بيري غيشار‬

‫امللخص‬

‫ت ُعد قرطبة واحدة من «املدن األسطورية» ضمن فضاء االتصال بني العامل العريب‪-‬اإلسالمي‬ ‫والعامل املسيحي‪ .‬وقد حاولنا يف هذا امللخص تسليط الضوء عىل ازدهار عاصمة الخالفة‬ ‫األموية يف األندلس منذ أن اختريت عىل حساب إشبيلية عاصمة إلحدى محافظات الخالفة‬ ‫القامئة حينذاك يف دمشق وذلك إثر الغزو العريب يف القرن الثامن امليالدي حتى استيالء‬ ‫املسيحيني عليها يف عام ‪ .1236‬شهدت هذه املدينة كإمارة يف القرن التاسع منوا ً وتوجهاً نحو‬ ‫الطابع الرشقي بوتائر رسيعة جدا ً‪ ،‬ويف القرن العارش بلغت أوج ذروتها مع عهد الخالفة‪ .‬كانت‬ ‫واحدة من كربيات التجمعات الحرضية يف عامل حوض البحر املتوسط إىل جانب الحارضتني‬ ‫امللكيتني اللتني شيدتا يف محيطها حوايل عام ‪1000‬م‪ .‬وقد أدى سقوط الخالفة يف مطلع القرن‬ ‫الحادي عرش إىل وضع حد لهيمنتها السياسية‪ .‬ومع أنها عاشت عىل مجدها التليد وبرغم قلة‬ ‫عدد سكانها فقد احتفظت بازدهار ثقايف يف القرنني الحادي عرش والثاين عرش لتحل يف النهاية‬ ‫إشبيلية محلها‪ .‬مع ذلك فإن مسجدها الذي ال يُضاهى وآثار مدينة الزهراء التي تنتمي إىل‬ ‫عرص الخالفة ال تزال تقف شاهدا ً عىل ذلك الرتاث العظيم‪.‬‬

‫الكلامت املفتاحية‬

‫قرطبة‪ ،‬كوردوبا‪ ،‬األندلس‪ ،‬تاريخ‪.‬‬

‫‪31‬‬



‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬ ‫خوسيه ميغيل بويرتا‬ ‫قرطبة هي‪ ،‬بالنسبة إيل‪ ،‬ف ّن‪.‬‬

‫خارج الف ّن‪.‬‬ ‫ومل يبق للحضور العريب‪-‬اإلسالمي فيها‪ ،‬أي معنى عظيم‪َ ،‬‬ ‫أدونيس‪.12007 ،‬‬ ‫لو أخذنا بعني االعتبار أهمية قرطبة‪ ،‬جنباً اىل جنب مع بغداد‪ ،‬كبؤرة إشعاع رئيسة‬ ‫ملعارف النزعة اإلنسانية يف اإلسالم العريب الكالسييك‪ ،‬فال شك أن العاصمة األموية تتميز‬ ‫بكونها مركز إبداع فني مميز ونشط بحيث تحولت عامئرها وصناعاتها إىل معلم أسايس‬ ‫من معامل إزدهار الفن اإلسالمي‪ .‬وقد لفتت فنون قرطبة االنتباه علامء وكُتّاب األندلس أوالً‪،‬‬ ‫واإلسبان واألوروبيني الحقاً‪ ،‬ومل يكف هذا التقدير عن التنامي حتى وقتنا الحارض لدى مؤرخي‬ ‫الفن والفنانني وال ُكتّاب ومقتني املجموعات الفنية‪ ،‬ناهيك عن وسائل اإلعالم والجمهور‬ ‫عىل اختالف مواطنهم‪ ،‬الذين ال زالوا يتعجبون برثاء وعظمة آثارها ودقتها‪ .‬ويف املجلد الذي‬ ‫خصصه املقري (يف ‪ 1630-1629‬م) لوصف قرطبة ضمن موسوعته الضخمة املكرسة لتاريخ‬ ‫األندلس وآداباها عرب مجموعة ثرة من النصوص املنتخبة ألهم املؤرخني والشعراء والعلامء‬ ‫من كافة مراحل األندلس أو من الرحالة الذين زاروها‪ ،2‬تاركاً لنا سجالً حافالً ومعربا ً يروي لنا‬ ‫‪ 1‬أدونيس (‪« ،)2008‬غيمة فوق قرطبة» (‪ ،)2007/04/21‬يف كتاب «ليس املاء وحده جواباً عن العطش»‪ .‬ديب‪ .‬ص ‪.42‬‬ ‫‪ 2‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ .‬بريوت‪ ،‬طبعة إحسان عباس‪ .‬الجزء الرابع (من ‪ 8‬أجزاء) مع إحاالت ونصوص للرازي وابن‬ ‫بشكوال وابن سعيد وابن حيان وابن خاقان والحجاري وابن حوقل وابن الخطيب وسواهم‪ ،‬باإلضافة إىل شعراء من كافة‬ ‫املشارب واألجناس‪.‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫بالتفصيل وبيشء من املغاالة أحياناً مظهر تلك املدينة الرائعة‪« ،‬مقر امل ُلك» و«قبة اإلسالم»‪،‬‬ ‫ببواباتها وأسوارها ومساجدها املتعددة وحامماتها وحدائقها و ُمنياتها وقصورها‪ ،‬يورد عىل‬ ‫وجه التخصيص معطايات غنية عن املسجد الجامع ومدينتي الزهراء والزاهرة البالطيتني‪ .‬كام‬ ‫أنه ال يغفل عن الحرب األهلية (الفتنة) التي قضت عىل الخالفة وكيف تحولت قرطبة يف‬ ‫األدب األندليس والعريب فورا ً إىل رمز ألفول أي بناء يشيده اإلنسان وطابعه العابر‪ .‬ولحسن‬ ‫الحظ فإن عينة مهمة من ذلك اإلنسجام النادر بني «عبقرية اليد» و«عبقرية املخيلة» التي‬ ‫ع ّرف به أدونيس «األعجوبة الهندسية‪-‬الفنية» الخاصة بجامع قرطبة‪ ،‬يظل حياً اليوم سواء‬ ‫أكان عىل املستوى األثري (املرتكز حول مدينة قرطبة) أم عىل مستوى الفن الرقيق للعديد‬ ‫من التحف الفاخرة والشعبية (املتوزعة عىل املتاحف اإلسبانية وغريها يف قارات أخرى) أم‬ ‫بالنسبة للدرجة العالية من الوعي الجاميل الذي يتجىل يف النصوص األندلسية ويف عرض أسامء‬ ‫وص ّناعها‪.‬‬ ‫وتوقيعات رعاة الفنون واملسؤولني عن تلك األعامل ُ‬

‫أعجوبة جامع قرطبة‬

‫تشري املصادر العربية إىل أن عبد الرحمن الداخل عندما وصل إىل قرطبة قام بنشاط‬ ‫عمراين واسع ذي طابع عسكري ومدين وديني‪ 3‬يهدف إىل تحويل املدينة الرومانية والقوطية‬ ‫القدمية إىل «قاعدة األندلس» و«قاعدة امللك» للدولة اإلسالمية املستقلة األوىل يف شبه‬ ‫الجزيرة االيبريية‪ .‬ومن بني هذا كله كان العمل األبرز واألكرث تأثريا ً بال ريب املسجد الجامع‬ ‫(صورة ‪ )1‬الذي بدأ بناؤه يف عام ‪ 165‬هـ (‪ 786/785‬م) وكلف نحوا ً من «مثانني ألف دينار»‬ ‫وأنجز يف وقت قصري عىل أنقاض مبنى مسيحي متواضع‪ ،‬هو كنيسة «سان بيث ْن ِته» التي‬ ‫اشرتتها اإلمارة األموية الجديدة‪ ،‬حسب املصادر األندلسية نفسها‪ ،‬إثر مفاوضات جرت مع‬ ‫املسيحيني مببلغ «مائة ألف دينار»‪ ،‬ما يكرر رواية تأسيس جامع دمشق الذي أقيم فوق معبد‬ ‫القديس يوحنا املعمدان‪ .‬وكال الكنيستني املسيحيتني كانتا قد أقيمتا فوق معبدين رومانيني‬ ‫وبذلك يكون الجامعان يف العاصمتني األمويتني قد شُ ِّيدا عىل أرض «مقدسة» كمعلمني دالني‬ ‫عىل تجاوز املايض الجاهيل‪ .‬وقد خطط عريف مجهول الهوية مسقط املسجد كمربع يبلغ‬ ‫‪3‬‬ ‫وحصنها بالسور‪ ،‬وابتنى قرص اإلمارة‬ ‫ «ملا مت ّهد [عبد الرحمن الداخل] ملكه رشع يف تعظيم قرطبة‪ ،‬فجدد مغانيها وش ّيد مبانيها ّ‬ ‫واملسجد الجامع‪ ،‬ووسع ِفناءه وأصلح مساجد ال ُك َور‪ ،‬ثم ابتنى مدينة ال ُّرصافة متنزهاً له‪ ،‬واتخذ بها قرصا ً حسناً وجناناً واسعة‬ ‫ونقل إليها غرائب الغراس وكرائم الشجر من بالد الشآم وغريها من األقطار» (املقري‪ ،‬نفح الطيب‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪.)546‬‬

‫‪34‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫‪ 80‬ذراعاً لكل من الصحن والحرم (مبجمل حوايل ‪ 76‬مرتا ً عرضاً) عىل غرار النامذج األوىل‬ ‫للمساجد األموية املرشقية‪ ،‬وضمت ‪ 11‬رواقاً متعامدا ً مع جدار القبلة و‪ 12‬صفاً من األعمدة‬ ‫التي أعيد استخدامها وقد صنعت يف الحقبة الرومانية واملسيحية املبكرة والقوطية‪-‬البيزنطية‪.‬‬ ‫وابتكر ذلك العريف الذي مت ّيز مبهارة وقدرة ابداعية فائقتني نظاماً جديدا ً وجريئاً من األقواس‬ ‫املرتاكبة تقوم عىل أساس وا ٍه جدا ً يقترص عىل بضعة أحجار تحت كل واحدة من األعمدة‬ ‫وعىل السقوف الخشبية املسطحة التي تربط بني األروقة حتى السور الحجري متني األسس‬ ‫الذي يحيط بالجامع‪ .‬وسيبقى هذا النظام البنايئ فاعالً يف التوسعات األندلسية املتتالية‬ ‫للمسجد وحتى يف التعديالت املسيحية الالحقة‪ ،‬معطياً الصورة السائدة والشائعة لجامع‬ ‫قرطبة لحد اآلن‪ .‬وهذا النظام الذي تم وصفه مرارا ً من قبل الباحثني وبات موضع اعجاب‬ ‫للجمهور‪ ،‬كان قد احتسب عىل نحو تناسبي مع مخطط الجامع وبدرجة كبرية من التناغم‬ ‫الذي يقوم عىل وضع قوسني فوق بعضهام برتتيب متباين وهام عىل شكل حدوة مفتوحة‬ ‫نحو األسفل (‪ 55‬سم يف الجزء الداخيل للقوس) ويقومان كعنرصي شد بني األعمدة التي‬ ‫تحمل األقواس العليا نصف الدائرية ويبلغ عرضها ضعف األقواس السابقة (‪ 107‬سم يف الجزء‬ ‫الداخيل للقوس) وتشتمل عىل قناة عرضها ‪ 45‬سم تستخدم لترصيف مياه املطر إىل الصحن‬ ‫عرب السقوف املزدوجة املوجودة يف األروقة‪ .‬وقد مثل هذا تحسيناً لبنية السواكف التي تربط‬ ‫األقواس يف املساجد التي أقامها األمويون املرشقيون (كام يف مسجد قبة الصخرة ومسجدي‬ ‫األقىص ودمشق) ويزيد اإلحساس بانعدام الجاذبية‪ ،‬فتبدو كام لو كانت تحلق يف الهواء وتولد‬ ‫انطباعاً خيالياً بالتعددية والحركة املعامرية‪ .‬وتسهم يف ذلك ثنائية اللونني األبيض واألحمر‬ ‫التي طليت بها فقرات العقود‪ .4‬كام أن وضع الركائز أرغم أيضاً عىل قطعها بشكل منحرف‬ ‫لتندغم عىل نحو أنيق بتيجان األعمدة مشكلة ما يُعرف بأطناف اللفة‪ .‬وتستقر الركائز‬ ‫والقوسني الحدويني املدمجني بني الركائز ذاتها عىل قطعة حجر صليبي الشكل أضيفت فوق‬

‫‪ 4‬بغض النظر عن القيم الرمزية املحتملة التي ميكن أن ت ُنسب لكال اللونني (كان األبيض هو لون األمويني واألحمر ورد‬ ‫ذكره يف الحديث النبوي بوصفه اللون املفضل للنبي(ص)‪ ،‬فإن التوفيق بينهام‪ ،‬األبيض لسطوعه ونقائه واألحمر الرتباطه‬ ‫بالحياة‪ ،‬قد مثل يف األدب والفكر العربيني عالمة للداللة عىل التفوق الجاميل)‪ .‬أما يف فن البناء‪ ،‬فهذه الثنائية هي إحدى‬ ‫مناذج عامرة األبلق‪ ،‬يعني األبنية التي تتعاقب يف جدارنها حجارة داكنة وفاتحة‪ ،‬سواء أكانت بيضاء وسوداء أو غريهام‪،‬‬ ‫وهو أسلوب بنايئ تلقيدي يف بالد الشآم أصبح باستعامل اللونني البيض واألحمر إحدى خصائص عامرة األمويني القرطبيني‬ ‫جعلت الكثري من تصميامتهم التزيينية متفردة‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫تاج العمود ما يجعلها عنرص متاسك أسايس غري محسوس‪.5‬‬ ‫الصورة رقم ‪ .1‬منظر لقاعة الصالة يف جامع قرطبة األول الذي بناه عبد الرحمن الداخل يف القرن الثامن للميالد‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬صورة فوتوغرافية‪ -‬أغوستني نونييث‪.‬‬ ‫‪ 5‬من بني املراجع الوافرة حول مسجد قرطبة‪ ،‬أحيل هنا إىل دراسة أنطونيو فرنانديث‪-‬بويرتاس (‪،)2009‬‬ ‫‪Excavaciones en la Mezquita de Córdoba, en Antonio Fernández-Puertas y Purificación Marinetto‬‬ ‫‪Sánchez. Arte y cultura. Patrimonio Hispanomusulmán en al-Andalus. Granada: Editorial Universidad‬‬ ‫‪de Granada, pp. 9-132,‬‬ ‫حيث يقوم املؤلف مبراجعة جوانب مهمة من بنية املسجد وزينته انطالقاً من الوثائق والصور واملعلومات غري املنشورة‬ ‫التي حصل عليها فليكس إرنانديث من خالل حفرياته‪ .‬أنظر أيضاً‪:‬‬ ‫‪Manuel Nieto Cumplido (2005), La Mezquita Catedral de Córdoba. Patrimonio de la Humanidad.‬‬ ‫‪Granada: Edilux; Cristian Ewert (1995), La Mezquita de Córdoba: santuario modelo del Occidente‬‬ ‫‪islámico, en Rafael López Guzmán (coord.). La arquitectura del islam occidental. Granada: El Legado‬‬ ‫‪Andalusí, pp. 53-68; Rafael Moneo (1985), «La vida de los edificios. Las ampliaciones de la Mezquita‬‬ ‫‪de Córdoba». Arquitectura, 256, pp. 26-36.‬‬ ‫يشكل هذا املرجع األخري تحليالً ممتازا ً حول العنارص الرئيسية للمبنى وتحويراته املسيحية من منظور رافائيل مونيو‪ ،‬أحد‬ ‫أهم املهندسني املعامريني اإلسبان الحاليني‪ .‬وأخريا ً وليس آخرا ً‪ ،‬أنظر املقال املوجز الجيد الذي ينطوي عىل مراجع مختارة‬ ‫بدقة والذي تركه لنا األستاذ الراحل خوان أنطونيو سووتو‪:‬‬ ‫‪Juan A. Souto (2007), «La Mezquita Aljama de Córdoba», Artigrama, 22, pp. 37-72.‬‬

‫‪36‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫بقي من مسجد القرن الثامن أيضاً باب الوزراء (سمي الحقاً بباب القديس استيبان) وقد‬ ‫رممت واجهته تحت أمرة املرسور‪ ،‬فتى األمري محمد األول‪ 241 ،‬هـ (‪ 856/855‬م) كام يبني نقش‬ ‫بالخط الكويف عىل ساكف يف الجزء العلوي من بابه‪ .6‬ويجدر الذكر أن هذا األمري هو الذي بنى‬ ‫حصن مجريط الذي انبثقت منه بعد قرون العاصمة اإلسبانية‪ ،‬مدريد‪ .‬وهذه الواجهة املبنية‬ ‫بني دعامتني لسور املبنى كأنهام برجان صغريان‪ ،‬صممت وفق التقسيم الثاليث القائم يف العرص‬ ‫الروماين املتأخر وتابعه بعدئذ األمويون يف املرشق العريب‪ ،‬وباتت أمنوذجاً للبوابات يف تاريخ‬ ‫العامرة األندلسية‪ .‬ويف الوسط‪ ،‬يوجد باب ذو ساكف محيط بعقد حدوي «قرطبي» تتناوب فيه‬ ‫ال ِفقرات الحمراء واملزينة بتواريق بارزة‪ .‬أما القوس الحدوي‪ ،‬فبالرغم من السابقات القوطية التي‬ ‫ميكن نسبه إليها‪ ،‬أو املرشقية التي يراها آخرون‪ ،‬إال أن السطح العلوي األمامي واملقوس للعقد‬ ‫«القرطبي» أعرض‪ ،‬ونسبة فتحة العقد ‪ ،2:3‬وفقراته ملونة باألبيض واألحمر وله إطار رقيق بارز‬ ‫مستطيل‪ .‬فهذا النوع من العقد غدا منذئذ العقد القرطبي الكالسييك املعروف بوقاره ورقة شكله‪.‬‬ ‫ويربز فوق األقواس الحدوية الثالثة الصغرية املبهمة التي تزين الجزء العلوي من الواجهة سقيفة‬ ‫حجرية تسنده عارضات بشكل لفة‪ ،‬وفوقها تدور مبارشة سلسلة الرشافات املتدرجة ذات الكوات‬ ‫التي تحيط بسور الجامع بأجمعه‪ .‬وبعد استرياد هذه الرشافات املتدرجة من معامر الرشق‬ ‫األوسط انترشت يف املعامر األندليس وصارت مألوفة فيه‪ .‬وإىل جانبي الباب‪ ،‬يف مساحة الزخرف‬ ‫العلوية‪ ،‬مثة مرشبيتان من الرخام‪ ،‬وتحتهام بقايا عنارص التوريق املحفورة يف حجارة ت ُعترب األكرث‬ ‫قدماً خارج املسجد‪ .‬وقد أختتم أول جامع قرطبة ابن عبد الرحمن الداخل وخلفه هشام األول‬ ‫(‪ 796-788‬م)‪ ،‬آمرا ً ببناء املنارة التي ال زالت بصمة قاعدتها محددة يف فناء أشجار الربتقال بفضل‬ ‫عمل علامء اآلثار‪ ،‬إضافة إىل ميضأة بلغت أبعادها ‪ 16 X 20‬مرتا ً‪ ،‬وكانت تحظى باملراحيض‪،‬‬ ‫وكانت تقع يف الجزء الرشقي من قاعة الصالة باتجاه الشارع‪ ،‬لكنها اختفت إثر توسعة املنصور‪.‬‬ ‫‪ 6‬يصف مانويل أوكانيا خيمينيث النظام الهرمي إلدارة األشغال وتنفيذها معتمدا ً عىل النقوش ومصادر مكتوبة أخرى‬ ‫وصلتنا كام ييل‪ )1 :‬صاحب البناء أو بانيه الفخري (األمري أو الخليفة)‪« )2 ،‬صاحب البنيان»‪ ،‬أي املسؤول عن أشغال‬ ‫البناء‪« )3 ،‬ناظر البنيان» أو املرشف عىل األعامل‪« )4 ،‬العرفاء» أو خرباء البناء‪ ،‬و «املهندسون» و «الصناع» و «البناؤون»‬ ‫و«النقاشون»‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Manuel Ocaña Jiménez (1986), «Arquitectos y mano de obra en la construcción de la gran mezquita‬‬ ‫‪de Occidente», Cuadernos de la Alhambra, 22, pp. 5-85.‬‬ ‫وقد قام خوان أ‪ .‬سووتو (‪ ،)2010‬مؤخرا ً مبراجعة هذه البيانات وتوسيعها لتشمل الهندسة املعامرية األموية بني عامي‬ ‫‪ 711‬و ‪ 1013‬يف‪:‬‬ ‫‪«Siervos y afines en Al-Andalus omeya a la luz de las inscripciones constructivas», Espacio, Tiempo‬‬ ‫‪y Forma. Serie III, Historia Medieval, 23, pp. 205-263,‬‬ ‫ويقدم الباحث قامئة من ‪ 80‬حرفياً من املنفذين واملسؤولني والصناع باالستناد إىل توقيعاتهم وشواهد املقابر‪.‬‬

‫‪37‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫وقد دفع تطور قرطبة التدريجي عبد الرحمن الثاين (‪ 848‬م) إىل توسعة املسجد‬ ‫بثامنية صفوف جديدة من األعمدة بنيت أسسها اآلن بشكل متواصل تحت كل صف‬ ‫من األعمدة وتضمنت ‪ 17‬تاج عمود قرطبي الصنع لكنها كانت أقل رقة مقارنة بتلك‬ ‫التي ُصنعت يف حقبة الخالفة‪ .‬أما محراب املسجد األول‪ ،‬فمن املحتمل أنه كان محراباً‬ ‫يعلوه قوس نصف دائري بصورة صدفة‪ 7‬ليحل محله محراب جديد‪ ،‬موجهاً جنوباً كذلك‪،‬‬ ‫كانت تثبته قاعدة مدرجة تربز من جدار القبلة الجديدة‪ .‬وقد تم إظهار هذا املحراب‬ ‫الجديد بوضع عمودين رومانيني من الرخام األبيض مع تخديدات عمودية يف الواجهة‪.‬‬ ‫أما زوجا األعمدة الصغرية الحمراء والبيضاء التي سندت قوس هذا املحراب فقد احتفظ‬ ‫بهام‪ ،‬حسب ما أشار ابن عذاري‪ ،8‬من لدن الحكم الثاين يف املحراب الذي بناه من بعد‪،‬‬ ‫وميكن مشاهدتهام اليوم هناك‪ .‬ومن قبله قام والده عبد الرحمن الثالث النارص لدين‬ ‫الله بعد أن أعلن الخالفة يف عام ‪ 929‬امليالدي بتعديل فناء املسجد مشيدا ً يف البداية‬ ‫منارة يف عام ‪ 341-340‬هـ (‪ 952-951‬م)‪ ،‬ولهذا فقد هدمت املنارة السابقة‪ .‬ثم‪ ،‬يف ذي‬ ‫الحجة من عام ‪ 346‬هـ (‪ 23‬فرباير ‪ 24-‬مارس ‪ 958‬م‪ ،‬وفقاً للوحة التذكارية التي تنسب‬ ‫األشغال إىل الوزير و«صاحب املدينة» سعيد بن أيوب) تم تعزيز واجهة حرم الجامع‬ ‫باتجاه الصحن وكانت قد مالت بفعل زيادة ثقل الصفوف الثامنية من العقود املضافة‬ ‫يف توسعة عبد الرحمن الثاين‪ .‬لذا نرى كيف يحافظ العقد املركزي يف مدخل الحرم‪ ،‬وهو‬ ‫األكرب‪ ،‬عىل بقايا زخارف هندسية مشكلة بأرشطة حمراء وبيضاء تعود إىل القرن العارش‪،‬‬ ‫إىل جانب العقد السابق العائد إىل القرن الثامن والذي زُخ ُرفه أكرث تقشفاً‪ .‬من الواضح أن‬ ‫الخليفة الجديد قد استعجل يف إقامة املنارة العظيمة‪ ،‬ورغم أن بنيته غريبة عىل شكل‬ ‫برجني متوازيني إىل جانبي جدار فاصل مركزي ينطوي كل منهام عىل سلم مستقل‪ ،‬إال أن‬ ‫ارتفاعه البالغ ‪ 47,14‬مرتا ً‪ ،‬شكل معلامً مرئياً يف قرطبة وبات موضع اعجاب وتقليد الحق‬ ‫يف األندلس وبالد املغرب مشهدا ً وعظمة‪ .‬وحسب إعادة رسم شكل الربج التي قام بها‬ ‫احتامالً فيليكس إرنانديث خيمينيث (‪ 9)Felix Hernández Giménez‬انطالقاً من بعض‬ ‫‪ 7‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Antonio Fernández-Puertas (2009), Excavaciones en la Mezquita de Córdoba. Op. Cit., pp. 46-49.‬‬ ‫‪ 8‬ابن عذاري (‪ ،)1998‬البيان املغرب‪ .‬تحقيق كوالن وبرفنسال‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬ص ‪.238‬‬ ‫‪ 9‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Félix Hernández Giménez (1975), El alminar de ‘Abd al-Rahman III en la mezquita mayor de‬‬ ‫‪Córdoba: génesis y repercusiones. Granada: Patronato de la Alhambra.‬‬

‫‪38‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫املصادر ومن البقايا املندغمة بربج الكاتدرائية الذي بناه املهندس املعامري اإلسباين إرنان‬ ‫رويث اإلبن (‪ )Hernán Ruiz el Hijo‬يف القرن السادس عرش‪ ،‬فإن املنارة املشيدة بالحجر‬ ‫املرصوف طولياُ وعرضياً‪ ،‬رمبا كانت من طابقني مع نوافذ ذات ثالثة عقود حدوية مصمتة‬ ‫صغرية عىل جدار ذي زينة هندسية‪ ،‬تسندها أربعة أعمدة (يف الطرفني الرشقي والغريب‬ ‫من الربج) ونافذتان مفتوحتان بعقد مزدوج وعمود فاصل بينهام (يف الجانبني الشاميل‬ ‫والجنويب)‪ .‬ويف هاتني النافذتني توجد أول األعمدة الالصقة اىل عضادات من فن الخالفة‬ ‫القرطبية‪ .‬وفوقها كان هناك إفريز يضم تسعة أقواس صغرية بأوجهها الخارجية املتقاطعة‬ ‫وإطار مستطيل كإطار النوافذ‪ ،‬وسلسلة رشافة متدرجة متوجاً هذا الربج السفيل الكبري‪.‬‬ ‫وعليه ارتفع برج ثانٍ صغري يحتوي عىل الحجرة املخصصة للمؤذنني مسقوفة بقبة صغرية‬ ‫يرجح أنها كانت تنتهي بأربعة «تفاحات» معدنية مذهبة‪ .‬فال شك أن هذا كله مع إكساء‬ ‫املئذنة بالجص مقلدا ً الحجارة البيضاء املحددة بخطوط حمراء قانية‪ ،‬يعطي إحساساً‬ ‫عميقاً بالقوة والجاللة يليق بعظمة الخالفة‪.‬‬ ‫وعالوة عىل املئذنة العظيمة تلقى جامع قرطبة اعتبارا ً من عام ‪ 961‬من امليالد‪ ،‬أكرب‬ ‫توسعة أمر بالقيام بها الحكم املستنرص بالله (الحكم الثاين)‪ ،‬الذي كان قد أرشف شخصياً‬ ‫عىل عملية بناء مدينة الزهراء لوالده‪ .‬وقد أضيفت للجامع ‪ 12‬صفاً جديدا ً من األعمدة‪ ،‬ومع‬ ‫أن قبلة جامع املدينة امللكية املذكورة‪ ،‬مدينة الزهراء‪ ،‬كانت قد وجهت قبل سنوات قليلة‬ ‫نحو الجنوب الرشقي (بخطأ ال يتجاوز إتجاهها إىل مكة ‪ 9‬درجات)‪ ،‬إال أنه قرر بناة هذه‬ ‫التوسعة لجامع قرطبة اإلحتفاظ بالتوجيه التقليدي األويل نحو الجنوب‪ ،‬ولهذا الغرض متت‬ ‫تسوية األرض التي تنحدر صوب نهر الوادي الكبري‪ .‬ويف هذه التوسعة مل تبلغ العامرة األموية‬ ‫ذروة ازدهارها فقط‪ ،‬بل يرى مؤرخون كرث أنها متثل قمة تاريخ العامرة يف الغرب اإلسالمي‪.‬‬ ‫ومبستطاعنا إيجاز العنارص األساسية املكونة لعمل الحكم الثاين هذا‪ ،‬الذي نال مرارا ً التقدير‬ ‫واإلطراء‪ ،‬عىل النحو التايل‪:‬‬ ‫أ) صناعة موحدة لكافة األعمدة التي تنقسم إىل أعمدة مييل لونها إىل األحمر وأخرى مييل‬ ‫لونها إىل األسود‪ ،‬وتوزيعها بتناوب اللونني يف كل صف من األعمدة ومشكل ًة يف الوقت عينه‬ ‫زوايا قطرية حمراء وسوداء تلتقي يف أعمدة املحراب املزدوجة الصغرية الحمراء والسوداء كأن‬ ‫هذه األخرية هي مصدر إشعاع شبكة األعمدة‪.‬‬ ‫ب) نظام بنايئ جديد عىل شكل حرف ‪ ،T‬توجد قاعدتها يف كنيسة بيابيثيوسا حيث بدأت‬ ‫هذه التوسعة‪ ،‬ويتألف من أربع قباب‪ ،‬ثالث منها تشمل خمسة أروقة وترتفع إىل ما يزيد عىل‬ ‫‪39‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫عرشة أمتار إلضاءة املقصورة قبالة املحراب وإضفاء هيبة كبرية عليها‪ .‬وتجدر اإلشارة هنا إىل‬ ‫أن هذه القباب املبنية من مثانية أقواس متقاطعة تنطلق من قاعدة مثمنة تعترب القباب األوىل‬ ‫ذات «العصب املتقاطعة» (أي ذات أقواس ناتئة كالعروق تتقاطع يف قمة القبة) املعروفة‬ ‫يف تاريخ العامرة وسيتواصل بناؤها يف األندلس (مسجد باب املردوم‪ 10‬وقرص ذي النون يف‬ ‫طليطلة‪ ،‬ومسجد قرص الجعفرية يف رسقطسة) ويف شامل إفريقية (القبة املرابطية أو قبة‬ ‫الباروديني يف مراكش وجامع تلمسان‪ ،‬وكالهام من املرابطني)‪ ،‬ثم يف املباين القوطية واملدجنة‬ ‫والباروكية األوروبية (سان لورينثو دي تورين يف ايطاليا الذي شيده املهندس املعامري غوارينو‬ ‫غواريني يف القرن السابع عرش)‪ ،‬وصوالً إىل العامرة املعارصة (املركز اإلسالمي يف روما‪.)1996 ،‬‬ ‫الصورة ‪ .2‬مقصورة ومحراب جامع قرطبة‪ :‬توسعة الحكم الثاين (‪ 970-965‬م)‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬صورة فوتوغرافية‪ -‬أغوستني نونييث‪.‬‬ ‫‪ 10‬عىل الرغم من أن الكثري من عنارص املسجد الجامع يف قرطبة قد ُحفظت‪،‬إال أن ما وصلنا من املعامر الديني األندليس‬ ‫املرتبط بجامليتها هي عينات قليلة‪ ،‬أهمها مسجد باب املردوم الصغري (الذي أطلق عليه فيام بعد اسم «مسيح النور»)‬ ‫يف طليطلة‪ ،‬وهو املسجد الذي بناه أحد رجاالت طليطلة العام ‪ 1000-999‬م‪ ،‬أي بعد سنوات قليلة من توسعة املنصور يف‬ ‫جامع قرطبة‪ .‬ومسجد باب املردوم هو بناء مربع أو يكاد‪ ،‬ومسقطه عىل شكل حرف «‪ »T‬الالتيني أعمدته تشكل ثالث‬ ‫مربعات عرضاً وأخرى طوالً‪ ،‬وتربز قبته أيضاً أمام املحراب يف تقليد واضح للنموذج القرطبي‪ ،‬لكن عىل نطاق أضيق بكثري‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫ج) املقصورة الفخمة املذكورة‪ ،‬وهي املنطقة املخصصة للخليفة قبالة املحراب (الصورة‬ ‫‪ ،)2‬تحدها واجهات مبثابة ستائر من األقواس املتداخلة‪ ،‬بينها أقواس مفصصة اقتبست من‬ ‫العامرة العباسية واكتسبت يف قرطبة ازدهارا ً غري مسبوق كالعنرص الرئيس يف تشكيل واجهات‬ ‫املقصورة‪ ،‬التي متتد فيها أيضاً األقواس وتتشابك بغية اإليحاء بالفخامة والتعقيد املعامريني‬ ‫أكرث مام كانت عليه األقواس املتداخلة األصلية التي ال تزال تتكرر بدورها يف فضاءات التوسعة‬ ‫األخرى خارج املقصورة‪ .‬هكذا تحولت هذه الواجهات القوسية إىل «مرشبيات» عظيمة‬ ‫ومدهشة نتيجة لرتاكب العقود املفصصة والحدوية واملدببة وامتدادها وتشابكها‪ ،‬والتي‬ ‫ازدادت منها كثافة الزخرف الجيص عليها‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ال تحول هذه األلعاب اإلثارية والتشكيلية‬ ‫البرصية دون قيام هذه العقود بوظيفتها يف توزيع األحامل وقوى الشد بني القباب‪.‬‬ ‫د) وبالعودة إىل تراث املعابد األموية املرشقية (قبة الصخرة ومسجدا األقىص ودمشق‬ ‫ومسجد املدينة املنورة املندثر)‪ ،‬فقد أضيفت منظومة فسيسفاء رائعة تشمل كل من واجهة‬ ‫املحراب والقبة املركزية والبابني الجانبيني‪ ،‬باب بيت املال وباب الساباط (وهو ممر ذو طابقني‬ ‫يتصل بقرص الخالفة من خالل جرس خارجي مغلق)‪ .‬تم تركيب الفسيفساء بإرشاف جعفر يف‬ ‫عام ‪ 360‬هـ (‪ 971/970‬م) ومل تكن فريدة من نوعها يف األندلس وحسب وإمنا ميكن أن تُعد قمة‬ ‫هذا الفن يف اإلسالم الكالسييك وخامتته‪ .‬وغالباً ما يُشار بهذا الصدد إىل فقرة البن عذاري‪ 11‬تروي‬ ‫أن ملك الروم «بعث [بالفسيفساء] إىل الخليفة الحكم‪ ،‬وكان الحكم قد كتبه له يف ذلك‪ .‬وأمر‬ ‫بتوجيه صانعها إليه افتداء مبا فعله الوليد بن عبد امللك يف بنيان مسجد دمشق الخليفة الوليد‬ ‫يف مسجد دمشق»‪ .‬هكذا وصلت إىل قرطبة ‪ 320‬قنطارا ً من الفسيفساء ووضع الخليفة «جملة‬ ‫مامليك لتعلم الصناعة» مع املعلم الرومي و«صاروا يعملون معه وابدعوا ]‪ [..‬واستمروا بعد ذلك‬ ‫منفردين دون الصانع القادم‪ ،‬إذ صدر راجعاً عند اإلستغناء عنه‪ ،‬بعد أن أجزل له املستنرص الصلة‬ ‫وال كسوة‪ .‬وتداعى إىل هذه البنية كل صانع حاذق من أقطار األرض» بغية رؤيتها‪ ،‬عىل حد قول‬ ‫ابن عذاري‪ .‬وكانت الفسيفساء مكونة من خرز مربعة ظلعها حواىل سنتم واحد فقط‪ ،‬ومصنعة‬ ‫من عجينة الزجاج والحجر الجريي والخزف والرخام بإجامل ‪ 18‬لوناً عالوة عىل اللون الذهبي‬ ‫(الذي تشيد به بإرساف النصوص العربية حول املسجد) واألبيض‪ .‬ويتجىل من بينها األحمر‬

‫‪ 11‬ابن عذاري (‪ ،)1998‬البيان املغرب‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.239-237‬‬

‫‪41‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫واألخرض واألزرق‪ ،12‬وقد خطت بهذا األخري الكثري من الكتابات الكوفية والتوريقات والتشكيالت‬ ‫الهندسية‪ ،‬كام نقشت كتابات أخرى باللون الذهبي عىل األزرق وبالعكس‪ ،‬بينام ت ُشاهد يف‬ ‫البابني املوجودين إىل جانبي املحراب أرشطة كتابية رائعة بخط كويف مذهب عىل خلفية حمراء‬ ‫وزرقاء مستقيمة ونصف دائرية معاً‪.‬‬ ‫هـ) تتكون القبة املركزية من مثانية فصوص بشكل شطر الربتقال (تتكيف خرز الفسيفساء‬ ‫معها متاماً) وعىل قاعدتها املثمنة يوجد رشيط كتايب بالخط الكويف املذهب عىل األزرق‬ ‫الالزوردي حيث خطت البسملة وجزء من اآلية الكرمية ﴿]‪ [..‬وجاهدوا يف الله‪ ‬حق جهاده‬ ‫هو اجتباكم وما جعل عليكم يف الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم هو سامكم املسلمني من‬ ‫قبل‪ ‬ويف هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء عىل الناس فاقيموا الصالة واتوا‬ ‫الزكاة واعتصموا بالله هو موالكم ]‪( ﴾[..‬سورة الحج‪ ،‬اآلية ‪ .)78‬وضمن الفصوص تشكل‬ ‫الفسيفساء شبكة من الخطوط الفلكية تحوي عىل نجوم بيضاء تصل إىل القمة حيث تتألأل‬ ‫نجمة أكرب لها عرش زوايا باللون األزرق‪ .‬وتستكمل الرمزية الكونية لهذا التصميم صورة تاجني‬ ‫مأخوذة من الرتاث البيزنطي تم متثيلهام يف الفصان املركزيان الشاميل والجنويب بقصد تتويج‬ ‫وإبراز ظهور الخليفة أمام املحراب كعاهل عظيم تحميه الذات اإللهية وتلهمه‪.‬‬ ‫و) للمحراب قبة رائعة بشكل صدفة (حلت ألوانها) داخل مث ّمن زينت ستة من جوانبه‬ ‫بعقود صامء ثالثية الفصوص مع أعمدة صغرية مندمجة بركائز صغرية‪.‬‬ ‫ز) إىل جانب املحراب أقيم يف عام ‪ 355‬هـ (‪ 966/965‬م) منرب مرصع نفيس مع سلم ذي‬ ‫تسع درجات‪ ،‬يكرث اإلطراء عليه يف النصوص العربية التي تؤكد بأنه مصنوع من الخشب‬ ‫الراقي («ما بني آبنوس وصندل ونبع وبقم وشوحط وما أشبه ذلك»)‪ 13‬وكلف ‪ 37.505‬دنانري‪،‬‬ ‫غري أنه ُدمر يف القرن السادس عرش‪ .‬ويبدو أنه كان أمنوذجاً مبارشا ً للمنرب الذي ُصنع يف قرطبة‬

‫‪ 12‬لفت هرني سرتن النظر إىل جودة صناعة هذه الفسيفساء التي وزعت نغامت ألوانها بعناية‪ ،‬وأشار إىل أن اإلفريز املثمن‬ ‫ذا النقوش القرآنية يف القبة املركزية هو األكرث وضوحاً وتضادا ً واألفضل من ناحية التنفيذ‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Henri Stern, Manuel Ocaña Jiménez y Dorothea Duda (1976), Les mosaiques de la grande Mosquee‬‬ ‫‪de Cordove. Berlin: Walter de Gruyter.‬‬ ‫‪ 13‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.551‬‬

‫‪42‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫ذاتها بني عامي ‪ 1130-1125‬م لألمري املرابطي عيل بن يوسف (‪ 1142-1106‬م)‪ ،14‬وهذا املنرب‬ ‫شاهد ممتاز عىل دميومة أساليب فن الخالفة األموية الرفيع يف مدينة قرطبة‪ .‬ويف املنرب كانت‬ ‫تتم مراسم تأدية القسم‪ ،‬فضالً عن إلقاء خطبة الجمعة‪ ،‬ولهذا الغرض كان املنرب يرفع من‬ ‫مكانه ويعاد إليه‪ .‬تطري املصادر األندلسية أيضاً عىل أبواب جامع قرطبة التي كانت مكسوة‬ ‫بطبقة من الربونز وزخارف بديعة‪ ،‬كام تثني عىل مصابيحه املصنوعة من النحاس يف الخارج‬ ‫والفضة يف الداخل‪ ،‬وتتميز من بينها ثريا كبرية تتدىل من القبة الكربى حيث كانت توضع‬ ‫املصاحف أمام املقصورة‪.15‬‬ ‫ح) وبهذه التوسعة أصبح جدار القبلة يف الجامع مزدوجاً ال نظري له سوى يف مدينة‬ ‫الزهراء‪ .‬وهذا الجدار املزدوج يضم غرفاً متالحقة مقسمة رشقاً لبيت املال وغرباً للساباط‬ ‫الذي كان يصل املقصورة‪ ،‬كام أسلفنا‪ ،‬بقرص الخالفة املجاور‪.‬‬ ‫ط) األسقف الخشببية لتوسعة الحكم هي التي تتمتع بأكرب قدر من الزينة واأللوان‪،‬‬ ‫واألكرث احتفاظاً بشكلها األصيل رغم الرتميامت الحديثة واسعة النطاق التي خضعت لها‪.‬‬ ‫بعض قطعها الخشبية تحمل توقيع «ابن فتح»‪ .‬ولألسف فقد انتهى مطاف بضع من الرادفات‬ ‫إىل مزادات لندن ما بني األعوام ‪ 2004‬و‪ 2008‬يف حني أن العديد من رادفات أخرى وألواح‬ ‫األسقف ال زالت ت ُعرض اليوم متحفياً يف أروقة فناء أشجار الربتقال يف الجامع ذاتها‪.‬‬ ‫ك) اتبعت واجهات بوابات توسعة الحكم النموذج الثاليث الذي انتهجه بناة أول جامع‬ ‫أمراء قرطبة ولكن مع املستجدات الفنية الخاصة بهذه الحقبة التاريخية وهي األقواس‬ ‫املفصصة البارزة واملتقاطعة التي تسندها أعمدة دقيقة صغرية‪ ،‬إضافة اىل زخارف هندسية‬ ‫غنية قامئة عىل الرتبيع باألحمر واألبيض‪ ،‬وتزايني توريقية جصية عريضة من النمط القرطبي‪،‬‬ ‫‪ 14‬بخصوص منرب الكتبية (املوجود اليوم يف متحف قرص البديع يف مراكش)‪ ،‬يجب التلميح إىل بعض العنارص الفنية التي‬ ‫جعلت منه واحدا ً من األعامل الرئيسة لفن الرتصيع العريب واإلٍسالمي‪ :‬الشبكات الهندسية ذات نجامت من مثان زوايا‬ ‫التي تحيي بحركية رقيقة وحرية برصية مدروسة‪ ،‬والدقة البالغة يف اتقان الخطوط الشطرنجية وإنجاز التواريق املحفورة‬ ‫بعمق كأن الوريقات تفيض حياة بخروجها من الحيز املحدد لها‪ .‬إنه عمل يثري اإلعجاب حقاً وقد نفذ بفضل الخربة‬ ‫املتناهية للصناع واستخدامهم مناشري مخرتعة جيدة مل تصل إىل أوروبا حتى عرص النهضة يف إيطاليا‪ .‬تضاف إىل ذلك‬ ‫أرشطة الكتابات القرآنية التي كانت تشري بعضها إىل العرش اإللهي‪ ،‬والتي كانت مخطوطة بخط كويف جميل غري مزهر‪،‬‬ ‫واأللوان التي فقد معظمها وكان اللون الذهبي السائد يف الجزء العلوي للمنرب‪ ،‬وكذلك الزخارف املعامرية بأقواسها‬ ‫الحدوية وقواعدها وتيجانها املنمنمة يف الوجه األمامي من الدرجات‪ .‬كله يحيلنا إىل أروع الزخارف الجدارية وأشكال‬ ‫التحف العاجية القرطبية التي سنعرج عىل ذكرها فيام بعد‪.‬‬ ‫‪ 15‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪ .551‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Manuel Nieto Cumplido (2005), La Mezquita Catedral de Córdoba. Patrimonio de la Humanidad.‬‬ ‫‪Op. Cit., pp. 104-105.‬‬

‫‪43‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫وأرشطة خطية كوفية‪ ،‬ونافذتني جانبيتني مغلقتني مبرشبيات‪.‬‬ ‫ل) تم توزيع سالسل منتظمة من الكتابات يف أرجاء التوسعة‪ ،‬ال زال جزء ال بأس به‬ ‫منها بحالة جيدة‪ .‬وتشمل الكتابات ما ييل‪ )1 :‬ذكر إسم الخليفة الباين وأسامء املرشفني عليه‬ ‫وتاري َخيه يف أمكنة مميزة يف املحراب والقبلة مع آيات قرآنية منها بعض املتعلقة بالصالة‪ .‬هكذا‬ ‫نقرأ يف قاعدة املحراب اليمنى‪ ،‬بالخط الكويف عىل خلفية حمراء‪ ،‬البسلمة واآلية الكرمية ‪43‬‬ ‫من سورة األعراف ﴿الحمد لله الذي هدانا ]‪ ،﴾[..‬ثم «أمر اإلمام املستنرص بالله الحكم أمري‬ ‫املؤمنني»‪ ،‬وتتابع القراءة يف قاعدة القوس ذاته اليرسى‪« :‬أصلحه الله موليه وحاجبه جعفر بن‬ ‫عبد الرحمن ريض الله عنه بنصب هذين املنكبني فيام أسسه عىل تقوا من الله ورضوان فتم‬ ‫ذلك يف شهر ذي الحجة سنة أربعة وخمسني وثلث مائة»‪ .‬ويغلب الظن أن مفردة «املنكبني»‬ ‫هي إشارة إىل عمو َدي قوس املحراب املنقولني من محراب الجامع السابق‪ .‬وتختتم الكتابة‬ ‫التأسيسية فوق الرهص الداخيل ألهم محراب يف األندلس بدءا ً بالبسملة وتباعاً باآلية القرآنية‬ ‫«حافظوا عىل الصلوات والصالة الوسطا وقومو لله قاتنني»‪ ،‬ومبارشة تذكر مرة ثانية الخليفة‬ ‫الباين بعون الله «فيام شيده من هذا املحراب بكسوته بالرخام‪ ،‬رغبة يف جزيل الثواب وكريم‬ ‫املآب‪ ،‬فتم ذلك عىل يدي موليه وحاجبه جعفر بن عبد الرحمن‪ ،‬ريض الله عنه‪ ،‬بنظر محمد‬ ‫بن متليخ‪ 16‬وأحمد بن نرص وخلد بن هاشم‪ ،‬أصحاب رشطته‪ ،‬ومط ّرف بن عبد الرحمن الكاتب‬ ‫عبيده‪ ،‬يف شهر ذي الحجة من سنة أربع وخمسيه وثلث مائة (‪ 28‬نوفمرب‪ 27-‬ديسمرب عام‬ ‫‪ .17»[..] )965‬تعاد كتابة أسامء هؤالء األشخاص املرشفني عىل بناء املحراب يف فسيفساء باب‬ ‫السابات وباب بيت املال املجاورين‪ ،‬مثلام خطت يف عنارص بنائية أخرى من توسعة الحكم‬ ‫أسامء «فتح» و«نرص» و«طريف» و«بدر» بصفة «عبيد» للخليفة‪ ،‬وكلها أسامء نقايش تيجان‬ ‫عقود وتحف أخرى يف مدينة الزهراء وغريها‪ .‬و ‪ )2‬التوزيع املنظم لكتابات قرآنية ذات مضامني‬ ‫مرتبطة بالعدل عىل األبواب الخارجية (أبواب الجزء الغريب وما وصلنا من الجزء الرشقي)‪ ،‬رمبا‬ ‫السدة يف قرص الخالفة املجاور الذي كانت تقام فيه العدالة وتنفذ فيه‬ ‫يكون له عالقة بباب ُ‬ ‫رجال ذا وقار‬ ‫‪ 16‬راجع‪ :‬حول محمد بن متليح (بالحاء وليس بالخاء) كتب ابن سعيد األندليس (‪ 1070-1029‬م) يقول‪« :‬كان ً‬ ‫وسكينة ومعرفة بالطب والنحو واللغة والشعر والرواية وخدم النارص واملستنرص بالله بصناعة الطب وكان خطيباً عند‬ ‫الحكم وواله النظر يف بنيان الزيادة يف قلبي الجامع بقرطبة فتوىل ذلك وكملت تحت إرشاف وأمانته ورأيت اسمه مكتوباً‬ ‫بالذهب وقطع الفسيفساء عىل حائط املحراب بهام‪ .‬إن ذلك البنيان كمل عىل يديه عن أمر الخليفة الحكم يف سنة ‪»358‬‬ ‫(طبقات األمم [‪ ،]1985‬بريوت‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ص ‪.)190‬‬ ‫‪ 17‬راجع‪:‬‬ ‫‪Manuel Ocaña Jiménez (1988-1990), «Inscripciones árabes fundacionales de la Mezquita-Catedral‬‬ ‫‪de Córdoba», Cuadernos de Madinat al-Zahra’, 2, pp. 14-15.‬‬

‫‪44‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫عقوبات اإلعدام‪ .‬وعىل جدار القبلة يف املقصورة‪ ،‬سطرت آيات قرآنية منتقاة تؤكد عىل آراء‬ ‫املذهب املاليك الرسمي لخالفة قرطبة‪ ،‬الذي يقف بالضد من املشيئة الحرة التي دافعت عنها‬ ‫بعض الطوائف يف األندلس وينترص ملبدأ التسليم بالقضاء والقدر‪ ،‬وكذلك آيات كرمية تومئ‬ ‫إىل الرحمة (واجب الزكاة‪ ،‬إلخ)‪ ،‬وضمنياً إىل املسيحية‪ ،‬كسورة اإلخالص ﴿قل هو الله أحد الله‬ ‫الصمد مل يلد ومل يولد ]‪ ﴾[..‬عىل سبيل املثال‪ ،‬وإىل اليوم اآلخر‪.18‬‬ ‫آخر التوسعات هي التي قام بها القائد العامري املنصور (‪ 1000-987‬م) وكانت األكرب‬ ‫من حيث املساحة فإنها شملت عىل مثانية صفوف من األعمدة أضيفت يف الجانب الغريب‪،‬‬ ‫عالوة عىل توسيع فناء الجامع بهذا اإلتجاه‪ .‬واستلزمت هذه التوسعة هدم مجموعة من‬ ‫بيوت املدينة القريبة من الجامع‪ .‬وقد امتدحت املصادر العربية الكالسيكية التنفيذ الجيد‬ ‫لهذه التوسعة‪ ،‬التي اتبعت نظام األقواس املرتاكبة الراجع إىل الجامع األول يف القرن الثامن‪ ،‬يف‬ ‫حني أن هذه املصادر نفسها تالحظ ضآلة قيمتها عىل املستوى التزييني‪ ،‬ال سيام باملقارنة مع‬ ‫جامل توسعة الحكم‪ .19‬عىل أية حال‪ ،‬منحت توسعة املنصور للمسجد سعة برصية وفخامة‬ ‫هائلتني ما جعله أكرب مسجد يف الغرب بأبوابه اإلثني عرش وأعمدته البالغ عددها ‪1103‬‬ ‫أعمدة يف الحرم (بقي منها ‪ 856‬عمودا ً) ومبساحة تبلغ ‪ 128‬بـ ‪ 175‬مرتا ً‪ ،‬أي حوايل ‪22.400‬‬ ‫مرت مربع‪ .‬وبعد احتالل القشتاليني املدينة عىل يد فرناندو الثالث يف عام ‪ 1236‬م‪ ،‬قاموا‬ ‫بتعديل متواضع يف زاوية غريب القبلة إلقامة هناك كنيسة قوطية صغرية‪ .‬بعدئذ بنى ابنه‬ ‫ألفونسو العارش الحكيم كاتدرائية أوىل متواضعة أيضاً‪ ،‬يف عام ‪ 1260‬م‪ ،‬ومن أجل ذلك حذف‬ ‫صفني أفقيني من األعمدة ما بني توسعة عبد الرحمن الثاين وتوسعة الحكم‪ ،‬إىل أن تقرر يف‬ ‫عام ‪ 1523‬م‪ ،‬يف أوج حروب غرناطة األهلية بني املسيحيني واملسلمني‪ ،‬رفع كاتدرائية أكرب‬ ‫وسط املسجد األموي أعطت املعبد شكالً ال مثيل له عىل اإلطالق‪ ،‬أثار جدالً كان ال يزال قامئاً‬ ‫‪ 18‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Susana Calvo Capilla (2000), «El programa epigráfico de la Mezquita de Córdoba en el siglo X:‬‬ ‫‪un alegato a favor de la doctrina ortodoxa malikí», Qurtuba, 5, pp. 17-26; Susana Calvo Capilla‬‬ ‫‪(2010),«Justicia, misericordia y cristianismo: una relectura de las inscripciones coránicas de la‬‬ ‫‪Mezquita de Córdoba en el siglo X», Al-Qantara, 31 (1), pp. 149-187.‬‬ ‫تعتمد هذه املؤلفة عىل نقوش الجامع ذاتها وعىل املراجع األساسية السابقة املنشورة باإلسبانية‪ ،‬ال سيام تلك املكتوبة لكل‬ ‫من ‪ Amador de los Ríos‬و ‪ Manuel Ocaña‬و ‪ Mª Antonia Martínez Núñez‬و ‪.Nuha N. Khoury‬‬ ‫‪ 19‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ .‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪ 551‬يف توسعة املنصور توجد األسامء املنقوشة لكل من أفلح‪ ،‬أفلح الفراء والفراء‬ ‫(رمبا تكون هذه أسامء لشخص واحد)‪ ،‬دُ ِّري‪ ،‬فرج‪ ،‬فتح‪ ،‬حكم‪ ،‬خلف‪ ،‬نرص‪ ،‬سعادة‪ ،‬وبعضها وردت يف أشغال أخرى سابقة‬ ‫ويف بعض تيجان ومكونات أخرى من األعمدة ويف تحف ال عالقة لها بجامع قرطبة‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫حتى القرن العرشين بني أولئك الذين بلغوا حد اقرتاح هدم الكاتدرائية ومن يعدونها عمالً‬ ‫بارعاً يف الهندسة املعامرية طاملا نجح بانيها يف التوافق البنيوي ما بني املبنى الرقيق الشبيك‬ ‫واملنبسط للمسجد‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وارتفاع كاتدرائية من النمط القوطي‪ ،‬من ناحية ثانية‪ .‬ومتكن‬ ‫املعامري القشتايل إرنان رويث من إنجاز هذا العمل املثري بعد أن درس املبنى االسالمي جيدا ً‬ ‫واستغل متانة أسس القبلتني امللغاتني وتخىل عن اإلرتفاع املعتاد لهذا النوع من الكاتدرائيات‬ ‫الضخمة‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ويف نهاية املطاف‪ ،‬فقد احتفظ هذا املسجد‪ ،‬الذي قيل إنه «ليس يف بالد‬ ‫اإلسالم أعظم منه‪ ،‬وال أعجب بناء وأتقن صنعة‪ ،»20‬بعنارصه التأسيسية والفنية الجوهرية‬ ‫التي ال تزال تسرتعي األنظار اليوم أكرث من الكاتدرائية بوصفه أكرث إبداعاً ورقة وقرباً من‬ ‫الذوق الجاميل املعارص‪.‬‬

‫ُقرطا قرطبة‪ :‬الزهراء والزاهرة‬

‫بهدف رفد الدولة األموية الجديدة بالعامرة الالزمة التمثيلية والسكنية التي تعرب عن‬ ‫سلطانها قام األمويون أيضاً بنقل تقاليد العامرة القصورية السورية ذات جذور بيزنطية‬ ‫ورومانية ويونانية ورشق أوسطية إىل قرطبة‪ ،‬وأغنوا تلك العامرة بإسهاماتهم الجديدة القيمة‪.‬‬ ‫انتهج عبد الرحمن الداخل نهج املدن األموية املرشقية بتشييد «قرص اإلمارة» بجوار املسجد‬ ‫الجامع‪ .‬ثم وصل ابنه هشام‪ ،‬عىل ما يبدو‪ ،‬القرص بالجامع عن طريق سابات اعتنى أحفاده‬ ‫بعدئذ بالحفاظ عليه وتجديده‪ .‬وقد استخدم أحد أبراج قرص اإلمارة لآلذان قبل أن يشيد‬ ‫هشام الحقاً مئذنة الجامع الذي كان والده قد بادر ببنائه‪ .‬ومل يبق من هذا القرص ومن قرص‬ ‫الخالفة الذي تبعه سوى بقايا ألسوار وبعض تيجان األعمدة والحامم الذي يعود إىل حقبة‬ ‫الخالفة وقد اكتشف يف مقربة الشهداء يف القرن العرشين املنرصم وتم انقاظه وترميمه‪.21‬‬ ‫لقد حل محل قرص الخالفة القرص األسقفي ومبانٍ أخرى يف منطقة قرص امللوك املسيحيني‪.‬‬ ‫وأنشأ عبد الرحمن الداخل أيضاً ُمنية‪ 22‬مثالية (مدينة ملكية متكاملة ترفيهية وبها حدائق‪،‬‬ ‫وفقاً ملصادر أخرى) عىل سفح سلسلة جبال «سي ّريا مورينا» تضم جناناً واسعة وتزهو بالكروم‬ ‫‪ 20‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.545‬‬ ‫‪21‬‬ ‫باإلضافة إىل السطح حيث‬ ‫السدة‪ ،‬العدل‪ ،‬الجنان‪ ،‬إشبيلية‪ ،‬الحامم‪ ،‬السبع‪َ ،‬‬ ‫ املصادر األندلسية تشري يف هذا القرص إىل أبواب ُّ‬ ‫كان العاهل يحرض العروض العسكرية وتنفيذ عقوبات اإلعدام التي كانت تنفذ يف سهل مبحاذاة النهر‪.‬‬ ‫‪ 22‬مفردة ُ‬ ‫«املنية» متداولة باألندلس مبعنى منزل أو قرص ريفي محاط بالحدائق واملزارع‪.‬‬

‫‪46‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫وأشجار الرمان وغريها املجلوبة من موطنه األصيل وأطلق عليها اسم الرصافة إحياء لذكرى‬ ‫رصافة جده هشام بالقرب من مدينة الرقة شامل غريب سورية‪ .23‬ومل يتبق لنا منه سوى‬ ‫بعض اآلثار املادية وحفنة من اإلشارات املكتوبة‪ ،‬مثلها مثل قصور أموية أخرى ال نكاد‬ ‫نعرف عنها سوى أسامءها املوحية بحسن املكان‪ ،‬كقصور الكامل واملج َّدد والحائر والروضة‬ ‫والزاهر واملعشوق واملبارك والرشيق والرسور والتاج والبديع والبستان‪ .24‬بيد أن جوهرتا‬ ‫قرطبة بامتياز هام مدينتا الزهراء والزاهرة‪ ،‬وصلنا من األوىل‪ ،‬إىل جانب قرص «ال ُّرو َّمانية»‬ ‫فضال عن اآلثار األدبية‪ ،‬ما يسمح لنا بتكوين‬ ‫املنفرد وعىل مقربة منها‪ ،25‬بصامت مادية كثرية‪ً ،‬‬ ‫فكرة تقريبية عن عظمتها األثرية وروعتها الفنية‪.‬‬ ‫مدينة الزهراء التي اكتشفت يف مطلع القرن العرشين وتحولت بعد ذلك بقليل إىل أهم‬ ‫موقع أثري قروسطي يف أوروبا‪ ،‬وابتدأ عبد الرحمن النارص لدين الله «بناء الزهراء أول يوم‬ ‫من محرم سنة ‪ 325‬هـ» (‪ 19‬نوفمرب عام ‪ 936‬م) ‪ ،‬حسب ما أوردته بعض ال بأس به املصادر‬ ‫األندلسية‪ ،26‬مع أن علامء اآلثار أثبتوا أن البناء بدأ قبل ذلك التاريخ‪ .‬وعىل الرغم من أن عبد‬ ‫الرحامن النارص الذي أعلن نفسه خليفة كان يتمتع يف العاصمة بقصور خاصة به وبأسالفه‪،‬‬ ‫لكنه قرر خوض مغامرة معامرية طموحة‪ ،‬طويلة املدى ومحفوفة باملخاطر‪ ،‬وذلك ببناء‬ ‫مدينة ملكية جديدة ينقل إليها «حاشية أرباب دولته» واإلدراة والعرش‪ ،‬وحيث يقوم بسك‬ ‫النقود يف دار رضب جديدة‪ .‬ومن أجل خلق فضاءه التمثييل املثايل‪ ،‬يف منافسة مع الفضاءات‬ ‫التي شيدها العباسيون والفاطميون يف املرشق‪ ،‬فقد اختار أول خليفة لألندلس موقعاً «بالقرب‬ ‫من قرطبة» و«مسافة ما بينهام أربعة أميال وثلث امليل»‪ ،27‬أي أنه موقع منعزل بحذر عن‬ ‫العاصمة ومتصل بها بشكل جيد‪ .‬ويف الحال تم تنشيط عملية ترميزية «ألسطرة» املدينة مع‬ ‫لغة تأنيث املكان وجاملية الضوء النموذجيتني عىل صدرها‪ .‬ففي اسم املدينة ذاته ينصهر‬ ‫البعد النوراين للعمل وطابعه األنثوي‪ :‬الزهراء اسم مدينة الخالفة املزدهرة للخالفة الجديدة‬ ‫بتأسيس النارص واسم الجارية الجميلة وكثرية النزوات التي طلبت من الخليفة تشييد هذه‬ ‫‪ 23‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ .‬الحزء ‪ ،1‬ص ‪ ،467‬حيث يتبع مقاطع من كتاب ُ‬ ‫«امل ْغرِب» إلبن سعيد األندليس‪.‬‬ ‫نقال عن ابن بشكوال‪.‬‬ ‫‪ 24‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪ً ،464‬‬ ‫‪ 25‬تأسست ُاملنية إىل جانب الزهراء عىل يد ُد ِّري الصغري أو األصغر‪ ،‬وهو أبو عثامن الصقلبي املستنرصي‪ ،‬خادم وصاحب مال‬ ‫الحكم الثاين الذي أهداه إياها يف عام ‪ 973‬م وال تزال أجزاء من القرص باقية مع جزء من الربكة‪ .‬قام ُد ِّري الصغري باإلرشاف‬ ‫عىل أعامل معامرية أخرى وعىل صناعة بعض املواد العاجية‪.‬‬ ‫‪ 26‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ .‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪ 524‬و ‪.526‬‬ ‫‪ 27‬املصدر ذاته‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫املدينة العجيبة‪ .28‬أرادت هذه الخرافة التأسيسية املشهورة أن تجعل من الزهراء جميلة ترقد‬ ‫يف حضن «جبل العروس» الذي كساه الخليفة نفسه بأشجار التني واللوز‪ ،‬وذلك بغية إشاعة‬ ‫الرخاء واالزدهار يف املكان الذي التمسته معشوقته‪ .‬ثم رواها مبياه دافقة لتزهو بالبساتني‬ ‫والحدائق‪ ،‬التي هي األخرى مرادف لجامل اللون والضوء إضافة إىل جامل الصوت والعطر‬ ‫الزيك‪ ،‬وطبعاً الخصب‪ .‬ويف ذلك املكان الواقع عىل مرتفع يف أطراف سفوح جبال «سي ّريا‬ ‫مورينا» الذي كان برياً حتى تلك اللحظة‪ ،‬ركّز النارص طاقته العمرانية وصاغ مدينته يف‬ ‫الجبل برتتيب متدرج وشكل منتظم يجمع يف طيه مجموعة ال نهاية لها من األسوار والقصور‬ ‫واملساجد واألفنية والربك والحدائق والحاممات والطرق ومساكن الجيش والبالط والخدم‬ ‫والصناع‪ ،‬عالوة عىل املصانع الحربية وشتى أنواع الفنون‪ ،‬حتى أصبحت مدينة ملكية متكاملة‬ ‫تتناسب مع متطلبات ذلك العرص امل ُثىل‪ ،‬إال أنه مل يقدر ملن رشع لبنائها أن يراها مكتملة‪.29‬‬ ‫شغلت مدينة الزهراء مساحة شاسعة مسورة بقياس ‪ 1518‬بـ ‪ 112( 745‬هكتارا ً)‬ ‫عىل شكل مستطيل وبذلك تخطت أبعاد مدينة قرطبة‪ .‬تدرجت مبانيها مبستوى بلغ ‪70‬‬ ‫م من السور الشاميل إىل السهل‪ ،‬ما يسمح بالحفاظ عىل الرؤية البديعة للمنظر العام‬ ‫‪ 28‬نقل املقري ببعض الترصف من كتاب «محارضات األبرار» للشيخ األكرب ابن عريب ما نصه‪« :‬أخربين بعض مشايخ قرطبة عن‬ ‫سبب بناء مدينة الزهراء ]‪ [..‬فقالت له [للخيفة النارص] جاريته الزهراء‪ ،‬وكان يحبها حباً شديدا ً‪ :‬اشتهيت لو بنيت يل به‬ ‫مدينة تسميها باسمي وتكون خاص يل‪ ،‬فبناها تحت جبل العروس من قبلة الجبل وشامل قرطبة ]‪ [..‬فلام قعدت الزهراء‬ ‫يف مجلسها نظرت إىل بياض املدينة وحسنها يف ِح ْجر ذلك الجبل األسود‪ ،‬فقالت‪ :‬يا سيدي‪ ،‬أال ترى إىل حسن هذه الجارية‬ ‫الحسناء يف حجر ذلك الزنجي؟ فأمر بزوال ذلك الجبل‪ ،‬فقال بعض جلسائه‪ :‬أعيذ أمري املؤمنني أن يخطر له ما يَش ُني العقل‬ ‫سامعه‪ ،‬لو اجتمع الخلق ما أزالوه حفرا ً وال قطعاً‪ ،‬وال يزيله إال من خلقه‪ ،‬فأمر بقطع شجره وغرسه تيناً ولوزا ً‪ ،‬ومل يكن‬ ‫منظر أحسن منها‪ ،‬وال سيام يف زمان اإلزدهار وتفتح األنوار‪ ،‬وهي بني الجبل والسهل» (املقري‪ ،‬املصدر ذاته‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬ص‬ ‫‪ .524-523‬أنظر‪ :‬ابن عريب‪ .‬محارضات األبرار‪ .‬بريوت‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬ص ‪.)262-261‬‬ ‫‪ 29‬من بني العدد الهائل من املراجع املوجودة حول مدينة الزهراء أشري هنا إىل مذكرات حفريات فيلكس إرنانديث خيمينيث‬ ‫التي حققتها ونرشتها كل من مارينيتو شانشيث وفرناديث بويرتاس‪ .‬راجع‪:‬‬ ‫‪Félix Hernández Giménez, Purificación Marinetto Sánchez y Antonio Fernández Puertas‬‬ ‫;‪(1985), Madinat al-Zahra: arquitectura y decoración. Granada: Patronato de la Alhambra‬‬ ‫أنظر كذلك املقاالت املقتضبة التالية‪:‬‬ ‫‪Antonio Vallejo Triano (2001), Madinat al-Zahra, capital y sede del Califato omeya andalusí, en María‬‬ ‫‪Jesús Viguera Molins y Concepción Castillo Castillo (coords.). El esplendor de los omeyas cordobeses: la‬‬ ‫‪civilización musulmana de Europa occidental. Exposición en Madinat al-Zahra, 3 de mayo a 30 de septiembre‬‬ ‫‪de 2001: estudios. Granada: Fundación El Legado Andalusí, pp. 386-397; Antonio Vallejo Triano (2007),‬‬ ‫‪«Madinat al-Zahra. Notas sobre la planificación y transformación del palacio», Artigrama, 22, pp. 73-101.‬‬ ‫(مع ثبت مراجع نقدي ممتاز)‪.‬‬ ‫وبطبيعة الحال‪ ،‬الكتاب الضخم الشامل للمؤلف عينه الذي كان مدير هذا املكان األثري ما بني عامي ‪ 1985‬و‪:2012‬‬ ‫‪Antonio Vallejo Triano (2010), La ciudad califal de Madinat al-Zahra. Arqueología de su arquitectura.‬‬ ‫‪Córdoba: Almuzara.‬‬

‫‪48‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫باتجاه نهر الوادي الكبري وحتى العاصمة التي تلوح عن بعد والتي كانت تتصل مدينة‬ ‫الزهراء بها عرب طريقني رئيسيتني تنطلقان من بوابتي الشامل والجنوب للمدينة الجديدة‪.‬‬ ‫ال زالت املنطقة املعروفة بشكل أفضل من مدينة الزهراء تلك التي تخص قرص الخالفة‬ ‫حيث تركزت أغلبية التنقيبات حتى اآلن‪ .‬يُعتقد إنه بني عىل ثالثة مراحل متتالية نشري‬ ‫إليها هنا بإيجاز‪ :‬املرحلتان األوليان تشمالن دار امللك‪ ،‬وهي جناح املباين إلقامة الخليفة‪،‬‬ ‫البكَة والقاعتني الكبريتني للتمثيل واملراسم املدعوتني بدار الجند أو‬ ‫واملسجد الجامع ودار ِ ْ‬ ‫الوزراء‪،‬أوالهام‪ ،‬والثانية مجلس الذهب أو املجلس الرشقي‪ .‬يف املرحلة الثالثة التي ينسب‬ ‫السدة‪ ،‬وهو بوابة كبرية مجددة‬ ‫بناؤها إىل خالفة الحكم الثاين‪ ،‬أضيفت دار جعفر وباب ُّ‬ ‫للقرص‪ .‬وخارج قرص الخالفة بقيت آثار ملسجدين صغريين ومساكن املدينة ومصانعها‪،‬‬ ‫إضافة إىل مساحات من األرض املرتوكة بدون بناء مخصصة للزرع وتحسباً لنمو املدينة‪.‬‬ ‫أما مباين القرص‪ ،‬فقد صممت عىل شكل مييل إىل املربع‪ ،‬ومع أنها كانت مرتاصفة جنباً إىل‬ ‫جنب‪ ،‬بيد أنها مل تلتزم بتخطيط شامل مسبق وموحد‪ .‬فلنسوق هنا بعضاً من عنارصها‬ ‫الفنية األكرث داللة‪:‬‬ ‫‪ .1‬اإلهتامم بالحفاظ عىل املشاهد الطبيعية التي روعيت عند تشييد مباين قرص الخالفة‬ ‫املس ّور بدوره يف محور الزهراء ملتصقاً بالسور الشاميل‪ ،‬وهو جزء سور املدينة الوحيد املتعرج‬ ‫بعض اليشء ليتكيف مع تضاريس األرض‪ .‬ومن القاعات العليا يف املباين السكنية للخليفة ومن‬ ‫فوق األفنية وبقية مباين املدرجات السفلية‪ ،‬كانت تتأمل‪ ،‬كام أسلفنا‪ ،‬مدينة الزهراء نفسها‬ ‫والتالل املحيطة بها ومروج نهر الوادي الكبري ومدينة قرطبة‪ .‬ومن نافل القول إن أسوارها‬ ‫وأبراجها وقبابها كانت تعكس أيضاً حضورا ً مؤثرا ً نحو الخارج‪.‬‬ ‫‪ .2‬ويف املنطقة املتاخمة لدار امللك وبعد عبور مراكز الحرس واسطبالت الخيل نصل فضاء‬ ‫متثيلياً هائالً مكوناً من دار الجند املتصلة بالسور الشاميل والساحة الكبرية أمامه‪ .‬وكان ميكن‬ ‫السدة أو قادماً من باب‬ ‫الوصول كذلك إىل دار الجند‪ ،‬املعروفة أيضاً بدار الوزراء‪ ،‬إما عرب باب ُ‬ ‫املدينة الشاميل من خالل مسار متعرج من األبواب املتتالية ومصاطب الحراس‪ .‬ويف دار الجند‬ ‫توجد قاعة عظيمة وعميقة عىل طراز الكنائس ذات ردهة طويلة مكونة من خمسة أروقة‬ ‫طويلة متوازية وقاعة‪-‬رواق عرضية تفتح املبنى عىل ساحة واسعة ذات أروقة‪ ،‬من املحتمل‬ ‫أنها كانت مخصصة للعروض العسكرية واملراسم الرسمية‪ .‬وقد أعاد اآلثاريون انشاء ردهة دار‬ ‫الجند حتى مستوى أطر األقواس الكربى‪ ،‬وبالتايل من دون تسقيف‪ .‬وتُظهر اآلثار هيبة املكان‬ ‫يف رواقه املركزي العريض والعميق وجداره الشاميل الذي برغم خلوه من الزينة إال أنه يوحي‬ ‫‪49‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫بأنه قد استخدم لقعود شخصية مهمة‪ .30‬ومن هذا املكان تُشاهد‪ ،‬عرب األقواس الحدوية الثالثة‬ ‫ذي الفقرات الحمراء والبيضاء املوجودة يف محور مدخله وعرب أقواس القاعة الرواقية العرضية‬ ‫األمامية‪ ،‬ت ُشاهد الساحة الخارجية ويف الوقت نفسه ميكن إدراك سعة القاعة ذاتها‪ ،‬ذلك أن‬ ‫محور الشامل‪-‬الجنوب الرئيس يتكامل مع محور الرشق‪-‬الغرب الذي مي ّر بالقوسني الحدويني‬ ‫الكبريين القامئني يف وسط الرواق عىل دعامتني عريضتني وإىل جانبيه قوسان ثالثيان حدويان‬ ‫أصغر حجامً بكثري تسندهام أعمدة صغرية أيضاً‪ .‬وباستطاعة املرء الطواف ببرصه أو امليش يف‬ ‫فضاء دار الجند كله‪ ،‬مختارا ً مسارات متعددة مستقيمة أو قطرية بني األروقة املنفصلة‪/‬املتصلة‬ ‫يف ما بينها من خالل تلك العقود‪ ،‬ومتأمالً من منظورات مختلفة تلك الردهة املرسحية الباذخة‪،‬‬ ‫إن صح التعبري‪ ،‬املبنية لإلستحواذ عىل إعجاب الضيوف والسفراء والزائرين عامة‪.‬‬ ‫‪ .3‬مجلس عرش عبد الرحمن النارص‪ ،‬الذي يدعى أيضاً يف املصادر األندلسية «مجلس الذهب»‬ ‫و«املجلس الرشقي»‪ ،‬مبني عىل ارتفاع أدىن بقليل من دار الجند‪ ،‬وعىل غرار هذه األخرية شيد‬ ‫بشكل ردهة ذات أروقة طويلة تتصدرها قاعة‪-‬رواق عرضية‪ ،‬لكن مع واجهة مركزية ذات خمسة‬ ‫أقواس حدوية تنفتح عىل بركة رئيسة أمام املجلس‪ ،‬من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى عىل األروقة‬ ‫الثالث املركزية للمجلس والرواقني الجانبيني املغلقني واللذين حوال إىل حجرات‪ .‬أما األروقة‬ ‫املركزية الثالث‪ ،‬فمقسمة بصفني من خمسة أعمدة منفصلة وعمودين الصقني بالجدار يف طريف‬ ‫املجلس‪ ،‬ويف الحائط الشاميل للرواق املركزي‪ ،‬وهو األكرث عرضاً‪ ،‬كان يوضع عرش الخليفة‪ ،31‬الذي‬ ‫‪ 30‬تجدر اإلشارة إىل أن هذه األروقة يف مجالس الزهراء واملساجد‪ ،‬أي املسافة بني سلسلتني موازيتني من األعمدة‪ ،‬كثريا ً ما‬ ‫سميت يف املصادر األندلسية بالبهو (جمعها أبهاء)‪.‬‬ ‫‪ 31‬واستمرارا ً للمراسم البيزنطية والعباسية والفاطمية‪ ،‬ومنافسة معها‪ ،‬يف مجالس قرطبة والزهراء امللكية أقيمت حفالت‬ ‫استقبال دبلوماسية وتجارية كتلك التي نظمها النارص يف عام ‪ 949‬م لوفد بيزنطي أو تلك املعدة الستقبال الراهب يوحنا‬ ‫كروز‪ ،‬سفري األمرباطور أوتون األول‪ ،‬يف عام ‪ 956‬م‪ ،‬حيث كان املجلس يكتيس ببساط وستائر وسجاد رائعة‪ .‬وال ريب يف‬ ‫أن كريس العرش موضوع أمام القوس مبثابة محراب غري مجوف ملون باألبيض واألحمر وسط الجدار الشاميل‪ .‬ويبدو أن‬ ‫العرش مرتفع بعض اليشء وفقاً إلشارة املقري إىل النسيج الذي كان يغطي سلم عرش الحكم الثاين عندما استقبل ملك‬ ‫ليون أوردونيو الرابع يف الزهراء‪ ،‬مضيفاً أنه كان أشبه بالرسير مع وسائد كان الخليفة يرتبع عليها‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪María Teresa Pérez Higuera (1994), Objetos e imágenes de al-Andalus. Madrid: Agencia Española de‬‬ ‫‪Cooperación Internacional-Lunwerg, p. 38.‬‬ ‫وعن هذه املراسم املذكورة أنظر النصني التاليني‪:‬‬ ‫‪1) Emilio García Gómez en Ibn Hayyan (1967), Anales palatinos del califa de Córdoba al-Hakam II,‬‬ ‫‪por Isa ibn Ahmad al-Razi (360-364 H. = 971-975 J. C.) [trad. de Emilio García Gómez]. Madrid:‬‬ ‫‪Sociedad de Estudios y Publicaciones. 2) Miquel Barceló (1991), El califa patente: el ceremonial‬‬ ‫‪omeya de Córdoba o la escenificación del poder, en Reyna Pastor, Ian Kieniewicz y Eduardo García‬‬ ‫‪de Enterría (1991), Estructuras y formas de poder en la historia: ponencias. Salamanca: Universidad‬‬ ‫‪de Salamanca, pp. 51-71.‬‬

‫‪50‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫كان مبستطاعته مشاهدة ال ْربكة الكبرية وواجهة املجلس املقام عىل الطرف اآلخر منها وانعكاسها‬ ‫عىل صفحة املاء من خالل فتحات عقود القاعة‪-‬الرواق األمامية‪ .‬هذا املجلس الجنويب كان أصغر‬ ‫ومكوناً من ثالث أروقة وقاعة رواقية وكانت تحيط به ثالث ِب َرك صغرية أخرى والحديقة العالية‬ ‫املنقسمة إىل أربعة رياض مشكلة فضاء رحباً شبه مربع قبالة مجلس الذهب وحتى حدود سور‬ ‫القرص‪ .‬وكان يحظى املجلس الجنويب كذلك بربجه املطل عىل مناظر الجزء الجنويب من الحديقة‪.‬‬ ‫ويف الجزء الرشقي من مجلس الذهب‪ ،‬أي مجلس عرش عبد الرحمن النارص قدام املجلس‬ ‫الجنويب‪ ،‬تبقى آثار بعض الغرف الخاصة والحامم الرئيس يف القرص‪.‬‬ ‫‪ .4‬وإىل رشقي مجلس الذهب أيضاً وخارج منطقة القرص املسورة‪ ،‬لكن املتصلة به عرب‬ ‫سوره‪ ،‬ال تزال باقية أطالل دار الزكاة إىل جانب أنقاض املسجد الجامع ملدينة الزهراء‪ ،‬وهو‬ ‫يحيد بوضوح عن محور الشامل‪-‬الجنوب ملباين البالط ألنه بني يف اتجاه الجنوب الرشقي‬ ‫صوب مكة تقريباً‪ ،‬كام قلنا سابقاً‪ .‬جامع الزهراء ملتصق بقرص الخالفة يك ينتقل الخليفة‬ ‫إىل مقصورة املسجد عرب السور وجرس موصول بالساباط املبني يف القبلة املزدوجة‪ ،‬أي بني‬ ‫جدارين موازين كام ستبنى من بعد قبلة جامع قرطبة املشار إليها آنفاً‪ .‬وجامع الزهراء‬ ‫منفتح يف الوقت عينه عىل املدينة وكان املصلون يتجهون إليه كنقطة لقاء جوهرية تجمع‬ ‫الخالفة بسائر الطبقات اإلجتامعية دون أن يدخل العامة القرص‪ .‬ويظل ماثل أمام أعيننا‬ ‫مسقط الجامع املكون من خمسة أروقة مشكلة باألعمدة‪ ،‬والصحن املحاط برواق وقاعدة‬ ‫املئذنة (ضلع ‪ 5‬م) التي بلغ ارتفاعها حوايل ‪ 20‬مرتا ً وكانت مكونة من برجني‪ ،‬السفيل أكرب من‬ ‫العمل تكونت هناك‬ ‫العلوي‪ ،‬متوجني برشافات متدرجة‪ .‬وتفيد النصوص العربية بأن كتيبة ّ‬ ‫من ‪ 300‬بناء و‪ 200‬نجار و‪ 500‬عامل ما بني ُصناع وأجراء‪ ،‬وذلك من أجل تشييد جامع بديع‬ ‫يف ‪ 48‬يوماً ليس أكرث‪ ،‬عىل قول تلك املصادر‪ .‬وقد وضع منرب نفيس يف يوم ‪ 20‬مايو عام ‪941‬‬ ‫م بغية افتتاح املسجد يف اليوم التايل‪ ،‬يوم الجمعة‪ ،‬عىل يد اإلمام القايض محمد بن عبد الله‬ ‫بن أيب عيىس‪ ،‬الذي قام بالفعل بإمامة صالة املغرب‪.32‬‬ ‫‪ .5‬تكتسب مباين القصور األقل فخامة أهمية فنية خاصة‪ ،‬ونقصد بشكل خاص الدارين‬ ‫البكَة» و«دار جعفر»‪ ،‬ال سيام ألن أمنوذج الرواقني الصغريين‬ ‫اللتني أطلق عليهام «دار ِ ْ‬ ‫ببكة صغرية وحدائق متوزعة ورصيف محيط به ومتداخل‬ ‫املتواجهني يف طريف الفناء املزود ِ ْ‬ ‫البكة‪ ،‬فضالً عن الغرف الخاصة والحامم‪ ،‬وفناء مبلط تتوسطه‬ ‫يف الوسط‪ ،‬كيفام نراه يف دار ِ ْ‬ ‫‪ 32‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ .‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.564-563‬‬

‫‪51‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫نافورة‪ ،‬وهو حال دار جعفر‪ ،‬مع القاعات املستطيلة البسيطة وقليلة العمق التي تفتح عىل‬ ‫الرواقني‪ ،‬سوف تنال استمرارية يف املعامر األندليس الالحق‪ ،‬بينام اختفت الردهات العميقة‬ ‫ذات الطراز الكنائيس التي رأيناها يف دار الجند ومجلس الذهب‪ .‬ومع ذلك فإن دار جعفر‬ ‫يحتفظ بثالث قاعات ذات طابع كنيس وإن كانت أصغر ومنحرفة قليالُ عن محور الرواق‪.‬‬ ‫‪ .6‬تركزت زينة الزهراء يف هذه األجنحة النبيلة من القرص والجامع وال تربح تدهش‬ ‫الناس بانتشارها وبتفاصيلها وبإبداعها كام بجودة املواد املستخدمة فيها‪ .‬باإلضافة إىل األحجار‬ ‫الكبرية وألواح الصخر األرجواين واملالط بالجري والرتاب املصمت املستعمل يف تبليط الطرق‬ ‫املمرات واألرضيات‪ ،‬نحتت ألواح من الحجر الجريي األرجواين والرخام األبيض وقطع من‬ ‫أنواع أخرى من املرمر لتغطية الفضاءات الرئيسة‪ .‬وقد طليت قاعدات حيطان عديدة من‬ ‫القاعات واملمرات والحاممات باللون األحمر القاين فقط أو مع توريق أبيض بتقنية ذات‬ ‫مرجعية رومانية‪ .‬ويف دار الجند ومجلس الذهب صنعت أعمدة رائعة من الرخام األحمر‬ ‫واألسود ووضعت بالتناوب فيام بينها لتشكيل األروقة والواجهات‪ .‬وقد بلغت قواعد وتيجان‬ ‫األعمدة هنا أعىل مستوياتها وأخص صورها يف عرص خالفة قرطبة إذ تحلت بتنوع شكيل‬ ‫وإتقان مرهف يف نحت أرشطتها املتشابكة وخطوطها العربية وتواريقها باإلعتامد عىل تقنية‬ ‫تخريم نعتها الباحثون بـ «خلية النحل» بسبب دقة الثقوب وعمقها ممثل ًة بال شك قمة يف‬ ‫تاريخ الفن األندليس خاص ًة واإلسالمي عام ًة‪ .‬وقد احتفظت ببعض هذه القطع الرخامية يف‬ ‫مكانها بينام أعيد استخدام عدد منها باعتزاز يف مبانٍ أندلسية ومسيحية الحقة‪ ،‬وت ُعرض‬ ‫بعضها األخرى يف املتاحف‪ .‬وهذه األعمدة الرقيقة الجميلة تحمل عقود حدوية ذات بواطن‬ ‫عريضة ومتكآت بشكل هرمي مقلوب فوق تيجانها‪ ،‬ما يعزز اإلنطباع بإنعدام الوزن والكتالت‬ ‫اإلنشائية مرفوع إىل األعىل‪ .‬ومن بني األشكال املرشقية املستوردة يف هذه الفرتة يف الزهراء‬ ‫وبعد ذلك يف جامع قرطبة‪ ،‬تربز زينة التوريق عىل فقرات العقود بشكل تباديل واألقواس‬ ‫العباسية املفصصة‪ ،‬التي يظهر أنها استعملت ألول مرة يف الفن القرطبي يف درب الحراسة‬ ‫بالقرب من مجلس الذهب للنارص‪ .‬وقد نفذ برنامج زخريف جداري غني جدا ً يُعترب األكرب من‬ ‫نوعه يف العصور الوسطى يف حوض البحر املتوسط‪ ،‬مصنوع من ألواح من الحجر مندغمة‬ ‫والبكة وجامع الزهراء يقترص عىل زخارف يعود‬ ‫يف حائط البناء‪ .‬ويف حني أنه يف داري امل ُلك ِ ْ‬ ‫أسلوبه إىل فرتة اإلمارة القرطبية ويستند إىل أشكال األقنثوس وسعف النخيل‪ ،‬يف مجلس‬ ‫النارص غطيت الجدران برمتها بألواح مؤطرة عىل شكل لوحات مستطيلة مليئة بتصاميم‬ ‫نباتية ذات جذع مركزي وأفرع منبسطة إىل جانبيه ومتداخلة فيام بينها‪ ،‬عالوة عىل أزواج من‬ ‫‪52‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫الثامر‪ ،‬يعتقد أنها مستوحاة من القرآن‪ .‬وعىل الرغم من مشهدها التخطيطي والتناظري‪ ،‬بيد‬ ‫أنه مثة الكثري من عدم التناظر املقصود وتعددية ال تنضب‪ ،‬ما يفيض حيوية وجالالً ناجمني‬ ‫عن صنعة بالغة الدقة والعمق يف التخطيط وعن التحكم املوحد واملطلق لدى التنفيذ‪.‬‬ ‫وهذه اللوحات (أكرث من ‪ 65‬لوحة مختلفة الواحدة عن األخرى جميعها وتشكل برنامجاً‬ ‫تزيينياً نادرا ً فُرس معناها كصورة من صور الجنة‪ .‬فهي الرياض‪/‬الجنات التي وصفت بها‬ ‫بعض النصوص العربية الكالسيكية مظهر هذه الحيطان‪ ،33‬وباملزيد من الدقة برأي املؤرخني‬ ‫الحاليني تلك األلواح هي مبثابة إعادة صياغة للرتاتبية الفردوسية املعرب عنها يف القرآن الكريم‬ ‫ويف كتب وصف اآلخرة اإلسالمية بهدف اإلشادة بالخالفة وشخصية الخليفة‪ 34‬الذي كان يظهر‬ ‫عىل عرشه تتويجاً لتلك الفضاءات املرتاتبة التي ينسجم فيها مجلس الذهب مع الحديقة‬ ‫والبك‪ .‬هناك يتجىل الخليفة يف مكان‬ ‫الخارجية املخططة ب ُحكم العقل والتي تزدهر بالنباتات ِ َ‬ ‫مثايل تستكمله الدالالت الكونية املتمثلة يف التخاطيط الهندسية الجدارية وال سيام يف القبة‬ ‫التي يرجح أنها كانت تتوج املجلس تبعاً للمصادر األندلسية والعربية التي تومئ إليها وتصفها‬ ‫بأنها كانت مغطاة بالذهب والرخام الصلد الصايف واملتنوع األلوان‪ ،‬فضالً عن قطع أحجار من‬ ‫الذهب والفضة‪ ،‬إىل درجة أن قوة إشعاع ضوئها كان يأرس أبصار الناظرين إليها من الحقول‬ ‫املجاورة والبعيدة‪ .35‬لذا فإن الخليفة كان يتمظهر يف أعىل سلسلة الفضاءات الفردوسية هذه‬ ‫حافال بالدالالت مبا فيها مقارنة الزخارف الجدارية بالرياض‪« :‬قرص الزهراء املتناهي يف‬ ‫‪ 33‬ويورد لنا املقري نصاً خليقاً بالذكر ً‬ ‫الجاللة والفخامة أطبق الناس عىل أنه مل يُ ْ َب مثله يف اإلسالم البتة [‪ ]..‬حتى أنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إىل األندلس يف‬ ‫تلك العصور النظر إليه [‪ .]..‬واألدلة عليه تكرث –يتابع املقري–‪ ،‬ولو مل يكن فيه إال السطح املم َّر ُد امل ُْشِف عىل الروضة امل ُباهي‬ ‫مبجلس الذهب والقبة وعجيب ما تضمنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن املسترشف وبراعة امللبس والحلة ما بني‬ ‫ٍ‬ ‫وحياض‬ ‫مرمر مسنون وذهب موضون وعمد كأمنا أُفرغت يف القوالب‪ ،‬ونقوش كالرياض‪ ،‬و ِب َرك عظيمة محكمة الصنعة‪،‬‬ ‫ومتاثيل عجيبة األشخاص ال تهتدي األوهام إىل سبيل استقصاء التعبري عنها (نفح الطيب‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.)566‬‬ ‫َ‬ ‫‪ 34‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Manuel Acién Almansa (1995), Materiales e hipótesis para una interpretación del Salón de ‘Abd al-Rahman‬‬ ‫‪al-Nasir, en Antonio Vallejo Triano (coord.). Madinat al-Zahra. El Salón de Abd al-Rahman III. Córdoba:‬‬ ‫‪Junta de Andalucía, Consejería de Cultura, pp. 177-195.‬‬ ‫تقدم الباحثة ماريبيل في ّريو تفسريا ً مهامً للرموز الفردوسية ملجلس الذهب إعتامدا ً عىل نصوص قرآنية كسورة الرحامن‪،‬‬ ‫اآليات ‪ ،78-46‬وعىل الكتابات املتعلقة باآلخرة مثل «كتاب وصف الفردوس» لعبد امللك بن حبيب‪ ،‬وتعالج برنامج بناء‬ ‫الزهراء وزخرفتها يف سياق املواجهة السياسية والدينية التي خاضتها خالفة قرطبة بعيد إعالنها مع الخالفة الفاطمية‪.‬‬ ‫أنظر‪:‬‬ ‫‪María Isabel Fierro (2004), «Madinat al-Zahra, el paraíso y los fatimíes», Al-Qantara, xxv, 2, pp. 299-327.‬‬ ‫‪ 35‬أنظر‪:‬‬ ‫‪José Miguel Puerta Vílchez (2004), Ensoñación y creación del lugar en Madinat al-Zahra, en Fátima‬‬ ‫‪Roldán Castro (coord.). Paisaje y naturaleza en al-Andalus. Granada: Junta de Andalucía, Consejería de‬‬ ‫‪Cultura, Fundación El Legado Andalusí, pp. 313-338.‬‬

‫‪53‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫يف موضع من َّور ومحمي بالذات اإللهية املتمثلة يف قمة القبة‪ .‬وحسبام يريد األدب األندليس‬ ‫الذي د ّون أسطورة الزهراء‪ ،‬لقد كان يتموضع مجلس الذهب فيام وصفه بـ «السطح املمرد»‬ ‫يف إشارة واضحة إىل قوله تعاىل ﴿رصح ممرد من قواير﴾ (سورة النمل‪ ،‬اآلية ‪ ،)44‬وهو الرصح‬ ‫رس بلقيس‪ ،‬ملكة سبأ‪ ،‬كام هو معلوم‪ .‬وتنبت يف‬ ‫الذي شيده النبي سليامن يك يكشف عن ّ‬ ‫الزينة أيضاً شجرة الحياة يف بنائق‪ 36‬األقواس (قوس العرش املصمت وأقواس األبواب الجانبية)‬ ‫التي ستعيد رسمها الحقاً يف بنيقتي قوس محراب الحكم يف جامع قرطبة‪.‬‬ ‫‪ .7‬ومبرافقة األفاريز واأللواح املزينة بالتشكيالت الهندسية ذات اللونني األبيض واألحمر‬ ‫كانت هناك مجموعات من الكتابات املنقوشة تبقّى منها عينات مهمة يف املسجد الجامع ويف‬ ‫دار امللك ويف املجلس الجنويب وال سيام يف مجلس عبد الرحمن النارص حيث نراها يف أرشطة‬ ‫ممتدة عرب إطارات عقود الواجهات واألروقة الداخلية وكذلك يف محراب العرش ويف بعض‬ ‫قواعد األعمدة وتيجانها‪ .‬وقد نقشت كلها بخط كويف مورق مجدد عىل درجة عالية من األناقة‬ ‫بغية إعالء شأن العاهل بوصفه إماماً وقائدا ً للخالفة‪ ،‬وفيها كتب تاريخ البناء (بني عامي ‪953‬‬ ‫و‪ 957‬م)‪ ،‬باإلضافة إىل أسامء املسؤولني عن األشغال وبعض الصناع البارزين‪ ،‬وتظهر بعض‬ ‫هذه األسامء يف عنارص بنائية من توسعة الخليفة الحكم للمسجد الجامع بقرطبة‪.‬‬ ‫‪ .8‬وعن املرشفني عىل بناء مدينة الزهراء وصناعها تفيد كتب األخبار العربية األندلسية‬ ‫معلومات ينبغي أخذها يف الحسبان‪ ،‬كتلك التي سجلها ابن خاقان يف القرن الثاين عرش‬ ‫امليالدي حول تشغيل النارص ‪ 10.000‬رجل من الخدام والفعلة ممن كانوا يتقاضون ما مقداره‬ ‫درهم ونصف أو درهمني أو ثالثة دراهم يومياً لبناء فضاء الزهراء الشاسع‪ .‬وأشار املؤلف‬ ‫عينه إىل مساهمة العريف املهندس السوري مسلمة بن عبد الله الذي ميكن أن ينسب إليه‬

‫‪ 36‬ال َبنيقة (جمع «بنائق») هي املثلث الركني املوجود بني قوس العقد وضلعي املستطيل املحيط به‪ .‬كان لطوباويا الزهراء‬ ‫الفردوسية وجهها املضاد‪ ،‬أو النقيض (أي املكان اليسء) املتمثل يف سجن «الدويرة» الشهري الذي بني عىل غرار سجون‬ ‫ومحابس أندلسية أخرى يف القرص عينه قرب مسكن الخليفة‪ .‬وكنا قد أملحنا أعاله بإيجاز إىل تنفيذ أحكام اإلعدام أمام‬ ‫قرص الخالفة جنب جامع قرطبة ومشاهدتها من ذلك القرص‪ ،‬وسنشري فيام بعد إىل صور العنف والعقاب املنترشة يف‬ ‫التحف الفنية البالطية البديعة‪ ،‬وهي صور تتعلق معانيها مبامرسة السلطة والرصاع من أجل الحصول عليها وفرضها عىل‬ ‫األعداء تتشابك وتتكامل مع معاين الجامل الفني املحض‪.‬‬

‫‪54‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫نقل مفاهيم وأشكال معامرية مرشقية إىل الزهراء‪ .37‬كام نعرف اسم عريف البنائني عبد الله‬ ‫بن يؤنس الذي متكن‪ ،‬مبساعدة حسن وعيل‪ ،‬وهام ابنا جعفر اإلسكندراين‪ ،‬من إحضار الرخام‬ ‫الوردي من إفريقية‪ ،‬واألخرض من كنيسة صفاقس (تونس)‪ ،‬واألبيض من املرية‪ ،‬وامل ُع َّرق من‬ ‫راية (مالقة)‪ .‬وكان النارص يرسل إليهم‪ ،‬حسب ابن حيان (‪ 1076-988/987‬م)‪ ،‬عرشة دنانري‬ ‫عن كل قطعة رخام كبرية أو صغرية‪ ،‬إضافة اىل نفقات التقطيع والنقل‪ .38‬ويف الكتابات املنقوشة‬ ‫املتبقية يف مدينة الزهراء ال زالت ت ُقرأ أسامء املرشفني عىل األعامل وبعض النقاشني والر ّخامني‬ ‫ممن ت ُذكر أسامؤهم غالباً عىل شكل زوجني أو مجموعات من الصناع وليس بانفرادهم‪ ،‬يف‬ ‫قواعد األعمدة وتيجانها وعىل األقواس الصغرية واألفاريز ولوحات الزخارف‪ .‬ففي مجلس‬ ‫النرص اشتغل ما بني عامي ‪ 954‬و‪ 957‬م كل من سعد وأفلح وظريف وبدر‪ ،‬وطريف ونرص‬ ‫وغالب بن سعد وسعيد بن فتح ومحمد بن سعد وسعيد األحمر ورشيق (واألشخاص الثالثة‬ ‫األخرية وقع بها عىل تاج عمود رائع) ومظفر‪ .‬واألرجح أن هؤالء كانوا عبيد نقاشني رفيعي‬ ‫املستوى من «دار الصناعة» التابعة للخالفة‪ .39‬أما مرشفو األشغال فكانوا شُ َنيف (يف داخل‬ ‫مجلس النرص بكامله ويف الحامم املجاور‪ ،‬وكان هذا موىل بربري ترقى يف بالط الخليفة)‪ ،‬وعبد‬ ‫‪ 37‬يحتمل رفائيل مانثانو أن هذا املهندس العريف الشآمي هو من أىت إىل األندلس باملسقط الكنيس ذي الردهدات الطويلة‪.‬‬ ‫أنظر‪:‬‬ ‫‪Rafael Manzano Martos (1995), «Casas y palacios en la Sevilla almohade. Sus antecedentes‬‬ ‫‪hispánicos», en Rafael López Guzmán y Julio Navarro Palazón. Casas y palacios de al-Andalus:‬‬ ‫;‪siglos xii y xiii. Granada, Barcelona: Fundación El Legado Andalusí, Lunwerg, p. 315‬‬ ‫فحسب العريف الشآمي املذكور‪ ،‬يف الزهراء كانت تتم تسوية وصقل ونقش قرابة ‪ 6000‬حجر يومياً‪ ،‬دون احتساب القطع‬ ‫التي كان يتم تجهيزها للتبليط‪ ،‬واستخدم يف األشغال ‪ 1400‬بغل أو أكرث‪ ،‬منها ‪ 440‬بغالً كانت ملكاً خاصاً للخليفة النارص‬ ‫والباقي مستأجرا ً‪ ،‬وكان كل بغل ينقل ثالث شحنات شهرية‪ ،‬وعليه أن يحمل ‪ 3000‬مثقال كل شهر‪ ،‬ولهذا كان يدخل‬ ‫الزهراء حوايل ‪ 1100‬شحنة من اآلجر والجص كل ثالثة أيام (أنظر‪:‬املقري [‪ .]1988‬نفح الطيب‪ .‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.)568-566‬‬ ‫تهتم كتب األخبار العربية بلفت األنظار إىل عدد األعمدة املستعملة يف الزهراء‪ ،‬وحسب ابن خاقان بلغ إىل ‪ 4300‬عمودا ً‪،‬‬ ‫أي ما يقارب أربعة أضعاف أعمدة مسجد قرطبة األعظم‪ .‬ويؤكد آخرون أن ‪ 1013‬عمودا ً جاءت من إفريقية‪ ،‬و‪ 19‬من‬ ‫بالد الفرنجة وأن ملك بيزنطة قد أهدى ‪ 140‬عمودا ً‪ ،‬وسائر الدعامات النفيسة قد جيء بها من شامل إفريقية (األعمدة‬ ‫التي أُ ِ‬ ‫حضت من سجلامسة عىل سبيل املثال كان مثنها ‪ 8‬دنانري) ومن مختلف مناطق األندلس‪ ،‬من طراغونة وأقطار‬ ‫أخرى‪ ،‬وهكذا جمع الخليفة غابة كاملة من األعمدة‪ ،‬بعضها يشهد عىل سعة األرايض املسيطر عليها‪ ،‬ويشهد بعضها اآلخر‬ ‫عىل اإلحرتام الذي يكنه له ملوك عرصه‪.‬‬ ‫‪ 38‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ .‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.527-526‬‬ ‫‪ 39‬أنظر‪:‬‬ ‫‪María Antonia Martínez Núñez (1995), La epigrafía del Salón de ‘Abd al-Rahman III, en Madinat al‬‬‫‪Zahra. El Salón de Abd al-Rahman III. Córdoba: Junta de Andalucía, Consejería de Cultura, pp. 107-152.‬‬ ‫يف نظر هذه املؤلفة‪ ،‬ظهور هذه األسامء ذاتها منقوشة يف توسعة الحكم للجامع ويف قرص قرطبة وحتى يف بعض العاجيات‬ ‫وقطع الخزف «األخرض واملنغنيز» يعني عىل األغلب أنها أسامء املسؤولني املبارشين عن دار صناعة الخالفة وليست لصناع‬ ‫متعددي املهارات‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫الله بن بدر (يف املدخل املؤدي اىل املجلس وكان صاحب الرشطة ووزيرا ً‪ ،)40‬وجعفر بن عبد‬ ‫الرحمن‪ ،‬الذي توىل مراقبة األعامل يف الجناح الجنويب الذي أنىشء يف عام ‪ 345‬هـ (‪957/956‬‬ ‫م) ويف الحامم؛ وكان جعفر هذا قد ترفّع من عبد إىل منصب رئيس اسطبالت الخيل‪ ،‬ثم رئيس‬ ‫دار الطراز يف عهد النارص ليرتقى إىل حاجب وسيف دولة وكاتب يف عهد الحكم‪ ،‬وأرشف أيضاً‪،‬‬ ‫عىل أعامل محراب الجامع األموي وقرص الخالفة بقرطبة‪ ،‬كام رأينا سابقاً‪.‬‬ ‫‪ .9‬لقد تغذت البالغة «املؤمثلة» ملدينة الزهراء كذلك‪ ،‬باإلضافة إىل تلك الصور الفردوسية‬ ‫(القرآنية واألخروية واألدبية) املشار إليها واإلحصائيات املتضمنة يف كتب األخبار عن املواد‬ ‫والعامل واألموال املستثمرة (ثلث موازنة الدولة)‪ ،‬ومع أنه من الصعب تحديد درجة الصدق‬ ‫أو املبالغة فيها‪ ،‬تغذت إذن من عمليات وصف فني بحت تنصب عىل روعة املباين ومكوناتها‪.‬‬ ‫فكل األدلة السياحية اليوم تشري إىل «الصهريج العظيم» امليلء بالزئبق (مجرد حوض صغري يف‬ ‫ظ ّن البعض) الذي تقول املصادر العربية إنه وضع يف وسط مجلس يف قرص الخالفة «وكان يف‬ ‫املرصع‬ ‫كل جانب من هذا املجلس مثانية أبواب قد انعقدت عىل حنايا من العاج واآلبنوس ّ‬ ‫بالذهب وأصناف الجواهر‪ ،‬وقامت عىل سواري من الرخام يف صدر املجلس وحيطانه فيصري‬ ‫من ذلك نور يأخذ باألبصار‪ .‬وكان النارص إذا أراد أن يُفزع أحدا ً من أهل مجلسه أومأ إىل أحد‬ ‫صقالبته فيح ّرك ذلك الزئبق فيظهر يف املجلس كلمعان الربق من النور‪ ،‬ويأخذ مبجامع القلوب‬ ‫حتى يخيّل لكل من يف املجلس كان يدور وسيتقبل الشمس»‪ .41‬وقُدم هذا الصهريج عىل أنه‬ ‫ابتكار مرسحي للنارص‪ ،‬إال أن أن بعض املؤرخني العرب يؤكدون عىل أنه كان الطلونيون قد‬ ‫ببكة زئبقية أخرى مامثلة‪.‬‬ ‫أعجبوا الناس قبل ذلك يف حي القطائع بالقرب من الفسطاط ِ ْ‬ ‫‪ .10‬بيد أن هذا الحرص الجاميل‪-‬التمثييل للنارص عىل البناء مهام كلف من مثن ويف أي‬ ‫أرض كانت‪ ،‬وإنشاء معامل معامرية وتزويدها مبياه تجلب من مسافات بعيدة بغرض «تخليد‬ ‫آثاره» والتعبري عن «قوة امل ُلك» و«عزة السلطان» و«علو الهمة»‪ ،‬عىل حد قول املؤرخني‬ ‫األندلسيني‪ ،‬أدى به إىل اإلنغامس يف أعامل البناء وتزيني قصور الزهراء حتى أنه تخلف عن‬ ‫الصالة يف جامع مدينته الجديدة ثالث أيام جمعة متوالية‪ ،‬مقرتفاً هكذا تقصريا ً جسيامً يف أداء‬ ‫مهامه الدينية‪ ،‬حسبام يالحظه األخباريون‪ ،‬أثار ردة فعل فقيهه الويف واليقظ املنذر بن سعيد‬ ‫‪ 40‬تشري ماريا أنطونيا مارتينيث نونيث إىل مشاركة شُ نيف وعىل وجه الخصوص عبد الله بن بدر يف املالحقات التي أجرتها خالفة‬ ‫سة) يف سياق املواجهة مع الفاطميني‪ ،‬وكيف تبنى‬ ‫قرطبة قبل سنوات من بناء هذا املجلس ضد املرسيني (أتباع مذهب ابن َم َ َّ‬ ‫الخليفة النارص بعض األلقاب لتقوية موقفه يف هذا الرصاع الفكري‪ .‬وقد نقشت تلك األلقاب الخليفة الجديدة يف مجلس‬ ‫عرش الناص ويجدر الذكر أنه انحرص استخدام لقب «اإلمام» عىل أهم أجزاء املجلس فقط (املصدر نفسه)‪.‬‬ ‫‪ 41‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ .‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.572‬‬

‫‪56‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫البلوطي الذي مل يتوان عن انتقاد الخليفة عينه يف جامع الزهراء باآليات الكرمية املعروفة‪:‬‬ ‫﴿أت َ ْب ُنو َن ِبك ُِّل رِيعٍ آيَ ًة تَ ْع َبثُونَ‪َ ،‬وتَتَّ ِخذُو َن َم َصانِ َع لَ َعلَّ ُك ْم ت َ ْخلُ ُدونَ‪َ ،‬وإِذَا‬ ‫بَطَشْ تُم بَطَشْ تُ ْم َج َّبارِي َن‪ ،‬فَاتَّقُوا اللَّ َه َوأَ ِطي ُعونِ ‪َ ،‬واتَّقُوا ال َِّذي أَ َم َّدكُم بِ َا ت َ ْعلَ ُمونَ‪،‬‬ ‫أَ َم َّدكُم ِبأَنْ َع ٍام َوبَ ِن َني‪َ ،‬و َج َّن ٍ‬ ‫ات َو ُعيُونٍ ]‪( ﴾[..‬سورة الشعراء‪.)134-128 ،‬‬

‫ويف تحول آخر من التحوالت العديدة لهذا التوتر الحاصل ما بني العامرة البالطية والورع‬ ‫الديني‪ ،‬الذي ال ريب يف أنه هو األكرث ذكرا ً يف األدب األندليس والذي يزيد بدوره من مصداقية‬ ‫ورسوخ الخالفة‪ ،‬كام تشري املستعربة ماريبيل في ّريو (‪ ،)Maribel Fierro‬طاملا يجعل الخالفة‬ ‫يف محك النقد ويتيح للنارص الفرصة للر ّد بحزم عىل ذلك الفقيه الشهري واملحرتم لدى الجمهور‬ ‫لكونه من استجلب املطر ذات يوم عرب صالة استسقاء جامعية يف قرطبة‪ .‬فقيل إن الخليفة‬ ‫نفسه أنشد هذه األبيات للفقيه‪:‬‬ ‫هـــــمم الــــملوك إذا أرادوا ذكرهـــا‬

‫أو ما تـــرى الهرمني قـــد بقيا وكم‬ ‫إن الـــــبناء إذا تــــعاظم شـأنــــه‬

‫فـــــبألسن الــــبنيان‬ ‫مــــن بــــعدهم‬ ‫ُ‬

‫مــــلك مــــحاه حــــوادث األزمان‬ ‫أضحـــى يدل عىل عظيم الشـــان‪.42‬‬

‫ورغم أن اإلمام وأمري املؤمنني سيحاول مبساعدة معاونيه وفنانيه «إضفاء القدسية» عىل‬ ‫أعامله‪ ،‬ليس فقط بالفعل الديني املتمثل يف رفع الجامع إىل جانب القرص‪ ،‬بل أيضاً من خالل‬ ‫الزخارف الجدارية والكتابات املنقوشة الواضحة املعاين دوماً‪ ،‬إال أن ساعة النهاية حانت‬ ‫مبكرا ً‪ ،‬وما استمتع النارص سوى مدة وجيزة بالزهراء التي انطفأ إرشاقها بعد وقت قصري‪.‬‬ ‫بىل‪ ،‬لقد ترسعت األحداث إثر صعود هشام‪ ،‬ويل عهد الخليفة الحكم‪ ،‬إىل العرش‪ ،‬وكونه ال‬ ‫زال طفالً (حكم بني ‪ 1009-976‬و ‪ 1013-1010‬م)‪ ،‬فقد احتكر القائد املنصور بن أيب عامر‬ ‫السلطة وتحصن بإدارة الخالفة يف مدينة الزاهرة يف عام ‪ 370‬هـ (‪ 981‬م)‪ .‬وقد حل بها األفول‬ ‫النهايئ يف عهد اإلبن الثاين للقائد العامري املذكور‪ ،‬عبد الرحمن بن املنصور بن أيب عامر‪،‬‬ ‫امللقب َسنجول (‪ ،)Sanchuelo‬عندما اندلعت الفتنة وأحرقت مدينة الزهراء ودمرتها مرارا ً‬ ‫‪ 42‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.575‬‬

‫‪57‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫عىل أيدي الغوغاء‪ ،‬وصوالً لحكم املستكفي (‪ 1026-1024‬م) حني نهب ما تبقى من قرصها‪.43‬‬ ‫وفيام بعد‪ ،‬عندما سيطر امللك املعتمد بن عباد يف ‪ 463/462‬هـ (‪ 1070‬م) عىل قرطبة‪ ،‬تجول‬ ‫وزيره أبو الحسن بن رساج يف أطالل الزهراء برفقة بعض الوزراء واملوظفني من بالط بني‬ ‫عباد‪ ،‬ووقعوا أرسى إفتتاناً بالزهراء‪ ،‬التي باتت اآلن إمرأة هرمة يف أعني هؤالء األدباء الذي‬ ‫انهكموا يف وصفها مغمورين بروح رومانسية سابقة األوان‪ ،‬عىل حد قول املستعربة روبيريا‬ ‫ماتا (‪ .)Rubiera Mata‬فمنذ أيام الشاعر والوزير ابن زيدون (‪ 1071-1003‬م) عىل األقل‪،‬‬ ‫الذي كان معارصا ً لتألق الزهراء وأفولها‪ ،‬غدت صورة خرابها موضوعاً منوذجياً شائعاً يف الشعر‬ ‫واألدب العريب حتى يومنا هذا‪ .‬ولج هؤالء الزوار املرموقون يف خدمة أكرب ملك شاعر يف‬ ‫األندلس‪ ،‬املعتمد بن عباد‪ ،‬قصور الزهراء الخربة وتاهوا يف غرفها العالية‪ ،‬واحتسوا كؤوسهم‬ ‫حتى الثاملة يف الرشفات‪ ،‬وبعد أن طافوا مجددا ً يف اآلثار أمعنوا يف تجربة الزمن املهلك وهم‬ ‫يرون األعشاب الربية والضواري قد تسيدت املكان وحلت غربان البني محل الطيور الصداحة‬ ‫وصارت الزهراء الرائعة الخصبة عجوزا ً فقدت أبناءها‪ ،‬محض وردة ذبلت يف لحظة‪.44‬‬ ‫كانت عملية تأنيث املكان الفردويس والعريس رمزياً تشمل قرطبة عينها‪ ،‬التي رآها الحجاري‬ ‫كعروس بهية مزينة‪ ،‬ولو لفرتة قصرية‪ ،‬بقُرطني‪ ،‬الزاهرة والزهراء‪ ،‬معتربا ً أياهام بحارضيت امل ُلك‬ ‫تفوقتا عىل الخورنق والسدير وغمدان‪ ،45‬تلك املدن األسطورية املرشقية املمثلة لألعجوبة‬ ‫املعامرية وكذلك للغرور اإلنساين املهزوم بالزمان‪ .‬ولألسف فإن اآلثار الباقية من الزاهرة هي‬ ‫أقل من آثار الزهراء‪ ،‬التي كانت يف واقع األمر منافستها ألن مغتصب السلطة ومن صنع‬ ‫عملياً دولة عامرية مغتصبة‪ ،‬محمد بن أيب عامر املنصور‪ ،‬بدأ يف بنائها بالقرب من قرطبة‬ ‫كذلك يف عام ‪ 978‬م كمدينة بالطية بديلة‪ .‬وإذا كانت الزهراء تقع يف غرب العاصمة‪ ،‬فإن‬ ‫املصادر العربية تشري إىل أن الزاهرة كانت تقع يف الرشق إىل جانب نهر الوادي الكبري‪ ،‬وهو‬ ‫‪ 43‬لنذكر تلك الكلامت املعربة إلبن حيان عن تدمري الزهراء‪« :‬فطوى بخرابها بساط الدنيا وتغري حسنها‪ ،‬إذ كانت جنة األرض‪،‬‬ ‫فعدا عليها قبل متام املائة من كان أضعف قوة من فارة املسك ]‪( »[..‬ابن بسام [‪ ،]1998‬الذخرية يف محاسن أهل الجزيرة‪،‬‬ ‫تحقيق سامل مصطفى البدري‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬الجزء ‪ ، 1‬ص ‪ .)272‬حول مصري مدينة الزهراء عرب التاريخ‪ ،‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Félix Hernández Giménez, Purificación Marinetto Sánchez y Antonio Fernández Puertas (1985),‬‬ ‫‪Madinat al-Zahra: arquitectura y decoración. Op. Cit., pp. 182 y ss.‬‬ ‫‪ 44‬أنظر‪:‬‬ ‫‪María Jesús Rubiera Mata (1988), La arquitectura en la literatura árabe: datos para una estética del‬‬ ‫‪ José Miguel Puerta Vílchez‬و ;‪placer [prólogo de Antonio Fernández Alba]. Madrid: Hiperión, p. 131‬‬ ‫‪(2004), Ensoñación y creación del lugar en Madinat al-Zahra. Op. Cit.‬‬ ‫‪ 45‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.153‬‬

‫‪58‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫ما تثبته اآلثار والبقايا التي ُعرث عليها يف املنطقة‪ .‬أقام املنصور يف الزاهرة يف عام ‪ 980‬م بحثاً‬ ‫عن األمن وتقليدا ً للخلفاء واستعراضاً لقوته‪ .‬امتدت املدينة الجديدة يف السهل املحاذي للنهر‪،‬‬ ‫وأحاطها بانيها بسور ويف مجرد عامني انتهى من بنائها‪ ،‬حسب ابن خاقان‪ .‬نقل إليها مكاتب‬ ‫وإدارة ومالية الدولة ووزع قطع األرايض عىل كتبته وقادته ووزرائه‪ ،‬كام غرس البساتني‬ ‫والحدائق‪ ،‬وأقام أسواق ونظم مراسم إستقبال‪ .‬وكان أحد قصور الزاهرة يسمى «دار الرسور»‬ ‫ويحظى بأعمدة مزدوجة من الرخام ورسعان ما مجدته القصائد التي مل ترتدد يف مقارنته‬ ‫بالرصح القرآين املشهور الذي بناه امللك سليامن لبلقيس‪ .46‬وسيلح كل من الشقندي وابن‬ ‫سعيد يف القرن الثالث عرش امليالدي‪ ،‬واملقري يف القرن السابع عرش امليالدي بأسلوب أقل‬ ‫بالغة بل بنية إطرائية مامثلة‪ ،‬يف الحديث عن اإلنارة املثرية التي كانت تحيي الحزام الواسع‬ ‫التي تشكله الجوهرتان القرطبيتان حول املدينة األم‪« :‬إن العامرة اتصلت يف مباين قرطبة‬ ‫السج املتصلة عرشة أميال»‪ ،‬حسبام ذكره‬ ‫والزهراء والزاهرة‪ ،‬بحيث إنه كان ُيىش فيها لضوء ُّ‬ ‫الشقندي‪ .47‬لقد خبا كل ذلك الربيق لكن ال تزال تشع الكثري من التحف الفنية التي أبدعت‬ ‫يف مصانع هاتني البؤرتني لإلزدهار الهاربتني‪ ،‬شأنهام شأن العاصمة‪ ،‬إلمتاع الحاكم وحاشيته‪،‬‬ ‫ولتجميل الحدائق واملجالس القصورية‪ ،‬وإلرسالها كهدايا تبدي يف أقطار أُ َخر صورة الرتف‬ ‫واإلتقان الفني الذي توصلت قرطبة إليه‪.‬‬

‫فضاء التحف الفنية واإلحكام يف تشكيلها وتصويرها‬

‫لقد باتت بعض التحف الفنية البالطية أسطورية يف زمان األندلس ذاته‪ ،‬كالحوض الذي‬ ‫نصب يف مدينة الزهراء والذي أثنى األدب األندليس عىل شكله الغريب وتزيينه وتذهيبه‬ ‫املصنوع يف املرشق‪ ،‬إما يف دمشق أو يف القسطنطينية‪ ،‬والذي نُقل إىل قرطبة ب ّرا ً وبحرا ً عىل‬ ‫يد أحمد اليوناين واألسقف «ربيع»‪ .‬ويقال إنه كان أخرض اللون وفيه نقوش ومتاثيل عىل‬ ‫صورة اإلنسان وإنه قد وضع يف «بيت املنام يف املجلس الرشقي املعروف باملؤنس»‪ ،‬أي جنب‬ ‫مجلس عرش النارص‪ .‬وحسبام يورده املقري عن بعض املؤرخني « ُجعل [عىل الحوض] اثني‬

‫‪ 46‬راجع‪:‬‬ ‫‪María Jesús Rubiera Mata (1988), La arquitectura en la literatura árabe: datos para una estética del‬‬ ‫‪placer. Op. Cit., pp. 132-134.‬‬ ‫‪ 47‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.456‬‬

‫‪59‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫عرش متثاالً من الذهب األحمر مرصعة بالدر النفيس الغايل مام صنع يف دار الصناعة بقرطبة‪:‬‬ ‫صورة أسد غىل جانبه عزال إىل جانبه متساح‪ ،‬وفيام يقابله ثعبان وعقاب وفيل‪ ،‬ويف املجنبتني‬ ‫حاممة وشاهني وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونرس‪ ،‬وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر‬ ‫النفيس‪ ،‬ويخرج املاء من أفواهها‪ ،‬وكان املتويل لهذا البنيان املذكور اب ُنه الحكم‪ ،‬مل يتكل فيه‬ ‫النارص عىل أمني غريه»‪ .48‬كانت تشكل كل تلك التامثيل‪ ،‬إذن‪ ،‬نافورة عظيمة‪ ،‬عجيبة‪ ،‬ككثريات‬ ‫سواها نصبت واحتفى بها األدب االندليس البالطي املسهب‪.49‬‬ ‫بدون أحجار كرمية وال مواد نفيسة وصلتنا بعض األحواض وأجزاء من عيون رخامية كانت‬ ‫قد ُجعلت عليها نوافري ماء عىل هيأة حيوانات مسبوكة باملعادن‪ .‬لقد اشتهرت األحواض‬ ‫العائدة إىل عهد الخالفة التي تحمل نقوشاً لحيوانات من السنوريات والجوارح (أسود وعقبان)‬ ‫التي تفرتس حيوانات عاشبة (غزالن وظباء وثريان وغريها)‪ ،‬وهي الصورة الرمزية الشائعة منذ‬ ‫القدم للتعبري عن السلطة والتي دخلت اللغة الرمزية السلطوية لفنون اإلسالم من خالل‬ ‫الفن الساساين‪ .‬من بني تلك األحواض لدينا الحوض الخليفي القرطبي الذي نقله امللك باديس‬ ‫اىل غرناطة (متحف الحمراء) يف منتصف القرن الحادي عرش امليالدي‪ ،‬مع مشهدين للحيوان‬ ‫الضاري املنقض عىل الحيوان العاشب إىل جانبي شجرة حياة‪ ،‬ومشهد نرس يفرتس عاشبني‬ ‫منقوش يف كال أصغر ضلعي الحوض‪ .‬ويوجد كذلك الحوضان العامريان اللذان من املحتمل أن‬ ‫يكونا قادمني من املدينة الزاهرة‪ ،‬وهام املعروف بحوض املنصور ألنه مهدى إليه وفقاً للكتابة‬ ‫الكوفية املنقوشة عليه والتي تؤرخ القطعة الفنية يف عام ‪ 377‬هـ (‪ 987‬م) (متحف اآلثار‬ ‫الوطني يف مدريد)‪ ،‬والحوض املهدى إىل ابنه عبد امللك (‪ 1008-1002‬م) املحفوظ يف مدرسة‬ ‫ابن يوسف يف مراكش‪ ،‬وهو مامثل للحوض السابق‪ ،‬ولكن بجزء من زخرفه مفقود‪ .‬وتجمع‬ ‫زخارف حوض عبد امللك الغزيرة ما بني العنارص النباتية والزهرية والطيور املائية واألسامك يف‬ ‫الحافات من ناحية‪ ،‬وصور الحيوانات الكالسيكية يف الفنون البالطية (عقبان تحمل حيوانات‬ ‫ذات قوائم أربع عىل أجنحتها املنبسطة وتقبض العزالن مبخالبها‪ ،‬من ناحية أخرى‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫الحيوان الخرايف الفتخاء (الغرفني) املتقابل مع نفسه إىل جانبي شجرة)‪ .‬ويف حوض املنصور‬ ‫نشاهد تشكيالً معامرياً قوياً يف احدى واجهتيه الرئيسيتني مكون من أعمدة صغرية تبدو وكأنها‬ ‫‪ 48‬املصدر السابق‪ .‬ص ‪ 527-526‬و ‪ 569-568‬وأيضاً‪ ،‬املقري (‪ ،)1978‬أزهار الرياض يف اخبار عياض‪ .‬الرباط‪ ،‬صندوق إحياء‬ ‫الرتاث اإلسالمي‪ ،‬الجزء ‪ ،2‬ص ‪.271-270‬‬ ‫‪ 49‬نسب ابن خلدون للخليفة النارص امتالك يف الزهراء مجموعة أخرى من الحيوانات الحقيقية‪« ،‬الوحش والطيور»‪ ،‬عىل حد‬ ‫قوله‪ .‬أنظر‪ :‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.578‬‬

‫‪60‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫تدعم ثالثة أقواس ثالثية الفصوص وبالفقرات املتبادلة عىل الطريقة التقليدية القرطبية التي‬ ‫تحتضن كل واحد منها شجرة حياة محورية‪ .‬هكذا تنضم صورة العامرة جلياً إىل رمزية املكان‬ ‫وامل ُلك املثاليني يف التحف الفنية البالطية‪ .‬ومن الزهراء وصلتنا أيضا أحواض دائرية محززة‬ ‫كأنها مشكلة من شطر الربتقال ال تزال بعضها حتى األن يف املوقع األثري‪ ،‬خالية من التصاوير‬ ‫ومزخرفة بتخاطيط نباتية مقتصدة وجميلة أو مبجرد رشيط خطي كوفيي‪ ،‬كام هو حال‬ ‫الحوض املكون من اثني عرش فص وكتابة كوفية منقوشة يف حافته متتدح الحكم املستنرص‬ ‫بالله ويذكر فتاه وحاجبه جعفر املنفذ ألمر الخليفة بصناعة الحوض يف عام ‪ 360‬هـ (‪ 970‬م)‬ ‫(متحف اآلثار يف غرناطة)‪ .‬من نافل القول إن تصنيع األحواض والنافورات ومتاثيل الحيوانات‬ ‫املستخدمة إلطالق املياه استمرت يف األندلس حتى عهد بني نرص مواكباً اياه انتاج شعري‬ ‫هائل‪ .‬لكن أكرث ما حظي بالشهرة ال شك أنه الصنابري الجميلة بصورة الحيوان التي تعود‬ ‫جذورها إىل ما قبل االسالم والتي تحل محالً مميزا ً يف العامئر األسطورية املذكورة يف األدب‬ ‫العريب‪ ،‬وعرفت فرتة ذهبية يف األندلس متثلت أساساً بالغزال الصغري ملدينة الزهراء (صورة‬ ‫رقم ‪ )3‬املحفوظ يف متحف قرطبة (اآلن يف متحف مدينة الزهراء)‪ ،‬والذي يعرض يف مدينة‬ ‫الدوحة بقطر‪ ،‬وذلك الذي يوجد يف متحف اآلثار الوطني مبدريد‪ ،‬وهو يف حال أكرث ترضرا ً‪.‬‬ ‫صنعت كلها من الربونز املصهور بتقنية «الشمع املفقود»‪ ،‬ويفيض بروفيلها الرائع جامالً‬ ‫ووقارا ً‪ ،‬كام أن عيونها اللوزية املمنهجة وزخارف التوريق الرقيقة التي تغطي أجسادها تنأى‬ ‫بها عن النسخ الواقعي للطبيعة ومتنحها حضورا ً رمزياً جوهرياً يوحي بالرخاء والجامل وحسن‬ ‫املكان‪ .‬وهذا ما يؤكده أيضاً الحيوان ذو القوائم األربع يف متحف بارغيللو (‪ )Bargello‬يف‬ ‫فلورنسا‪ ،‬العائد إىل ما بني القرن العارش والحادي عرش امليالدي والذي يحتمل أنه ميثل ظبياً‬ ‫صغريا ً آخر‪ ،‬ولو كان أقل رشاقة ويختلف زخرفه التوريقي‪ ،‬ويحتوي عىل رشيط وسطي مع‬ ‫«البكة الكاملة» بالخط الكويف‪ .‬ومن مجموعة األسود متنوعة األشكال التي تلفظ‬ ‫العبارة َ َ‬ ‫املياه والتي صنعت حتى أفول األندلس‪ ،‬نذكر هنا األسد ذا الذيل املتحرك والفك املفتوح جدا ً‬ ‫املحفوظ يف متحف «كاسل» (‪ )Kassel‬بأملانيا واملدعو بأسد «مونثون» (‪( )Monzón‬بالقرب‬ ‫من مدينة ‪ Palencia‬اإلسبانية) (متحف اللوفر بباريس) الذي ينسب اىل القرن الثاين عرش‬ ‫امليالدي والذي يتشابه كثريا ً مع التحف الربونزية األموية السابقة‪ ،‬تحديدا ً يف كتابة «الربكة‬

‫‪61‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫الكاملة» الكوفية املنقوشة كذلك يف جانبي جسده‪.50‬‬ ‫صورة ‪ 3‬صنبور غزال صغري يعود ملدينة الزهراء‪ ،‬القرن العارش امليالدي‪ .‬متحف اآلثار يف قرطبة‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬تصوير فوتوغرايف‪ -‬اغوستني نونييث‪.‬‬

‫يندرج يف هذه الجاملية ذاتها إبريقا ماء الربونزيان املصوغان عىل شكل طاووس إلغراض‬ ‫طقوسية عىل ما يظهر‪ .‬ويُقرأ يف اإلبريق املوجود يف متحف اللوفر نقشان أحدهام باللغة‬ ‫‪ 50‬لنذكر متثال الفيل املنحوت من الحجر الذي كان يسكب املاء عىل بركة يف ُمنية قريبة من قرطبة املحفوظ يف املتحف‬ ‫الكنيس بقرطبة (‪ )Museo Diocesano de Córdoba‬وأن الشاعر ابن وهبون وصف فيام بعد نافورة عىل صورة فيل‬ ‫مامثلة‪ ،‬إن مل تكن ذاتها‪ ،‬يف قصيدة متدح قرص الزايك للمعتمد بن عباد‪ ،‬ملك اشبيلية يف القرن ‪ 11‬م‪ .‬راجع‪ :‬ابن بسام‬ ‫(‪ ،)2000‬الذخرية (طبعة إحسان عباس)‪ .‬بريوت‪ :‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬املجلد الرابع‪ ،‬ص ‪ .519‬وفضالً عن التحف املتبقية‬ ‫وعن األدب الذي ميجد هذا النمط من النوافري األندلسية‪ ،‬مبقدورنا تأمل صور بعضها يف املخطوطات كتلك املرسومة يف‬ ‫إحدى منمنامت «حديث بياض ورياض» (القرن الثالث عرش امليالدي‪ ،‬متحف الفاتيكان) يظهر فيها رأسان (رمبا لظبي)‪،‬‬ ‫يصبان املاء يف ِب ْركة حديقة «السيدة»‪ ،‬صاحبة القرص الذي تجري فيها أحداث القصة‪.‬‬

‫‪62‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫العربية‪« ،‬عمل عبد امللك النصاري»‪ ،‬واآلخر بالالتينية‪ ،»Opus Salomonis era T X« :‬ما‬ ‫يعني العام ‪ 1010‬يف التقويم اإلسباين الذي يعادل العام ‪ 972‬امليالدي يف تقومينا املعتاد‪ .‬ومن‬ ‫املعروف أن مثة صلة رمزية بني الطيور والنبي سليامن يف العاملي اإلسالمي واملسيحي عىل‬ ‫السواء‪ .‬ت ُالحظ يف هذا الطاووس الربونزي واآلخر املامثل الذي ُعرث عليه يف مورس (‪)Mores‬‬ ‫(شامل جزيرة رسدينيا‪ ،‬املتحف فن الرسم الوطني يف كالياري‪Pinacoteca Nazionale di :‬‬ ‫‪ )Cagliari‬زخاف توريقية عىل األجنحة والصدر شبيهة بزخارف صندوق هشام الثاين (كاتدرائية‬ ‫جريونا‪ )Catedral de Gerona :‬املصنوع من الخشب والفضة‪ ،‬كام ت ُالحظ فيهام التواريق شبه‬ ‫الدائرية عينها التي تزين متثال «فتخاء بيزا» الذي سنعود إليه بعد قليل‪ .‬يُستنتج من هذا أن‬ ‫اإلبريقني صنعنا يف األندلس وأنهام كانا ينتميان إىل مضامر مسيحي‪ ،‬نظرا ً إىل الكتابة الالتينية‬ ‫املذكورة وإىل الصليب الذي يحمله كالهام وبنا ًء عىل أن كون الطاووس «رمزا ً عن قوم الوثنيني‬ ‫الذين يقدمون من أقىص األرايض إىل السيد املسيح»‪ ،‬حسبام أشار إليه رابانوس ماوروس‬ ‫(‪ )Rabanus Maurus‬يف القرن التاسع امليالدي‪ .51‬وفيام يخص «فتخاء بيزا» الشهري (متحف‬ ‫كاتدرائية بيزا بإيطاليا)‪ ،‬الذي يرفع يف الفن اإلسالمي صورة يف ذلك الحيوان األسطوري الخليط‬ ‫من رأس ومنقار وجناحي ُعقاب وجسم وقوائم أسد إىل درجة متثال برونزي كبري ذي حضور‬ ‫جليل وملفت لألبصار‪ .‬ويُعلم أنه نسبت إىل الفتخاء خصائص هذين الحيوانني الشمسيني‬ ‫ال ُعقاب واألسد‪ ،‬املتعلقني برموز امل ُلك‪ ،‬وأنه ارتبط أيضاً بشجرة الحياة واعترب تقليدياً كائناً داعياً‬ ‫للخري وحامياً للمكان واألرواح‪ .‬وبعد أن انتقال صوره من فنون الرشق األوسط القدمية اىل الفن‬ ‫اإلسالمي نجدها يف نوافري املياه والعاجيات واألنسجة ويف عدة تحف أخرى أموية وأندلسية‪.‬‬ ‫ومن األكيد أن «فتخاء بيزا»‪ ،‬الذي يعزو البعض إليه وظيفة تزيينية بحتة والبعض اآلخر وظيفة‬ ‫طقوسية غري محددة‪ ،‬كان قد صيغ يف األندلس يف القرن الحادي عرش امليالدي ويتضمن أرشطة‬ ‫بكتابة منقوشة بخط كويف أنيق تطلب شتى األخيار الروحية والجسدية املنشودة ملن ميلكه‪:‬‬ ‫«بركة كاملة ونعمة شاملة وغبطة كاملة وسالمة دامئة وعافية كاملة وسعادة وعمدة لصاحبه»‪.‬‬ ‫‪ 51‬أنظر‪ :‬ماريا خيسوس بيغريا (‪ )Mª Jesús Viguera‬و كون ِث ْبثيون كاستيو )‪ ،)2001( (Concepción Castillo‬املرجع‬ ‫سابق الذكر‪ ،El esplendor de los omeyas cordobeses‬ص ‪ .47‬وفيام يتعلق باملصنوعات املعدنية النفيسة املنجزة يف‬ ‫قرطبة ويف مناطق نفوذها‪ ،‬سنقترص عىل اإلشارة اىل أباريق أخرى والعديد من األدوات كالقناديل‪ ،‬التي يربز من بينها‬ ‫قنديل مدينة الجزيرة الخرضاء مع كلمة «بَ َركة» منقوشة بالكويف عليه وصورة طائر صغري يف محوره (عرص الخالفة)‬ ‫وقناديل أخرى آتية من التنقيبات يف قرطبة وإلبرية‪ ،‬واملصباح الربونزي وقوائم املجمرة املتوجة برأس أسد‪ ،‬أو تلك األكرث‬ ‫بساطة التي عرث عليها يف مدينة البرية (القرن ‪ 10-9‬م‪ ،‬متحف اآلثار يف غرناطة)‪ ،‬فضالً عن النقود والحيل (كنوز بلدات‬ ‫‪ ،)Garrucha, Loja, Ermita Nueva, Charilla‬وقوارير العطر الرقيقة من فرتة الخالفة املكتشفة يف مدينتي قرطبة‬ ‫ولوثينا (متحف محافظة قرطبة األثري) (املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.)246-190‬‬

‫‪63‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫وتجدر املالحظة إىل أنه نقشت يف الجزء األعىل من قوائم هذا الفتخاء صورتا األسد (يف األمام)‬ ‫وال ُعقاب (يف الخلف)‪ ،‬يعني الحيوانان األصليان اللذين خلق من مزيجهام هذا املخلوق الخرايف‬ ‫النموذجي‪ ،‬بينام جناحيه ومساحات الرأس مزينة بأشكال الريش والجسم بدوائر تم نقشها‬ ‫جميعها بأسلوب منطي منتظم ودقيق‪.‬‬ ‫وسوف نجد هذا الطقم من الصور وإن كان بحجم مصغر يف الصناديق والعلب العاجية‬ ‫املصنعة يف داري صناعة قرطبة ومدينة الزهراء‪ ،‬وبعدئذ يف مدينة قونكة (‪ ،)Cuenca‬يف وسط‬ ‫إسبانيا‪ ،‬ولكن بقيمة جديدة مضافة ناتجة عن مادتها النفيسة‪ ،‬العاج‪ ،‬وعن الصور البرشية‬ ‫املنقوشة فيها حتى شكلت ما ميكن اعتباره كُتَ ِّيبات منمنمة ومزركشة بأرشطة كتابية أنيقة‬ ‫وزخارف يف غاية الرقة واإلتقان ال تستغني ولو عن الحيوانات الرمزية واملشاهد امللكية‬ ‫ذات الفحوى مرهف الدقة‪ .‬وكل هذه املكونات اإلستثنائية هي ما رفعت بالتحف العاجية‬ ‫القرطبية املشهورة إىل قمة الرتف الفني يف العرص الوسيط مبجملها‪ .52‬يبدو أن العاج كان قد‬ ‫بدأ يصل إىل قرطبة بانتظام انطالقاً من الحمالت العسكرية التي قادها عبد الرحمن النارص‬ ‫يف املغرب العريب حيث اعتاد السادة األفارقة تقديم العاج هدية‪ .‬ويفيدنا املقري بخرب َغ َرفَ ُه‬ ‫من مكتبته األندلسية الزاخرة يقول إنه وصل ‪ 8000‬رطل من العاج اىل قرطبة أرسلها األمري‬ ‫زهري بن عطية اىل هشام الثاين يف عام ‪ 991‬م‪ .‬ومن دار صناعة مدينة الزهراء‪ ،‬التي كانت‬ ‫أقدم مصنع أندليس لدينا معلومات عن وجوده‪ ،‬وصلتنا العلبتني املحفوظتني يف كل من‬ ‫كاتدرائية َسمورة (‪( )Zamora‬متحف اآلثار الوطني يف مدريد) والجمعية اإلسبانية بنيويورك‬ ‫(‪ )Hispanic Society of New York‬وصندوق بلدة فيتريو (محافظة منطقة نافا ّرا يف شامل‬ ‫اسبانيا) (‪ ،)Fitero, Navarra‬تحمل كال القطعتني األخريتني توقيع «خلف»‪ .‬حدد املختصون‬ ‫مصنعاً آخر يف مدينة قرطبة نفسها ناشطة ما بني عامي ‪ 960‬و ‪ 970‬امليالديني‪ ،‬ولو أن إنتاجها‬ ‫كان أقل إتقاناً من نتاج دار صناعة الزهراء‪ .‬وعلبة َسمورة (التي هي عبارة عن «بيكسيس»‬ ‫يوناين ‪ PYXIS‬لحفظ املجوهرات) تتألف من قطعتي عاج تشكالن بدن العلبة‪ ،‬من طرف‪،‬‬ ‫من طرف آخر غطاءها وهو عىل غرار قبيبة يعلوها مقبض كروي صغري عىل شكل فاكهة‬ ‫‪ 52‬أنظر األعامل التالية‪:‬‬ ‫‪José Ferrandis Torres (1935-1940), Los marfiles árabes de Occidente [2 vols.]. Madrid: s. n.; John‬‬ ‫‪Beckwith (1960), Caskets from Cordoba. Londres: Victoria and Albert Museum; Ernst Kühnel (1971),‬‬ ‫‪Die islamischen elfenbeinskulpturen: VIII-XIII Jahrhundert. Berlín: Deutscher Verlag für Kunstwis‬‬‫‪ María Teresa Pérez Higuera (1994), Objetos e imágenes de al-Andalus. Op. Cit., pp. 27-31‬و ;‪senschaft‬‬ ‫(يتضمن مراجع مفصلة)‪.‬‬

‫‪64‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫األملج‪ .‬وقد نقشت هذه التحفة بتشطيبات عمودية عميقة وأخرى مائلة تعكس مناطق‬ ‫معتمة ومضيئة بهية‪ .‬ويف الكتابة الكوفية البينة املنقوشة يف الرشيط األملس للغطاء تُقرأ‬ ‫«بركة من الله لإلمام عبد الله الحكم املستنرص بالله أمري املؤمنني‪ ،‬مام أمر بعمله للسيدة أم‬ ‫عبد الرحمن عىل يدي د ّري الصغري‪ ،‬سنة ثلث وخمسني وثلث ماية» (‪ 964‬م)”‪ ،53‬معناها أن‬ ‫«صبح» الشهرية‪ ،‬التي كانت جارية من إقليم الباسك وأصبحت زوجة‬ ‫العلبة هدية للسيدة ُ‬ ‫الحكم الثاين (املستنرص بالله) ومن ثم أم ويل عهد هذا الخليفة آنذاك‪ .‬بيد أن عبد الرحمن‬ ‫تويف مبكرا ً واعتىل رسير العرش هشام الثاين املولود عام ‪ 965‬م‪ ،‬يعني بعد عام واحد فقط‬ ‫من صنع «علبة صبح» هذه‪ .‬يكتيس جسم العلبة بأشكال نباتية متناظرة تتفرع من محاور‬ ‫عمودية توحي بأنها أشجار الحياة وتتضمن سعفات مزدوجة وبسيطة وتواريق ذات أوراق‬ ‫ملساء وأخرى متعددة األوراق‪ ،‬فضالً عن ألباب األمثار والفليفلة والرباعم والزهور‪ ،‬وتنتأ‬ ‫من بني كثافة التواريق نقوش حيوانات يف حالة دعة وسالم‪ ،‬وهي مثانية أزواج من الطيور‬ ‫الصغرية املتقابلة عىل الغطاء‪ ،‬وأربعة أزواج من الطواويس والظباء وأربعة أزواج من الطيور‬ ‫عىل جسم العلبة‪.‬‬ ‫هذا النوع من الجنات أو الفراديس املثالية بتشكيالتها النباتية املحورية وتفاصيل أزاهريها‬ ‫املتشابهة واملتناغمة مع بعض تصاميم األلواح الجدراية من القصور األموية كتلك التي رأيناها‬ ‫يف مدينة الزهراء‪ ،‬يكتظ بربامج تصويرية ملكية تسودها مشاهد بطولية رجالية يف أعامل‬ ‫عاجية أكرث تعقيدا ً كعلبة امل ُغرية (متحف اللوفر بباريس) (صورة رقم ‪ )4‬وصندوق دير لريي‬ ‫(‪( )Monasterio de Leyre‬متحف نافا ّرا‪ ،‬شامل إسبانيا)‪ .‬هيكل علبة امل ُغرية أسطواين وشبه‬ ‫معامري‪ ،‬مثله مثل علبة َسمورة‪ ،‬وتتألف من مثاين قالئد ثُ ان ّية الفصوص‪ ،‬أربع منها كبرية عىل‬ ‫جسم العلبة واألربع الباقية أصغر حجامً عىل الغطاء وكلها مربوطة مبا يشبه قيطان وريقات‬ ‫يتواصل بحركية حية يف كافة أنحاء العلبة مبا فيها إطار جسمها وإطار الغطاء وقالئدها‪ .‬إنه‬ ‫مبثابة قصة رسومية أو رشيط سيناميئ سبق أوانه‪.‬‬ ‫‪ 53‬راجع النص يف ‪ ،José Ferrandis‬املصدر سابق الذكر‪ ،‬ص ‪66‬؛ هنا أدخلنا يف نص النقش بعض التعديالت الطفيفة‪ .‬من‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬سبق أن أملحنا يف الهامش رقم ‪ 25‬إىل شخصية د ّري الصغري ومناصبه الرفيعة‪ .‬لقد صنع كذلك صندوق‬ ‫صغري آخر مهدى إىل إمرأة كذلك (متحف فيكتوريا وألربت يف لندن) وفقاً للكتابة املنحوتة بالخط الكويف املورق يف حافته‬ ‫(«هذا ما عمل للسيدة إبنة عبد الرحمن أمري املؤمنني»)؛ ويبدو أنه أنجز يف مدينة الزهراء بعد وفاة الخليفة عبد الرحمن‬ ‫النارص يف عام ‪ 961‬م‪ .‬وباقتصار الزخرف أيضاً عىل الكتابة والتوريق لدينا صناديق عاجية صغرية أخرى مثل صندوق فيتريو‬ ‫(‪ )Fitero‬املشار إليه وصندوق صغري آخر محفوظ يف معهد ‪ Valencia de Don Juan‬مبدريد‪ ،‬وكالهام يعود لعام ‪966‬‬ ‫م‪ ،‬باإلضافة إىل علبة الجمعية اإلسبانية بنيويورك (حوايل عام ‪ 968‬م) املذكورة آنفاً‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫‪65‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬ ‫صورة رقم ‪ .4‬علبة املغرية (‪ 968‬م)‪ .‬متحف اللوفر (قسم اآلثار اإلسالمية)‪ ،‬باريس‪.‬‬

‫مصدر‪ :‬تصوير فوتوغرايف‪ -‬أغسطني نونييث‪.‬‬

‫مبطالعة صور القالئد من اليمني اىل اليسار‪ ،‬مثلام نطالع النقش الكويف املسرتعي لألنظار يف‬ ‫قاعدة الغطاء‪ ،‬نرى مشهدا ً أوالً ذا مغزى ملكياً ساللياً‪ :‬عرش يسنده أسدان‪ ،‬وهو رمز من رموز‬ ‫امل ُلك العريقة‪ ،‬وعىل العرش الصورتني النمطيتني عن شقيقي الحكم الثاين‪ ،‬أي عبد الرحمن‬ ‫ممسكاً بصولجان أو عصا امل ُلك بيدي األيرس وكأس بيمناه‪ ،‬وكأن كال األداتني رمز تجدد الحياة‬ ‫وحلول العام الجديد يف العصور القدمية‪ ،‬يحتمل أنهام إشارة إىل أن حاملهام ويل العهد‪ ،‬بينام‬ ‫ميثل اآلخر شقيقه امل ُغرية الذي يظهر مع مروحة يف ميناه وهي عالمة متت بصلة إىل املراوح‬ ‫الدينية البيزنطية‪ .‬يقعد الرجالن القرفصاء إىل جانبي عازف عود واقف يف الوسط‪ ،‬الذي ال‬ ‫شك أنه يجسد العنرص املوسيقي املألوف يف هذه العاجيات ويف الكثري من التحف الفنية‬ ‫األندلسية واإلسالمية (سواء أكانت من املنسوجات أو تيجان األعمدة واألحواض والخزفيات‪،‬‬ ‫واألخشاب واملنمنامت وسواها) خالقاً الجو اإلحتفايل والرسمي والجليل الناجم عن املوسيقى‬ ‫البالطية‪ .‬وحري باملالحظة كيف تخرتق قدم من كال األمريين قاعدة العرش مكرس ًة بلطف‬ ‫‪66‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫رصامة الصورة‪ .‬وكأن األشخاص الثالثة غري ملتحني وبالتايل منتزعني من عالمة عزة الخالفة‪،‬‬ ‫يبدو أن املشهد يلمح إىل اإلستقرار املستقبيل املنشود يف توريث امل ُلك‪ .‬ويثبت هذا التفسري‬ ‫مشهد القالدة املوازية يف الطرف اآلخر من العلبة الذي يظهر أسدين يلتهامن ثورين عىل‬ ‫جانبي محور نبايت‪ ،‬وهو تصوير كالسييك آخر للسيادة وللعنف الذي يستند إليه امل ُلك‪ .‬وما‬ ‫أروع أسلوب نقش هذا املشهد بتلك القوة التشكيلية الفائقة التي متكن من رسم أبدان‬ ‫الحيوانات املتشنجة وحركاتها الحية والواقعية‪ ،‬ما يجعل من هذا املشهد صورة منوذجية‬ ‫لرباعة النقاشني املسلمني والتي شاعت يف معظم كتب تاريخ الفن اإلسالمي إن مل يكن يف كلها‪.‬‬ ‫أما الكتابة الناتئة يف قاعدة الغطاء بخط كويف غري مورق وجليل فتقول‪« :‬بركة من الله ونعمة‬ ‫ورسور وغبطة لل ُمغرية بن أمري املؤمنني رحمه الله‪ ،‬مام عمل سنة سبع وخمسني وثلث ماية‬ ‫[‪ 968‬م]»‪ ،54‬وتحذف عىل نحو غري معهود اسم الخليفة القائم سنتئذ‪ ،‬الحكم املستنرص بالله‪،‬‬ ‫ولكنها تشري إىل عبد الرحمن النارص بالله‪ ،‬والد امل ُغرية‪ ،‬الذي كان‪ ،‬هذا األخري‪ ،‬يبلغ مثانية عرش‬ ‫عاماً من العمر حني تلقى العلبة هدية‪ .‬ومبا أن الخليفة الحكم مل تكن له ذرية بعد‪ ،‬أي يف‬ ‫سنة صناعة العلبة‪ ،‬فقد كان الشقيقان عبد الرحمن وامل ُغرية يبدوان مؤهلني لوراثة الخالفة‬ ‫عن شقيقهام الحكم‪ .‬وفيام أن عبد الرحمن تويف حوايل عام ‪ 970‬م بقي امل ُغرية املرشح الفعيل‬ ‫لوراثة الخالفة إال أن ُصبحاً أنجبت ولدين للخليفة الحكم‪ ،‬وهام عبد الرحمن وهشام‪ ،‬املشار‬ ‫إليهام سابقاً‪ .‬أما املآمرة يف قمة السلطة تدفعت األحداث يف درب العنف واغتيل امل ُغرية بأمر‬ ‫من القاعد محمد بن أيب عامر املنصور يف يوم وفاة الخليفة الحكم نفسه‪ ،‬يعني يف األول من‬ ‫أكتوبر‪/‬ترشين األول عام ‪ 976‬امليالدي‪ .‬وبعد ساعات فقط من رحيل الحكم بيع ابنه هشام‬ ‫الذي ال زال طفالً مذعناً إلرادة الرجل العامري القوي‪ .‬وحملت هذه األحداث التاريخية‬ ‫املتخصصة يف الفن اإلسالمي ريناتا هولود (‪ )Renata Holod‬عىل إدراك مغزى ساخرا ً يف‬ ‫صناعة هذه العلبة العاجية وإهدائها لل ُمغرية‪ .‬ثم تعمق الباحث برادو بيالر (‪)Prado Vilar‬‬ ‫يف معاين العلبة مستنتجاً أن صور العلبة ورمزيتها مدبرة يف دائرة األمرية ُصبح والحاجب‬ ‫جعفر بن عثامن املصحفي اللذين دعام املنصور قبل ذلك بقليل يف عام ‪ 967‬م‪ ،‬حيث يجدر‬ ‫ذكر تكوين شخصية املنصور املزدوج بني قساوة مزاجه من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى ثقافته‬ ‫املرهفة واملائلة إىل الرتف ومنح الهدايا الفاخرة‪ ،‬كام يشري إليه املقري‪ .‬كل ذلك يدل عىل أن‬ ‫العلبة قدمت هدية للمغرية يف احتفال معني ولكن مشحونة بإنذار مبطن وساخر‪ ،‬يف رأي‬ ‫‪ 54‬راجع النص أيضاً يف ‪ ،José Ferrandis‬املصدر عينه‪ ،‬ص ‪ ،71‬ونورده هنا بتصحيح بسيط‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫برادو بيالر‪ ،‬أو كام نظن نحن‪ ،‬كرسالة تذكر املغرية باملكانة التي تخصه يف حال نقل السلطة‪.55‬‬ ‫وأياً يكن من أمر‪ ،‬مام ال ريب فيه هو أن بقية قالئد العلبة تنطوي عىل مشاهد متعلقة بقطع‬ ‫دورات الحياة‪ ،‬ما ميكن تفهمه كإشارة إىل خطورة انقطاع خط وراثة الخالفة‪ .‬هكذا‪ ،‬نرى يف‬ ‫إحدى القالئد مشهدا ً غريباً يتكون من غصون كروم كثيفة وبها ثالثة أعشاش للنسور (توجد‬ ‫يف األوسط أربعة أفراخ ويف العشني اآلخرين نرسين يحضنان البيض)‪ ،‬يف حني يحاول شابان‬ ‫رسقة البيض‪ ،‬إال أن كلبني يعضان ال ِر ْجل اليمنى لكال الشابني‪ .‬وباملناسبة‪ ،‬لقد كان الرمي إىل‬ ‫الكالب معاقبة الخونة آنئذ يف األندلس‪ .‬ويف القالدة املقابلة يلتقط فارسان مع صقرين البلح‬ ‫واقفان إىل جانبي نخلة كبرية‪ ،‬ولكن ما يشبه ضبعني أو كلبني يهاجامن كالهام من الظهر‪.‬‬ ‫وبني النباتات املنقوشة يف العلبة أدخلت مشاهد ثانوية تنم عن العنف واملواجهة‪ :‬يف األسفل‪،‬‬ ‫كلبان يعضان ذيل فتخائني إثنني‪ ،‬ومصارعان وكبشان وأيالن‪ ،‬وكلها عىل شكل زوجني متقابلني؛‬ ‫أما يف أعىل بدن العلبة‪ ،‬ونشاهد زوجني من النسور وذكر طاووس مصحوب بأنثيني إىل جانبيه‪،‬‬ ‫كام نرى حيوانني لعلهام ذئبان يهاجامن حامرا ً وحشياً‪ ،‬وصقّاران‪ .‬وعىل غطاء العلبة تحيط‬ ‫القالئد األربع مبقبض الغطاء املفقود والذي من املحتمل أنه كان بشكل فاكهة األملج‪ ،‬يظهر‬ ‫غزالن متقابالن وأسدان وطاووسان وصقّار عىل صهوة حصان وطيور حجل أو طواويس إناث‬ ‫وحاممتان وطائران وأسدان وابنا آوى أو كلبان‪ ،‬وجميعها متقابلة‪ .‬إن هذه البنية الرسدية‬ ‫للعلبة وتصميمها القائم عىل املحاور والتناظر والتسلسل الدائري وعىل الوحدات املستقلة‬ ‫واملتكاملة يف آن‪ ،‬تتناغم مع نظم الشعر العريب‪ .‬لنتذكر أن هناك صنعت أيضاً ما ميكن تسميته‬ ‫بالعلب الشعرية كتلك املحفوظة يف الجمعية اإلسبانية بنيويورك (‪Hispanic Society of‬‬ ‫‪ )New York‬التي تحمل قصيدة منقوشة بالخط الكويف تؤنث العلبة وتؤمثلها جاملياً ومتيزها‬

‫‪ 55‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Renata Holod (1992), Bote de al-Mugira, en Jerrilynn D. Dodds (coord.). Al-Andalus: las artes‬‬ ‫‪islámicas en España [exposición La Alhambra, 18 marzo-19 junio, 1992]. Nueva York, Madrid: The‬‬ ‫‪Metropolitan Museum of Art, El Viso, pp. 192-200.‬‬ ‫وأنظر خاص ًة مقالتي برادو فيالر التاليتني اللتني تحتويان عىل تحليالت دقيقة ومعلومات ومراجع تاريخية وشعرية وأدبية‬ ‫وبرصية متعلقة بعلم الصور الفنية جديرة باإلهتامم‪:‬‬ ‫‪Francisco Prado-Vilar (1997), «Circular Visions of Fertility and Punishment: Caliphal Ivory Caskets‬‬ ‫‪ (2005), «Enclosed in Ivory. The Miseducation of al‬و ;‪from Al-Andalus», Muqarnas, 14, pp. 19-41‬‬‫‪Mughira», Journal of the David Collection, 2.1, pp. 138-163.‬‬

‫‪68‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫كوعاء للعطور واألحجار الكرمية‪.‬‬ ‫مثة عاجيات أخرى معروفة تعرب عن معاين مدحية للملوك أو ألعضاء البالط‪ ،‬كعلبة زياد‬ ‫(متحف فيكتوريا وألربت) التي صنعت عام ‪ 359‬هـ (‪ 970/969‬م) لزياد بن أفلح‪ ،‬صاحب‬ ‫الرشطة يف عهد الحكم املستنرص بالله‪ ،‬وكان شخص طموح تورط يف مؤامرات عدة لتغيري رأس‬ ‫الخالفة‪ ،‬إىل درجة أنه هو من طالب بعقوبات صارمة للمتآمرين عىل الخليفة الحكم بعد أن‬ ‫كان هو نفسه قد انتمى سابقاً إىل فريقهم‪ .‬يُرتَّب سطح هذه العلبة الزخريف أيضاً عىل شكل‬ ‫قالئد ترتبط ببعضها برشيط متواصل‪ ،‬نحتت داخلها صورة منطية لرجل يسري شؤون العدالة‬ ‫ويعتيل عرشاً (ممثالً الخليفة بالنسبة للبعض أو زياد نفسه بالنسبة لباحثني آخرين)‪ ،‬ثم يتنقل‬ ‫الرجل البطل راكباً الفيل ويظهر أخريا ً وهو يصطاد‪ .57‬قامئتا العرش يف القالدة األوىل مصورة‬ ‫بشكل قدمني لهام مخلب األسد عىل الطريقة البيزنطية والرومانية‪ ،‬بينام الطائران املتقابالن‬ ‫يف األسفل برأسيهام امللتفني إىل الوراء ينتسبان إىل الفن الساساين‪ .‬ويف القالدة التي يظهر‬ ‫وشخص الحاشية اللذان يحمالن سيفاً‬ ‫فيها الرجل عىل الفيل‪ ،‬نجد أن الرسج‪-‬العرش مختلفاً‬ ‫َ‬ ‫وقارورة يف القالئد السابقة باتا اآلن خادمني يقودان الفيل‪ .‬ومن بني األوراق املتكومة تطلع‬ ‫كذلك فتخاوات متقابالت وأزواج من الطيور وال ُعقبان الشعارية والظباء والثريان وحيوانات‬ ‫القنص وغريها ترمز إىل امل ُلك والسمو‪ .‬أما صندوق لريي (‪ )Leyre‬املذكور‪ ،‬الذي يعترب من‬ ‫أثرى القطع العاجية القرطبية وأتقنها‪ ،‬فتعرب صوره أيضاً عن روح املدح والنرص إذ صنع هو‬ ‫اآلخر لتعظيم عبد امللك ابن املنصور‪ ،‬رمبا مبناسبة االحتفاء بنرصه يف ليون عام ‪ 1004‬م الذي‬ ‫دفعه لتبني لقب «سيف الدولة»‪ .‬وقد نقشت كتابة الصندوق الرئيسية بخط كويف جيد‬ ‫منمق حروفه من اللؤلؤ لتزين واجهة الغطاء‪« :‬بسم الله‪ ،‬بركة من الله وغبطة ورسور وبلوغ‬ ‫‪56‬‬

‫‪ 56‬تقول هذه األبيات الشعرية (الرمل)‪« :‬منظري أحسن منظر نهدي مل يكرس ‪ /‬حالين الحسن عيل حلة تزها بجوهر ‪ /‬فأنا‬ ‫طرف ملسك ولكفور وعنرب» (نشك يف قراءة أول كلمة للبيت الثاين)‪ .‬ومكتوب يف العلبة «عمل حلف»‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Juan Zozaya (1999), «Los marfiles de Cuenca», en Mil años de arte en Cuenca. Cuenca: Asociación‬‬ ‫‪de Amigos del Archivo Histórico Provincial de Cuena, p. 81.‬‬ ‫سنجد هذه اللغة التأنيثية املنتشية بذاتها املطبقة عىل التحف الفنية يف تحف أخرى كبعض الجرار الشعبية والبالطية ويف‬ ‫العامئر األندلسية‪ ،‬أشهرها القصائد املنقوشة عىل جدران الحمراء‪ .‬يف هذا السياق لقد قارن برادو بيالر رسائل العاجيات‬ ‫القرطبية باألجناس الشعرية العربية وربط بعضها كعلبة ُصبح بشعر الوصف «املؤمثل» للطبيعة يف حني أن عاجيات‬ ‫أخرى كعلبة زياد وصندوق لريي يتناسبان باملديح‪ ،‬وعلبة املغرية بالهجاء‪ ،‬أو باعتقادنا بالشعر ِ‬ ‫الحكمي‪ .‬وليس من العبث‬ ‫أن هذا الباحث ذاته وجد تشابهاً ملحوظاً بني مشاهد علبة املغرية وبني صور ومضامني من كتاب «كليلة ودمنة»‪.‬‬ ‫‪ 57‬تبدي عاجيات أخرى من هذا النوع صورا ً عن اعتالء العرش‪ ،‬كعلبة دافيللري (‪( )Davillier‬متحف اللوفر) التي تتضمن‬ ‫مشاهد بالطية مامثلة لتلك املوجودة يف صندوق لريي (‪ )Leyre‬أو العلبة املحفوظة يف متحف فيكتوريا وألربت يف لندن‬ ‫(رقم ‪ )1866-10‬التي يعود تاريخها للقرن الحادي عرش امليالدي ويرتفع فيها العرش عىل أشكال نباتية‪.‬‬

‫‪69‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫أمل صالح عمل وانفساح أجل للحاجب سيف الدولة عبد امللك بن املنصور وفقه الله‪ ،‬مام‬ ‫أمر بعمله عىل يدي الفتى الكبري زهري بن محمد العامري مملوكه‪ ،‬سنة خمس وتسعني وثلث‬ ‫ماية» (‪ 1004/1005‬م)‪ .‬ويضيف يف مكان آخر أن الصندوق من صنع فرج وتالمذته‪ ،‬الذين‬ ‫ترد أسامؤهم فعالً يف أجزاء مختلفة من القطعة وهم‪ :‬مصباح‪ ،‬فرج‪ ،‬خري‪ ،‬سعادة‪ ،‬رشيد‪ .‬وسنة‬ ‫اإلنجاز وصاحبه يدعوان إىل افرتاض أن الصندوق صنع يف مدينة الزاهرة وإن زخرفه وصوره‬ ‫قريبة جدا ً من تلك املتداولة يف دار صناعة الزهراء‪ .58‬ويتألف سطح الصندوق املزخرف من‬ ‫‪ 23‬قالدة مثان ّية الفصوص (‪ 13‬قالدة عىل الغطاء و‪ 10‬عىل جسم الصندوق) متصلة فيام بينها‬ ‫بقيطان مظفر يعطي‪ ،‬شأنه شأن علبة امل ُغرية‪ ،‬استمرارية حيوية لحافتي بدن التحفة والقالئد‬ ‫املفصصة املرتبطة بهام التي تحتضن املشاهدة الرئيسية‪ .‬ومتتاز من هذه القالئد ثالثة مشاهد‬ ‫بالطية يبدأ رسدها البرصي باملوازاة مع انطالق الكتابة املنقوشة مع صورة شخص أكرب حجامً‬ ‫وملتحي تبدو عليه| سيامء الخلفاء (الخاتم والغصن والكأس)‪ ،‬يُفرتض أنها متثل الخليفة هشام‬ ‫بن الحكم (الحاكم بني ‪ 976-1009‬م وبني ‪ 1010-1013‬م) وهو يعتيل رسير عرش يسنده‬ ‫أسدان ويقف عىل جانبيه خادمان يف حجم أصغر ينظران إليه وتكرمياً له ميسك الواقف إىل‬ ‫ميينيه بصولجان معقوف الطرف واآلخر براية وقارورة‪ .59‬لقد انترشت سيامء ُامللك هذه يف‬ ‫طقوس امللوك يف اإلسالم ويف فنونه التصويرية ون ُِسب إىل النبي محمد (ص) استخدام الخاتم‬ ‫مع اسمه للختم وكذلك صولجان السلطان‪ ،‬و«بُردة النبي» املشهورة‪ .‬مثة ما يُعرف بكأس‬ ‫العاملني‪ ،‬املشار إليه يف بعض النصوص العربية الكالسيكية كصفة من صفات سلطان الخالفة‪،‬‬ ‫التي ورثت رمزيتها عن تراث الشعوب اإليرانية القدمية («كأس الخلود» أو «كأس الخالص»)‪.‬‬ ‫كان الحكم الثاين أثناء مبايعته يف عام ‪ 961‬م يلوح بعصا من قصب الخزيران ذي طرف‬ ‫معقوف‪ ،‬ولدى تجديد البيعة لخلفه هشام الثاين عام ‪ 967‬م توجه هذا األخري اىل جامع قرطبة‬ ‫حامالً «صولجان الخلفاء» بصحبة القائد املنصور‪ ،‬وبعد أداء الصالة توجه هشام إىل مدينة‬ ‫الزهراء وسلَّم السلطة الفعلية للقائد العامري‪ .‬يُالحظ أنه يف بعض العاجيات واملنسوجات‬ ‫‪ 58‬إن ظهور إسمي «فرج» و«سعادة» يف تيجان ونقوش توسعة املنصور لجامع قرطبة حمل الباحثني عىل طرح السؤال الحرج‬ ‫فيام إذا كانت أسامء لصناع متعددي املهارات أم ملتخصصني مختلفني يطبقون مبادئ جاملية مشابهة عىل مواد مختلفة‬ ‫أم يجب أن نفهمها كأسامء ملرشيف دار صناعة الخالفة؟‬ ‫‪ 59‬توجد إشارات إىل بعض هذه الصفات الرمزية لل ُملك يف منظومات ذلك العهد‪ ،‬كالقصيدة التي امتدح فيها الشاعر محمد‬ ‫بن محامس األستجي الخليفة الحكم الذي كان جالساً يف رسير عرش املجلس الرشقي مبدينة الزهراء يف عيد األضحى للسنة‬ ‫ُ‬ ‫رض‬ ‫ائس وصنائ ٌع ‪/‬‬ ‫فالعدل مبسو ٌط ودي ُن محمد ُّ‬ ‫‪ 360‬هـ (‪ 971‬م)‪« :‬راقت بهج ِة ُمل ِك ِه أيامنا فكأنه ّن عر ٌ‬ ‫غض وغص ُن امل ُلك أخ ُ‬ ‫يان ُع» (ابن حيان [‪ ،]1983‬املقتبس‪ .‬الجزء السابع‪ ،‬تحقيق عبد الرحمن عيل الحجي‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬ص ‪ .)62‬راجع أيضاً‪:‬‬ ‫‪María Teresa Pérez Higuera (1994), Objetos e imágenes de al-Andalus. Op. Cit., p. 54.‬‬

‫‪70‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫تستبدل الكأس بقارورة باملعنى نفسه‪ ،‬التي ميكن تخيلها مملوءة بالخمر‪ ،‬رمزا ً لروحانية‬ ‫وسمو امللك‪ ،‬كام نراه يف الكثري من الصور الفنية واألشعار البالطية العربية واألندلسية‪.60‬‬ ‫أما القالدة املركزية لصندوق لريي فتحتوي عىل صورة لثالث موسيقيني (عازفا ناي إثنان‬ ‫يتوسطهام عازف عود)‪ ،‬بينام تحتوي القالدة املوجودة عىل اليسار عىل رجلني غري ملتحيني‬ ‫قاعدين القرفصاء إىل جانبي شجرة محورية وعىل رسير عرش يسنده أسدان‪ .‬وإذا أخذنا بعني‬ ‫اإلعتبار كل من الظرف السيايس وقتئذ واإلهداء املخطوط يف النقش وصفات امل ُلك املذكورة‬ ‫يتبادر إىل أذهاننا أن إحدى هاتني الشخصيتني النمطيتني متثل عبد امللك نفسه‪ ،‬مالك السلطة‬ ‫الحقيقي منذ وفاة والده املنصور عام ‪ 1002‬م‪ ،‬فإنه يظهر يف الصورة حامالً الكأس والصولجان‪،‬‬ ‫يف حني ميكن رؤية الشخصية األخرى التي ترافقه ممسكاً بالغصن والكأس كسلفه الذي استلم‬ ‫السلطة عنه‪ ،‬وإن بقي هذا التفسري احتامالً ليس أكرث‪ .‬ويف القالئد املتناظرة عىل الوجه اآلخر‬ ‫يربز بطل‪ ،‬أما يف القالدة الوسطية فرمبا يكون عبد امللك نفسه يف حالة رصاع مع أسدين‪،‬‬ ‫ويف القالدة إىل ميني السابقة يوجد فارسان يحمل كل منهام سيفاً ورمحاً واقفني بال حركة إىل‬ ‫جانبي شجرة محورية‪ ،‬بينام يتقاتالن فارسان آخران فيام بينهام يف القالدة اليرسى؛ بالخالصة‪،‬‬ ‫إنها مشاهد بطولة وظفر وسلطان تتفىش يف سائر أجزاء العلبة املحفورة‪ ،‬فهناك عدد من‬ ‫الفتخاوات وحيوان وحيد القرن متقابلة وظباء وأسود تهاجم الغزالن وشخص يتسلق شجرة‪،‬‬ ‫وعقبان تنقض عىل حيوانات بأربع قوائم‪ ،‬وصور للصيد بالصقور‪ ،‬وأسود وفيلة وكذلك بعض‬ ‫الطواويس وصور لحيوانات أخرى وأشخاص تختلط بالتوريق‪ .‬وتجدر اإلشارة أيضاً إىل أن مثة‬ ‫تفاوت يُالحظ يف تركيب املشاهد وتنفيذها وأن صور الغطاء منقوشة بدقة مفرطة وتتمتع‬ ‫بقوة متثيلية واقعية مثرية‪.‬‬ ‫ولنذكر تحفة عاجية أخرية مصنوعة بُ َعيْد الصندوق السابق وهي «علبة سيف الدولة»‬ ‫املوجودة يف كاتدرائية براغا (‪ )Catedral de Braga‬يف الربتغال مع نقش جاء فيه «بسم الله‪،‬‬ ‫بركة من الله ومين وسعادة للحاجب سيف الدولة‪ ،‬أعزه الله‪ ،‬أمر بعمله عىل يدي [زهري بن‬ ‫محمد] موىل العامري»‪ ،‬وهي مهداة بالتايل أيضاً إىل عبد امللك بن املنصور‪ ،‬ولكن دومنا إشارة‬ ‫لتاريخ الصنع الذي من املمكن أن يكون ما بني عام ‪ 1004‬م‪ ،‬وهو العام الذي اتخذ فيه عبد‬ ‫امللك لقب «سيف الدولة»‪ ،‬وقبل عام ‪ 1007‬م‪ ،‬الذي اتخذ فيه لقب «املظفر» يف أعقاب‬ ‫انتصاره عىل سانشو غارسيا (‪ )Sancho García‬كونت قشتالة‪ .‬وتبدي هذه العلبة األسطوانية‬ ‫‪ 60‬أنظر‪:‬‬

‫‪María Teresa Pérez Higuera (1994), Ibídem, p. 55.‬‬

‫‪71‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫املنظر األكرث معامرا ً بني أخواتها وذلك ألنها زينت بستة أقواس حدوية تدعمها أعمدة ذات‬ ‫تيجان تعلوها عقدة بشكل دائرة مرتتبة عن استمرارية خطوط األقواس‪ .‬وفوق هذا كله تأيت‬ ‫قبة الغطاء مبقبض عىل هيئة فاكهة األملج املعتادة‪ .‬رواق األقواس املرسوم ميلء بصور ألزواج‬ ‫من الحيوانات والطيور وشخصني يجنيان الثامر ويأكالنها‪ .‬ويف الدوائر التي تبدو أشبه بالقالئد‬ ‫عىل األقواس يوجد ظبيان وطاووسان وطائرا سامن‪ .‬أما الغطاء فتوزع عليه خمس قالئد‬ ‫مثانيّة الفصوص تنطوي كل واحدة منها عىل حيوان واحد (أسدان وطاووس وظبيان)‪ .‬من‬ ‫فحوى سلمي ويفرتض أن العلبة إما مصنوعة مبناسبة احتفالية عرسية‬ ‫البني أن لهذا الزخرف‬ ‫ً‬ ‫أو موسمية‪ ،‬أو بغرض دبلومايس تواكبه غاية دينية يف آن‪ .‬يبدو فعالً أن هذه العلبة كانت‬ ‫هدية تقدم بها عبد الله بن نبيل‪ ،‬قايض املستعربني (املسيحيني املع َّربني) يف قرطبة‪ ،‬إىل ميندو‬ ‫غونسالفيس الربتغايل (‪ )Mendo Gonçalvez de Portugal‬ملا زار مدينة ليون (شامل رشقي‬ ‫اسبانيا) باسم عبد امللك ملساندة الدون ميندو (‪ )Don Mendo‬يف نزاعاته مع سانشو غارسيا‬ ‫املذكور بخصوص الوصاية عىل ملك ليون الشاب ألفونصو الخامس‪ ،‬األمر الذي يفرس أن‬ ‫طقم صور هذه العلبة يتناغم مع الصور املسيحية القوطية والكأس القوطية أيضاً املحفوظة‬ ‫واملعروضة إىل جانب العلبة العاجية األندلسية يف تلك الكاتدرائية الربتغالية‪.61‬‬ ‫وقد خرجت من دور الصناعة امللكية القرطبية قطع ذات مرسم رسمي أيضاً ولكن مبعاين‬ ‫أقل تعقدا ً أو أكرث عمومية‪ ،‬مثل الخزفيات املعروفة بـ «األخرض واملنغنيز» املصنوعة يف‬ ‫مدينتي الزهراء وإلبرية خالل حقبة الخالفة‪ .‬يف هذه القطع توضع الزينة عىل خلفية ذات‬ ‫تزجيج أبيض يدعى «أنكوب» (‪ )Engobe‬وتشمل عنارص نباتية وهندسية وخطية وصور‬ ‫الحيوانات والبرش مرسومة بأوكسيد النحاس (األخرض) واملنغنيز (األسود)‪ ،‬يف حني أن خارج‬ ‫القطع عسيل اللون غالباً‪ .‬بلغ الخزف املزجج‪ ،‬الذي كان إسهام الفن إسالمي أصالً‪ ،‬درجة‬ ‫عالية من الرقي يف قرطبة اجتمعت فيه تقنيات وأشكال مرشقية مع أخرى أندلسية يف تركيبة‬ ‫مميزة‪ .‬نرى هذا يف صحون «الطيفور» كتلك التي تحمل كلمة «امل ُلك» (باملعنى الديني‬ ‫والدنيوي) مكررة وسطها يف رشيط بالخط الكويف البسيط (متحف اآلثار الوطني يف مدريد)‬ ‫‪ 61‬تقدم بهذه الفرضية الخليقة باإلهتامم الباحث سريافني موراليخو (‪ )Serafín Moralejo‬وذكرها برادو‪-‬بيالر يف دراسته‪:‬‬ ‫‪Francisco Prado-Vilar (1997), «Circular Visions of Fertility and Punishment: Caliphal Ivory Caskets‬‬ ‫‪from Al-Andalus», Op. Cit., p. 34.‬‬ ‫بعيد سقوط الخالفة استمرت صناعة العاج يف مصنع قونكا حيث عمل محمد بن زيان‪ ،‬صانع صندوق سيلوس (‪ )Silos‬يف‬ ‫عام ‪ 1026‬م‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيان رمبا كان شقيق السابق‪ ،‬وقد وقع عىل صندوق بالنثيا (‪( )Palencia‬شامل العاصمة‬ ‫مدريد) يف عام ‪ 1049‬م‪ ،‬وأهدي إىل إسامعيل‪ ،‬ابن ملك طليطلة املأمون‪ .‬بيد أن هذه القطع منحوتة عىل ألواح من العاج‬ ‫املثبتة عىل خشب الصندوق وزخرفها أقل دقة وإتقان‪.‬‬

‫‪72‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫أو كلمة «امل ُلك» مرة واحدة يف املركز مرسومة بخط كويف مورق أجمل (متحف اآلثار يف‬ ‫قرطبة)‪ .‬يف الطيفور األول نجد أن الرشيط املكتوب بالخط الكويف محاط بتوريق من سعف‬ ‫النخيل‪ ،‬أما يف الطيفور الثاين فيأخذ العنرص النبايت شكل نجمة خامسية منحنية األضالع عىل‬ ‫هيئة كون يحيط بالفضاء‪ .‬كام أن إحدى جرار مدينة الزهراء تتضمن رشيطاً كتابياً آخر بكلمة‬ ‫«امل ُلك» بخط كويف بسيط متكرر‪ ،‬يف حني أن جرة أخرى زخرفت بأرشطة هندسية ونباتية‬ ‫مكونة من سعفات وبتالت وتعكس إبداعاً ملموساً رغم بساطة عنارصها‪ .‬اىل الخزف «األخرض‬ ‫واملنغنيز» تنتمي كذلك جرة ذات مقبضني وأرشطة نباتية بال كتابة (متحف اآلثار يف قرطبة)‬ ‫وأعامل أخرى بها صور ألشخاص وحيوانات‪ ،‬كوعاء املوسيقيني البديع (يف املتحف القرطبي‬ ‫نفسه) الذي يوازي موضوعه موضوع «تاج عمود املوسيقيني» (هم عازفو العود)‪ ،‬وهو تاج‬ ‫العمود الوحيد‪ ،‬عىل ما نعلم‪ ،‬الذي وصلنا من خالفة قرطبة يحمل صور برشية (متحف اآلثار‬ ‫يف قرطبة)‪ .62‬وكذلك جزء من صحن يبدو فيه محارب يلبس خوذة وسرتة ودرعاً ويرفع رمحاً‪.‬‬ ‫مثة أيضاً ًَّص ْحفَة ت ُظهر غزاالً املحفوظة يف املتحف الوطني للخزف يف بلنسية وأجزاء متنوعة‬ ‫من صحون عليها ديكة رومية وحامئم مرسومة حاملة نباتات يف مناقريها (وهو موضوع‬ ‫شائع يف الفن البيزنطي)‪ .‬لقد عرثت عىل كل هذه القطع يف مدينة الزهراء‪ ،‬شأنها شأن‬ ‫ذلك الوعاء النادر عىل شكل زرافة (متحف اللوفر) املصنوع بتقنية التزجيج األبيض واملزين‬ ‫باألخرض واملنغنيز‪ ،‬الذي يعتقد أنه عائد إىل قرص من قصور الزهراء‪ .63‬ومن منتوج مدينة‬ ‫إلبرية بالتقنية عينها لدينا وعاء األرانب الربية (متحف اآلثار يف غرناطة) وما يطلق عليه‬ ‫بـصحفة الحصان التي رسم فيها طائر عىل ظهر حصان رشقي رائع مرزكش ومرسج وميسك‬ ‫الطائر اللجام مبنقاره؛ وعىل الرغم من أن هذه الصورة الرمزية غري معتادة وغامضة‪ ،‬إال أننا‬ ‫نعلم أنها كانت فاعلة لدى الشعوب الهندية األوروبية القدمية ورمبا تكمن معنى املرشد‬ ‫الروحي (الطائر) الذي يقود إىل الفردوس‪ ،‬وهذا األخري هو أحد املعاين املنسوبة إىل الحصان‬ ‫يف األساطري والثقافة العربية‪.‬‬ ‫وقد ظهرت إثر تفكك الخالفة األموية بقرطبة مصانع خزف محلية طوال القرن الحادي عرش‬ ‫امليالدي يف طليطلة وباالغوار (‪ )Balaguer‬وبلنسية وميورقة وازدهرت تقنيات جديدة مثل‬ ‫تقنية الحبل الجاف التي اكتشفت عينات منها يف مدينة الزهراء‪ ،‬حيث تم العثور أيضاً عىل أجزاء‬ ‫‪ 62‬ومن بني التيجان النادرة املزخرفة بالحيوانات نذكر هنا التاج املحتفظ به يف متحف الحمراء الذي يرجع إىل عهد املنصور‬ ‫بن أيب عامر نحت فيه طائران مائيان متواجهان ويف منقاريهام دودتان‪.‬‬ ‫‪ 63‬من املعروف أنه كان يحتفل يف األندلس بعيد النريوز وأنه كانت ت ُهدى فيه ألعاب من الفخار‪ ،‬خاصة عىل شكل زرافة‪.‬‬

‫‪73‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫من آنية فخارية مذهبة يفرتض أنها من مصنوعات مرشقية مستوردة إذ أن كل الدالئل تشري إىل‬ ‫أن هذا الخزف املتطور مل يتم تصنيعه يف األندلس حتى منتصف القرن الحادي عرش امليالدي ومل‬ ‫يستخدم بانتظام حتى القرن الثاين عرش امليالدي‪ ،‬ولكن خارج قرطبة‪.64‬‬ ‫ومام حظي بأهمية خاصة يف نرش عالمات امل ُلك األموي القرطبي هو بال شك الطراز‪ ،‬أي‬ ‫دار صناعة النسيج الرسمية املدعوة بـ «دار الطراز»‪ ،‬التي كانت تقع بالقرب من قرص الخالفة‬ ‫ويتوىل إدارتها «صاحب الطراز»‪ ،‬وهو منصب رفيع يحتله وزير أو حاجب‪ .‬كان أول رئيس‬ ‫لدار الطراز القرطبية حارث بن بازي يف القرن التاسع امليالدي‪ ،‬ومن بني رؤسائها الالحقني يعد‬ ‫كل من ريحان (‪ 911-910‬م) وخلف (‪ 925‬م) وجعفر بن عبد الرحمن املشهور‪ ،‬الذي توىل‬ ‫هذا املنصب يف عام ‪ 961‬م عند اعتالء الحكم سدة الخالفة‪ .‬وعن هذا الخليفة نعلم تحديدا ً‬ ‫أنه زار شخصياً دار الطراز يف عام ‪ 972‬م واستقبله فيها رؤساء املصنع وأبدى الخليفة اهتامماً‬ ‫بأعاملهم وأعطى لهم بعض التوجيهات‪ .‬لدار الطراز كمؤسسة صناعية وبروتوكولية رسمية‬ ‫سابقات مبارشة ساسانية وبيزنطية تكيفت مع اإلسالم بهدف تصنيع أقمشة مرتفة كان يوضع‬ ‫عليها «املرسم» املليك وكثريا ً ما وضع اسم األمري أو الخليفة نفسه‪ .‬وكانت ت ُنتج الستخدام‬ ‫الخليفة الشخيص وأرسته وملوظفي البالط وأعضائه وارتدائها أو اظهارها يف اإلحتفاالت وكذلك‬ ‫لتزيني املباين امللكية والخاصة‪ ،‬ولتقدم هدايا بل وحتى لتخزينها عىل شكل كنوز قيمة‪ .‬ورغم‬ ‫أن إنتاج الحرير بدأ يف األندلس يف جيان يف القرن التاسع امليالدي‪ ،‬بيد أنه ميكن أن يكون عبد‬ ‫الرحمن الداخل من أمر بالرشوع يف صناعته يف قرطبة‪ .‬ويشري ابن عذاري إىل أن عبد الرحمن‬ ‫الثاين (‪ 852-821‬م) كان أول من أمر بوضع دور الطراز ونرش إنتاجها يف قرطبة‪ .‬ولنتذكر‬ ‫باملناسبة أن هذا األمري كان مهتامً عىل نحو خاص محاكاة البالط العبايس وأنه يف عهده وصل‬ ‫زرياب (الذي عاش ما بني حوايل ‪ -789/788‬و‪ 858/857‬م) إىل قرطبة‪ ،‬وكان عبارة عن بطل‬ ‫تثقيفي املتعدد املواهب وشبه أسطوري‪ ،‬يجيد الشعر والغناء وعزف املوسيقى والفنون عامة‪،‬‬ ‫جاء إىل األندلس هارباً من بالط هارون الرشيد فجلب معه ليس فقط املستجدات املوسيقية‬ ‫‪ 64‬باإلضافة إىل كتايب املعريض الهامني املؤمى إليهام أعاله‪:‬‬ ‫‪ El esplendor de los omeyas cordobeses: la civilización‬و )‪Al-Andalus: las artes islámicas en España (1992‬‬ ‫‪musulmana de Europa occidental (2001).‬‬ ‫أنظر الدراسات املختصة التالية‪:‬‬ ‫‪1) Basilio Pavón Maldonado (1972), «La loza doméstica de Madinat al-Zahra», Al-Andalus, xxxvii,‬‬ ‫;‪pp. 191-227; 2) Balvina Martínez Caviró (1991), Cerámica hispanomusulmana. Madrid: El Viso‬‬ ‫‪3) Carlos Cano Piedra (1996), La cerámica verde-manganeso de Madinat Al-Zahra’. Granada:‬‬ ‫‪Fundación El Legado Andalusí.‬‬

‫‪74‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫(األلحان والتحسينات يف آلة العود وعزفه بالريشة الجديدة) بل أيضاً مبتكرات األطعمة‬ ‫وعادات األكل‪ ،‬عالوة عىل استخدام املفارش الجلدية واألقداح الزجاجية عىل الطاولة‪ ،‬األمر‬ ‫الذي جعل البعض أن يربط شخصيته بتنشيط صناعة الزجاج القرطبي‪ .65‬ويقال أيضاً إنه‬ ‫تم تصنيع أقمشة لألمري محمد األول رسا ً يف مدينة بغداد نفسها باسمه منسوج يف األطراف‪،‬‬ ‫وأنه يف عهد األمري عبد الله‪ ،‬كان حاكم إشبيلية إبراهيم بن حجاج يصنعها باسمه مقلدا ً‬ ‫العادة القرطبية‪ ،‬كام ذهبت إليه بعض املصادر األندلسية‪ .66‬وقد كتب ابن حوقل يف رحلته‬ ‫عن أنسجة ومالبس قرطبة بعد أن زارها يف عام ‪ 948‬م مشيدا ً بإلحاح بجودة الحرير وأنواع‬ ‫الصوف والديباج القرطبية وبهاء ألوانها وأصباغها وخفة وروعة ثياب ومالبس القرطبيني‬ ‫التي «ليس يف بلد من بلدان األرض لها نظري حسناً وكرثة» والتي كانت تصدر إىل مرص وأبعد‬ ‫تخوم الخراسان وصارت «مشهورة يف جميع األرض»‪ ،‬عىل حد قوله‪ .67‬عىل كل حال‪ ،‬وصلتنا‬ ‫من الطراز القرطبي بعض األنسجة مع كتابات وزخارف يف حياكة بخيوط من الحرير متعددة‬ ‫األلوان وكثري من خيوط الذهب القربيص‪ ،‬كالقامش الذي يعترب مئزرا ً لخليفة هشام بن الحكم‬ ‫الذي جاء من صندوق مقتنيات مقدسة لدير «شنت اشتينب دي غورماث» (‪San Esteban de‬‬ ‫‪ )Gormaz‬مبحافظة سوريا )‪( (Soria‬شامل العاصمة مدريد) واملحفوظ يف «أكادميية التاريخ‬ ‫امللكية» يف مدريد‪ ،‬وتبدي رشيطاً طويالُ من الكتابة يف طريف النسيج املتدليني عىل الكتفني‪ ،‬مع‬ ‫العبارة «بسم الله الرحمن الرحيم‪ ،‬الربكة من الله واليمن والدوام للخليفة اإلمام عبد هشام‬ ‫املؤيد بالله أمري املؤمنني»‪ ،‬املكتوبة مرتني يف خطني معاكسني بالخط الكويف املورق الشبيه بنقوش‬ ‫مدينة الزهراء‪ .‬ويف املساحة الفاصلة بني خطي الكتابة توجد سلسلة من املثمنات (عىل غرار‬ ‫املالبس القبطية املرصية) تنطوي عىل طيور وأسود وغزالن‪ ،‬ويف أحد طريف املئزر مثمنان‬ ‫تحتويان عىل صوريت برشيتني‪ :‬يف املثمن األول نرى صورة مبسطة لرجل لعله الخليفة هشام‬ ‫املذكور يف الكتابة ذاته‪ ،‬وهو جالس القرفصاء وينظر اىل األمام حامالً يف يده قارورة ومشريا ً‬ ‫باألخرى إىل ميينه إشارة احرتام وطاعة‪ ،‬حيث املثمن الثاين يتضمن صورة أنثى يفرتض أنها‬ ‫تفصيال عن مسري زرياب الفني والثقايف هو كتاب ابن حيان (‪ ،)2003‬املقتبس ‪( ،1-2‬طبعة محمود‬ ‫ً‬ ‫‪ 65‬املصدر العريب األكرث‬ ‫ميك‪ .‬الرياض‪ ،‬مركز امللك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪ ،‬ص ‪ ،335-307‬حيث يجمع املؤلف أخبارا ً مدونة يف مناهل‬ ‫عربية وأندلسية سابقة‪ .‬يُعرف أنه تم استرياد زجاج عراقي إىل األندلس‪ ،‬لكن األمري محمد األول أمر بصنعه يف األندلس‬ ‫أيضاً‪ ،‬واكتسب صيتاً يف مصانع مرسية واملرية خالل الخالفة‪ ،‬وانتج بعدئذ يف إشبيلية يف دولة املعتمد بن العباد (القرن‬ ‫‪ 11‬م) ويف مالقة ومرسية واملرية خالل القرن الثالث عرش امليالدي‪ ،‬إىل جانب الخزف املذهب‪ ،‬ويف مدن أندلسية أخرى‪.‬‬ ‫‪ 66‬راجع‪:‬‬ ‫‪María Teresa Pérez Higuera (1994), Objetos e imágenes de al-Andalus. Op. Cit., pp. 86-88.‬‬ ‫‪ 67‬ابن حوقل (‪ ،)1873‬كتاب املسالك واملاملك‪ .‬ليدن‪ ،‬بريل‪ ،‬ص ‪.79-78‬‬

‫‪75‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫«صبح»‪ .‬هكذا‪ ،‬فيغلب الظن أن لهذا القامش رمزية ملكية وسياسية واضحة متعلقة‬ ‫أمه ُ‬ ‫باألحداث الخطرة التي جرت بعد وفاة الحكم والتي عقبنا عليها أعاله‪ .‬وبني سلسلة املثمنات‬ ‫التي تذكرنا قالئد العاجيات‪ ،‬والتي ترتابط فيام بينها من قبل نجوم مثمنة‪ ،‬توجد أشكال‬ ‫نباتية كتلك التي رأيناها يف زخارف بعض التحف العاجية ويف الجدران القصورية املشار إليها‬ ‫سابقاً‪ .‬ومن املمكن أن يكون هناك تشكيل مامثل يف جزء من قامش مطرز من القرن العارش‬ ‫امليالدي يطلق عليه اسم «جبة أونيا» (‪ )Yuba de Oña‬الذي عرث عليه يف دير سان سالبادور‬ ‫دي أونيا يف محافظة بُرغش (‪( )San Salvador de Oña, Burgos‬شامل العاصمة مدريد)‬ ‫والذي يُشاهد فيه شخص مرتبع عىل رسير تحمله فروع منبثقة من آنية بينام ينظر الشخص‬ ‫جانبياً ويشري بيده اليمنى إىل شخصية رئيسة كانت عىل األغلب متواجدة يف الجزء املفقود‬ ‫من النسيج‪ .‬ومن دار الطراز القرطبية وصلنا أيضاً جزء من قطعة مطرزة مهداة إىل عبد‬ ‫الرحمن النارص وقد أنجزت بإرشاف ُد ّري يف عام ‪ 942-941‬م (متحف كليفالند ‪Cleveland‬‬ ‫يف الواليات املتحدة) وجزء مام يعرف بـ «حاشية الربانس» (‪( )Franja del Pirineo‬معهد‬ ‫بالنثيا دي دون خوان‪ ،‬مدريد) (‪ ،)Instituto Valencia de Don Juan‬وهي جزء من نسيج‬ ‫يتكون من سلسلة من الدوائر املرتابطة ويف داخلها حيوانات منطية بالطية (كام يحدث يف‬ ‫تبق منها سوى إحدى هذه الدوائر التي‬ ‫علبة املغرية وكنز غا ّروتشا‪ ،)Garrucha :‬بيد أنه مل َ‬ ‫تتضمن طاووساً وبعض األشكل النباتية والزهرية ذات صيغة تعود إىل عرص الخالفة‪ .‬مثة قطعة‬ ‫من كفن القديس اليعازر يف كاتدرائية أوتون (فرنسا) (‪)Sudario de San Lázaro, Autun‬‬ ‫وفيها يظهر فارس بعاممة وصقّار بحزام‪ ،‬ويذكر فيها بخط كويف بسيط اسم عبد امللك املظفر‪ ،‬ما‬ ‫يسمح باعتبار القامش كنوع من التمجيد لإلنتصار املشار إليه آنفاً الذي تحقق يف عام ‪ 1007‬م‬ ‫عىل يد ابن املنصور‪ .68‬وقد ظهرت بقوة يف عرص الطوائف دار طراز أخرى يف مدينة املرية‪ ،‬التي‬ ‫أسسها عىل شاطئ البحر عبد الرحمن النارص يف عام ‪ 955‬م بعد أن سحق متردا ً للمستعربني‬ ‫وصد هجوماً فاطمياً عىل مدينة بَ َّجانة‪ .‬وحلت املرية محل قرطبة يف صناعة األنسجة التي‬ ‫بلغت بالد املرشق أيضاً‪ ،‬وقد قال اإلدرييس يف هذا الخصوص إن «مدينة املرية كانت يف أيام‬ ‫امللثم (املرابطني) مدينة اإلسالم ]‪ [..‬وكان بها من طرز الحرير مثاين مائة طراز يعمل بها الحلل‬ ‫والديباج والسقالطون واألسبهاين والجرجاين والستور املكللة والثياب املعينة والخمر والعتايب‬ ‫‪ 68‬راجع‪:‬‬

‫‪76‬‬

‫‪Cristina Partearroyo Lacaba (2007), «Tejidos andalusíes», Artigrama, 22, pp. 371-419.‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫واملعاجر وصنوف أنواع الحرير»‪ .69‬وإىل طراز هذه املدينة األندلسية الساحلية ذاتها يرجع‬ ‫رداء دي فريمو (إيطاليا) (‪ )Capa de Fermo‬املعروف‪ ،‬الذي تخربنا كتابته أنه مصنوع يف‬ ‫«املرية» السنة ‪ 510‬م (‪ 1117/1116‬م)‪ .‬هذا القامش الرائع مزخرف بربنامج تصويري مليك‬ ‫ثري موزع داخل دوائر مرتابطة‪ )1 :‬شخص كبري الحجم ال بد أنه ميثل سيدا ً أو عاهالً يقعد‬ ‫القرفصاء يف رسير عرش مع مالمح ومالبس امللوك وإناء أمامه وخادمان إىل جانبيه يحمل‬ ‫أحدهام مروحة والثاين قارورة وغصن‪ ،‬أي عالمات امل ُلك الشائعة يف عهد الخالفة‪ )2 ،‬نزهة‬ ‫عىل ظهر الفيلة يقوم بها شخص أو ملك ملتح يلبس مئزرا ً ذهبياً عىل رأسه ويطل من قوس‬ ‫رسج ممسكاً مبروحة بيمناه‪ ،‬الصيد بالصقور‪ )3 ،‬فارس ميتطي جوادا ً يعدو‪ )4 ،‬حيوانات منطية‬ ‫يف الفنون البالطية كالنرس الذي ينرش جناحيه ويصطاد الغزالن‪ ،‬وفهد‪ ،‬وفتخاء‪ ،‬وأسد مجنح‪،‬‬ ‫باإلضافة إىل أبو الهول بجناحني وغصن يف فمه‪ ،‬وظبيان صغرية وغزالن وببغاوات‪ ،‬وطواويس‬ ‫وطيور مائية‪ ،‬دون أن نفتقد للعنارص النباتية وأشجار الحياة وزهور اللوتس‪ ،‬وال لألشكال‬ ‫الهندسية من دوائر ونجامت مثمنة‪ ،‬مرسومة كلها كأنها قيطان من الفصوص أو سلك من‬ ‫اللؤلؤ‪ .‬وهذا الرداء الذي يرجح أنه صنع للقائد املرابطي عيل بن يوسف‪ ،‬الذي كان يحكم‬ ‫آنذاك ويراعي الفنون يف املرية‪ ،‬خري دليل عىل أن اللغة البرصية الخاصة بقرطبة األموية ظلت‬ ‫حية يف أوائل القرن الثاين عرش امليالدي‪ ،‬غري أن كتابته الكوفية املذهبة عىل خلفية زرقاء تعرب‬ ‫لنا عن أن أوان اضمحالل تلك الجاملية قد آن‪.70‬‬

‫صناعة الوراقة يف قرطبة وو ّراقوها‬

‫عىل مدى هذا العرض املقتضب لإلنتاج الفني القرطبي قام الخط العريب بدور جوهري‬ ‫يف تزويدنا باملعنى‪ ،‬بدءا ً بالرخام الصلد والفسيفساء والفضاءات املعامرية العظيمة حتى‬ ‫املواد األكرث ليونة بالتدريج كالعاج والخزف واألنسجة وأخريا ً‪ ،‬بطبيعة الحال‪ّ ،‬‬ ‫الرق والورق‪.‬‬ ‫وإذا كانت الوراقة قد حققت يف اإلسالم تطورا ً هائالً غري مسبوق‪ ،‬فإن قرطبة غدت إحدى‬ ‫بؤر صناعتها الرئيسة بفضل رعاية الصنائع واآلداب التي متتعت بها العاصمة من قبل‬

‫‪ 69‬اإلدرييس (‪ ،)2002‬كتاب نزهة املشتاق‪ .‬القاهرة‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬ص ‪.562‬‬ ‫‪ 70‬أنظر‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ ،386-383‬وكذلك‪:‬‬ ‫‪Laura Ciampini (2009), La capa de Fermo: un bordado de al-Andalus, en Antonio Fernández-Puertas‬‬ ‫‪y Purificación Marinetto Sánchez (eds.). Arte y cultura. Patrimonio Hispanomusulmán en al-Andalus.‬‬ ‫‪Op. Cit., pp. 141-177.‬‬

‫‪77‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫أصحاب السلطة واملساهامت الخاصة‪ ،‬ناهيك عن النشاط الديني والعلمي واألديب لألمويني‬ ‫القرطبيني وأتباعهم‪ ،‬الذين أنشؤوا صناعة مزدهرة للكتاب يف األندلس مل تضيع أبدا ً تواصلها‬ ‫مع املرشق العريب‪ .‬نحظى ببصامت دخول الكتابة العربية يف األندلس اعتبارا ً من النقود‬ ‫األندلسية األوىل املعروفة‪ ،‬تحديدا ً دينار عام ‪ 93‬هـ (‪ 711-712‬م)‪ ،‬باللغتني الالتينية‬ ‫والعربية‪ ،‬ودينار عام ‪ 102‬هـ (‪ 720‬م)‪ ،‬الذي سبك بعبارات إسالمية وملوكية بالخط‬ ‫الكويف طبقاً إلصالح سك العملة الذي قام به الخليفة عبد امللك يف املرشق‪ ،‬كام هو شأن‬ ‫الدرهم الذي رضبه عبد الرحمن الداخل يف عام ‪ 145‬هـ (‪ 763-762‬م) يف سكة «األندلس»‬ ‫وغريه‪ .‬ورسعان ما ترسخ أيضاً اإلستعامل الواسع واملنتظم للخط العريب يف املعامر وشتى‬ ‫الفنون وحقق تطورا ً رائعاً بعد الكتابات البسيطة املحفورة يف املرحلة األوىل حتى الخطوط‬ ‫الكوفية األنيقة غري املورقة واملورقة لحقبة الخالفة التي بلغ صيتها املرشق العريب حيث‬ ‫احتفت املصادر املكتوبة يف القرنني العارش والحادي عرش امليالديني بـ «الكويف األندليس»‬ ‫كأحد أهم أمناط الخط العريب‪ .71‬ومنذ إمارة عبد الرحمن الداخل (حكم بني عامي ‪788‬‬ ‫و ‪ 796‬م) الذي يقال إنه كان أديباً وشاعرا ً‪ ،‬شجعت األرسة األموية األندلسية عىل استرياد‬ ‫الكتب ونسخها وصنعها وانشاء املكتبات‪ .‬وقد جمع األمري محمد األول (حكم بني عامي‬ ‫‪ 852‬و ‪ 886‬م) مكتبة ملكية كبري تخطت املكتبات املوجودة حينئذ يف قرطبة‪ ،‬كام أن ولع‬ ‫حض اإلمرباطور البيزنطي قسطنطني بن ليون‬ ‫عبد الرحمن النارص بالكتب أمر مشهور ما ّ‬ ‫‪72‬‬ ‫عىل أن يهديه كتاب «يف ّ‬ ‫رق مصبوغ لوناً ساموياً مكتوب بالذهب بالخط اإلغريقي» ‪،‬‬ ‫ويقال إنه كان نسخة عن املؤلف يف الطب لديسقوريديس مزينة برسوم من النباتات‬ ‫‪ 71‬نكتفي باإلشارة هنا‪ ،‬عىل سبيل املثال ال الحرص‪ ،‬إىل الالفتة التأسيسية ملسجد ابن عدبس يف إشبيلية الذي أقيم يف زمن‬ ‫إمارة عبد الرحمن الثاين‪ ،‬وهي الفتة منقوشة بخط كويف بدايئ يذكر باألمري الباين واملرشف عىل األعامل الفقيه ابن عدبس‪،‬‬ ‫والنقاش الذي «كتبه» عبد ال ّرب بن هارون‪ ،‬وتاريخ اإلنشاء السنة ‪ 214‬هـ (‪ 830/829‬م)؛ ويف لوحة الباب الرئيس لقصبة‬ ‫ماردة (غرب اسبانيا) نقش اسم األمري الباين عبد الرحمن بن الحكم (عبد الرحمن الثاين) وعامله «عبد الله بن كُلَيب بن‬ ‫ثعلبة» وصاحب البنيان املوىل «حيقار بن مكبّس» وتاريخ إصدار األمر بالبناء «شهر ربيع اآلخر من سنة عرشين ومئتني‬ ‫(املوافق لـ ‪ 4‬أبريل‪ 2-‬مايو ‪ 835‬م)‪ ،‬وقد أصبح الخط يف هذا النقش أكرث انضباطاً واستقاماً‪ .‬ويف اللوحة التأسيسية لرتسانة‬ ‫طرطوسة منقوشة بيد ابن كُلَيب يف عام ‪ 333‬هـ (‪ )945/944‬وعىل وجه الخصوص يف كتابات مدينة الزهراء وتوسعة‬ ‫الحكم لجامع قرطبة وبعض التحف الفنية املشار اليها أعاله لعهد الخالفة وبعدها بعقود قليلة من الزمن‪ ،‬ارتقى الخط‬ ‫الكويف القرطبي إىل قمته‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Manuel Ocaña Jiménez (1970), El cúfico hispano y su evolución. Madrid: Instituto Hispano-Árabe‬‬ ‫‪de Cultura.‬‬ ‫‪ 72‬أنظر‪ :‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ .‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪ ،367‬ودراسة خوليان ريبريا التالية‪:‬‬ ‫‪Julián Ribera Tarragó (1928), Bibliófilos y bibliotecas en la España musulmana, en Disertaciones y‬‬ ‫‪opúsculos, I. Madrid: Imprenta de Estanislao Maestre, p. 191.‬‬

‫‪78‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫املوصوفة يف الكتاب ومغلفة بتجليد فخم وعجيب‪ .‬ونعرف أيضاً أن موىل الخليفة األندليس‬ ‫األول‪ ،‬املحدث القرطبي سعيد بن نرص أيب الفتح (‪ 1005/1004-928/927‬م) امتهن مهنة‬ ‫تنقيح الكتب‪ .‬إال أن النشاط يف صناعة الوراقة وجمع املجلدات وإنتاجها بلغ ذروته عىل‬ ‫يدي الخليفة الثاين الحكم (امتدت خالفته بني عامي ‪ 961‬و ‪ 976‬م) وهي الفرتة التي‬ ‫تبلغنا املصادر األندلسية عنها بالعرشات بل واملئات من الشخصيات املتخصصة يف هذا‬ ‫الفن‪ .‬ويف عاصمة األمويني تشكل وقتذاك حتى حي باسم «الرقاقني» مكرس لصنائع الرق‬ ‫والوراقة‪ .‬وحسب تقديرات املستعرب اإلسباين خوليان ريبريا (‪ )Julián Ribera‬فإن أوج‬ ‫فرتة إزدهار قرطبة ميكن أن تكون قد أنتجت ما بني ستني ألف ومثانني ألف كتاب يف‬ ‫السنة‪ ،‬إذا ما فكرنا يف عدد املعلمني ومعهم مئات الطالب الذين كانوا ينسخون دروسهم‬ ‫يف املسجد الجامع ويف املساجد األخرى‪ ،‬ويف فرق النساء النساخات الاليئ ورد ذكر بعضهن‬ ‫يف النصوص‪ ،‬فضالً عن الكثري من أصحاب املكتبات ومحبي الكتب وامللوك والقادة ورجال‬ ‫البالط الذين كان لديهم ناسخون مأجورون‪ .73‬وقد جمع الحكم الثاين أكرب مكتبة معروفة‬ ‫يف األندلس انطالقاً من املكتبة املوروثة عن أسالفه‪ ،‬وأضاف إليها مكتبة شقيقه محمد‬ ‫واملجلدات التي أمر شخصياً باقتنائها وبتصنيعها يف دور الكتب الخاصة به‪ .‬كانت «خزانته‬ ‫العلمية» تضم ‪ 400‬ألف مجلد سجلت يف ‪ 44‬جزءا ً من الفهارس يتألف كل واحد منها من‬ ‫‪ 20‬ورقة حسب ما أورده صاحب «طوق الحاممة» ابن حزم القرطبي (‪ 1063-994‬م)‪.74‬‬ ‫وكان أفضل مجلدي الكتب يف األندلس يعملون يف القصور األموية برفقة أبرع املزوقني‬

‫‪ 73‬أنظر‪:‬‬

‫‪Julián Ribera Tarragó (1928), Ibídem, p. 204.‬‬ ‫‪ 74‬ابن حزم (‪ ،)1962‬جمهرة أنساب العرب‪ .‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ص ‪ .100‬حول ولوع الحكم املستنرص بالكتب والعلوم‬ ‫يضيف ابن حزم نصاً تم ذكره مرارا ً يروي فيه عن تليد الخيص أن الحكم «كان يبعث يف الكتب إىل األقطار رجاالً من‬ ‫التجار ويرسل إليهم األموال لرشائها حتى جلب منها إىل األندلس ما مل يعهدوه‪ ،‬وبعث يف كتاب «األغاين» إىل مصنفه‬ ‫أيب الفرج األصفهاين‪ ،‬وكان نسبه يف بني أمية‪ ،‬بعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إىل العراق‪ ،‬وكذلك فعل مع القايض‬ ‫أيب بكر األبهري املاليك يف رشحه ملخترص ابن عبد الحكم‪ ،‬وأمثال ذلك‪ .‬وجمع بداره الحذّاق يف صناعة النسخ واملهرة يف‬ ‫الضبط واإلجادة يف التجيلد‪ ،‬فأوعى من ذلك كله‪ ،‬واجتمعت باألندلس خزائن من الكتب مل تكن ألحد من قبله وال من‬ ‫بعده‪ ،‬إال ما يُذكر عن العبايس بن املستيضء»‪ ،‬حسبام يرده املقري يف «نفح الطيب» اعتامدا ً عىل ابن حزم وابن خلدون‪.‬‬ ‫لألسف «مل تزل هذه الكتب بقرص قرطبة إىل أن بيع أكرثها يف حصار الرببر –يكتب املقري يف روايته لألحداث اعتمدا عىل‬ ‫ابن خلدون– وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موايل املنصور بن أيب عامر‪ ،‬ونُهِب ما بقي منها عند دخول الرببر‬ ‫قرطبة واقتحامهم إياها عنوة» (راجع املقري [‪ ،]1988‬نفح الطيب‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.)386‬‬

‫‪79‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫واملزخرفني والناسخني املتمرسني تحت إرشاف كبار النحويني والعلامء‪ 75‬الذين قدموا من‬ ‫صقلية وحتى من بغداد‪ .‬ومن بني الكتبة والخطاطني الذين عملوا للحكم الثاين‪ ،‬يعد‬ ‫األديب واللغوي القرطبي محمد بن الحسني الفهري الذي كان وراقاً ومنقحاً ألعامل اللغوي‬ ‫املرشقي الكبري أيب عيل القايل البغدادي (‪ 893-967‬م) الذي تعلم يف بغداد زمناً وانتقل إىل‬ ‫قرطبة حيث تويف بعد أن علّم العديد من األندلسيني‪ .‬وقد توىل العامل والوراق القرطبي‬ ‫املذكور‪ ،‬ابن الحسني الفهري‪ ،‬باإلشرتاك مع محمد بن معمر الجياين‪ ،‬نسخ ومتحيص العمل‬ ‫الشهري أليب عيل القايل املعنون بـ «البارع يف اللغة» باإلَضافة إىل معجمني آخرين له‪« :‬كتاب‬ ‫الهمزة» و«كتاب العني»‪ .‬وعندما أنهى الكتاب مثل الفهري أمام الحكم الثاين وأراد هذا‬ ‫األخري أن يعرف –حسب ما تؤكده املصادر– ما أضافه إىل «نسخة كتاب العني» للخليل‪،‬‬ ‫وهو أول معجم عريب‪ ،‬فأخربه الوراق بأنه مل يضف سوى ‪ 5683‬كلمة (!!)‪ .‬ويف صدد هذا‬ ‫التعاون اللغوي والوراقي بني أيب عيل القايل البغدادي واألندلسيَني املذكو َرين يجدر ذكر‬ ‫إعجاب القايل الكبري مبصنف مرشقي آخر هو «أدب ال ُكتَّاب» البن قتيبة (‪ 828-889‬م)‬ ‫الذي استعمله منوذجاً لطالبه األندلسيني‪ .‬ويف وقت الحق سريشح هذا الكتاب إلبن قتيبة‬ ‫الذي يويل أهمية خاصة للخط العريب‪ ،‬اللغوي والفيلسوف األندليس ابن السيد البطليويس‬ ‫(‪ 1052-1127‬م)‪ ،‬ما متخضت عنه واحدة من التنظريات القليلة املكتوبة يف األندلس حول‬ ‫صناعة الخط من منظور ومصطلحات املرشق العريب‪ .76‬وعىل الصعيد النظري لنرش أيضاً إىل‬ ‫أن الفقيه املاليك الشهري أبو عمر الداين‪ ،‬الذي ولد يف قرطبة وأخذ العلم بعدئذ يف القريوان‬ ‫والقاهرة واملدينة ومكة وعاد إىل قرطبة قبل أن يستقر يف مدينة دانية يف رشق األندلس‬ ‫حيث تويف عام ‪ 1053‬م‪ ،‬وصف يف واحد من مؤلفاته العديدة حول القراءات القرآنية‪،‬‬ ‫«املحكم يف نقط املصاحف»‪ ،‬حرف «األلف» باملقارنة بجسم اإلنسان كنموذج لإلعتدال‬ ‫والجامل‪.‬‬ ‫‪ 75‬فيام يتعلق بالتجليد سنلمح إىل أنه استند صنعه إىل جلد املاعز املدبغ الذي يُعرف يف اسبانيا باسم «قردوبان»‬ ‫(‪ ،)Cordoban‬يعني الجلد املدبغ عىل الطريقة «القرطبية»‪ ،‬والذي يستخدم يف صناعة القفازات واملخدات واألرسجة‬ ‫وأغامد السيوف‪ .‬ومثة نوع آخر من الدباغ يسمى «غداميس» (‪ ،)Guadamecí‬منسوب إىل مدينة غدامس املغربية‪ ،‬وهو‬ ‫من جلد الخروف وأكرث ليونة ومزركش برسوم ذهبية واأللوان‪ ،‬وكان مصنعه يقع قدمياً يف حي «الرشقية» بقرطبة‪ .‬حول‬ ‫التجيلد أتانا من األندلس «كتاب التيسري يف سنة التسفري» البن إبراهيم اإلشبييل (املتويف حوايل ‪1230‬و ‪ 1232‬م) الذي‬ ‫ميكن الرجوع إليه يف دارسة حسام مختار العبادي‪:‬‬ ‫‪Hossam Mujtar al-Abbady (2005), Las artes del libro en el Magreb y al-Andalus (siglos iv H./x d. C.‬‬‫‪viii H./xv d. C.). Madrid: El Viso.‬‬ ‫‪ 76‬ابن السيد البطليويس (‪ ،)1963‬اإلقتضاب يف رشح أدب ال ُكتّاب‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الجيل‪ .‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.88-87‬‬

‫‪80‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫ هناك شخصية أخرى أسهمت يف إدخال املعارف وأشكال الخطوط إىل األندلس‬ ‫قادماً من القريوان‪ ،‬وهو أبو الفضل بن هارون الصقيل (‪ 907/908-989‬م) الذي انضم بعد‬ ‫قضاء فرتة يف املدينة اإلفريقية‪ ،‬وهي إحدى مراكز إشعاع الخط العريب يف عرص اإلزدهار‪،‬‬ ‫إىل فريق وراقي الحكم‪ ،‬ويل عهد النارص حينذاك‪ ،‬وكسب سمعة طيبة يف مهنة الوراقة‪.77‬‬ ‫وقد عمل ابن هارون الصقيل أيضاً يف خدمة جعفر البغدادي الذي «سكن قرطبة وكان‬ ‫من رؤساء الوراقني املعروفني بالضبط وحسن الخط كعباس بن عمرو الصقيل ويوسف‬ ‫البلوطي وطبقتهام‪ ،‬واستخدمه الحكم املستنرص بالله يف الوراقة ملا ُعلم من شدة اعتناء‬ ‫الحكم بجمع الكتب واقتنائها»‪ .78‬وتضاف إىل فرق وراقي الحكم الشهرية النساء الكاتبات‬ ‫مثل لبنى الكاتبة وفاطمة بنت السبوالري وسواهام‪ .‬نعرف بالفعل أن الكثري من «عاملات‬ ‫األندلس» كن يتمتعن بصفة كاتبات وخطاطات‪ ،‬وكن غالباً من الجواري الاليت يعملن‬ ‫لسادتهن أو سيداتهن وكن يتكلفن بكتابة رسائلهم ووثائق رسمية أخرى‪ ،‬كام كانت بعض‬ ‫أولئك الكاتبات ميتهن صناعة النسخ يف البالط ل ُحسن خطهن‪ ،‬إال أنه مل تحتفظ مبخطوطات‬ ‫موقعة لهن عىل حد معرفتنا‪ .‬ومهام يكن من أمر‪ ،‬فإن الخط وهو أحد الفنون‪ ،‬فضالً‬ ‫كمً أكرب من أخبار نساء مبدعات‬ ‫عن الشعر والغناء‪ ،‬التي حفظت لنا املصادر العربية ّ‬ ‫يف اإلسالم العريب الكالسييك‪ ،‬وذلك ألن فنسخ املصاحف والكتب العلمية كانت تعد من‬ ‫املهن التي تطبعها التقوى وتكسب اإلحرتام ملنافعها اإلجتامعية وبالتايل هي من أنسب‬ ‫املهن لهن‪ .‬يف زمن إمارة وخالفة قرطبة األموية‪ ،‬عىل األقل منذ عهد عبد الرحمن الثاين‪،‬‬ ‫انخرطت نساء من الجواري واملعتقات واألديبات والكاتبات يف خدمة البيت املليك وامللِك‬ ‫عينه‪ ،‬وهو ما فعل أسالفهم يف دمشق والعباسيون يف بغداد‪ .‬هكذا تذكر املصادر جارية‬ ‫مدعوة بـ «قلم» العاملة يف خدمة عبد الرحمن الثاين كمغنية وأديبة وكاتبة والتي كانت‬ ‫من أصل باسيك وبعد أن تعلمت الغناء يف املدينة املنورة اقتناها هذا األمري ليسطع نجمها‬ ‫يف قرطبة بفضل معارفها األدبية وحفظها للشعر ونظمه وروعة خطها‪ .‬وحتى إبنة لألمري‬ ‫عبد الرحمن الثاين تدعى «بهاء» اختارت حياة الزهد وعكفت عىل نسخ القرآن وأهدائه‬ ‫كوقف حبيس عىل غرار التونسية «فضل» التي يُحتفظ منها مبصحف يحمل توقيعها‪.‬‬ ‫‪ 77‬املعلومات الواردة هنا حول خطاطي وخطاطات قرطبة مستخرجة من معاجم وأعامل ابن األبّار وابن بشكوال وابن‬ ‫الفريض وابن عبد امللك واملقري‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪José Miguel Puerta Vílchez (2007), La aventura del cálamo: historia, formas y artistas de la caligrafía‬‬ ‫‪árabe. Granada: Edilux, pp. 139-202.‬‬ ‫‪ 78‬املقري (‪ ،)1988‬نفح الطيب‪ ،‬الجزء ‪ ،3‬ص ‪.111‬‬

‫‪81‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫وتكرمياً لورع هذه الناسخة املنتمية إىل األرسة الحاكمة يف قرطبة سمي مسجد ربض‬ ‫الرصافة‪ ،‬شاميل العاصمة األندلسية‪ ،‬باسمها ويُعرف بـ «مسجد البهاء»‪ .‬وتوفيت «بهاء»‬ ‫يف شهر رجب سنة ‪ 304‬هـ (ديسمرب ‪ 917‬م) عندما بدأ ُحكم عبد الرحمن النارص الذي‬ ‫كانت تخدمه عدد من الجواري ممن متتعن مبهارات يف الخط‪ ،‬كالجارية املعتقة «راضية»‬ ‫التي احرتفت الوراقة يف املكاتب الرسمية‪ ،‬و«كِتامن» كاتبة قرطبية للخليفة النارص يف قرص‬ ‫قرطبة‪ ،‬وكذلك « ُمزنة» (املتوفية يف عام ‪ 358‬هـ [‪ 986‬م]) كاتبة وأديبة ممتازة للنارص‪،‬‬ ‫و « ُز ُمرد» التي ال تخربنا عنها املناهل األندلسية سوى أنها كانت «كاتبة» بخط حسن يف‬ ‫قرطبة توفيت يف عام ‪ 336‬م (‪ 947‬م)‪ .‬باإلضافة إىل األدباء والخطاطني وعشاق الكتب‬ ‫وفدت إىل قرطبة من بغداد العباسيني أيضاً بعض الكاتبات مثل «ست نسيم البغدادية»‬ ‫التي ضمها عبد الرحمن النارص لفريقه لرباعتها يف محاكاة خطه وكتابة الوثائق الرسمية‬ ‫بعد أن ضعف برصه يف شيخوخته‪.‬‬ ‫وظفت يف خدمة ابنه الحكم املستنرص بالله مجموعة من الجواري الاليئ تم إعدادهن يف‬ ‫املوسيقى واآلداب والخط‪« :‬لُبنى» (املتوفية يف عام ‪ 986-984‬م) وقد ورثها الحكم عن أبيه النارص‪،‬‬ ‫وكانت متضلعة يف النحو والعروض والحساب عالوة عىل كونها شاعرة وخطاطة‪ ،‬والقرطبية‬ ‫«فاطمة بنت زكريا بن عبد الله الكاتب» (توفيت يف ‪ 1036‬م)‪ ،‬ابنة موىل وكاتب للحكم وحاجبه‬ ‫جعفر‪ ،‬اشتهرت ككاتبة حسنة الخط وملمة بعلوم عدة؛ وشارك يف جنازتها املهيبة ملا توفيت عن‬ ‫عمر الرابعة والتسعني جمهور غفري ودفنت يف مقربة «أم سالمة» بقرطبة‪ .‬أما إبن الحكم‪ ،‬الخليفة‬ ‫هشام الثاين‪ ،‬فقد حظي بخدمة «نظام الكاتبة» املشهورة بفصاحتها واختصاصها يف نسخ الرسائل‬ ‫وتحريرها يف قرص الخالفة بقرطبة‪ ،‬وكانت هي من كتبت خطاب العزاء املوجه لعبد امللك املظفر‬ ‫عند وفاة والده املنصور بن أيب عامر‪ ،‬وهو خطاب يتضمن أيضاً تعيني عبد امللك خلفاً لوالده يف‬ ‫شوال من عام ‪ 392‬م (أغسطس‪-‬سبتمرب ‪ 1002‬م)‪ .‬إال أن مساهمة النساء يف النسخ والوراقة مل‬ ‫يقترص يف قرطبة عىل إطار البالط وإمنا تجاوزته بكثري إذا ما أخذنا باإلعتبار ذلك املعطى الذي‬ ‫تردد يف معظم املقاالت حول تألق قرطبة األموية والذي يؤكد عىل أن مائة وسبعة وعرشين امرأة‬ ‫ك ّن ينسخن املصاحف بخط كويف يف الربض الرشقي يف حقبة الخالفة‪ ،‬ما دفع املستعرب خوليان‬ ‫ريبريا املذكور إىل الظن أن سبب هذا التوظيف الجامعي للنساء يف النسخ قد يفرس بتقاضيهن‬ ‫أجورا ً أقل من الرجال‪ ،‬عالوة عىل براعتهن ونبل املهنة بالنسبة لهن‪.‬‬ ‫وبعد تداعي الخالفة ظلت املصادر األندلسية تذكر خطاطات قرطبة‪ .‬ويدرج املقري يف‬ ‫رص‬ ‫«نفح الطيب» من بني سلسلة الرتاجم املقتبسة من ابن حيان‪ ،‬الذي كان باملناسبة ي ّ‬ ‫‪82‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫عىل أنه مل تكن هناك جارية واحدة يف األندلس ميكن منافستها يف العلم والتعليم وامللكات‬ ‫الشعرية‪ ،‬تراجم ألديبات وشاعرات قرطبية‪ ،‬مثل عائشة بنت أحمد بن محمد بن قديم‬ ‫القرطبي (الذي تويف يف سنة ‪ 400‬هـ [‪ 1010/1009‬م])‪ ،‬التي كانت جارية معتقة ولرمبا‬ ‫شقيقة الشاعر محمد بن قديم بن زياد‪ .‬ألفت عائشة أشعارا ً مديحية لحكام أندلسيني عدة‬ ‫ويرد ذكرها لخطها الرائع الذي اعتمدته يف نسخ املصاحف وتحرير الدفاتر وتدوين الكتب‪،‬‬ ‫أعامل سمحت لها بجني ثروة كبرية وتشكيل مكتبة جيدة والتمتع بنفوذ يف أوساط ال ُحكم‬ ‫مع كونها عزباء‪ .‬ويف مدينة قرطبة تسجل املراجع األندلسية أيضاً أخبار عن تونة بنت عبد‬ ‫العزيز بن موىس بن طاهر بن سبأ (القرن الحادي عرش‪-‬بداية القرن الثاين عرش امليالدي)‪،‬‬ ‫زوجة املقرئ أيب القاسم بن مدير‪ ،‬خطيب جامع قرطبة‪ ،‬ووالدة أيب بكر‪ ،‬التي لقبت بحبيبة‬ ‫وتعلمت عىل يد أيب عمر بن عبد ال ّرب الذي أخذت أعامله كتاب ًة‪ ،‬وعىل يد أيب العباس العذري؛‬ ‫وبعد ذلك‪ ،‬علّمت هي زو َجها املعارف التي اكتسبتها من هذين الشيخني الكبريين وقد نالت‬ ‫سمعة كبرية لجودة خطها وللدقة التي كانت تنسخ بها الكتب‪.‬‬ ‫ لكن لألسف مل يصلنا سوى القليل من صنائع الكتاب القرطبية هذه‪ ،‬ومن هذا‬ ‫اإلرث يجدر التنويه هنا إىل مصحف بالغ القيمة الفنية والتاريخية مصنوع من الرق يف‬ ‫قرطبة املرابطني انتهى به املطاف إىل مكتبة جامعة أسطنبول حيث يحتفظ به اليوم (رقم‬ ‫‪ .79)A6755‬إنه مخطوط عىل قطع رق شبه مربع (ضلع ‪ 18‬بـ ‪ 18,8‬سم) ويسرتعي النظر‬ ‫تصميم صفحة غالفه الداخلية (ورقة ‪ )3a‬البديع املكون من شبكة من الخطوط املنحنية‬ ‫واملستقيمة ينسجها رشيط عريض بلون الرق يحيلنا شكله فورا ً إىل املرشبيات األموية ذات‬ ‫األشكال الهندسية كتلك التي تغلق شبابيك جامع قرطبة؛ يشكل امتداد الخط‪-‬الرشيط هذا‬ ‫مربعاً خارجياً بعد تكوين مثاين دوائر متوسطة مرتابطة فيام بينها انطالقاً من نجمة مركزية‬ ‫ثُ انية فيها مثمن ذو رشيط ذهبي مضفور عىل شكل نجمة صغرية مثمنة ساموية اللون عىل‬ ‫خلفية زرقاء داكنة‪ ،‬ما يوحي بحركة الدوران وميثل ألعيننا يف الحال صورة قبة الفسيفساء‬ ‫الثامنية أمام محراب الحكم الثاين‪ ،‬مبا فيها التضاد بني اللونني الذهبي واألزرق الخاصني‬ ‫برمزية امل ُلك‪ .‬ففي هذه العودة البرصية من خفة الرق إىل صالبة البنيان التي تدعونا إليها‬ ‫هذه الصفحة القرآنية‪ ،‬نلفى‪ ،‬طبعاً‪ ،‬جنان التورايق الرقيقة القرطبية املذهبة عىل خلفية زرقاء‬ ‫‪ 79‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Sabiha Khemir (1992), Corán manuscrito, en Jerrilynn D. Dodds (coord.). Al-Andalus: las artes islá‬‬‫‪micas en España. Op. Cit., pp. 304-305.‬‬

‫‪83‬‬


‫عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني‬

‫غامقة مع ملسات من نغامت األخرض واألحمر يف بعض الفضاءات‪ .‬ويف ختام هذا املصحف‬ ‫(الورقة ‪ 145b‬و ‪ )146a‬املخطوط بحروف كوفية مرشقية زرقاء ومؤطرة بالذهب داخل مربع‬ ‫عريض مآلن بأشكال نباتية دائرية وذهبية اللون ونجمة مثانية يف كل زاوية من زواياه األربع‪،‬‬ ‫كتب قبل التصلية أنه كمل املصحف بعون الله وفضله السنة ‪ 548‬هـ (‪ 1144/1143‬م) يف‬ ‫مدينة قرطبة‪ ،‬حامها الله‪.‬‬

‫سرية املؤلف‬

‫خوسيه ميغيل بويرتا (قرية دوركر‪ ،‬غرناطة‪ )1959 ،‬هو خريج تاريخ الفن ودكتور يف‬ ‫اللغة العربية من جامعة غرناطة وأستاذ يف قسم تاريخ الفن يف الجامعة ذاتها مختص يف‬ ‫تاريخ الفن اإلسالمي واألندليس والجاملية العربية‪ .‬ومن بني دراساته باللغة اإلسبانية عن‬ ‫هذه املواضيع تذكر الكتب ‪Historia del pensamiento estético árabe. Al-Andalus y la‬‬ ‫‪estética árabe clásica (Madrid, 1997), La aventura del cálamo. Historia, formas‬‬ ‫‪y artistas de la caligrafía árabe (Granada, 2007), Leer la Alhambra (Granada,‬‬ ‫‪2010), La poética del agua en el islam / The Poetics of Water in Islam (Gijón, 2011).‬‬ ‫ومن بني نصوصه باللغة العربية يف هذا املجال «البنية الطوباوية لقصور الحمراء»‪ ،‬العرب والفكر‬ ‫العاملي‪ ،‬العدد ‪ ،20-19‬بريوت‪-‬باريس‪ ،1992 ،‬ص ‪ ،63-4‬و«اإلحتفاء بالصورة معرف ًة وجامالً يف‬ ‫الفلسفة العربية‪ .‬الفكر الفني العريب واألن َْس َنة األوروبية»‪ ،‬مجلة «اآلخر»‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬ص‬ ‫‪ .193-155‬وأرشف مع الزميل خورخي لريوال (جامعة املرية) عىل تحرير موسوعة «مكتبة األندلس»‬ ‫)‪ (Biblioteca de al-Andalus‬التي صدرت باللغة اإلسبانية يف تسعة مجلدات بني ‪ 2003‬و‪.2013‬‬

‫امللخص‬

‫تطرح هذه املقالة مقاربة جديدة حول القيم التاريخية والفنية والداللية ملعامر قرطبة‬ ‫وفنونها باإلستناد إىل اإلسهامات العلمية الصادرة يف الفرتة األخرية وإىل املصادر العربية‬ ‫األندلسية‪ .‬بهذه الغاية تعيد النظر إىل العنارص املكونة ملسجد قرطبة ومدينة الزهراء‬ ‫وأبعادهام الجاملية‪ ،‬باإلضافة إىل أهم الصنائع من الرخام والربونز والعاج والخزف والنسيج‬ ‫والكتاب‪ ،‬إمعاناً خاصة يف سرب العالقات القامئة بني األشكال واملضامني جميعها‪ ،‬من ناحية‪،‬‬ ‫‪84‬‬


‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫ومن ناحية أخرى يف املسؤولني عن إنتاج تلك األعامل الفنية والصناع والخطاطني والخطاطات‬ ‫اللذين أبدعوها‪.‬‬

‫الكلامت املفتاحية‬

‫العامرة األموية‪ ،‬التحف الفنية‪ ،‬الخط العريب‪ ،‬الصناع‪.‬‬

‫ترجمة‬

‫خوسيه ميغيل بويرتا‬

‫‪83‬‬



‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬ ‫خوان ف‪ .‬مور ّيو ريدوندو‬ ‫عندما اضطلع رفائيل كاستيخون وهو أحد رواد العامرة القرطبية يف عام ‪ 1929‬مبهمة‬ ‫استلهام الصورة الحرضية لقرطبة يف القرن العارش امليالدي‪ ،‬وذلك مبناسبة االحتفال بألفية‬ ‫إعالن الخالفة‪ ،‬أوضح موقفه من هذه املهمة متحدثاً عن الصعوبات واملحددات التي اكتنفت‬ ‫محاولته هذه ومذكّرا ً بالتشاؤم الذي أبداه أمادور دي لوس ريوس بهذا الخصوص قبل ذلك‬ ‫بثالثني عاماً إذ كان يرى يف هذه املهمة مرشوعاً مستحيالً‪ .1‬يف الوقت نفسه قام إيفاريست‬ ‫ليفي‪-‬بروفنسال‪ ،‬أعظم مستعرب بني أقرانه‪ ،‬بوضع عمله العظيم حول «إسبانيا املسلمة»‪،‬‬ ‫وقد حمله الدور البارز ملدينة قرطبة عىل التأكيد عىل أن تاريخ إسبانيا املسلمة ما بني القرنني‬ ‫الثامن والحادي عرش إمنا كان يف كثري من الجوانب هو تاريخ عاصمتها‪ .2‬أولئك كانوا هم الرواد‬ ‫الذين وضعوا أسس املعارف املتعلقة بـ «قرطبة الخالفة»‪ .‬وقد تغري املشهد يف أعقاب هذه‬ ‫الدراسات التي متثل نقطة انطالق البحث يف القرن العرشين ليصبح أكرث تنوعاً وغنى األمر‬ ‫الذي ساعد عىل متييز مراحل عدة‪ .‬وعليه فإن املشهد كان حتى الربع األخري من القرن املايض‬ ‫يسيطر عليه العلامء والباحثون الذين قاموا من خالل الجهود الفردية بالبحث يف مختلف‬ ‫جوانب املايض اإلسالمي للمدينة‪ .‬ومتيزت هذه املرحلة مبحاوالت تفسري األخبار املنقولة عن‬ ‫‪ 1‬رفائيل كاستيخون (‪« ،)1929( )Rafael Castejón‬قرطبة الخالفة»‪ ،‬نرشة أكادميية قرطبة امللكية؛ رودريغو أمادور دي لوس‬ ‫ريوس (‪« ،)1895( )Rodrigo Amador de los Ríos‬مالحظات حول التاريخ األثري لقرطبة خالل فرتة الوجود اإلسالمي»‪.‬‬ ‫‪ «Apuntes para la historia‬و ;‪«Córdoba califal», Boletín de la Real Academia de Córdoba, 25, pp. 254-339‬‬ ‫‪monumental de Córdoba durante la dominación musulmana», Revista de España, 10, junio, p. 402.‬‬ ‫‪ 2‬إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال (‪،)1944( )Évariste Lévi-Provençal‬‬ ‫‪Histoire de l’Espagne musulmane. I. De la conquête a la chute du califat de Cordoue (710-1031). El‬‬ ‫‪Cairo: Institut français d‘archéologie orientale.‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫النصوص العربية والسعي ملطابقتها مع االكتشافات األثرية القليلة التي أمكن السيطرة عليها‬ ‫يف مدينة كانت منهمكة يف التنمية الحرضية والدميغرافية املتصاعدة‪.‬‬ ‫لقد مثلت العقود األخرية من القرن العرشين لحظة انتقالية إذ شهدت إنشاء جامعة‬ ‫قرطبة (عام ‪ )1972‬ونقل الصالحيات يف مجال الرتاث التاريخي إىل حكومة إقليم أندالوث ّيا‬ ‫(عام ‪ )1984‬وإقرار الخطة العامة للتنظيم الحرضي (عام ‪ )1986‬وقد تصادفت جميعها مع‬ ‫إعادة تفعيل النشاط الحرضي الذي كان له دور قوي يف االهتامم بآثار املدينة التاريخية وعىل‬ ‫نحو خاص باآلثار اإلسالمية التي كانت وضعيتها تشهد نوعاً من الهشاشة وعدم الحامية‬ ‫بسبب عجز قانوين الرتاث التاريخي الحكومي املركزي (الصادر عام ‪ )1985‬واإلقليمي (الصادر‬ ‫عام ‪ )1991‬عن إفراز آليات قادرة عىل إدارة شؤون اآلثار وحاميتها‪.‬‬ ‫وكان علينا أن ننتظر املصادقة عىل الخطة العامة الجديدة للتنظيم الحرضي سنة ‪2001‬‬ ‫وتشغيل برامج البحث الشامل كالربنامج املشرتك بني إدارة التخطيط العمراين وجامعة قرطبة ما‬ ‫بني عامي ‪ 2002‬و‪ 2011‬قبل أن نشهد تحسناً يف إدارة شؤون اآلثار الحرضية يف قرطبة‪ ،‬وقد ترجم‬ ‫ذلك من خالل الزيادة امللحوظة يف حجم وجودة املعلومات املتاحة حول اآلثار‪ .‬بيد أن تلك‬ ‫الفرتة قد شهدت أيضاً حاالت نجاح وإخفاق عدة‪ .‬فقد أُحرز تقدم كبري يف وضع القواعد الوقائية‬ ‫لحامية اآلثار ويف مجال تسيري األعامل الخاصة باآلثار واملرتبطة بالنشاط الحرضي وتنظيمه‪ .‬كام‬ ‫متت املحافظة عىل الكثري من بقايا اآلثار التي تنتمي إىل مايض املدينة‪ ،‬لكن العمل فيها مل ينجز‬ ‫بعد وهو ما ميكن لنا أن نلمسه من خالل إيقاع العمل املتبع يف املعبد الروماين وحاممات عهد‬ ‫الخالفة أو القرص‪ ،‬ومن املتوقع أن متيض سنوات طويلة قبل االنتهاء من العمل فيها ومن عملية‬ ‫تحويلها إىل متاحف‪ .‬باختصار‪ ،‬لقد قطعنا عقدين من النشاط املحموم تم خاللهام إجراء الكثري‬ ‫من عمليات البحث والتقيص بخصوص اآلثار التي كان يتهددها خطر الضياع ولكننا مازلنا يف‬ ‫حاجة إىل عدة عقود للرشوع فقط مبعالجة تلك املعلومات‪.‬‬ ‫قرطبة بوصفها عاصمة إلحدى أكرث املحافظات الرومانية ثراء‪ ،‬وكانت تدعى كولونيا باتريثيا‬ ‫كوردوبا‪ ،‬حققت تطورا ً بارزا ً بعد إعادة تأسيسها عىل يد اإلمرباطور أغسطس‪( 3‬خريطة ‪،)1‬‬ ‫‪ 3‬لإلطالع عىل هذا املوضوع الخاص بقرطبة يف العرص الروماين‪ ،‬أنظر‪ :‬شابيري دوبريه إي رابينتوس (‪)Xavier Dupré i Raventós‬‬ ‫(نارش) (‪« ،)2004‬العواصم اإلقليمية لهيسبانيا» ‪« .1‬كولونيا باتريثيا قرطبة»‪ .‬روما‪ :‬لوإما دي بريشتنيدر‪ ،‬خوان ف‪ .‬موريو‬ ‫(‪ ،)2008( )Juan F. Murillo‬كولونيا باتريثيا قرطبة حتى أرسة فالفيا‪« .‬صورة حرضية لعاصمة إقليمية»‪ ،‬يف ريكاردو غونثاليث‬ ‫بياسكوسا (نارش)‪« .‬تشبيه روما ‪ :2‬روما‪ ،‬العواصم اإلقليمية وإنشاء فضاء أورويب مشرتك‪ :‬مقاربة أركيولوجية»‪ .‬رميس‪ :‬الجمعية‬ ‫األثرية‪ ،‬ص ‪ ،94-71‬وديسيديرو باكرييثو خيل (‪ )Desiderio Vaquerizo‬وخوان ف‪ .‬مورييو ريدوندو (‪ ،)2010‬مدينة وضاحية‬ ‫قرطبة‪ .‬نظرة تاريخية (القرن الثاين قبل املسيح‪-‬القرن السابع بعد امليالد)‪ .‬ويف وديسيديرو باكرييثو خيل (نارش)‪« .‬مناطق‬ ‫الضواحي الحرضية يف املدينة التاريخية‪ :‬طوبغرافيا واستخدامات ووظيفة»‪ .‬قرطبة‪ :‬جامعة قرطبة ص ‪.522-455‬‬

‫‪88‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫وذلك مبواءمة مظهرها العمراين مع املتغريات السياسية واالقتصادية والفكرية العميقة التي‬ ‫حدثت ابتدا ًء من القرن الرابع امليالدي‪ .‬وقد مرت هذه املدينة التي متتد جذورها إىل الحقبة‬ ‫الرومانية مبرحلة التنصري التي استمرت من القرن الرابع إىل القرن السابع لتصبح بعد ذلك‬ ‫عاصمة األندلس يف عام ‪ .717‬ومع وصول عبد الرحمن األول واستعادة «الرشعية األموية»‬ ‫يف أقىص غرب العامل اإلسالمي يف عام ‪756‬م‪ ،‬أخذت قرطبة منحى جديدا ً ومهامً يف التطور‬ ‫الحرضي تأسس عىل ثالثة أعمدة‪ .‬يف املقام األول‪ ،‬استمرار بعض «الثوابت» املوروثة عن‬ ‫قرطبة الرومانية واملسيحية وعىل هذه الثوابت أقيمت مناذج حضارية ومعامرية رشقية‪،‬‬ ‫وبعيدا ً عن عاميل الدميومة والتغيري وكل منهام معقد ومتحول عىل مر القرون‪ ،‬فقد انتهى‬ ‫بها املطاف إىل فرض نفسها بوصفها عامالً جوهرياً محددا ً ثالثاً‪ ،‬وهو عملية أسلمة الفضاءات‬ ‫يف املجاالت كافة وبال توقف‪ ،‬مبا يف ذلك مجال الطوبغرافيا الحرضية‪ ،‬وهو هدف تحليلنا هنا‬ ‫عىل وجه الخصوص‪.‬‬ ‫خريطة رقم ‪ .1‬إعادة تركيب الشكل الحرضي لكولونيا باتريثيا كوردوبا يف نهاية القرن األول امليالدي‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬اتفاقية التعاون بني اإلدارة البلدية للتخطيط العمراين وجامعة قرطبة‪.)gmu-uco( .‬‬

‫ونتيجة لهذا التفاعل الجديل فإننا نجد أنفسنا يف النصف الثاين من القرن العارش إزاء‬ ‫واقع حرضي مختلف متاماً عن الواقع املعروف سابقاً‪ .‬فقد تجاوزت «قرطبة الخالفة» املراكز‬ ‫‪89‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫الحرضية األوروبية املعارصة كافة ومعظم املراكز الحرضية اإلسالمية لتصبح مدينة كربى‬ ‫تقارن فقط ببغداد يف عهد العباسيني‪ .‬إن ازدهار قرطبة الخالفة‪ ،‬قرطبة عبد الرحمن الثالث‬ ‫التي تغ ّنى بها الشعراء األندلسيون وح ّنوا إليها‪ ،‬مل يكن عمل جيل واحد هو جيل عبد‬ ‫الرحمن الثالث بل كان نتاج عملية تاريخية شديدة التعقيد تقاطع فيها كل من املسار‬ ‫الحرضي الذي توطد عىل مدى ألف عام‪ ،‬وقوة اإلسالم لدى صياغة الشكل الحرضي والطابع‬ ‫االجتامعي‪ ،‬واملفهوم األموي للسلطة التي رسخها األمري األول املستقل وحورها عبد الرحمن‬ ‫الثاين وفقاً ملعايري منقولة عن الخصم العبايس‪ ،‬ثم تم «إحداث ثورة فيها» الحقاً عىل يد‬ ‫الخليفة األول الذي بسبب من وعيه مبحددات النظام وبضغط من التغريات االجتامعية‬ ‫االقتصادية الحاصلة يف األندلس‪ ،‬وتفكك وحدة الخالفة العباسية النظرية أكرث منها الواقعية‪،‬‬ ‫وبفعل الضغط املسيحي عىل الثغور الحدودية والتهديد الفاطمي يف شامل إفريقيا‪ ،‬سيسعى‬ ‫لتعزيز سلطته من خالل رشعية فكرية تتخطى مفهوم عزة الخالفة لتتجاوز األدوات التقليدية‬ ‫األموية املتمثلة بالقوة العسكرية وما يستتبعها من قدرة عىل جبي الرضائب‪.4‬‬

‫من كولونيا باتريثيا الرومانية إىل كوردوبا املسيحية‬

‫متيزت كوردوبا املسيحية التي غزاها املغيث يف عام ‪711‬م بكونها حيز مادي يحدده‬ ‫السور املحيط باملدينة الرومانية القدمية وكان يضم نسيجاً حرضياً حياً ويف حالة تحول‬ ‫نتيجة لديناميكية تاريخية دنيوية أدت إىل تفكيك شبكة الطرق والتخيل عن‪/‬أو تحويل‬ ‫الفضاءات واملباين العامة وكذلك الطقوس الجنائزية املقامة داخل السور القديم‪ ،‬كل هذا‬ ‫بتناغم مع عملية تحول يف املدينة القدمية كانت قد اتضحت معاملها منذ القرن الثالث‪،‬‬ ‫ومتكنت البحوث األثرية الحديثة من مسح مناطق الضواحي وخاصة «الضاحية الغربية»‪،‬‬ ‫مع إهامل وتفكيك املرسح املدرج وبناء املجمع املعامري يف ثريكادييا يف السنوات األوىل‬

‫‪ 4‬حول أداء األمويني القرطبيني‪ ،‬إىل جانب األعامل الكالسيكية إيفاريست ليفي‪-‬بروفنسال‪ ،‬من الرضوري األخذ يف الحسبان‬ ‫املراجعة التي قام بها إدواردو مانثانو (‪ ،)2006( )Eduardo Manzano‬وكذلك «غزاة وأمراء وخلفاء‪ :‬األمويون وتشكيل‬ ‫األندلس»‪ .‬برشلونة‪ ،‬دار نرش كريتيكا‪ .‬وهو تفسري جديد لـ «الثورة» املفروضة من قبل عبد الرحمن الثالث يف سنة ‪،929‬‬ ‫وقد قامت به ماريا إيسابيل ف ّريو بيو (‪ ،)2010( )María Isabel Fierro Bello‬و «عبد الرحمن الثالث والخالفة األموية‬ ‫يف قرطبة»‪ .‬دونوستيا‪-‬سان سباستيان‪ :‬نرييا‪.‬‬ ‫‪Eduardo Manzano (2006), Conquistadores, emires y califas: los omeyas y la formación de al-Andalus.‬‬ ‫‪ María Isabel Fierro Bello (2010), Abderramán III y el califato omeya de Córdoba.‬و ;‪Barcelona: Crítica‬‬ ‫‪Donostia-San Sebastián: Nerea.‬‬

‫‪90‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫من القرن الرابع‪.5‬‬ ‫لقد كانت هذه الضاحية الغربية يف منتصف القرن الرابع تعيش مرحلة تنصري تامة‪،‬‬ ‫متثلت يف عملية تحويل مجمع ثريكادييا إىل مقر إقامة لألسقف أوسيو‪ ،‬وبناء مجموعة مبان‬ ‫ثقافية من املحتمل أن تكون لها عالقة بالشهداء املسيحيني عىل رمال املرسح املدرج الذي‬ ‫تم هدمه‪ ،‬ومن خالل التنصري التدريجي لألمكنة املتعلقة بالطقوس الجنائزية‪ .‬ومع ذلك فإن‬ ‫هذه العملية داخل أسوار املدينة مل تصبح ملموسة عىل املستوى اآلثاري حتى نهاية القرن‬ ‫الخامس‪ ،‬وقد استندت عملية التحول هذه إىل منوذج جديد لشغل الحيز الحرضي راح يتعمق‬ ‫من خالل تفكك شبكة الطرق بهدف تأسيس واقع حرضي جديد‪.‬‬ ‫لقد استمر النصف الشاميل من املدينة (عىل وجه الدقة ذلك الجزء الذي حددت فيه‬ ‫املراكز األثرية الرئيسية ومراكز السلطة) مأهوالً بالسكان عىل نحو طفيف مع وجود مساحات‬ ‫واسعة بدون تشييد‪ ،‬وهي من سامت التنظيم العمراين الذي يفتقر إىل املنطقية‪ ،‬ولعلها كانت‬ ‫مخصصة للبساتني أو مكبات القاممة‪ ،‬فضالً عن تلك التي كانت تستخدم عىل نحو متقطع‬ ‫ألغراض الدفن‪ ،‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فإننا نجد أنفسنا يف هذه املدينة العتيقة إزاء‬ ‫ظواهر لسكن غري مستقر يف مبانٍ قدمية‪ ،‬سواء العامة منها أو الخاصة‪ ،‬مع مالحظة التغريات‬ ‫يف العالقات االجتامعية واالقتصادية لدى السكان الحرضيني‪ .‬وبصدد هذا الوضع نجد أن‬ ‫الحال يف القطاع الجنويب كان مختلفاً متاماً‪ ،‬فقد ُجمعت فيه املباين الجديدة والفضاءات‬ ‫العامة ومراكز السلطة ومنازل األرستقراطية املحلية بحثاً عن العنارص اإلسرتاتيجية البارزة‬ ‫كالنهر وامليناء النهري والجرس‪.‬‬ ‫وعىل الرغم من أن عملية التوثيق مازالت شحيحة ومجتزأة فإن البحث املتعلق باآلثار‬ ‫الذي طور يف العقد األخري بدأ يف رسم الخطوط األساسية ملا سيشكل مركز السلطة السياسية‬ ‫والدينية الجديد عىل مدى ألف عام‪ .‬والعنرص األكرث قدماً حتى اللحظة هو املجمع املحصن‬ ‫املسمى بالقلعة ‪ ،castellum‬وكانت له وظائف متعددة ويجسد السلطة املدنية املسؤولة‬ ‫عن حكم املدينة وهو ما تثبته أبعاده الواسعة وضخامته واالندثار األكيد للسور القديم الذي‬ ‫متت إزالته‪ ،‬وكانت تبدو كحصن منيع يتطلع صوب النهر‪ ،‬ويحيط مبدخل الجرس يف الجزء‬ ‫‪ 5‬أنظر ديسيديريو باكرييثو خيل و خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو (نارش) (‪« ،)2010‬املدرج الروماين يف قرطبة ومحيطه الحرضي‬ ‫(القرن األول‪-‬القرن الثالث عرش امليالدي)‪ .‬قرطبة‪ :‬جامعة قرطبة‪.‬‬ ‫‪Desiderio Vaquerizo Gil y Juan F. Murillo Redondo (eds.) (2010), El Anfiteatro romano de Córdoba‬‬ ‫‪y su entorno urbano (ss. i-xiii d. C.). Córdoba: Universidad de Córdoba.‬‬

‫‪91‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫األقل حامية منه‪.6‬‬ ‫من ناحية أخرى‪ ،‬فقد كشفت التنقيبات التي أجريت يف موقع (مركز استقبال الزائرين)‬ ‫عن وجود مبنى كبري مجاور لسور املدينة الجنويب مع باحة واسعة مفتوحة عىل ساحة باب‬ ‫الجرس مرتبطة بفناء تنفتح عليه غرف ذات مساحات كبرية‪ ،‬بلطت أرضياتها بأحجار خاصة‬ ‫بالبناء الروماين ‪ .opus signinum‬ويعود تاريخ هذا املبنى األثري إىل نهاية القرن الخامس أو‬ ‫بداية القرن السادس‪ ،‬وقد ارتبط باملجمع األسقفي سان بيثنته يف كوردوبا‪ ،‬وهو أمر مثبت‬ ‫تاريخياً‪ .‬وال نعرف إن كان تأسيس املجمع األسقفي قد عنى إلغاء الشارع الرئييس من املدينة‬ ‫الجديدة‪ ،‬بيد أنه من املحتمل أن يكون كذلك‪ ،‬وبهذا تقررت حركة املرور من الجزء العلوي‬ ‫من املدينة حتى باب الجرس من خالل الشارعني الجانبيني اللذين يحيطان باملوقع ويحفان‬ ‫بالواجهتني الغربية والرشقية للجامع األموي الالحق‪ ،‬ليؤدي إىل الساحة الرومانية القدمية‬ ‫التي حورت متاماً‪ ،‬بأروقتها التي أزيلت يف القرن الخامس‪ ،‬واملدخل الغريب للبوابة األصلية‬ ‫ذات الفتحات الثالث املس ّيجة منذ القرن السادس عىل أغلب الظن‪ ،‬وواجهة املبنى الكبري‬ ‫الذي ينتمي إىل ما قبل العصور الوسطى تتسيد الجانب الرشقي‪ .7‬واملجمع كله يحدد الصورة‬ ‫الحرضية التي تجسد مجال سلطة األسقف‪ ،‬فهو السيد الحقيقي للمدينة تقريباً عىل مدى‬ ‫قرنني ميتدان من انهيار اإلدارة اإلقليمية الرومانية يف (البتيكا) حتى الغزو النهايئ كوردوبة عىل‬ ‫يد ليوبيخيلدو يف عام ‪.585‬‬

‫الغزو العريب وبدء األسلمة‬

‫شهدت قرطبة من القرن الرابع حتى القرن السابع تحوالً تدريجياً يف إطار بعض املعايري التي‬ ‫ميكن أن تعني نوعاً من التداعي‪ ،‬بل ونوعاً من األزمة‪ ،‬إال أنها مل تكن سوى انعكاس لتحوالت‬

‫‪ 6‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Alberto León y Juan F. Murillo (2009), «El complejo civil tardoantiguo de Córdoba y su continuidad‬‬ ‫‪en el Alcázar Omeya», Madrider Mitteilungen, 50, pp. 399-432.‬‬ ‫‪ 7‬انظروا الصفحات من ‪ 524-521‬والصورة رقم ‪ ،247‬من دراسة خوان أف موريّو (وآخرون) (‪،)2010‬‬ ‫‪Juan F. Murillo, Alberto León Muñoz, Elena Castro, M.ª Teresa Casal, Raimundo Ortiz y Antonio J.‬‬ ‫‪González (2010), La transición de la civitas clásica a la madina islámica a través de las transformaciones‬‬ ‫‪operadas en las áreas suburbiales, en Desiderio Vaquerizo Gil y Juan F. Murillo Redondo (eds.). El‬‬ ‫‪Anfiteatro romano de Córdoba y su entorno urbano (ss. i-xiii d. C.). Op. Cit., nota 5, pp. 503-547‬‬ ‫‪(véanse pp. 521-524 y figura 247).‬‬

‫‪92‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫اقتصادية واجتامعية وسياسية عميقة نتجت عنها مدينة مختلفة لكنها حافظت عىل وظائف‬ ‫مامثلة لسابقتها يف عامل أكرث ريفية وأقل ترابطاً مام كان عليه يف القرون السابقة‪ .‬وسوف يشهد‬ ‫هذا املسار توقفاً إثر هزمية وانهيار دولة القوط الغربيني يف عام ‪ 711‬م والغزو اإلسالمي الالحق‪.8‬‬ ‫بعد قرابة ستة أعوام‪ ،‬أي يف عام ‪717‬م‪ ،‬وصل الحاكم «الح ّر» ولديه تعليامت محددة من‬ ‫الخليفة يك يقيم يف قرطبة عاصمة األندلس ويضع أسس التنظيم اإلداري لألرايض الجديدة‬ ‫التي ضُ مت إىل اإلسالم‪ .‬وهذه املفاضلة لصالح قرطبة عىل حساب إشبيلية التي أراد إدواردو‬ ‫مانثانو تربيرها بوصفها محصلة لالختالفات التي أحاطت بظروف االستيالء عىل املدينتني‬ ‫(االتفاق مقابل الغزو) ومن ثم إمكانية الحصول عىل غنائم وتقاسمها يف قرطبة‪ ،9‬إمنا تعود‬ ‫للنظرة الجيوسرتاتيجية الصائبة املعربة عن رغبة دمشق الجلية يف توطيد الغزو وضامن جبي‬ ‫الرضائب وعملية االتصاالت من خالل قرطبة وجرسها الذي ُر ّمم يف عام ‪ 720‬بأمر رصيح من‬ ‫عمر الثاين سيلعب دورا ً رئيساً يف هذا السياق‪.‬‬ ‫واستمرار الحياة الحرضية يف قرطبة بعد الغزو سيكون كلياً‪ ،‬إذ مل يثبت البحث اآلثاري بشكل‬ ‫موثق حدوث أي توقف باستثناء عملية إعادة التكيف املنطقي مع االحتياجات الجديدة‪ .‬واملثال‬ ‫عىل هذا هو مسار التشكل الحرضي داخل الفضاء املسور املوروث الذي انتهى إىل تشكل مدينة‬ ‫قرطبة حيث بدت يف عام ‪ 711‬يف خضم عملية تح ّول تجلت نقطة بدايتها يف وضع التصميم‬ ‫الخاص بطرق املدينة الرومانية التي تعود إىل عرص اإلمرباطور أغسطس‪ .10‬أما نهايتها فتمثلت‬ ‫‪ 8‬كان الغزو العريب عام ‪ 711‬هدفاً لجدل حامي الوطيس يف علم التأريخ مل يقترص دوماً عىل املجال العلمي‪ ،‬وهو ما أبرزه‬ ‫كل من إدواردو مانثانو وماريا أنطونيا مارتينيث نونييث‪ ،‬لذا البد للقارئ املهتم من أن يكون ذو تفكري نقدي جدا ً لدى‬ ‫تعامله مع املراجع الببليوغرافية الخاصة بهذا املوضوع‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Eduardo Manzano (2011), «Algunas reflexiones sobre el 711», Awraq, 3, pp. 3-20; y M.ª Antonia‬‬ ‫‪Martínez Núñez (2011), «¿Por qué llegaron los árabes a la Península Ibérica?: las causas de la conquista‬‬ ‫‪musulmana del 711», Awraq, 3, pp. 21-36; Eduardo Manzano (2006), Conquistadores, emires y califas:‬‬ ‫‪ Pedro Chalmeta (1994),‬و ;‪los omeyas y la formación de al-Andalus. Op. Cit., nota 4, pp. 29-186‬‬ ‫‪Invasión e islamización: la sumisión de Hispania y la formación de al-Andalus. Madrid: Mapfre.‬‬ ‫‪ 9‬هذا التفسري ساذج جدا ً‪ ،‬إذ كان من املمكن‪ ،‬ألسباب مامثلة‪ ،‬اختيار واحدة من املدينتني الكبريتني األخريني (طليطلة‬ ‫وماردة) وإغفال مسألة أن يف قرطبة كانت هناك ممتلكات واسعة ألشخاص «متعاونني» مثل أرتوباس الذي تنازل بعد‬ ‫سنوات للسوري الصميل عن مزرعة «عقدة الزيتون»‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Eduardo Manzano (2006), Conquistadores, emires y califas: los omeyas y la formación de al-Andalus.‬‬ ‫‪Op. Cit., nota 4, pp. 71-72 y 112.‬‬ ‫‪ 10‬أنظر هامش رقم ‪ ،3‬الصورة رقم ‪ ، 4‬من خوان ف‪ .‬موري ّو (‪،)2008‬‬ ‫‪Colonia Patricia Corduba hasta la dinastía flavia. Imagen urbana de una capital provincial. Op. Cit.,‬‬ ‫‪nota 3, figura 4.‬‬

‫‪93‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫بأول «خريطة شوارع» منتلكها عن قرطبة‪ ،‬أو ما دعي بـ «خريطة الفرنسيني» (‪ )1811‬إذ نجد‬ ‫معلومات كافية ال لتمييز التحوالت التي متت فيها خالل القرن التاسع عرش والعقود األوىل من‬ ‫القرن العرشين فحسب‪ ،‬بل ولجزء كبري من التحوالت التي شهدتها ابتداء من القرن الرابع عرش‪.‬‬ ‫«خريطة الفرنسيني» (الخريطة رقم ‪ )2‬تبني أن الجزء األكرب من أبواب مدينة قرطبة القدمية‬ ‫التي كانت مستعمرة رومانية قد عرث عليه يف بداية القرن التاسع عرش‪ ،‬وقد استطاع مانويل‬ ‫أوكانيا أن يثبت أن هذه األبواب كانت تستخدم أيضاً يف الحقبة اإلسالمية‪ .11‬وانطالقاً من هذه‬ ‫األبواب سمحت «خريطة الفرنسيني» بإجراء تحليل هرمي للطرق‪ 12‬وعملية تفكيك تقوم عىل‬ ‫رؤية زمنية يقدمها لنا البحث العلمي اآلثاري الحديث‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ميكننا التحقق من‬ ‫كيفية انتشار أصغر أنواع الطرق‪ ،‬وهي الدروب (‪ )adarves‬التي كانت تعكس عملية ازدحام‬ ‫األرايض والتمركز الكثيف فيها‪ ،13‬عىل نحو خاص يف القطاع الجنويب حول املسجد الجامع‪ ،‬وال‬ ‫يزال قامئاً منها حتى اليوم أكرث من ثالثني درباً‪ .‬يف املقابل فإن ندرتها يف القطاع الشاميل تبدو ذات‬ ‫داللة‪ ،‬عىل وجه الدقة يف املنطقة التي ستسجل بعد الغزو املسيحي ندر ًة يف السكان ووجود‬ ‫البساتني والزرائب والفضاءات األخرى غري املبنية حتى وقت متأخر‪ ،‬األمر الذي حدد منطقة‬ ‫متميزة لسكنى السادة والحقاً تح ّولت إىل أديرة‪ .‬هذه الخصوصية ميكن أن تشري إىل ميزات‬ ‫خاصة يف شَ غل هذا القطاع‪ ،‬تحديدا ً يف املناطق األكرث بعدا ً عن نواة السلطة املتمركزة يف الواجهة‬ ‫الجنوبية من املدينة‪ ،‬وهي املنطقة املتأثرة بندرة السكان ومن ثم فقد كانت تفتقر إىل املساكن‬ ‫النوعية ما جعلها قليلة الجاذبية بالنسبة للمسلمني األوائل الذين وصلوا مع (املغيث) إذ حصلوا‬ ‫أول األمر عىل منازل أكرث أهلية يف قطاعات أشد اكتظاظاً بالسكان‪.‬‬ ‫‪ 11‬أنظر‪:‬‬

‫‪Manuel Ocaña (1935), «Las puertas de la medina de Córdoba», Al-Andalus, iii, pp. 143-151.‬‬

‫‪ 12‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Juan F. Murillo, María Dolores Ruiz, Silvia Carmona y Maudilio Moreno-Almenara (2009), La‬‬ ‫‪manzana de San Pablo-Orive.‬‬ ‫يف سياق تطور تاريخي‪-‬حرضي ملدينة قرطبة أنظر‪:‬‬ ‫‪Francisco Gómez Díaz, Antonio Luis Ampliato Briones, Maudilio Moreno Almenara, Juan Francisco‬‬ ‫‪Murillo, Dolores Ruiz Lara, Silvia Carmona y Rafael García Castejón. Orive. La clave del espacio‬‬ ‫‪público en el centro histórico de Córdoba. Córdoba: Ediciones de La Posada, pp. 45-135 (véanse la‬‬ ‫‪figura 48 y pp. 101-103).‬‬ ‫‪ 13‬صياغة هذا املفهوم‪ ،‬املطبق عىل املدن األندلسية‪ ،‬تم تطويره عىل يد خوليو نابا ّرو باالثون بيدرو خيمينيث كاستييو‬ ‫(‪ Pedro Jiménez Castillo‬و ‪ ،)2003( )Julio Navarro Palazón‬حول املدينة اإلسالمية وتطورها‪ ،‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Sebastián F. Ramallo Asensio y Ana María Muñoz Amilibia. Estudios de arqueología dedicados a la‬‬ ‫‪profesora Ana María Muñoz Amilibia. Murcia: Universidad de Murcia, pp. 319-381.‬‬

‫‪94‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫خريطة ‪ .2‬تحديد بوابات مدينة قرطبة والتصنيف الهرمي للطرق انطالقاً من أساس خريطة عام ‪ ،1811‬املصححة واملعدلة‬ ‫رقمياً طبقاً لعلم الخرائط الحايل‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬اتفاقية التعاون بني اإلدارة البلدية للتخطيط العمراين وجامعة قرطبة (‪.)gmu-uco‬‬

‫بعد ذلك بزمن وجيز‪ ،‬أدت التقلبات املضطربة التي اتسمت بها العقود األوىل من الوجود‬ ‫اإلسالمي يف قرطبة‪ ،‬وانتقال غالبية السكان املسيحيني للعيش خارج أسوار املدينة‪ ،‬إىل استقرار‬ ‫محتمل يف املنطقة الشاملية لجامعات تربط ما بينها صالت قرىب وميكننا العثور عىل آثارها‬ ‫من خالل تقيص األسامء الجغرافية يف املواقع الحرضية‪ ،‬وذلك يف إطار سياق معروف مامثل‬

‫‪95‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫ملا دأب عليه الحال يف املدن اإلسالمية األوىل‪ .14‬ويستنتج هذا من اسم شخصيتني عربيتني من‬ ‫الثلث األول من القرن الثامن‪ ،‬وهام عبد الجبار بن الخطاب وعامر بن عمر القريش اللذين‬ ‫احتال مقربة (مقربة عامر القريش) فضالً عن البابني الواقعني باتجاه الشامل من جزأي السور‬ ‫الرشقي والغريب للمدينة‪ ،‬وقد عرفا بباب ابن عبد الجبار وباب عامر‪ ،‬وكذلك من كون الحي‬ ‫الواقع بني باب عامر وباب اليهود قد أخذ اسم مجموعة بني زيّايل الرببرية‪ .‬ثم يف وقت‬ ‫الحق من القرن التاسع‪ ،‬كان البد أيضاً من التوكيد عىل موضع هذا الجزء املرتفع من املدينة‬ ‫ذي املنازل الحرضية الكبرية‪ ،‬البعيدة عن املحيط الصاخب لباب القنطرة واملسجد الجامع‪،‬‬ ‫والخاصة بالصفوة القرطبية‪.‬‬

‫قرطبة‪ ،‬رأس الدولة األموية الجديدة يف األندلس‬

‫يف أعقاب مرحلة الحكام التابعني للخليفة‪ ،‬وهي املرحلة التي متيزت بعدم وجود برنامج‬ ‫حرضي وتوجهات واضحة عىل صعيد تنظيم قرطبة وأراضيها‪ ،‬سيحدث تغيري جوهري يف‬ ‫تشكيل املدينة اإلسالمية الجديدة بتأثري من صعود عبد الرحمن األول إىل سدة الحكم يف‬ ‫عام ‪756‬م‪ ،‬إذ سيرتك أثرا ً ال ُيحى عىل مستقبل قرطبة من خالل برنامج عمراين مدين قام به‬ ‫عىل ثالثة أوجه‪ ،‬وميكننا وصفه باملتوارث نظرا ً لطول مدته واللتزام ورثته به‪ .‬وسيكون أول‬ ‫هذه الرموز الحجرية العمرانية األموية هو املسجد الجامع الذي أقيم عىل جزء من املجمع‬ ‫األسقفي القديم (سان بيثنته) والذي صار منوذجاً لجميع املساجد املبنية يف األندلس انطالقاً‬ ‫من املثال الدمشقي املتجسد باملسجد األموي الكبري‪ .‬وقد أسهم صيت مؤسسه‪ ،‬وتحريم‬ ‫املذهب املاليك وجود أكرث من مسجد جامع يف كل مدينة‪ ،‬يف تحويله إىل مبنى خاص يحظى‬ ‫برعاية األرس الحاكمة (الخريطة رقم ‪ ،)3‬وقد قام األمراء والخلفاء بتزويده مبلحقات متنوعة‬ ‫(منارة‪ ،‬أمكنة للوضوء مزودة باملاء‪ ،‬ساباط‪ ،‬منرب‪ )..‬وتوسعته حتى مضاعفة مساحته أربع‬

‫‪ 14‬وهي النظرية التي يشري إليها مانويل أثيني أملانسا وأنطونيو باييخو تريانو (‪،)1998( )Manuel Acién Almansa‬‬ ‫‪Urbanismo y Estado islámico. De Córdoba a Qurtuba-Madinat al-Zahra, en Patrice Cressier,‬‬ ‫‪Mercedes García-Arenal y Mohamed Méouak. Genèse de la ville islamique en al-Andalus et au‬‬ ‫‪Maghreb occidental. Madrid: Casa de Velázquez, Consejo Superior de Investigaciones Científicas‬‬ ‫‪(csic), pp. 107-136.‬‬

‫‪96‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫مرات لكن دون أن يفقد الخواص الطوبغرافية املفروضة يف عام ‪.15786‬‬ ‫الخريطة رقم ‪ .3‬فرضية تطوير الزاوية الجنوبية الغربية ملدينة قرطبة ما بني عبد الرحمن األول والحكم الثاين‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬اتفاقية التعاون بني اإلدارة البلدية للتخطيط العمراين وجامعة قرطبة (‪.)gmu-uco‬‬ ‫‪ 15‬بغية دراسة الجوانب املتعلقة مبسجد قرطبة ال تزال قيمة الدراسات التي قام بها كل من فليكس إرنانديث‪ ،‬مانويل أوكانيا‪،‬‬ ‫ليوبولدو تو ّريس بالباس‪ ،‬كريستيان إيورت‪ ،‬وقد أكملها ب‪ .‬مارفيل‪ .‬بالنسبة لتنفيذه وتوسعه الالحق يف املجمع األسقفي‬ ‫القديم يف قرطبة والعالقات مع الفضاء املدين املمثل بالقرص‪ ،‬أنظر هامش رقم ‪ 6‬والصفحات من ‪ 419-416‬والصورة رقم‬ ‫‪ ،5‬من دراسة ألربتو ليون وخوان ف‪ .‬موريّو‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Alberto León y Juan F. Murillo (2009), «El complejo civil tardoantiguo de Córdoba y su continuidad‬‬ ‫‪en el Alcázar Omeya», Op. Cit.‬‬

‫‪97‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫مقابل هذا املركز املقدس كان عبد الرحمن األول قد قام قبل عام بإنشاء البنية التحتية‬ ‫األساسية للدولة وقد متركزت يف القرص‪ .‬ويقع القرص يف الزاوية الجنوبية الغربية من املدينة‪،‬‬ ‫قريباً من املسجد‪ ،‬وقد ضم القلعة القدمية (‪ )castellum‬واملقر املليك القوطي‪ ،‬لو صدقنا‬ ‫ما يورده املوروث العريب نفسه‪ .‬وهنا تعود مسألة محاكاة دمشق لتصبح جلية‪ 16‬من خالل‬ ‫اإلنجازات البنائية الالحقة التي قام بها الحكم األول الذي عزز دفاعاته الخارجية وعبد‬ ‫الرحمن الثاين الذي أدخل تعديالً كبريا ً عىل قرص العامرة وهذه اإلصالحات متت يف سياق‬ ‫أوسع إلصالحاته اإلدارية‪ ،‬بشكل رئييس يف زيادة احتياجات متطلبات متثيل السلطة التي‬ ‫ستؤدي إىل الفصل املادي لبعض املالحق الحكومية كدار السكة أو دار الطراز اللتني انتقلتا‬ ‫إىل الضواحي خارج األسوار‪ .‬ثم تعاظم دور القرص القرطبي كمظهر ومتثيل للسلطة السياسية‬ ‫األموية إثر إصالح الرصيف القائم عىل النهر عام ‪827‬م‪ ،‬وهي األشغال الرضورية املكملة‬ ‫لعملية ترميم الجرس بعمق‪ ،‬وهذه املهمة كان قد رشع فيها هشام األول قبل عقود عدة‪.‬‬ ‫ومن خالل هاتني املبادرتني أضفى «املهاجر» عىل قرطبة يف السنوات األخرية من حكمه‬ ‫صورة حرضية ستكون ميزة واضحة لتطورها الالحق‪ ،‬وليتشكل نوع من الحضور «املركزي‪ ،‬وفقاً‬ ‫للترصيح الفكري األموي السيايس والديني املتمثل يف شخص األمري‪ .‬ويف الوقت نفسه فإن أجهزة‬ ‫الدولة الناشئة والدور املحفوظ لصالة الجمعة يف املسجد الجامع ستكون كلها مبثابة عوامل‬ ‫تكامل يف مواجهة حالة التقسيم الحرضي الواضحة آنذاك الناجمة عن تواصل تشكل مناطق‬ ‫الضواحي والزخم الجديد الذي راحت تكتسبه‪ .‬وتحديدا ً من خالل متفصل هذا الفضاء القائم‬ ‫خارج األسوار سيتم التدخل الثالث لعبد الرحمن األول الذي سينقل إىل قرطبة‪ ،‬من خالل تأسيس‬ ‫منية الرصافة‪ ،‬منوذجاً لالستغالل الزراعي والحيواين وتراكم الفوائض الذي يعيد إنتاج منوذج‬ ‫سوري ذي مضامني أموية واضحة‪ ،‬عىل الرغم من أنه يستند إىل بنى تحتية ذات أصول رومانية‪.‬‬ ‫‪ 16‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Thierry Bianquis (2000), Damas, en Jean-Claude Garcin, Jean-Luc Arnaud y Sylvie Denoix. Grandes‬‬ ‫‪villes méditerranéennes du monde musulman médiéval. Roma: École française de Rome, pp. 37-55.‬‬ ‫وعن قرص قرطبة‪ ،‬ال تزال رضورية أطروحة ليبولدو توريس بالباس (‪ ،)1990‬الفن اإلسباين‪-‬اإلسالمي حتى سقوط خالفة‬ ‫قرطبة يف‪:‬‬ ‫‪Ramón Menéndez Pidal. Historia de España, vol. v. Madrid: Espasa-Calpe, pp. 331-788.‬‬ ‫وقد قام بتحديث هذه األطروحة كل من ألبريتو مونتيخو (وآخرين) يف (‪ ،)1999‬وكذلك ألربتو ليون (‪)Alberto León‬‬ ‫وخوان ف‪ .‬موريّو يف (‪ .)2009‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Alberto J. Montejo, José Antonio Garriguet Mata y Ana María Zamorano Arenas (1999), El Alcázar‬‬ ‫‪Andalusí de Córdoba y su entorno urbano, en Córdoba en la Historia. La construcción de la urbe.‬‬ ‫‪ Alberto León‬و ;‪Córdoba, Barcelona: Ayuntamiento de Córdoba, Fundación «la Caixa», pp. 163-172‬‬ ‫‪y Juan F. Murillo (2009), «El complejo civil tardoantiguo de Córdoba y su continuidad en el Alcázar‬‬ ‫‪Omeya », Op. Cit., nota 6.‬‬

‫‪98‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫ويف إطار صياغة هذا الفضاء شبه الحرضي لقرطبة الذي قام عليه العمل الرامي لألسلمة‬ ‫عىل يد األمراء األمويني (خريطة ‪ )4‬فقد لعبت األرباض دورا ً أساسياً‪ ،‬إىل جانب املنيات واملقابر‪،‬‬ ‫ومناطق الضواحي وخصوصاً تلك املخصصة لإلقامة والسكن التي كان يسكنها املستعربون‬ ‫يف بداية األمر وفيام بعد الفئة املتنامية من املتحولني إىل اإلسالم‪ .‬ويف مرحلة أوىل من مراحل‬ ‫تشكل هذه األرباض ميكننا متييز منوذج عفوي ُحدد يف املناطق القريبة من أبواب املدينة‬ ‫الرئيسية وهو النموذج الذي أدى إىل والدة ربض شقندة وسابوالر وبالط املغيث انطالقاً من‬ ‫املراكز املأهولة السابقة للغزو وفيها تسلم املسلمون األوائل بيوتاً وممتلكات فبدأوا عملية‬ ‫التطوير الحرضي إىل جانب املستعربني تحديدا ً الذين كانوا يعيشون حول الكنائس املسيحية‬ ‫يف ضواحي تريس سانتوس وسان أثيسكلو أو سان ثويْلو‪.‬‬ ‫خريطة ‪ .4‬قرطبة يف القرن التاسع‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬اتفاقية التعاون بني اإلدارة البلدية للتخطيط العمراين وجامعة قرطبة (‪.)gmu-uco‬‬

‫لقد أدى تدمري شقندة يف عام ‪ 818‬وذلك إثر مترد السكان ضد الحكم األول إىل تعطيل‬ ‫أهم ربض كان قيد التشكل يف قرطبة‪ ،‬فتولت هذا الدور بعض الضواحي الناشئة التي ستتحول‬ ‫يف القرن التاسع إىل أحياء مستقبلة للزيادة السكانية يف املدينة وعنارص فاعلة يف أسلمتها‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫ويف عام ‪ 1997‬عندما أجريت أول مقاربة لعملية تشكيل وتطوير أرباض مدينة قرطبة‪،‬‬ ‫لفتنا االنتباه إىل وجود «بؤرة جذب» مستمرة عىل نحو مسبق يف أصل كل ربض‪ ،‬وهو ما‬ ‫تجىل يف حالة ربض الرصافة بالنسبة ملنية عبد الرحمن األول أو يف بالط املغيث مع األمالك‬ ‫التي تحمل االسم نفسه‪ .17‬وعند املراجعة الالحقة وتطوير التخطيطات املعروضة مع ذلك‬ ‫النص املنشور يف عام ‪ 2004‬عرضنا كيف أنه بتأسيس الرصافة عىل موقع كان موجودا ً سابقاً‪،‬‬ ‫قام عبد الرحمن األول بتدشني نهج يف قرطبة سيكون منذ تلك اللحظة مميزا ً للمرحلة األموية‬ ‫‪18‬‬ ‫كلها ونعني به إقامة منية عىل مسافة من املدينة تكون مبثابة بؤرة لتشكل الربض واملقربة‬ ‫الخاصة به يف أطرافها ومبحاذاة الطريق املوصل إىل املدينة‪ .‬وسيتكرر النموذج نفسه مع ابنه‬ ‫هشام األول عندما أسس منية «دار امل ُلك» يف أر ٍ‬ ‫اض قريبة من شقندة‪ ،‬ومع حفيده الحكم‬ ‫األول ومحظيته «عجب» وقد أسس منية أخرى يف الضفة اليرسى للنهر باتجاه املصب من‬ ‫قرطبة‪ ،‬ومع األمري عبد الله عند تأسيس «الناعورة» يف الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبري باتجاه‬ ‫غرب قرطبة‪ ،‬وكانت متصلة بهذه املدينة عرب طرق عدة‪.‬‬ ‫ويف مرحلة ثانية وابتدا ًء من الربع األول من القرن التاسع علينا أن نضيف إىل هذه‬ ‫البؤر األولية التي كانت مبثابة نقاط استقطاب تنبئ بظهور أرباض جديدة‪ ،‬عملية تأسيس‬ ‫املساجد واملقابر والحاممات ومراكز خدمة أخرى عىل يد أشخاص مرتبطني بأرسة األمري أو‬ ‫من الفئة القريبة منها‪ .‬وجميعها كانت تشرتك يف صفة ثبات املوقع ضمن قطاع واسع ميتد‬ ‫إىل غرب املدينة وتسلط الضوء عىل ظاهرتني هام وجهان لعملة واحدة‪ :‬التقدم يف الجانب‬ ‫الحرضي لقرطبة وامليض يف أسلمتها‪ .‬وتبدأ القامئة مبسجد ومقربة « ُمتعة»‪ ،‬ومسجد « َعجب»‪،‬‬ ‫وكلتاهام زوجتا الحكم األول‪ .‬وتنسب املصادر إىل «عجب» أيضاً إنشاء منية كانت تحمل‬ ‫اسمها ووضعت ضمن أمالك الوقف أو مؤسسة خريية مخصصة لإلرشاف عىل مشفى للجذام‬ ‫(ربض املرىض) موجود يف ضواحيها‪ .‬ويف عهد عبد الرحمن الثاين تم بناء املقربة ومسجد‬ ‫«امل ُع ّمرة» ومساجد «طروب» و «شفاء» و «فجر» وكلهن زوجات األمري‪ ،‬ويضاف إليها مسجد‬ ‫‪ 17‬أنظر‪ ،‬مقاربة لتحليل الفضاءات السكنية يف قرطبة األندلسية يف‪:‬‬ ‫‪Juan F. Murillo, M.ª del Camino Fuertes y Dolores Luna (1999), Córdoba en la Historia. La‬‬ ‫‪construcción de la urbe. Op. Cit., pp. 129-154.‬‬ ‫‪ 18‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Juan F. Murillo, Elena Castro del Río y M.ª Teresa Casal (2004), «Madinat Qurtuba. Aproximación‬‬ ‫‪al proceso de formación de la ciudad emiral y califal a partir de la información arqueológica»,‬‬ ‫‪Cuadernos de Madinat al-Zahra, 5, pp. 257-290.‬‬

‫‪100‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫«مرسور» الذي بُني بطلب من هذه الشخصية الرفيعة يف البالط‪ .‬وأخريا ً علينا أن نتذكر مقربة‬ ‫«أم سالمة» التي بنيت عىل يد إحدى زوجات األمري محمد شاميل العاصمة‪.‬‬ ‫كانت الوظيفة اإلنتاجية ذات الطابع الزراعي الحيواين مسألة أساسية ومن الخصائص‬ ‫املميزة لتعريف املنيات القرطبية‪ ،‬لكنها فقدت أهميتها مقابل األرايض املخصصة لإلقامة‬ ‫أو املكرسة للمتعة واللهو يف حدائقها وقصورها وصالوناتها أو أجنحتها بحيث أن األرايض‬ ‫التي كانت تقام عليها انتهى بها املطاف بأن ابتلعها التطور الحرضي الرسيع الذي تعرضت‬ ‫له قرطبة يف النصف الثاين من القرن العارش‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ففي هذه املرحلة الثالثة بقي هذا‬ ‫النموذج حياً وحدث تغيري كبري واحد فحسب متثل يف أن ابتالع الضاحية لجزء كبري من الفضاء‬ ‫الحرضي املوجود بني قرطبة ومدينة الزهراء قد أدى إىل ظهور حزام آخر ذي خصائص مامثلة‬ ‫استمرت فيه إنشاءات بداية القرن العارش كـ «الناعورة» ومبان أخرى جديدة مثل مبنى‬ ‫«الرومانية» غرب مدينة الزهراء‪.‬‬ ‫هذا املسار الذي انتهينا توا ً من إيجازه يتضح بشكل جيل يف منطقة الضواحي الشاملية‬ ‫الغربية وذلك من خالل الرصافة‪ ،‬مقر اإلقامة املفضل لعبد الرحمن األول الذي شيد عىل أرض‬ ‫رومانية‪-‬قوطية فسيحة كانت مزودة بنظام مايئ مكرر يف أواسط القرن األول امليالدي‪ .‬وكان‬ ‫هذا النظام يشتمل يف األقل عىل موضعني لجلب املياه من املنطقة املعروفة اآلن بالباترياركا‪،‬‬ ‫وقنوات صغرية وخزانات وشبكة من القنوات الثانوية التي كانت متتد إىل منطقة تبلريو‬ ‫ألتو املجاورة‪ ،‬وبقي يُستخدم حتى الوقت الراهن مع إجراء بعض التعديالت والتجديدات‬ ‫املنطقية يف بعض عنارصه‪.19‬‬ ‫كان وجود هذا النظام املايئ املسبق‪ ،‬وهو بال شك واحد من أكرث األنظمة املعروفة يف‬ ‫محيط قرطبة تعقيدا ً‪ ،‬هو الذي فرس مسألة اختيار األمري األموي األول فبدونه كان من‬ ‫املستحيل سد احتياجات كثرية سواء بالنسبة للحدائق والبساتني أو للبيوت وأمكنة اللهو‪،‬‬ ‫وكذلك للحامم املوثق زمنه يف عهد عبد الرحمن األول‪ .‬فقد ساعد امتداد خط النظام املايئ‬ ‫املوجود يف الجزء األعىل من ويرتا دي أروثافا الحالية‪ ،‬بارتفاع يصل إىل ‪ 170‬مرتا ً‪ ،‬عىل ري‬ ‫مساحة شاسعة بلغت نحوا ً من ‪ 50‬هكتارا ً وال نستبعد أن يكون هذا النظام قد استكمل‬ ‫بنظام آخر موجود نحو الرشق مبارشة‪ ،‬يف منطقة تابلريو‪ ،‬حيث تم حديثاً توثيق مبانٍ ميكن‬ ‫أن يعود تأريخها إىل القرنني التاسع والعارش‪.‬‬ ‫‪ 19‬بالنسبة ملا ُعرض هنا بخصوص الرصافة‪ ،‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Juan F. Murillo (2009), «La almunia de al-Rusafa en Córdoba», Madrider Mitteilungen, 50, pp. 449-482.‬‬

‫‪101‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫كانت منية الرصافة‪ ،‬هذه امللكية الكبرية‪ ،‬متصلة بشكل جيد باألبواب املفتوحة يف جانبي‬ ‫املدينة الشاميل والغريب من خالل عدة طرق أصلها روماين بال جدال كونها محاطة باملقابر‬ ‫وبسبب الـمدينة الرومانية (‪ )villae‬وتصميم قنايت املياه‪ .‬وقد ظهرت عىل طول هذه الطرق‬ ‫منذ منتصف القرن التاسع نقاط سكنية شكلت مع ميض الوقت‪ ،‬يف حوايل القرن العارش‪،‬‬ ‫ما أطلقت عليه املصادر العربية اسم ربض الرصافة‪ .‬وسننطلق يف التعرف عىل املساحة‬ ‫الطوبغرافية والتطور التعاقبي والخواص الحرضية لهذا الربض بفضل الحفريات التي متت يف‬ ‫أوائل التسعينات‪.‬‬ ‫نجد يف الوضع الحايل للبحث العلمي املتعلق باآلثار أن قطاع هذا الربض املوجود هناك‬ ‫يف وقت مبكر هو الذي يقع إىل جانب طريق «أ ّرويو ديل مورو»‪ ،‬يف الطرف الرشقي من‬ ‫الرصافة حيث يوجد حيز خاص باألمراء يعود إىل القرن التاسع والعقود األوىل من القرن‬ ‫العارش عىل أر ٍ‬ ‫اض كانت أساساً ملكية رومانية استمرت حتى الحقبة اإلسالمية إذ تحولت إىل‬ ‫وحدة إنتاجية عىل شكل امل ُنية‪ ،‬وكثري من ملحقاتها كان موضع تنقيب يف تقاطع شارع تريويل‬ ‫مع جادة بريّانتي‪ .‬ويف هذا القطاع كله‪ ،‬وحتى الطريق القريبة املبارشة التي كانت تصل الجزء‬ ‫الشاميل من الرصافة بباب اليهود‪ ،‬تطورت منطقة من الربض يف الجزء الشاميل للمدينة بعد‬ ‫التيقن يف بعض النقاط من وجود مرحلة أمريية سابقة عىل االزدهار الذي تحقق يف منتصف‬ ‫القرن العارش عندما ابتلع نسيج الضواحي بعض مالحق املنية املذكورة‪ ،‬وهي اللحظة التي‬ ‫بدأت فيها األرباض تتحد فيام بينها لتتالىش إىل حد كبري الحدود الصارمة التي تفصلها عن‬ ‫بعضها‪ .‬وهنا أيضاً ستتشكل منذ الحقبة األمريية مقربة إسالمية مبساحة معينة رمبا يتوجب‬ ‫علينا أن نقرنها مبقربة الرصافة‪.‬‬ ‫مثة منطقة أخرى رمبا تعود إىل فرتة ما قبل الخالفة تقع يف الجزء الجنويب الغريب من‬ ‫الرصافة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وعىل خالف ما هو قائم يف الطرف الرشقي‪ ،‬ليس لدينا ما يثبت وجود‬ ‫حضور روماين أو أي عرص قديم متأخر‪ ،‬فالحضور اإلسالمي األول مرتبط مبنطقة صناعية‬ ‫مخصصة إلنتاج الفخار حيث كانت توجد عدة أفران ومنشآت أخرى يعود تشغيلها إىل‬ ‫السنوات األخرية من القرن التاسع أو بداية القرن العارش‪.‬‬ ‫ويثبت التسلسل الزمني أن هناك ُمنية أخرى تقع يف الرشق مبارشة من منطقة الصناعات‬ ‫الحرفية‪ ،‬بجوار تشعب الطريق الذي يربط الجزء الغريب من الرصافة باألبواب الغربية ملدينة‬ ‫قرطبة‪ .‬وقد شهدت هذه امل ُنية تجديدا ً مهامً يف أواسط القرن العارش تزامن أيضاً مع التخطيط‬ ‫الحرضي لألرايض ومتثل بإنشاء مبنى جديد‪ ،‬أو رمبا يف ترميم طريق كانت قامئة وهو األكرث‬ ‫‪102‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫احتامالً كام يتبني من دراسة العديد من عنارص التصميم املعامري التي تم استعادتها‪ .‬ويف‬ ‫هذه السنوات نفسها‪ ،‬أو بعد ذلك بقليل‪ ،‬ميكن تحديد التكثيف يف التخطيط الحرضي الذي‬ ‫تعرض له هذا القطاع الغريب من الرصافة‪ ،‬بجانب املنية وعىل جهتي الطريق القدمية التي‬ ‫كانت موضع عملية رصف يف الفرتة ما بني القرنني العارش والحادي عرش‪.‬‬ ‫هناك مرحلة تخطيط عمراين الحقة يف العقود األخرية من القرن العارش نجدها يف‬ ‫غرب املنطقة الصناعية‪ ،‬يف أقىص نقطة من توسع ربض الرصافة وأمام الجزء الرشقي من‬ ‫تورونيويلوس‪ .‬وتتمثل يف حي سكني ظهر بشكل جديد متاماً وبتنظيم قيايس يتعارض مع‬ ‫التنظيم املالحظ يف باقي الربض‪ .20‬أما تاريخه الزمني فموثق من خالل الطابع املتطور للّقى‬ ‫الخزفية‪ ،‬وكذلك بفعل استغالل قناة املياه الرومانية للتخلص من مياه املجاري‪ ،‬وهو أمر‬ ‫غريب متاماً ميكن تفسريه فقط بفقدان هذه القناة وظيفتها األوىل متاماً بعد تحويرها لتزويد‬ ‫مدينة الزهراء باملياه‪.‬‬ ‫وسواء أكان بالنسبة ملوقعه يف الطرف الغريب من الرصافة إذ يقع يف نقطة بعيدة ال يثبت‬ ‫من خاللها وجود مناطق مخططة حرضياً‪ ،‬أم لتصنيفه الزمني املتأخر‪ ،‬العامري عىل نحو‬ ‫واضح‪ ،‬وخواص تصميمه الحرضي وطبوغرافية املساكن نفسها‪ ،‬فإنها كلها ميكن أن تشري إىل‬ ‫متاثله مع تلك املنازل املأهولة بالقوات الرببرية التي كانت يف خدمة العامريني والتي تعرضت‬ ‫للسلب والنهب يف عام ‪ 1009‬عىل يد القرطبيني من أتباع محمد بن هشام عبد الجبار املهدي‪،‬‬ ‫ما أدى إىل املواجهة الدموية التي قضت عىل الخليفة األموي‪ .‬بيد أن التحقق من صحة هذه‬ ‫الفرضية مرهون باالستمرار يف البحث اآلثاري يف هذا القطاع من الربض‪ ،‬وعالقته املبارشة‬ ‫تبدو أساسية من خالل الطريق الذي يصل بوينته دي لوس نوغاليس مع تو ّرونْيويلوس‪.‬‬ ‫إن هذا املكان األثري الواسع وامللغز ال يزال تأويله قامئاً لكن رمبا كان من الرضوري ربطه‬ ‫باالحتياجات العسكرية للدولة األندلسية‪ ،‬إن مل يكن هو موقع فحص الرسادق كام كان قد‬ ‫اقتح‪ ،21‬أو لرمبا كان ترسانات أو مصانع أسلحة أو أي مجمع آخر ملبان ذات وظيفة عسكرية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ 20‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Juan F. Murillo, F. Castillo, Elena Castro del Río, M.ª Teresa Casal y Teresa Dortez (2010), La almunia‬‬ ‫‪y el arrabal de al-Rusafa en el Yanib al-Garbi de Madinat Qurtuba, en Desiderio Vaquerizo Gil y Juan‬‬ ‫‪F. Murillo (eds.). El Anfiteatro romano de Córdoba y su entorno urbano (ss. i-xiii d. C.). Op. Cit., nota‬‬ ‫‪5, pp. 565-614.‬‬ ‫‪ 21‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Manuel Acién Almansa y Antonio Vallejo Triano (1998), Urbanismo y Estado islámico. De Córdoba‬‬ ‫‪a Qurtuba-Madinat al-Zahra, Op. Cit., nota 14, p. 126.‬‬

‫‪103‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫ويف هذا السياق ميكن أن نشري إىل الدليل الذي قدمته الحفريات الجارية يف ويرتا دي‬ ‫سانتا إيسابيل‪ ،‬عىل مسافة ثالثة كيلومرتات غرب أسوار املدينة ويف جنويب تو ّرونيويلوس‬ ‫مبارشة‪ .‬وهنا تم التوثيق ملدينة رومانية تنتمي إىل مرحلة متقدمة من عهد اإلمرباطورية‬ ‫ترتبط بها مقربة كانت تضم مقابر للحرق ضمت أدوات شخصية ميكن أن يعود تاريخها إىل‬ ‫القرن الثاين وأخرى للدفن مع عنارص من األدوات الشخصية تنتمي إىل العرص القديم املتأخر‪.‬‬ ‫ويشكل جزءا ً من هذه املستوطنة نظام هيدرولييك عرث فيه عىل قنايت مياه صغريتني وسلسلة‬ ‫من مستودعات املياه الكبرية‪ ،‬أكربها تبلغ أبعاده يف األقل نحوا من ‪10×70‬م‪ ،‬وكانت هدفاً‬ ‫للعديد من الرتميامت التي حافظت عليه قيد االستخدام حتى عرص الخالفة‪ .‬وكون الجزء‬ ‫األكرب من هذا املوقع مل يتم التنقيب فيه بعد يجعل االستنتاجات مؤقتة‪ ،‬خاصة فيام يتعلق‬ ‫باملستوطنة الرومانية الكبرية‪.‬‬ ‫بيد أن الجزء اإلسالمي الذي خلفه يبدو أكرث وضوحاً‪ ،‬فقد تم التنقيب يف أربعة مبانٍ كبرية‪.‬‬ ‫اثنان منها‪ ،‬املدعوان بـ ‪ 3‬و‪ 4‬يقدمان تسلسالً تاريخياً أمريياً‪ ،‬بينام االثنان اآلخران ينتميان إىل‬ ‫فرتة الخالفة‪ ،‬ويربز من بينها املبنى رقم ‪ 1‬القائم إىل جانب الطريق التي تربطه بتو ّرونيويلوس‬ ‫ويقع عىل مسافة ‪ 600‬م باتجاه الشامل‪ .‬وهناك قناة كبرية نقاط تجميع مياهها موجودة يف‬ ‫أرايض املزرعة نفسها‪ ،‬وميكن أن تكون قد استخدمت للتزود بها‪ .‬والخواص االستثنائية للفناء‬ ‫املستطيل الواسع لهذا املبنى‪ ،‬املرصوف بدقة باألحجار‪ ،‬وكذلك ضيق وانتظام املمرات التي‬ ‫تنفتح عليه تحمل عىل التفكري يف أنه كان إسطبالً للخيل أو مقر سالح فرسان كبري وملحقاته‬ ‫املساعدة‪ ،‬ويف الوقت نفسه العالقة الواضحة مع تو ّرنْيويلوس‪ ،‬كلها أمور تجعلنا نتذكر النص‬ ‫للمقري الذي يتكلم عن تربية الخيل ومصانع األسلحة التي أقامها املنصور يف منيته‬ ‫اإلشكايل‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة به‪« ،‬العامرية»‪.‬‬ ‫وبعد تحديد املحيط الحرضي للمنطقة القريبة من الرصافة يبقى أمامنا فضاء واسع‪،‬‬ ‫وتؤكد األدلة اآلثارية أنها منطقة غري مخططة حرضياً مع أن بها أثر برشي ومحددة بسور‬ ‫ودعامات عند الخارج‪ ،22‬وهناك ميكن تحديد املنية الكربى لعبد الرحمن األول‪ .‬ولعل نواتها‬ ‫املركزية موجودة يف املنطقة املحيطة بـ «ويرتا دي ال أ ّروثافا» الحالية‪ ،‬وفيها تم توثيق نظام‬ ‫مايئ مهم بُني يف العرص الروماين وال يزال يستخدم إىل اآلن‪ .‬وأسفل خط هذا النظام توجد‬ ‫‪ 22‬حدد موقع هذا السور ببنائه الذي ينتمي إىل القرن التاسع من خالل نقطتني يف تصميمه‪ .‬وعىل عكس منيات أخرى تم‬ ‫تحديد موقعها يف الطرف الغريب لقرطبة‪ ،‬مل تختف الرصافة نتيجة للتطور الحرضي يف القرن العارش‪ ،‬وهو فارق آخر يجب‬ ‫أن يؤخذ يف الحسبان من بني اإلنشاءات األموية يف قرطبة‪.‬‬

‫‪104‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫الحدائق والبساتني التي يعتقد أنها كانت تعمل بنظام الري‪ ،‬وكذلك جزء كبري من امللحقات‬ ‫السكنية وخدمة املنية‪ ،‬مبا يف ذلك الحامم الذي تم تشغيله يف الثلث األخري من القرن الثامن‪.‬‬ ‫ومن بني هذه املباين علينا أن نربز تلك املوثقة بالبحث الجيوفيزيايئ الذي أجري يف‬ ‫عام ‪ ،2005‬ما يؤكد وجود مبنى معزول‪ ،‬طوله ‪ 50‬مرتا ً‪ ،‬مزود بسور كبري به دعامات يف‬ ‫واجهته‪ ،‬ليؤدي إىل منطقة سكنية بها مالحق مزودة مبمرات تحيط بفناء عظيم‪ .‬ونظرا ً لعدم‬ ‫قيام عمليات تنقيبية فيه فال يسعنا أن نضيف الكثري إىل هذه املقاربة األوىل‪ ،‬وال توجد‬ ‫قرائن متعلقة مبنشآته املدنية أو بتفاصيل املباين وسياقها الزمني‪ .‬ومع ذلك فإن خواص‬ ‫املباين الشكلية‪ ،‬وهو ما تكشف عنه الفحوصات املغناطيسية‪ ،‬هي شديدة اإليحاء نظرا ً‬ ‫للتشابه الواضح الذي تظهره إزاء سلسلة من املباين األموية املوجودة حالياً يف سورية واألردن‬ ‫واملعروفة عموما باسم قالع الصحراء‪ ،‬وهو لفظ يفتقر إىل الدقة ومضلل يف الوقت نفسه‬ ‫ألنه يخفي جوهرها‪ ،‬من حيث طابعها كمركز سكني ملزرعة شاسعة مخصصة يف الوقت عينه‬ ‫لرتفيه وتسلية مالكها وهم الخلفاء وأعضاء آخرون من األرسة األموية وأيضاً الستغالل املساحة‬ ‫الزراعية املروية‪.‬‬ ‫ورغم أن املقارنة مع مبانٍ رشقية معروفة مثل «قربة منية» وقرص «الحائر الرشقي» أو‬ ‫قرص «جرانة» هي مسألة جلية‪ ،‬ورمبا أن التامثل األكرب سواء عىل مستوى التصميم أو األبعاد‬ ‫ينطبق عىل «الزيتونة»‪ ،‬هذا املبنى املوجود عىل مسافة قليلة من سريجيو بوليس املدينة التي‬ ‫غريت اسمها برصافة هشام عندما قرر الخليفة هشام (‪ )724-743‬تحديد إقامته فيها وهناك‬ ‫عاش فرتات طويلة حفيده عبد الرحمن األول‪ .‬بعد سنوات قام عبد الرحمن األول بوضع محل‬ ‫إقامته املفضل يف ضواحي عاصمته الجديدة‪ ،‬قرطبة القدمية عىل بناء روماين‪-‬قوطي كان قامئاً‬ ‫من قبل وأطلق عليه هذا االسم املحمل بالداللة‪« ،‬الرصافة»‪ ،‬واملشحون مبضامني هائلة يف‬ ‫إطار الرمزية األموية الغربية‪ ،‬وذلك للتذكرة بالرصافة السورية وبجده الذي كان من خالله‬ ‫يسرتجع رشعية الساللة الحاكمة‪ .‬ومن املمكن يف سياق هذا الخطاب املتعلق باألرسة الحاكمة‬ ‫أن تكتسب معنى عملية نقل األمناط املعامرية املرتبطة بسورية إىل األندلس‪ ،‬وبصفة خاصة‬ ‫مع رصافة هشام التي أمىض فيها طفولته‪.‬‬ ‫وبالعودة مجددا ً إىل الطبوغرافية املتعلقة بضواحي قرطبة علينا أن نشري إىل أن هذا‬ ‫القطاع‪ ،‬الواقع بني منحدر السلسلة الجبلية وتدرجاتها‪ ،‬سيكون كام هو الحال مع الضفة‬ ‫اليمنى لنهر الوادي الكبري‪ ،‬هو املكان املفضل الذي كانت تختاره الطبقة األرستقراطية يف‬ ‫قرطبة لبناء مناطقها الرتفيهية باالستفادة من تسهيالت التزود باملاء الوارد من مياه النهر‬ ‫‪105‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫واملياه الجوفيه من خالل اآلبار والعيون‪ .‬وهكذا فإن منوذج «املهاجر» برصافته اتبعه كثري من‬ ‫الشخصيات املهمة‪ ،‬مثل جعفر امل ُشايف أو محمد بن أيب األمري يف مرحلة خدمته للحكم الثاين‪،‬‬ ‫فاختاروا هذا الربض إلقامتهم‪ .‬وقد منح انتشار القصور واملزارع مظهرا ً خاصاً لهذه الضاحية‬ ‫الفسيحة حيث كانت مناطق املقابر واملنازل تتمركز عىل طول الطرق التي كانت تتخللها‬ ‫حدائق واسعة وبساتني مروية بالعديد من اآلبار ومياه الغدران املتدفقة من سلسلة الجبال‪،‬‬ ‫وكانت يف بعض الحاالت تتخللها قنوات تجتاز هذه املمتلكات‪.‬‬

‫من مدينة قرطبة إىل التجمع الحرضي ملدينة قرطبة‪-‬مدينة‬ ‫الزهراء‪-‬مدينة الزاهرة‬

‫عندما تويف عبد الرحمن الثاين يف عام ‪ 852‬كانت قرطبة قد خطت خطوة حاسمة عىل‬ ‫طريق تحولها إىل مدينة إسالمية كبرية‪ ،‬وأنهى األمري جزءا ً كبريا ً من العمليات التي بدأها‬ ‫جده الثاين قبل قرن وكانت تهدف إىل تقوية سلطة العائلة وتنظيم جهاز إداري كفء وإىل‬ ‫إقامة فضاء إسالمي تام للعاصمة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن التناقضات القامئة يف املجتمع األندليس‬ ‫أدت إىل االضطرابات املعروفة بالفتنة األوىل‪ ،‬وهي االضطرابات التي أثارت التساؤالت تجاه‬ ‫اإلصالحات التي طبقت وأظهرت يف الوقت نفسه نقاط ضعف الدولة األموية الجديدة‪.‬‬ ‫وقد استغرقت مسألة استعادة النظام والوحدة جهود جيلني ثم أصبح ذلك ممكناً فقط‬ ‫عندما سمح تعديل يف النظام الورايث داخل الجناح األموي الحاكم للشاب عبد الرحمن‬ ‫الثالث أن يخلف جده عبد الله‪ ،‬من أجل تطوير سياسة يبحث من خاللها عن عالقة رمزية‬ ‫مبارشة مع مؤسس األرسة بغية حشد مؤيديه وإخضاع املتمردين وإعادة صياغة البنية‬ ‫السياسية األموية العظيمة عىل أساس طروحات جديدة تتناغم والوضع الداخيل لألندلس‬ ‫وتتناسب مع العدوانية املتنامية للماملك املسيحية والتغيريات التي شهدتها بقية الدول‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وبشكل خاص يف شامل إفريقيا‪ ،‬وذلك من خالل السياسة التوسعية للخالفة‬ ‫الفاطمية الجديدة‪.‬‬ ‫لقد حدث التغيري الحرضي العظيم يف قرطبة يف القرن العارش وبصفة أساسية خالل‬ ‫حكم عبد الرحمن الثالث‪ ،‬أول خليفة لألندلس‪ .‬ويف ذلك الوقت تم تحويل أكرب جزء من‬ ‫محيط قرطبة إىل فضاء مخطط حرضياً بشكل مكثف ليتقاطع عىل نحو تام مع مفهوم‬ ‫‪106‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫املدينة الذي كان سارياً يف العصور القدمية (خريطة ‪ .)5‬ورغم احتفاظ املدينة بوظائفها‬ ‫الدينية والسياسية‪ ،‬ورغم الرمزية التي ظلت تحتفظ بها األسوار‪ ،‬فقد راحت تتحول إىل‬ ‫جزء آخر من تجمع حرضي متسق يتصادى مع املدن العظيمة يف الرشق اإلسالمي‪ .‬وكان‬ ‫التحول شامالً ابتدا ًء من العقود األوىل من القرن العارش بحيث ميكن الحديث اآلن عن‬ ‫تطور حرضي مخطط ومنفذ يف جزء منه عىل يد الدولة األندلسية نفسها‪ ،‬وهذا التطور‬ ‫الحرضي غري شكل قرطبة كلياً‪ .‬وهكذا فإن عمليات التنقيب يف املناطق املسامة نارنخال‬ ‫دي أملاغرو وفونتانار دي كابانوس‪ ،‬إىل جانب الطرق التي تربط قرطبة بالناعورة أوالً‬ ‫ومبدينة الزهراء الحقاً‪ ،‬سمح مبواصلة عملية تحويل تدريجي لبعض املنيات الكبرية الفاعلة‬ ‫منذ القرن التاسع عىل األقل‪ 23‬إىل أرباض‪ .‬وقد رافق هذا التحول اعتناق تدريجي للجزء‬ ‫األكرب من السكان املستعربني يف قرطبة لإلسالم‪ ،‬يف بادئ األمر كان مقصورا ً عىل املمتلكات‬ ‫الزراعية ذات األصول القوطية‪ ،‬ثم تحول إىل منطقة خاصة بالعامل املأجورين الذين كانوا‬ ‫يف حاجة إىل مساجد يف األحياء وإىل حاممات ومقابر يك يطبقوا فروض الدين الجديد‪.24‬‬ ‫بعد عدة أجيال تحولت هذه األرباض التي كانت يف البداية بساتني ومزارع‪ ،‬وفقاً لتطور‬ ‫مستقل ومتعدد‪ ،‬إىل فضاء حرضي بالدرجة األساس‪.‬‬

‫‪ 23‬أسست منية الناعورة عىل يد األمري عبد الله يف نهاية القرن التاسع وتعرف عليها فيلكس إرنانديث ضمن ما عرث عليه يف‬ ‫كورتيخو ديل ألكايدي‪ ،‬وتحولت إىل مقر إقامة شبه رسمية لعبد الرحمن الثالث حتى إقامته النهائية يف مدينة الزهراء‪،‬‬ ‫وقامت بوظيفة شبيهة بوظيفة الرصافة يف عهد عبد الرحمن األول‪.‬‬ ‫‪ 24‬إىل جانب التطور الدميغرايف «الداخيل» حدث يف القرن العارش تطور آخر «خارجي» ناجم عن هجرات الضواحي القريبة‬ ‫والبعيدة للعاصمة‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Juan F. Murillo, Elena Castro del Río y M.ª Teresa Casal (2004), «Madinat Qurtuba. Aproximación‬‬ ‫‪al proceso de formación de la ciudad emiral y califal a partir de la información arqueológica», Op.‬‬ ‫‪Cit., nota 18.‬‬

‫‪107‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬ ‫خريطة ‪ .5‬التجمع الحرضي القرطبي يف نهاية القرن العارش‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬اتفاقية التعاون بني اإلدارة البلدية للتخطيط العمراين وجامعة قرطبة (‪)gmu-uco‬‬

‫أما املحفز النهايئ لهذه العملية ولتوسع قرطبة نحو الغرب فسيقوم عىل تأسيس مدينة‬ ‫الزهراء‪ ،‬يف عام ‪ ،936‬كتجسيد للخالفة يف قرطبة‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬كام يشري ابن حوقل‪،‬‬ ‫شيد بشكل مستمر حي سكني بني العاصمة وسكن الخلفاء الجديد‪ .‬وقد لعبت الطرق يف‬ ‫هذه املجتمعات الحرضية ومدينة النارص الفخمة دورا ً بارزا ً‪ ،‬سواء أكانت هذه الطرق من‬ ‫األصل الروماين أم تلك التي أنشئت عمدا ً لتوصيلها بالعاصمة القدمية يف إنشاء وصيانة هذه‬ ‫الشبكة من الطرق حيث يتجىل تدخل الخليفة بشكل أكرث وضوحاً‪ ،‬ومن ثم الدولة األندلسية‪،‬‬ ‫يف «التخطيط» العمراين للمدينة‪ .‬وكمحور منو وعنرص هيكلة لألرباض فقد شكلت هذه‬ ‫الطرق معلامً للسلطة األموية بامتياز‪ ،‬إذ تركزت حولها املباين العامة الرئيسة والتجهيزات‬ ‫الجامعية‪ ،‬لتنظيم الجزء األكرب من حركة املرور‪ ،‬وخالصة القول‪ ،‬لالستفادة منها لدى االضطالع‬ ‫بالتحضريات الرسمية الخاصة بانتقال املواكب والوفود ما بني قرطبة والزهراء‪.‬‬ ‫ومع أننا حالياً لسنا يف ظرف يسمح بتقييم اإليقاعات واملراحل املحددة لهذه العملية‬ ‫ألنها تشكل واحدا ً من التحديات األساسية للبحث يف العقود التالية‪ ،‬إال أننا استطعنا فعال أن‬ ‫نلمح النتيجة النهائية التي هي ليست سوى عملية تشكل النسيج‪ ،‬الحرضي من ناحية وشبه‬ ‫‪108‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫الحرضي من ناحية أخرى‪ ،‬وفيها تتداخل مناطق واسعة بكافة تجهيزاتها الجامعية ومقابرها‬ ‫الكبرية ومنشآتها الحكومية‪ ،‬إلخ‪ .‬واألعامل املتعلقة باآلثار تسمح مبقاربة ذات طبيعة كلية‬ ‫شاملة األمر الذي يؤدي إىل تقييم الصورة التي أمكن الحصول عليها مسبقاً من املصادر‬ ‫املكتوبة فقط‪ ،‬مثل التحليل املحدود لبعض األرباض التي تقدم تنظيامً حرضياً مع تصميم‬ ‫تراتبي للشوارع النظامية التي تتمتع يف بعض الحاالت ببنية للتخلص من مياه املجاري‪،‬‬ ‫وفضاءات مفتوحة ومرصوفة ميكن أن تفرس عىل أنها بازارات أو أسواق األرباض‪ ،‬وبيوت‬ ‫متنوعة االرتفاع‪ ،‬لكنها تدور دوماً حول فناء مركزي‪ ،‬إىل جانب وجود املساجد واملقابر‪.‬‬ ‫ووراء هذه األرباض ما زلنا نعرث عىل عدد أكرب من املنيات التي تكون يف بعض الحاالت‬ ‫منغلقة داخل األرباض نتيجة النمو الحرضي‪ ،‬ويف بعض الحاالت كام يف حالة الرصافة أو الناعورة‬ ‫فهي «قصور» حقيقية تعود إىل الخليفة وتستخدم جيالً بعد جيل‪ .‬ويف حاالت أخرى‪ ،‬مثل‬ ‫الرومانية‪ ،‬فإنها تعود ملبادرة إحدى شخصيات البالط الكبرية‪ ،‬مثلام حدث مع املرشف عىل بيت‬ ‫املال «دو ّري»‪ ،‬ولو أنها يف هذه الحالة أيضاً قد استقرت يف نهاية املطاف بني يدي الخليفة‪.25‬‬ ‫ال بد من أن تك ّون جزء كبري من هذه األرباض الخليفية الجديدة كان مختلفاً عام رأيناه يف‬ ‫الفرتة السابقة‪ .‬ففي املقام األول نجد أن هذا التخطيط العمراين يؤثر عىل الضواحي الكبرية‬ ‫القدمية‪ ،‬وعليه فإنه بعيدا ً عن اإلنجازات الفردية املتعددة املمتدة بشكل أو بآخر يف الزمان‬ ‫ويف املكان‪ ،‬كتلك التي رأيناها يف املراحل السابقة‪ ،‬فإننا نجد أنفسنا اآلن أمام عملية موجهة‬ ‫ميكن وصفها باملصطلحات الحالية بأنها «ترويجية» تؤدي إىل تقسيم األرايض وفتح الطرق‬ ‫وتزويدها بالبنى التحتية وكذلك بناء العقارات‪ .‬وبرغم أن املصادر األدبية ال تنطوي عىل إشارة‬ ‫ضمنية إىل هذه املسألة فإننا نستطيع تفسري هذا املعنى يف بعض اإلحاالت املرجعية‪ .‬ومن‬ ‫بينها اإلحالة األكرث داللة التي ينقلها لنا ابن حيان حول معارضة هشام الثاين ومحاولة حاجبه‬ ‫جعفر امل ُشايف بناء حي جديد يف مكان ربض شقندة املدمر‪.‬‬ ‫هذه املحاولة‪ ،‬رغم فشلها‪ ،‬فإنها تكشف لنا مشاركة الصفوات القرطبية مبن يف ذلك أفراد‬ ‫من األرسة امللكية نفسها‪ ،‬يف العمل العقاري املزدهر يف عاصمة كان الطلب فيها مكثفاً عىل‬ ‫املساكن خالل النصف الثاين من القرن العارش‪ .‬ومن ثم من املمكن أن يكون تقسيم األرايض‬ ‫وبناء املساكن عىل يد أفراد ينتمون إىل علية القوم قد أدى إىل تنظيم حرضي أكرب وإىل وضع‬ ‫مقاييس للعقارات إىل حد ما‪ ،‬فالكثري منها كان مخصصاً لإليجار‪.‬‬ ‫‪ 25‬يقدم لنا ابن حيان وصفاً‬ ‫مفصال وأفضل تعريف ممكن لهذه املنيات‪ .‬أنظر خوان ف‪ .‬موريو (‪،)2009‬‬ ‫ً‬ ‫‪«La almunia de al-Rusafa en Córdoba», Op. Cit., nota 19, p. 455.‬‬

‫‪109‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫الخامتة العامرية‪ .‬مدينة الزاهرة والتوسع الجديد نحو الرشق‬

‫ستأيت مرحلة الحقة محددة ضمن االزدهار الحرضي الذي شهد يف إطار الرتاكم الحرضي‬ ‫‪26‬‬ ‫يف مدينة قرطبة وذلك عقب اغتصاب السلطة من قبل ابن أيب عامر (املعروف باملنصور)‬ ‫إثر وفاة الخليفة الحكم الثاين وصغر سن ابنه هشام الثاين‪ ،‬وقد متثلت ببناء املدينة القرص‬ ‫الجديدة‪ ،‬املدينة الزاهرة‪ ،‬رشقي قرطبة‪ .27‬وهذا القرص الجديد سيشجع العمل الحرضي يف‬ ‫األرايض البور الواقعة بني الضواحي الرشقية لقرطبة واملدينة العامرية‪ ،‬ما أدى إىل وجود مركز‬ ‫جذب عابر بنيت فيه منازل الصفوات املرتبطة بنظام املنصور‪.‬‬ ‫لعبت الزاهرة دورا ً مشابهاً ملدينة‪-‬قرص عبد الرحمن الثالث يف عملية توكيد تطلعات‬ ‫سلطة الطاغية العامري ومن خلفوه إزاء الرشعية األموية التي كان ال يزال ميثلها الخليفة‬ ‫هشام الثاين الذي احتجز يف مدينة الزهراء أوالً ويف قرص قرطبة الحقاً‪ .‬ومبجرد أن أفلت األوىل‬ ‫يف نهاية القرن العارش وصوالً إىل نهبها وتدمريها يف أثناء فتنة الثلث األول من القرن التايل يف‬ ‫قرطبة القدمية‪ ،‬قام املنصور بنشاط حرضي شمل الرموز األموية الرئيسة بهدف محاكاتها ويف‬ ‫افتض فيهم العدوانية‪ .‬ويف هذا اإلطار‬ ‫الوقت نفسه وضع إجراءات للتحكم يف السكان الذين ُ‬ ‫علينا أن نفهم أن توسعة املسجد الجامع التي وصلت إىل مضاعفة مساحته مقارنة باملسجد‬ ‫األموي‪ ،‬مع الحفاظ عىل جوهره ولكن بتضمني خطاب أيدولوجي جديد يف الوقت نفسه‪ .‬يف‬ ‫هذا السياق ينبغي فهم إعادة تحصني القرص‪ ،‬وهو الرمز الثاين لألمويني‪ ،‬بغرض عزل الخليفة‬ ‫الشاب داخله‪ ،‬ورمبا صاحب ذلك عملية ترميم لقطاعات مختلفة من سور املدينة ووضع‬ ‫بوابة محصنة للتحكم يف مدخل الجرس‪.‬‬ ‫وعند وفاة املنصور يف سنة ‪ 1002‬كانت قرطبة تؤلف مجتمعاً حرضياً ميتد عىل طول‬ ‫محور شاميل رشقي‪-‬جنويب رشقي لعرشة كيلومرتات يف موازاة الشاطئ األمين من نهر الوادي‬ ‫الكبري‪ ،‬وشغلت مساحة تربو عىل ‪ 5.000‬هكتار‪ .‬ولو قورنت باملدن الكربى يف تلك الحقبة‪،‬‬ ‫من األطليس حتى املحيط الهندي‪ ،‬ملا أمكن مقارنتها سوى ببغداد التي كانت ال تزال العاصمة‬ ‫‪ 26‬للتعرف عىل شخصية املنصور ومعناها التاريخي يف إطار املسار األندليس‪ ،‬أنظر‪:‬‬ ‫‪ Xavier Ballestín (2004), Al-Mansur y la‬و ;‪Laura Bariani (2003), Almanzor. San Sebastián: Nerea‬‬ ‫‪dawla ‘amiriya: una dinámica de poder y legitimidad en el occidente musulmán medieval. Barcelona:‬‬ ‫‪Edicions Universitat de Barcelona.‬‬ ‫‪ 27‬بخالف مدينة الزهراء‪ ،‬فإن تحديد مكان املدينة الزاهرة ال يزال ميثل مسألة عالقة‪ ،‬فإذا أخذنا األدلة التاريخية واألثرية‬ ‫فإنها تشري إىل منعطف منطقة األرينال حيث توجد دراسة هندسية شكلية نهرية أعدتها بلدية قرطبة عن طريق مركز‬ ‫البحوث العلمية ما سمح بإعادة بناء مسار نهر الوادي الكبري نحو سنة ‪ 1000‬وتحديد األرايض التي ميكن أن تكون قد‬ ‫أقيمت فيها املدينة األمريية‪.‬‬

‫‪110‬‬


‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو‬

‫الزاهرة للخالفة العباسية‪ ،‬بينام بقيت املدن األخرى‪ ،‬مبا يف ذلك القاهرة الفاطمية‪ ،‬بعيدة‬ ‫عنها‪.28‬‬ ‫هذه الحارضة التي ال يزال لها حضور مادي مؤثر حتى القرن الحادي والعرشين وقوتها‬ ‫املتنامية‪ ،‬بوصفها مرجعية ثقافية إلنسانية كونية لكنها متنوعة‪ ،‬ينبغي أن تبقى حية لذا ال بد‬ ‫لنا من مضاعفة جهودنا من أجل الحفاظ عىل تراثنا واالحتفاظ بآثاره املادية يف تناغم تام مع‬ ‫آثار «القرطبات األخرى» التي سبقتها ولحقتها وستخلفها‪ .‬وذلك مبعرفتها يف كل يوم بعمق‬ ‫أكرب من خالل البحث التاريخي الذي يجب أن تواصل اآلثار فيه لعب دور جوهري‪.‬‬

‫سرية املؤلف‬

‫خوان ف‪ .‬موريّو ريدوندو رئيس مكتب إدارة تخطيط اآلثار يف مدينة قرطبة منذ عام‬ ‫‪ .1993‬مرتبط بقسم اآلثار يف جامعة قرطبة منذ عام ‪ ،1988‬وقد شارك بصفته أستاذا ً يف‬ ‫برامج دكتوراه ودراسات عليا مختلفة‪ ،‬وبصفته باحثاً يف العديد من املرشوعات املمولة من‬ ‫املؤسسات العامة‪ .‬ساهم يف إدخال نظام الحفريات الطبقية يف التنقيب يف قرطبة وتنفيذ‬ ‫نظام تسجيل امل ُلك‪ .‬عضو يف املجموعة البحثية ‪( PAI-HUM-236‬اآلثار كقاعدة وثائقية‬ ‫ملرشوعات البحث التاريخي) يف جامعة قرطبة وقد قامت بتطوير مرشوعات بحثية متعددة‬ ‫بخصوص التحول ما بني املدينة القدمية املتأخرة ومدينة العرص الوسيط املتقدم‪ ،‬وعن تحليل‬ ‫إسرتاتيجيات استغالل محيط ضواحي قرطبة‪ .‬وهو أيضاً مؤلف لنحو من إثني عرش بحثاً‬ ‫ومقالة نرشت يف مجالت متخصصة وطنية وأجنبية‪.‬‬

‫امللخص‬

‫مل تكن «قرطبة الخالفة» التي تغ ّنى بها الشعراء األندلسيون وحنوا إليها عمل جيل واحد‬ ‫هو جيل عبد الرحمن الثالث بل كانت نتاج عملية تاريخية طويلة عىل درجة كبرية من‬ ‫التعقيد تضافرت فيها عملية حرضية توطدت عىل مدى ألف عام‪ .‬فهناك قوة اإلسالم لدى‬ ‫‪ 28‬أنظر الفصول الخاصة بجان‪-‬كلود غراسني‪ ،‬جان‪-‬لوك أرنو وسيلفي دينو (‪Jean-Claude Garcin, Jean-Luc Arnaud‬‬ ‫و ‪،)2000( )Sylvie Denoix‬‬ ‫‪Grandes villes méditerranéennes du monde musulman médiéval. Op. Cit., nota 16.‬‬

‫‪111‬‬


‫قرطبة الخالفة‪ :‬أصل وتطور عاصمة األندلس األموية‬

‫قولبة شكلها وطابعها االجتامعي الحرضي واملفهوم األموي للسلطة الذي أرساه عبد الرحمن‬ ‫األول وطوره عبد الرحمن الثاين من خالل معايري عباسية يك يتم الحقاً «إحداث ثورة فيها»‬ ‫عىل يد الخليفة األول الذي كان يعي حدود النظام وتحت ضغط املتغريات االجتامعية‬ ‫االقتصادية الجارية يف األندلس وبتفكك وحدة الخالفة العباسية النظرية أكرث منها العملية‬ ‫وبفعل الضغط املسيحي عىل الثغور الحدودية والتهديد الفاطمي يف شامل إفريقيا‪ ،‬لذا‬ ‫حاول تعزيز سلطته من خالل إضفاء رشعية فكرية ذات طابع ديني تقوم عىل عزة الخالفة‬ ‫لتتجاوز األدوات األموية التقليدية والقوة العسكرية وما يرتتب عىل ذلك من القدرة عىل‬ ‫جبي الرضائب‪.‬‬

‫الكلامت املفتاحية‬

‫قرطبة‪ ،‬األندلس‪ ،‬أسلمة‪ ،‬تخطيط حرضي‪ ،‬عامرة‪ ،‬آثار‪.‬‬

‫‪112‬‬




‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬ ‫أنطونيو باييخو تريانو‬ ‫مدينة الزهراء‪ :‬صورة خالفة األندلس‬

‫مام ال شك فيه أن مدينة الزهراء هي إحدى املدن األسطورية يف اإلسالم وهي حارضة يف‬ ‫الذاكرة الجامعية كمكان يرتبط بالروعة والرثاء والعظمة واملباهاة وعىل املستوى السيايس‬ ‫فإنها ترمز إىل عظمة الخالفة يف قرطبة‪.‬‬ ‫لقد جمعت املدينة كافة العنارص التي جعلتها تستحق هذه الصورة املثالية إذ كان بناؤها‬ ‫فجائياً رسيعاً بأمر من الخليفة‪ ،‬ولعل هذا يعود –أو ال يعود– لدواع عاطفية وبفعل حالة‬ ‫الرخاء وتوافر مواد البناء والتزيني فضالً عن العدد املرتفع للعاملني الذين شاركوا يف تشييدها‬ ‫وتدخل األيدي العاملة املؤهلة القادمة من مختلف أنحاء العامل اإلسالمي وجودة بناها التحتية‬ ‫وهندستها املعامرية وبريق حياتها النشطة‪ ،‬وكلها مالمح مستقاة من املصادر املتوفرة لدينا عن‬ ‫املدينة وبعضها كُتب بعد أن أضحت أطالالً لذا فهي تعتمد الوصف بشكل استعاري مبالغ فيه‬ ‫إىل حد كبري‪ .1‬وال بد من أن نضيف إىل هذا طبيعة زوالها الرسيع –دامت أكرث من سبعني عاماً‬ ‫بقليل للفرتة ما بني ‪ 936‬و‪ –1013‬وهذا الخراب مرتبط بسقوط الخالفة وقد تأمله معارصوه‬

‫‪ 1‬لهذه املصادر‪ ،‬أنظر‪:‬‬ ‫‪José Miguel Puerta Vílchez (2004), Ensoñación y construcción del lugar en Madinat al-Zahra, en‬‬ ‫‪Fátima Roldán Castro (coord.). Paisaje y naturaleza en al-Andalus. Fundación El Legado Andalusí:‬‬ ‫‪Granada, pp. 318-324.‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫بخيبة أمل عميقة وشعور بالضياع انعكس بأمانة يف املصادر التاريخية وخاصة يف الشعر‪ .2‬وأخريا ً‬ ‫فقد أسهمت كثافة عمليات نهب منشآتها إثر هجرانها يف عملية متجيد املدينة عىل نحو مثايل إذ‬ ‫مل تختف آثارها املادية يف سنوات قليلة فحسب بل ذكرى املكان أيضاً الذي كانت املدينة قامئة‬ ‫فيه‪.3‬‬ ‫هذا التمجيد مل يكن فقط عملية متت بأثر رجعي بعد خراب املدينة بل إن هذه الحارضة‬ ‫أثارت إعجاباً شديدا ً لدى معارصيها وهو ما يرويه لنا املق ّري يف القرن السابع عرش نقالً عن‬ ‫مؤلفني سابقني عندما يقول‪:‬‬ ‫[‪ ]..‬ملا بنى النارص قرص الزهراء املتناهي يف الجاللة والفخامة‪ ،‬أطبق‬ ‫الناس عىل أنه مل يُنب مثله يف اإلسالم البتة‪ ،‬وما دخل إليها ق ُّط أحد من‬ ‫سائر البالد النائية والنحل املختلفة‪ ،‬من ملك وارد أو رسول وافد‪ ،‬وتاجر‬ ‫جهبذ‪ -‬ويف هذه الطبقات من الناس تكون املعرفة والفطنة– إالَّ وكلهم‬ ‫قَطَ َع أنه مل يَ َر له شبهاً ومل يسمع به‪ ،‬بل مل يتوهم كون مثله‪ ،‬حتى إنه كان‬ ‫أعجب ما يؤمله القاطع إىل األندلس يف تلك العصور النظر إليه‪ ،‬والتحدث‬ ‫عنه‪ ،‬واألخبار عن هذا تتسع جدا ً‪ ،‬واألدلة عليه تكرث‪.4‬‬

‫التصميم والتخطيط‬

‫كان بناء مدينة الزهراء إثر قيام عبد الرحمن النارص (عبد الرحمن الثالث) بتنصيب نفسه‬

‫‪ 2‬أنظر إميليو غارثيا غوميث (‪« ،)1947( )Emilio García Gómez‬بعض اإليضاحات حول آثار قرطبة األموية» يف مجلة األندلس‬ ‫‪Al-Andalus, xii, pp. 267-293; Henri Pérès (1937), La poésie andalouse en arabe classique au XIª siècle, pp. 124‬‬‫‪ L. Torres Balbás (1982), Arte califal, en Ramón Menéndez Pidal. España musulmana hasta la caída‬و ;‪126‬‬ ‫‪del Califato de Córdoba (711-1031 de J. C.). Historia de España, vol. iv. Madrid: Espasa-Calpe, pp. 427-429.‬‬ ‫‪ 3‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Manuel Ocaña Jiménez (1986), Madinat al-Zahra, en International Union of Academies. The Encyclo‬‬‫‪paedia of Islam, vol. v. Leiden: E.J. Brill, pp. 1008-1010.‬‬ ‫‪ 4‬أنظر املقري‪ ،‬نفح الطيب‪ ،‬بريوت‪ ،‬طبعة إحسان عباس‪ ،‬الجزء الثامن‪ ،‬ص ‪ .566‬أشار إليه خوسيه ميغيل بويرتا (‪،)2004‬‬ ‫الحلم والبناء يف مكان مدينة الزهراء‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.324.‬‬

‫‪116‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫خليفة فاتحة لواحدة من أكرث املراحل تألقاً يف تاريخ األندلس‪ .‬ويندرج بناؤها يف إطار بناء‬ ‫الحوارض الكربى يف مختلف الدول اإلسالمية يف ذلك العرص وعليه فقد مثلت أعظم رمز يف‬ ‫التخطيط العمراين للخالفة األموية وذلك يف إطار التسابق مع الخالفة الفاطمية املنافسة‪.5‬‬ ‫واسمها نفسه‪ ،‬مدينة الزهراء‪ ،‬ميكن أن يُفرس يف إطار التنافس السيايس‪-‬الديني الدائم آنذاك‪.‬‬ ‫ومن ناحية أخرى فقد أشري إىل عالقتها املحتملة مع كوكب الزهرة‪ ،‬فينوس‪ ،‬يف مقابل اإلشارة‬ ‫إىل كوكب املريخ (القاهر) الذي استخدمه الفاطميون إلنشاء عاصمتهم الجديدة يف مرص‪،‬‬ ‫اقتح ربطها باسم ابنة الرسول فاطمة التي يطلق عليها الزهراء‪.6‬‬ ‫ومن ناحية أخرى فقد ُ‬ ‫لقد وجدت هذه املؤلفة أن هذا االسم رمبا كان يحيل إىل إشارات دينية باعتباره «تجسيدا ً»‬ ‫محتمالً للجنة عىل األرض فـ «االزدهار» هو واحد من أهم ميزاتها‪ .‬هذه اإلشارة نفسها إىل‬ ‫مدينة الزهراء «كتمثل رمزي» للجنة ظهرت انطالقاً من تحليل نقوش القرص‪ ،‬فنقوش بعض‬ ‫املباين تضم آيات تشري إىل الجنة القرآنية بحدائقها وقصورها التي تحيل إىل التفكري يف هذا‬ ‫الربط‪.7‬‬ ‫وبناء مدينة بهذه الخصائص عنى جهدا ً خارقاً للأملوف يف التخطيط شمل جوانب متعددة‪.‬‬ ‫ومن أجل الحصول عىل مواد البناء املختلفة كان من الرضورة مبكان تحديد مصادرها والوصول‬ ‫رسيعا إليها‪ ،‬وكذلك التزود مبواد أخرى كاملاء‪ .‬كام كان من الرضوري حشد الكثري من األيدي‬ ‫العاملة للقيام مبهام البناء‪ ،‬من األيدي العاملة البسيطة إىل األكرث خربة وتأهيالً‪ .‬كام بُذل جهد‬ ‫كبري يف وضع منهجية وتوحيد لعمليات البناء وإجراءاته وإدخال بنية تنظيمية معقدة إلدارة‬ ‫العمليات والتحكم فيها من أجل اإلرشاف عليها ابتداءا ً من طلب املواد وتشغيلها ووصوالً‬ ‫إىل تصور العنارص املكونة ملختلف تصاميم التزيني‪ .‬وقد أدى التشغيل املتزامن لهذه املهام‬ ‫املتنوعة إىل حشد كميات كبرية من املوارد االقتصادية التي تطلب توفريها سنوياً عىل امتداد‬ ‫فرتة طويلة من الزمن ق ّدرتها املصادر بأربعني عاماً منها ‪ 25‬عاماً يف أثناء خالفة عبد الرحمن‬ ‫‪ 5‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Manuel Acién Almansa (1995), Materiales e hipótesis para una interpretación del Salón de Abd al‬‬‫‪Rahman al-Nasir, en Madinat al-Zahra. El Salón de Abd al-Rahman III. Córdoba: Junta de Andalucía,‬‬ ‫‪Consejería de Cultura, pp. 189-190.‬‬ ‫‪ 6‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Maribel Fierro (2004), «Madinat al-Zahra, el Paraíso y los fatimíes», Al-Qantara, xxv, 2, pp. 316-325.‬‬ ‫‪ 7‬هكذا عرب عنه كل من ماريا أنطونيا نونييث ومانويل أثيني أملانسا (‪،)2004‬‬ ‫‪«La epigrafía de Madinat al-Zahra», Cuadernos de Madinat al-Zahra, v, pp. 123-126.‬‬

‫‪117‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫الثالث و‪ 15‬عاماً خالل عهد ابنه الحكم الثاين‪ .8‬وكلها كانت قواسم مشرتكة بني مدينة الزهراء‬ ‫واملرشوعات العمرانية اإلمرباطورية الكبرية للعاملني العبايس والفاطمي كبناء بغداد ومختلف‬ ‫املدن األخرى كسام ّراء وصربة املنصورية والقاهرة‪ .‬وتتشاطر معها أيضاً خاصيتها الرئيسة‪:‬‬ ‫كونها مدناً أسسها الخلفاء وتم التخطيط لها بشكل جيد عىل كافة املستويات لتتحول إىل‬ ‫عواصم يف دولها بدءا ً بقرار تحديد املكان وتوجيه األشغال حتى املرحلة األخرية من عمليات‬ ‫البناء والتزيني كلها‪.‬‬ ‫وجيل أن مفهوم املدينة هو مفهوم رشقي‪ ،‬سواء أكان عىل مستوى األبعاد العظيمة‪ ،‬إذ‬ ‫كانت عىل شكل مستطيل طوله ‪ 1545‬يف ‪745‬م ويضم مساحة قدرها ‪ 112‬هكتارا ً‪ ،‬أو لكامل‬ ‫صورتها الهندسية –مربع مزدوج– أو لضخامة حجم القرص حيث تقيم السلطة –وتقدر‬ ‫مساحته بـ ‪ 19‬هكتارا ً ويقع يف أعىل مكان يف تلك الحارضة– وكذلك للفصل الشديد بني هذا‬ ‫القرص وباقي املدينة وعالقة الهيمنة الهرمية وسيطرة هذا الجزء من املدينة عىل قسمها‬ ‫اآلخر‪( .‬الرسم التوضيحي رقم ‪.)1‬‬ ‫رسم توضيحي رقم ‪ .1‬املخطط العام ملدينة الزهراء‪ .‬مجسم‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬املجمع األثري ملدينة الزهراء‪.‬‬ ‫‪ 8‬عن املعلومات املقدمة يف املصادر املكتوبة‪ ،‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Ana Labarta y Carmen Barceló (1987), «Las fuentes árabes sobre al-Zahra: estado de la cuestión»,‬‬ ‫‪Cuadernos de Madinat al-Zahra, i, pp. 96-98; Mohamed Meouak (2004), «Madinat al-Zahra en las‬‬ ‫‪ José Miguel‬و ;‪fuentes árabes del Occidente islámico», Cuadernos de Madinat al-Zahra, v, pp. 70-73‬‬ ‫‪Puerta Vílchez (2004), Ensoñación y construcción del lugar en Madinat al-Zahra. Op. Cit., pp. 320-322.‬‬

‫‪118‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫ومع ذلك فإن التنفيذ العمراين املبديئ للقرص طغى عليه التأقلم مع الطبوغرافية والتكيف‬ ‫مع الوسط الطبيعي ونعني به الجبل باعتامد التخطيط الجامد الذي ال يقوم بتحويرات‬ ‫مسبقة من أي نوع للظروف الطبوغرافية‪ .‬هذا األمر أثر عىل تخطيطها الحرضي وألزم ببناء‬ ‫نظام مستويات متدرجة تسمح بوضع كل مبنى يف املكان الدقيق الذي كان يُراد له من‬ ‫حيث عالقته باملباين األخرى وذلك طبقاً لهرمية صارمة‪ ،‬وهكذا فالخليفة يف املستوى األعىل‬ ‫وويل العهد وأجهزة اإلدارة يف مستوى أدىن منه ويف قاعدة هذا الهيكل الهرمي يقيم عامة‬ ‫السكان والخدم (صورة رقم ‪ .)1‬واملدينة كلها مصممة يك ميكن تأملها من الجنوب‪ ،‬من وادي‬ ‫نهر الوادي الكبري‪ ،‬وهو املكان الذي تتوجه صوبه مبانيها وتنبثق منه الطريق الرئيسة التي‬ ‫أنشئت لوصل املدينة الجديدة بقرطبة القدمية وباقي أنحاء األندلس‪.9‬‬ ‫يكمن رس نجاح هذا العمل اإلنشايئ الضخم ورسعة إنجازه االستثنائية يف سهولة الوصول‬ ‫إىل مواد البناء األساسية‪ .‬إذ استخدمت فقط األرض القريبة كمصدر أسايس للتزود بهذه املواد‪،‬‬ ‫خصوصاً الحجر الكليس (الحجر الجريي امليوسيني املوجود يف ذلك املكان) وقد استخرج من‬ ‫املنطقة التي تصل الجبل بالوادي‪ .‬وباستثناء الرخام فقد استخدمت أحجار أخرى يف البناء‬ ‫–كالحجر الجريي األرجواين واألعمدة السوداء واملائلة إىل الحمرة والحجر الجريي األبيض‬ ‫املستخدم يف أشغال التوريق– وكلها أيضاً من مصدر محيل بحيث أن املنطقة الرئيسة لجلب‬ ‫املواد الحجرية كانت تقع عىل مسافة ‪ 50‬كم من محيط املدينة‪ .‬وقرب املوارد هذه من مدينة‬ ‫الزهراء وسهولة استخراجها يفرس لنا الرسعة الكبرية يف إنجاز عمليات البناء وهو ما تثبته‬ ‫بحوث اآلثار‪.10‬‬

‫‪ 9‬الجوانب املتعلقة باملنظر الطبيعي للموقع درسها فلورينثيو ثويْدو نارانخو (‪،)2005( )Florencio Zoido Naranjo‬‬ ‫‪Dimensión paisajística de Madinat al-Zahra. Sevilla: Universidad de Sevilla, Grupo de Investigación‬‬ ‫‪Consejería de Cultura; y José Ramón Menéndez de Luarca Navia-Osorio (2000), El Plan Especial‬‬ ‫‪de Madinat al-Zahra: una nueva estrategia de protección territorial, en Antonio Vallejo (coord.).‬‬ ‫‪Madinat al-Zahra, 1985-2000: 15 años de recuperación. Córdoba: Junta de Andalucía, Consejería de‬‬ ‫‪Cultura, pp. 57-83.‬‬ ‫‪ 10‬الجوانب املتعلقة بتوريد الحجارة قدمت يف عمل أنطونيو باييخو تريانو (‪،)2009( )Antonio Vallejo Triano‬‬ ‫‪Madinat al-Zahra: la construcción de una ciudad califal, en AA. VV. Construir la ciudad en la Edad‬‬ ‫‪Media. VI Encuentros Internacionales del Medievo: del 28 al 31 de julio, Nájera 2009. Nájera (La‬‬ ‫‪Rioja): Ayuntamiento de Nájera, pp. 506-511.‬‬

‫‪119‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬ ‫صورة رقم ‪ .1‬الهيكل املدرج ملدينة الزهراء‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬املجمع األثري ملدينة الزهراء‪.‬‬

‫أما التزود باملاء فقد تم تأمينه بعد إعادة تأهيل قناة مياه قدمية كانت مياهها تجري‬ ‫يف الضواحي‪ ،‬وتعود إىل الحقبة الرومانية‪ ،‬وأيضاً من خالل استبدال بعض العنارص القدمية‬ ‫لتحل محل تلك التي اختفت من النظام املوجود سابقاً كقنطرة قناة مياه بالديبوينتيس التي‬ ‫وضعت يف عهد الخالفة وتعد فعالً درة العامرة اإلسالمية‪ .‬كام تم التخطيط لوضع بنية أساسية‬ ‫للطرق تضمن االتصال مبدينة قرطبة عرب ثالث طرق رئيسة‪ .‬وبقي من هذه البنية التحتية‬ ‫للطرق قنطرتان كاملتان تنتميان إىل حقبة الخالفة كام ُر ّممت قناطر أخرى وكلها تشهد عىل‬ ‫حجم هذه الشبكة‪.‬‬

‫تنظيم املدينة‪ :‬املدينة القدمية والقرص‬

‫لقد سمحت الصورة العمرانية للمدينة التي تم التوصل إليها من خالل البحوث األخرية‬ ‫بالتحقق من غياب التناظرية واملحاور املركزية العظيمة التي ميزت القصور واملراكز العمرانية‬ ‫يف املرشق‪ ،‬خاصة العباسية منها‪ .‬وقد أدى هذا إىل اعتبار مدينة الزهراء كمرشوع محيل‬ ‫التنفيذ قامت به أيدي عاملة أندلسية حرصياً منوذجاً غري متآلف مع املبادئ الرئيسة لتلك‬

‫‪120‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫العامرة‪ .11‬وميكن القبول بهذا التوكيد لرشح بداياتها اإلنشائية رغم أن مناذج هذه العامرة‪،‬‬ ‫كام سرنى الحقاً‪ ،‬أُدخلت وعممت أثر االصالحات العمرانية التي لوحظت يف املدينة والقرص‬ ‫يف منتصف القرن العارش ومل تكد متيض بعد ‪ 15‬عاماً من الرشوع بالبناء‪.‬‬ ‫وهكذا راح يُش ّيد فضاء املدينة بشكل تدريجي خاصة يف املجموعة السكنية الحرضية‪،‬‬ ‫أي منازل عموم السكان‪ ،‬بخالف البنى التحتية الصناعية الخاصة بالدولة التي نعرف عنها‬ ‫من خالل املصادر أنها انتقلت من قرطبة مع انتقال دار سك العملة يف عام ‪ .12947‬وتضم‬ ‫املدينة أيضاً أدلة دقيقة عىل أنها كانت هدفاً للتخطيط الحرضي وحضور ملفت ملنطقة‬ ‫واسعة غري عمرانية وسط هذا املكان ووجود مبانٍ «رسمية» عظيمة يف الطرف الغريب‪ ،‬إىل‬ ‫جانب مسجدين‪ .‬وتسمح لنا البحوث أيضاً باالستنتاج بأنه عىل خالف القرص الذي كان له‬ ‫سور منذ البداية فقد ظل باقي املدينة مفتوحاً بدون سور خالل سنوات طويلة وذلك حتى‬ ‫السنوات األخرية من خالفة عبد الرحمن الثالث أو السنوات األوىل من عهد الحكم الثاين‪.‬‬ ‫وهو ما يوضحه السور الجنويب الذي تم التنقيب عنه مؤخرا ً والذي كان من الرضوري‬ ‫تعديل مساره يك ال يؤدي إىل تدمري مسجد صغري يف الحي‪ ،‬وقد قمنا بحفريات حوله أيضاً‪،‬‬ ‫ويعود تأسيسه إىل املباين األوىل يف مدينة الزهراء أي يف حوايل عام ‪ 940‬ما يعني أن السور‬ ‫الحق عىل املدينة‪ .‬ولهذا وعىل العكس مام ميكن أن يبدو فإن السور مل يكن العنرص األول‬ ‫يف عملية بناء املدينة‪.‬‬ ‫أما املنطقة الواسعة املخصصة للقرص وقد أجريت عمليات تنقيب يف ‪ 11‬هكتارا ً منها‪ ،‬من‬ ‫مساحة إجاملية تصل إىل ‪ 19‬هكتارا ً‪ ،‬فتظهر تخطيطاً حرضياً دقيقاً يتمثل تحديدا ً يف البنى‬ ‫التحتية الخاصة بإمدادات املياه والرصف الصحي‪.‬‬ ‫كان للقرص‪ ،‬وليس املدينة‪ ،‬نظام تزود دائم باملياه سواء أكان للرشب واالستخدامات‬ ‫االستهالكية ومتطلبات النظافة أو للمهام اإلنتاجية وكانت املياه ترد من قناة مياه بالديبوينتيس‪،‬‬ ‫فقد كان يفتقر إىل الخزانات أو اآلبار الجوفية لتخزين مياه األمطار التي كانت ت ُرصف مبارشة‬ ‫عرب شبكة املجاري‪ .‬ومن خالل الفرع الرئيس للقناة كانت تنقل املياه إىل مختلف املباين‬ ‫‪ 11‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Christian Ewert (1991), «Precursores de Madinat al-Zahra. Los palacios omeyas y abbasíes de‬‬ ‫‪Oriente y su ceremonial áulico», Cuadernos de Madinat al-Zahra, iii, p. 125.‬‬ ‫‪ 12‬تاريخ نقل دار سك العملة مثبت حسب سجل العمالت‪ ،‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Alberto Canto García (1991), «De la ceca al-Andalus a la de Madinat al-Zahra», Cuadernos de‬‬ ‫‪Madinat al-Zahra, 3, especialmente pp. 114-116.‬‬

‫‪121‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫بواسطة أنابيب من الرصاص أو بواسطة مواسري من الفخار وإن كانت هذه األخرية تستخدم‬ ‫بشكل أقل‪ .‬ويف القسم األعظم من املساكن كانت نقطة إمداد مياه االستهالك تقع يف وسط‬ ‫الفناء وقد أدى هذا إىل وجود مجموعة غنية من القطع املستخدمة يف هذا املجال برز من‬ ‫بينها فسقيات الرخام مختلفة األشكال –بينها مجموعة مهمة من التوابيت الرومانية التي‬ ‫أعيد استخدامها– والنافورات التي تقذف املياه كالظبيان الربونزية املعروفة‪.13‬‬ ‫وبعيدا ً عن نقطة التزود باملياه هذه املخصصة لالستهالك واألنشطة املنزلية مثة نقاط‬ ‫توصيل أخرى تختلف عن السابقة‪ ،‬هدفها الرئيس ينحرص يف تزويد املراحيض باملياه‪.‬‬ ‫وبوسعنا أن نؤكد أن هذه األخرية كانت واحدة من ركائز النظام الصحي يف القرص‪،‬‬ ‫سواء من حيث مفهومها املتقدم‪ ،‬فهي تحتوي عىل نظام مياه دائم لتأمني النظافة‬ ‫والرشوط الصحية للمستخدم‪ ،‬أو من حيث ارتفاع عددها إذ كانت منترشة يف كافة‬ ‫أرجاء مرافق القرص‪ .‬وكلها تقدم شكالً وخصائص مميزة ستصبح منوذجاً معموالً به يف‬ ‫العامرة األندلسية‪ ،‬وإىل جانب هذا كانت تضم قطعاً فريدة جدا ً تربز من بينها أحواض‬ ‫الرخام املقلوبة بشكل فني‪.‬‬ ‫فضالً عن إمدادات املياه كانت البنية التحتية الصحية أفضل ما تم التخطيط له يف القرص‪.‬‬ ‫وكانت تتألف من شكبة قنوات جوفية تم اكتشاف ‪ 1800‬مرت منها‪ ،‬من أنواع وأحجام مختلفة‬ ‫تجري فيها املياه عىل أعامق مختلفة تحت مباين القرص‪ .‬وكانت األكرب حجامً إذ متتد طولياً يف‬ ‫مختلف املستويات املتدرجة للمدينة وبؤر العمران وتجتاز مركز املساكن لتجمع مياه األمطار‬ ‫واملجاري من األفنية‪ ،‬أما القنوات الصغرية فتنقل مياه املواسري واملراحيض وعنارص الرصف‬ ‫األخرى لتصب يف القنوات السابقة‪.‬‬ ‫هذه البنية التحتية مل يكن لها مثيل مقارنة مبا هو معروف يف املراكز الحرضية املعارصة لها‪،‬‬ ‫إذ أنها امتدت عرب مجموعة مباين القرص وزودتها جميعاً بالرصف الصحي مع ضامن ترصيف‬ ‫مياه املجاري إىل ت ُ َرع قريبة أو خارج املدينة‪ .‬ومثة وظيفة أخرى‪ ،‬ثانوية‪ ،‬كانت تتم من خالل‬ ‫استخدامها كمقالب نفايات منزلية فقد عرث يف هذه املجاري عىل مخلفات خزفية وغذائية‪.‬‬ ‫هذه البنية التحتية للرصف الصحي كان بها عنرص موجود من قبل هو مجرى قناة املياه‬ ‫الرومانية القدمية‪ .‬وكان هذا املجرى مير أسفل الجزء املركزي من املنصة العليا للقرص حيث‬ ‫متكنا من التعرف عىل مساره املمتد عىل شكل مجرى مستقيم ألكرث من ‪ 200‬م‪ .‬يف هذا الجزء‬ ‫‪ 13‬وكام هو معروف فإن الظبيني الربونزيني ملدينة الزهراء موجود أحدهام يف متحف مدينة الخالفة واآلخر يف متحف مدينة‬ ‫الدوحة‪.‬‬

‫‪122‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫وبعد تاليش مهمته األصلية يف تزويد املياه‪ ،‬متت إعادة استخدام املجرى يف القرص كبالوعة‬ ‫كبرية للرصف الصحي األمر الذي يثبته وجود كميات كبرية من الفضالت‪.14‬‬ ‫أما التصميم املدرج للقرص فقد فرض طابعه عىل االتصاالت الداخلية يف القرص‪ ،‬فهي‬ ‫تقوم عىل أساس مجموعة من الطرق والشوارع واملمرات عرب سالمل غري مستوية تصل‬ ‫إىل نسبة ‪ %20‬من االنحدار‪ .‬وكان الجزء األكرب من هذه الشوارع مغطى وكانت تتخللها‬ ‫األبواب واملصاطب الحجرية املتالصقة وبعضها كان معبدا ً مبواد مناسبة لعبور الخيول‪.‬‬ ‫وهذه البنية التي تتخذ شكل مدرجات سهلت بناء عدد من السالمل من مختلف األنواع‬ ‫وذلك لربط املباين املدرجة املتجاورة‪.‬‬ ‫من منظور التخطيط الحرضي يبدو القرص خليطاً من املباين من مختلف األنواع‪ :‬من مقر‬ ‫إقامة ومبان دينية وإدارية وأخرى خاصة بالعمل والخدمة ومتثيل الحكومة وبه فضاءات‬ ‫متصلة –ساحات كبرية– وحدائق واسعة هي األكرث سعة من بني الحدائق التي تم الحفاظ‬ ‫عليها يف العامل اإلسالمي األول‪ .‬أما بخصوص الوظيفة فكل هذا يؤلف مجموعة محكمة‬ ‫التنظيم ومتامسكة عىل الرغم من كونها قد شُ يدت و‪/‬أو رممت يف فرتات مختلفة‪ ،‬منذ‬ ‫سنوات تأسيسها األوىل –يف عام ‪ 940‬تقريباً– حتى النصف الثاين من عقد خالفة الحكم الثاين‬ ‫–يف عام ‪ 972‬تقريباً– الذي تم فيه توثيق آخر عمليات الرتميم‪.15‬‬ ‫ومن بني املباين املخصصة لإلقامة البد من إبراز ثالثة ُرصدت الستخدام الخليفة‪ :‬دار امللك‬ ‫املذكور يف النصوص وكان مقر إقامة عبد الرحمن الثالث‪ ،‬وما يطلق عليه مبنزل ِ‬ ‫البكة وقد‬ ‫حددناه عىل أنه مقر إقامة الخليفة الحكم الثاين وقد بُني عندما كان بعد ولياً للعهد‪ ،16‬وما أطلق‬ ‫عليه بالغرف امللحقة مبجلس عبد الرحمن الثالث (رسم تخطيطي رقم ‪ .)2‬وكانت هذه املقرات‬ ‫‪ 14‬القضايا املتعلقة بإمدادات املياه والرصف الصحي متوفرة يف أنطونيو باييخو تريانو (‪،)2010‬‬ ‫‪La ciudad califal de Madinat al-Zahra. Arqueología de su arquitectura. Córdoba: Almuzara, pp. 228-260.‬‬ ‫‪ 15‬اإلشارة األوىل املوثوقة ألشغال مدينة الزهراء تحيل إىل بناء القرص يف عام ‪ 941-940‬وتعبيد طريق الزهراء من منية النورة‪:‬‬ ‫‪Ibn Hayyan (1981), Crónica del califa Abdarrahman III an-Nasir entre los años 912 y 942 (al-Muqtabis‬‬ ‫‪V) [trad., notas e índice por María Jesús Viguera Molins y Federico Corriente]. Zaragoza: Anubar,‬‬ ‫‪Instituto Hispano-Arabe de Cultura, p. 359.‬‬ ‫آخر األخبار تشري إىل ترميامت يف دار امللك يف عام ‪ 972‬لتأهيل املنزل ليصبح مكان دراسة لألمري الهاشم‪ :‬ابن حيان‬ ‫(‪( ،)1967( )Ibn Hayyan‬ترجمة إميليو غارثيا غوميث)‪ .‬مدريد‪ :‬جمعية الدراسات واملطبوعات‪ ،‬ص ‪ .100-99‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Anales palatinos del califa de Córdoba al-Hakam II, por Isa ibn Ahmad al-Razi (360-364 H. = 971-975‬‬ ‫‪J. C.).‬‬ ‫‪ 16‬أنظر أنطونيو باييخو تريانو (‪،)2010‬‬ ‫‪La ciudad califal de Madinat al-Zahra. Arqueología de su arquitectura. Op. Cit., p. 468.‬‬

‫‪123‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫الثالثة هي مقرات اإلقامة األكرث أهمية وتفردا ً يف القرص سواء بالنسبة لحجمها أو تصميمها‬ ‫املعامري الذي شمل حامماً فردياً يف كل واحد منها وحديقة واسعة يف إقامة الحكم‪ ،‬وقد زينت‬ ‫بالتوريقات‪ .‬كام ينبغي أن نضيف إليها مسكن حاجب الدولة (الوزير األول) يف دولة الخالفة‬ ‫والرجل القوي جعفر الصقلبي وكان بناؤه املعامري قد اشتمل عىل فضاءات لتمثيل الحكم‬ ‫والعمل وغرف خاصة وأمكنة للخدم‪( .‬صورة رقم ‪.)2‬‬ ‫صورة توضيحية رقم ‪ .2‬منظر عام للقرص مع إشارة إىل املباين والفضاءات األكرث رمزية‪ .‬مجسم‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬املجمع األثري ملدينة الزهراء‪.‬‬

‫‪124‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬ ‫صورة رقم ‪ .2‬دار جعفر‪ .‬الواجهة الرئيسة وزخارف توريق‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬املجمع األثري ملدينة الزهراء‪.‬‬

‫عمليات تحوير القرص‬

‫لقد منت مدينة الزهراء وتطورت عىل إيقاع تطور مؤسسة الخالفة والدولة نفسها‪ .‬وهذا‬ ‫ما يفرس كون املباين األكرث أهمية يف القرص إىل جانب هذه املساكن هي املباين ذات الطابع‬ ‫اإلداري‪ ،‬عىل وجه الخصوص تلك التي كانت تستخدم يف استقباالت الخليفة السياسية‪ .‬وهذه‬ ‫املباين هي التي تعكس التغريات العميقة التي حدثت للتخطيط العمراين ومعامر القرص يف‬ ‫أواسط عقد أعوام ‪ ،950‬والتغريات عىل ما يبدو كانت ذات هدف مزدوج‪ :‬فمن ناحية تشري‬ ‫إىل متركز املؤسسات اإلدارية للدولة ومن ناحية أخرى ترمي إىل تكييف القرص مع األشكال‬ ‫الجديدة لتمثيل سلطة الخالفة‪.‬‬ ‫وجزء كبري من هذه املباين التي ميكننا متييزها بوصفها إدارية بنيت يف ذلك الوقت وكانت‬ ‫تحتل الجزء املركزي من القرص‪ ،‬وقد صمم هذا الجزء ليكون مقر مستشارية الخالفة وذلك‬ ‫‪125‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫بعد هدم املباين التي كانت قامئة من قبل (مخطط رقم ‪ .)2‬ويربز من بني هذه املباين الجديدة‬ ‫ذات الحجم غري الطبيعي يف مدينة الزهراء واملعروفة حتى تلك اللحظة بالقاعة الكبرية يف‬ ‫املدرج العلوي‪ ،‬وهو ما حددناه بكونه ما يطلق عليه افرتاضاً بدار الجند يف املصادر‪ ،‬ومبنى‬ ‫مربع الزوايا ذو أبعاد كبرية شيد حول فناء به أروقة ذات أعمدة عىل جانبيه وهو ما يعرف‬ ‫تقليدياً بفناء الساعات وقد حددناه افرتاضياً مبا دعي بدار الوزراء يف املصادر املكتوبة‪.‬‬ ‫األول يوجد يف مقدمة ساحة كبرية وكانت تدخله الخيول وكان معدا ً لألنشطة االستعراضية‬ ‫الكبرية وقد تجمعت من حوله فضاءات إدارية أخرى للقرص‪ .‬وإذا ما كان تحديد هذا املوقع‬ ‫صحيحاً فقد لعب هذا املبنى دورا ً مهامً يف سري مراسم الخليفة إذ كانت تنتظر فيه وفقاً‬ ‫لدرجات تراتبية بعض املجموعات التي كان الخليفة يستقبلها يف قاعة االستقباالت السياسية‪،‬‬ ‫عىل وجه الخصوص السفراء والقريشيون أعضاء القبيلة التي تنتمي إليها األرسة األموية‬ ‫الحاكمة‪.17‬‬ ‫وعىل مقربة منه كانت دار الوزراء التي تضم مقر مستشارية الدولة‪ :‬وكانت تصدر عنه‬ ‫شهادات االعتامد التي تثبت ملكية أو حيازة أر ٍ‬ ‫اض معينة أو حصون‪ ،‬وتُ نح الهدايا العينية‬ ‫املتنوعة أو النقدية عن تلك الخدمات التي تقدم وال ًء للخليفة وأمن الدولة‪ .‬وعليه فهو مكان‬ ‫إداري عىل نحو طاغ وفيه منصات للوزراء ومحفوظات للوثائق السياسية‪.‬‬ ‫مجموع املباين التي ظهرت يف هذه املنطقة يوضح وجود مركزية إدارية ينبغي ربطها‬ ‫بإعادة تنظيم خدمات الدولة التي أقرها عبد الرحمن الثالث يف سنة ‪ .18955‬ومع هذا التعديل‬ ‫ال بد لنا من ربط تعيني الحاجب يف السنة األوىل من خالفة ال َحكم‪ ،‬وهو الذي سيضطلع بأعىل‬ ‫مراتب القيادة يف الجهاز اإلداري للخليفة ومن ثم كان ال بد من بناء دار له تتناسب ومكانته‪.‬‬ ‫وكان ملقر إقامة الحاجب جعفر الصقيل الرحبة ثالثة فضاءات معامرية مختلفة وقد أقيم يف‬ ‫مكان كانت تشغله سابقاً ثالثة منازل تم هدمها‪.19‬‬ ‫‪ 17‬أنظر املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.494‬‬ ‫‪ 18‬هذا التعديل تجسد يف تقسيم مجموعات إدارة الخالفة إىل أربعة مكاتب‪ ،‬كل واحد منها بقي تحت إدارة وزير‪ .‬املعلومات‬ ‫التي قدمها ابن عذاري نقلها مؤلفون عدة‪ ،‬من بينهم محمد مواك (‪،)1991( )Mohamed Meouak‬‬ ‫‪Pouvoir souverain, administration centrale et élites politiques dans l’Espagne umayyade (IIe-IVe/VIIIe‬‬‫‪Xe siècles). Helsinki: Academia Scientiarum Fennica, pp. 36-47 y 55-56.‬‬ ‫‪ 19‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Antonio Vallejo Triano, Alberto J. Montejo Córdoba y Andrés García Cortés (2004), «Resultados‬‬ ‫‪preliminares de la intervención arqueológica en la llamada “Casa de Ya‘far” y en el edificio de “Patio‬‬ ‫‪de los Pilares” en Madinat al-Zahra», Cuadernos de Madinat al-Zahra, v, pp. 199-239.‬‬

‫‪126‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫وإن كان مهامً التحوير الذي أدخل عىل املدرج العلوي بوضع املركز اإلداري للدولة فيه‪،‬‬ ‫فقد كان أكرث أهمية منه ما تم يف املنطقة الواقعة أسفل القرص‪ .‬فقد كانت هناك ثالثة مبانٍ‬ ‫مختلفة وحديقة مع شبكة من السواقي وبركة واحدة يف األقل تم تحويرها متاماً لتشكل‬ ‫املنطقة البالطية االستثنائية كام وصلتنا‪ .‬ويتألف من مجلس عبد الرحمن الثالث يف املقدمة‬ ‫ومبنى ذي محور عريض اختفى متاماً جراء أعامل النهب تحيط به أربع برك وما أطلق عليه‬ ‫بالجناح املركزي وجناح خاص بالغرف امللحقة باملجلس يف جانبه الشاميل الرشقي وكلها تقع‬ ‫يف حديقة كبرية بشكل مربع مستو ٍ(مخطط رقم ‪.)2‬‬ ‫الجزء األسايس من هذه املنطقة املدرجة كانت تحتله قاعة االستقباالت السياسية‪ ،‬وقد‬ ‫بناها الخليفة عبد الرحمن الثالث بني عامي ‪ 953‬و‪ 957‬وهو ما تؤكده الكتابات املنقوشة‬ ‫الكثرية (صورة رقم ‪ .)3‬هذا املبنى حددناه مبا سمي يف املصادر باملجلس الرشقي‪ ،‬وكان مرسحاً‬ ‫شهد الجزء األكرب من مقابالت السفراء واالحتفاالت الدينية اإلسالمية السنوية الكبرية –عيد‬ ‫الفطر وعيد األضحى– يف السنوات األخرية من حكم عبد الرحمن الثالث وخالل فرتة حكم‬ ‫الخليفة الحكم الثاين كلها‪ .20‬وقد مر به كبار رجال الدولة يف ذلك العرص‪ ،‬سواء من العامل‬ ‫املتوسطي أم من اإلمرباطورية الجرمانية وملوك املاملك املسيحية يف شبه جزيرة أيبرييا‪ ،‬من‬ ‫بينهم (تودا) ملكة نربة وسانشو الكراسو وملك ليون أوردونيو الرابع وسفراء كونت بو ّريل يف‬ ‫برشلونة وسفراء كونت قشتالة وسفري اإلمرباطور البيزنطي يوح ّنا األول زميسيك‪ ،‬ويف مناسبات‬ ‫عدة م ّر ممثلون مختلفون لبني حسن األدارسة الذين قدموا الطاعة للخليفة‪.‬‬

‫‪ 20‬أنظر أنطونيو باييخو تريانو (‪،)2010‬‬ ‫‪La ciudad califal de Madinat al-Zahra. Arqueología de su arquitectura. Op. Cit.‬‬

‫‪127‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬ ‫صورة رقم ‪ .3‬داخل مجلس عبد الرحمن الثالث‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬املجمع األثري ملدينة الزهراء‪.‬‬

‫ومام الشك فيه أن اليشء الفريد يف املبنى هو تصميامت زينته االستثنائية التي تحتل‬ ‫كل مساحة الجدران وبضمنها الواجهة وتتشكل عىل ارتفاع من ثالث مستويات‪ .‬تركزت‬ ‫املستجدات األكرث أهمية يف املنطقة السفىل‪ ،‬بني عارضة الرخام وبداية األقواس حيث يوجد‬ ‫أكرث من ستني لوحاً كبريا ً من الحجر بتكوينات لهيكل مشجر وقد أقيمت استلهاماً للطبيعة‬ ‫فكلها فيها جذر وجذع مركزي مقلوب يف محور متناسق‪ ،‬مع كأس شجرة ومجموعة أفرع‬ ‫متشابكة األوراق‪ .‬هذه األلواح التي متثل أشجار الحياة تشكل إحدى املجموعات األكرث أهمية‬ ‫يف التشكيل اإلسالمي عىل مر العصور‪ .‬وقد نُسبت إليها لغة نباتية جديدة‪ ،‬ذات ثراء استثنايئ‬ ‫وتنوع فذ إذ ال يوجد فيه عنرصان متامثالن ويالحظ فيه تأثري عبايس جيل ونفذتها ٍ‬ ‫أيد ليست‬ ‫من األندلس‪ ،‬رمبا من مركز إسالمي عىل اتصال بالرشق‪ .‬هذا التصميم الذي يشمل إفريزا ً‬ ‫علوياً يحتوي عىل نجوم ترمز إىل الكون فُرس برمزية تتعلق بعلم الفلك كمشهد من خالله‬ ‫يتخذ الخليفة الرشعية بوصفه الحاكم األول الذي يأمر وينظم العامل الطبيعي وميارس السلطة‬ ‫‪128‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫من خالل نظام هرمي تنبثق منه بقية الدولة‪.21‬‬ ‫كانت الفعاليات التي تقام يف مجلس الخليفة تتم وفقاً ملراسم صارمة من خالل ترتيبات‬ ‫وتحركات هي انعكاس للمراسم العباسية والفاطمية وهدفها تعظيم صورة الخليفة‪ .22‬لكنها مل‬ ‫تقترص عىل داخل القاعة حيث كانت تجرى املقابالت نفسها‪ ،‬بل أثرت عىل املجموع الكامل‬ ‫للمنطقة املدرجة‪ ،‬خاصة الجناح املركزي الذي لعب دورا ً مهامً يف كافة االحتفاالت‪ ،‬ووصل‬ ‫إىل أبعد من هذا ليشمل باقي املدينة التي انخرطت يف هذه االحتفاالت من خالل مواكب‬ ‫نُظمت ملصاحبة السفارات‪ .‬وأدخلت تعديالت عىل املرسح العام لهذه االحتفاالت‪ ،‬أي القرص‬ ‫واملدينة يف مجملها‪ ،‬يف عقد ‪950‬م لتعظيم مشهديته وتأثريه ِ‬ ‫الدعايئ‪ .‬فمن ناحية تم توسيع‬ ‫القرص بشكل كبري نحو الرشق‪ ،‬وبذلك متت إطالة مسار املواكب التي كان يحشد لها عدد‬ ‫كبري من الرجال‪ ،‬من مختلف أجهزة الجيش إىل موظفي اإلدارة والسكان بصفة عامة الذين‬ ‫يتم تجهيزهم خصيصاً للمشاركة يف املوكب‪ .23‬أما داخل القرص فينتهي هذا املسار يف قاعة‬ ‫االستقباالت السياسية (املجلس الرشقي) والوصول إليه كان يتم عرب ثالث مراحل‪ ،‬إحداها باب‬ ‫السدة وهو الذي حددناه بالرواق الكبري املكون من ‪ 14‬قوساً وقد تم إعادة بناء أربعة منها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫هذا الباب الخاص باالحتفاالت ظهر مبقتىض هذا التعديل أيضاً‪.‬‬

‫األفول والهجران‬

‫ليس لدينا ما يثبت بناء املباين الجديدة أو إدخال تعديالت عىل السابقة إثر وفاة الحكم‬ ‫الثاين وتعيني ابنه هشام الثاين خليفة يف عام ‪ ،976‬وليست لدينا أخبار عن إقامة حفالت‬ ‫استقبال يف القرص‪ ،‬األمر الذي يعني أن كافة األنشطة السياسية واالحتفالية قد اختفت من‬ ‫‪ 21‬مانويل أثيني أملانسا (‪ ،)1995‬مواد وفرضيات لرشح مجلس عبد الرحمن النارص‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪ .191-188‬مانويل‬ ‫أثيني أملانسا (‪« ،)1988‬حول دور األيديولوجية يف خصوصية التشكيالت االجتامعية‪ .‬التكوين االجتامعي اإلسالمي‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Hispania, lviii (200), pp. 949-968; Antonio Vallejo Triano (2010), La ciudad califal de Madinat al‬‬‫‪Zahra. Arqueología de su arquitectura. Op. Cit., p. 464.‬‬ ‫‪ 22‬حول الربوتوكول داخل املجلس‪ ،‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Miquel Barceló Perelló (1995), El Califa patente: el ceremonial omeya de Córdoba o la escenificación‬‬ ‫‪del poder, en Madinat al-Zahra. El Salón de Abd al-Rahman III. Op. Cit., pp. 155-175.‬‬ ‫‪ 23‬أنظر‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬الربوز العسكري يف سبتمرب ‪ 971‬لالحتفال بدخول بني جزار مدينتي قرطبة والزهراء‪.‬‬ ‫‪Ibn Hayyan (1967), Anales palatinos del califa de Córdoba al-Hakam II, por Isa ibn Ahmad al-Razi‬‬ ‫‪(360-364 H. = 971-975 J. C.). Op. Cit., pp. 64-74.‬‬

‫‪129‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫مدينة الزهراء‪ .‬كل يشء يشري إىل أن املدينة قد تجمدت وتحجرت‪ ،‬وابتدا ًء من تلك اللحظة‬ ‫بدأت مرحلة انحطاطها‪ ،‬يف البداية كان ذلك بطريقة رمزية وبعد ذلك بشكل فعيل عندما‬ ‫ُعني يف عام ‪ 978‬ابن أيب عامر‪ ،‬املعروف باملنصور حاجباً ومارس السيطرة عىل الدولة ورشع‬ ‫ببناء مدينة ملكية جديدة رشقي قرطبة‪ ،‬هي مدينة الزاهرة التي نقل إليها مجموع إدارة‬ ‫الدولة من الزهراء‪.‬‬ ‫أما األخبار التالية التي تتحدث عن استعادة املدينة لدورها الرئيس فتشري إىل الفتنة‬ ‫التي وقعت يف األعوام ‪ 1013-1010‬بعد احتال ٍل جزيئ للمدينة عىل يد قوات أحد املتصارعني‬ ‫عىل الخالفة‪ ،‬هو سليامن املستعني‪ ،‬وعمليات السلب والنهب املتوالية ما أدى إىل مغادرة‬ ‫السكان الذين كانوا ال يزالون يعيشون داخل أسوارها‪ .‬وانطالقاً من تلك اللحظة بدأت مرحلة‬ ‫جديدة هي مرحلة الحنني الشعري‪ ،‬واستمرت أعامل النهب بكثافة متفاوتة تبعاً لطبيعة‬ ‫املواد واستمر هذا الحال حتى القرن السابع عرش عىل األقل‪ .‬وعىل مدى هذه الفرتة الطويلة‬ ‫نسبت بقايا املدينة املهجورة إىل الحقبة الرومانية‪ ،‬وهكذا فقد ُعرفت بـ «قرطبة القدمية»‬ ‫حتى تم الكشف النهايئ عن هويتها يف عام ‪ 1832‬بوصفها مدينة الزهراء‪ ،‬املدينة التي بناها‬ ‫عبد الرحمن الثالث‪.‬‬

‫استعادة الرتاث‬

‫إن صورة مدينة الزهراء التي قدمناها توا ً‪ ،‬أي ما نعرفه عن مدينة الخالفة هذه‪ ،‬ال تقوم‬ ‫عىل معلومات تم الحصول عليها من املصادر العربية بل من خالل البحث الدقيق الذي أجري‬ ‫منذ بداية الحفريات يف عام ‪ 1911‬عىل أيدي أجيال مختلفة من الباحثني‪.‬‬ ‫وإزاء مجموعات أثرية أخرى وصلت بشكل أو بآخر كاملة إلينا‪ ،‬ميكن فهم مدينة الزهراء عىل‬ ‫أنها نتاج البحث األثري الذي بدأ العمل به منذ قرن يف املنطقة القدمية من مدينة الحكم األموية‪.‬‬ ‫وما ميكن مشاهدته اآلن يف مدينة الزهراء هو نتاج عمل طويل من التنقيبات األثرية نهضت به‬ ‫أجيال من الدارسني الذين أنجزوا مهاماً بحثية يف إطار املؤسسة الرتاثية نفسها التي ترشف عىل‬ ‫املنطقة األثرية أو من خالل هيئات أكادميية أخرى‪ .‬إنها حقيقة دامغة ولهذا فإن ما يُعطي حياة‬ ‫للمجموعة األثرية يف مدينة الزهراء ويجعلها قادرة عىل اجتذاب آالف الزوار الذين يلتقون كل‬ ‫عام هناك إمنا هو التفسري الذي توصل إليه البحث التاريخي واألثري حول حارضة الحكم األموية‬ ‫القدمية‪ .‬ببساطة نقول إنه لوال هذا التفسري ملا كان ملدينة الزهراء وجود‪.‬‬ ‫‪130‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫البدايات‬

‫منذ بداية األعامل عىل يد ريكاردو بيالثكيث بوسكو‪ ،‬فإن الحصيلة الذي تراكمت طوال‬ ‫القرن العرشين كانت هائلة‪ .‬لقد متت الحفريات أساساً يف القطاع املركزي من القرص وكانت‬ ‫غاية يف الصعوبة سواء من ناحية صالبة األنقاض مبختلف مستوياتها التي كانت تُخفي‬ ‫الهياكل (وصل الحفر إىل ما بني ‪ 5‬و‪ 6‬م يف بعض األمكنة) وكذلك بسبب كثافة عمليات نهب‬ ‫الهياكل األثرية‪ ،‬ما جعل بعض مبانيها يحتفظ فقط باألسس‪ ،‬واألسوأ من ذلك هو العثور‬ ‫فقط عىل الحفر التي كانت ترتكز عليها تلك األسس‪ .‬وقد ألزمنا هذا الوضع بتشغيل مرشوع‬ ‫خاص باإلضافات النظامية لهياكله ابتدا ًء من عام ‪ 1930‬باستخدام أجزاء من الحجارة الكبرية‬ ‫املكرسة التي ظهرت يف الحفريات التي بدأت يف السور الشاميل للمدينة ويف الجدران الساندة‬ ‫للمدرجات واستمرت الحقاً لتشمل كافة املباين‪ .‬وبهذا فقد أخذت الخطوط الرئيسة للتنظيم‬ ‫العمراين للقرص ومختلف مبانيه يف التجسد واكتساب حجم إىل درجة الوصول إىل صورة‬ ‫لهيكل القرص مبستوياته ومبانيه املختلفة التي نعرفها اليوم‪.‬‬ ‫كان للعمل يف السنوات األوىل سواء يف املوقع ويف تحديد هوية بعض عنارص األرايض‬ ‫املرتبطة مبدينة الزهراء أثر يف الحامية التي ُمنحت له كأثر تاريخي وطني يف عام ‪ 1923‬كام‬ ‫حدث مع قناة مياه بالديبوينتيس العائدة لفرتة الخالفة و ُمنية العامرية يف عام ‪.1931‬‬ ‫ويف الوقت نفسه فقد صاحبت هذه األعامل أنشطة أخرى تتعلق بإعادة تركيب املواد‪،‬‬ ‫وعىل وجه الخصوص الزينة املعامرية املتمثلة بزخارف التوريق‪ .‬إذ تقدم املباين الرئيسة يف‬ ‫مدينة الزهراء‪ ،‬خاصة قاعات التمثيل السيايس واملساكن‪ ،‬تصميامت للزينة أعدت عىل أساس‬ ‫االستعانة بنوع من الحجارة املختلفة عن حجارة البناء وقد وصلت إلينا بشكل غري مكتمل‬ ‫ومجتزأة مفككة إىل آالف القطع التي تظهر يف مختلف مستويات أنقاض هذه املباين‪ .‬وكان‬ ‫ترميم مجلس عبد الرحمن الثالث‪ ،‬قاعة عرش الخالفة األموية الذي تم التنقيب عنه يف عام‬ ‫‪ ،1944‬مبثابة مرشوع عظيم للبحث والعمل يف مدينة الزهراء خالل النصف الثاين من القرن‬ ‫العرشين وال يزال حتى اليوم غري مكتمل بعد‪ .‬ويف أعقاب الحفريات التي متت فيه بدأت‬ ‫عملية دراسة معقدة وذلك لتحديد مواده وإعادة تركيبها بغية التعرف عىل مختلف العنارص‬ ‫املكونة من ألواح وأحجار العقد املستخدمة والركنيات والحواجز والصنيفات واألفاريز التي‬ ‫سمحت بإعادة تركيب معامره يك يتم بدء إعادة املواد إىل مكانها األصيل املؤكد أو املفرتض‪.‬‬ ‫هذه املهمة املعقدة جدا ً والذكية التي بدأها وطورها فيلكس إرنانديث وتابعها رفائيل‬ ‫مانثانو‪ ،‬وأنا يف السنوات األخرية‪ ،‬دعمت بعمل مهنيني آخرين يربز من بينهم املستعرب مانويل‬ ‫‪131‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫أوكانيا واملرمم سالبادور إسكوبار‪ .‬وكالهام واصل التقدم يف البحث الذي بدأه إرنانديث حتى‬ ‫بداية املرحلة األوىل من حكومة إقليم األندلس حيث استمرا بالتعاون من خالله وبهذا فقد‬ ‫أرسيا جرسا ً حقيقياً وقناة لنقل املعارف املكتسبة عىل طول املراحل العملية الستعادة هذا‬ ‫الرتاث‪.‬‬

‫الدعم املؤسيس‬

‫ابتدا ًء من عام ‪ 1985‬دشنت مرحلة جديدة من العمل تحت أمرة اإلدارة املحلية لحكومة‬ ‫إقليم األندلس واإلدارة التابعة لها وقد متيزت مبا ييل‪:‬‬ ‫ •إضفاء الطابع املؤسيس عىل إدارة املوقع بإنشاء مؤسسة تعنى باآلثار تحت اسم‬ ‫«املجمع األثري» يضمن العمل اإلداري املستمر لإلرشاف عىل املوقع‪.‬‬ ‫ •االهتامم القائم عىل املعرفة والحفاظ عىل األرايض وبالتايل عىل أدوات الحامية من‬ ‫خالل إعالنها منطقة أثرية ووضع خطة خاصة للحامية تطبيقاً للقواعد القانونية‬ ‫املتعلقة بحامية الرتاث رقم ‪ .85/16‬يضم املوقع اليوم فضاء محمياً مساحته حوايل‬ ‫‪ 1500‬هكتار باإلضافة إىل آثار املدينة ومحيطها كله وهي ذات قيمة عالية كمنظر‬ ‫عام وأثري وحيث يوجد التنظيم اإلقليمي التاريخي ملدينة الزهراء املؤلف من‬ ‫جسور وقنوات مياه وأجزاء من طرق ومواقع أثرية أخرى‪.‬‬ ‫ •االهتامم بالبحث العلمي كمحرك ملوقع أثري ذي تعقيد استثنايئ وبدونه يغدو‬ ‫املوقع محض مجموعة من الهياكل التي تفتقر إىل املعنى‪ .‬وينظر إىل البحث أيضاً‬ ‫عىل أنه عملية البد لها من قيادة وتوجيه كافة األعامل التي تتم يف املوقع األثري‪.‬‬ ‫ •القناعة بأن إدارة اآلثار يجب أن تكون مستدامة‪ 24‬وتقوم عىل أساس التوازن السليم‬ ‫بني مختلف أعامل الوصاية عىل املوقع كاإلدارة والحامية والبحث واملحافظة والنرش‪.‬‬

‫‪ 24‬هذا يعني أنه يجب االحتكام إىل ثالثة مبادئ أساسية‪ :‬كل أداء يجب أن يقوم عىل أساس البحث الدقيق‪ ،‬كام يجب أن‬ ‫يسمح باالستدراك والتصحيح‪ ،‬واألخذ يف الحسبان األجيال القادمة‪.‬‬

‫‪132‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫إن أي خلل يف هذا التوازن الذي من شأنه أن يقود إىل مزيد من التطور إلحداها عىل‬ ‫حساب الباقي سيؤدي بالرضورة إىل تغيريات يف الوصاية عىل املوقع‪.‬‬ ‫ •رضورة أن يقوم النرش عىل أساس نقل املعارف املستمدة من مجال البحث العلمي‪،‬‬ ‫وينبغي أن يسهم يف نقل ونرش القيم الكثرية املتنوعة املوجودة يف املدينة وأراضيها‪،‬‬ ‫ويف محو األفكار النمطية التي تعتم معانيها املتعددة‪.‬‬ ‫ •إضفاء الطابع املؤسيس عىل إدارة املوقع بإنشاء مؤسسة اسمها «املجمع األثري»‬ ‫تضمن األداء اإلداري املستمر يف الوصاية عىل املوقع‪.‬‬ ‫هذا الزخم الذي حظي به البحث أسفر عن تقدم ملحوظ عىل ثالثة مستويات من‬ ‫العمل‪ .‬عىل املستوى اإلقليمي من خالل معرفة تف ّرد وخواص املوقع وظروف بناء املدينة‪ ،‬مع‬ ‫األخذ بعني االعتبار الجوانب الطوبغرافية واملتعلقة باملشهد الطبيعي كرشط أساس للتخطيط‬ ‫الحرضي ملدينة الزهراء‪ .‬وقد أُحرز تقدم يف هذا املجال يف التعرف عىل البنى التحتية األساسية‬ ‫التي أقيمت يف املدينة لتطويرها‪ .‬وعىل املستوى الحرضي ملجموع املدينة فقد تم التوصل إىل‬ ‫صورة كاملة لها مع تقسيمها إىل مناطق تشغيلية كانت غري معروفة حتى تلك اللحظة (رسم‬ ‫توضيحي رقم ‪ .)1‬وتربز العالقة الهرمية بني القرص واملدينة والتثبت من وجود تخطيط داخيل‬ ‫صارم يفرس من بني أشياء أخرى وجود مناطق كبرية غري عمرانية يف وسط املدينة‪ ،‬مناطق مل‬ ‫ت َنب أبدا ً مقارنة مبنطقة الواجهة الجنوبية للقرص‪.‬‬ ‫هذا وقد سمح البحث عىل مستوى صغري جدا ً يف القرص خالل السنوات األخرية بوضع‬ ‫تفسري شامل ومتامسك حول كافة البنى التي تشكله‪ .‬فقد تم إيضاح التمفصل العضوي‬ ‫ملختلف مبانيه وتناغم تخطيطه ومراحل بنائه املختلفة منذ تأسيسه حتى هجره‪ ،‬وبشكل‬ ‫خاص مدى وأهمية عمليات إصالحه وتغيريه التي أدت إىل تغيري مالمح القرص متاماً‪.‬‬ ‫وبالنسبة لعملية الصيانة فقد شهدت مدينة الزهراء خالل العقدين األخريين إسرتاتيجية‬ ‫استعادية تهدف إىل التدخل‪ ،‬عىل نحو منظم ومرحيل‪ ،‬يف الفضاءات املختلفة التي تكون‬ ‫املنطقة السكنية للقرص وذلك من أجل تسهيل دخوله بشكل عام إذ كان قد أغلق وتعذرت‬ ‫الزيارات‪ .‬وتم تحديد منوذج للتدخل املتكامل يف هذه املباين يشمل كافة العنارص التأسيسية‪،‬‬ ‫بدءا ً بالبنى والحيطان حتى األثاث املستخدمة والعنارص األخرى التزيينية‪ .‬والهدف األخري‬ ‫‪133‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫يكمن يف تحسني عملية الصيانة وتقديم قراءة للمباين توضح كافة وجوه التف ّرد والخصوصيات‬ ‫التي متيزه مع تقديم خربة جاملية وفكرية وحواسية تؤدي إىل االتصال بالواقع األصيل وفهم‬ ‫الفضاء واملواد املستخدمة فيه ووظائفها األولية‪.‬‬ ‫هذا النوع من التدخل حظي بالعرفان الدويل واستحق جائزة أوروبا نوسرتا يف عام ‪2004‬‬ ‫التي منحت عن عملية ترميم املنطقة املعروفة بدار جعفر‪.‬‬ ‫وقد تطورت منهجية التدخل الشامل هذه خالل السنوات األخرية وتجسدت يف تدخل‬ ‫جديد يف مجلس عبد الرحمن الثالث الذي كان هدف أول مرحلة من مراحل الرتميم الرامي‬ ‫إىل حل مشكالت الرطوبة التي تؤثر يف املبنى وبالتايل يف زينته‪ .‬وقد سمحت الحفريات‬ ‫املنجزة مبعرفة اتساع الطبقة الصخرية التي أقيم عليها املجلس وإجاميل خطوط قطع ألواح‬ ‫الرخام‪ .‬وشمل التدخل أيضاً وضع أرضية من هذه املادة املستخرجة من محاجر إيسرتميوز‬ ‫(الربتغال)–من حيث يرِد هذا الرخام– واستخدمت أيضاً القطع األصلية الباقية من املبنى‪.‬‬ ‫أحد املعامل البارزة األكرث أهمية يف هذه السنوات كان هو االحتفال يف عام ‪ 2001‬مبعرض‬ ‫«ازدهار األمويني القرطبيني»‪ .‬ورغم أن معرضاً مشابهاً سبقه يف باريس فقد ضم ألول مرة‬ ‫مجموعة من القطع املهمة ما سمح بالتعمق يف مختلف جوانب األرسة الحاكمة وإنجازاتها‬ ‫عىل املستوى الفني والعلمي واألديب‪ ،‬وهو ما نرش يف مطبوعتني‪ .25‬ومن بني أهم نتائج املعرض‬ ‫الكربى كان االعرتاف مبدينة الزهراء وعرضها عىل املستوى الوطني والدويل األمر الذي انعكس‬ ‫يف ارتفاع أعداد الزوار القادمني من مختلف أرجاء العامل‪.‬‬

‫‪ 25‬أنظر املجلد رقم ‪ 1‬ماريا خيسوس بيغريا (‪ )Mª Jesús Viguera‬و كون ِث ْبثيون كاستيو )‪،)2001( (Concepción Castillo‬‬ ‫‪El esplendor de los omeyas cordobeses: la civilización musulmana de Europa occidental. Exposición en‬‬ ‫‪Madinat al-Zahra, 3 de mayo a 30 de septiembre de 2001: estudios. Granada: Consejería de Cultura,‬‬ ‫;‪a través de la Fundación El Legado Andalusí‬‬ ‫واملجلد الثاين من العمل نفسه لرافائيل لوبيث غومثان (‪ )Rafael López Guzmán‬و أنطونيو باييخو (‪،)2001‬‬ ‫‪Catálogo de piezas. Barcelona: Juan Carlos Luna Briñardeli.‬‬

‫‪134‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫املتحف الجديد‬

‫إن إسرتاتيجية تطوير مدينة الزهراء حيال املستقبل تتجسد يف متحفها الجديد ‪ .‬فقد‬ ‫كانت الحاجة إىل هذه البنية التحتية قد طرحت منذ بداية الحفريات يف مطلع القرن العرشين‬ ‫عىل يد ريكاردو بيالثكيث بوسكو وكانت قد تكررت من خالل دعوة مختلف املسؤولني عن‬ ‫املوقع بدءا ً باللجنة التي تلت وفاة هذا املهندس املعامري‪ ،‬مرورا ً بفيليكس إرنانديث‪ ،‬ومؤخرا ً‬ ‫برافائيل مانثانو‪ .‬وقد قدم األوليان حالً مؤقتاً ببناء مبنى صغري يقع إىل جانب مدخل املوقع‪،‬‬ ‫يف حني حاول ريكاردو مانثانو استخدام الهيكل األثري نفسه كمكان لجمع املواد والبدء‬ ‫بإعادة إنشاء املجلس العلوي الكبري كمتحف وهو العمل الذي بقي بدون استكامل‪.‬‬ ‫وبهذا الهدف الذي العودة عنه وضع يف عقد التسعينات (‪« )1990‬برنامج لالستخدام»‬ ‫أدرجت فيه فكرة املتحف بتو ّخي ثالثة أهداف أساسية‪:‬‬ ‫‪26‬‬

‫ •رشح تاريخ مدينة الزهراء وقيمها املتعددة عرب نقل املعرفة الناتجة عن البحوث‬ ‫الجديدة مبا يسمح بالتحديث والتجديد الدامئني ألنشطة النرش والرتويج‪.‬‬ ‫ •جمع كل مجموعة املواد األثرية الناتجة عن أعامل الحفريات وحاميتها وتقدميها يف‬ ‫قاعات العرض ويف أمكنة التخزين ومناطق الحفظ‪.‬‬ ‫توفري الفضاءات واملوارد املناسبة لتطوير إمكانات املوقع املتعددة كاملختربات وورش‬ ‫الرتميم واملكتبة‪.‬‬ ‫ومن أجل وضع املرشوع فقد نظمت مسابقة دولية لطرح األفكار‪ ،‬وقد فاز بها املعامريان‬ ‫فوينسانتا نييتو وإنرييك سوبيخانو وقد قاما بتصميم مبنى عىل شكل مستطيل ذي معامر‬ ‫اختزايل (أسلوب املينيامليزم) مبساحة ‪ 7000‬مرت مربع‪ .‬بدأت األشغال عام ‪ 2005‬وافتتح يف‬ ‫أكتوبر عام ‪.2009‬‬ ‫‪ 26‬الجوانب املتعلقة باملتحف ميكن االطالع عليها يف‪:‬‬ ‫‪Antonio Vallejo Triano (2011), Un Museo para Madinat al-Zahra, en Consejo Internacional de‬‬ ‫‪Museos. 6.º Encuentro Internacional. Actualidad en Museografía: Bilbao, del 17 al 20 de junio de 2010.‬‬ ‫‪Madrid: Consejo Internacional de Museos (icom, por sus siglas en inglés) España, pp. 105-123.‬‬

‫‪135‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫يقع املتحف خارج السور الذي يضم مدينة الخالفة إىل جانب مسار إحدى الطرق الرئيسة‬ ‫التي اختفت متاماً‪ ،‬عىل نحو ال يؤثر عىل الحفريات املستقبلية وال يقيدها ‪( 27‬صورة رقم ‪.)4‬‬ ‫وإحدى القيم األكرث بروزا ً ووضوحاً تتمثل بالطريقة التي أقيم بها عىل األرض‪ .‬فإذا كان املكان‬ ‫املختار مسبقاً يقدم بعض املفاتيح املتصلة باالحتياطات التي يجب اتخاذها بخصوص املوارد‬ ‫املتعلقة باملنظر الطبيعي‪ ،‬فاملرشوع يتعمق كثريا يف هذا التقييم من خالل قراءة املشهد مبا‬ ‫يجعله يتكامل متاماً مع هذا املنظر الطبيعي ‪ .‬لذا فهو متحف «صامت» ال يبحث عن دور‬ ‫بارز وال يريد التنافس مع املدينة وال مع املنظر الطبيعي املندغم فيه‪ ،‬إنه متحف «منط ٍو عىل‬ ‫نفسه» تكمن قيمته يف األسلوب الذي يندمج فيه مبحيطه‪ ،‬شأنه يف هذا شأن عامرته الداخلية‬ ‫التي تتميز بالنظام والنظافة وانفتاح املساحات‪.‬‬ ‫صورة رقم ‪ .4‬متحف مدينة الزهراء‪ .‬منظر خارجي‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬املجمع األثري ملدينة الزهراء‪.‬‬

‫أهم مستجدات الربنامج املتحفي تتجىل من خالل فهم املتحف كمجمع وحيد يف خدمة‬ ‫معرفة املوقع األثري بشكل أكرب وأحسن‪ .‬واملبنى كله قابل للزيارة عرب جولة دائرية تسمح‬ ‫بعرض وفهم مختلف مناطقه ووظائفها‪ ،‬فكل واحدة منها تسهم بداللة معينة يف الخطاب‬ ‫الدائر حول مدينة الخالفة وتاريخها وقيمها واستعادتها‪.‬‬ ‫ويف القاعة الكربى يُعرض عىل الجمهور رشيط سمعي برصي تحت عنوان «مدينة الزهراء‪:‬‬ ‫املدينة املتألقة» يرشح ماهية مدينة الزهراء مبساعدة تقنيات الواقع االفرتايض‪ .‬أما املعرض‬ ‫الدائم فريتكز من جانبه عىل أربعة أقسام مرتبطة ببعضها ومجهزة مبوارد تكنولوجية واسعة‬ ‫‪ 27‬تقرر اختيار هذا املوقع يف الخطة الخاصة بحامية مدينة الزهراء التي حررها مهندس التخطيط الحرضي خوسيه مينينديث‬ ‫دي الوركا نابيا‪-‬أوسوريو‪.‬‬

‫‪136‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫بهدف الوصول إىل فهم أفضل لتاريخ املدينة وأهميتها ضمن فضاء البحر املتوسط يف القرن‬ ‫العارش(صورة رقم ‪ .)5‬ويضم ‪ 166‬قطعة أصلية ويرشح من خالل خطاب تعليمي القضايا‬ ‫العامة املرتبطة بالسياق التاريخي والثقايف الذي ظهرت فيه مدينة الزهراء فضالً عن قضايا‬ ‫معينة أخرى حول إنشائها وعالقتها بقرطبة وحول سكانها‪ ،‬من هم وكيف عاشوا يف فضاءاتها‬ ‫املختلفة وكيف حدثت عملية تدمري مدينة الخالفة‪.28‬‬ ‫صورة رقم ‪ .5‬متحف مدينة الزهراء‪ .‬قاعة العرض الدائم‪.‬‬

‫مصدر‪ :‬تصوير فوتوغرايف‪ /‬روالن هالبي‪.‬‬

‫تحوال واضحاً يف املعرفة واالنتقال من‬ ‫‪ 28‬برنامج التخطيط املتحفي لقاعة العرض وضعه األستاذ مانويل أثيني أملانسا ويشمل ً‬ ‫مجال البحث إىل النرش‪ .‬املرشوع املتحفي من أعامل مهنديس العامرة الذين وضعوا املرشوع وعامل املتاحف خوان ب‪.‬‬ ‫رودريغيث فرادي‪.‬‬

‫‪137‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫وتعرض يف املتحف بعض من أفضل قطع الثقافة اإلسالمية يف القرن العارش‪ .‬ومن بني‬ ‫خواصه الرئيسة هو التصور الذي أقيم من خالله كمتحف مفتوح‪ ،‬فالجولة يف املعرض الدائم‬ ‫تتكامل من خالل النظرة الداخلية للمخزنني الرئيسني اللذين يضامن مجموعته الفنية‪ ،‬األول‬ ‫الخاص باملواد املعامرية من الحجر والرخام والثاين خاص بزخارف التوريق‪ .‬هذه الرؤية‬ ‫تسمح مبعرفة جزء كبري من القطع غري املعروضة وكذلك تأمل العمل الداخيل للمؤسسة –من‬ ‫حيث تصنيف القطع وتنظيفها‪ ،‬إلخ– يف هذه الفضاءات‪.‬‬ ‫فاز متحف مدينة الزهراء بجائزتني دوليتني مهمتني‪ .‬إذ أن متيز عامرة املبنى إىل جانب‬ ‫األفكار املتعلقة بعلم املتاحف واآلثار قد مثال األساس لتصور وعرض املتحف األمر الذي‬ ‫استحق عنه جائزة آغا خان للعامرة لعام ‪ .2010‬وأخريا ً فقد حاز عىل جائزة «محفل املتحف‬ ‫األورويب»‪ ،‬وهي منظمة تعمل برعاية املجلس األورويب الذي أقر له بالقدرة عىل نقل محتويات‬ ‫وقيم تاريخ مدينة الزهراء من خالل جودة برنامجه املتعلق بعلم املتاحف وتصويرها‪ ،‬وذلك‬ ‫مبنحه جائزة املتحف األورويب لعام ‪.2012‬‬

‫املستقبل‬

‫حسن‬ ‫لقد فتح املتحف آفاقاً جديدة أمام مستقبل مدينة الزهراء‪ .‬ومن ناحية أخرى ّ‬ ‫إمكانية فهم املكان بشكل كبري‪ ،‬وبهذا املعنى فقد حدث تقييم مهم ملدينة الزهراء عىل كافة‬ ‫املستويات (االجتامعية والتعليمية والعلمية‪ ،)..‬ألنه أسس بهذا لفهم أهميته التاريخية البارزة‬ ‫واملتعلقة بالتخطيط الحرضي واملعامري والفني‪ ،‬إلخ‪ ،‬وكذلك عكس مدى تعقيده وغناه‬ ‫وإمكاناته الكامنة‪.‬‬ ‫من ناحية أخرى فإن تنوع املوارد اإليضاحية للمتحف يجعل من الرضوري إعادة التفكري‬ ‫يف الوسائل التوضيحية والشارحة يف املوقع نفسه بحيث يستكمل بعضها البعض اآلخر وأال‬ ‫يكون محض تكرار‪ .‬فهناك جوانب ميكن أن ترشح عىل نحو أفضل يف املتحف وذلك من خالل‬ ‫املواد املتنقلة واملوارد املناسبة وأخرى تتطلب الرشح يف املوقع من خالل األدوات والوسائل‬ ‫الخاصة‪ .‬هذا يعني أن املوقع يجب أن يكون موضع إعادة ترتيب متحفي يف املستقبل‪.‬‬ ‫وينبغي أن يخدم موقع املتحف أيضاً إسرتاتيجية التدخل واستعادة فضاء املدينة واملنطقة‬ ‫الجنوبية من مدينة الزهراء‪ .‬كام أن تحديد موقع باب دخول املدينة من الجنوب وذلك‬ ‫باستغالل أحد أبواب الدخول األصلية سيحول يف السنوات القادمة جزءا ً من العمل التنقيبي‬

‫‪138‬‬


‫أنطونيو باييخو تريانو‬

‫الذي يجب أن يجرى يف هذا القطاع لربط طريق املشاة ما بني املتحف واملدينة من خالل‬ ‫السور الجنويب وفضاء املدينة القدمية‪.‬‬ ‫إن إقامة هذا الرابط ينبغي أن تكون هدفاً إسرتاتيجياً للمجمع األثري الذي بدأ يف عام‬ ‫‪ 2007‬بحفريات يف جزء من السور الجنويب وهياكله امللحقة‪ ،‬والبد من إفساح الطريق أمام‬ ‫واحد من أكرب املرشوعات وأكرثها طموحاً يف مجال املتاحف يف بلدنا خالل السنوات املقبلة‪،‬‬ ‫وكذلك تحويل فضاء املدينة التي مل يشملها التنقيب إىل متحف‪ .‬أي مبعنى آخر علينا أن‬ ‫نسهل االتصال بني القرص الذي شملته التنقيبات واملتحف من خالل مسار عرب املدينة التي مل‬ ‫تشملها الحفريات بعد‪ ،‬ويجب أن يُشار ضمنها إىل العنارص األكرث أهمية يف تخطيطها الحرضي‬ ‫(الطرق واملباين وعنارص النسيج الحرضي والفراغات اإلنشائية والفضاءات الزراعية‪ ،)..‬بحيث‬ ‫ميكننا أن نتعرف عىل موقعها الطبوغرايف‪ ،‬وبصفة عامة هيئتها‪ ،‬يك يسمح لهذا املسار بإحياء‬ ‫التجربة الحواسية الجاملية واملعرفية التي عناها االقرتاب التدريجي من الجنوب حتى مقر‬ ‫السلطة‪ .‬إن هذا املرشوع يحتل أهمية قصوى ويجب أن يقوم بوضوح عىل برنامج حفريات يف‬ ‫هذا القطاع وعىل التطوير املكثف لتقنيات التنقيب الجيوفيزيائية والكهربائية واملغناطيسية‬ ‫التي أعطت نتيجة طيبة جدا ً حتى اآلن يف مدينة الزهراء‪.‬‬ ‫اليوم أصبحت مدينة الزهراء موقعاً ذا إمكانيات هائلة ليس فقط الستثنائية مبانيه التي‬ ‫اكتُشفت بل أيضاً لسعة املساحة التي مل يتم فيها التنقيب بعد وهي تعادل ‪ %90‬تقريباً‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬وبالرضورة‪ ،‬ال بد للمستقبل من أن يقوم أيضاً عىل استمرار الربامج الشاملة‬ ‫املتعلقة بصيانة وترميم وتشغيل املوقع ومجموعته األثرية التي تعاين من التوقف منذ‬ ‫بضع سنوات‪ ،‬وعىل تطوير مدينة الزهراء ومتحفها كمركز للبحث والتأهيل‪ ،‬وذلك من خالل‬ ‫التعاون مع املؤسسات والجامعات ذات املرجعية يف مجال علم اآلثار ودراسات عامل العصور‬ ‫الوسطى‪ ،‬وكذلك يف مجال التدخل يف هذه املواقع األثرية وترميمها‪.‬‬

‫‪139‬‬


‫مدينة الزهراء‪ :‬واقع تاريخي وحارض ترايث‬

‫سرية املؤلف‬

‫أنطونيو باييخو تريانو‪ ،‬تخرج يف جامعة مالقة‪ ،‬اختصاص تاريخ العصور الوسطى‪،‬‬ ‫وحصل عىل الدكتوراه من جامعة جيان‪ .‬شغل منصب مدير املجمع األثري ملدينة الزهراء‬ ‫منذ عام ‪ 1985‬حتى عام ‪ .2013‬عضو رشف يف معهد اآلثار األملاين ومدير مجلة «دفاتر‬ ‫مدينة الزهراء» ‪ .Cuadernos de Madinat al-Zahra‬باإلضافة إىل هذا فقد ألف العديد‬ ‫من املطبوعات ذات الطابع العام واملتخصص حول مدينة الزهراء والخالفة األموية يف‬ ‫الغرب‪ ،‬ويربز من بينها «الدليل الرسمي للمجمع األثري»‪.‬‬

‫امللخص‬

‫تتناول الدراسة الحالية بالتحليل مدينة الزهراء من منظورين‪ :‬تاريخي‪-‬أثري وترايث‪ .‬فمن‬ ‫ناحية مثة تصور قائم حول املدينة بوصفها أعظم بناء عمراين للخالفة األموية يف األندلس‬ ‫يف سياق التنافس مع الخالفتني األخريني املنافستني لها العباسية والفاطمية اللتني بنتا أيضا‬ ‫حارضتني كبريتني وجعلتا منهام عاصمتني لدولتيهام عىل التوايل‪ .‬كام ويتم تحليل خصائص‬ ‫عملية التخطيط العمراين ومسرية البناء يف ضوء البحوث األثرية وتوضح األهداف السياسية‬ ‫التي تتجىل يف مختلف التحوالت العمرانية واملعامرية التي حدثت يف القرص منذ تأسيسه‪.‬‬ ‫من ناحية أخرى مثة توضيح لعملية استعادة مدينة الزهراء منذ بداية التنقيبات والتأكيد‬ ‫عىل أن الواقع املادي الذي نراه اليوم يف املوقع األثري‪ ،‬فضالً عن املعرفة املرتاكمة لدينا حول‬ ‫مدينة الخالفة‪ ،‬إمنا يرجع الفضل فيه أساساً إىل البحوث األثرية ‪ .‬كام تبني الدراسة الكشوفات‬ ‫األخرية ملسرية االستعادة هذه‪ ،‬خصوصاً مع بناء متحف مدينة الزهراء‪ ،‬واملستقبل الذي ينتظر‬ ‫املوقع األثري وذلك لالعتبارين اآلتيني‪ :‬أوال‪ ،‬بسبب الحاجة لربط املتحف باملوقع‪ ،‬وثانياً ألنه‬ ‫عىل الرغم من كون مساحة ‪ %90‬من املوقع ال تزال تنتظر التنقيب ال بد للبحث العلمي من‬ ‫أن يكون املحرك املركزي ملدينة الزهراء إذ بسوى ذلك ستتضاءل قيمة املوقع ويغدو محض‬ ‫مركز سياحي‪.‬‬

‫الكلامت املفتاحية‬

‫قرطبة‪ ،‬كوردوبا‪ ،‬مدينة الزهراء‪.‬‬

‫‪140‬‬




‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة‬ ‫التعايش‬ ‫إدواردو مانثانو مورينو‬ ‫يرمز مصطلح العيش املشرتك («التعايش») إىل فرتة يف التاريخ اإلسباين‬ ‫متتد من الغزو األموي اإلسالمي إلسبانيا يف بداية القرن الثامن حتى‬ ‫نهاية مرحلة االسرتداد املسيحي يف أواخر القرن الخامس عرش عندما‬ ‫كان املسلمون واملسيحيون واليهود يف أيبرييا املورية (املسلمة) يعيشون‬ ‫يف سالم نسبي جنباً إىل جنب يف ماملك مختلفة (مع ذلك ويف الوقت‬ ‫نفسه كانت املطالبة املسيحية باألرايض التي غزاها املسلمون مستمرة)‪.‬‬ ‫هذه العبارة كثريا ما تشري إىل تفاعل األفكار الثقافية ما بني املجموعات‬ ‫الثالث وأفكار التسامح الديني‪ .‬وقد استدعى جيمس كارول هذا املفهوم‬ ‫وأشار إىل أنه لعب دورا ً هاماً يف تقريب الفلسفة اليونانية الكالسيكية إىل‬ ‫أوروبا من خالل الرتجامت التي وضعت من اليونانية إىل العربية ومنها‬ ‫‪1‬‬ ‫إىل العربية والالتينية‪.‬‬

‫مبا أن اإلنرتنت قد أصبح مصدرا ً عاملياً للوصول إىل املعرفة‪ ،‬واملفاهيم الواردة فيه– وهي‬ ‫‪ 1‬أنظر «التعايش»‪ ،‬ويكيبيديا‪ :‬يف ‪ 9‬أبريل ‪،2013‬‬ ‫‪«La Convivencia», Wikipedia. The Free Encyclopedia, http://en.wikipedia.org/wiki/La_Convivencia.‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫التي تظهر نتيجة البحث اآلين الرسيع الالهث كعرصنا الحايل– فإنه يعطي فكرة جيدة عن‬ ‫التصورات املتبناة عىل نحو تعميمي التي ميكن تسميتها بالعاملية‪ .‬بهذا املعنى تغدو الفقرة‬ ‫الواردة أعاله ذات داللة بهذا الصدد‪ .‬واملدخل إىل مصطلح التعايش بالنسخة اإلنجليزية‬ ‫لويكيبيديا ميثل يف كثري من الحاالت أول اتصال يقيمه القارئ املهتم بالدراسات اإلسبانية‪،‬‬ ‫هذا املصطلح الذي أصبح يف السنوات األخرية أمرا ً مفروغاً منه ال يف اللغة اإلنجليزية وحسب‬ ‫وإمنا أيضاً يف لغات أخرى (كالفرنسية أو األملانية)‪ .‬ولنالحظ أنه يف الواقع يقدم ملحة عامة عن‬ ‫تاريخ شبه الجزيرة اإليبريية يف العصور الوسطى إذ كان «التعايش» (كذا!) يشري إىل «فرتة»‬ ‫بأكملها متتد ما بني القرن الثامن والقرن الخامس عرش عندما عاش املسلمون واملسيحيون‬ ‫واليهود يف «سالم نسبي»‪ ،‬كل واحد يف مملكته‪ .‬املظهر اآلخر الذي يتم توكيده هو االتصال‬ ‫الثقايف البيني لهذه املجموعات الثالث‪ ،‬ذلك أن هذا «التعايش» ال بد من أن يكون قد شجع‬ ‫الرتجامت من اليونانية إىل اللغة العربية ومن هذه األخرية إىل اللغة العربية أو الالتينية‪.‬‬ ‫من املحتمل أنه نظرا ً لطبيعة املوسوعة اإللكرتونية املعروفة (ويكيبيديا) أن يتم تعديل‬ ‫محتوى هذا املدخل بحيث ميكن أن نعرث يف أي بحث مستقبيل الحق عىل مادة مختلفة أو‬ ‫حتى محسنة للموضوع نفسه‪ .‬وبعيدا ً عن نقص الدقة العلمية لهذا املدخل البحثي‪ /‬املصطلح‬ ‫إال أنه يدل عىل أن العصور الوسطى اإلسبانية باتت مرجعية تاريخية لتوضيح األفكار املتعلقة‬ ‫بالتعايش بني الديانات الساموية الكربى الثالث‪ .‬وميكننا إيراد أمثلة أخرى كثرية‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫فإن املرشوع الشهري لبناء مركز إسالمي يف نيويورك‪ ،‬يف قلب مانهاتن‪ ،‬غري بعيد عن منطقة‬ ‫الصفر التي دمرتها هجامت ‪ 11‬سبتمرب حمل يف البداية اسم «بيت قرطبة» وقد استوحي‬ ‫من املدينة اإلسبانية «حيث تعايش املسلمون واملسيحيون واليهود يف العصور الوسطى خالل‬ ‫فرتة التالقح الثقايف العظيم التي أقامها املسلمون» وفقاً ملا كتبه صاحب املبادرة‪ ،‬اإلمام فيصل‬ ‫عبد الرؤوف‪ .2‬وقد تحدث الرئيس األمرييك باراك أوباما يف خطابه الشهري يف جامعة القاهرة‬ ‫يف يونيو من عام ‪ 2009‬عن مبدأ التسامح يف اإلسالم مذكرا ً باألندلس وقرطبة بإشارة واضحة‪.3‬‬ ‫كام أن العديد من األفالم الوثائقية املصورة يف السنوات األخرية وهي يف مجملها من رشكات‬ ‫‪ 2‬فيصل رؤوف )‪« ،)2010( (Feisal Abdul Rauf‬بناء اإلميان» النيويورك تاميز‪ 7 ،‬سبتمرب ‪.2010‬‬ ‫‪ 3‬يف كل النسخ املرتجمة عن الخطاب التي اطلعت عليها‪ ،‬بضمنها النسخة الرسمية للبيت األبيض مثة خطأ واضح ميكن التنبيه‬ ‫إليه يف الصياغة‪ .‬فالنص يقول‪« :‬اإلسالم يتمتع بتقاليد عريقة يف التسامح‪ .‬ونلمس ذلك يف تاريخ األندلس وقرطبة أثناء فرتة‬ ‫محاكم التفتيش»‪ .‬هذا ال معنى كبري له‪ ،‬ما يدعو إىل التفكري باحتامل سقوط سطر ما سهوا ً من الخطاب‪ .‬وميكن االطالع‬ ‫عىل النص عىل الرابط اآليت‪:‬‬ ‫‪http://www.whitehouse.gov/the-press-office/remarks-president-cairo-university-6-04-09‬‬

‫‪144‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫منتجة بريطانية وأمريكية قد دأبت أيضاً عىل توكيد األفكار نفسها‪.4‬‬ ‫من خالل الصفحات التالية أرمي إىل إيضاح مسألة تتعلق بإعالء شأن القرون الوسطى‬ ‫اإلسبانية بحيث غدت مرجعية تأريخية لتعددية الثقافات مع أنها انبثقت يف العقود األخرية‪،‬‬ ‫وكيف أنها متت عموماً مبشاركة ضئيلة جدا ً من قبل املؤرخني اإلسبان الذين فاجأهم هذا‬ ‫األمر عىل حني غرة وظلوا مرتددين إزاء مفهوم يستند بشكل أكرب إىل تصورات معممة (وجود‬ ‫مفرتض لتسامح وتعايش سلمي واسع أو تدفق الحر لألفكار) أكرث مام يستند إىل ظروف‬ ‫تاريخية محددة جيدا ً‪ .‬وكذلك نظرا ً للميل إىل مقارنة هذه التصورات مع األوضاع الحالية‪ ،‬فقد‬ ‫أصبح «التعايش» مصطلحاً يسهل نقله إىل الحارض حيث توجد ظروف توتر كبري يف العالقات‬ ‫متعددة الثقافات‪ ،‬وعىل وجه الخصوص‪ ،‬بني اليهودية واملسيحية واإلسالم‪ .‬ومن هنا راح‬ ‫يتشكل النموذج الذي يهدف إىل أن يصبح مصدر إلهام للحارض ولكنه بدالً من ذلك استخدم‬ ‫إلضفاء الرشعية عىل بعض الخيارات التي هي غري متطابقة الدوافع عىل الدوام‪ ،‬بل وحتى ال‬ ‫تتامىش معها‪ ،‬كام سرنى الحقاً‪ .‬وهكذا‪ ،‬عىل الرغم من أن بعض ال ُكتّاب قد قدموا مساهامت‬ ‫مهمة من األفكار الضمنية يف «التعايش»‪ ،‬فاملصطلح انتهى بأن يتحول إىل «مفهوم سيايس»‪.‬‬ ‫ومن خالل نعته بهذه الصفة فأنا ال أصدر حكامً قيمياً بل وصفاً لطبيعته التي تسمح بتوضيح‬ ‫مفردات مناقشته‪ .‬يف املقابل وكأداة ميكن أن تساعدنا يف الوصول إىل نظرة عقالنية للاميض فـ‬ ‫«التعايش» ينطوي عىل محددات واضحة جدا‪ ،‬كام سرنى عندما نحاول تطبيقه تحديدا ً عىل‬ ‫حالة الخالفة يف قرطبة‪ .‬هذا التناقض بني املفاهيم السياسية واملفاهيم التاريخية يثري بدوره‬ ‫نقاشاً أكرث اتساعاً وتعقيدا ً حول دور املعرفة التاريخية وأهميتها يف املجتمعات املعارصة والتي‬ ‫سأشري إليها يف الجزء األخري من هذا العمل‪.‬‬

‫التعايش‪ :‬نشأة املفهوم‬

‫عىل الرغم من شعبيته الهائلة فإن مفهوم التعايش مل يتم تطويره بعناية‪ .‬لقد ارتبط‬ ‫بالديانات الساموية الثالث ووضع صياغته العامل اللغوي الكبري أمرييكو كاسرتو (‪)1972-1885‬‬

‫‪ 4‬وهكذا عىل سبيل املثال الربنامج الوثائقي «بعد روما‪ .‬الحرب املقدسة والغزو» الذي أخرجه عمدة لندن الحايل املحافظ‬ ‫بوريس جونسون والذي بثته قناة البي يب يس يف الثاين من ديسمرب ‪ ،2008‬أو «عندما يحكم املوروس املسلمون» يف أوروبا‬ ‫من إخراج بيتاين هيوز وبثته القناة ‪ 4‬يف نوفمرب‪/‬ترشين الثاين ‪ .2006‬كام يوجد أيضاً يف مرحلة اإلعداد «زينة العامل»‬ ‫ااملأخوذ عن كتاب بالعنوان نفسه للكاتبة ماريا روسا مينوكال التي رحلت عن عاملنا مبكرا ً والذي أنتجته كيكيم ميديا‪.‬‬

‫‪145‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫يف السنوات التي قضاها يف املنفى يف الواليات املتحدة إثر الحرب األهلية إذ أضاء تفسريا ً ذا‬ ‫خصوصية بالنسبة لتاريخ إسبانيا ضم من بني أمور أخرى‪ ،‬الفكرة القائلة بأنه خالل العصور‬ ‫الوسطى رسى تسامح خاص ذو إلهام إسالمي سمح بـ «التعايش» بني ما أطلق عليه املؤلف‬ ‫تسمية السالالت الثالث (املسيحية واليهودية واملسلمة)‪ .‬وهذا التسامح‪ ،‬وهو عنرص آخر من‬ ‫املؤثرات األكرث حسامً التي حملها اإلسالم‪ ،‬ال بد من أن يكون قد أسهم يف تشكيل خصوصية‬ ‫إسبانيا التاريخية‪ .‬وال بد من أن سيادة الطائفة املسيحية خالل العصور الوسطى األوىل قد‬ ‫فتحت الطريق نحو «عرص الرصاع» يف القرنني الخامس عرش والسادس عرش اللذين متيزا‬ ‫باالضطهاد والتعصب وطرد املجموعتني األخريني اللتني تم إخضاعهام‪.‬‬ ‫أبدا ً مل يكن أمرييكو كاسرتو منظامً متاماً يف صياغة أطروحاته‪ .‬والحقيقة هي أن أفكاره‬ ‫كانت تتبلور وتتشكل منذ أن ظهرت عام ‪ 1948‬الطبعة األوىل ملؤلفه الذي حمل عنواناً آنذاك‬ ‫هو «إسبانيا يف تاريخها» حتى نرش هذا العمل نفسه عام ‪ 1966‬مع تعديالت كبرية بعد أن‬ ‫أصبح يطلق عليه «الواقع التاريخي إلسبانيا»‪ .5‬كام أن موضوع التعايش أبدا ً مل يكن مركزياً‬ ‫يف فكر كان هدفه الرئيس يتمثل يف معرفة أصول الشعب اإلسباين‪ ،‬أو باستخدام كلامت‬ ‫كاسرتو نفسه «معرفة اإلنسان املتشكل هيسبانياً»‪ .6‬إن استطراداته الطويلة حول الشعب‬ ‫الذي يفهم عىل أنه العنرص الرئيس للتأريخ‪ ،‬وحول العالقة التي ال تنفصم «ملا هو إسباين»‬ ‫بالدين‪ ،‬أو حول «العيش الحيوي» و «املوقف إزاء العيش» كمثال محلوم به وتجربة خاصة‬ ‫بكل مجموعة من السكان‪ ،‬كانت كلها عنارص أخرى لنظرة كان قد بناها أمرييكو كاسرتو أثناء‬ ‫أعوام نفيه‪ ،‬وهدفها النهايئ متثل يف السعي لرشح «كينونة اإلسبان»‪.‬‬ ‫إذا ليس من الغريب أن أمرييكو كاسرتو مل يتطابق مع القوالب التأريخية املتعارف عليها‬ ‫من حيث قلة االهتامم بتوايل الوقائع التأريخية وخلط بيانات العصور املتباينة جدا ً والبحث‬ ‫بأي مثن عن التفرد وعن التوازيات قليلة االحتامل‪ ،‬وعدم إيالء أهمية للجوانب االقتصادية‬ ‫أو حتى الفكرة الغريبة –القامئة عىل مسلامت فيلهلم ديلتي– حول صدارة املؤرخني املحليني‬ ‫مقابل األجانب بغية فهم التاريخ نفسه‪ ،‬وكانت كلها أشكال أخرى كثرية لرفض أي معرفة‬ ‫‪ 5‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Guillermo Araya (1983), El pensamiento de Américo Castro: estructura intercastiza de la historia de‬‬ ‫‪España. Madrid: Alianza Editorial, pp. 41-47.‬‬ ‫‪ 6‬أنظر أمرييكو كاسرتو )‪،)1949( (Américo Castro‬‬ ‫‪«El enfoque histórico y la no-hispanidad de los visigodos», Nueva Revista de Filología Hispana, 3,‬‬ ‫‪pp. 234-235.‬‬

‫‪146‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫تزعم أنها «علمية» إزاء فهم املايض الذي يستند إىل التجربة‪ .‬بالنسبة ألمرييكو كاسرتو كان‬ ‫هدف التفسري التأريخي هو العثور عىل مكونات «العيش الحيوي» التي كانت قد شكلت‬ ‫الشعب اإلسباين‪ .‬وكان أحد هذه املكونات هو الخاص بـ «تعايش» الطوائف الثالث التي‬ ‫كان أمرييكو كاسرتو قد حددها عىل نحو غري دقيق بعض اليشء يف مرحلتني تأريخيتني هام‪:‬‬ ‫فرتة الخالفة األموية يف قرطبة يف القرن العارش وفرتة املاملك املسيحية يف القرن الثالث عرش‪.‬‬ ‫واملالمح التي ترسخت عىل مدى «عرص الرصاع» مل تنح جانباً فقط عنرص «العيش الحيوي»‬ ‫الهيسباين بل وشكلت أيضاً عائقاً جدياً يف وجه تقدم البالد‪.7‬‬ ‫لو فحصنا أعامل أمرييكو كاسرتو انطالقاً من املنظور التأريخي للفكر اإلسباين سنجد أنه‬ ‫عىل اتصال واضح بالتقليد الذي رشع منذ جيل الـ ‪ 98‬بالتأمل حول «كينونة» و «تأريخ‬ ‫املطبوعي ٍ‬ ‫مباض إمرباطوري عظيم وحارض يتصف باإلنحطاط والتهميش الدويل‪ .‬ومل‬ ‫إسبانيا»‬ ‫ْ‬ ‫تفعل الحرب األهلية (‪ )1939/1936‬سوى أنها عمقت هذا التأمل إىل حدود الصدمة‪ .‬فليس‬ ‫محض صدفة أن أول طبعة من كتاب «إسبانيا يف تاريخها» تزامنت بشكل دقيق مع ظهور‬ ‫نصوص وكتابات كـ «اإلسبان يف التاريخ» لرامون مينينديث بيدال (‪ ،)1947‬و «إسبانيا بوصفها‬ ‫مشكلة» لعضو حزب الكتائب سنتئذ بدرو الئني إنرتالغو (‪ ،)1949‬و «إسبانيا بدون مشكلة»‬ ‫لكاتب من املوالني للجرنال فرانكو أيضاً لكنه كان عضوا ً يف التنظيم الديني «أوبوس داي»‪،‬‬ ‫رفائيل كالبو سريير (‪ ،)1949‬أو «إسبانيا‪ :‬لغز تاريخي» الذي نرشه منفي آخر هو كالوديو‬ ‫سانتشيث ألبورنوث يف بوينوس آيريس عام ‪ 1957‬ردا ً عىل عمل أمريكو كاسرتو وتسبب يف‬ ‫جدل الذع بني كال املؤلفني‪ .‬ويضاف إليها عروض للكتب وتعليقات ومقاالت نُرشت عىل‬ ‫هامش هذه األعامل كتبها مؤيدون ومعارضون لألفكار املتعلقة بإسبانيا‪.‬‬ ‫ليس هذا هو املكان املناسب للقيام بتحليل مفصل لنتاج كافة املؤلفني واألعامل التي مل‬ ‫تذعن للمخططات التي ت ُقدم انطالقاً من رؤية تتعلق بالحارض فقط‪ .‬هناك مؤلف معا ٍد جدا ً‬ ‫للفرانكوية وهو كالوديو سانشيث ألبورنوث قدم رؤية للعصور الوسطى تحولت إىل مرجعية‬ ‫قانونية للمؤرخني األكرث قرباً من النظام‪ ،‬ومع األخذ يف االعتبار األثر الذي خلفه مينينديث‬ ‫بيدال الذي مل يكن يُشتبه يف عدم تعاطفه مع هذا النظام‪ .8‬وعىل النقيض من هذا فإن‬ ‫‪ 7‬أنظر أمرييكو كاسرتو (‪،)1984‬‬

‫‪España en su historia: cristianos, moros y judíos. Barcelona: Crítica, pp. 47-61.‬‬ ‫‪ 8‬أنظر املقدمة الرضورية لدييغو قاطالن‪،‬‬ ‫‪Diego Catalán en 1882 a Menéndez Pidal, en Ramón Menéndez Pidal. Los españoles en la historia.‬‬ ‫‪Madrid: Espasa-Calpe.‬‬

‫‪147‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫مستعرباً متشددا ً يف فكره املحافظ‪ ،‬وقف إىل جانب الذين انترصوا يف الحرب األهلية‪ ،‬وهو‬ ‫ميغيل أسني باالثيوس‪ ،‬كان قد أشار إىل األفكار والدوافع املتقاسمة بوئام ما بني املسيحية‬ ‫واإلسالم يف العصور الوسطى كنوع من املقارنة التأريخية التي تربر الحضور الغريب لقوات‬ ‫مغربية بني صفوف الجيش الذي كان يقوده الجرنال فرانكو خالل الحرب األهلية اإلسبانية‪.9‬‬ ‫وقد كرث اللجوء إىل تأريخ إسبانيا نفسه واستخدامه يف الكثري من عنارص الخطاب السيايس‬ ‫لتلك الحقبة‪ ،‬والجرنال فرانكو نفسه باإلضافة إىل اإلعالن يف سنة ‪ 1938‬عن نيته يف إنشاء‬ ‫«جامعة للدراسات العليا الرشقية يف قرطبة حيث يتمكن الطالب املسلمون من البحث حول‬ ‫ازدهار حضارتهم باستخدام كافة أنواع الوثائق املوجودة يف حوزة إسبانيا» مل يتورع عن تقديم‬ ‫رؤيته حول الوضع القائم بني الجامعات الدينية يف العصور الوسطى وذلك يف خطاب ألقاه‬ ‫عام ‪ 1937‬عرض فيه برنامج حكومته‪:‬‬ ‫مقابل االضطهاد املنظم من قبل املاركسيني والشيوعيني لكل ما ميثله‬ ‫وجود الروحانية أو اإلميان أو العبادة‪ ،‬نحن ندافع عن إسبانيا الكاثوليكية‬ ‫بقديسيها وشهدائها‪ ،‬مبؤسساتها العريقة‪ ،‬بعدالتها االجتامعية ومحبتها‬ ‫املسيحية‪ .‬وروح التفاهم العظيمة التي ظللت عرص تاريخنا الذهبي‬ ‫عندما كانت الكاثوليكية القوية سالحاً إلعادة بناء وحدتنا التاريخية‪،‬‬ ‫وكانت هناك يف ظل تسامح الدولة الكاثوليكية املساجد واملعابد اليهودية‬ ‫يف كنف روح التفاهم التي ميزت إسبانيا الكاثوليكية‪.10‬‬

‫‪ 9‬أنظر إدواردو مانثانو )‪،)2000( (Eduardo Manzano‬‬ ‫‪El arabismo español en el siglo xx: la construcción de un esencialismo, en Gonzalo Fernández‬‬ ‫‪Parrilla, Manuel C. Feria García y Eduardo Manzano Moreno. Orientalismo, exotismo y traducción.‬‬ ‫‪Cuenca: Ediciones de la Universidad de Castilla-La Mancha, pp. 23-28.‬‬ ‫‪ 10‬بالنسبة للمجلة‪ ،‬أنظر ترصيحاته إىل مانويل أثنار (‪ )Manuel Aznar‬يف ‪ 31‬ديسمرب ‪ 1938‬يف‪:‬‬ ‫‪Francisco Franco Bahamonde (1939), Palabras del Caudillo: 19 de abril de 1937-31 de diciembre de‬‬ ‫‪1938. Barcelona: Seix y Barral Hnos. Edit. F. E., p. 314.‬‬ ‫لالطالع عىل خطاب فرانثيسكو فرانكو بآمونده )‪،)1937( (Francisco Franco Bahamonte‬‬ ‫‪Habla el Caudillo [textos seleccionados de discursos y escritos del Caudillo]. Gijón: Luz, p. 33.‬‬

‫‪148‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫يف تقاطع الرؤى التاريخية الجوهرية هذا‪ُ ،‬عرف عن رؤية أمرييكو كاسرتو بأنها تتصادى‬ ‫مع الفكر التقدمي والليربايل األصيل‪ 11‬يف رهانه عىل إدراج تاريخ األندلس يف تاريخ إسبانيا‬ ‫بعيدا ً عن فكرة الجرنال فرانكو التي مل يسبق لها مثيل من حيث السامح للمسلمني أنفسهم‬ ‫بالتواصل مع املايض اإلسالمي اإلسباين‪ .‬وبالفعل فكام أشار بدرو مارتينيث مونتابيث فإن‬ ‫فضل أمرييكو كاسرتو الكبري يكمن يف إيالء املايض اإلسالمي دورا ً بارزا ً كان املستعربون اإلسبان‬ ‫أنفسهم قد سمحوا بإسناد دور ثانوي له‪ .12‬ومع ذلك فإن هذا مل يُرتجم إىل معالجة نوعية‬ ‫لألندلس موثقة بشكل جيد‪ ،‬ورمبا كان هذا ألن أمرييكو كاسرتو مل يجد أبدا ً يف ببلوغرافيا‬ ‫االستعراب موادا ً ميكن له أن يستعني بها يف تفسريه‪ ،‬ورمبا لخيبة األمل التي تسبب فيها‬ ‫«التحفظ النقدي الواسع‪ ،‬يف حاالت غري قليلة مشبوهة تتجىل يف كون ممثيل حركة اإلستعراب‬ ‫وأكرثهم شهرة كانوا قد أعربوا عن رفضهم لنظرياته املستجدة»‪.13‬‬ ‫من الواضح أن أمرييكو كاسرتو عندما أشار إىل أهمية الغزو العريب يف تشكل «الشعب اإلسباين»‬ ‫و «التعايش» املستلهم من تسامح تعود جذوره إىل اإلسالم فقد أقام هذا عىل أساس فهمه الذايت‬ ‫أكرث مام فعله باللجوء إىل وثائق مهمة ودقيقة حول األندلس‪ .14‬واالفتقار إىل قاعدة قوية من الوثائق‬ ‫والدور البارز الذي لعبه «الشعب اإلسباين» كانا السبب وراء اكتساب عمله الطابع السيايس الواضح‬ ‫–ومن املؤكد أنه كان هكذا رغامً عنه– واستندت قيمته إىل القدرة عىل تقديم رموز مهمة حول‬ ‫الحارض‪ .‬هذا الطابع السيايس البني دمغ عملية استقبال العمل الحقاً‪ .‬وبهذا الشكل حدث أمر غري‬ ‫منتظر‪ :‬ففي حني أن جزأه املركزي –االعتبارات املتعلقة «بكينونة اإلسبان»‪ ،‬و «عيشهم الحيوي»‬ ‫أو «موقفهم إزاء عيشهم»– خرس قوة يف األطر السياسية الجديدة التي ظهرت بعد نهاية الحقبة‬ ‫الفرانكوية‪ ،‬نجد أن رؤاه املدهشة حول التعددية الثقافية يف العصور الوسطى أصبحت تثري اهتامماً‬ ‫‪ 11‬وكام يشري أمرييكو كاسرتو وخوان غويتيصولو وخابيري إسكوديرو رودريغيث (‪،)1997‬‬ ‫‪El epistolario: cartas de Américo Castro a Juan Goytisolo, 1968-1972. Valencia: Pre-Textos.‬‬ ‫‪ 12‬أنظر بيدرو مارتينيث مونتابيث (‪،)1983‬‬ ‫‪«Lectura de Américo Castro por un arabista», Revista del Instituto Egipcio de Estudios Islámicos, xxii,‬‬ ‫‪pp. 21-42.‬‬ ‫‪ 13‬أنظر بيدرو مارتينيث مونتابيث (‪،)2010‬‬ ‫‪Américo Castro y los moriscos, en Julio Rodríguez Puértolas. El pensamiento de Américo Castro.‬‬ ‫‪La tradición corregida por la razón, publicada on-line en la Biblioteca Virtual Miguel de Cervantes,‬‬ ‫‪http://www.cervantesvirtual.com‬‬ ‫‪ 14‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Bernabé López García (2000), «Enigmas de al-Andalus: una polémica», Revista de Occidente, 224,‬‬ ‫‪enero de 2000, pp. 49-50.‬‬

‫‪149‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫متزايدا ً يف مجتمعات كان عليها‪ ،‬منذ الربع األخري من القرن العرشين‪ ،‬أن تواجه تحديات مل تكن‬ ‫لتخطر لها ببال خالل العقود السابقة‪.‬‬

‫التعايش‪ :‬تطور املفهوم‬

‫لقد عاش أمرييكو كاسرتو يف املنفى يف الواليات املتحدة األمريكية وعمل يف جامعات مختلفة‬ ‫يف هذا البلد وقد مثل هذا أهمية يف نرش عمل كان يف حد ذاته يستحق االهتامم‪ .‬يف عام ‪1954‬‬ ‫ظهر كتاب «الواقع التاريخي إلسبانيا» مرتجامً يف برنستون ويف العام التايل ظهرت الطبعة اإليطالية‬ ‫له‪ .‬ويف عام ‪ 1963‬ت ُرجم العمل إىل الفرنسية ويف عام ‪ 1971‬نرشت بريكيل ترجمة جديدة إىل‬ ‫اإلنجليزية تحت عنوان «اإلسبان‪ :‬مدخل إىل تاريخهم» ‪The Spaniards. An Introduction‬‬ ‫‪ to Their History‬وظهرت تعليقات عليه يف «لوس أنجليس تاميز» واإلكونوميست وملحق‬ ‫التاميز األديب‪ .15‬وعليه فال أظن أنه سيكون من املبالغ فيه القول بأن كاسرتو كان واحدا ً من علامء‬ ‫اإلنسانيات اإلسبان الذين استطاعوا خالل القرن العرشين أن يحظوا بحضور دويل كبري‪.16‬‬ ‫لقد أدى هذا إىل قيام الكثري من الدارسني األجانب بالتعمق يف عامل العصور الوسطى‬ ‫اإلسبانية من خالل الرؤية الخاصة التي كانت تقدمها نظريات كاسرتو التي وجدت بهذه‬ ‫الطريقة صدى واسعاً يف أقسام اللغة اإلسبانية ودراسات العصور الوسطى والدراسات اليهودية‬ ‫والدراسات اإلسالمية‪ ،‬وحديثاً يف األدب املقارن أو الدراسات الثقافية‪ .‬بطبيعة الحال ما كان‬ ‫لتلك القراءات املتعددة التي قامت بها األوساط األكادميية حول هذه النظريات عالقة كبرية‬ ‫بالقلق املتعلق بكينونة أو جوهر إسبانيا‪ ،‬عىل العكس فقد كانت تراهن بشكل حازم عىل‬ ‫تحليل التعددية الثقافية والقضايا املتعلقة بهويات أو مسارات التهجني‪ ،‬وهي الجوانب التي‬ ‫ميكن القول بأنها كانت مطروحة بشكل جنيني تقريباً يف أعامل عامل فقه اللغة والتي كانت‬ ‫لها أهمية قصوى يف مجتمع كاملجتمع األمرييك الخاضع لضغوط التعددية الثقافية‪.‬‬ ‫‪ 15‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Guillermo Araya (1983), El pensamiento de Américo Castro: estructura intercastiza de la historia de‬‬ ‫‪España. Op. Cit., p. 313.‬‬ ‫‪ 16‬باملقابل فإن عمل كالوديو سانشيث ألبورنوث‪« :‬إسبانيا‪ :‬لغز تاريخي» ت ُرجم فقط عام ‪ 1976‬من قبل املؤسسة الجامعية‬ ‫اإلسبانية‪ ،‬رغم أن السبب وراء هذه الرتجمة كان معهد الثقافة اإلسبانية حسب بارتولوميه كالبريو (‪)Bartolomé Clavero‬‬ ‫(‪« ،)2013‬الشجرة والجذر‪ .‬الذاكرة التاريخية الشائعة»‪ .‬برشلونة‪ :‬كريتيكا‪ ،‬ص ‪ .100‬وهي مطبوعة ناطقة باسم الجهات‬ ‫الرسمية إذ خارج حدودنا مل تكن لتثري اهتامماً كبريا ً بحوث املؤرخ اآلبيل (من آبلة اإلسبانية) بخصوص اإلنسان اإلسباين‪.‬‬

‫‪150‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫وكانت نتيجة هذه القراءات هو العثور عىل صياغة معدة عىل نحو أفضل لبعض األفكار‬ ‫املحشوة ضمن مفهوم «التعايش»‪ ،‬إال أنها توصلت إىل بعد مغاير‪ .17‬ففي عام ‪ 1969‬قام‬ ‫كل من يت أتش غليك و أو‪ .‬يب‪-‬سونيري بنرش عمل أشارا فيه إىل افتقار املؤرخني اإلسبان إىل‬ ‫االستعداد إلدراك قوة تاريخهم باالعرتاف ببعض املفاهيم الواردة من العلوم االجتامعية‪ .‬وكانا‬ ‫يدافعان عن الحاجة إىل نظرية ترشح سياقات التثاقف أي‪ ،‬التالقح الثقايف‪ ،‬التي متت يف شبه‬ ‫جزيرة أيبرييا يف العصور الوسطى‪ ،‬ونبذ اللجوء إىل «االستخدامات اللغوية الجديدة القامتة‬ ‫املؤملة» التي استخدمها أمرييكو كاسرتو لوصف ظواهر معروفة جيدا ً بالنسبة لألنرثبولوجيا‬ ‫الثقافية‪ .‬مل تكن الحدود التي رسمتها الهوية الدينية جامدة دامئاً طوال العصور الوسطى‬ ‫اإلسبانية‪ ،‬عىل غرار ما أكدته ظواهر التحول الديني أو نقل املعارف والتقنيات‪ .‬وما أطلق‬ ‫عليه أمرييكو كاسرتو بـ «التعايش» صار يُعرف بأنه نوع من «التعددية املستقرة» التي‬ ‫توقفت فيها عمليات الصهر أو االستيعاب («مرحلة من الصهر املتوقف أو االستيعاب غري‬ ‫الكامل»)‪.18‬‬ ‫وقد عمل يت أتش‪ .‬غليك نفسه عىل أساس هذه األفكار يف أعامل الحقة‪ .‬وبرغم انعدام‬ ‫وجود أي رابط مع فكرة «التعايش» فإن كتابه حول الري يف بلنسية (‪ )1970‬كان دراسة رائدة‬ ‫حول تشكل البساتني يف جنويب رشق شبه الجزيرة وتفسريها كنتائج لعمليات نرش تقنيات‬ ‫وزراعات قام بها أناس قادمون من الرشق األوسط أو شاميل إفريقيا استقروا بعد الغزو العريب‬ ‫يف هذه املنطقة‪ ،‬ولكنهم شهدوا بعد قرون تغريات نقلتهم إىل ظروف اجتامعية مختلفة متاماً‬ ‫بعد االحتالل املسيحي لتلك املنطقة ‪ .19‬ويف عمل الحق حاول غليك أن يعطي هذه األفكار‬ ‫طابعاً أكرث عمومية مؤكدا ً عىل أن هذه العمليات املتعلقة بتغيري ونرش الثقافة يف شبه جزيرة‬ ‫أيبرييا يف العصور الوسطى مل تعن بالرضورة وجود عالقات سلمية‪ .‬ومن ناحية أخرى فإن‬ ‫تعايش األديان الساموية الثالثة مل يكن نتيجة لسياسة تسامح باملعنى الحديث للفظ‪ ،‬بل‬ ‫‪ 17‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Kenneth Baxter Wolf (2009), «Convivencia in Medieval Spain: a Brief History of an Idea», Religion‬‬ ‫‪Compass, 3/1, pp. 72-85.‬‬ ‫‪ 18‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Thomas F. Glick y Oriol Pi-Sunyer (1969), «Acculturation as an Explanatory Concept in Spanish‬‬ ‫‪History», Comparative Studies in Society and History, 11 (2), pp. 136-154.‬‬ ‫‪ 19‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Thomas F. Glick (1970), Irrigation and Society in Medieval Valencia. Cambridge: Harvard University‬‬ ‫‪Press.‬‬

‫‪151‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫يعود إىل تقوقع عىل الذات عرقي مركزي انطوى ضمناً عىل عملية إقصاء اجتامعي للجاليات‬ ‫الخاضعة (املسيحيون واليهود يف حالة األندلس‪ ،‬واملسلمون واليهود يف املاملك املسيحية)‪.‬‬ ‫وكانت مفاهيم كالدمج أو االستيعاب أو االنتامء العرقي أو الديني قد أظهرت أن لها طابعاً‬ ‫أكرث حيوية من ذاك الذي كانت توحي به فكرة «التعايش» مبعناها الرصف ‪.20‬‬ ‫وبعد سنوات متت العودة إىل أفكار أمرييكو كاسرتو عىل يد ديفيد نرينبريغ إلعداد تفسري‬ ‫رائع بخصوص تشكل «مجتمعات العنف» التي ميكن التعرف عليها يف القرن الرابع عرش‪.‬‬ ‫إذ كانت تغذّيها رصاعات بنيوية تتسق مع قواعد ميكن متييزها يف سياقات متنوعة‪ ،‬وهذه‬ ‫املجتمعات كانت متيل إىل العنف وذلك لقدرة األفراد عىل التالعب بها يف أزمنة وأمكنة معينة‪.‬‬ ‫وبهذه الطريقة فإن مفهوم «التعايش» مل يعد يتمتع باملعنى البسيط للتعايش السلمي بل‬ ‫بات يتضمن معنى املواجهة واالضطهاد أيضاً‪ .‬وكان يف كافة األحوال مبثابة أوجه عدة لعملة‬ ‫واحدة ولدت جراء توترات مجتمع اصطبغ بالهويات الدينية‪.21‬‬ ‫من امللفت للنظر أنه بينام كانت هذه األفكار تتولد يف الدوائر األمريكية كان علم التاريخ‬ ‫يف بلدنا يأخذ اتجاهاً مغايرا ً جدا ً‪ .‬فقد تصادف استنفاد النقاش حول «كينونة إسبانيا» –كام‬ ‫أرشنا إليه من قبل– مع نهاية حقبة فرانكو والبحث عن آفاق جديدة بعيدا ً عن املسلامت‬ ‫املتعلقة بالجوهر التي سيطرت عىل املشهد حتى تلك اللحظة‪ .‬بيد أن تلك النامذج القدمية‬ ‫البالية وجدت من يعرتف بها مؤقتاً ومن بينهم مؤلفون مؤثرون جدا ً‪ ،‬مثل جاومي بيثنس‬ ‫بيبيس (‪ )1960-1910‬الذي قدم نفسه‪:‬‬ ‫]‪ [..‬بوصفه املحور الذي من شأنه أن يكون‪ ،‬من ناحية‪ ،‬تصفية لسلسلة‬ ‫من املواقف التي عفى عليها الزمن (بصفة عامة مواقف املدرسة العلمية‬ ‫واللغوية القومية القشتالية) ومن ناحية أخرى‪ ،‬مبرشا ً مبولد مفهوم‬ ‫جديد للتاريخ ينفتح عىل الحياة الحقيقية بلحمها ودمها ويتعارض مع‬ ‫‪ 20‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Thomas F. Glick (1979), Islamic and Christian Spain in the Early Middle Ages. Princeton: Princeton‬‬ ‫‪University Press.‬‬ ‫‪ 21‬أنظر‪:‬‬ ‫‪David Nirenberg (1996), Communities of Violence. Persecution of Minorities in the Middle Ages.‬‬ ‫‪Princeton: Princeton University Press.‬‬

‫‪152‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫املوضوعات التجريدية الكربى والوصفات السياسية واأليديولوجية التي‬ ‫‪22‬‬ ‫س ّممت علم التاريخ اإلسباين‪.‬‬

‫هذا «املفهوم الجديد للتاريخ» بحث مبدئياً عن مرجعية له يف (مدرسة الحوليات)‬ ‫‪ Escuela de los Annales‬ثم تأثر الحقاً بتيارات املادية التاريخية التي كانت منترشة يف‬ ‫أوروبا يف السبعينات والثامنينات‪ .‬ومع أن هذه التيارات مل تكن مسيطرة قط –ألن الوسط‬ ‫املهتم بعلم التأريخ اإلسباين كان محافظاً يف غالبيته– فإنها كانت حيوية جدا ً وقد تقاسمت‬ ‫صيغ عمل بل وموضوعات التقليد الوضعي الذي كان ال يزال له وجود يف إسبانيا بشكل أو‬ ‫بآخر‪.‬‬ ‫وكذلك يف عمل كان له صدى كبري جدا ً أشار كل من أبيليو باربريو (‪ )1990-1931‬ومارثيلو‬ ‫بيخيل (‪ )1987-1930‬يف عام ‪ 1978‬بعبارات نقدية شديدة إىل أفكار كل من أمرييكو كاسرتو‬ ‫وكالوديو سانتشيث ألبورنوث‪ ،‬معتربين إياها مبثابة «متويه لواقع تاريخ إسبانيا الذي تحول‬ ‫إىل نظرة متعالية تتصل بثوابت ميتافيزيقية أو عرقية»‪ ،‬إذ «بدالً من طرح املحددات الحقيقية‬ ‫لتاريخ إسبانيا‪ ،‬فإن ما فعاله هو أنهام قد ح ّواله إىل جوهر تستلزم معرفته ما هو أبعد من‬ ‫املؤلفي أبديا اهتامماً محدودا ً يف الوصول إىل معرفة‬ ‫البحث العلمي»‪ .‬وعىل هذا األساس فإن‬ ‫ْ‬ ‫جوهر ما هو إسباين‪« :‬أهدافنا أكرث تواضعاً إذ أنها تقترص عىل دراسة املتغريات التي تعرضت‬ ‫لها التنظيامت االجتامعية التي وجدت يف شبه جزيرة أيبرييا يف فرتة محددة»‪.23‬‬ ‫يف هذا الجهد املرتبط بالوثائق أو باملوضوعات املتخصصة املتصلة بالتغريات االجتامعية‬ ‫أو االقتصادية– وهي كام أسلفت ميكن أن تعترب بأنها أسرية فكرة كاسرتو حول «التعايش»–‬ ‫مل يكن االهتامم بالعالقات الثقافية البينية يحتل مكاناً بارزا ً‪ .‬ومل يكن األمر يتعلق مبؤامرة‬ ‫ناجمة عن عداء مفرتض معمم تجاه عامل اللغة اإلسباين‪ ،‬كام يؤكد املدافعون عنه أحياناً‪ .‬بل‬ ‫يف الواقع أنه كان تغيريا ً يف التوجه بسبب من تأثري علم التاريخ األورويب الذي مل تكن تياراته‬ ‫‪ 22‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Jaume Vicens Vives (1960), Aproximación a la Historia de España, 2.ª edición [prólogo]. Barcelona:‬‬ ‫‪Teide.‬‬ ‫‪ 23‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Abilio Barbero y Marcelo Vigil (1978), La formación del feudalismo en la Península Ibérica.‬‬ ‫‪Barcelona: Crítica, pp. 18-19.‬‬

‫‪153‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫األكرث حيوية خالل تلك السنوات لتبدي اهتامماً كبريا ً‪ ،‬ال بالدراسات الثقافية وال بأصول‬ ‫الشعوب‪ ،‬وهام موضوعان عادة ما كانا ميضيان متالزمني يف الكثري من املناسبات مع النتائج‬ ‫املؤملة املعروفة بالنسبة للجميع التي سادت أوروبا يف فرتة ما بعد الحرب العاملية‪ .‬يجب‬ ‫أن نضيف إىل هذا كله أيضاً التوجه األكادميي الخاص يف بلدنا‪ ،‬وهو التوجه املوروث عن‬ ‫العمليات اإلصالحية الجامعية األخرية للفرتة الفرانكوية‪ ،‬ومبوجبه احتفظت‪ ،‬عىل نحو ذي‬ ‫داللة كبرية‪ ،‬أقسام تاريخ العصور الوسطى والدراسات العربية أو العربية بوجود منفصل‬ ‫ومتواجه‪ ،‬وبطبيعة الحال غري «متعايش» عىل وجه العموم‪.24‬‬ ‫رشح هذه األسباب التي تفرس مدى تلقي أفكار أمرييكو كاسرتو لن تكتمل دون اإلشارة‬ ‫إىل ظهور عنرص غري متوقع متاماً وقد اكتسب أهمية تدريجية يف الربع األخري من القرن‬ ‫العرشين‪ .‬إنه الدور البارز للعامل العريب بشكل خاص واإلسالم كفكر سيايس ذي توجه كوين‬ ‫وهو ما أخذ يصاحب زيادة التوترات ليس فقط يف الرشق األوسط –وهو ما تربزه الحروب‬ ‫الثالثة يف الخليج الفاريس وتفاقم الرصاع الفلسطيني– بل أيضاً يف مناطق أخرى‪ .‬إن أعامالً‬ ‫مؤثرة مثل «صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العاملي» (‪ )1996‬التي عرضت أطروحة‬ ‫صامويل هانتنغتون حول املعركة األيديولوجية التي طبعت فرتة الحرب الباردة وكيف أنها‬ ‫أفسحت املجال أمام مرحلة تسيطر عليها املواجهات بني الثقافات‪ ،‬وبهذا فُتح املجال أمام‬ ‫فهم الواقع املتعدد الثقافات ومحاربته يف الوقت نفسه‪ .‬كام كانت أحداث الحادي عرش من‬ ‫سبتمرب‪/‬أيلول عام ‪ 2001‬والتي تلتها الحقاً يف مدريد ولندن وأجزاء أخرى من العامل قد أدت‬ ‫إىل تشديد هذا التوجه الذي كان يلزم بإعادة التفكري ومراجعة األفكار املوجودة حول اإلسالم‬ ‫وتقليده التاريخي يف لحظة ردود فعل متطرفة ومشاعر متنافرة جدا ً‪ .‬يف هذا السياق يجب أن‬ ‫يُفهم فيه ظهور أعامل مختلفة موجهة إىل الجمهور العريض وقد ركزت اهتاممها يف األندلس‪.‬‬ ‫فقد أضيف إىل التقليد األكادميي األمرييك‪ ،‬وهو الذي كان يلح سابقاً عىل أهمية دراسة‬ ‫التعددية الثقافية يف املجتمع األندليس‪ ،‬رضورة التوصل إىل خطاب يقدم إجابات إزاء وضعية‬ ‫مأساوية صادمة‪ .‬كانت هناك أستاذة لألدب اإلسباين والربتغايل يف جامعة ييل‪ ،‬وهي ماريا‬ ‫روسا مينوكال (‪ )2012-1953‬قد عملت يف كتاب حول التعددية الثقافية يف قرطبة األموية‪،‬‬ ‫ثم وجدت نفسها تشهد هجامت الحادي عرش من سبتمرب بينام كانت تنتهي من وضع كتابها‬ ‫‪ 24‬لقد أرشت إىل هذه املشكلة يف إدواردو مانثانو (‪« ،)2009‬من سيناء ِعلمها العريب‪ .‬تأمالت حول العصور الوسطى‬ ‫واإلستعراب» الحديثني‪ ،‬يف مانويال مارين (نارشة)‪ .‬األندلس‪/‬إسبانيا‪ .‬علوم التاريخ يف تضاد‪ :‬القرن السابع عرش‪ -‬القرن‬ ‫الحادي والعرشون‪ .‬مدريد‪ :‬بيت بيالثكيث‪ ،‬ص ‪.230-213‬‬

‫‪154‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫فطرحت عىل نفسها مسألة استحالة «فهم تاريخ ما كان حقاً «زينة العامل» يف مرحلة سابقة‬ ‫بدون رؤية انعكاسات هذا التاريخ أمام أعيننا»‪ .25‬ولكنها قررت عدم تغيري نصها الذي كانت‬ ‫قد كتبته لتقدم فيه رؤية تقوم عىل أن الدولة األموية كانت متثل عرص تسامح‪ ،‬األمر الذي‬ ‫كان يدعو حتامً للمقارنة مع مشاهد الحارض الوحشية‪.‬‬ ‫هناك مؤلفون آخرون اختاروا طريقاً مامثالً‪ .‬كريس لوين‪ ،‬وهو يسوعي سابق ومدير سابق‬ ‫يف ج‪ .‬ب‪ .‬مورغان وقد نرش بعد ذلك بفرتة وجيزة‪A Vanished World: Christians, :‬‬ ‫)‪ Muslims and Jews in Medieval Spain (2005‬وفيه عرض مجد اإلنجازات املشرتكة التي‬ ‫حققتها املجتمعات الثالثة ومأساة عدم الحفاظ عليها‪ ،‬مع اإلشارة إىل أن «إسبانيا العصور‬ ‫الوسطى كان ميكنها أن تدلنا عىل هذا الطريق» السرتداد روح التعاون تلك‪ .‬ويُقارن ديفيد‬ ‫ليفرينغ لويس ما بني التسامح يف املجتمع األندليس وأوروبا الغربية التي كانت ترفع من شأن‬ ‫القيم الحربية والتعصب الديني والعبودية‪ ،‬وذلك يف كتابه ‪God’s Crucible. Islam and the‬‬ ‫)‪ Making of Europe (2008‬وكان هذا الكاتب قد فاز بجائزة بولتزر لدوره كناشط أمرييك‬ ‫يف مجال حقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫من امللفت للنظر أيضاً أنه بينام كانت كافة هذه األعامل ترتجم إىل اللغة اإلسبانية يف بلدنا‬ ‫كان االحتفاء بالتسامح واالزدهار األندلسيني يتخذ طابعاً غامئاً وعمومياً‪ .26‬حقاً لقد كانت‬ ‫هناك إشارات ال تحىص تبني تسامح الحضارة األندلسية وازدهارها وقد تجىل هذا من خالل‬ ‫تقارير أو أعامل أدبية أو خطابات رسمية –وهو ما أشار إليه مؤلفون مثل سريافني فانخول‬ ‫–إال أنه بصفة عامة مل تكن هناك أعامل تضاهي تلك التي ذكرناها يف سياق التذكري مبا هو‬

‫‪ 25‬أنظر ماريا روسا مينوكال (‪،)2002( )María Rosa Menocal‬‬ ‫‪The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in‬‬ ‫‪Medieval Spain. Boston, Londres: Little, Brown, Postscript, p. 283.‬‬ ‫هناك ترجمة إسبانية لهذا الكتاب تحت عنوان «جوهرة العامل‪ :‬مسلمون ويهود ومسيحيون وثقافة التسامح يف األندلس»‪،‬‬ ‫برشلونة‪ ،‬دار نرش بالثا إي خانيس‪.2003 ،‬‬ ‫‪ 26‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Chris Lowney (2007), Un mundo desaparecido. La convivencia de musulmanes, cristianos y judíos en‬‬ ‫‪ Levering Lewis (2009), El crisol de Dios. El islam y‬و ;‪la España del siglo xiii. Buenos Aires: El Ateneo‬‬ ‫‪el nacimiento de Europa. Barcelona: Paidós.‬‬

‫‪155‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫أندليس بشكل جيل وواضح‪ .27‬أما بالنسبة للمؤلفني اإلسبان الذين تطرقوا إىل هذه املوضوعات‬ ‫نفسها فقد تناولوا هذا األمر دوماً انطالقاً من مواقف انتقادية جدا ً بخصوص عملية أمثلة‬ ‫األندلس كنموذج للتسامح‪ ،‬مبدين عدوانية واضحة إزاء الحضور التاريخي لإلسالم يف بالدنا‬ ‫بل وط ّوروا فكرة تدمريية تقوم عىل أن إسبانيا استمرت يف حالة مواجهة دامئة ضد اإلسالم‬ ‫منذ ربيع عام ‪ 711‬حتى العمليات اإلرهابية األخرية‪ .28‬وكون هذه األفكار قد طغت يف بالدنا‬ ‫فإنه حقاً ألمر يستدعي التفكري ملياً‪ ،‬وخصوصاً أنها روجت يف معظم األحوال من قبل مؤلفني‬ ‫ال معرفة لديهم حول هذا املوضوع‪ .‬لقد حمل عزوف املتخصصني يف هذه املوضوعات عن‬ ‫الخوض يف هذه الطروحات العمومية حول األندلس عىل القول بإن خيارهم‪ ،‬وهو خيار‬ ‫أغلبية‪ ،‬كان ينطلق من عدم الدخول يف الطروحات التاريخية العمومية من هذا النوع أو ذاك‪،‬‬ ‫بل ملامرسة النقد بطريقة محددة‪ .29‬وعليه فمن الواضح أن هذا الصدام بني الخطابات ذات‬ ‫النزعة املتعلقة بالجوهر اإلسباين كان قد باغت املتخصصني بدراسات العصور الوسطى عموماً‬ ‫واالستعراب بصفة خاصة‪ .‬لذا فهي اللحظة املناسبة إذا ً لتحليل أسباب هذه الهوة‪.‬‬

‫‪ 27‬رمبا كان االستثناء الوحيد يكمن يف خوان برينيت (‪« ،)1999( )Juan Vernet‬ما تدين به أوروبا لإلسالم يف إسبانيا»‪.‬‬ ‫برشلونة‪ :‬األكانتيالدو‪ ،‬يجدر بنا أن نذكر أن هذا العمل يعود ألحد أفضل مستعربينا وهو ينرش اسهاماته الفذة يف مجال‬ ‫تاريخ العلوم والتكنولوجيا العربية‪ .‬كام ال تفوتنا اإلشارة إىل النتاج االستثنايئ لفرانثيسكو ماركيث بيانويبا رغم أن أعامله‬ ‫ليس لها عالقة مبارشة باألندلس‪.‬‬ ‫‪ 28‬سريافني فانخول (‪،)2002( )Serafín Fanjul‬‬ ‫;‪Al-Andalus contra España: la forja del mito. Madrid: Siglo XXI de España‬‬ ‫ملزيد من التفاصيل أنظر سريافني فانخول (‪،)2004‬‬ ‫‪La quimera de Al-Andalus. Madrid: Siglo XXI de España; César Vidal (2004), España frente al islam:‬‬ ‫‪ Rosa María Rodríguez Magda (2008),‬و ;‪de Mahoma a Ben Laden. Madrid: La Esfera de los Libros‬‬ ‫‪Inexistente Al Ándalus: de cómo los intelectuales reinventan el Islam. Barcelona: Nobel.‬‬ ‫هذا العمل األخري حصل عىل جائزة خوب ّيانوس الدولية للمقالة‪.‬‬ ‫‪ 29‬ملزيد من التفاصيل أنظر‪:‬‬ ‫‪Fernando Bravo López (2009), «Islamofobia y antimusulmanismo en la obra de Cesar Vidal», Revista‬‬ ‫‪de Estudios Internacionales Mediterráneos, 8, pp. 47-71; Eduardo Manzano (2001), «Reseña a Serafín‬‬ ‫‪Fanjul, Al-Andalus contra España», Hispania, lxi/3 (209), pp. 1161-1164; María Isabel Fierro (2004),‬‬ ‫‪«Idealización de al-Andalus», Revista de Libros, 94; Luis Molina (2004), «Reseña a Serafín Fanjul.‬‬ ‫‪ Fernando Rodríguez Mediano (2006),‬و ;‪La quimera de al-Andalus», Al-Qantara, xxv, pp. 571-575‬‬ ‫‪«Reseña a Serafín Fanjul, La quimera de al-Andalus», Aljamía, 18, pp. 295-300.‬‬

‫‪156‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫االختالفات يف املنهج‬

‫إن التطور الكبري يف الدراسات الثقافية يف الواليات املتحدة األمريكية يفرس جزئياً بعض‬ ‫االختالفات التي يقدمها علم التاريخ األنكلوسكسوين –األمرييك عىل وجه الخصوص– واإلسباين‬ ‫ومعه أيضاً الفرنيس بالنسبة ملوضوعة «التعايش»‪ ،‬وهو ما شدد عليه ريان سبيتش يف عمل‬ ‫صدر مؤخرا ً‪ .30‬ويرشح املؤلف سبب هذا الخالف لوجود نزاع أوسع بني التقاليد التطبيقية‬ ‫والتأويلية الحارضة يف تطوير دراسات فقه اللغات منذ القرن التاسع عرش وبشكل خاص يف‬ ‫الدراسات التاريخية‪ .‬هذا الرشخ ما بني التأويلية والتطبيقية مرتبط بقطع الصلة التي أرستها‬ ‫الرومانسية األملانية ما بني ‪ Bildung‬و ‪ ،Wissenschaft‬بفهم الكلمة األوىل عىل أنها فكرة‬ ‫لتحقيق الذات بواسطة الرتبية التي يقوم بها الفرد نفسه‪ ،‬والثانية كمعرفة ومن خالل العلم ال‬ ‫بد لها من أن تقود إىل تلك‪ .‬ثم إن فصم هذا االتحاد يف النصف الثاين من القرن التاسع عرش‬ ‫لصالح العلوم املتحررة من أي ذاتية قد بلغ الدراسات اإلنسانية بعمق ومتثل يف التباعد ما بني‬ ‫فقه اللغة التأوييل واللغوي‪ .‬وهذا يساعد‪ ،‬وفقاً لرأي سبيتش‪ ،‬عىل رشح مسار شخصيات مثل‬ ‫أمرييكو كاسرتو أو مجايله إريك أورباخ (‪ )1957-1892‬وهو معارض أيضاً ألي تاريخ علمي‬ ‫–نظرا ً الستحالة اللجوء فيه إىل التجريب– لصالح حكاية تصويرية‪ ،‬يسيطر عليها التأويل‬ ‫واألسئلة املتعلقة بالبعد الجوهري‪.31‬‬ ‫هذا االختالف يفرس أيضاً ابتعاد االستعراب اإلسباين الحديث عن الخط األكرث تثاقفية‬ ‫وتأويلية الذي اتبعه مؤلفون مثل خوليان ريبريا (‪ )1934-1858‬وميغيل أسني باالثيوس‬ ‫(‪ )1944-1871‬يف النصف األول من القرن العرشين وانتهى يف عرصنا إىل نوع من االرتباط‬ ‫الوثيق بالخطوط األكرث هيمنة دولياً يف مجال الدراسات العربية‪ .‬وهكذا‪ ،‬بينام نرى أن هذا‬ ‫التوجه كان يتسم بيشء من النفور من صيغ الرسد العظيم للتاريخ (‪ )grand rècit‬كان‬ ‫العكس يحدث يف أقسام الدراسات الثقافية أو دراسات األدب يف الواليات املتحدة األمريكية‬ ‫حيث تم اتباع نهج معكوس متيز بانتشار أفكار الدراسات املقارنة واإلعجاب بدراسة الهويات‬ ‫وظواهر التهجني من خالل منهجيات ما بعد االستعامر والدراسات متعددة التخصصات‪.32‬‬ ‫‪ 30‬ملزيد من التفاصيل أنظر‪:‬‬ ‫‪Ryan Szpiech (2013), The Convivencia Wars: Decoding Historiography’s Polemic with Philology, en‬‬ ‫‪Suzanne Conklin Akbari y Karla Mallette. A Sea of Languages: Rethinking Arabic Role in Medieval‬‬ ‫‪Literary History. Toronto: University of Toronto Press, pp. 254-295.‬‬ ‫‪ 31‬أنظر املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.284-266‬‬ ‫‪ 32‬أنظر املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.284-283‬‬

‫‪157‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫مثة نقد معقول ويستحق أن يُؤخذ يف الحسبان‪ ،‬فقد انشغلنا بالربهنة عىل أن مفهوم‬ ‫«التعايش» ليس له سند تاريخي وأغفلنا مسألة استكشاف اإلمكانيات التي انطوى عليها‬ ‫ذلك التعقيد الثقايف للعصور الوسطى اإلسبانية‪ .‬صحيح أيضا أن التاريخ االجتامعي يف بلدنا‬ ‫كثريا ً ما ترك جانباً النواحي الثقافية إىل درجة أنه يف الكثري من الحاالت بدت تفسرياته وكأنها‬ ‫تحيل إىل الكولخوزات الروسية أكرث منه إىل الجوانب املثالية واملادية –وهي يف الواقع يصعب‬ ‫متييزها– التي كانت تشكل مجتمعات العصور الوسطى‪ .‬وهذا ما يفرس بقاء نقد غليك ويب‬ ‫سونيري سارياً عندما أشارا إىل أن املؤرخني اإلسبان مل يكونوا دامئاً عىل وعي باإلمكانات التي‬ ‫تقدمها الدراسة متعددة الثقافات للعصور الوسطى يف شبه جزيرة أيبرييا‪ .‬وبالفعل مثة انطباع‬ ‫بأن حقل الدراسات يحتاج إىل مراجعة مهمة ال بد لها من إعادة طرح موضوعات البحث‬ ‫انطالقاً من منظورات جديدة‪ ،‬مع القبول بـ «تحول ثقايف» كان يف الكثري من الحاالت مير دون‬ ‫أن يتنبه له أحد حتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫فضالً عن تقبل هذا النقد تجدر اإلشارة أيضاً إىل جوانب أخرى أكرث مدعاة للنقاش يثريها‬ ‫عمل سبيتش‪ ،‬أحدها هو الذي يشري إىل بعض التهافت النظري الذي يصدر عن املؤلفني‬ ‫اإلسبان والفرنسيني‪ ،‬املتقَولبني ضمن علمية ترص عىل التمسك باملعطيات‪ .‬ودومنا استبعاد‬ ‫الحتامل أن يكون األمر صحيحاً يف الكثري من الحاالت –عىل غرار ما يحدث يف أي تقليد خاص‬ ‫بعلم التاريخ وال يعد هذا بالرضورة أمرا ً سلبياً– ال بد من التذكري بأن حقل دراسات العصور‬ ‫الوسطى –أشري إليها بشكل عمومي– قد أفسحت املجال يف بلدنا لعدد كبري من املناظرات‬ ‫والنقاشات النظرية ضمن إطار املادية التاريخية لعلم اللغويات واألنرثبولوجيا االجتامعية‪.33‬‬ ‫حقاً أن تلك املناظرات مل ترس يف بعض االتجاهات السائدة يف الواليات املتحدة‪ ،‬لكنني ال‬ ‫أعتقد أن التفسريات التي تركز عىل القضايا املتعددة الثقافة فقط كانت هي الوحيدة التي‬ ‫بحثت عن إبراز أهمية املعطيات التجريبية‪ .‬فقد كانت إسهامات التاريخ االجتامعي مهمة‬ ‫أيضاً وعىل نطاق واسع‪.‬‬ ‫أما يف مجال االستعراب‪ ،‬عىل وجه التحديد‪ ،‬فأظن أن إهامل الرؤى التي سيطرت عىل‬ ‫‪ 33‬ملزيد من التفاصيل أنظر أثيني أملانسا (‪،)1998( )Manuel Acién Almansa‬‬ ‫‪«Sobre el papel de la ideología en la caracterización de las formaciones sociales: la formación social‬‬ ‫‪islámica», Hispania, 58 (200), pp. 915-968; Pierre Guichard (1999), «A propos de l’identité anda‬‬‫‪ Eduardo Manzano (2012),‬و ;‪louse: Quelques éléments pour un débat», Arabica, 46, pp. 97-110‬‬ ‫‪Al-Andalus: un balance crítico, en Philippe Sénac. Histoire et Archéologie de l’Occident Musulman‬‬ ‫‪(VIIe-XVe siècle: Al-Andalus, Maghreb, Sicile). Toulouse: Université Le Mirail, pp. 19-31.‬‬

‫‪158‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫النصف األول من القرن العرشين كان يعود إىل نوع من عدم الثقة العميقة إزاء الطابع‬ ‫املؤدلج جدا الذي اكتسبه هذا االختصاص عىل أيدي مؤلفني مثل ريبريا وآسني باالثيوس أو‬ ‫غارثيا غوميث‪ .‬ومن جديد يتعلق األمر باتجاه ينبغي فهمه ضمن املفاتيح الذاتية ملجال علم‬ ‫التأريخ اإلسباين‪ .‬فقد تزامنت نهاية حقبة الجرنال فرانكو ضمن حركة االستعراب مع ظهور‬ ‫أزمة عميقة سواء عىل مستوى الهوية أو األهداف‪ ،‬بعد أن تعرضت األوىل (الهوية) للذوبان‬ ‫يف الحقل الغائم لـ «الدراسات السامية» والثانية (األهداف) لتزايد انعدام أهمية الدراسات‬ ‫الخاصة باألندلس التي مل تكن لتبدو مهمة بالنسبة لكثريين –وال حتى ألمرييكو كاسرتو‬ ‫وأتباعه– وألنها أغفلت دراسة قضايا مهمة‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬املوضوعات املعارصة التي كانت‬ ‫تستأثر بقدر أكرب من الطلب االجتامعي عليها‪.‬‬ ‫وعليه فاألجدر بنا أن نتذكر الساحة التي كان عىل املستعربني اإلسبان أن يواجهوها يف‬ ‫السبعينات لفهم الكثري من تطوراتها الالحقة‪ .‬ومن اإلنصاف االعرتاف بوجود ثغرات معرفية‬ ‫واسعة جدا ً آنذاك مبا مييل رضورة فتح مجاالت غري مسبوقة كلياً‪ :‬فعىل سبيل املثال كان‬ ‫القانون اإلسالمي قليالً ما يُد ّرس حتى تلك اللحظة‪ ،‬وعلم اللغويات التاريخي كان ال يزال‬ ‫يقر بأن الناس يف األندلس كانوا يستخدمون عىل نحو معمم اللغة الرومانثية‪ ،‬أو كيف أن‬ ‫الدراسات املعارصة كانت مجهولة متاماً آنذاك‪ .‬وهكذا كانت قامئة األعامل املؤجلة ضخمة‪.‬‬ ‫ويف هذا الظرف اختارت الدراسات العربية‪ ،‬وأظن أن خيارها كان صائباً متاماً‪ ،‬رفع مستوى‬ ‫قاعدتها املعرفية التي كانت حتى ذلك الحني ضعيفة‪ .‬وقبل الرشوع يف الطريق السهل‬ ‫للتجريب من خالل املعلومات النادرة واملتفرقة‪ ،‬اختار االستعراب اإلسباين الطريق الصعب‪،‬‬ ‫وأحياناً غري املفهوم‪ ،‬وذلك لتأسيس علم –كان قد عد حتى ذلك التاريخ علامً ثانوياً– عىل‬ ‫أسس أكرث رسوخاً‪.‬‬ ‫وحقيقة فإن ردة الفعل القوية التي يُالحظها سبيتش لدى مؤلفني معارضني ملفهوم‬ ‫«التعايش» –وهو ما حمله إىل الحديث عن «حروب» حول هذا املصطلح أو عن «نقد‬ ‫صاخب»– ال ميكن أن تعزى فقط إىل الرفض املوجه إزاء أي منظور ينطوي عىل نهج تأوييل‪.‬‬ ‫فقد أشارت برونا سورافيا إىل أن التحقق من غياب املراجع يف الدراسات الحديثة حول‬ ‫األندلس يف الكتب واملقاالت الصادرة باإلنجليزية حول التعددية الثقافية يف العصور الوسطى‬

‫‪159‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫يف شبه جزيرة أيبرييا ليس باألمر املعتاد‪ .34‬واألمر ليس مجرد تقييم ذايت يخص هذه املؤلفة‪.‬‬ ‫فلو تم فحص مراجع الكثري من هذه األعامل سيمكننا التحقق‪ ،‬إضافة إىل الفجوات الواسعة يف‬ ‫حقل املصادر األولية‪ ،‬من أن مؤلفيها بالكاد استعانوا مبصادر باللغات اإلسبانية أو القطالونية‬ ‫أو الفرنسية أو الربتغالية‪ ،‬وهي اللغات التي تم نرش أكرث اإلسهامات أهمية خالل العقود‬ ‫الثالثة األخرية بها‪ ،‬إضافة إىل اإلنجليزية‪ .‬وعليه فإن املشكلة تبقى متكررة‪ :‬ترى هل ميكن‬ ‫تصديق تأويالت تقوم استنتاجاتها أحيانا عىل معرفة مقتضبة جدا ً ليس فقط عن اإلثباتات‬ ‫املتوفرة بل أيضاً عن بحر اإلسهامات الحديثة التي ظهرت يف علم تاريخ نشط وحيوي عىل‬ ‫نحو خاص؟ لذا ال أعتقد أن من املستغرب أن يكون الرد من هذا الجانب من األطليس م ّياالً‬ ‫للسلبية املفرطة‪.‬‬ ‫ومع ذلك فمن املمكن القول إن الكثري من هذه التأويالت ال تبحث عن املوثوقية التاريخية‬ ‫القطعية‪ .‬فنيتها هي إظهار ما إذا كان املايض قد شهد حقباً أمكن فيها خلق الظروف املواتية‬ ‫التي تعني الثقافات عىل الحوار فيام بينها‪ ،‬ويف الوقت الراهن علينا أن نسعى للتقدم يف اتجاه‬ ‫مشابه مستهدين بهذه النامذج‪ .35‬إن طرحاً من هذا النوع يصعب أال نتفق معه‪ .‬بيد أن‬ ‫املشكلة تكمن يف أننا بقبولنا التضحية مبسألة الدقة التاريخية من أجل هدف محمود كام هو‬ ‫الحال مع عالقات األخوة الكونية لن نضحي بالقواعد فحسب ألنها ستتعطل بل وأيضاً سنجد‬ ‫الكثريين ممن سيطالبون باالستثامر السيايس للرسالة‪.‬‬ ‫لقد رأينا كيف أن زعيامً دينياً إسالمياً يستحرض «مرحلة عظيمة من اإلثراء الثقايف الذي‬ ‫أبدعه املسلمون»‪ ،‬لكننا رأينا أيضاً طاغي ًة مشبعاً بروح كاثولوكية مجندة يدعي بوصاية الدولة‬ ‫املتسامحة التي حمت املساجد واملعابد يف إسبانيا العصور الوسطى‪ .‬مثة طبيعة متامثلة‬ ‫للرسالة مع اختالف األهداف جذرياً‪ .‬ولو قدر لنا أن نختار فإنني سأختار بال شك الرسالة‬ ‫الضمنية يف خطاب الرئيس أوباما –وإين لواثق من أن الكثري من األكادمييني األمريكيني‬ ‫واألوروبيني الليرباليني حقاً سيتخذون أيضاً املوقف نفسه– لكن‪ ،‬هل سيقنع هذا الخطاب‬ ‫‪ 34‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Bruna Soravia (2009), Al-Andalus au Miroir du Multiculturalisme. Le Mythe de la Convivencia‬‬ ‫‪dans quelques Essais Nord-Américains Récents, en Manuela Marín (ed.). Al-Andalus/España.‬‬ ‫‪Historiografías en contraste: siglos xvii-xxi. Op. Cit., p. 352.‬‬ ‫‪ 35‬أنظر يف هذا الصدد إىل الكلامت املهمة لهارولد بلوم العظيم يف مقدمة كتاب ماريا روسا مينوكال عام ‪« ،2002‬أندلس‬ ‫مينوكار[‪ ]..‬ميكن أن يجسد نقطة حقيقية يف عملية أمثلة صحية ومفيدة» يف‪:‬‬ ‫‪María Rosa Menocal (2002), The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Cre‬‬‫‪ated a Culture of Tolerance in Medieval Spain. Op. Cit., p. xii.‬‬

‫‪160‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫أولئك الذين يعتقدون عىل سبيل املثال بأن «التعايش» األندليس كان نتيجة التطبيق الصارم‬ ‫للقانون اإلسالمي فيام يتعلق بوضعية الذميني؟ إن استنتاجات كهذه هي التي حملت مؤلفني‬ ‫من أمثال مانويال مارين عىل اإلشارة مبنطقية تامة إىل أن استخدام مصطلح «التعايش»‪« :‬ال‬ ‫ميكن أن يؤدي سوى إىل املزيد من توليد عنارص غموض أخرى يف نقاش يكتنفه الخلل يف‬ ‫العديد من جوانبه»‪ .36‬هذا النقاش املعيوب وهذا الغموض هام اللذان يرشحان‪ ،‬يف رأيي وإىل‬ ‫حد كبري‪ ،‬معارضة الكثري من املؤرخني اإلسبان الخوض يف موضوعات أثبتت التجربة فيها أنه‬ ‫ال الرسائل جلية حسب ما يُزمع وال تلقّيها يبدو بسيطاً كام يؤمل‪.‬‬ ‫الرسد التاريخي العظيم يطرح مشكالت أخرى أيضاً‪ .‬لقد رأينا أنه من املمكن انتقاء صور‬ ‫ومفاهيم تيضء موضوعة التسامح يف العصور الوسطى الستخالص استنتاجات لصالح مثاليات‬ ‫التعايش بني الثقافات واألديان‪ .‬ولكن مع ذلك فباتباع منهج مشابه رأينا أيضاً أن مؤلفني‬ ‫آخرين توصلوا إىل استنتاجات مغايرة متاماً‪ ،‬من خالل تضخيم تأريخ املواجهات الطويل ما‬ ‫بني ثقافات قامئة حتى يومنا هذا‪ .‬ورؤية كهذه تلجأ أيضاً إىل املايض لرسم الحارض‪ ،‬نظرا ً ألنها‬ ‫تستدعي وجود حروب اسرتداد غري مشكوك يف وجودها أو حروباً مقدسة أو حروباً صليبية‬ ‫من شأنها أن تثبت االستحالة التاريخية يف الوصول إىل اتفاقيات ال تتأسس عىل منطق الهيمنة‪.‬‬ ‫وهكذا فإن هذا املنظور يطالب باستعادة الصفحات التاريخية املتعلقة بالعنف والحروب‬ ‫كدليل عىل منظور واقعي يعرتف بحتمية الرصاع مقابل مفهوم مثايل يفضل الرتكيز عىل‬ ‫املشاهد الشحيحة والعابرة للعيش السلمي املشرتك‪ .‬ورؤية كهذه‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬تصل‬ ‫أيضاً إىل تربير طرد األقليات الدينية خالل العصور الوسطى بالقول بأنها عىل الرغم من كونها‬ ‫مثلت إجراء مؤملاً إال أنها حالت دون تعرض املجتمعات اإلسبانية إىل التوترات املجتمعية التي‬ ‫عرفتها بلدان أخرى‪ .‬ومن جديد فإن االستنتاجات مختلفة جدا ً‪ ،‬إال أن مفهوم التاريخ نفسه‬ ‫كمرآة للحارض والبحث يف املايض عن سوابق لألوضاع الحالية ال يزال يوظف بطريقة مامثلة‬ ‫متاماً‪.‬‬ ‫وكام أرشت يف مناسبات أخرى‪ ،‬فعندما يتم التخيل عن اللجوء إىل الدقة التاريخية ويصار‬ ‫إىل تفضيل استخدام املايض إلدارة الحارض نجد أن النتائج تكون غري متوقعة‪ :‬بدءا ً باالستثامر‬ ‫غري املرغوب فيه اإلنجازات القدمية (أساليف مقابل أسالفك) حتى نفخ الخطابات املتضادة‪،‬‬ ‫‪ 36‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Manuela Marín y Joseph Pérez (1992), «L’Espagne des Trois Religions. Du Mythe aux Realités.‬‬ ‫‪Introduction», Revue de Monde Musulman et de la Mediterranée, 63-64, p. 23.‬‬

‫‪161‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫تلك التي تصارع من أجل استخالص تربيراتها من برئ ال قرار لها ونعني بها التاريخ الذي‬ ‫ميكن أن نستخرج منه الرباهني لتربير أي يشء‪ .37‬وعليه كيف نستغرب من أن داريس العصور‬ ‫الوسطى واملستعربني اإلسبان والفرنسيني قد امتنعوا عن الخوض كثريا ً يف هذه املتاهات‬ ‫املتعلقة بالجوهر؟ لذا فإنها اللحظة التي ينبغي فيها أن نعود لنتساءل إىل أي درجة ميكن‬ ‫ألفكار مشبعة مبفهوم التسامح أن تُطبق عىل التفسري التاريخي‪.‬‬

‫«التعايش» كمفهوم تاريخي‬

‫وكام أرشت من قبل فإن إحدى الفرتات التاريخية التي عادة ما توصف بأنها مثلت أعىل‬ ‫درجة من درجات التسامح االجتامعي هي فرتة الخالفة األموية‪ .‬فاالزدهار الذي تحقق‬ ‫آنذاك يف قرطبة‪ ،‬عاصمة الخالفة‪ ،‬عادة ما يقرن بوجود أجواء مواتية من االحرتام تجاه‬ ‫اآلخر بل ومن القبول غري الواعي بالتناقضات الذاتية التي البد من أنها قد فسحت املجال‬ ‫لتوليد زخم إبداعي مريئ فاعل عىل مستوى اإلنجازات الفكرية والفنية واالجتامعية‪ -‬أيضاً‪-‬‬ ‫العظيمة‪ .‬وأفضل ما يف التقليد اإلسالمي ميكن أن يكمن يف محصلة موقفه املتمثل بالقبول‬ ‫االندماجي لتأثريات هي غاية يف التنوع واالختالف دون أن يعني هذا التخيل عن سامت‬ ‫هويته الذاتية‪.38‬‬ ‫وليك يثبت هذا الرأي منطقيته علينا أن نتحقق من وجود مناخ للتعددية الثقافية واحرتام‬ ‫االختالف يف القرن العارش‪ ،‬خالل قرن الخالفة األموية يف قرطبة (‪ .)1031-929‬ومع ذلك‬ ‫فإن املعلومات ليست بهذا الوضوح‪ .‬فهي تظهر بعض خلفاء قرطبة ممن يقدمون أنفسهم‬ ‫ويترصفون عىل أنهم حراس غيورون عىل العقيدة الدينية فيالحقون أتباع الفيلسوف ابن‬ ‫مرسة ويجتثون أي محاولة للتغلغل الشيعي أو كام يف حالة املنصور الذي أمر بحرق األعامل‬ ‫املحفوظة يف مكتبة الخليفة الحكم املتعلقة بالفلسفة وعلم الفلك أو النقاشات العقائدية‪.‬‬ ‫هذه املعطيات ومعلومات أخرى ال تسمح بتوضيح املناخ االجتامعي «املتسامح» للخالفة يف‬ ‫قرطبة‪ ،‬يف األقل عىل نحو معمم‪ .‬واللجوء إىل العنف كان عنرصا ً كامناً يف املجتمع األندليس‬

‫‪ 37‬أنظر إدواردو مانثانو (‪،)2009‬‬ ‫‪Pensar históricamente al otro, en Marició Jauné i Miret (ed.). Pensar històricament. Ètica, ensenya‬‬‫‪ment i usos de la història. Valencia: Publicacions de la Universitat de València, pp. 103-122.‬‬ ‫‪ 38‬أنظر ماريا روسا مينوكال (‪،)2002( )María Rosa Menocal‬‬ ‫‪The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in‬‬ ‫‪Medieval Spain. Op. Cit., pp. 79 y ss.‬‬

‫‪162‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫ومن شأنه أن يتجىل يف أشكال ومظاهر متنوعة‪.39‬‬ ‫وخارج سياق املجتمع اإلسالمي تبقى املعلومات التي لدينا حول املجتمعني اليهودي‬ ‫واملسيحي يف عهد خالفة قرطبة شحيحة جدا ً‪ ،‬وقد يبدو هذا أمرا ً صادماً إذا ما أخذنا يف‬ ‫الحسبان الثقل الكبري ملسألة مفهوم التعايش‪ .‬فعملياً نحن ال نعرف شيئاً عن الجامعات‬ ‫اليهودية يف الحقبة األندلسية املبكرة‪ .‬واملؤكد أنهم قدموا العون يف عام ‪ 711‬م إىل‬ ‫الفاتحني العرب‪ ،‬ومن املؤكد أيضاً أن قانون الذميني سمح لهم بالتحرر من القوانني‬ ‫الوحشية التي فرضها امللوك القوطيون عليهم خالل املرحلة السابقة كلها ‪ .40‬ولكننا مع‬ ‫ذلك نجهل حجم الجاليات اليهودية وكيف كانت تنظم نفسها وأي دور كانت تضطلع‬ ‫به أو السياقات االجتامعية التي انخرطت فيها‪.‬‬ ‫وبالفعل فإنه عند الحديث عن اليهود يف عهد خالفة قرطبة فإن الحديث يكون فقط عن‬ ‫شخص احتكر أو استأثر باملعلومات املتاحة كلها ونعني به حسداي بن إسحاق بن شربوط‪.‬‬ ‫ولو أن ما نعرفه حوله ال يسمح لنا بتسطري موسوعة عنه إال أنه يف األقل كان من جيان وأنه‬ ‫كان طبيباً وعمل يف بالط عبد الرحمن الثالث يف منصب حاجب (وليس وزيرا ً‪ ،‬كام يؤكد‬ ‫كثريون خطأً) وأنه قد قام بدور مبعوث الخليفة يف سفارات إىل امللوك املسيحيني أو كوسيط‬ ‫عند وصول خوان دي غوريث‪ ،‬سفري اإلمرباطور أوتون األول‪ .‬كام أن اهتاممه برتجمة مؤلف‬ ‫يف مادة الطب ديوسقوريدوس وعىل نحو خاص تبنيه ملؤلفني من أمثال مناحيم بن رسوق‬ ‫أو دوناش بن لربط‪ ،‬وهام باإلضافة إىل كونهام شاعرين كانا قد دشنا علم املعاجم العربي‬ ‫يف األندلس‪ ،‬قد ضمن لحسداي سمعة يستحقها بوصفه رائدا ً للثقافة اليهودية األندلسية‬

‫‪ 39‬أنظر ماريا إيسابيل ّفريو بيو (‪،)2004( )María Isabel Fierro Bello‬‬ ‫‪Violencia, política y religión en al-Andalus durante el s. iv/x: el reinado de ‘Abd al-Rahman III, en‬‬ ‫‪María Isabel Fierro. De muerte violenta. Política, religión y violencia en al-Andalus. Madrid: Consejo‬‬ ‫‪ Laura Bariani (2003), Almanzor. San Sebastián:‬و ;)‪Superior de Investigaciones Científicas (csic‬‬ ‫‪Nerea, pp. 104-105.‬‬ ‫‪ 40‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Raúl González Salinero (2000), Las conversiones forzosas de los judíos en el reino visigodo. Madrid:‬‬ ‫‪csic.‬‬

‫‪163‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫الزاهية‪ .41‬ونظرا ً إىل أن املعلومات التي لدينا عن هذه الحقبة تركز بشكل أسايس عىل شخصه‬ ‫أو محيطه املبارش فمن الصعب أن نعرف إىل أي مدى كان حسداي يشكل حالة استثنائية أو‬ ‫ظاهرة تشري إىل وجود دور بارز جدا ً لليهود يف األندلس خالل عرص الخالفة‪.‬‬ ‫كام أن املعلومات املتاحة عن املسيحيني يف هذه الفرتة مل تكن أكرث وفرة‪ .‬وإذا كان علينا أن‬ ‫نصدق مصادر التاريخ فإن الوضع الداخيل للجامعات املسيحية األندلسية عىل ما يبدو كان‬ ‫هادئاً وما حدث يف تلك األوقات كان ميثل آخر حرشجات حركة الشهداء املتطوعني التي هزت‬ ‫املجتمع القرطبي يف القرن السابق‪ .‬ومثة شخصية بارزة هنا هو ريثيموندو أسقف إلبرية الذي‬ ‫كلفه الخليفة أيضاً مبهام سفري ووسيط لدى خوان دي غروثني‪ ،‬كام أنه انخرط يف مرشوعات‬ ‫فكرية من بينها ما أطلق عليه بـ «تقويم قرطبة» يف حوايل عام ‪.42 961‬‬ ‫ومع ذلك فإن عالقات الجالية املسيحية األندلسية كان عليها أن تأخذ بعني االعتبار عنارص‬ ‫محددة‪ ،‬نظرا ً ملناخ املواجهة القوية التي كانت قامئة بني األندلس واملاملك املسيحية التي‬ ‫كانت تنتهي يف الكثري من الحاالت إىل حمالت عسكرية عىل الشامل‪ .‬وهذا ما يفرس عىل‬ ‫سبيل املثال اإلحاالت املبكرة إىل استشهاد الطفل بياليو املشهور من جانب عبد الرحمن‬ ‫الثالث والتي ينبغي فهمها يف إطار هذه العالقات السياسية التي فسحت املجال لوجود هالة‬ ‫من االهتامم بهذا الحادث‪ ،‬أو ما خصته به الراهبة هروسويتا يف ساكسونيا السفىل يف النصف‬ ‫الثاين من القرن العارش‪.43‬‬ ‫ وبصفة عامة فهذه هي املعلومات األولية التي لدينا حول املجتمعني اليهودي‬ ‫واملسيحي يف عهد خالفة قرطبة‪ .‬ت ُرى هل يحق لنا أن نتكلم عن التسامح يف املجتمع األندليس‬ ‫‪ 41‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Ángel Sáenz-Badillos y Judit Targarona Borrás (1988), Diccionario de autores judíos (Sefarad, siglos‬‬ ‫‪ Ángel Sáenz-Badillos (2004), «Gramáticas y léxicos y su‬و ;‪x-xv). Córdoba: El Almendro, pp. 50-51‬‬ ‫‪relación con el judeoárabe. El uso del judeoárabe entre los filólogos hebreos de al-Andalus», ILU,‬‬ ‫‪Revista de Ciencias de las Religiones, ix, pp. 75-93.‬‬ ‫‪ 42‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Ann Chrystys (2002), Christians in al-Andalus (711-1000). Richmond: Curzon Press, pp. 80-134.‬‬ ‫‪ 43‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Juan Gil (1972), «La Pasión de Pelayo», Habis, iii, pp. 161-202. De la propia Hroswitha procede la‬‬ ‫‪expresión «ornamento del mundo».‬‬ ‫من هروسويتا جاء تعبري «زينة العامل»‪ .‬أنظر االستنتاجات املهمة التي استخرجها كنيث باكسرت وولف يف عام ‪ ،2007‬فيام‬ ‫يتعلق بالكتاب الذي يحمل العنوان نفسه‪،‬‬ ‫‪»Convivencia and the Ornament of the World», Spartanburg, South Carolina: Southeast Medieval‬‬ ‫‪Association, Wofford College.‬‬

‫‪164‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫نظرا ً ألن حسداي بن اسحق بن رشبوط وريثيموندو قاما مبهام يف خدمة الخليفة واحتفظا‬ ‫بنشاط فكري بارز؟ إذا ما اقترصنا فقط عىل هذه املعلومات سيصبح من الصعب التفكري بهذا‬ ‫النحو‪ .‬فاستخدام بعض اليهود واملسيحيني يف بعثات دبلوماسية أو كمرتجمني كان أمرا ً شائعاً‬ ‫متاماً كام كان مألوفاً إنزال العقوبات بهم لعدم قيامهم مبثل هذه املهام بالشكل املناسب‪،44‬‬ ‫يف حني أن كتابة األعامل أو التشجيع عىل وضع أعامل محددة يُفرس يف إطار مناخ الفورة‬ ‫اإلبداعية العظيمة التي كانت متور يف عرص الخالفة‪ .‬وبالفعل فإن اإلنتاج الكتايب املرتبط‬ ‫مبارشة بالشخصيتني ال يُفرس يف إطار ديانتيهام بل يف إطار اندماجهام يف دوائر بالط الخالفة‪.‬‬ ‫من هنا جاء ما يُسمى يف الكثري من الحاالت بـ «ازدهار الخالفة األندلسية»‪ .‬ومل يُركز مبا فيه‬ ‫الكفاية عىل أن هذه الخالفة هي التشكيل السيايس األكرث قوة الذي عرفته شبه جزيرة أيبرييا‬ ‫وكذلك أوروبا الغربية منذ نهاية اإلمرباطورية الرومانية‪ ،‬وهو ما تظهره املبالغ الفلكية التي‬ ‫تراكمت من جباية الرضائب يف عهد األمويني‪ .‬إن اإلنتاج الفكري والفني االستثنايئ الذي تولد‬ ‫عن هذه الخالفة ال يُفرس فقط بوجود جو التسامح‪ ،‬بل بزيادة املوارد يف تلك الفرتة والتي‬ ‫استفاد منها الخلفاء األمويون ودوائر بالطهم بشكل كبري‪.45‬‬ ‫ باملقابل فإن شخصيتي ريثيموندو وحسداي تجسدان عىل نحو ممتاز التعريب‬ ‫العميق للجاليتني املسيحية واليهودية‪ ،‬وهو األمر الذي ترافق مع املحافظة عىل اللغتني‬ ‫الالتينية والعربية عىل األقل بني الطبقات املرفهة‪ .‬هذا التعريب للجاليتني مل يقترص فقط عىل‬ ‫الجوانب اللغوية بل تغلغل أيضاً يف الحقل الثقايف‪ ،‬وهو ما يتجىل من خالل العبارة املختزلة‬ ‫التي تنسب إىل دوناش بن لرباط املذكور‪« :‬فليكن روضك كتب األتقياء وجنتك كتابات‬ ‫العرب»‪ .46‬وشهادات كهذه تستدعي أنهارا ً من الحرب احتفاء مبجتمع متكن من أن يجعل كاتباً‬ ‫يهودياً يبدي تقديره للرتاث العريب عىل هذا النحو‪ .‬ومع ذلك فال بد من وجود تقدير أكرث‬ ‫‪ 44‬أنظر عىل سبيل املثال التهديد بإنزال العقوبات القاسية التي وجهها الحكم الثاين إىل قايض املسيحيني يف قرطبة أصبغ‬ ‫بن عبد الله نظرا ً ألنه مل يرتجم بشكل جيد أحكام سفارة مسيحية يف كتاب ابن حيان وعيىس بن أحمد الرازي (‪،)1967‬‬ ‫‪El Califato de Córdoba en el «Muqtabis» de Ibn Hayyan: anales palatinos del Califa de Córdoba al‬‬‫‪Hakam II. Madrid: Sociedad de Estudios y Publicaciones, p. 185.‬‬ ‫‪ 45‬أنظر إدواردو مانثانو (‪،)2006‬‬ ‫‪Conquistadores, emires y califas. Los omeyas y la formación de al-Andalus. Barcelona: Crítica.‬‬ ‫‪ 46‬ورد يف‪:‬‬ ‫‪Ross Bran (2002), Reflexiones sobre el árabe y la identidad literaria de los judíos de al-Andalus, en‬‬ ‫‪María Isabel Fierro (ed.). Judíos y musulmanes en al-Andalus y el Magreb. Contactos intelectuales.‬‬ ‫‪Madrid: Publicaciones de la Casa de Velázquez, p. 14.‬‬

‫‪165‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫إنصافاً لوضع األمور يف نصابها‪ :‬فلو تأملنا هذه الكلامت انطالقاً من منظور البحث عن حاالت‬ ‫التسامح فإنها لن تكون سوى انعكاس لعملية تهجني مفرتضة ميكن تفنيدها بسبب طابعها‬ ‫أحادي االتجاه‪ .‬باملقابل إذا ما تأملناها من منظور «عابر للثقافات» فإن قرائن مثل هذه من‬ ‫شأنها أن تحملنا إىل صياغة «مفهوم أكرث دقة عن التفاعل املعقد لليهود األندلسيني ]أو كام‬ ‫ميكن يل أن أضيف‪ ،‬للمستعربني[ ذوي الثقافة العربية اإلسالمية»‪.47‬‬ ‫وإحدى طرق صياغة هذا التصور ميكن أن تكون –باإلضافة إىل تحررنا من «التسامح»‬ ‫أو «التعايش» كمفهومني تاريخيني نظرا ً لطابعهام السيايس الواضح– نقل الرتكيز من الهوية‬ ‫الدينية إىل الهوية الثقافية‪ .‬وانطالقاً من وجهة النظر هذه‪ ،‬عندما يضع كاتب من أصل‬ ‫يهودي شعرا ً يف األندلس ال بد من اعتباره منضوياً تحت لواء التقليد الثقايف العريب األندليس‬ ‫الذي يجب أن يُفهم تكوينه يف إطار هذا املجتمع املعرب بشكل قوي مبقتىض التوجه الثقايف‬ ‫لطبقته السياسية القيادية‪ .‬وبالطريقة نفسها ينبغي إدراج النصوص املوريسكية يف إطار‬ ‫الثقافة القشتالية دون أن يؤخذ يف الحسبان الدين أو أصل محرريها‪ .‬ومع ذلك فإن صياغتها‬ ‫الحالية قسمت هذه التجارب االجتامعية إىل خانات جامدة ترتبط شجرة أنسابها مبارشة‬ ‫بالحارض‪ ،‬باعتبار أنه من غري املألوف أن تكون قد تعايشت معاً‪ .‬ولو كنا قادرين عىل التخلص‬ ‫من الهويات األحادية التي متيل دامئاً إىل تشكيل العقائد الدينية‪ ،‬فمن املمكن أن نغدو‬ ‫قادرين بشكل أفضل عىل تجسيد التطورات العابرة للثقافات يف التاريخ مع وضعها عىل‬ ‫اتصال مبسارات التغيري االجتامعي‪ .48‬إال أن منظورا ً كهذا سيسمح لنا بكرس التوازنات بني‬ ‫األديان والثقافات‪ ،‬مع األخذ يف الحسبان هذه األخرية كتعبري عن ديناميات اجتامعية قادرة‬ ‫عىل استيعاب عنارص من أصول متباينة جدا ً‪ .‬وكذلك فإن هذا املنظور من شأنه أن يسمح‬ ‫باستكشاف الظواهر املرتبطة بوجود مناذج ثقافية مسيطرة –وهي بوضوح العربية األندلسية‬

‫‪ 47‬أنظر املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪19‬؛ و‬ ‫‪Esperanza Alfonso (2008), Islamic Culture Through Jewish Eyes. Al-Andalus from the 10th to the 12th‬‬ ‫‪Centuries. Nueva York: Routledge.‬‬ ‫‪ 48‬أنظر عىل سبيل املثال االعتبارات املهمة التي يقدمها يف هذا الصدد جوناثان راي‪:‬‬ ‫‪Jonathan Ray (2005), «Beyond Tolerance and Persecution: Reassessing our Approach to Medieval‬‬ ‫‪Convivencia», Jewish Social Studies, 11 (2), pp. 1-18.‬‬

‫‪166‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫واإلسبانية‪-‬الرومانثية يف الشامل– وأداء الثقافات يف ظل أوضاع الهيمنة‪.49‬‬

‫استدعاء املفاهيم التاريخية‬

‫آمل أن أكون قد بينت يف الصفحات السابقة أن مفهومي «التعايش» أو «التسامح»‬ ‫ينطويان عىل إمكانيات عملية متدنية كأداتني للمعرفة التاريخية‪ .‬فاألمر يتعلق مبفاهيم‬ ‫سياسية مستخدمة من ِقبل العبني مختلفني يف ظروف مختلفة‪ ،‬مجسدة برامج عمل ذات‬ ‫غايات متنوعة جدا ً‪ .‬لذا ينبغي لنا أن نكون دوماً واعني جدا ً برضورة أن يكون محتواها يف‬ ‫خدمة أهداف ميكن تشاطرها بهذا القدر أو ذاك وميكن أيضاً أن تتجسد من خالل قطاعات‬ ‫متباينة جدا ً‪ .‬وهذا ال مينع من تعاطي التفسري التاريخي بحزم أكرب مام كان عليه الحال حتى‬ ‫اآلن مع بعض األفكار املرتبطة بهذه املفاهيم‪ .‬فواقع مجتمعات العصور الوسطى يف شبه‬ ‫جزيرة أيبرييا كان متعدد الثقافات وال معنى ملواصلة اعتبار كل واحد من عنارصها كام لو‬ ‫كان خانة مقسمة تقسيامً صارماً‪ .‬ثم أن هناك طيف واسع من املواقف التي أسفر عنها القرب‬ ‫واالتصال أو تهديد الثقافات األخرى‪ ،‬وسيكون بوسعنا أن نقدر ثراءها بشكل أفضل إذا ما‬ ‫نحينا جانباً‪ ،‬ال املوضوعات املطروقة املرتبطة بفكرة «التعايش» فحسب بل أيضاً التصنيفات‬ ‫التي تلح عىل تعريف اليهودية واملسيحية واإلسالم كـ «ثقافات» بينام هي يف الواقع ديانات‪.‬‬ ‫وبهذه الطريقة يُفتح الطريق أمام إمكانية تحديد مسيحية عربية أو يهودية عربية يف‬ ‫األندلس‪ ،‬وبالطريقة نفسها ال تعود املاملك اإلسبانية ترتبط حرصياً بالعنرص املسيحي‪.‬‬ ‫ومع ذلك فإن هذا الرأي مع ّرض لالنتقادات الجلية‪ .‬فالتمييز بشكل قاطع بني املفاهيم‬ ‫السياسية واملفاهيم التاريخية يحمل عىل التفكري بأنني أطرح فصالً مطلقاً بني الواقع الحارض‬ ‫والتاريخ وأدافع عن مفهوم لهذا األخري يبتعد عن أي التزام ويركز يف البحث عن املعرفة بال‬ ‫أهداف أخرى سوى لذة املعرفة‪ .‬وتاريخ بهذا الشكل يفتقر إىل أي صلة بالحارض من شأنه‬ ‫أن يغدو محض ولع باألنتيكات األكادميية خا ٍل من أي أهمية‪ .‬هذا النقد ميكن أن يأيت من‬ ‫مؤلفني مثل سيمون دوبلداي ممن أرصوا بنحو خاص عىل رفض أي إغراء بوضع حاجز وقايئ‬ ‫‪ 49‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Federico Corriente (2000), Tres mitos contemporáneos frente a la realidad de Alandalús:‬‬ ‫‪romanticismo filoárabe, cultura mozárabe y cultura sefardí, en Gonzalo Fernández Parrilla, Manuel‬‬ ‫‪C. Feria García y Eduardo Manzano Moreno. Orientalismo, exotismo y traducción. Op. Cit., pp. 45-46.‬‬

‫‪167‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫مع املايض مع األخذ يف االعتبار أن هذا األخري يجب أن يكون‪:‬‬ ‫]‪ [..‬مهامً بشكل كبري‪ ،‬أحياناً مبصطلحات القياس ويف أحيان أخرى مبفردات‬ ‫االستمرارية التاريخية طويلة األمد‪ ،‬وأحياناً ألن االتصال بتاريخ إسبانيا‬ ‫ميكن أن يزيد من حساسيتنا إزاء أهوال القمع والنهج اإلمربيايل والتعصب‬ ‫مهام كان أصلها‪.50‬‬

‫إن هذا املوقف تعرتيه بعض املشكالت‪ .‬فالبحث عن أهمية املايض من شأنه أن يؤدي إىل‬ ‫وضع أشبه باملتاهة‪ .‬وحسب دوبلداي نفسه فإنه يعرتف بأن القياسات التاريخية عىل سبيل‬ ‫املثال ليست هي املناسبة دامئاً‪ .‬وهو ما يوضحه الزعامء املتأسلمون الذين يرصون عىل عقد‬ ‫مقارن ٍة توازي بني التدخالت املسلحة التي يقوم بها الغرب والحروب الصليبية يف العصور‬ ‫الوسطى يف الرشق األوسط‪ .‬إن قياساً من هذا النوع قد يبدو ضعيف الحجة بالنسبة ملواقفنا‬ ‫األكادميية املسرتخية‪ ،‬لكنه رمبا ال يبدو مجافياً للمنطق بالنسبة ملواطن عراقي‪ .‬تُرى هل مثة‬ ‫قياسات الئقة وأخرى غري الئقة؟ ثم من ميلك الحق يف أن يقرر لياقتها؟ واليشء نفسه ينبغي‬ ‫قوله بالنسبة للبحث عن االستمراريات التاريخية عىل املدى الطويل‪ .‬وهل من الرضوري مثالً‬ ‫التذكري باملوضوعات املرتبطة بتاريخ إسبانيا كفصول قاسية وعنيفة متتالية منذ زمن القوط‬ ‫حتى فرتة الحرب األهلية التي حاول بعض املؤلفني إبرازها ليعطوا صورة غري لطيفة عن البلد؟‬ ‫هل علينا أن نتذكر مفاهيم بعض املراقبني حول تلك «االستمراريات» كدليل ملموس عىل‬ ‫‪51‬‬ ‫وجود «عادات إسبانية» قدمية قامئة عىل «التنكيل باألعداء دومنا متييز»؟‬ ‫يف الواقع إن الصيغة الوحيدة التي أمامنا للهروب من هذه املتاهات األساسية التي ال‬ ‫‪ 50‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Simon R. Doubleday (2008), Criminal Non-Intervention: Hispanism, Medievalism, and the Pursuit‬‬ ‫‪of Neutrality, en Simon R. Doubleday y David Coleman (eds.). In the Light of Medieval Spain. Islam,‬‬ ‫‪the West and the Relevance of the Past. Nueva York: Palgrave Macmillan, pp. 10-11.‬‬ ‫‪ 51‬الشهادة لعامل إجتامع منساوي وصل إىل برشلونة يف أغسطس عام ‪ .1936‬أنظر‪،‬‬ ‫‪Tom Buchanan (2007), The Impact of the Spanish Civil War on Britain: War, Loss and Memory.‬‬ ‫‪Brighton; Portland, Oregon: Sussex Academic Press.‬‬

‫‪168‬‬


‫إدواردو مانثانو مورينو‬

‫يُسرب غورها تكمن تحديدا ً باملطالبة بقيمة املعرفة التاريخية ذاتها‪ .‬وعند الدفاع عن هذه‬ ‫املعرفة فإنني ال أراهن عىل عدم االلتزام أو عىل االسرتخاء املريح يف الربج العاجي بل عىل‬ ‫العكس‪ ،‬فالطابع التحوييل للمعرفة التاريخية يجربنا ال مناص عىل تعزيز االلتزام بالحارض‪.‬‬ ‫إنه أمر كان حارضا ً دوماً لدى كبار مؤرخي القرن العرشين مثل مارك بلوك‪ ،‬لوسيان فيبفر‬ ‫أو إريك هوبسباون‪ .‬وبالطريقة نفسها التي أسهمت فيها معرفة الكون –برغم نأيه الجذري‬ ‫عنا– يف تعديل مفاهيمنا حول أنفسنا بشكل حاسم وزيادة املعرفة باملايض –مهام بدا لنا‬ ‫بعيدا ً– فإنه يسهم يف زيادة الوعي التاريخي يف مجتمعاتنا وبهذه الطريقة يسهم عىل نحو‬ ‫حاسم يف التقدم االجتامعي‪.‬‬ ‫بطبيعة الحال‪ ،‬وبرغم أن ال أحد يستطيع أن يقرتح إعداد «تواريخ نهائية» أو استكامل‬ ‫غرض «املوضوعية التاريخية»‪ ،‬فإن من الصحيح أن معرفتنا باملايض قد زادت عىل نحو‬ ‫مضاعف مرارا ً عىل غرار ما هو موثق يف علوم أخرى‪ .‬وأبدا ً مل يحدث يف التاريخ أن تتاح لنا‬ ‫الظروف لنقول كل هذه األشياء الكثرية املتعلقة باملايض‪ ،‬ومل يحدث أبدا ً يف التاريخ أن تتاح‬ ‫لنا الظروف لفهم مسارات التغيري املعقدة التي ص ّبت يف الحارض‪ .‬وعىل عكس ما يبحث عنه‬ ‫املدافعون عن الفكر املوغل يف الرجعية فإن هذا الحارض ال يكرر املايض مطلقاً وال يقدم‬ ‫أفكارا ً أزلية أبدا‪ ،‬وال يتقرر عىل اإلطالق بثقل التاريخ‪ .‬إنه محض نتاج التغيري ببساطة وحسب‪.‬‬ ‫ولهذا فإنه ال ميكن أن يُفهم أبدا ً دون معرفة كيف نتج هذا التغيري‪ ،‬كيف تطور املايض‪ ،‬وهنا‬ ‫تكمن أهميته القصوى‪ .‬ويف اليوم الذي سيدرك فيه املؤرخون أنهم ال يحتاجون إىل «تسويق»‬ ‫بضاعتهم باستدعاء املقارنات وسياقات االستمرارية أو فكرة الجوهر‪ ،‬سيتم التقدم خطوة‬ ‫عظيمة عىل طريق االعرتاف بالتاريخ كعلم بدونه يفقد الحارض معناه‪.‬‬ ‫لقد أردت أن أبني من خالل هذا البحث‪ ،‬يف الحالة التي نحن بصددها‪ ،‬إىل أي مدى‬ ‫يبدو مفهوما «التسامح» و «التعايش» أشبه بنوع من «غناء حوريات البحر» إذ عىل الرغم‬ ‫من أنهام قد يوحيا ببلوغ مرافئ زاهية‪ ،‬وأحياناً مفعمة بالنوايا الحسنة‪ ،‬إال أنهام ميكن‬ ‫أن يقودا يف النهاية إىل تناقضات شديدة حتى ليبدو لنا من الصعوبة مبكان التخلص منها‪.‬‬ ‫وعندما وصفتهام بأنهام مفهومان سياسيان مل أشأ بالطبع تحميلهام معنى سلبياً –فاملعرفة‬ ‫التاريخية نفسها‪ ،‬كام تبني يف الفقرة السابقة‪ ،‬سياسية عىل نحو عميق‪ .‬بل أن نيتي كانت‬ ‫تتجه نحو إثبات كونهام ميثالن برنامج تعبئة يف الحارض مع وجود أهداف قد تكون متنوعة‬ ‫كخيارات قامئة للسيطرة عىل خطابات متعارضة أو حتى متامثلة‪ .‬وإزاء برنامج التعبئة‬ ‫هذا‪ ،‬فإن املفاهيم التاريخية التي عرضتها هنا كصيغة لفهم املايض لها مدى يبدو ظاهرياً‬ ‫‪169‬‬


‫قرطبة‪ :‬بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش‬

‫أدىن طموحاً‪ ،‬لكنه من الناحية العملية ميلك صدى أكرب بكثري‪ .‬فاستيعابنا لألندلس بوصفها‬ ‫كانت مجتمعاً أضاء مسارات تحول هائل يصطدم مبارشة بالرؤى التي تقوم عىل فكرة‬ ‫الجوهر التي ترص عىل السعي إلقناعنا‪ ،‬بهذا املنظور أو ذاك‪ ،‬بأننا مل نتزحزح قيد أمنلة‬ ‫منذ ألف عام‪ .‬إن اإلرصار عىل أن الثقافات كانت متغرية ومتيل إىل السيطرة أو ألن يُسيطر‬ ‫عليها يقنعنا يف النهاية بأن أسالفنا كان عليهم أيضاً أن يواجهوا مواقف جديدة متاماً وغري‬ ‫متوقعة كتلك التي متيز عرصنا‪.‬‬

‫سرية املؤلف‬

‫إدواردو مانثانو مورينو حصل عىل شهادة الدكتوراه يف تاريخ العصور الوسطى من جامعة مدريد‬ ‫كومبلوتنسه وماسرت الفنون يف دراسات الرشق األدىن (مدرسة الدراسات الرشقية واإلفريقية) من‬ ‫جامعة لندن‪ .‬مدير مركز العلوم اإلنسانية واالجتامعية يف املجلس األعىل للبحوث العلمية (‪-2007‬‬ ‫‪ )2012‬ومتخصص يف تاريخ األندلس واآلثار السياسية للذاكرة التاريخية‪ .‬له إسهامات كبرية يف تاريخ‬ ‫القدس خالل الحرب العاملية األوىل‪ .‬من بني دراساته الواسعة تربز األعامل التالية‪« :‬شبه جزيرة أيبرييا‬ ‫وشامل إفريقيا» يف ‪ ،The New Cambridge History of Islam‬تحت إرشاف تشيس ف‪ .‬روبنسون‪،‬‬ ‫‪« ،2010‬العصور الوسطى» يف ‪ Historia de España‬تحت إرشاف جوزيب فونتانا ورامون بياريس‪،‬‬ ‫‪« ،2010‬غزاة وأمراء وخلفاء‪ :‬األمويون وتشكيل األندلس» (‪ ،)2007‬وإدارة الذاكرة‪ .‬تاريخ إسبانيا يف‬ ‫خدمة السلطة (بالتعاون مع خوان سيسينيو برييث غارثون‪ ،‬رامون لوبيث فاكال وأورورا ريفيري‬ ‫(‪ .)2002‬كام أنه كان عضوا ً يف مجلس تحرير املجالت العلمية التالية‪ :‬هسبانيا‪ ،‬القنطرة‪ ،‬آثار وأرايض‬ ‫العصور الوسطى أو جريدة دراسات العصور الوسطى ‪.Journal of Medieval Studies‬‬

‫امللخص‬

‫يركز هذا املقال يف كيفية تحول «التعايش» إىل مرجعية كونية يف العصور الوسطى‬ ‫اإلسبانية‪ .‬وهذه املرجعية تعود يف أصلها البعيد إىل أفكار العامل اللغوي اإلسباين أمرييكو‬ ‫كاسرتو‪ ،‬لكنها تعرضت إلعادة صياغة سمحت بتحويلها إىل أداة بهدف مواجهة التحديات‬ ‫متعددة الثقافات يف املجتمعات يف الربع األخري من القرن العرشين‪ .‬من هنا فإن «التعايش»‬ ‫إمنا هو مفهوم سيايس وليس مفهوماً تاريخياً‪ .‬هذا التضاد بني املفاهيم السياسية واملفاهيم‬ ‫‪170‬‬


‫التاريخية يثري يف الوقت نفسه نقاشاً واسعاً ومعقدا ً حول دور املعرفة التاريخية وأهميتها يف‬ ‫املجتمعات املعارصة‪.‬‬

‫الكلامت املفتاحية‬

‫األندلس‪ ،‬تعايش‪ ،‬أمويون‪ ،‬خالفة‪ ،‬قرطبة‪.‬‬


‫ﻣﺴﺆول اﻟﻨﴩ‪ :‬ﺧﺎﺑﻴري روﺳﻮن‬ ‫ﺗﺮﺟﻤﺔ‪ :‬ﺑﺎﻫﺮة ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻄﻴﻒ‬ ‫ﺗﺼﻤﻴﻢ اﻟﻐﺮاﻓﻴﻚ واﻟﺘﺼﻤﻴﻢ‪ :‬زوم ﻛﺮﻳﺎﺗﻴﺒﻮس‬ ‫رﻗﻢ اﻹﻳﺪاع اﻟﻘﺎﻧﻮين‪:‬‬ ‫‪CO 2316-2013‬‬ ‫‪ISBN:‬‬ ‫‪978-84-616-7790-0‬‬ ‫© اﻟﻨﺼﻮص‪ :‬ﻟﻠﻤﺆﻟﻔني‬ ‫© اﻟﺼﻮر اﻟﻔﻮﺗﻮﻏﺮاﻓﻴﺔ‪ :‬ﻟﻠﺒﻴﺖ اﻟﻌﺮيب‬ ‫© اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ‪ :‬ﻟﻠﺒﻴﺖ اﻟﻌﺮيب‬ ‫ﺷﺎرع اﻟﻜﺎﻻ‪ ،‬رﻗﻢ ‪62‬‬ ‫‪ 28119‬ﻣﺪرﻳﺪ )إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ(‬ ‫)‪c/ Alcalá, 62. 28009 Madrid (España‬‬ ‫‪www.casaarabe.es‬‬ ‫ﻃﺒﻊ ﰲ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ‪.‬‬ ‫ﻫﺬا اﳌﻄﺒﻮع ﻫﻮ ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻟﺠﺰء ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻘﺎﻻت ﺻﺪرت ﻣﺴﺒﻘﺎً ﺿﻤﻦ ﻋﺪد ﻣﺠﻠﺔ أوراق‪ :‬وﻫﺬه اﳌﺠﻠﺔ ﺗﻌﻨﻰ‬ ‫ﺑﺎﻟﺘﺤﻠﻴﻼت واﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻌﺎمل اﻟﻌﺮيب واﻹﺳﻼﻣﻲ اﳌﻌﺎﴏ‪ ،‬اﻟﻌﺪد رﻗﻢ ‪) 7‬اﻟﻔﺼﻞ اﻷول ﻣﻦ ﻋﺎم ‪.(2013‬‬ ‫اﳌﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﺘﻮﻓﺮة ﺑﺎﻟﻨﺴﺨﺔ اﻻﻟﻜﱰوﻧﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺮاﺑﻂ‪ www.awraq.es :‬و ‪issuu.com/casaarabe‬‬




Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.