مجلة الجديد العدد 12

Page 1

‫‪aljadeedmagazine.com‬‬

‫بط‬ ‫رس‬

‫مـؤسسها ونارشها‬ ‫‪Publisher‬‬ ‫الثاني ‪2014‬‬ ‫نوفمبر‪/‬تشرين‬

‫امل‬ ‫عري‬

‫هيثم الزبيدي‬

‫‪Haitham El-Zobaidi‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫‪Editor‬‬

‫هذا العدد‬ ‫بهذا‬

‫الجراح‬ ‫نوري‬ ‫َّ‬

‫‪Nouri Al-Jarrah‬‬

‫العدد تستهل "الجديد" سنتها الثانية منفتحة على اإلبداعات األدبية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومسرحا ويوميات‪ ،‬وعلى التيارات الحديثة في‬ ‫وشعرا‬ ‫سردا‬ ‫المبتكرة‬

‫الفكر العربي‪ ،‬باذلة صفحاتها ألصوات التفكير النقدي ولألقالم العربية المنادية‬

‫بالتغيير االجتماعي والثقافي والسياسي‪ ،‬انطالقا من وعي مستقبلي يرى في حال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َضيا ال مناص من تغييره‪ ،‬حتى يمكن للعرب أن يصبحوا جزءا‬ ‫واقعا مر‬ ‫العرب الراهنة‬ ‫فاعال من الحاضر العالمي‪ ،‬ويمكنهم بالتالي أن يستعيدوا دورهم الخالق في الحضارة‬

‫اإلنسانية‪.‬‬

‫فكريا‪ ،‬يحفل العدد األول في السنة الجديدة بثالثة محاور رئيسية‪ ،‬يتمثل األول‬ ‫في خمس مقاالت سجالية لعدد من األقالم العربية حاورت من مواقع ومشارب‬

‫متعدد األفكار التي طرحها المفكر عزيز العظمة في العدد الحادي عشر من "الجديد"‬ ‫وتمحورت حول القضايا المتفرعة من صدام األصولية والحداثة‪ ،‬ومسألة "الصعود‬

‫األصولي" في المجتمعات العربية‪.‬‬

‫ّ‬ ‫وست مقاالت من مشرق العالم العربي‬ ‫المحور الثاني حول "حال اللغة العربية"‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫شخصت وناقشت مسألة اللغة والمصطلح والتفكير المعاصر وأدوار اللغة‬ ‫ومغربه‪،‬‬

‫مستشارو التحرير‬ ‫أزراج عمر‪ ،‬أحمد برقاوي‬ ‫عبد الرحمن بسيسو‪ ،‬خلدون الشمعة‪،‬‬ ‫خطار أبو دياب‪ ،‬أبو بكر العيادي‬ ‫ابراهيم الجبين‪ ،‬رشيد الخيون‬ ‫تحسين الخطيب‪ ،‬مفيد نجم‬

‫التصميم والتنفيذ‬

‫القسم الفني ‪ -‬مؤسسة "العرب" لندن‬

‫رسامو العدد‪:‬‬

‫فادي يازجي‪ ،‬حسين جمعان‬ ‫إبراهيم الصلحي‪ ،‬مروان قصاب باشي‬ ‫خلدون شيشاكلي‪ ،‬صفوان داحول‬ ‫بطرس المعري‪ ،‬عدنان حميدة‪ ،‬عمران يونس‬ ‫محمد عتيبي‪ ،‬عمرو وهيبية‪ ،‬صادق توما‪ ،‬جواد‬ ‫محمد خياطة‪ ،‬عاصم الباشا‪ ،‬علي رضا سعيد‬ ‫جمال الجراح‪ ،‬ساي سرحان‬

‫العربية ومشكالتها في مجتمعات عربية تتكلم لغات ش ّتى وتص ّدر عن مرجعيات‬ ‫ثقافية ولغوية متعددة‪ ،‬وتعاني من مشكالت فكرية عميقة ومتشعّ بة وتفتقر إلى لغة‬

‫نقدية خالقة قادرة على سبر المشكالت الثقافية واالجتماعية من باب الحاجة إلى‬

‫تفكيكها وتحليلها استنادا إلى أفكار ومصطلحات جديدة‪.‬‬

‫املوقع عىل اإلنرتنت‪:‬‬

‫‪www.aljadeedmagazine.com‬‬

‫ّ‬ ‫يتعلق باإلرهاب الفكري والقمع خصوصا ذاك الذي حمله معه إلى‬ ‫المحور الثالث‬

‫عبر عن نفسه في معاداة الكلمة‬ ‫المجتمعات العربية رواج فكر التحريم‪ ،‬وهو ما ّ‬

‫‪.‬‬

‫واألدب والفكر الحر‪ ،‬والمضي في هذا العداء إلى حدود العنف واإلرهاب الجسدي‬ ‫أخيرا‪ ،‬فإن هذا العدد وقد جنح ّ‬ ‫جله نحو الفكر‪ ،‬لم يخل من نصوص شعرية وقصصية‬ ‫ً‬ ‫أخيرا‬ ‫ومسرحية‪ ،‬وحوارين واحد أدبي وآخر فني‪ ،‬ورسوم وعروض للكتب‪ ،‬ثم‬ ‫رسالة ثقافية من باريس عكست النقاش المستعر بين النخب الفرنسية حول اإلسالم‬

‫والمسلمين والمهاجرين انطالقا من الوقائع الباريسية األخيرة‬

‫المحرر‬

‫تصدر عن‬ ‫‪Al Arab Publishing Centre‬‬ ‫المكتب الرئيسي (لندن)‬ ‫‪Kensington Centre‬‬ ‫‪Hammersmith Road 66‬‬ ‫‪London W14 8UD, UK‬‬ ‫‪Tel: (+44) 20 7602 3999‬‬ ‫‪Fax: (+44) 20 7602 8778‬‬ ‫لالعالن‬ ‫‪Advertising Department‬‬ ‫‪Tel: +44 20 8742 9262‬‬ ‫‪ads@alarab.co.uk‬‬ ‫لمراسلة التحرير‬ ‫‪editor@aljadeedmagazine.com‬‬ ‫االشتراك السنوي‬ ‫لالفراد‪ 60 :‬دوالرا‪ .‬للمؤسسات‪ 120 :‬أو ما يعادلها‬ ‫تضاف إليها أجور البريد‪.‬‬

‫عمران يونس‬

‫‪ISSN 2057- 6005‬‬

‫ال تنشر المجلة كتابات سبق نشرها ورقيا أو إلكترونيا وال تدخل المجلة في أي مراسالت بشأن النصوص التي تعتذر عن نشرها‪.‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬


‫‪46‬‬

‫طيب تيزيني‪:‬‬ ‫اإلنسان الوحش‬ ‫العودة إلى ما قبل تاريخ‬

‫‪2‬‬


‫ر حــر وإبدا‬

‫ع‬ ‫جد‬ ‫يد‬

‫ثقا‬ ‫فية عربية‬

‫عة‬

‫كـ‬ ‫ف‬

‫جام‬

‫المحتويات‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاني ‪2016‬‬

‫السنة الثانية‬ ‫كلمة‬

‫‪6‬‬

‫اآلخر مرآة األنا‬

‫والخيال البشري عابر للزمن والهويات‬ ‫نوري الجراح‬

‫مقاالت‬

‫‪8‬‬

‫وقائع االستبداد الديني‬

‫في مطاردة الحاكم المتجبر‬ ‫أهل الفكر وروح الثقافة‬ ‫هاني حجاج‬

‫سلطة الخطاب فرس الرهان‬

‫‪18‬‬

‫في ظاهرة الجماهير‬ ‫أشرف صالح محمد‬

‫‪30‬‬

‫الخارج الذي هو داخلنا‬

‫‪72‬‬

‫قتل الرقيب الذاتي‬

‫‪126‬‬

‫خرافة الضرورات الشعرية‬

‫‪142‬‬ ‫‪144‬‬ ‫‪148‬‬

‫عبد الوهاب الملوح‬

‫جالل برجس‬

‫صالح حسن رشيد‬

‫احتمال النفاق في التشكيل‬ ‫عاصم الباشا‬

‫شيء عن دوما‬

‫نوار جابر‬

‫نصوص أوغاريت‬

‫هنا يبدأ التاريخ‬ ‫تيسير خلف‬

‫أصوات‬

‫‪36‬‬

‫تناسخ األصنام‬

‫‪88‬‬

‫مثقفون ولكن أصوليون‬

‫عمران يونس‬

‫‪82‬‬

‫غالف العدد الماضي ديسمبر‪ /‬كانون األول ‪2015‬‬

‫ُ‬ ‫كتاب في العدد‬ ‫أحمد برقاوي‬

‫أكاديمي ومفكر من فلسطين مقيم حاليا‬ ‫في اإلمارات‪ ،‬له العديد من المؤلفات في‬ ‫الفلسفة واالجتماع‪.‬‬ ‫رأس قسم الفلسفة في جامعة دمشق‪.‬‬

‫عبد الرحمن بسيسو‬

‫ناقد من فلسطين له مؤلفات في نقد‬ ‫الشعر العربي الحديث ودراسات في‬ ‫الرواية‪ ،‬والتراث الشعبي‪ ،‬أبرزها حول‬ ‫ظاهرة القناع في الشعر العربي المعاصر‪.‬‬ ‫مقيم في سلوفينا‪ ،‬ويشغل منصبا سفير‬ ‫دولة فلسطين‪.‬‬ ‫مريم حيدري‬

‫شاعرة ومترجمة من إيران لها العديد من‬ ‫الترجمات الشعرية العربية إلى الفارسية‬ ‫كشعر محمود درويش‪ ،‬وسركون بولص‪،‬‬ ‫وصالح فائق‪ ،‬وغيرهم‪ .‬ولها ترجمات‬ ‫شعرية فارسية حديثة إلى العربية‪ .‬تقيم‬ ‫وتعمل في طهران‪.‬‬ ‫ابراهيم سعدي‬

‫كاتب جزائري له العديد من الروايات‬ ‫والمؤلفات النقدية والفكرية‪ ،‬منها «‬ ‫المرفوضون»‪« ،‬فتاوى زمن الموت»‪،‬‬ ‫«بوح الرجل القادم من الظالم»‪« ،‬مقاالت‬ ‫ودراسات في المجتمع العربي»‪ « ،‬مقاالت‬ ‫في الرواية»‪ .‬مقيم في الجزائر‪.‬‬ ‫هيثم حسين‬

‫وروائي ومترجم كردي سوري‪،‬‬ ‫ناقد‬ ‫ّ‬ ‫يكتب في الشأن الثقافي واألدبي العربي‬ ‫والعالمي‪ ،‬متخصص في النقد الروائي وله‬ ‫عدد من المؤلفات النقدية‪ .‬من أعماله‬ ‫الروائية "آرام سليل األوجاع المكابرة"‪،‬‬ ‫"رهائن الخطيئة"‪" ،‬إبرة الرعب"‪.‬‬

‫أحمد إسماعيل إسماعيل‬

‫حميد زناز‬

‫مسرح‬

‫أكاذيب صغيرة‬ ‫مسرحية من فصل واحد‬ ‫درويش األسيوطي‬

‫لوحة الغالف للفنان مروان قصاب باشي‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪3‬‬


‫‪148‬‬

‫‪132‬‬ ‫‪37‬‬

‫ملف‪ /‬حال اللغة العربية‬ ‫استهالل ودعوة‬

‫‪74‬‬ ‫‪90‬‬

‫أقالم تحاور عزيز العظمة‬

‫‪38‬‬

‫معضلة المصطلح في الثقافة العربية‬

‫‪42‬‬

‫اللغة والمعرفة والقيد الصدئ للحرية‬

‫‪48‬‬

‫اإلصالح التربوي والتردي اللغوي‬

‫‪60‬‬

‫اللغة المستعارة‬

‫‪102‬‬

‫اإلرجاء القاتل‬

‫‪106‬‬

‫أحمد برقاوي‬

‫‪108‬‬

‫الالمكان ليس إال مكانا‬ ‫تواطأوا على إخفائه‬

‫‪64‬‬ ‫‪66‬‬ ‫‪71‬‬

‫اليامين بن تومي‬

‫جاد الكريم الجباعي‬

‫‪92‬‬ ‫‪96‬‬

‫صالح بلعيد‬

‫مفيد نجم‬

‫الجامعة الجزائرية وسؤال اللغة العربية‬ ‫البشير ربوح‬

‫الصراع بين العربية والفرنسية‬

‫في رواية “بان الصبح” لبن هدوقة‬ ‫إبراهيم سعدي‬

‫في األصولية‬ ‫وشروط صعودها‬ ‫جاد الكريم الجياعي‬

‫اضطراب الواقع‬ ‫وتشوش التفكير‬

‫قاسم المحبشي‬

‫الدروب الضيقة للكتابة‬

‫تفكيك أهوال اإلرهاب‬ ‫وتحرير االسئلة‬ ‫خالد حسين‬

‫الجماعات النصية‬

‫جابر بكر‬

‫حوار على حوار‬

‫سالم سرحان‬

‫‪112‬‬

‫‪4‬‬

‫ملف‪ /‬سجال‬

‫األسئلة المرايا وإطالقية اإلجابات‬ ‫مستهل حوار مع المفكر مراد وهبة‬ ‫عبد الرحمن بسيسو‬


‫‪22‬‬

‫‪37‬‬ ‫سرد‬

‫شعر‬

‫‪22‬‬

‫أكاليل على األبواب‬

‫‪34‬‬

‫‪32‬‬

‫شجرة الكرز‬

‫‪122‬‬ ‫محمد ناصر المولهي‬

‫عبده وازن‬

‫خلود شرف‬

‫‪74‬‬ ‫‪132‬‬

‫محمود شقير‬ ‫خبز اآلخرين‬

‫قص‬

‫‪129‬‬

‫خمس أقاصيص‬

‫‪130‬‬

‫إرهابية في تل كلخ‬

‫‪143‬‬

‫انقراض‬

‫‪146‬‬

‫لفافة من حرير‬

‫‪147‬‬

‫بيدق في لعبة الشطرنج‬

‫خالد خميس السحاتي‬

‫كتب‬

‫‪150‬‬ ‫‪152‬‬ ‫‪154‬‬

‫‪157‬‬

‫باسم فرات‬

‫«أنا وأنت » ألحمد الخميسي‬ ‫ممدوح فر اّج النابي‬

‫المختصر‬

‫كمال البستاني‬

‫أسلمة الراديكالية‬ ‫أبو بكر العيادي‬

‫األخيرة‬

‫فكري عمر‬

‫نهار حسب اهلل‬

‫أوضاع اللغات السودانية‬ ‫والتخطيط اللغوي‬

‫رسالة باريس‬

‫شفان خليل‬

‫سعيد موفقي‬

‫ظل لشخصين‬

‫مريم حيدري‪ /‬لميس سعيدي‬

‫غرقى جبليون‬

‫حوار‬ ‫فاضل الجعايبي‬ ‫قتل األب‬

‫‪90‬‬

‫‪160‬‬

‫غيتو إسالمي‬

‫المهاجرون من الفجوة الثقافية‬ ‫إلى الهوة النفسية‬ ‫هيثم الزبيدي‬ ‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪5‬‬


‫كلمة‬

‫اآلخر مرآة األنا‬ ‫الخيال البشري عابر للزمن والهويات‬ ‫سنة‬

‫ً‬ ‫عددا انصرمت‪ ،‬وها نحن في‬ ‫أولى مرت على صدور “الجديد”‪ ،‬وها نحن في مطلع سنة جديدة من حياة المجلة‪ .‬أحد عشر‬

‫ً‬ ‫مخاضا‬ ‫العدد الثاني عشر‪ ،‬واألول من سنة ثانية‪ .‬كل عدد مضى كان له محور وكانت له قصة‪ .‬وفي كل عدد عرفت “الجديد”‬

‫ومغامرة‪ ،‬ألجل أن تكون‪ ،‬كما أرادت لنفسها أن تكون؛ المجلة العربية الجامعة‪ ،‬والمنبر الذي يجتمع على صفحاته أهل األدب والفكر والفن‪،‬‬ ‫بأريحية وانفتاح‪.‬‬

‫حاولت “الجديد” بسعي جاد أن تكون الفضاء الذي تتحرر فيه الثقافة العربية من قيودها‪ ،‬وتستعيد الكتابة جرأتها الفكرية وألقها اإلبداعي‪،‬‬

‫والكاتب كرامته كصاحب فكر حرّ وخيال طليق‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وطالعة‪ ،‬على صفحات “الجديد” أثبت جدواه‪ .‬والتزامنا بما أعلنا عنه من احترام حرية القلم‬ ‫مكرسة‬ ‫رهاننا على تجاور األقالم العربية‪،‬‬

‫ً‬ ‫فكريا استقطب خيرة األقالم العربية‪ ،‬وبعض األقالم‬ ‫وجرأته‪ ،‬مادام يبشر بقيم الجمال والحق والحرية‪ ،‬واالنفتاح على اآلخر‪ ،‬أثمر حوا ًر‬

‫األجنبية‪ ،‬وهو ما عبرت عنه تلك السجاالت الحية التي دارت على صفحات “الجديد” على مدار العام المنصرم‪.‬‬

‫ثان‪ ،‬والذين احتفوا بالجديد وأقبلوا عليها بشغف من كل قطر عربي‪ ،‬وكذلك‬ ‫عام مضى على الشروع في المغامرة‪ ،‬وها نحن في عام‬ ‫ٍ‬ ‫في المهاجر والمنافي العربية‪ ،‬يتزايدون عددا بعد آخر‪ .‬ليكون لـ”الجديد” أسرتها من القراء‪ ،‬الذين ستظل تطالبهم بأن يبدوا مالحظاتهم‬

‫واقتراحاتهم وأفكارهم حول منبرهم الثقافي‪ ،‬حتى يمكنه أن يفي بوعوده‪ ،‬ويلعب الدور المنتظر منه‪ ،‬ليقدم لهم مع أول كل شهر ما‬ ‫يتوقعونه من منه إلى جانب ما ستفاجئهم المجلة من ثمرات العقول واألرواح في ثقافتنا العربية المعاصرة‪.‬‬ ‫***‬

‫لفتتني هذا الشهر إشارة من المفكر جاد الكريم الجباعي إلى أدوار الشعراء في تجديد اللغة‪ ،‬ودور الخيال الطليق في إثرائها بصياغات‬ ‫جديدة‪ .‬السياق الذي تحدث فيه المفكر ال يتمحور حول دور الشعر في تجديد اللغات‪ ،‬ولكنه يتركز حول قدرة اللغة على المضي أبعد من‬

‫الحكي والقول والخطابة والرسالة والكتابة والقراءة والتأويل وغيرها من العناصر التي تختص بها اللغة‪ ،‬لتنفتح باللسان والذات على‬ ‫الكينونة اإلنسانية والوجودية كلها‪ .‬واألهم أنها تتجاوز الهوية الصادرة عنها لتخترق الهويات األخرى‪ ،‬فهي كما يذهب الجباعي في وصف‬

‫ُّ‬ ‫اللغة‪ ،‬في إطار ملف تنشره “الجديد” في هذا العدد “الشكل األعلى من أشكال ّ‬ ‫ً‬ ‫“التملك فعل إرادة‪ ،‬ال تكون‬ ‫معتبرا أن‬ ‫تملك اإلنسان لعالمه”‬ ‫بتبين وحدة المعرفة واللغة والحرية‪ ،‬مقابل وحدة المعرفة واللغة والسلطة”‪.‬‬ ‫إال حرة‪ .‬وتهتم‪ ،‬من ثمة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫***‬

‫آثرت أن أدخل من هذا “التحديد” إلى ما سأذهب إليه من تصورات عن انفتاح الشعر والشاعر على األسطورة‪ ،‬بوصفها المنظومة الجمالية‬

‫األوسع لعمل الخيال‪ ،‬إن في اللغة العربية أو لغات أخرى‪ .‬انطالقا من ثالث حقائق‪.‬‬

‫أوال‪ :‬أن اللغة كلما ترقت في انفتاحها على اآلخر ووقفت في مراياه كلما اقتربت من ذاتها العميقة وأغنتها‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تفجر بالصور‪.‬‬ ‫وثانيا‪ :‬أن األسطورة هي المهاد الرموزي اللغوي لالوعي البشري‪ ،‬وقد‬

‫ً‬ ‫غورا‪ ،‬وأبعد انفتاحا على الكينونة البشرية‪ ،‬وأعني‬ ‫وثالثا‪ :‬أن األسطورة من طبيعتها أنها تذيب الهوية في أصل أسبق عليها‪ ،‬وأعمق منها‬

‫ً‬ ‫به الخيال البشري العابر للهوية والزمن‬ ‫معا‪.‬‬

‫من هنا يصبح السؤال مثال‪ :‬لماذا تكتب في زمنك الحديث من وراء أقنعة أسطورية وأدبية؟ سؤاال قد يبدو نافالً‪ ،‬رغم عمق اإلشكالية‬

‫ً‬ ‫كثيرا ما ووجهت من قبل محبي الشعر بهذا السؤال‪ .‬وهو ما ظل يحرضني على الكتابة عن هذا األمر‪،‬‬ ‫التي يصدر عنها‪ .‬وألعترف هنا أنني‬

‫ً‬ ‫بحثا في طبيعة عالقة الشعر باألسطورة‪ ،‬وعالقة الشعراء باألقنعة األسطورية‪.‬‬ ‫محاوالً تلمس المسألة‪ ،‬ليس بحثا عن أسباب‪ ،‬ولكن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ضربا من الغوص‬ ‫بحثا عن جواب لسؤال‪ ،‬ال سبيل في النهاية إلعطاء جواب عنه يشفي غليل السائل‪ ،‬مادام الشعر نفسه‬ ‫وبالتالي ليس‬

‫ً‬ ‫بحثا في ما وراء األشياء المنظورة‪ ،‬وربما هو ضرب من التهويم والتيه ما وراء كل األسباب‪.‬‬ ‫عميقا في الذات‬

‫***‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثيرا‬ ‫إلي أن الشاعر يخطو جهة األقنعة ليقترب من نفسه أكثر‪ .‬يبتعد قليالً أو‬ ‫حائرا أمام هذا السؤال‪ .‬ولكن مرات يخيل‬ ‫لطالما وقفت‬ ‫ّ‬

‫‪6‬‬


‫ً‬ ‫أقنعة بابلية وفرعونية وهيلينية وآرامية‪ ..‬ومعها القناع الشيكسبيري‪ ،‬ومن ثمة‬ ‫عن صورته‪ ،‬ليتحرر منها‪ ،‬فإذا بالصور واألقنعة تنادينه؛‬

‫تتحدر من أعالي اللغة مع الكلمات أسماء‪ :‬مثل جلجامش‪ ،‬سيبتيموس سيفيروس‪ ،‬أوزيريس‪ ،‬تيريسياس‪ ،‬ديدالوس‪ ،‬يوسف‪ ،‬تيلماخوس‪،‬‬

‫لكل منهم من إحالة ورمز‬ ‫إيكاروس‪ ،‬نرسيس‪ ،‬بينيلوبي‪ ،‬آخيل‪ ،‬أورفيوس‪ ،‬مريم‪ ،‬يوحنا المعمدان‪ ،‬هاملت‪ ،‬أليعازر‪ ،‬وغيرهم آخرون‪ ،‬بما‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مسيحيا وغيره هو تراث‬ ‫إسالميا أو‬ ‫إغريقيا‪ ،‬أو‬ ‫فرعونيا أو‬ ‫سوريا أو‬ ‫عراقيا أو‬ ‫وتاريخ ميثولوجي وداللي‪ .‬التراث األسطوري‪ ،‬سواء أكان‬ ‫شخصي للشاعر‪ .‬مادام من أبناء المتوسط‪ ،‬قلب العالم القديم‪ ،‬وفي القلب منه المركز الحضاري المحترق اليوم سوريا القلب الخافق للعالم‬

‫ٌ‬ ‫إرث شخصي للشاعر‪ ،‬وهو ما يجعله‪ ،‬بالضرورة‪،‬‬ ‫القديم‪ ،‬وعليه‪ ،‬فإن كل ما أبدعته قرائح ناس المتوسط‪ ،‬ال سيما على الضفة الشرقية هي‬ ‫ورغم أفانين االنغالق وجنون التعصب األعمى للذات الجريحة‪ ،‬يتح ّدر من صلب هذه اللوحة البشرية الرائعة بخياالتها الميتافيزيقية‬

‫وهيامها بالجمال‪.‬‬

‫ً‬ ‫انفتاحا كهذا على اآلخر أساسه الوعي بالفضاء الحضاري الفسيح للذات المنتمية إلى حوض المتوسط هو ما أورثني‪ ،‬شخصيا‪ ،‬ولعا‬ ‫ولعل‬

‫منذ طفولتي باألساطير والحكايات والمالحم التي أبدعتها حضارات هذه البحيرة العظيمة‪ ،‬وللجغرافيا السورية القديمة نصيب كبير في‬

‫هذا اإلبداع‪.‬‬

‫***‬

‫لكن األساطير ال يمكن أن تكون معطيات كالسيكية بالنسبة إلى الشاعر الحديث‪ ،‬وهو ال يجدر به أن يتعامل مع تلك النصوص وشخصياتها‬

‫ً‬ ‫مجددا في صياغات شعرية خاصة عابرة للزمن وعابرة‬ ‫األسطورية كمعطيات نهائية‪ ،‬بل كعوالم وأرواح متحركة ومتبدلة وقابلة للوالدة‬ ‫للهوية معا‪ .‬وإال وجب علينا أن نستغرب احتفاء شاعر عربي باألسطورة اإلغريقية‪ ،‬ونستغرب احتفاء شاعر إنكليزي بأساطير الهند‪ ،‬أو‬ ‫شاعر فرنسي بأساطير البطولة في التراث األلماني‪.‬‬

‫إن نظرة على شظايا التراث الحكائي العربي القديم تفيدنا بأن العرب استلهموا تراثات لغوية جاورت لغتهم تعود إلى فارس وحوض‬ ‫الرافدين وبيزنطة ومصر القديمة‪.‬‬

‫ونظرة على شعر ونثر أدباء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا‪ ،‬ال سيما رومانسيي فرنسا وألمانيا وبريطانيا تجعلنا نقف على‬

‫ذلك التأثير الهائل للشرق وحكاياته وأساطيره في األدب األوروبي‪.‬‬

‫وعلى رغم مالمح الفتة للنزوع االستعالئي أو ما جرى االصطالح عليه بالنزعة المركزية األوروبية في األدب المذكور‪ ،‬إال أن هذا لم يمنعنا‬ ‫أبدا من التمتع بكتابات غوتة‪ ،‬وشاتوبريان‪ ،‬وفلوبير‪ ،‬وميلفل‪ ،‬وكيبلنغ‪ ،‬ورامبو وغيرهم ممن انعكس في أدبهم سحر الشرق وبرزت تلك‬ ‫التمثالت الحكائية األسطورية والعجائبية الشرقية في كتاباتهم‪ .‬وهو ما ال يجب أن يمنعنا من نقد قراءتهم لنا‪ ،‬ونقد تمثالتنا لهم‪.‬‬ ‫***‬

‫ولو‪ ،‬نحن ذهبنا أبعد‪ ،‬فإن الكتابة الشعرية‪ ،‬كما تتراءى لي‪ ،‬فكرة وممارسة وعمال مع اللغة وأخيلتها‪ ،‬بينما هي تتمثل اإلرث األسطوري‬

‫وأيقوناته‪ ،‬إنما ترى في أيقونات هذا اإلرث أنها تحمل قابليات وإمكانات أوسع بكثير من المعطي الناجز للصورة القديمة أو األيقونة في‬ ‫زمنها‪ .‬وهذا يجعل الشاعر في بحث دائم في تلك المالمح األسطورية عمّ ا يتمتع بالطاقة المشعة‪ ،‬ذلك اللغز اإلنساني المنعكس في حيرة‬

‫الشاعر وحيرة الفنان وهما يعيدان في عصرهما الحديث صياغة الواقعة اإلنسانية‪ ،‬ومعها الهوية الخاصة‪ ،‬في احتماالت وميول ونزوعات‬ ‫ً‬ ‫مجددا‪ ،‬وقد تفجرت عن‬ ‫تتوارى كلها وراء الصورة الكالسيكية المنظورة لأليقونة‪ ،‬فيخرجانها من كونها مرآة أشباح وظالال ملغزة‪ ،‬لتشع‬ ‫احتماالت كانت مكبوتة في مكان ما‪ ،‬وكان ال بد من تواريخ تمرّ ‪ ،‬حتى تكتشفها عين جديدة‪ ،‬عين شاعر قادم من زمن آخر يتلمس بأصابعه‬ ‫كنحات ويكتشف بحواسه تلك الندبة السرية في الجمال القديم والتي ما إن يلمسها حتى تضيء األيقونة بنور جديد‪ ،‬حتى تولد ثانية‬

‫ومعها روح جديدة هي روح عصر جديد‪.‬‬

‫***‬

‫قد يبدو هذا حديثا صرفا في الجمال الفني‪ ،‬ولكنه في الحقيقة بحث في جمال العالقة بين الذات واآلخر‪ ،‬وبين ثقافتنا وثقافته‪ ،‬ليس‬

‫بوصفه غريبا نتقرّ ب منه ولكن بوصفه شريكا في كوكب‪ ،‬وما يملكه ونملكه إرث مشترك لنا معا‪ ،‬كما أن حياتنا المعاصرة هي مشترك كبير‪.‬‬ ‫***‬

‫ً‬ ‫أبدا‪ ،‬كشعراء‪ ،‬لو نحن اكتفينا بنسج أجنحة إيكاروس بلغة عصرنا‪ ،‬مهما ك ّنا بارعين في إعادة تصوير الواقعة‪ .‬ال‬ ‫بعد ذلك‪ ،‬ما من فضل لنا‬

‫بد من شيء آخر‪ ،‬شيء أبعد وأقوى وأعمق وأكثر إبداعية‪ ،‬ال بد أن نتصرف‪ ،‬كشعراء‪ ،‬على نحو يمكننا من أن نجعل هذا اإليكاروس يولد‬ ‫من جديد هو وأجنحته وحلمه بالحرية‪ ،‬ويحمل‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬مالمحنا الشخصية‪.‬‬

‫نوري الجراح‬

‫لندن في ‪18‬ديسمبر‪/‬كانون األول ‪2015‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪7‬‬


‫مقال‬

‫وقائع االستبداد الديني‬ ‫في مطاردة الحاكم المتجبر‬ ‫أهل الفكر وروح الثقافة‬ ‫هاني حجاج‬ ‫هذا موضوع يرمينا في بعد تاريخي أبعد لتفسير العالقة بين القوة االستبدادية‪ ،‬والعمل الفني القائم على أصالة لغوية قومية‬ ‫ً‬ ‫وحريصا على دفع االسترابة التي يخالطها القهر الذي ينطلق من عقاله القمعي‪ ،‬وفي التراث الممتد سوف نعثر على ما فعلته‬ ‫خالفة أبي عباس السفاح بخصوصها‪ ،‬وما نتج عن عداوة المنصور ألبي حنيفة النعمان الفقيه‪ ،‬وابن المقفع الباحث والكاتب‪،‬‬

‫والشاعر سديف من جلد وتعذيب وسجن وقتل؛ وما فعله عهد المهدي في بشار بن برد وأبي العتاهية وحماد عجرد وعبدالكريم‬ ‫بن أبي العوجاء؛ وما حدث في عصر هارون الرشيد الذهبي من سجن لبشر بن المعتمر الهاللي شيخ معتزلة بغداد‪ ،‬وإعدام‬

‫لصالح بن عبدالقدوس‪ ،‬ومروان بن أبي حفصة‪ ،‬وما فعله المأمون من سجن الفقيه أحمد بن حنبل وقتل أبي نواس‪ .‬وقتل‬ ‫المعتصم لدعبل وتاريخ الواثق الحافل من تعذيب ألحمد بن حائط المعتزلي ونفي مروان بن أبي الجنوب وحبس ذي النون‬

‫المصري المقصوف وجلد الفيلسوف الكندي ومصادرة كتبه‪ ،‬وما فعله المتوكل من سجن علي بن الجهم والشاعر الجماني العلوي‬ ‫محمد بن صالح العلوي وقتل بن الزيات واضطهاد المعتزلة ومطاردتهم وتحويل حياتهم إلى جحيم مقيم‪ .‬وقتل المعتضد البن‬ ‫السم وقتل محمد بن داود‬ ‫الطيب السرخسي تلميذ الكندي الفيلسوف العظيم وعقاب المكتفي البن الرومي الشاعر المرهف بدس ُ‬

‫الجراح وتعذيب أبي الفضل البلخي وصلب الحالج والتمثيل بجثته‪.‬‬

‫الجد‬

‫المتوحش الذي ألقى بظالل إرثه‬

‫التي نصبت محاكم التفتيش لكل مفكر‪،‬‬

‫وعلي الغاياتي ونفي شوقي واغتيال فودة‬

‫عيون” إلحسان عبدالقدوس بدعوى أنها‬

‫المشؤوم على حبس البارودي‬

‫ومحاولة قتل محفوظ وتشويه كليلة ودمنة‬

‫ومصادرة ألف ليلة وليلة والصراع الفاشل‬ ‫ُّ‬ ‫والتغلب على التعصب الديني‬ ‫لتحرير المرأة‬ ‫ُّ‬ ‫والتخلص من الطاغية‬ ‫والوصول لحكم عادل‬ ‫وتحقيق قيم المواطنة الحديثة واستيعاب‬

‫تخرج عن التقاليد المرعية وأن ُحسن‬

‫أي شيء إال أنها غير ناصرية‬ ‫قد ال يميزها ّ‬ ‫وكلها استعراضية تعوّ ض فشله في الظهور‬

‫األسلوب‬

‫وجمال‬

‫الصياغة‬

‫والمعالجة‬

‫الموضوعية ال تغفر للكاتب طرحه لمسائل‬ ‫توجد فعالً في المجتمع ال يستطيع حتى‬

‫األنبياء إنكارها؛ فصودرت الرواية قبل‬

‫اآلخر؛ وظهور موضوع المسكوت عنه أمام‬ ‫والمستنيرين تتصيد لهم األخطاء فأطاحت‬

‫قباني ليتمكن من نشر ديوانه “هوامش على‬

‫بعلي فاهمي من الجامعة‪ ،‬والسبب هو‬

‫حصوله على درجة الدكتوراه في فرنسا عن‬ ‫ْ‬ ‫ورف ُ‬ ‫ض تدريس‬ ‫بحثه “المرأة في اإلسالم”‪،‬‬ ‫جورجي زيدان المسيحي للتمدن اإلسالمي‪،‬‬

‫الغفران برسالة إلى عبدالناصر كما فعل نزار‬ ‫دفتر النكسة” وكما فعل ثروت أباظة لعرض‬ ‫فيلمه “شيء من الخوف” لكن عبدالناصر كان‬ ‫ً‬ ‫سلبيا‪ ،‬يلعب لحسابه وأفكاره للموازنة بين‬

‫السادات بانفتاحه ومذاهبه البهلوانية التي‬

‫على السينما؛ فقضى على أنصار الناصرية‬

‫والبعث القومي اليساري الجديد باالستعانة‬ ‫بسجناء اإلخوان المسلمين الذين ّ‬ ‫تم شحنهم‬ ‫ّ‬ ‫بالغل في معتقالت ناصر‪ ،‬ليتحالف معهم‬

‫للقضاء على بقايا نظام جمال‪ ،‬لكن هذا‬ ‫ً‬ ‫شخصيا في‬ ‫التالعب بالنار أودى بحياته هو‬ ‫حادث دراماتيكي معروف؛ لكن دعواه بإقامة‬

‫دولة دينية تزامنت مع انقالب محمد ضياء‬ ‫الحق في باكستان ثم قيام الثورة اإليرانية‬

‫األزهر والجماعات اإلسالمية فظلت رواية‬

‫وإعالن الجمهورية اإلسالمية برعاية دول‬ ‫النفط دون أن ُت ِّ‬ ‫أي‬ ‫قدم الحلول الدينية ّ‬

‫بسبب تأليفه كتاب “اإلسالم وأصول الحكم”‬

‫على أرفع وسام أدبي‪ ،‬جائزة نوبل ‪ 1988‬بعد‬

‫وغيرها؛ بل كانت تهدف إلى تدمير مؤسسات‬

‫طه حسين بسبب كتابه “في الشعر الجاهلي”‬

‫كل حاكم بعده وسار على نهجه من عنف مع‬

‫وفصل الشيخ علي عبدالرازق من منصبه‬

‫القضائي وإسقاط شهادته األزهرية عنه‬ ‫والعاصفة التي واجهت عميد األدب العربي‬ ‫حتى جاء عهد عبدالناصر ودولته البوليسية‬

‫‪8‬‬

‫فهاجم مجلس الشعب رواية “أنف وثالث‬

‫باألدباء والمبدعين والمفكرين حتى جاء‬

‫اكتمال نشرها‪ ،‬فطلب عبدالقدوس صك‬

‫العقول الملوَّ ثة التي ترصدت للمبدعين‬

‫وحفلت المعتقالت من عام ‪ 1959‬حتى ‪1964‬‬

‫“أوالد حارتنا” رائعة نجيب محفوظ ممنوعة‬ ‫من النشر في مصر حتى بعد حصول مؤلفها‬

‫وفاة عبدالناصر وتركه لتقاليد قمعية ارتضاها‬

‫طوائف اليسار وإحجام لليمين المعتدل‪.‬‬

‫أفكار لعالج ثورة الخبز في مصر والسودان‬

‫الدولة المدنية وبالتالي القضاء على حرية‬ ‫اإلبداع والتعبير باعتبار أن مشايخ الطريقة‬ ‫الجديدة هم أصحاب الفرقة الناجية الحائزة‬


‫فادي يازجي‬ ‫ً‬ ‫حصريا والوصية على تنفيذه‪،‬‬ ‫على الدين‬

‫ً‬ ‫مبلغا‬ ‫بالجامعات؛ وتغريم جمال الغيطاني‬ ‫ً‬ ‫ضخما لدفاعه ضد الحكم الظالم على الشاعر‬

‫امتدادها السرطاني‪.‬‬

‫اإلرهاب‬

‫ألعمال سينمائية كثيرة من “المهاجر” ليوسف‬

‫بشكل معتدل لتبعية الغرب مع استقالل‬

‫صاحب أهم كتاب عن مدارس التفسير‬

‫اإلعياء وانحدر أي أمل في الرقي‪ ،‬وتحول‬

‫فهي نائب الحق والناطق باسم الشرع وكلمة‬

‫الله على األرض‪.‬‬

‫وظهر‬

‫االستبداد‬

‫المعنوي‬

‫ثم‬

‫الجسدي بعماء وحشي‪ ،‬فقتل الشيخ الذهبي‬

‫القرآني ثم اغتيال فرج فودة ومحاولة قتل‬ ‫مكرم محمد أحمد وقتل رفعت المحجوب‬

‫ومحاولة اغتيال عاطف صدقي وعمليات‬

‫تصفية قيادات بالدولة ثم طعن محفوظ‬

‫‪.‬‬

‫في منتصف عام ‪ 1994‬وفي فترات الحقة‬

‫أحمد حجازي‪ ،‬وكان الرقيب بالمرصاد‬

‫شاهين حتى “بحب السيما”‪ ،‬حتى تفاقم‬

‫حضور العقل النقدي إلى تخلف مُ قيم!‬

‫هنا دعاة اإلسالم ال المسيحية هم من‬

‫وجب عليهم التزام حدود صالحيات معينة‬ ‫ال يجاوزونها للتدخل في شؤون دنيوية‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫تزعم تدمير العالم اإلسالمي ويجب وقف‬ ‫على محور آخر هناك العلماني الداعي‬

‫مفهوم‬

‫المواطنة‬

‫مع‬

‫إلغاء‬

‫االستقالل‬

‫الحضاري‪ ،‬ودعاة فصل الدين عن الدولة‬

‫وهم األغلبية في مراكز التوجه السياسي‬ ‫ً‬ ‫نفوذا في‬ ‫واإلعالمي والثقافي واألكثر‬ ‫أنظمة المؤسسات الوطنية ومنهم طائفة‬ ‫كبيرة تدين بعقائد اإلسالم وال تعاديها‪،‬‬

‫الخبراء فيها أعلم بها وهكذا تعقد الحوار‬ ‫ً‬ ‫بدءا‬ ‫–الصراع‪ -‬بين الدينيين والعلمانيين‬

‫الثابتة والمصادر االعتقادية والعقائدية‪،‬‬

‫الخميني أن دم سلمان حالل‪ ،‬وفي عام ‪2011‬‬

‫وضع العلماني العربي في سلة واحدة مع‬

‫أي هي تكون إسالمية بالمصطلح الذي تعنيه‬

‫ووصف أعماله باإللحاد وهو يجدد البيعة‬

‫انقسام اإلسالميين على أنفسهم بين متشدد‬

‫صودرت “وليمة ألعشاب البحر” لحيدر حيدر‬ ‫و”آيات شيطانية” لسلمان رشدي فأعلن‬

‫كانت للظواهري فتوى تكفير نجيب محفوظ‬

‫‪.‬‬

‫من إشكالية ضبط المصطلحات‪ ،‬ومسألة‬

‫العلماني الغربي ونسق فكري واحد؛ ثم‬

‫للمال في أفغانستان!‬ ‫ً‬ ‫حقا مراده‬ ‫هذا اإلرهاب الديني الذي بلغ‬ ‫وكبح الكثير من التيارات المستنيرة وعَ َقل‬

‫‪-‬وعلماني ليبرالي!‪ -‬وهنا تب ّدت إشكالية أخرى‬

‫قيادات ثقافية هيمنت على المشهد بفكر‬

‫التصدي لشريحة بعينها من العلمانيين‬

‫أقالما وعقوال وانعكس الظل الكئيب على‬ ‫سياسي متأقلم يهدف إلى إرهاب معنوي‬ ‫خانق بدأ بتقليص دور المفكر الناهض‬

‫ويصل إلى تقديم تقارير تعاون في إصدار‬ ‫أحكام مثل حكم التفريق بين نصر حامد‬

‫أبو زيد وزوجته‪ ،‬والظلم في مسائل الترقية‬

‫مفكر وإصالحي ليبرالي‪ ،‬وانقسام العلمانيين‬

‫إلى علماني ثوري وعلماني نهوضي توافقي‬ ‫هي تبني فرقة بعينها من بين اإلسالميين‬

‫وانتقاد ملمح واحد فقط من أيديولوجياتهم‬ ‫وتنفيذ فلسفتهم المادية الخالصة ونزعتهم‬

‫اإللحادية الجريئة وطموحاتهم في اقتالع‬ ‫الدين‬

‫من‬

‫المجتمع‬

‫بالكامل‪،‬‬

‫فاعتبروا‬

‫بذلك العلمانية ما هي إال حملة تبشيرية‬

‫وال يختلفون عن اإلسالميين في األصول‬ ‫لكنها فقط تختلف معهم في شكل الدولة‪،‬‬

‫لدى اإلسالميين أو مجرد دولة مسلمة تدين‬

‫باإلسالم وتدافع عن شرائعه وشعائره‪.‬‬

‫دعك من تهمة الوصف بالعلمانية لكل من‬

‫ينادي بحرية الفكر والتعبير‪ ،‬ومصطلح‬ ‫ً‬ ‫غربيا ليشير إلى هؤالء الذين‬ ‫علمانية نشأ‬

‫رفضوا تدخل الكنيسة وسيطرتها على‬ ‫الحياة العامة والشؤون السياسية‪ ،‬ودس‬ ‫الالهوت المسيحي ومعاييره لقياس شؤون‬ ‫الحياة‬

‫اليومية‬

‫ّ‬ ‫والهم‬

‫الدنيوي‪.‬‬

‫وكان‬

‫غرضهم جعل الدنيا الواقعية هي محور‬

‫التفكير والمصدر األوحد للفكر والممارسات‬

‫ودراسات االقتصاد والسياسة واالجتماع‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪9‬‬


‫مقال‬

‫‪.‬‬

‫والعلم والتعليم واإلعالم وهذا في نظر‬

‫روحه؛ دعك من تبعية رأي الشارع لحركات‬

‫الكوني الروحاني الذي ينبغي أن يراعي‬

‫كبرى بحدة ليست غير مألوفة على طباع‬ ‫ً‬ ‫عموما‪ ،‬أما حركة الوسطية‬ ‫الرجل الشرقي‬

‫لإلعجاب والخوف؛ اإلعجاب بما أنجز‬

‫اكتفت بالتنبيه من أخطار التغريب دون‬

‫كبير‪ ،‬ويجعل اآلخر الديني القومي ممتلئا‬

‫رجال الدين تضييق للنظرة وبُعد عن الفكر‬ ‫مسائل حسابات يوم القيامة‪ ،‬لكن العلمانيين‬ ‫يوسعون المجال فيفتحون‬ ‫رأوا أنهم بهذا إنما‬ ‫ّ‬

‫الباب لكل المذاهب والطوائف للجلوس على‬

‫مائدة مشاركة ّ‬ ‫هم واحد وقرار واحد‪.‬‬

‫كبرى ادعت تبنيها بعث صحوة إسالمية‬

‫اإلسالمية فمارست دور المشاهد‪ ،‬فمن ناحية‬ ‫دراسة أو تنفيذ‪ ،‬ومن ناحية أخرى لم تستطع‬

‫هذه الطالئع الغربية خلقت النهضة الحديثة‬

‫الوقوف أمام أطراف الغلو والتشدد في ظل‬

‫فاستخلصت المجتمع المدني والدولة من‬

‫عن االلتزام التنظيمي ألتباع هذه الحركات‬

‫بوضعها الكنيسة والهوتها في إطارها الالزم؛‬ ‫براثن قدسية التصورات الكنسية التي‬

‫‪.‬‬

‫فرضت الرجعية والجمود لعدة قرون وعندما‬

‫ساد الفكر الغربي وظهرت آثار المد الحديث‬ ‫في الفلسفة وأنماط التفكير والتعبير‪ ،‬برز‬ ‫مصطلح “العلمانيون” في المجتمع اإلسالمي‬

‫بعد شيوع هيمنة االستعمار الغربي على‬

‫البلدان العربية والشرقية؛ ولعل أول من‬

‫أدخل هذا المصطلح علينا هو إلياس بقطر‬ ‫المصري‪ ،‬مترجم الحملة الفرنسية وكتبها‬ ‫“عالمانية” نسبة إلى العالم المضاد لله‬

‫‪.‬‬

‫وللكتاب المقدس ثم أشاع استخدام هذا‬

‫التعريف ليصف بقية المثقفين والكتاب‬ ‫الذين نهجوا نهج الحضارة الغربية الحديثة‬

‫ً‬ ‫مثيرا‬ ‫المعنوي الذي يجعل اآلخر الغربي‬ ‫واالندفاع لتبني منهجه وتقليده دون حرص‬

‫بالتأخر وسيطرة األنا والدور القضائي‪،‬‬ ‫وبين الهوى الجارف نحو األول واآلليات‬

‫إثارة سياسية عامة سممت جو الحوار‪ ،‬فضالً‬

‫الدفاعية ضد الثاني تتولد ذبذبة مفاهيم‬

‫والذي قضى على أدنى فرصة لمرونة التفاهم‬

‫األيديولوجي‪ ،‬وبين الرغبة في الهروب من‬

‫معقدة بين النفور السلبي في مخايلة التحرر‬

‫السجن الجغرافي والظرف التاريخي‪.‬‬

‫أو لخروج عناصر مستنيرة؛ ذات االلتزام‬ ‫ً‬ ‫قيدا على الطرف العلماني‬ ‫الحزبي الذي كان‬

‫وال تفارق هذه الخاصية طبيعة أخرى‬

‫وقبول اآلخر‪ ،‬إضافة إلى وجود شعور محض‬

‫ومدى ارتباطه أو اعتراضه على مجتمعه‬

‫ً‬ ‫أيضا فلم يتسع أفق االجتهاد وتبادل اآلراء‬ ‫بالدونية لدى الطرف العلماني بالنسبة إلى‬ ‫اآلخر الغربي الذي يمارس دوره الالشعوري‬

‫في االستعالء على المدرسة اإلسالمية في‬ ‫ُّ‬ ‫التحضر؛ هذا التضارب الالموضوعي الذي‬ ‫انسحب بوعي أو دونه وبأشكال مباشرة‬

‫وغير مباشرة على أطر التعامل مع اآلخر‬ ‫والمنظار الذي يميز ثقافته واتجاهه وإنجازه‬

‫حيث صار اإلسالم في دولة ال تديرها‬

‫تقترن بالبعد األخالقي والنفسي للمبدع‬ ‫الكبير الذي يضم خصومة الفكر‪ ،‬أو جماعته‬

‫الصغيرة التي تضم زمالء االتجاه‪ ،‬أو حتى‬ ‫خليته الدقيقة التي تضم خالّن الحماس‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وأخيرا في‬ ‫المماثل واألوفياء لذات الهوى‪،‬‬

‫حدود كيانه هو نفسه في محاوراته الذاتية‬ ‫الكاشفة مستبدالً الكوجيتو الديكارتي‬ ‫للمعرفة بالكوجيتو الضد الذي يهتف “أنا‬ ‫لست آخر؛ إذن أنا موجود!” في حالة نفور‬

‫سلبي ينطوي على نزعة توحيدية‪ ،‬تجميعية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫معتمدا على‬ ‫ذات طابع قهري يناقض نفسه‬

‫الشريعة؛ وهكذا يصير اإلسالم مجرد دين‬

‫كالمسيحية‪ ،‬يعطي ما لقيصر لقيصر وما‬

‫مركزية النقيض التي ال يظهر فيها‪ -‬بعد أي‬

‫لله لله؛ بينما يرى اإلسالميون أن المسيحية‬

‫صراع فكري‪ -‬سوى تخيل أيديولوجي يدعم‬

‫يمكنها االكتفاء بدورها في جدران الكنائس‪،‬‬

‫أما حركة الوسطية‬

‫في النهاية التبعية المنطقية لفكرة واحدة قد‬

‫الحضاري ما يرفعه فوق مناهج االستشراق‬

‫اإلسالمية فمارست دور‬

‫وفي إطار هذه المستويات المتناحرة‬

‫المشاهد‪ ،‬فمن ناحية اكتفت‬

‫يأخذها المتأمل الحقيقي في االعتبار عن‬

‫ّ‬ ‫وأعم وله من التاريخ‬ ‫لكن اإلسالم أشمل‬ ‫ومكونات الخيار الحضاري الغربي‪ ،‬وأن‬

‫العلماني المسلم أخطأ في اجتهاده وحسبوا‬ ‫أن الخيار اإلسالمي في شكله المملوكي‬

‫العثماني هو االحتمال الحقيقي والوحيد‬ ‫ً‬ ‫حرصا على ضمان النهضة اإلسالمية‪ ،‬لكنهم‬ ‫‪-‬اللهم إال مدرسة اإلحياء والتجديد على يد‬

‫جمال الدين األفغاني واإلمام محمد عبده‪ -‬لم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حضاريا أو رؤية بديلة‪ ،‬بل‬ ‫نموذجا‬ ‫يق ّدموا‬

‫ال تكون هي األفضل في ظروف أخرى‪.‬‬

‫تتجلى شواهد وغوامض كثيرة يجب أن‬

‫بالتنبيه من أخطار التغريب‬

‫مناقشته الصراع بين الديني والدنيوي‪،‬‬

‫دون دراسة أو تنفيذ‪ ،‬ومن‬

‫البعد‪ ،‬ح ّدي االتجاه‬ ‫مفهوم التحزب أحادي ُ‬

‫وبين اإلسالمي والعلماني حتى ال يكون‬

‫ناحية أخرى لم تستطع‬

‫في ظل ممارسة مستمرة ألدلجة اآلخر‬

‫الوقوف أمام أطراف الغلو‬

‫خائن عميل أو هو رجعي بليد‪ ،‬ثم وصفه‬

‫وتشويه سمعته إما بأنه منحرف دنيء أو‬

‫استخدموا لغة عنيفة خشنة وبرزت بينهم‬

‫والتشدد في ظل إثارة‬

‫عقيمة في المؤسسات اإلسالمية التقليدية‪،‬‬

‫سياسية عامة سممت جو‬

‫انتمائه الوطني وطرده من جنة االعتقاد‬

‫الحوار‬

‫مؤلفة “االستغراب” عندما تقمص شخصية‬

‫فصائل تميزت بالغلوّ‬

‫والجمود‪ ،‬ودوائر‬

‫وحلقات الذكر والخرافة الصوفية‪ ،‬وتجاهل‬

‫أكثرهم سنة الله في التغير والتطور والتنوع‬

‫متوهمين قدسية إلهية على تجارب السلف‪،‬‬ ‫وخنق الحاضر والمستقبل في صندوق صدئ‬

‫ملتزمين بحرفية النص دون التبصر في‬

‫‪10‬‬

‫الحضاري‪ ،‬هذا الشعور المراوغ الذي يظل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كامنا‪ ،‬فاعالً‪ ،‬قرين نوع من الفصام‬ ‫مندسا‪،‬‬

‫بالكفر واإللحاد‪ ،‬أو بالغباء والتعالي‪ ،‬وبالتالي‬

‫الحكم عليه بإعدام عمله الثقافي ونفيه من‬

‫السليم؛ كما فعل المفكر حسن حنفي في‬ ‫قائد استعراض ووضع كل فالسفة الغرب في‬

‫طابور عرض يحركهم كعرائس الماريونيت‬

‫كيفما شاء‪ ،‬وكما حال له‪ ،‬دون أدنى مراعاة‬


‫لظروف خلقت أفكارهم‪ ،‬ودون أقل تميز بين‬

‫الوجود الموضوعي لفيلسوف وآخر‪ ،‬فأقام‬ ‫محكمة تفتيش على صفحات كتابه واعتبر‬

‫أن طائفة المفكرين أمامه األعداء المالعين ال‬ ‫لسبب سوى أنهم من أهل الغرب‪ ،‬وبعد أن دق‬ ‫بمطرقته على المنطق ورحابة الفكر السليم‬

‫أصدر حكمه بالعداء لكل فكر يأتي من‬ ‫الخارج‪ ،‬وحشر الفالسفة العظام في زنازين‬

‫ضيقة بعد أن صنّفهم في مجموعات تناسب‬

‫‪.‬‬

‫األحوال النفسية للقارئ الواحد‪ ،‬وحسب‬ ‫الفروق بين األفراد‪ ،‬ويأخذ معاني مختلفة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تابعا‬ ‫طبقا لمراحل عمر الفرد الواحد‪ ،‬فيبدو‬

‫مشكالت كبيرة بال حل ‪-‬اللهم إال الحلول‬

‫أن أعماق الشعور في هذا الحال المعرفي‬

‫وتعتمد في األساس على أن نترك لهم‬

‫‪.‬‬

‫لتطور الفرد في مراحل عمره ويعني ذلك‬ ‫أن ذلك ومن هذه النقطة ينشأ مبدأ االجتهاد‬

‫والتجديد‪ ،‬الذي يظن اإلسالميون أنه حكر‬ ‫عليهم‪ ،‬رغم أنهم ال يضعون ضمن أهدافهم‬

‫الفكرية األصلية كشف الوجه الحقيقي‬

‫جرائمهم الفكرية‬ ‫هذا الوضع المعرفي على مستوى أكثر رقياً‬

‫تصدم من عدم عثورهم على منابع طاقات‬

‫نضع المفكر الكبير مؤلف “االستغراب” في‬

‫ّ‬ ‫وهاجة‪ ،‬ربما ألن‬ ‫مشرقة لحركة نهضوية‬

‫من مناخنا القسري القهري يفرض علينا أن‬

‫لإلسالم في مخاطبة اآلخر‪ ،‬وبالكالم معهم‬ ‫مشروعه الحضاري وإمكانات تحقيق صورة‬

‫أي آلية‬ ‫موضع التقييم والتحليل لنعرف ّ‬ ‫قمع أجبرته على أن يستخدم هذا المنظور‬

‫بين العلمانية والعمالة والكفر واإللحاد‪،‬‬

‫مفهوم القراءة للنص المقروء‪ ،‬حسب حكم‬

‫هؤالء من خبرة وعلم ومهارة ومستوى‬

‫‪.‬‬

‫التقليدي في اإلسقاط والتفسير ويرادف‬

‫المفكر الكبير جابر عصفور‪ ،‬فيغدو مرآة‬ ‫للذات القارئة وذلك على النحو التطبيقي‬

‫الذي انتهت إليه قراءة نص اآلخر في‬ ‫ً‬ ‫مرادفا نظرية المعرفة‬ ‫كتاب “االستغراب”‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في الفلسفة التقليدية‪ ،‬خصوصا من حيث‬ ‫أشكال العالقة بين الذات العارفة وموضوعها‬

‫أغلب وقتهم أضاعوه في محاوالت الربط‬ ‫وبالطبع لم يلتفت أحدهم إلى إمكانات‬

‫فكري تحليلي؛ وهكذا تقف طاقات الدينيين‬ ‫عند الصفر ال تتعداه؛ بل األدهى واألمر‬

‫إضافة المزيد من الجهد لوضع إكسسوارات‬ ‫تجميلية لرجل الشارع حتى يزداد يقينه من‬

‫أن هؤالء هم أهل الحق‪ ،‬والهدف‪..‬‬

‫دنيوي‬

‫المعروف‪ ،‬فالقراءة تومئ إلى الذات الفاعلة‬

‫عند فتح أوراق هذا الملف سوف تجد‬

‫السريعة الحاسمة التي ال ترضي سواهم‬ ‫مائدة الحوار منذ بداية الجلسة!‪ -‬من هذه‬

‫المشكالت‪ ،‬ما هو موجود في التركيب‬ ‫الجيني لعقل األمة اإلسالمية‪ ،‬ويتمثل‬

‫في ظاهرة انقسام الفرق والطوائف منذ‬

‫الغزو االستعماري دون إيجاد سبل تقارب‬ ‫ً‬ ‫أبدا؛ ثم المشكلة‬ ‫واضحة‪ ،‬وربما لن توجد‬

‫األيديولوجية للقائمين على الدين من رجال‬ ‫فقه ودعوة الراسخة في عدم قدرتهم على‬ ‫تحديد موقفهم من العالقة بين الماضي‬

‫والحاضر والمستقبل‪ ،‬ومن ثمة عدم مراعاة‬

‫الثوابت والمتغيرات‪ ،‬وبالتالي ال يصل للعابد‬ ‫الفرق الحقيقي بين اإللهي الملزم والبشري‬

‫المرشد من الموروث اإلسالمي‪ ،‬ثم تتسع‬ ‫الدائرة ليظهر الصدام مع القوانين الوضعية‬

‫ودساتير الدولة والموقف من الحضارات‬ ‫األخرى ودول الجوار ثم التعامل مع األقليات‬ ‫غير المسلمة‪ ،‬والتفاعل الحضاري في زمن‬

‫العولمة؛ ثم ‪-‬ومن جديد‪ -‬مشكلة الحوار مع‬ ‫العلمانيين‪ ،‬هذا الحوار الذي يعد أكبر معوقاته‬

‫في المعرفة‪ ،‬والنص هو موضوع المعرفة‪،‬‬

‫هو عدم حدوثه من األصل بشكل حضاري‬

‫ّ‬ ‫يتم‬ ‫وفعل القراءة هو فعل التعرف الذي‬

‫ألسباب عدة لعلها أهمها هو االختالف على‬

‫في الزمان الوجودي والتاريخي من خالل‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫غالبا (؟!)‪.‬‬

‫المفاهيم وعدم توحيد المصطلحات مما‬

‫الشعور وليس النص المقروء‪ ،‬وثيقة مدوّ نة‬

‫الجانب األدبي من الكتب‬

‫يجلب المزيد من الخلط والبلبلة فيزداد‬

‫هو حقيقة موضوعية مستقلة أو حضور‬

‫المقدسة يتوجه إلى الناس‬

‫إن مصطلحي تيار إسالمي وآخر علماني‬

‫في فهم حسن حنفي لعملية القراءة‪ ،‬وال‬

‫احتمال التقاء التيارين صعوبة‪.‬‬

‫تاريخي معين‪ ،‬إنه صورة بال مضمون‪ ،‬روح‬

‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬في كل زمان‬

‫لهذا النص مضمونه وجسده‪ ،‬وبعبارة أخرى‪:‬‬ ‫ً‬ ‫موضوعيا كأنه‬ ‫النص ال يحتوي معنى‬

‫ومكان‪ ،‬وليس من الضروري‪،‬‬

‫يحب البدء بهذه المصطلحات على هذا‬

‫وال من المحتوم‪ ،‬أن تكون‬

‫من البداية‪ ،‬وكان من الممكن ‪-‬إذا افترضنا‬

‫هائم بال جسد والقراءة هي التي تعطي‬

‫‪.‬‬

‫شيء‪ ،‬إنه مجرد ورق ومداد والقراءة هي‬ ‫ً‬ ‫التي تحيله إلى معنى وتجعله قوالً‬ ‫معلنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مسموعا‪ ،‬وتوجيهات عملية‪ ،‬ومعارك‬ ‫ونطقا‬

‫سياسية واجتماعية‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫شيخا‬ ‫قسيسا‪ ،‬أو‬ ‫َح ْب ًرا‪ ،‬أو‬ ‫من شيوخ األزهر‪ ،‬لتقرأ في‬

‫وليست الحقيقة في قراءة النص ‪-‬والكالم‬

‫التوراة أو اإلنجيل أو القرآن‪،‬‬

‫تطابق المعنى مع الواقع بل تطابق المعنى‬

‫ً‬ ‫إنسانا‬ ‫وإنما يكفي أن تكون‬

‫لدكتور عصفور‪ -‬من منظور هذا الفهم‪ ،‬هي‬ ‫مع التجربة البشرية‪ ،‬وتجسيد هذا التطابق‬

‫للشعور الفردي للقارئ‪ ،‬فكل قراءة إعادة بناء‬

‫مثقف‬

‫يضعنا من البداية أمام ديني وال ديني (ال‬ ‫إسالمي) – ضد (اإلسالم)‬

‫نفسه‪.‬‬

‫البعض‬

‫النحو لتحفيز الحضور ضد الطرف اآلخر‬

‫حسن النوايا‪ -‬أن يستبدلها بالتيار الديني‬ ‫ً‬ ‫متجنبا األحكام القيمة التي‬ ‫والتيار المدني‬ ‫خرجت من جذر تعريف العلمانية الذي‬ ‫نبت في الغرب أصالً؛ مع االنطباع السريع‬ ‫الذي يخطر على الذهن أن العلماني ليس‬ ‫بمسلم أوالً ويعتبر أن اإلسالم أحد الدعائم‬

‫ً‬ ‫معا هذه‬ ‫الرئيسية للمجتمع الذي يجمعنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫استقطابا حادا ينبغي‬ ‫األلفاظ العامة تعكس‬

‫‪.‬‬

‫للمقروء‪ ،‬وخلق جديد له في شعور القارئ‪.‬‬

‫تالفيه من البداية إن كنا نرغب في الوصول‬

‫مجموعة من المتغيرات‪ ،‬وأنه يتحول حسب‬

‫هادئ يصل بنا إلى شكل للحياة يضمن األمن‬

‫ويعني ذلك أن النص ليس له ثواب‪ ،‬فهو‬

‫إلى صيغة توافقية تجمعنا على طاولة حوار‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪11‬‬


‫مقال‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫واالستمرار وكما يقول د محمد عمارة‪،‬‬ ‫عندما يستخدم مصطلح إسالمي وكاتب‬

‫إسالمي وتيار إسالمي‪ ،‬هل هذا يعني أن من‬ ‫ال يصنّف تحت هذا الشعار هو غير مسلم؟‬ ‫ً‬ ‫شيئا من القلق المشروع ولعله‬ ‫هذا ما يثير‬ ‫من المفيد عن األحاديث األكاديمي على‬ ‫هذا المستوى أن يقول اإلنسان رأيه في‬

‫الذوق الفني لتقرأ في هذه الكتب المقدسة‪،‬‬ ‫ولتجد في هذه القراءة لذة ومتعة وجماالً‪،‬‬

‫بل ليس من الضروري‪ ،‬وال من المحتوم‬ ‫ً‬ ‫مدفوعا إلى‬ ‫أن تقرأ هذه الكتب المقدسة‪،‬‬ ‫القراءة فيها بهذا الشعور الديني؛ بل تستطيع‬

‫أن تنظر في هذه الكتب نظرة خصبة منتجة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ديانا‪ ،‬ففي هذه الكتب‬ ‫مؤمنا وال‬ ‫وإن لم تكن‬

‫هذه النقطة‪ ،‬فمصطلح “إسالمي” ال يعني‬ ‫ً‬ ‫مسلما فنحن في‬ ‫أن غير المتصف به ليس‬

‫القلب اإلنساني‪ ،‬أحاديث تالئم ما اكتنفنا‬

‫نجد أن كلمة “إسالمي” كأنها الرسالة‪ ،‬بالمعنى‬

‫ال يتعلق األمر هاهنا بتذكر حالة الفقدان‬

‫تاريخ التراث والتاريخ اإلسالمي القديم‬ ‫الحركي‪ ،‬سواء كان ذلك في القضايا الفكرية‬

‫‪.‬‬

‫جمال فني يتحدث إلى العقل اإلنساني‪ ،‬وإلى‬

‫تتعاطف مع االشتراكية وتؤمن بها كأصحاب‬ ‫مصلحة فيها ولكنهم ليسوا هم بالذات‬

‫اشتراكيين أو شيوعيين بالمعنى التنظيمي‪،‬‬ ‫أي أصحاب الموقف الذي يحوّ ل هذا الفكر‬

‫إلى واقع تطبيقي‪.‬‬

‫والعارفة والمكلفة بالنصح واألحكام؛ األمر‬ ‫العالم الثالث التي ما إن حققت استقالالتها‬

‫والتي جاءت بشكل مؤسف‪ ،‬في الكثير من‬ ‫نماذجها‪ ،‬بدكتاتوريات مختلفة في كل شيء‬ ‫حتى في أشكالها القمعية فأجبرت هذه‬

‫المجتمعات الناشئة على نسيان موروثها‬ ‫الثوري والتفتح على آفاق المستقبل‪ ،‬كما‬ ‫هو في فكر فرانز فانون‪ ،‬إن المشكلة في‬ ‫ً‬ ‫تنظيما هو الذي‬ ‫قانون الثورات‪ ،‬أن األكثر‬

‫مسلمون جيدون على مستوى الممارسات‬

‫المسلمين في مصر‪ -‬بل وقد يدفع بها نحو‬

‫اإلسالمي‬

‫جهادية‬

‫كقضية‬

‫فعل المجلس العسكري وجماعة اإلخوان‬

‫ونضالية‪،‬‬

‫اإلحسان بدل االعتراف له باإلحسان! هذا‬

‫لروح الصفقة‪ ،‬فمن وجهة نظر المحسن إليه‬ ‫يبدو اإلحسان وثيقة عهد ينال هو بموجبها‬ ‫هينة حتى لو كانت كنزا‬ ‫هبة دنيوية يراها ّ‬ ‫ّ‬ ‫غل عبودية إذا قيست‬ ‫أو تحريرا لرقبة من‬

‫بالمقابل الذي سيكسبه صاحب اإلنسان‬

‫“الثوري” وقد يكمن سر المفارقة اإلحسانية‬ ‫في تأويل هذا المقابل الملفوف بالستور‪،‬‬ ‫وعندما يفترض حكيم مثل “سيكا” وجود‬

‫عزاء لصاحب اإلحسان في االرتياح الغامض‬

‫الذي يشعره المحسن يغنيه عن اعتراف‬ ‫ً‬ ‫حكيما آخر هو‬ ‫المحسن إليه باإلحسان فإن‬

‫“إمرسون” يفترض العكس عندما يتحدث عن‬ ‫استحقاق صاحب اإلحسان للصفعة من يد‬

‫‪.‬‬

‫المحسن إليه مقابل إحسانه وهو جدل لن‬ ‫يجدي في إماطة اللثام عن المقابل الذي ال‬

‫فاإلسالمي هو الذي يريد أن يضع تصور‬

‫يستعير غموضه من بُعده الوجودي بقدر ما‬

‫هذا الخيار الفكري موضع التطبيق لذلك‬

‫يستعيره من طبيعتها الدينية‪.‬‬

‫فإن تعبير “إسالمي” ال ينفي إسالم التيارات‬

‫مضى على الدولة اإلسالمية‬

‫كتابه “مقاالت اإلسالميين” لم يكن يرى أن‬

‫الذين ال يقولون بهذه المقاالت وال يشتغلون‬

‫حوالي ألف وأربعمئة وثالثة‬ ‫ً‬ ‫عاما وباستثناء فترة‬ ‫وثالثون‬

‫اإلحسان – الثوري – الحامي – التنويري‪ -‬يريد‬ ‫ّ‬ ‫تكفر عنه آالم السهر‬ ‫أن يدفع بإحسانه إتاوة‬

‫وبالتالي فإن استخدام مصطلح “إسالمي” هو‬

‫الخالفة الرشيدة كان حال‬

‫في البدن؛ والمحسن إليه ‪-‬األقلية المقهورة‬

‫المسلمين كما هو ثابت في‬

‫بالحدس لكي يدرك محنة الشريك فيستنكر‬

‫يكون‬

‫من تحرّ ر! هذا الكالم ينطبق بحذافيره على‬

‫األخرى فأبوالحسن األشعري عندما وضع‬

‫بهذا اللون من ألوان الفكر‪ ،‬هم غير مسلمين‬

‫استخدام سليم من الناحية العلمية لكنه ال‬

‫‪.‬‬

‫ينفي إسالم اآلخرين لذلك يقول طه حسين‬ ‫في كتابه “رحلة الربيع والصيف” إن الجانب‬

‫األدبي من الكتب المقدسة يتوجه إلى الناس‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬في كل زمان ومكان‪ ،‬وليس من‬

‫الضروري‪ ،‬وال من المحتوم‪ ،‬أن تكون َح ْب ً‬ ‫را‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شيخا من شيوخ األزهر‪ ،‬لتقرأ‬ ‫قسيسا‪ ،‬أو‬ ‫أو‬ ‫في التوراة أو اإلنجيل أو القرآن‪ ،‬وإنما يكفي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مثقفا‪ ،‬له خط من الفهم أو‬ ‫إنسانا‬ ‫أن تكون‬

‫‪12‬‬

‫ً‬ ‫وأنواعا من نكران اإلحسان‬ ‫السبب للتمرد‬

‫(الجموع الالهية من األقلية المضطهدة)‬

‫اإلسالميون هم أناس لهم موقف‪ ،‬وإن جمهور‬

‫الشعائرية إذن المقصود هنا‪ :‬قضية النظام‬

‫يتحول إلى قوة دافعة لألمام؟ لكن نكران‬ ‫اإلحسان أصبح دليالً على فساد طبيعة‬ ‫ً‬ ‫صنوفا مجهولة‬ ‫اإلنسان‪ ،‬حتى أصبحنا نرى‬

‫الكوني يتأمل التجربة فيراها طبيعية أقرب‬

‫يحوّ لها نحو أو يغير مساراتها الجوهرية ‪-‬كما‬

‫األمة هو مسلم‪ ،‬والكثير من المفكرين هم‬

‫‪.‬‬

‫في الجمود فما قيمة التراكم إذن إذا لم‬

‫أو استرجاع ذكرى تقليدية ألن الشخصية‬ ‫ً‬ ‫حكرا على فرقة‬ ‫الثقافية والفكرية ليست‬

‫االشتراكي أو الشيوعي هو المنظم الذي‬

‫وأن وجود هذا الحزب ال ينفي وجود أناس‬

‫والخبرات في مهب ريح التخلف والرغبة‬

‫عجيب في البداية لكن الكاتب إبراهيم‬

‫من األطوار المختلفة والظروف‬

‫الذي دعمته االنكسارات الحاصلة في بلدان‬

‫كتيبة طليعية لمن يتوجه هذا التوجه الفكري‬

‫ويتهمش دورها ويتقزم وتتالشى التجارب‬

‫المتباينة‪.‬‬

‫أو في الجهاد التنظيمي نفسه ففي اإلطار‬ ‫الماركسي مثالً‪ :‬الطبقة العالمة يمكن أن‬

‫يوجد في حزب‪ ،‬وبالتالي يكون هذا الحزب‬

‫فرأينا كيف أن القوى الثورية تنزاح للخلف‬

‫ترتقي إلى مستوى االنتقام من صاحب‬

‫من الناس تزعم أنها الداعية والفاهمة‬

‫تكون صاحبة مصلحة في االشتراكية ولكن‬

‫المزيد من االنغالق والتآكل الداخليين‪،‬‬

‫التاريخ والتراث من أسوأ ما‬

‫قال نيتشة في “هكذا تكلم زرادشت”‪ :‬من‬ ‫ً‬ ‫دوما مهدد بأن يفقد الحياء – صاحب‬ ‫يهب‬

‫والبحث التي تسري في الروح سريان الدم‬

‫واألغلبية الصامتة‪ -‬ليس في حاجة لالستعانة‬ ‫االعتراف بإحسان صاحب اإلحسان‪ ،‬ألنه‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫على يقين بأنه هو من حرّ ر‪ ،‬بأنه هو‬ ‫نظرة األوصياء على األديان في المجتمع‬

‫الحديث الذي تحرر على يد غيرهم‪ ،‬وهم‬ ‫في الغالب من القوى اليسارية الليبرالية‬

‫‪-‬ويفترض المتأسلمون أن هذا نصر الله‬


‫فادي يازجي‬ ‫المبين!‪ -‬ثم تأتي دعواهم بأن الحق والعدالة‬

‫الكبرى في األرض‪ ،‬دينية أو مدنية‪ ،‬ال يحسن‬

‫لن يأتيا إال بإحياء العصر الذهبي لإلسالم‪.‬‬

‫القيام عليها إال عباقرتها وفالسفتها‪ ،‬ولذلك‬

‫لقد مضى على الدولة اإلسالمية حوالي ألف‬ ‫ً‬ ‫عاما وباستثناء‬ ‫وأربعمئة وثالثة وثالثون‬

‫األكفاء النابهين من أولي السبق والكفاية إلى‬ ‫ً‬ ‫حدثا‬ ‫أيدي نفر مغمورين في دينهم وعقلهم‬

‫كما هو ثابت في التاريخ والتراث من أسوأ‬

‫التي صحبت هذا االنهيار في األداة الحاكمة‬

‫ولكن ما هو العصر الذهبي هذا؟ ومتى كان؟‬

‫فترة الخالفة الرشيدة كان حال المسلمين‬

‫ما يكون‪ ،‬حتى مسألة تطبيق الشريعة‬ ‫لم تحدث كما يجب إال في عهد الخلفاء‬

‫‪.‬‬

‫الراشدين بالنص والروح روى مسلم عن‬

‫كان انتقال الخالفة اإلسالمية من أيدي‬

‫ً‬ ‫جليا في تاريخ اإلسالم‪ ،‬ولوال المالبسات‬

‫‪.‬‬

‫بعضهم على رقاب بعض” وأخرج الترمذي‬ ‫عن ابن عمر قال‪ :‬قال رسول الله صلى‬

‫الله عليه وسلم “إذا مشت أمتي المُ طيطى‬ ‫(مشية التبختر)‪ ،‬وخ َدمتها أبناء الملوك فارس‬

‫والروم ُسلط شرارها على خيارها” وهذا ما‬

‫تنبأ به الرسول الكريم فأفلت الزمام من أيدي‬ ‫ً‬ ‫عاما‬ ‫المؤمنين وضاعت الخالفة بعد ثالثين‬

‫‪.‬‬

‫من قيامها ثم صار الحال كما عرفنا وكتب‬

‫الشيخ الجليل محمد الغزالي في “اإلسالم‬

‫واالستبداد والسياسي”‪ :‬وبعد أن كان ُحكام‬ ‫اإلسالم أعرف الناس به وأفقهم فيه وأحناهم‬ ‫على أهله أصبح أكثرهم حثالة تافهة ُ‬ ‫تضر‬ ‫وال تنفع‪ ،‬وتفسد وال‬

‫تصلح‪.‬‬

‫والرساالت‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫مسيحيا مدح يزيد بن معاوية‬ ‫شاعرا‬ ‫حتى إن‬

‫ظله قدر ما تواتيهم الفرص‪ ،‬فسلموا للوالة‬

‫بن عوف‪ :‬نكون كما أمرنا الله تعالى‪،‬‬

‫تنطلقون إلى مساكين المهاجرين فتحملون‬

‫بعدما تولى رئاسة الدولة غلمان ماجنون‪،‬‬ ‫وبعدها ُلعن السابقون األولون على المنابر‪،‬‬

‫وحرياتهم على أيدي الوالة المناصرين للملك‬

‫يعترفوا باألمر الواقع‪ ،‬وأن يخدموا الدين في‬

‫لقد تحولت الخالفة الراشدة إلى ملك‬

‫وتتحاسدون‪ ،‬ثم تتدابرون وتتباغضون‪ ،‬ثم‬

‫األخرى؛ حتى هانت قيم الخلق والتقوى‬

‫فقال‪ :‬ذهبت قريش بالسماحة والندى‪/‬واللؤم‬

‫عبدالله بن عمرو قال‪ :‬قال رسول الله صلى‬ ‫الله عليه وسلم “إذا ُفتحت عليكم خزائن‬

‫فقال صلى الله عليه وسلم‪ :‬بل تتنافسون‬

‫الحاكم المستبد يثير هذه النزعات الضالة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومنتصرا بإحداها على‬ ‫ضاربا بعضها بالبعض‬

‫لوقف سير اإلسالم كرسالة عامة ومن هذه‬ ‫ً‬ ‫كثيرا من ذوي الفضل‪ ،‬رأوا أن‬ ‫المالبسات أن‬

‫المتغيبين وتعهدوا للمجتمع بما يمكنهم من‬

‫أي قوم أنتم؟ قال عبدالرحمن‬ ‫فارس والروم‪ّ ،‬‬

‫الضغائن بين العرب والفرس وغيرهم من‬ ‫األجناس التي دخلت اإلسالم قبالً‪ ،‬وكان‬

‫اإلصالح‪.‬‬

‫عضوض‪ ،‬واحتكرت زعامة المسلمين أسر‬

‫معينة‪ ،‬في العهد األموي‪ ،‬فضعف إحساس‬

‫األمة بأنها مصدر السلطة‪ ،‬وأن أميرها‬ ‫نائب منها أو أجير لديها‪ ،‬وأصبح الحاكم‬

‫الفرد هو السيد مطلق النفوذ‪ ،‬والناس أتباع‬

‫تحت عمائم األنصار! وابتذلت حقوق األفراد‬

‫العضوض‪ ،‬فاسترخص القتل والسجن! حتى‬

‫يروي الترمذي عن هشام بن حسان قال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫صبرا فوجد مئة ألف‬ ‫أحصى ما قتل الحجاج‬ ‫ً‬ ‫ألفا!” وروى البخاري عن سعد بن‬ ‫وعشرين‬

‫‪.‬‬

‫المُ سيب‪ :‬لما وقعت الفتنة األولى ‪-‬أي مقتل‬ ‫ً‬ ‫أحدا‪ ،‬ثم‬ ‫عثمان‪ -‬لم تبق من أصحاب بدر‬ ‫وقعت الفتنة الثانية ‪-‬أي الحرة‪ -‬فلم تبق من‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫أحدا‪ ،‬ثم وقعت الثالثة‬ ‫الحديبية‬ ‫أصحاب‬

‫إشارته؛ ترى الناس إن سرنا يسيرون حولنا‪/‬‬

‫فلم ترتفع وللناس َطباخ (أي فقدوا قوتهم)‪.‬‬

‫الخالفة رجال مي ّتو الضمير وشباب سفهاء‪،‬‬

‫هذه الفتن المترادفة كانت من العنف بحيث‬

‫وإن نحن أومأنا إلى الناس ركضوا! وتولى‬ ‫جريئون على معصية الله واقتراف اإلثم‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫وليس لثقافتهم اإلسالمية قيمة ثم اتساع‬

‫والواقع أن الهزة التي أصابت اإلسالم من‬ ‫لو أصابت دعوة أخرى لهدمتها‪ ،‬ولكن معدن‬

‫الدين وتماسك العلماء والجماهير حوله‬

‫نطاق المصروفات الخاصة للحاكم وبطانته‬ ‫ّ‬ ‫ومتملقيه‪ ،‬وتحمّ ل هذه المغارم بيت مال‬

‫سالم معافى ثم يستأنف سيره في العصور‬

‫حاجات الفقراء ومصالح األمة‪ ،‬وعادت‬

‫ً‬ ‫لزاما للقبضة المتزمّ تة أن تعادي كل فكر‬ ‫وكان‬

‫ّ‬ ‫وأثر هذا السرّ ف الحرام على‬ ‫المسلمين‬ ‫عصبية الجاهلية التي هدمها اإلسالم‪،‬‬

‫فانقسم العرب قبائل متفاخرة‪ ،‬ووقعت‬

‫أمكن من اجتياز هذه األزمات العصيبة وهو‬

‫من جديد‪.‬‬

‫ليبرالي تحرّ ري‪ ،‬على الرغم من أن العلمانية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عقيدا من الدين‪ ،‬بل هي موقف‬ ‫موقفا‬ ‫ليست‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪13‬‬


‫مقال‬

‫من النظام السياسي في المجتمع‪ ،‬وال عالقة‬ ‫ً‬ ‫له باإليمان ّ‬ ‫تماما‪،‬‬ ‫قل أو كثر أو حتى انتفى‬ ‫إنه موقف من نظام الحياة ووضع المجتمع‬

‫أو من تجلياتها المختلفة‪ ،‬فهناك الحقيقة‬

‫هذا الفكر النائم ‪-‬بتعبير نيتشة‪ -‬أن نكتفي‬

‫األخالقية‪ ،‬وال تذهب إلى الفن باعتباره‬

‫من الفلسفة‪ ،‬فهذا يعني إقصاء غيرها من‬

‫تعيد النظر في األجسام‪ ،‬ألن الفن لم يكن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دائما‬ ‫أخالقا بالمعنى الديني السلفي‪ ،‬فهو كان‬

‫الفلسفية والحقيقة االجتماعية والحقيقة‬

‫السياسية والحقيقة الثقافية‪.‬‬

‫وقوانين الدولة‪ ،‬ومن عالقة الدين بالدولة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مؤمنا وأصوم وأصلي‬ ‫لهذا ال يمنع أن أكون‬

‫باختزال الحقيقة فيما يأتي من الدين‪ ،‬أو‬

‫لدي موقف علماني من السياسة أو من نظام‬ ‫ّ‬

‫الحقائق‪ ،‬واالكتفاء بالرؤية المغلقة العمياء‪،‬‬

‫وأراعي تأدية الفروض وأشجعها‪ ،‬لكن يبقى‬

‫الدولة‪ ،‬وعليه ال ينبغي أن يؤدي تعبير ديني‬ ‫ومدني‪ ،‬وإسالمي وعلماني إلى تشويش‬

‫‪.‬‬

‫التي ال تغير نظرها إلى األمور وكما جاء‬

‫في نص صالح بو سريف “مرآة أفالطون”‪:‬‬

‫على صلب القضية‪ ،‬فهي تعبيرات مجحفة‬ ‫ً‬ ‫كثيرا عن‬ ‫ال تخلو من عمومية تنحرف‬

‫من السلفية األصولية‪ ،‬أو هي تكريس لفكر‬

‫فكلمة ديني تعني أن العلماني ال إيمان له‪،‬‬

‫حين لجأ أفالطون إلى أرسطوفان‪ ،‬وهو‬

‫من قضية المجتمع وأركان الدولة وكالهما‬

‫تخيل الواقع‪،‬‬ ‫زمنه من ينتقد‪ ،‬أو من يعيد‬ ‫ّ‬

‫التوصيف الرقيق للرجال وللمواقف‪.‬‬

‫وكلمة مدني تعني أن اإلسالم بال مواقف‬ ‫غير صحيح‪ ،‬وماذا عن الفضائل اإلسالمية‬

‫والفرق العلمانية التي تختلف فيما بينها‬ ‫في الكثير من األيديولوجيات والمناهج‬

‫مصادرة الحقيقة باسم حقيقة أخرى هو نوع‬ ‫التحريم والمنع‪ ،‬ورفض لالختالف‬

‫والنقد‪.‬‬

‫طريح الفراش‪ ،‬فألنه لم يعد يجد‪ ،‬ربما في‬ ‫بنفس السخرية التي كان أرسطوفان‪ ،‬ينتقد‬

‫بها هذا الواقع‪ ،‬أو يعيد تشكيله‪ ،‬وفق منظور‬ ‫جديد‪ ،‬ليس هو المنظور الذي كان الفكر‬

‫واألهداف رغم العناوين العامة والشعارات‪.‬‬

‫اليوناني غرق فيه فأرسطوفان‪ ،‬بالنسبة إلى‬

‫الشارع وحديث المقهى والندوات العامة‬

‫كان أفالطون نسي في لحظة سابقة أن‬

‫وعندما نزلت هذه االصطالحات إلى رجل‬

‫صارت “إسالمي”! ما تعبر عن إلهي ال يخطئ‬

‫أو هو متزمت مثير للملل والجمود‪ ،‬وكانت‬

‫“علماني” تشير إلى ملحد منحرف يدعو‬ ‫للضالل‪ ،‬فصارت ُشبهة!‬ ‫وهكذا! فبدالً من التحاور والتالقي وتوحيد‬

‫‪.‬‬

‫أفالطون‪ ،‬في هذا الوضع‪ ،‬هو حقيقة أخرى‪،‬‬ ‫يُ سبغها على الشعر‪ ،‬ما جعله في فخ التحريم‬

‫‪.‬‬

‫واإلقصاء كما حدث مع الشعر‪ ،‬والفكر‪،‬‬ ‫يحدث اليوم مع الفن والرسم والنحت‬

‫والرقص والتمثيل‪ ،‬ومع اآلثار التاريخية‬

‫القوى ولو اختلفت األفكار‪ ،‬نجد أننا أضعنا‬

‫عن طريقة إلعادة التعهد بالموقف الثابت‬

‫الموحد‪ ،‬والذي لم يكن في الحقيقة سوى‬

‫تكرار بديهية كان من المفروض أال تخضع‬

‫‪.‬‬

‫للجدال فالحق في المساواة بين الطرفين‬

‫المكمّ لين بالضرورة لبعضهما البعض هو حق‬ ‫طبيعي لكليهما وللمجتمع والفكر‪ ،‬على الرغم‬ ‫من أن التاريخ يسرد لنا وقائع تقول بأن‬

‫افتئات حق طرف على طرف كان في مناطق‬ ‫ً‬ ‫معكوسا فال وجود‬ ‫بعينها وأزمنة أخرى‬

‫‪.‬‬

‫لحقيقة واحدة في دنيا الفكر وهذا مثالً ما‬ ‫وقع فيه أفالطون عندما طرد الشعراء من‬ ‫مدينته الفاضلة‪ ،‬ألنه كما قال أحد المفكرين‬

‫المعاصرين‪ ،‬ممن طالتهم يد التكفير؛ مشكلة‬

‫أفالطون أنه جعل من الحقيقة الفلسفية‬ ‫ً‬ ‫معيارا للحكم على الشعر فطرد الشعراء من‬

‫‪.‬‬

‫جمهوريته فهو لم يوسع من معنى الحقيقة‬

‫‪14‬‬

‫إال من زاوية األخالق أو من زاوية الحقيقة‬

‫حقيقة أخرى‪ ،‬تعيد النظر إلى األشياء كما‬

‫ً‬ ‫أخالقا في سياق فني جمالي‪ ،‬يعين ترتيب‬ ‫ً‬ ‫نوعا‬ ‫األوضاع وفق منظور يكون فيه العراء‬ ‫ً‬ ‫قهرا‬ ‫من النقد لهذا االحتجاب الذي صار‬

‫لمعنى الطبيعة ولمعنى اإلنسان‪ ،‬الذي هو في‬ ‫حاجة إلى اختيار بدايته‪ ،‬أعني بداية خلقه‬

‫‪.‬‬

‫التي كانت عراء في أصلها أليس العراء‬ ‫ً‬ ‫نقدا لفداحة هذا التخفي الذي يريد الفكر‬

‫الماضوي السلفي أن يفرضه علينا؟ أليست‬ ‫شدة االحتجاب هي دعوة إلى العراء أو هي‬ ‫باألحرى شدة عراء؟‬

‫‪.‬‬

‫يقول د سعدالدين إبراهيم أنه في أوائل‬

‫السبعينات أفرج الرئيس الراحل محمد أنور‬

‫السادات عن بقية المسجونين والمعتقلين‬ ‫من اإلخوان المسلمين‪ ،‬وأعطاهم الضوء‬ ‫ً‬ ‫سياسيا‪ ،‬وبصفة خاصة‬ ‫األخضر لكي ينشطوا‬ ‫في الجامعات المصرية التي كان يسيطر‬ ‫على العمل السياسي فيها حينئذ اليساريون‬

‫والناصريون المناوئون لنظام السادات‪ ،‬ونمت‬ ‫ّ‬ ‫باطراد منذ‬ ‫التيارات اإلسالمية في مصر‬ ‫ذلك الحين‪ ،‬وبدأت تشكل ظاهرة اجتماعية‬

‫‪.‬‬

‫نصف الوقت وأغلب الجهد وكل المرض في‬ ‫محاوالت عقيمة يثبت فيها كل واحد أنه‬ ‫ً‬ ‫إيمانا! فال بد من البحث‬ ‫ليس أقل من اآلخر‬

‫‪.‬‬

‫القديمة‬ ‫السلفية األصولية ال تنظر إلى العراء مثالً‬

‫سياسية واقتصادية وثقافية متصاعدة وقد‬

‫ً‬ ‫المتزمتة‬ ‫لزاما للقبضة‬ ‫كان‬ ‫ّ‬

‫أفلتت من قبضة أجهزة الدولة ورعايتها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خصوصا عندما انحرف مسار الدولة بنسبة‬

‫كبيرة عن المشروع اإلسالمي والوطني‪ ،‬من‬

‫أن تعادي كل فكر ليبرالي‬

‫خالل توقيع معاهدة الصلح مع الصهاينة‪.‬‬

‫تحرري‪ ،‬على الرغم من أن‬ ‫ّ‬

‫عندما قال في حديث لمجلة دير شبيجل‬

‫هذا الرأي الذي أكده الرئيس المخلوع مبارك‬

‫ً‬ ‫موقفا‬ ‫العلمانية ليست‬

‫األلمانية أن الرئيس السادات شجع تكوين‬

‫ً‬ ‫عقيدا من الدين‪ ،‬بل هي‬

‫الشيوعي في مصر‪ ،‬فرعى التطرف الديني‬

‫موقف من النظام السياسي‬ ‫في المجتمع‪ ،‬وال عالقة له‬ ‫باإليمان ّ‬ ‫قل أو كثر‬

‫الجامعات اإلسالمية بهدف مقاومة التيار‬

‫‪.‬‬

‫وجعله ينمو في ظله وظلت فصائل اإلسالم‬

‫السياسي تتفرع منذ بداية السبعينات‬

‫لمواجهة النظام اليساري‬

‫الناصري‪.‬‬

‫لقد‬

‫قررت أن الدولة العليا في حيثيات حكمها‬

‫بقضية “الجهاد” المعروفة‪ :‬ظلت سلطات‬

‫األمن غافلة عن نشاط التنظيم والذي بدأ‬ ‫في صيف ‪ 1980‬بدعوة الشباب االنضمام إليه‬

‫ووضع الخطط وجمع المعلومات وارتكاب‬ ‫حوادث النهب والسرقة وشراء األسلحة‬


‫وتخزينها‪ ،‬وتدريب أعضائها على استعمال‬ ‫األسلحة‪ ،‬ورغم أن التنظيم قد كثف نشاطه‬ ‫بعد ‪ 2‬سبتمبر ‪ 1981‬متمثالً في عقد اجتماعات‬ ‫بين قيادته‪ ،‬وانتقالهم بين محافظات الوجه‬ ‫القبلي والقاهرة والجيزة وتكثيف نشاطهم‬

‫في التدريب على السالح‪ ،‬فإن سلطات‬

‫األمن بما لها من سلطة الضبطية اإلدارية‪،‬‬ ‫وهي اتخاذ اإلجراءات المانعة من ارتكاب‬

‫الجريمة قبل وقوعها باتخاذ تدابير الوقاية‬

‫واحتياطات األمن العام‪ ،‬لم تتخذ أي إجراء‬

‫‪.‬‬

‫جد‪ ،‬أي كشف هذا التنظيم وتحركاته قبل‬

‫‪.‬‬

‫أن يبدأ في تحقيق أهدافه هذه الحسابات‬ ‫الحمقاء للموازنة بين اإلسالم السياسي‬

‫والتيار اليساري‪ ،‬تحاول أن ترهب هذا‬ ‫بذاك‪ ،‬واحتواء أحد التيارين باآلخر‪ ،‬بل إن‬

‫السادات اقترح شعار “العلم واإليمان” ليغازل‬

‫اإلسالميين وليكتسب جماهيرية بين جموع‬ ‫الشعب الشغوف بمظاهر التدين‬

‫‪.‬‬

‫فأريحك من المرتبات التي تدفع لنا فكانت‬

‫لمعاداة اإلخوان ورفض مداهناتهم للدولة‬

‫الجماعة اإلسالمية إلى السعودية واليمن‬

‫جماعة الجهاد هذا األسلوب الذي دأبت‬

‫الهجرة على النحو التالي‪ :‬هاجر بعض أعضاء‬ ‫وجبال المنيا بدعوى إقامة مجتمع إسالمي‬

‫اإلسالمية لدرجة أنه بدأ يستخدم هذه‬

‫الجماعات بعضها ضد بعضها اآلخر‪.‬‬

‫نقي في الهواء الطلق باستصالح األرض‬ ‫ً‬ ‫دائما‬ ‫والعيش على رعي الغنم هذه هي‬ ‫تحلم بها بينما كبارهم يرفلون في الحرير‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعنفا في طريقة التعامل مع النظام‪.‬‬ ‫تطرفا‬

‫‪.‬‬

‫اليوتوبيا التي يريدون لألجيال الجديدة أن‬ ‫وينعمون بالنساء وأسطول السيارات‪ ،‬حتى‬ ‫العام ‪ 1977‬عندما بدأت جماعة اإلسالميين‬ ‫في اللجوء للعنف عندما اختطفت الشيخ‬

‫حسين الذهبي وزير األوقاف‪ ،‬فانتبهت‬ ‫الحكومة إلى أن الجماعة صارت ذات أنياب‪،‬‬

‫وهو نفس أسلوب السادات الذي أثبت‬

‫‪.‬‬

‫فشله ومن جهة أخرى كانت الدولة تعمل‬

‫جاهدة على تشويه صورة الجماعات كافة‬ ‫على المستوى الجماهيري اإلعالمي؛ فكانت‬

‫الصحف الرسمية وقنوات التلفاز وموجات‬

‫أن طواغيت هذه األرض لن تزول إال بقوة‬ ‫ً‬ ‫إيذانا ببدء العنف بشكل‬ ‫السيف‪ ،‬فكان هذا‬

‫للمعارضة بحرية الفكر والعمل ما داموا في‬ ‫نفس الصف‪ ،‬عمالً بمبدأ عدوّ عدوي صديقي‪،‬‬

‫عام ‪ 1979‬لمؤلفه محمد عبدالسالم فرج ليعلن‬

‫وخرج منشور سري بعنوان “ميثاق العمل‬

‫اإلسالمي” كمعاهدة شرف ومنهج عمل‬

‫وخارطة طريق جاء فيه أن الجماعة‬

‫أبوالخير أنه بعد أحداث الكلية الفنية‬

‫والهجرة‬

‫ما سبقها من تجارب‪ ،‬وذلك في إشارة‬

‫واضحة‬

‫من‬

‫جماعة‬

‫التكفير‬

‫ويسمح اإلعالم وجهاز الصحافة حتى‬

‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬نراها بشكل‬ ‫وكانت مواءمة ناجحة‬

‫واضح في حالة السيناريست الكبير وحيد‬ ‫ً‬ ‫مسموحا له نقد الحزب‬ ‫حامد الذي كان‬

‫الوطني والظلم االجتماعي والشخصيات‬ ‫ً‬ ‫بدءا من كبار موظفي الدولة‬ ‫العامة الكبيرة‬ ‫وحتى الوزراء‪ ،‬وحتى رئيس الجمهورية‬ ‫ً‬ ‫أيضا يفضح الجانب الدموي‬ ‫في مقابل أنه‬

‫المادي للجماعات اإلسالمية؛ هذا المنهج‬ ‫الذي بدأ بدعم من كتاب ومفكرين محسوبين‬

‫والهجرة” وعرضت الحكومة رغبتها في‬

‫على التيار اليساري (لعبة السادات معكوسة)‬ ‫ً‬ ‫كثيرا‬ ‫بشن حملة شرسة ضدهم أضرها‬

‫التعاون معها على أساس أن الجماعة تصرف‬ ‫الشباب عن المناهج االنقالبية وتدعو إلى‬

‫‪.‬‬

‫الجماعات لتحجيم حركة الجماعات األكثر‬

‫وظهر في هذا الوقت كتاب “الفريضة الغائبة”‬

‫وفي كتابه “ذكرياتي مع جماعة اإلخوان‬

‫العسكرية عام ‪ 1974‬عقد اجتماع لقادة‬ ‫ً‬ ‫إعالميا “التكفير‬ ‫المسلمين أو ما يسمى‬

‫كبيرة بمبدأ فرق تسد واستخدام جماعة‬

‫اإلذاعة تعادي فكر الجماعات بشكل صريح‪،‬‬

‫المسلمة ترفض الرياء والركون وتستوعب‬

‫المسلمين” يروي قطب الجماعة عبدالرحمن‬

‫الدولة والنظام على إتباعه دون ملل وبثقة‬ ‫ضد أخرى‪ ،‬وإطالق حرية الحركة إلحدى‬

‫الزائف‪ .‬رسمي ومنهجي‪.‬‬

‫وفيما بعد راقته لعبة استخدام الجماعات‬

‫والمساومات التي تجري بينهم‪ ،‬وكذا رفضت‬

‫التضخيم والمبالغة في شكليات معينة دون‬

‫الهجرة ألن الحكومة في حاجة إلى إسالمية‬

‫السلفية األصولية ال تنظر‬

‫معالجة فكرية للدوافع والجذور الحقيقية‬

‫تستوعب العامة من الناس‪ ،‬وفي مقابل‬

‫ً‬ ‫مثال إال من‬ ‫إلى العراء‬

‫أصحاب الجماعات في دعوى أن النظام‬

‫زاوية األخالق أو من زاوية‬

‫هذه المبالغات كانت المقاربات المستمرة‬

‫تستوعب الخاصة من الشباب‪ ،‬ثم إلى جماعة‬ ‫صرف الشباب عن االنقالبات يطلق الطاغوت‬

‫أيديهم في العمل لإلسالم بحرية غير‬ ‫منتهيين ‪-‬أو يظنون أنه وضع مؤقت‪ -‬أنهم‬

‫دمى في يده؛ فالحكومة قدمت هذا العرض‬ ‫ً‬ ‫تماما أن منهج الجماعة ال يصطدم‬ ‫وتعلم‬ ‫بمنهج الهجرة وخطتها الحالية‪ ،‬ويصرف‬

‫الشباب عن التجمعات ذات المناهج االنقالبية‬

‫شأن تنظيم الفنية‬

‫العسكرية‪.‬‬

‫يقولون‬

‫للطاغوت إنهم ال يشكلون عقبة في طريقه‪،‬‬ ‫فحجبهم للنساء عن الجامعات والمدارس‬

‫يعني أنهم يقولون له‪ ،‬ها نحن ذا نريحك‬

‫من مشاكل تعليمهن وانتقاالتهم‪ ،‬وهجرتي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫انقالبيا عليك‪ ،‬وأسهم بذلك‬ ‫خطرا‬ ‫ال تشكل‬ ‫في تخفيف مشاكل اإلسكان وأترك الوظائف‬

‫لغول الجماعات‪ ،‬هذه المبالغات التي يستغلها‬

‫‪.‬‬

‫يصوّ رهم ببشاعة ويظهرهم كفزاعة ضمن‬

‫الحقيقة األخالقية‪ ،‬وال‬

‫بتشبيه الحركات اإلسالمية السنية بالحركة‬

‫تذهب إلى الفن باعتباره‬

‫هذه الجماعات سوف تؤدي بنا إلى صورة‬

‫حقيقة أخرى‪ ،‬تعيد النظر‬ ‫إلى األشياء كما تعيد النظر‬ ‫في األجسام‬

‫اإليرانية الشيعية‪ ،‬وتخويف الجمهور من أن‬ ‫أخرى من إيران‪ ،‬والواقع أن هذه الصورة‬

‫كان يخشاها النظام الذي يرتعب من فكرة‬

‫أن يلقى ذات مصير الشاه اإليراني‪ ،‬ولكنهم‬ ‫ً‬ ‫–إعالميا‪ -‬يحرّ كون كوامن الفزع بصورة‬

‫ّ‬ ‫تنفذ‬ ‫مستقبلية للحكم اإلسالمي في مصر‬ ‫فيه الحدود من قطع يد وجلد وتعذيب‬

‫‪.‬‬

‫وانتهاك حقوق اإلنسان مثال على ذلك مقال‬ ‫كتبه حسين أحمد أمين في مؤلفه “اإلسالم‬ ‫في عالم متغير” تحت عنوان “البيان العاشر‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪15‬‬


‫مقال‬

‫لقائد الثورة اإلسالمية” يتوقع فيه قيام ثورة‬

‫متكاملة في الخطاب والتفكير يمكن أن‬

‫ً‬ ‫ملصقا بها‪.‬‬ ‫اإلسالمية جعلت األمر يبدو‬

‫قليلة من قيامها يتحدث فيه عن تنفيذ‬ ‫حكم اإلعدام قائالً ” لقد أفلحنا بتوفيق من‬

‫التاريخ‪ ،‬تقدم على عقيدة ثابتة مفادها أن‬

‫الكتاب بأنها من صنع اإلسالميين الذين‬

‫في مصر‪ ،‬يلقي قائدها بهذا البيان بعد شهور‬

‫الله وفضله أن نستأصل في األسابيع األولى‬

‫شأفة العلمانيين والدنيويين‪ ،‬ورؤساء أهل‬ ‫الذمة والفنانين والمالحدة والشيوعيين‬

‫واالشتراكيين‬

‫والوفديين‬

‫والناصريين‬

‫وغيرهم من أتباع المذاهب الضالة فاسترحنا‬

‫‪.‬‬

‫لذلك وأرحنا” ثم يتحدث عن وجود شقاق‬

‫في مجلس قيادة الثورة “أعلم علم اليقين‬ ‫ً‬ ‫أفرادا منكم قد شرعوا يتهامسون فيما‬ ‫أن‬ ‫ً‬ ‫تصدعا قد طرأ على قيادة الثورة‬ ‫بينهم بأن‬

‫اإلسالمية المباركة‪ ،‬وبأن الخالف والشقاق‬ ‫قد دبّا بين أفرادها‪ ،‬وذلك لمجرد أننا قمنا‬

‫خالل األسبوع الفائت بإعدام حفنة من‬

‫المارقين‪ ،‬والعُ صاة في هذه القيادات‪ ،‬في‬ ‫حين أن عددهم ال يتجاوز ألفين وثمانمئة‬ ‫ً‬ ‫ردا‬ ‫في جميع محافظات القطر ثم يقول‬

‫‪.‬‬

‫نطلق عليها مدرسة التفسير األصولي ألزمات‬

‫اإلسالميين هم أساس كل شرّ ومصدر كل‬ ‫ً‬ ‫جديدا‪،‬‬ ‫بالء وغم وكرب‪ ،‬وهذا المنهج ليس‬ ‫ولكن تأسيس المدرسة وتجميع رموزها‪،‬‬

‫ونشر فروعها في الداخل والخارج هو‬ ‫اإلنجاز الذي تم بوضوح هذا العام‪ ،‬ويتصل‬ ‫ً‬ ‫أيضا أن كفاءة العمل قد تحسنت‬ ‫بذلك‬

‫ً‬ ‫كثيرا بحيث بات الحدث يقع في الجزائر‬ ‫مثالً في الصباح‪ ،‬فتسمع تفسيره ‘األصولي’‬

‫‪.‬‬

‫ألعضاء في الحركات اإلسالمية في عهد‬

‫وزير الداخلية السابق اللواء زكي بدر‪ ،‬وأورد‬

‫تقرير المنظمة العربية لحقوق اإلنسان (‪)1991‬‬ ‫ً‬ ‫مزيدا من‬ ‫أن المنظمة تلقت على مدى العام‬

‫ذلك‪ :‬قضية الحل والحرمة في الغناء التي‬

‫رافقت أحداث أسيوط عام ‪ ،1988‬والتي‬

‫حاولت فيها بعض المجالت آنذاك وصفها‬ ‫بأنها اغتيال الوجدان المصري”‪ ،‬وتم اغتيال‬

‫أحد القساوسة في أسيوط فتحدث راديو‬

‫الدين ومن أركانه‪ ،‬فقد أفتى هذا الفاسق‬

‫ظاهر قدم المرأة ليس بعورة‪ ،‬وبأن اقتناء‬

‫التي كان من أهم نتائجها عمليات االغتيال‬

‫اإلسالمية‪ ،‬وفي حاالت كثيرة استمر احتجاز‬

‫ذات الموجة خالل أيام قليلة‪“ ،‬الشاهد على‬

‫رجل مسيحي ال هو متطرف وال هو مسلم‬

‫بأن صبغة اليود ال تنقض الوضوء‪ ،‬وبأن‬

‫على تأكيد قوائم مدرسة اإلرهاب األصولي‬

‫العشوائي واالعتقال تركز معظمها في‬

‫وأنهم أربعة ملثمين ملتحين شوهدوا يفرون‬

‫المبتدع‪ ،‬خالل األسابيع األخيرة من حياته‪،‬‬

‫يهدفون إلى تقويض النظام االقتصادي‪.‬‬ ‫والكل يذكر حلقات مسلسل الريان‪ .‬وزيادة‬

‫بعد الظهر في إذاعتي مونت كارلو ولندن”‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ويقرأ تحليالً‬ ‫موسعا له في القاهرة على‬

‫على خبر إعدام الرئيس نفسه “إن بيننا وبينه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبيرا‪ ،‬وأن ذلك الخالف يرجع إلى‬ ‫خالفا‬

‫موضوعات حيوية شتى هي لصيقة بجوهر‬

‫ثم ظهور أزمة الدوالر‪ ،‬التي وصفها أحد‬

‫لندن عن األصوليين الذين ارتكبوا الجريمة‪،‬‬

‫بعد الحادث‪ ،‬ثم تبين من التحقيق أن القاتل‬

‫أصال‪ ،‬والمشكلة أسرية بين القاتل وزوجته‪،‬‬

‫أيد فيها القسيس موقف الزوجة‪ ،‬فانتقم‬ ‫منه الزوج‪ ،‬لكن السمعة التي نالتها الجماعة‬

‫التقارير والشكاوى بشأن حمالت القبض‬

‫أوساط المشتبه في انتمائهم إلى الجماعات‬ ‫األشخاص الذين طالتهم هذه الحمالت رغم‬

‫صدور قرارات من النيابة بإخالء سبيلهم‪،‬‬

‫كما استمرت الشكاوى من رفض وزير‬

‫الداخلية اإلفراج عن أعداد من المعتقلين‬ ‫رغم حصولهم على أحكام نهائية باإلفراج‬ ‫عنهم‪ ،‬وفي حاالت عديدة تحايلت وزارة‬

‫الداخلية على هذه األحكام بإصدار أوامر‬ ‫باعتقال جديدة‪ ،‬كما شملت إجراءات القبض‬

‫واالعتقال أعدادا كبيرة من الفلسطينيين‬ ‫وبعض الجنسيات العربية األخرى‪ ،‬وبصفة‬

‫خاصة في أعقاب أزمة الخليج‪ ،‬وحادث‬

‫الصور الشمسية آلدميين ال غبار عليه” هذا‬ ‫ً‬ ‫كثيرا عن أن‬ ‫الشكل اإلرهابي العنيف ال يبعد‬

‫هذه اإلجراءات مئات من المواطنين الذين‬

‫ظل حكم الجماعات اإلسالمية هذا الكالم‬

‫مناطق عديدة في أعقاب إعالن نتائج‬

‫يكون هو المستقبل الحقيقي المنتظر في‬

‫‪.‬‬

‫ألقي القبض عليهم بعد اضطرابات شهدتها‬

‫‪.‬‬

‫موثق بشكل جيد في كتاب د أحمد جالل‬ ‫عز الدين “اإلرهاب والعنف السياسي” فقد‬

‫رصد ‪ 794‬عملية إرهابية دولية وقع ضحيتها‬ ‫ً‬ ‫شخصا‪ ،‬وقع ‪ 43‬بالمئة منها في دول‬ ‫‪954‬‬

‫وكل هذا يحتاج إلى ُصنع‬ ‫ملمة بالعصر‬ ‫ثقافة جديدة ّ‬

‫شعبي يقيم سلطته معتمدا على الجماهير‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويشل إرادتهم‪ ،‬يُ عيد بناء‬ ‫يُ حاصر األعداء‬

‫أوروبا الغربية‪ ،‬ووقع في أميركا الالتينية ‪22‬‬ ‫و‪ 6‬بالمئة في الواليات المتحدة وشملت‬

‫عفا عليه الزمن في القيم‬

‫‪.‬‬

‫العمليات اإلرهابية في الشرق األوسط‬ ‫حرب العراق ‪-‬إيران‪ ،‬واالحتالل اإلسرائيلي‬

‫لفلسطين‪ ،‬والحرب األهلية في لبنان‪ ،‬وصار‬ ‫من الشائع أن تبدأ نشرة األخبار بخبر يقول‬

‫“قام ملتحون يرتدون مالبس قصيرة تشبه‬ ‫الزى الرسمي الباكستاني بتفجير كذا … الخ”‪،‬‬

‫فيما أشار إليه فيما بعد الكاتب الكبير فهمي‬

‫هويدي بمقال “التفسير األصولي لألزمات”‬

‫أورد فيه أن عام ‪ 1988‬شهد تأسيس مدرسة‬

‫مجلس الشعب‪.‬‬

‫في الختام تبقى شهادة ماركسي قديم هو‬

‫ّ‬ ‫وتغيره وتطرد ما‬ ‫تتعلم منه‬ ‫ّ‬

‫بالمئة منها‪ ،‬و‪ 15‬بالمئة في الشرق األوسط‪،‬‬

‫اغتيال الدكتور رفعت المحجوب‪ ،‬كما طالت‬

‫شريف حتاتة “إننا في حاجة إلى تحالف‬

‫المجتمع ونظام الحكم بالنضال الديمقراطي‬ ‫الصبور الذي يدحض المصاعب ويبدد‬

‫‪.‬‬

‫والفكر‪ .‬وتبني على ما هو‬

‫أصوات اليأس وكل هذا يحتاج إلى ُ‬ ‫صنع‬ ‫ّ‬ ‫وتغيره‬ ‫تتعلم منه‬ ‫ثقافة جديدة ملمّ ة بالعصر‬ ‫ّ‬

‫يغير‬ ‫صعبة تحتاج إلى أن ّ‬

‫يغير المثقفون من‬ ‫مهمة صعبة تحتاج إلى أن ّ‬

‫إيجابي في تراثنا‪ .‬إنها مهمة وتطرد ما عفا عليه الزمن في القيم والفكر‪.‬‬ ‫وتبني على ما هو إيجابي في تراثنا‪ .‬إنها‬ ‫المثقفون من أنفسهم‬

‫أنفسهم لكن كم هو جميل أن نسعى خطوة‬

‫بعد خطوة من أجل تحقيقها”‬

‫كاتب من مصر‪‎‬‬ ‫فادي يازجي‬

‫‪16‬‬


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪17‬‬


‫مقال‬

‫سلطة الخطاب‬ ‫فرس الرهان‬ ‫في ظاهرة الجماهير‬ ‫أشرف صالح محمد‬ ‫أساسيا لجهة األدوار التي لعبتها وال تزال على مسرح التغيرات السياسية واالجتماعية‪،‬‬ ‫تحتل الجماهير في التاريخ البشري موقعً ا‬ ‫ً‬ ‫وهي أدوار منها ما اتسم بالسلبية عبر الدعم الذي أعطته لقوى استبدادية أو أليديولوجيات فاشية وأوصلتها إلى س ّدة الحكم‬ ‫(صناعة الطاغية)‪ ،‬أو عبر التضحيات العظيمة في سبيل قضايا وطنية واجتماعية (حروب التحرير والثورات)‪ ،‬مما يجعلها تجمع‬

‫بين القدرة على التدمير والقدرة على التضحية الكبرى في آن واحد‪.‬‬

‫من‬

‫المعروف أن السفسطائية قد‬

‫بالمجتمعات العربية‪ ،‬ومجتمعات الدول‬

‫اكتشفت اإلمكانيات التي تحملها اللغة‬ ‫الخصم في الخطأ‪ ،‬ودور الخطابة في تغيير‬ ‫الرأي والموقف‪ ،‬ومُ ْن ُذ ذلك التاريخ على‬

‫هذه المجتمعات ذات الثقافة التقليدية يُ عَ ّد‬ ‫عامالً فاعالً ومؤثرًا في بلورة وصياغة هذه‬

‫وبمعنى آخر‪ ،‬استخدمت سالح البعد عن‬

‫الوعي الجماعي لهذه المجتمعات‪ ،‬ومن هنا‬

‫من أجل الصمود والمقاومة‪ ،‬وهنا اضطر‬

‫والسياسي في السيطرة على الشعب‪ ،‬ألن‬

‫ألفراد هذه المجتمعات سهلة ج ًدا وذات‬

‫وقفت عند سلطة الخطاب عندما‬

‫كالمغالطة‪ ،‬والقدرة على التمويه‪ ،‬وإيقاع‬

‫األقل‪ ،‬والسلطة تعي قدرة الخطاب الديني‬ ‫“هؤالء الذين يعرفون كيف يتكلمون‪ ،‬وكيف‬

‫يقنعون الجمهور‪ ،‬يتمكنون من تسخير‬

‫الجمهور لخدمتهم‪ ،‬ويمكنهم بسهولة سلب‬

‫هذا الجمهور ما يمتلكه”‪.‬‬

‫الثقافة‪ ،‬وبالتالي يصبح مساهمً ا في تشكيل‬ ‫تصبح عملية التحريك والحشد السياسي‬

‫ّ‬ ‫يتم االعتماد‬ ‫فعالية أثناء األزمات‪ ،‬حيث‬ ‫على عناصر الثقافة التقليدية ويأتي الدين‬

‫‪.‬‬

‫في مقدمتها لذا لجأت الزعامات والقيادات‬ ‫في تاريخ مِ ْ‬ ‫ص َر على مر العصور إلى الباعث‬

‫الديني أثناء فترات األزمات‪.‬‬

‫الخطاب الديني‬

‫فعقب ثورة ‪ ،1952‬عاصر النظام السياسي‬

‫أسباب الهزيمة ببعد عبدالناصر عن الدين‪،‬‬

‫الدين‪ ،‬إال أن عبدالناصر رفع سالح الدين‬ ‫للدفاع عن نفسه بالسالح نفسه‪ ،‬وحاول أن‬

‫يثبت أن اشتراكيته تختلف عن الماركسية‬

‫وأنها مؤمنة بالله وبرساالت األنبياء وليست‬ ‫ملحدة‪ ،‬وإنها ال تقوم على الصراع الطبقي‪،‬‬

‫بل ترتكز على تحالف قوى الشعب العاملة‪،‬‬ ‫اب الديني وسيلة‬ ‫ورأى في اإلسالم والخِ َط ِ‬ ‫لنيل رضا الجماهير وتعبئتها لمواجهة‬

‫االستعمار الخارجي‪ ،‬وقرر تطوير اإلرسال‬

‫على الرغم من الدور الهام والتأثير العميق‬

‫الناصري خالل فترة حكمه (‪)1970 – 1956‬‬

‫اإلذاعي‪ ،‬بحيث أصبح يشمل إذاعات كالقرآن‬

‫للشعوب‪ ،‬إال أن هذا الدور يتم استحضاره‬

‫به في بعض األحيان‪ ،‬لذلك لجأ الرئيس‬

‫االستسالم للمقادير والصبر على الشدائد‪،‬‬

‫للدين في المسيرة اإلنسانية والحضارية‬

‫وتوظيفه بشكل أكثر فعالية من قبل‬

‫أكثر من أزمة سياسية خارجية كادت تطيح‬ ‫عبدالناصر إلى استخدام الدين لدى الجماهير‬

‫وتشجيع الناس على االنغماس في مظاهر‬

‫الزعامة الشعبية أو القيادة السياسية خالل‬ ‫األزمات‪ ،‬فمُ ْن ُذ َأ ْزمِ نَة َسحِ َ‬ ‫يقة واأليديولوجيا‬

‫إزاء قضاياه االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬لكنه‬

‫األزهر يخطب في الجماهير أثناء العدوان‬ ‫ً‬ ‫إدراكا منه لتاريخ األزهر الجهادي ودوره‬

‫الدينية التي امتطت موجة االحتجاجات‬

‫هزيمة ‪ 1967‬ضربة قاسية للرئيس عبدالناصر‬

‫بين مؤيدي التيارات الدينية المتطرفة أو‬

‫سريع االنفعال فيما يتعلق برموزه الدينية‬

‫المقدسة‬

‫ومعتقداته‪،‬‬

‫فتشير‬

‫الدراسات‬

‫االجتماعية والسياسية الحديثة المتعلقة‬

‫سياسيا ضد العدوان الثالثي‬ ‫في تعبئتهم‬ ‫ً‬

‫الكريم‪ ،‬لتفسير الدين تفسيرًا يؤكد على‬

‫‪ ،1956‬وتعدى هذا االستخدام مجال الفكر إلى‬

‫وتجيشها‪،‬‬ ‫تهيج الجماهير‬ ‫ّ‬ ‫الدينية هي التي ّ‬ ‫سلبيا‬ ‫اب الديني يكون‬ ‫ً‬ ‫وجمهور هذا الخِ َط ِ‬

‫‪18‬‬

‫النامية عمومً ا‪ ،‬إلى أن الدين بالنسبة إلى‬

‫أدت هذه الهزيمة إلى ارتفاع أصوات بعض‬ ‫ً‬ ‫معللة‬ ‫األنظمة العربية المعادية لعبدالناصر‪،‬‬

‫مجال السلوك السياسي‪ ،‬فاتجه إلى الجامع‬

‫‪.‬‬

‫في عملية التعبئة السياسية وقد مّ ثلت‬ ‫ولنظامه السياسي ومشروعه النهضوي‪ ،‬كما‬

‫التعبد عسى أن ينصرفوا عن التفكير في‬

‫أمور الحاضر‪.‬‬

‫وفي مجرى ما يسمّ ى بـ”الربيع العربي” كانت‬

‫ً‬ ‫سالحا ناجعً ا في يد التيارات‬ ‫فئة البروليتاريا‬ ‫الجماهيرية‪ ،‬حيث كان القاسم المشترك‬ ‫المعتدلة على حد سواء‪ ،‬هو أن الغالبية‬


‫بطرس املعري‬ ‫منهم ترزح تحت أشد الظروف االجتماعية‬

‫ّ‬ ‫تمكنت جماعة اإلخوان من تعبئة‬ ‫كيف‬

‫المادي أو الخدمات‪ ،‬بمعنى أن قابلية هذه‬

‫الدولة‪،‬‬

‫المؤثرة في تحريك الجماهير‪ ،‬إال أن‬ ‫ْ‬ ‫الخِ َطا ِبات الدينية مهما اختلفت‪ ،‬فإنها‬

‫وكادت تنجح في ذلك المسعى‪ ،‬فالمكون‬

‫بعيد مرتين عن طموح الجماهير المشروع‬

‫قسوة وال تؤدي دورًا في قاعدة اإلنتاج‬

‫الشريحة لالنخراط في المعسكر النقيض‬ ‫كجمهور‬

‫نفسي‬

‫للدين‬

‫تتناسب‬

‫طرديًا‬

‫وعكسيا مع‬ ‫مع وضعها الطبقي والمادي‪،‬‬ ‫ً‬

‫الوعي‪ ،‬في الحين الذي لم تستطع قوى‬ ‫التحرر استقطابها به لضعف البرامج البديلة‬

‫والضمور الفكري الكبير الذي تعاني منه‪.‬‬

‫وفي سياق متصل؛ يمكننا أن نلحظ بسهولة‬

‫دينيا لتمرير برنامجها‬ ‫الجماهير الفقيرة‬ ‫ً‬ ‫أخونة‬

‫السياسي‬

‫في‬

‫األساسي‬

‫لقاعدة‬

‫مفاصل‬

‫اإلخوان‬

‫االجتماعية‪،‬‬

‫واإلسالم السياسي بصفة عامة‪ ،‬هو فئة‬ ‫واسعة من الطبقات العاملة األقل تنظيمً ا‬ ‫وتعليمً ا‪ ،‬والمهمّ شين‪ ،‬الذين طالتهم سياسات‬

‫‪.‬‬

‫النيوليبرالية واإلفقار المُ منهج‬ ‫اب الديني من أقوى ْ‬ ‫الخِ َطا ِبات‬ ‫إذن الخِ َط ِ‬

‫تعبير عن مصالح طبقية بمظهر أيديولوجي‬ ‫بتحسين أحوالهم الحياتية واالجتماعية؛‬ ‫مرة كونها أداة تجهيل للناس تعتمد‬

‫األسطورة والخرافة في منطقها‪ ،‬ومرة‬

‫كونها ممثلة لنخبة تلفعت بجلباب الدين‬

‫وأضفت على نفسها المهابة والقدسية‪ ،‬فلم‬ ‫ً‬ ‫روحيا للخطاب‬ ‫ضابطا‬ ‫اب الديني‬ ‫ً‬ ‫يكن الخِ َط ِ‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪19‬‬


‫مقال‬

‫اب‬ ‫السياسي بل وسيلة يستخدمها الخِ َط ِ‬ ‫السياسي لتحقيق أهداف معينة‪ ،‬لذلك‬ ‫ُ‬ ‫زفرة‬ ‫قال كارل ماركس (‪“ )1883 – 1818‬الدين‬ ‫اإلنسان المسحوق ّ‬ ‫أفيون الشعب”‬ ‫إنه‬ ‫ُ‬

‫‪.‬‬

‫‪..‬‬

‫الخطاب السياسي‬

‫ُ‬ ‫الخطبة السياسية كالم شفاهي يُ لقيه‬

‫سياسيون أمام جمهور‪ ،‬ويتناولون فيه أمور‬ ‫الحكم وقضاياه‪ ،‬وهي وسيلة من وسائل‬

‫التواصل بين النخب السياسية والشعب‪،‬‬ ‫وبين النخب السياسية فيما بينها؛ وظلت‬

‫األداة المُ ثلى للتأثير في الجماهير وحشدهم‬ ‫في أوقات السلم والحرب على مدار آالف‬

‫‪.‬‬

‫السنين لكن تاريخ البشرية احتفى بقوة‬

‫السيف أكثر مما احتفى بقوة الكلمة؛ ويعلل‬ ‫هذا غياب الخطابة السياسية أو تدهورها في‬ ‫أنظمة الحكم التي تحصل على السلطة بحد‬

‫السيف‪ ،‬وتستخدم البطش والقهر لالحتفاظ‬

‫‪.‬‬

‫بها الواقع أن الحكام ال يلجؤون بإلحاح إلى‬

‫الخطابة السياسة إال عندما تصبح الشعوب‬

‫قوة يُ حسب لها حساب‪ ،‬ولعل هذا يفسر‬ ‫ألفي عام‪ ،‬خضعت‬ ‫أنه على مدار أكثر من‬ ‫ْ‬ ‫مِ ْ‬ ‫صر فيها ألشكال مختلفة من االحتالل‪ ،‬لم‬ ‫تكن َ‬ ‫الخ َطابة ‪-‬بل غال ًبا السيف‪ -‬هي وسيلة‬

‫(الراديو والتلفزيون) والتعليم في الخمسينات‬

‫والستينات من القرن العشرين‪.‬‬

‫فقد حرص النظام الناصري على أن يكون‬

‫الخطاب السياسي في متناول الفالحين‬

‫والعمال في البيئات الفقيرة أو البعيدة‬ ‫عن العاصمة في أطراف القرى والكفور‬

‫والنجوع‪ ،‬وهكذا انتقلت الخطابة السياسية‬

‫المِ ْ‬ ‫صرية من عصر الجماهير المحدودة إلى‬

‫‪.‬‬

‫عصر الجماهير الحاشدة وانقطع الوصل‬

‫بين الحركات والتيارات السياسية المتباينة‬

‫وجماهير المِ ْ‬ ‫صريين‪ ،‬ليحل عصر هيمنة‬ ‫الصوت الواحد على المشهد السياسي‬

‫المِ ْصري‪.‬‬

‫تيار الوعي القومي والوطني في االنتشار‬ ‫في العالم العربي‪ ،‬وأصبحت األحزاب‬

‫سياسي استطاع أن يحرك األفراد بشكل‬ ‫كبير وعلى مساحة كبيرة مثلما فعل خطاب‬ ‫التنحي (يونيو ‪ ،)1967‬وبرغم عفويته التامة‬

‫إال أنه كان مؤثرًا‪ ،‬واستطاع عبدالناصر أن‬

‫يجعل الناس تتعاطف معه‪ ،‬فكان يلقيه‬ ‫وهو في غاية التأثر بل يكاد وفى أجزاء‬

‫‪.‬‬

‫منه يبكى وعلى الرغم من فداحة ما حدث‬

‫‪.‬‬

‫الخاصة بالذات”‬ ‫ومُ ْن ُذ سبعينات القرن التاسع عشر أصبحت‬ ‫ً‬ ‫ملمحا بار ًزا من مالمح الحياة‬ ‫الخطابة‬

‫السياسية‬

‫المِ ْ‬ ‫صرية‪،‬‬

‫وكانت‬

‫الصحف‬

‫والحضور المباشر هي وسائل نقل الخطب‬ ‫إلى الجماهير‪ ،‬وقد أضيفت إليها في‬ ‫الثالثينات واألربعينات من القرن العشرين‬ ‫اإلذاعة المِ ْ‬ ‫صرية التي عُ نيت ببث خطب‬ ‫الملك بشكل خاص‪ ،‬غير أن انتشار الخطب‬

‫السياسية كان محدو ًدا بالقياس لما أصبح‬ ‫عليه الحال في عصر ثورة االتصاالت‬

‫‪20‬‬

‫(فبراير ‪ )2011‬الذي استطاع فيه دفع شريحة‬

‫ضخمة من المِ ْ‬ ‫صريين للتعاطف معه‪ ،‬بعد أن‬ ‫استخدم بالغة أبوية تقدم الرئيس بوصفه‬ ‫أبًا للمِ ْ‬ ‫صريين من غير المقبول مخالفته‪،‬‬

‫كذلك اللعب على بعض القيم االجتماعية‬

‫الوطن‪ ،‬والتشبث بالموت على ترابها‪ ،‬أضف‬

‫كانت على وشك إجهاض الثورة المِ ْصرية‪.‬‬

‫الحقيقة أن الخطاب السياسي ظل حكرًا‬ ‫على مؤسسة الرئاسة عبر منافذ اإلعالم‬

‫الجماهيري حتى أواخر القرن العشرين‪ ،‬من‬ ‫خالل خطابات ذات بعد أيديولوجي واحد‬

‫تسعى لتجنيد الفرد والمجتمع ألهداف‬

‫سياسية‪ ،‬تهمل الحقائق والمعارف فهي ال‬ ‫تهمها بقدر ما يهمها توظيف كل شيء في‬

‫مآربها‪.‬‬

‫استطاعت الحكومات‬ ‫المستبدة عبر رسائلها المرئية‬

‫حلت السياسة محل الدين‪ ،‬ولكنها استعارت‬

‫الدين فقد أصبح البشر عبي ًدا لتصوراتهم‬

‫يجعلك تتعاطف معه‪.‬‬

‫وهذا ما حدث في خطاب مبارك الثاني‬

‫سبيل تعبئة الجماهير وحشدها لخدمة‬

‫صياغة عقول الجمهور‬

‫أصبحت السياسة دينًا معلمنًا‪ ،‬وكما في‬

‫على نحو يجعلك تثور على الشخص بل‬

‫واألفكار‪ ،‬فعلى سبيل المثال ال يوجد خطاب‬

‫بامتياز‪ ،‬يؤدي إلى تغيير النفوس والعقول‬

‫تعبئ‬ ‫السياسية والنقابات العمالية هي التي ّ‬

‫منه الخصائص النفسية نفسها‪ ،‬بمعنى آخر‬

‫الذي حدث‪ ،‬حتى االعتراف بالخطأ لم يقدم‬

‫إلى ذلك؛ األداء البالغي الجيد للخطبة التي‬

‫والمقروءة والمسموعة‬

‫الجماهير وتجعلها تنزل إلى الشارع‪“ ،‬فقد‬

‫ّ‬ ‫يوضح الفساد الحقيقي‬ ‫هذا البيان‪ ،‬والذي لم‬

‫وهنا أصبح الخطاب السياسي خطابًا إقناعيا‬

‫المِ ْصرَي‪.‬‬

‫السياسية محل األيديولوجيات الدينية‪ ،‬وبدأ‬

‫أنه بسماع هذا الخطاب ال يملك المرء إال‬ ‫التعاطف معه‪ ،‬بسبب البراعة التي ُكتب بها‬

‫المِ ْ‬ ‫صرية المحببة مثل مسألة التمسك بأرض‬

‫التواصل األساسية بين حكام مِ ْ‬ ‫صر والشعب‬ ‫في العصور الحديثة حلت األيديولوجيات‬

‫من هزيمة (النكسة)‪ ،‬ومسؤوليته عنها‪ ،‬إال‬

‫والتأثير في أفكاره وتوجيه‬

‫الخالصة؛‬

‫لقد‬

‫استطاعت‬

‫الحكومات‬

‫المستبدة عبر رسائلها المرئية والمقروءة‬

‫والمسموعة صياغة عقول الجمهور والتأثير‬ ‫في أفكاره وتوجيه أفعاله‪ ،‬لكن العالم‬ ‫المعاصر شهد تحوالً حاسمً ا ببزوغ ما يعرف‬ ‫بـ”ظاهرة الجماهير الغفيرة”‪ ،‬التي من الممكن‬

‫أن تثور فجأة بعد أن أمضت أوقاتا طويلة‬

‫تعاني من البؤس والمشقة‪ ،‬يفعلون ذلك في‬ ‫اللحظة الحاسمة أي نقطة الذروة‪ ،‬حينما‬

‫أفعاله‪ ،‬لكن العالم المعاصر‬

‫يصبح من األرجح أن مواصلة العيش في‬

‫ً‬ ‫حاسما ببزوغ ما‬ ‫تحوال‬ ‫شهد‬ ‫ً‬

‫األكيدة للتمرد ومن تكلفته‪ ،‬ومن المؤكد أن‬

‫ظل النظام الموجود أكثر سوءا من المخاطر‬

‫يعرف بـ”ظاهرة الجماهير‬

‫يسود االعتقاد آنذاك أن هناك فرصة معقولة‬

‫الغفيرة”‪ ،‬التي من الممكن‬

‫ثار العبيد على األسياد‪ ،‬والمستعمَ رون على‬

‫أن تثور فجأة‬

‫‪.‬‬

‫للنجاح‪ ،‬وتحسين حياة عامة الناس هكذا‬

‫المستعمِ رين‪،‬‬

‫والمظلومون‬

‫والمقموعون‬

‫على السلط الظالمة والقامعة‪ ،‬وهكذا ثار‬

‫المِ ْ‬ ‫صريون‬

‫كاتب من مصر‬


‫جامل الجراح‬

‫إدوار الخراط‬ ‫‪2015-1926‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪21‬‬


‫سرد‬

‫أكاليل على األبواب‬ ‫نصوص حلمية‬ ‫عبده وازن‬

‫ظل‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫صوتا‪ ،‬ال أدري من‬ ‫كأنما هو صوت ال أحد لم أكن أسمعه‪ ،‬لكنه كان‬

‫‪.‬‬ ‫أين يأتي‪ .‬الساحة فارغة‪ ،‬المحال مقفلة‪ ،‬كانت هرّ ة تموء قرب باب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مظلما‪ ،‬ضوء قمر ينفلش على أطرافه‪ .‬األبنية هاجعة‬ ‫الليل لم يكن‬ ‫في نوم ساكنيها‪ .‬إنها الثالثة بعد منتصف الليل‪ .‬الهواء الذي يهب‬ ‫من البحر رطب وسميك‪ .‬لم يكن يفاجئني سوى هذا الصوت الذي لم‬ ‫أكن أسمعه‪ ،‬باألحرى الذي كنت أسمعه وكأنني ال أسمعه‪ ،‬الصوت الذي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثيرا ما مشيت‬ ‫صوتا كنت أمشي على الرصيف الذي‬ ‫كأ ّنه لم يكن‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫غالبا خفاش عبر بسرعة من فوق رأسي واختفى بين‬ ‫عليه‪ ،‬في الليل‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪. .‬‬

‫أوراق شجرة هل هو صوته ال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وحينا يسبقني فأراه أمامي هل هو‬ ‫حينا‬ ‫كنت أمشي‪ ،‬ظلي يتبعني‬ ‫صوت ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وكأن أحدا يخفته؟ ربّما‪ ،‬قلت لنفسي‬ ‫خافتا‬ ‫ظلي يهب‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ورحت أراقب ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حينا‪ ،‬بحسب وجهة‬ ‫حينا وورائي‬ ‫ناظرا أمامي‬ ‫ظلي‬

‫علي‪.‬‬ ‫الضوء المنعكس‬ ‫ّ‬

‫غابة االدميين‬ ‫نظرت أقصى ما أمكنني ‪ ،‬كانت األرض شاسعة‪ ،‬تحتلها غابات‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫أشجارها كثيرة الثمار سمعتهم يقولون‪ :‬مَ ن سيقطن هذه األرض؟‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫اننا نحتاج الى اشباه لنا لنمألها أرض ال يملكها أحد ليس بوسعنا‬ ‫ً‬ ‫عاريا مثل‬ ‫نحن أن نأكل كل ثمارها نظرت الى نفسي فرأيتني‬

‫سيارته أمام نزل صغير ال‬ ‫عندما بلغنا مدينة "ياء"‪ ،‬أوقف السائق ّ‬

‫‪.‬‬

‫تحمل واجهته لوحة كتب عليها إسمه طرقنا الباب الخشب وانتظرنا‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫سيدة تناهز الخمسين‪ ،‬بحسب ما تراءى لنا قالت‬ ‫فتحت الباب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تفضلوا دخلنا بهو النزل ورحنا نلتفت يمنة ويسرة‪ ،‬مذهولين بما‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫نرى كانت تحتل جدران البهو صور ألشخاص كأنهم راحلون‪ ،‬بضع‬

‫منها باألسود واألبيض وبضع باأللوان‪ ،‬نساء ورجال وأطفال‪ ،‬عائالت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كثيرا منظر أكاليل الزهور‬ ‫رجل وامرأة كأنهما زوجان وما هالنا‬

‫‪...‬‬

‫الموضوعة أسفل الجدران‪ ،‬وأدركنا للحين أنها زهور "اصطناعية"‬

‫‪.‬‬

‫تتوسط البهو فكانت أشبه‬ ‫فال رائحة تنبعث منها أما الطاولة التي‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫بتابوت مغلق‪ ،‬ووضعت عليها مزهريتان وجمجمة سألنا السيدة التي‬

‫‪...‬‬

‫كانت تقف الى جانبه‪ ،‬وقد شعرت بحيرتنا‪ :‬أهذا نزل أم ؟ ولم نكمل‬ ‫سؤالنا قالت المرأة‪ّ :‬‬ ‫كل غريب يدخل النزل‪ ،‬يسأل هذا السؤال نعم‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫إنه نزل‪ .‬ال تخافوا‪ّ .‬‬ ‫كل الفنادق في هذه المدينة تشبه هذا النزل‪.‬‬ ‫حتى المنازل‪ّ ،‬‬ ‫كل المنازل‪ .‬وعليكم أال تستغربوا عندما تصعدون الى‬ ‫غرفتكم في الطبقة األولى‪.‬‬

‫ّ‬ ‫حل قبل ساعتين وعلينا‬ ‫لم يكن أمامنا إالّ أن نرضخ لألمر‪ ،‬الظالم‬ ‫ّ‬ ‫إال أن نقضي الليل هنا ونبيت فتحت لنا باب الغرفة‪ ،‬وقد علق‬

‫‪.‬‬

‫عليه إكليل صغير من معدن يشبه األكاليل الصغيرة التي ّ‬ ‫تعلق على‬ ‫ّ‬ ‫حل علينا خوف وأخذتنا قشعريرة‬ ‫بوابات المقابر ‪ ،‬وعندما دخلنا‬

‫‪.‬‬

‫‪...‬‬ ‫اآلخرين الذين من حولي‪ .‬لم أخجل‪ ،‬قدماي مشققتان‪ ،‬جلدي قاس‪،‬‬ ‫ركبتاي سوداوان‪ .‬قال واحد‪ :‬نحن آدم‪ ،‬أنا آدم‪ ،‬أنت آدم‪ ،‬أنتم آدم‪...‬‬

‫السيدة بعيون تبرق‬ ‫أفرشة ومخدات أصبنا بذهول شديد‪ ،‬ونظرنا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫السيدة ثم قالت‪ّ :‬‬ ‫كل األسرّ ة في مدينتنا‬ ‫ذعرا‪ :‬كيف سننام؟ ضحكت‬ ‫ّ‬

‫بهن كنّا نصيح‬ ‫صوبهن ولم أدر ماذا فعلنا‬ ‫للحين ودعانا الى القفز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فرحا‪ ،‬وفي البعيد يتر ّدد صدى صياحنا‬

‫عليكم أن تغلقوا غطاء السرير وهو من خشب التابوت نفسه وإغالقه‬ ‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬وستجدون فيه فتحة بمقدار الوجه أو ألقل الرأس‪،‬‬ ‫سهل‬

‫إنهن حواء‪ ،‬لقد أتين‬ ‫لم استغرب! ثم أشار الى كائنات أخرى قائالً‪:‬‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫االجاصة‬ ‫الشجرة التي قطفت منها حواء تفاحة‪ ،‬لم تكن شجرة تفاح‪ ،‬هي‬

‫أخطأت‪ .‬قطفت حواء اجاصة من شجرة اجاص وأغرت بها آدم‪.‬‬ ‫أشجار التفاح كانت أبعد قليالً‪ ،‬كنت أراها‪ ،‬ال أعلم كيف‪ .‬الحديقة‬ ‫كانت بال أسيجة‪ .‬كنّا نجلس نحن في ظل سنديانة عندما شاهدنا‬ ‫ً‬ ‫جميعا‬ ‫حواء تقرّ ب االجاصة الى فم آدم وسرعان ما راح يأكلها‪ .‬كنّا‬ ‫نأكل ببهجة ولم يكن من حراس يراقبوننا‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫مدينة الموت‬

‫لقد كانت األسرة الثالثة توابيت من خشب‪ ،‬وقد وضعت في داخلها‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫الحقا هذا السرّ ولكن اآلن عندما تنامون‬ ‫هي توابيت سأشرح لكم‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫منها تتنفسون وتبصرون ما يمكن أن تبصروه في الظالم قال‬

‫لها احدنا بصوت يرتجف‪ :‬لن أنام في هذا التابوت‪ .‬سأقضي الليل‬ ‫ً‬ ‫جالسا على الكنبة‪ .‬ولكن‪ ،‬إشرحي لي هذا السرّ الذي ح ّدثتني عنه‪.‬‬ ‫ابتسمت وراحت تح ّدثنا‪ :‬لعلكم لم تقرأوا ما كتب على اللوح المثبت‬ ‫ً‬ ‫مقصدا للزائرين الذين‬ ‫عند مدخل مدينتنا‪ ،‬هذه المدينة التي باتت‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫بالحجاج لقد كتب على اللوح‪ :‬أهالً بكم في مدينة "ياء"‪،‬‬ ‫أصفهم‬ ‫الحي" إ ّنه الظالم الذي لم يدعكم تقرأون هذه الجملة‬ ‫مدينة‬ ‫"الموت‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مدينتنا باتت مشهورة جدا‪ ،‬ويقصدها األشخاص الذين يودون‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫التمرّ ن على الموت يأتون الى هنا وينزلون في الفنادق‪ ،‬وعندما‬


‫خلدون شيشاكيل‬ ‫ً‬ ‫أيضا هي‬ ‫تضيق هذه بالزائرين‪ ،‬تفتح عائالت أبواب منازلها فالبيوت‬ ‫أشبه بالمقابر‪ ،‬واألسرّ ة ّ‬ ‫كلها توابيت‪ ،‬حتى أسرّ ة األطفال أهل هذه‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫بوصوله من دون أن يتوقف ولو مرّ ة واحدة لم يكن يهمّ ه أن يصل‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫مثله مثل ركابه‪ ،‬هؤالء المسافرين الى ال مكان كان يكفيهم أن يركبوا‬

‫المدينة اعتادوا فكرة الموت وأضحوا يعيشونها بال خوف وال خشية‪.‬‬

‫القطار ويجلسوا على المقاعد فال يغادروها ما كانوا ينهضون عنها‬

‫االعمدة وعلى االبواب اكاليل زهر انها مدينة "ياء" يقصدها الزوار‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫معلقة على‬ ‫وإذا سرتم في األحياء‪ ،‬تجدون هياكل من عظم وجماجم‬

‫‪.‬‬ ‫ليعتادوا فكرة الموت ويصبحوا أصدقاء معه‪.‬‬

‫قطار الالمكان‬

‫كان القطار يعبر قرى وحقوالً بسرعة فائقة‪ ،‬ولم يكن يتوقف عند‬ ‫ً‬ ‫ركابا كانوا‬ ‫أن‬ ‫محطة من المحطات الموزعة على الجانبين‪ ،‬مع ّ‬ ‫ً‬ ‫أفرادا وعائالت‪ ،‬ولكن لم يكن يظهر على وجوههم ما‬ ‫يستقلونه‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫وال يساورهم ّ‬ ‫هم‪ .‬كأنهم لم يصعدوا القطار قاصدين بلدة أو جهة‪.‬‬ ‫ما كانوا يبالون متى تنتهي الرحلة وأين‪ .‬كأنهم مسافرون من غير‬ ‫وجهة‪ ،‬مثل القطار الذي ّ‬ ‫يقلهم‪ .‬ينظرون أمامهم‪ ،‬وال يكادون يحرّ كون‬ ‫ّ‬ ‫متجهمين‪.‬‬ ‫رؤوسهم‪ ،‬وال يبتسمون وال يعبسون‪ ،‬ليسوا فرحين وال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اهتز القطار في أحيان‪...‬‬ ‫يهتزون إذا‬ ‫لكنهم كانوا‬ ‫ً‬ ‫منذرا المحطات التي يعبرها‬ ‫كان القطار يصفر ساعة تلو ساعة‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫هائلة لم أسأل أحدا من الركاب إن كان أحد يقوده طوال تلك الرحلة‬ ‫ّ‬ ‫يطل أحد‪ ،‬ال قاطع التذاكر وال المراقبون كان القطار‬ ‫التي لم تنته‪ ،‬لم‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫وحده يشق القرى والسهول‪ ،‬في وضح نهار ال يغيب ربما لم تكن من‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫سكة ال أحد أبصر سكة يسلكها القطار اما أنا فكنت اجلس بدوري‬

‫صامتا وبالقرب مني حقيبة يد‪.‬‬

‫يدل على أنهم مسافرون‪ ،‬كأنهم ركاب صعدوا الحافالت مصادفة‪،‬‬ ‫وجلسوا على المقاعد ولم يكن يلوح في عيونهم قلق أو اضطراب‬

‫‪.‬‬

‫ليشربوا أو يقصدوا الحمام حتى األطفال كانوا جالسين في حال‬ ‫كن كأ ّنما‬ ‫من السهو لعلهم ما كانوا أطفاالً حتى النسوة‪ ،‬أمهاتهم‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عابرا بسرعة‬ ‫ظل القطار يصفر‪،‬‬ ‫في صورة التقطت باألسود واألبيض‬

‫‪.‬‬

‫كتب‬

‫إنني فقدت كتبي نظرت فرأيت مكتبتي فارغة وعلى األرض أوراق‬ ‫وقصاصات كأ ّنما رميت على عجلة صرخت‪ :‬من استولى على‬

‫‪...‬‬

‫ً‬ ‫بعضا منها في بيت ال أعرف أين وال مَ ن‬ ‫كتبي؟ ثم تذكرت أنني رأيت‬

‫‪.‬‬

‫هم أصحابه‪ ،‬وصرخت‪ :‬هذه كتبي‪ ،‬ولم يسمعني أحد إنها كتبي‪ ،‬ولكن‬

‫مَ ن الذي أتى بها الى هنا‪ ،‬هنا الذي ال أعرف أين‪.‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪23‬‬


‫سرد‬

‫خلدون شيشاكيل‬

‫المخطوط‬ ‫ما إن فتحت درج الطاولة التي أخلد إليها ألكتب وأقرأ‪ ،‬حتى‬

‫‪.‬‬

‫فوجئت بمخطوط علمت للحين أنني أنا مَ ن كتبه سألت نفسي‪ :‬أأنا‬ ‫من ّ‬ ‫ً‬ ‫حائرا‪ّ ،‬‬ ‫ثم خامرني شك في أن أكون‬ ‫ألف هذا الكتاب؟ متى؟ كنت‬

‫أحدا ّ‬ ‫ً‬ ‫قلد ّ‬ ‫ّ‬ ‫خطي وكتبه ولكن لماذا؟‬ ‫لعل‬ ‫أنا صاحب هذا المخطوط‬ ‫عندما ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن النصوص التي يضمّ ها تشبه‬ ‫قلبت أوراق المخطوط تذكرت ّ‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫نصوصا لي هذا أسلوبي‪ ،‬وهذه أفكار عبرت رأسي سألت نفسي‪ :‬هل‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫هذا فخ نصبه لي أحد؟‬ ‫ً‬ ‫فرحا قليالً اعتراني‪ ،‬لم‬ ‫لكن‬ ‫أعدت المخطوط الى الدرج غير مطمئن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫علي‬ ‫حل‬ ‫أعرف من أين‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫ساعة دالي‬

‫ً‬ ‫غصن تتدلى منه ساعة‬ ‫نائما تحت‬ ‫عيني أبصرتني‬ ‫عندما فتحت‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫حائط متراخية كرغيف لم يخبز ومنها كانت تسقط األرقام على‬

‫‪.‬‬

‫وجهي ثم على األرض لم أتمكن من معرفة الوقت‪ ،‬ميناء الساعة‬ ‫ّ‬ ‫تتكك ببطء ثم‬ ‫لم يبق فيه حتى عقرباه‪ ،‬لكنني سمعت الساعة‬

‫‪...‬‬

‫ّ‬ ‫تذكرت‪.‬‬

‫البكالوريا‬

‫انتظار‬

‫ّ‬ ‫أتذكر إسمه‪ :‬إنني نجحت في امتحان‬ ‫قلت ألستاذي الذي لم‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫البكالوريا‪ ،‬فلماذا أتق ّدم الى االمتحان مرّ ة ثانية قال‪ :‬إنك رسبت ال‬ ‫لم ارسب‪ ،‬اسأل رفاقي‪ ،‬لقد نجحنا جميعا ّ‬ ‫ثم تذكرت ا ّنه قال لي أكثر‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫دوما أسأل نفسي‪ :‬لماذا أتقدم الى‬ ‫من مرّ ة أنني رسبت أما أنا فكنت‬ ‫ً‬ ‫امتحان البكالوريا ما دمت قد نجحت سابقا لكنني كنت أجهل ماذا‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫بـ"سابقا"‪.‬‬ ‫أعني‬

‫امتحان الدموع‬ ‫أمام بوابة زرقاء‪ ،‬نصف مفتوحة‪ ،‬تحمل لوحة كتب عليها "امتحان‬ ‫الدموع" شاهدت رتال طويال من أناس عراة يقفون منتظرين نداء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ذكورا‪،‬‬ ‫إناثا كانوا وال‬ ‫ال يعلمون من أين يأتي كانوا عراة ولكن ال‬

‫‪.‬‬

‫أجسادهم ملساء ّ‬ ‫كلها كان أمام البوابة يقف مالك ال تظهر قدماه‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫يحمل بين يديه إناء من زجاج‪ ،‬وكلما نادى الصوت‪ ،‬كان أحدهم‬ ‫يدرك أنه هو من يُ نادى فيتقدم نحو المالك‪ ،‬ثم يحني وجهه أمام‬ ‫اإلناء فيسقط من عينيه ماء‪ ،‬ولم يكن على المالك إال أن ينظر الى‬ ‫اإلناء وكأنه يسبر الماء في داخله‪ ،‬ثم يشير الى اإلنسان الذي أمامه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إمّ ا ليجتاز عتبة البوابة وإما أن يذهب شماالً‬ ‫طريقا تقود الى‬ ‫سالكا‬

‫ً‬ ‫بعيدا عندما كان اإلناء يمتلئ من ماء يهرقه‬ ‫غابة مظلمة كانت تلوح‬ ‫أحد هؤالء الناس من عينه‪ ،‬كان المالك يرتفع قليالً عن األرض‪ ،‬ف ِرحاً‬

‫‪.‬‬

‫‪...‬‬

‫ومهلالً وعندما ال يسقط من العين ولو قطرة صغيرة‪ ،‬كان المالك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مشيرا الى الطريق الوعرة وإذا لم يسقط من العين‬ ‫رافعا يده‬ ‫يرتعد‬

‫‪...‬‬

‫ّ‬ ‫كل‬ ‫اناس كأنهم بأعمار مختلفة‪ ،‬ينتظرون أن يُ نادوا كي يتق ّدموا‬ ‫ً‬ ‫جميعا متشابهين بأجسادهم الملساء حتى وجوههم لم‬ ‫بمفرده كانوا‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫تكن تدل عليهم لم يكن من أطفال هناك الهدوء يمأل المكان‪ ،‬الصوت‬ ‫ّ‬ ‫يشق الصمت السميك مثل طبقة ثلج السماء‬ ‫الغريب هو الذي كان‬

‫‪.‬‬

‫بيضاء ‪،‬األرض بيضاء ‪ ،‬كأنهما ممتزجتان واحدة باألخرى‪...‬‬

‫كان‬

‫الناس المنتظرون يتمتمون كلمات غير مسموعة‪ ،‬بعضهم متجهمو‬

‫الوجوه‪ ،‬بعضهم مشرقو االبتسامات‪ ،‬بعضهم تلمع عيونهم ببصيص‬

‫أحمر‪...‬‬

‫مكتبة الدير‬

‫ً‬ ‫دربا من تراب وحصى عندما اجتزنا الغابة الصغيرة‬ ‫كنّا نصعد‬ ‫أبصرت الدير الذي كنّا نقصده بوابته كانت مغلقة قرعنا ناقوساً‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫معل ً‬ ‫ً‬ ‫قا تحت القنطرة التي تعلو البوابة السوداء التي ّ‬ ‫تأكل‬ ‫صغيرا كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عجوزا يتجه نحونا‪ ،‬فتح البوابة‬ ‫كاهنا‬ ‫ثم أبصرنا‬ ‫الصدأ أطرافها‬

‫‪.‬‬ ‫دون أن يسأل مَ ن نحن‪ .‬كان غير مبال‪ ،‬لم يلق علينا إال نظرة سريعة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بياضا‬ ‫أيضا‪ .‬لم أبصر‬ ‫شعره أبيض‪ ،‬شديد البياض‪ ،‬ولحيته الطويلة‬ ‫في هذا النقاء من قبل‪ .‬أشار إلينا بيده لنتبعه‪ ،‬كان يعرف أننا نقصد‬

‫مكتبة الدير‪ ،‬وعندما وصلنا فتح بوابة من خشب عتيق لم تكن مقفلة‬

‫وقال بصوت يرتجف‪ :‬هذه هي المكتبة التي جئتم تزورونها‪ ،‬الكتب‬

‫إال دمع قليل كان على هذا االنسان أن ينتحي بقعة ظليلة الى جانب أمامكم‪ ،‬ابحثوا عمّ ا تشاؤون‪ .‬ثم أشار بيده الى صندوق وضع في‬ ‫البوابة‪ ...‬كان على هذا االنسان أن ينتظر ال أحد يعلم كم من األيام ‪ .‬إحدى الزوايا وقال‪ :‬هذا ال تفتحوه‪ ،‬في داخله كتاب يجب أال تقرأوه‪.‬‬

‫‪24‬‬


‫‪.‬‬

‫النار‬

‫‪.‬‬

‫السحري ومضى‬ ‫وقال‪ :‬حذار هذا الكتاب‬ ‫ّ‬ ‫المكتبة كأنمّ ا كنّا نعرفها‪ ،‬جدرانها حافلة باألجنحة‪ ،‬وفي األجنحة‬

‫‪.‬‬

‫تتوزع رفوف مملوءة كتبا قديمة‪ ،‬ذات أغلفة سميكة كانت أسرجة‬ ‫ً‬ ‫عاليا‪ ،‬واألجنحة تتعاقب الى‬ ‫مضاءة تتدلى من السقف الذي لم يكن‬ ‫ً‬ ‫مظلما رحنا نجوب الردهات المفتوحة‬ ‫الداخل الذي كان يبدو لنا‬

‫‪.‬‬

‫واحدة على أخرى‪ ،‬نقترب من الرفوف ونح ّدق‪ ،‬ال أذكر إن كانت‬

‫العناوين بالعربية‪ ،‬لكننا كنا نقرأها‪...‬‬ ‫‪.‬‬ ‫خشب غريب الرائحة‪ .‬وعلى كل طاولة مشكاة مضاءة بشمعة‪.‬‬ ‫كانت الشموع تشتعل ولم تكن تذوب‪ .‬ولم تساورنا حيرة حيال‬ ‫النور المنبعث منها‪ .‬اقترب أحدنا من الصندوق الذي نهانا الكاهن عن‬ ‫ً‬ ‫مذعورا‪ :‬إياك أن تفتحه‪ .‬راح هذا الشخص يضحك‬ ‫فتحه‪ .‬صرخت‬ ‫ّ‬ ‫بصوت‬ ‫عال‪ .‬ازداد خوفي وقلت له‪ :‬إذا فتحته سيحل علينا سحر‪...‬‬ ‫ٍ‬ ‫لم نم ّد يدنا الى كتاب‪ ،‬ال أدري‬

‫لماذا كانت تحتل وسط الردهات طاوالت ذات طراز قديم‪ ،‬من‬

‫اآلخرون ظلوا صامتين‪ ،‬كانوا في حال من الحيرة‪ :‬هذا الصندوق‬ ‫يجب فتحه‪ ،‬ولكن ماذا لو حصل مكروه؟ عندما اقترب هذا الشخص‬

‫من الصندوق وم ّد يده ليرفع غطاءه‪ ،‬رحت أعدو بسرعة دون أن أعلم‬

‫نحو أي جهة‪ّ .‬ثم‪...‬‬

‫‪.‬‬

‫أدار الرجل ظهره حتى خرجت من ظله امرأة أخبرتنا الحكاية نفسها‪.‬‬ ‫لكنها قالت ّإنها تشرب هناك كأس نبيذ وهي تنظر الى النار من بعيد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جدا‪.‬‬ ‫ور ّددت‪ :‬النار بعيدة‪ ،‬بعيدة‬ ‫ساعة البرج‬

‫‪.‬‬

‫نهضت الى النافذة‪ ،‬أزحت الستار ونظرت الى الخارج لم أكن أعلم‬

‫كم من وقت مرّ على نومي في هذه الغرفة‪ ،‬وعلى هذا السرير الذي‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫لم يكن سريري الذي اعتدت النوم عليه عندما نظرت الى السماء في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يحل‬ ‫يدل أن النهار‬ ‫الخارج لم يتب ّد لي إن كان نهار أم ليل ال ضوء‬

‫اآلن وال عتمة تشير الى ّأن الليل يرين على األفق‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غروبا‬ ‫فجرا وال‬ ‫صباحا وال مساء‪ ،‬ال‬ ‫نهارا وال ليالً‪ ،‬ال‬ ‫لم يكن الوقت‬

‫إن كان هو الليل أم النهار‪...‬‬

‫ً‬ ‫أشخاصا ينهضون من‬ ‫قدمي‪ ،‬كنت أبصر‬ ‫كانت األرض تهتز تحت‬ ‫ّ‬

‫مقابر كانت تنهدم من تلقائها‪ ،‬ثم تنفتح فيها توابيت وينهض أناس‬

‫‪...‬‬

‫ليسوا بأموات وال هياكل عظم‪ ،‬أناس كأنهم دفنوا للتو‬ ‫ً‬ ‫أشخاصا أحياء ينهضون من شقوق‬ ‫بين هؤالء الناهضين من المقابر‬ ‫في األرض وكانوا كأ ّنما في حفلة صاخبة ‪ ،‬أحدهم بدت له عين ثالثة‬

‫لكنني أبصرت‬

‫ّ‬ ‫أتمكن من أن أسأله عن سرّ هذه‬ ‫في وسط جبينه‪ ،‬تظهر وتختفي‪ ،‬لم‬

‫‪.‬‬

‫بل في متوسط أعمارهم ‪ ،‬بضعة منهم يعتمرون قبعات وآخرون في‬

‫‪.‬‬

‫لم تظهر سمات الخوف على وجه أحد كانوا يرقصون‬

‫ويغنون‪ ،‬األرض تهتز والمقابر تته ّدم وينهض أولئك الراقدون الذين‬

‫‪...‬‬

‫كانوا في عداد الموتى وهم اآلن في ملء حياتهم‬ ‫ً‬ ‫كنت أمشي وكأنني واقف بينهم‪ ،‬ال أتق ّدم ولم لم أكن قادرا على‬ ‫مشاهدة ّ‬ ‫كل ما يجري‬

‫‪...‬‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫شماالً‪ ،‬شماالً‬ ‫يمينا وفق إيقاع التكات المنتظمة رجعت الى السرير‬ ‫ّ‬ ‫لعل عطالً أصاب ساعة البرج‬ ‫ورحت أفكر‪ ،‬وقبل أن أتم ّدد عليه قلت‪:‬‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يتم إصالحه‪.‬‬ ‫السماوي‪ ،‬فألنم إلى أن‬

‫كنت ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وسطرا تلو سطر كانت‬ ‫سطرا من الصفحة يمّ حي‪،‬‬ ‫كلما قرأت‬

‫الصفحة تمسي بيضاء‪ ،‬وصفحة تلو صفحة كان الكتاب الذي بين‬ ‫يدي يمسى أبيض عندما قرأت الكتاب ّ‬ ‫كله لم تبق منه سوى صفحات‬ ‫ّ‬ ‫بيض حتى عنوانه‪ ،‬حتى اسم مؤلفه لم يبق لهما أثر لكنني لم أكن‬ ‫ً‬ ‫عيني‬ ‫أيضا مع أن‬ ‫أعلم ماذا قرأت كانت األسطر تمحي من رأسي‬ ‫ّ‬ ‫كانتا تقرآن بنهم تلك الجمل التي كانت تتح ّدث عمّ ا ال أذكر‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫على الطاولة التي أجلس اليها‪ ،‬كانت كدسة من كتب بيض‪ ،‬كأنها‬ ‫ً‬ ‫أحرفا وجمالً‬ ‫تنتظر من يمألها‬

‫‪.‬‬

‫الغرفة الرقم ‪20‬‬ ‫طرقت الباب طرقات خفيفة‪ ،‬عندما لم ير ّد أحد‪ ،‬فتحته بهدوء‬

‫‪.‬‬

‫ودخلت كنت أعلم انها ال تقفل باب غرفتها الرقم عشرين‪ ،‬في هذا‬ ‫ً‬ ‫صباحا‪ ،‬نظرت إليها تنام على السرير‬ ‫الفندق القديم كانت السادسة‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫تستيقظ‪ .‬لم أوقظها‪ ،‬وضعت وردة حمراء على مخ ّدتها وخرجت‪.‬‬

‫ذي األعمدة األربعة‪ ،‬شبه عارية‪ ،‬المالءة تلف نصف جسدها لم‬

‫عندما دقت ساعة الجدار في الممشى دقات سبعا خرجت من غرفتي‬ ‫وتوجهت الى الغرفة عشرين‪ ،‬حامالً وردة حمراء‪ ،‬فتحت الباب‬

‫ودخلت‪ ،‬كانت ال تزال نائمة‪ ،‬شبه مغطاة وكأ ّنها شعرت ببرد الصبح‬

‫الكتاب االبيض‬

‫‪.‬‬

‫لمّ ا أصابتني حيرة شديدة تركت النافذة‬

‫الي دقاتها‪ :‬تك تك‬ ‫ونظرت الى ساعة الجدار التي كانت تتناهى‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫لكن ما فاجأني أن ميناء الساعة كان خلوا من األرقام‬ ‫تك تك تك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يمينا‬ ‫المتدلي من علبة الساعة كان يتحرّ ك‬ ‫والعقارب‪ ،‬وحده البندول‬

‫‪.‬‬

‫العين األشخاص الذين يطلعون من شقوق األرض عرفت‪ ،‬ال أدري‬ ‫ً‬ ‫صغارا‪،‬‬ ‫كيف‪ ،‬أنهم لم يولدوا بعد‪ ،‬انهم سيولدون مع انهم لم يكونوا‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫وأنا على شرفة تطل على واد بعيد تشتعل فيه نار رهيبة وما إن‬

‫رحت أح ّدق الى السماء ثم نظرت الى األسفل فلم أبصر ما يفيدني‬

‫هزة‬

‫ثياب العيد‪...‬‬

‫‪.‬‬

‫ح ّدثنا الرجل العائد من هناك‪ّ ،‬‬ ‫أنه سعيد في العالم اآلخر قال إنه‬ ‫عالم يشبه هذا العالم وال يشبهه في آن هناك مثالً‪ ،‬قال‪ ،‬أشرب كأساً‬

‫فتدثرت بالمالءة‪ .‬وضعت الوردة على صدرها وخرجت‪.‬‬

‫في الساعة الثامنة دخلت‪ ،‬وضعت الوردة على كتفها األيمن‪ ،‬في‬

‫التاسعة على كتفها األيسر‪ ،‬في العاشرة على بطنها‪ ،‬في الحادية عشرة‬

‫على حوضها‪ ،‬في الثانية عشرة بين فخذيها‪...‬‬ ‫السرير يمتلئ بورد أحمر‪ .‬عندما ّ‬ ‫دقت ساعة الجدار الساعة الحادية‬ ‫ساعة تلو أخرى‪ ،‬كاد‬

‫عشرة قبل منتصف الليل‪ ،‬دخلت الغرفة ووضعت الوردة في مزهرية‬

‫‪.‬‬

‫كانت على طاولة صغيرة بجانب السرير‬ ‫ّ‬ ‫تدق دقتها‬ ‫كانت ساعة الجدار في ممشى الفندق في الطابق الثاني‬ ‫عيني وأبصرتها واقفة أمامي شبه‬ ‫الثانية عشرة األخيرة عندما فتحت‬ ‫ّ‬ ‫علي ثم خرجت‬ ‫عارية‪ ،‬وفي يدها وردة حمراء‪ ،‬راحت تنثر أوراقها‬ ‫ّ‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪25‬‬


‫سرد‬

‫‪.‬‬

‫من دون أن تنبس بكلمة وجهها كان أبيض‪ ،‬عيناها كأنهما مرسومتان‬

‫بقلم رصاص‪ ،‬شفتاها رقيقتان‪ ،‬كانت تلف جسدها بشرشف رقيق‬ ‫يبين من ورائه عريها البارد نهضت من السرير مذهوالً وهرعت‬ ‫ً‬ ‫أثرا‬ ‫وراءها شبه عار في الممشى لم أجد لها‬

‫‪...‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫عدت و دخلت غرفتي ثم خرجت قليالً‪ ،‬ونظرت الى الرقم عشرين‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫ارتميت شبه مذهول‪.‬‬

‫على باب غرفتي دخلت‪ ،‬ثم أغلقت الباب بالمفتاح وعلى السرير‬

‫العضو المقطوع‬ ‫رحت أصرخ وهم يمسكون بي‪ ،‬عندما تمكنوا منّي نزعوا عني‬

‫سروالي وم ّد أحدهم يده الى عضوي وبشفرة يحملها بيده الثانية‬

‫انقض عليه وقطعه‪ ،‬فانبجس الدم وارتفع صراخي‪...‬‬ ‫على التراب أمامي وكان ال يزال ينبض‪ .‬ثم تركوني وحدي في طرف‬ ‫رمى عضوي‬

‫الغابة التي اقتادوني اليها وفرّ وا‪ ،‬الدم ينزف مني وصوتي يدوّ ي دون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أن يسمعني أحد ّ‬ ‫متخبطا في بقعة من الدم راحت‬ ‫أرضا‪،‬‬ ‫ثم سقطت‬

‫‪.‬‬ ‫تتسع وتتسع حتى أصبحت األرض حمراء والصخور واألشجار‪...‬‬ ‫خيمة الروح‬

‫ً‬ ‫خطا‪ ،‬مع ّ‬ ‫أنها‬ ‫ما من برق التمع فوقه‪ ،‬وال سجلت الشاشة االلكترونية‬

‫كانت مضاءة مثلها مثل األجهزة‪...‬‬

‫واقترب طبيب من الميت وراح يجس صدره بالسماعة‪ ،‬ثم أشار الى‬ ‫ً‬ ‫مؤكدا موته وتالشي نبضه ودقات قلبه ثم اقترب طبيب آخر‬ ‫رفاقه‬

‫‪.‬‬

‫وراح يهز جسد الميت‪ ،‬ورفع الغطاء عن ساقيه فإذا بالفراش مبلل‬

‫‪.‬‬ ‫نحو الشاشة ليتأكد من جهوزيّ تها وعدم حلول عطب بها‪...‬‬ ‫الجميع‪ .‬قال أحدهم‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫لعل روحه فارقته قبل أن يموت‬ ‫لعله بال روح‪ .‬أو‬ ‫ّ‬ ‫لعل جسده كان على‬ ‫جسده‪ .‬هذا شخص بجسد فقط‪ .‬ثم قال آخر‪:‬‬ ‫خالف مع روحه فافترسها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫تمض لحظات حتى جاؤوا بمحتضر آخر‪ .‬وعندما فاضت روحه‬ ‫لم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وسجلت الشاشة خطا متعرّ جا‪ .‬صاح األطباء‬ ‫التمع برق أعلى الخيمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فرحا‪ ،‬وهدأوا بعد حال االضطراب الذي أصابهم‪ .‬وأمر أحدهم‬

‫ببوله وهذا دليل قاطع على مفارقته الحياة‪ ،‬واتجه أحد التقنيين‬ ‫ارتبك‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خوفا من أن‬ ‫سريعا من جثمان المحتضر الذي كان بال روح‪،‬‬ ‫بالتخلص‬

‫‪.‬‬

‫يفسد عليهم اختراعهم العظيم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كنت أبصر هذا المشهد مندهشا‪ ،‬خائفا‪ ،‬وددت أن أضحك‪ ،‬لكنني لم‬

‫أجرؤ‪.‬‬

‫الراقص‬

‫عندما أبصرت األسرّ ة تمأل الساحة الكبيرة‪ ،‬ظننت أنني أشاهد‬

‫‪.‬‬

‫مستشفى في الهواء الطلق كانت نصبت خيمة صخمة وضعت األسرّ ة‬

‫‪.‬‬

‫تحتها لتر ّد عن المرضى أشعة الشمس خالل النهار ّ‬ ‫ثم لما اقتربت‬ ‫ُ‬ ‫من الخيمة علمت أن هؤالء المرضى هم من المحتضرين الذين فقد‬

‫األمل من شفائهم‪ ،‬وهم وضعوا هناك على أسرّ تهم ليخضعوا الختبار‬ ‫عجزت عن فهمه بعدما شرحه لي طبيب كان يتنقل بين األسرّ ة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حامالً‬ ‫يقطب حاجبيه عندما‬ ‫لطيفا ولم‬ ‫صغيرا عليه أوراق كان‬ ‫لوحا‬

‫‪.‬‬

‫استوضحته أمر هؤالء المرضى‪ ،‬قال لي‪ :‬أنظر الى هذه األجهزة‬ ‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬اخترعناها نحن‪ّ ،‬‬ ‫كل‬ ‫األربعة خارج الخيمة‪ ،‬إنها أجهزة حديثة‬ ‫ّ‬ ‫يسجل‪ ،‬في لحظة موت المحتضر‪،‬‬ ‫مرئية‪ ،‬ووظيفة هذا الحقل أن‬

‫‪.‬‬

‫صعود روحه من جسده عندما يشرف المريض على لحظة الموت‪،‬‬ ‫نضع سريره وهو مم ّدد عليه تحت الخيمة الكهرو‪-‬مغناطيسية‪ ،‬فما إن‬

‫يلفظ نفسه األخير وتصعد روحه تهتز األشعّ ة ويُ ّ‬ ‫سجل اهتزازها على‬

‫‪.‬‬

‫الشاشة الصغيرة التي تراها قرب أحد األجهزة هذا االختراع أردنا به‬ ‫أن الروح تكمن في االنسان‬ ‫أن نثبت لكل من ال يؤمن بوجود الروح ّ‬ ‫ً‬ ‫صعودا نحو السماء والخيمة الالمرئية‬ ‫وعندما يموت تغادر الروح‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫التي يوضع المحتضرون تحتها هي التي تؤكد أن الروح تصعد وال‬ ‫تنزل مثالً أو تتوه على وجه األرض ثم أشار لي أن أمكث هنا ألكون‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫ِ‬ ‫تمض دقائق حتى أتى الممرضون‬ ‫شاهدا على صعود الروح ولم‬

‫بأحد المحتضرين وجعلوا سريره تحت الخيمة‪ ،‬وما إن شهق شهقته‬ ‫األخيرة حتى التمع برق فوقه وزال بسرعة‪ ،‬وارتسم على الشاشة ّ‬ ‫خط‬ ‫متعرّ ج كمثل الخطوط التي ترتسم على شاشات األجهزة الطبية في‬

‫‪.‬‬

‫المستشفيات بُهرت بهذا المشهد وخفق قلبي وكأنني أشاهد أعجوبة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حقا‬ ‫مزيدا من الوقت هنا ألتأكد من أن ما يحصل هو‬ ‫وقلت سأمكث‬

‫‪.‬‬

‫يحصل بعد نحو عشر دقائق جاؤوا بمريض آخر كان على آخر رمق‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫وضعوه تحت الخيمة الكهرو‪-‬مغناطيسية ثم زفر زفرته ومات ولكن‬

‫‪26‬‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تطل على بحر ساكن سكون مرآة يرقص‬ ‫كان يرقص على حافة‬ ‫ً‬ ‫عاريا بجسد شديد البياض‪ ،‬وجهه صوب البحر لم‬ ‫رقصة باليه‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫قبتين‬ ‫أبصر منه سوى ظهره وفخذين ناعمتين تنتهيان في ما يشبه ّ‬ ‫صغيرتين يقفز قليالً‪ ،‬محرّ ً‬ ‫كا يديه وقدميه برشاقة‪ ،‬الضوء يسقط‬

‫‪.‬‬

‫على رأسه حتى ليكاد يمحوه‪ ،‬والزرقة كأ ّنها تغرقه في سرابها فيبدو‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫كأنه يرقص في لوحة داخلها بحر عندما استدار وبان وجهه وصدره‬ ‫ّ‬ ‫ظل‬ ‫بدا كأ ّنه بال خصيتين وال إحليل حوضه أبيض وال شعر فيه‬ ‫يرقص‪ ،‬محرّ ً‬ ‫كا ّ‬ ‫كل فاصلة من جسده حتى اختفى‬

‫جهاز يبث أشعة يجمعها حقل كهرو‪-‬مغناطيسي في شكل خيمة غير‬

‫‪.‬‬

‫اضطرب األطباء والتقنيون للفور‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ثدي العجوز‬

‫ً‬ ‫شاهدت امرأة عجوز تحتضن طفالً‬ ‫وليدا يشعّ بين زنديها كجوهرة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تغضن‬ ‫عندما راح يبكي شرّ عت عن صدرها وأخرجت ثديا مته ّدالً‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫جلده ‪،‬وناولت الطفل حلمتها اليابسة فراح يرضع بنهم كان الطفل‬ ‫المحيا‪ ،‬في حضن هذه المرأة العجوز التي فاض ثدياها‬ ‫جميالً‪ ،‬مشرق‬ ‫ّ‬

‫بالحليب‪.‬‬

‫بال وجوه‬

‫‪.‬‬

‫كانوا بال وجوه‪ ،‬يمشون كما لو أنهم يبصرون رحت أنظر إليهم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫محلها هذا الجلد الزهري الذي‬ ‫وحل‬ ‫مستغربا‪ :‬كيف اختفت وجوههم‬

‫‪.‬‬

‫يشبه جلد األطفال عندما يولدون كانوا كأنهم يروننا‪ ،‬نحن الذين كنّا‬

‫على الرصيف‪ ،‬يمشون بال عصي‪ ،‬ال أحد ّ‬ ‫يدلهم الى أين يذهبون بال‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يدا خاطت وجوههم بخيوط من‬ ‫كأن‬ ‫عيون‪ ،‬بال افواه‪ ،‬بال أنوف‬ ‫ّ‬

‫‪...‬‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫شخصا‬ ‫لحم مبقية على آذانهم وشعرهم هل يبصرون بآذانهم؟ سألت‬

‫‪.‬‬

‫يقف الى جانبي‪ ،‬لم يجب‪ .‬لم اجرؤ على مناداة احد منهم‪.‬‬


‫خلدون شيشاكيل‬

‫المائدة‬

‫ً‬ ‫لكن السماء‬ ‫معتما‪،‬‬ ‫النافذة وانظر فتحت النافذة ونظرت‪ ،‬كان الليل‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫كنّا ننتظر المدعوّ ين‪ ،‬جالسين في البهو الكبير والمائدة كانت قد‬

‫‪...‬‬ ‫‪.‬‬

‫امتألت باألطايب ولم يبق سوى أن نجلس اليها‬ ‫ّ‬ ‫ينسل إلينا نهض سيد الدار‬ ‫ساعة أعقبتها ساعة شعرنا بالجوع‬

‫‪.‬‬

‫تأخر المدعوون‬

‫ونادى خدامه‪ :‬اخرجوا وادعوا الفقراء الذين على األرصفة‪ ،‬جيئوا‬ ‫ّ‬ ‫أحق بها عاد الخ ّدام‬ ‫بالمتسولين والجائعين‪ ،‬المائدة ستكون لهم ألنهم‬

‫‪.‬‬

‫بجمع من هؤالء الناس الفقراء والمعدمين بثيابهم الرثة والمتسخة‬ ‫ً‬ ‫جميعا إلى المائدة‪ ،‬نأكل ونشرب‪ ،‬متنعّ مين بما ق ّدم إلينا وما‬ ‫وجلسنا‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫منهم انقض على ابريق الذهب الذي على الطاولة وحمله وفرّ به هاربا‪.‬‬ ‫نظر الجميع اليه نظرات استغراب ولكن لم يجر وراءه احد‪.‬‬ ‫لكن واحدا‬ ‫تبقى من طعام وفاكهة‪ ،‬أبى السيد إالّ أن يحمّ لهم إياه‬ ‫ّ‬

‫عندما دخلت البيت أدركت للفور أ ّنه ليس بيتنا مع انني أبصرت أمي‬

‫‪.‬‬

‫في المطبخ تهيئ الطعام األثاث هو أثاث بيتنا‪ ،‬أما البيت فال حتى‬

‫‪.‬‬

‫كتبي أبصرتها ولكن في غرفة ليست غرفتي الحديقة التي تجاور‬ ‫ّ‬ ‫البيت ّ‬ ‫محلها ساحة قلت ألمي‪ :‬هذا ليس بيتنا قالت‪ :‬بلى‪ ،‬إفتح‬ ‫حلت‬

‫‪.‬‬

‫الضمادة‬ ‫كنت أبحث عن صديق في مستشفى نقل اليه في كينشاسا‪ ،‬بعد‬

‫‪.‬‬

‫وقوعه من الطابق الخامس في المبنى الذي يقطنه عندما دخلت‬ ‫ً‬ ‫عددا هائالً‬ ‫إلي ممرّ ضة سوداء‪ ،‬أبصرت‬ ‫بهو المرضى كما أشارت‬ ‫ّ‬ ‫من األسرّ ة يرقد عليها مرضى‪ ،‬سود بمعظمهم‪ ،‬نساء ورجال‪ ،‬شباب‬

‫‪.‬‬

‫وعجائز رحت أجول بين األسرّ ة التي تتجاور وتمت ّد وكأن ال نهاية‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫لها بعد ساعتين ربما‪ ،‬بلغت السرير األخير ولم أبصر صديقي كان‬ ‫ً‬ ‫رهيبا‪ ،‬أكياس مصل تتدلى من أعمدة قرب األسرّ ة‪ ،‬شراشف‬ ‫المنظر‬ ‫بيض ملطخة بالدم‪ ،‬أخرى صفراء‪ ،‬أسرّ ة من حديد صدئ‪ ،‬مرضى‬ ‫ينامون وآخرون يجلسون أو يقفون قرب األسرّ ة‪ ،‬بعضهم يئن‪ ،‬بعضهم‬

‫بيتنا‬

‫‪.‬‬

‫كانت مزروعة بنجوم لم أبصر مرّ ة ما يماثلها‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫يصرخ‪...‬‬

‫‪.‬‬

‫علي أن أرجع من حيث دخلت وجدت أمامي بوابة‬ ‫لم يكن‬ ‫ّ‬

‫ففتحتها وخرجت‪ ،‬وإذا بي في حديقة كبيرة تتوزعها مقاعد يجلس‬ ‫ً‬ ‫يمينا وشماالً حتى أبصرت‬ ‫عليها مرضى بلباس أبيض رحت أح ّدق‬

‫‪.‬‬

‫‪...‬‬

‫‪.‬‬

‫صديقي ناديته وركضت نحوه عندما توقفت أمامه ألقى علي نظرة‬ ‫غريبة قلت له‪ :‬كنت أبحث عنك خفض عينيه‪ّ ،‬‬ ‫ثم رفعهما وتمالّني‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪27‬‬


‫سرد‬

‫ولم ينبس بكلمة رحت ّ‬ ‫ً‬ ‫صامتا كانت‬ ‫أكلمه‪ ،‬لم يبال نظر الى األعلى‪،‬‬ ‫ضمادة ّ‬ ‫تلف رأسه‪ ،‬وكتب عليها إسمه بالفرنسية‪ ،‬ورقم هو ‪22‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫شراهة‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يدخن‬ ‫عظمي يقف بجوار عمود الكهرباء على الرصيف‪،‬‬ ‫كان هيكل‬ ‫ّ‬ ‫يخبئها في‬ ‫بشراهة كلما أنهى سيكارة تناول أخرى من علبة كان‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫حوضه‪ ،‬يشعلها من نار السيكارة السابقة قبل ان يرمي عقبها ويدوسه‬ ‫ً‬ ‫حرصا‬ ‫بعظم قدمه لم يكن يستخدم ثقاب كبريت ليشعل سكائره‪،‬‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬ولكن ما من أحد تجرأ على أن يسألهما عن هذا‬ ‫هو فوجئنا‬ ‫ً‬ ‫إن لديه عشيقا كان يعاشره قبل الزواج وقيل إنه امرأة‬ ‫الحمل قيل ّ‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫إن امرأته‬ ‫وليس رجال إال ظاهرا‪ .‬وقيل إنه رجل وامرأة في آن‪ .‬وقيل ّ‬ ‫إن أباه كان مثله‪ ...‬وورث‬ ‫لها عضو ذكر‪ ،‬على رغم بروز نهديها‪ .‬وقيل ّ‬ ‫هذا األمر عنه‪ .‬رحت أنظر إليه‪ ،‬كان يمشي مشية امرأة حبلى‪ ،‬ولكن‬ ‫بساقين مشعرتين‪ .‬ولم تكن تخلو مشيته من إثارة ممزوجة بطابع‬ ‫أمومي‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يدخن من غير أن ينظر الى المارّ ة‪ ،‬ابتسامته وحدها‬ ‫على الوقت كان‬

‫‪.‬‬

‫ترتسم على فمه الذي لم تبق فيه شفتان كان الدخان يتصاعد في‬

‫الهواء حول جمجمته وال ينزل في صدره النافر االضالع‪ ،‬الفارغ‬ ‫ً‬ ‫تماما‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫انقض عليه ثالثة شرطيين‬ ‫لم يكد ينهي آخر سيكارة في العلبة حتى‬

‫‪.‬‬

‫كانوا يهرولون صوبه وكأنه مجرم عندما قبضوا عليه أصرّ على أن‬ ‫ينهي السيكارة األخيرة‪ ،‬لكنهم لم يأذنوا له‪ ،‬سحب أحدهم السيكارة‬ ‫ً‬ ‫مشيا على‬ ‫وكبل يديه ساقه الثالثة‬ ‫من فمه ورماها ثم داسها‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫اضحك‪ ،‬تأسفت عليه ألنه سيقضي بقية ايامه في السجن‪.‬‬

‫الرصيف بين المارّ ة الذين راحوا يضحكون لمرآه مقهقهين أما أنا فلم‬

‫النصف‬

‫‪...‬‬

‫واحدة‪ ،‬بنصف صدر‪ ،‬بيد واحدة‪ ،‬ساق واحدة‪ ،‬قدم واحدة‪...‬‬ ‫الثياب كانت نصف ثياب‪.‬‬

‫حتى‬

‫عندما نظرت الى النافذة وجدتها نصف نافذة‪ ،‬الجدار نصف جدار‪...‬‬ ‫في الخارج لم يبق من العالم إالّ نصفه‪.‬‬ ‫الناجون‬

‫ً‬ ‫واحدا تلو آخر‪ ،‬يرتمون من شرفات ونوافذ تتصاعد‬ ‫كانوا يسقطون‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫منها ألسنة لهب يقفزون كاألسماك‪ ،‬يتسابقون في سقوطهم ملء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعضا‬ ‫خيطا بأجسادهم المتصلة‬ ‫الهواء‪ ،‬وفي أحيان كانوا يرسمون‬

‫ببعض‪...‬‬ ‫الصفوف‪.‬‬

‫عندما يبلغون األرض يرتطمون بها ّ‬ ‫ثم يقفون في ما يشبه‬

‫نحن الذين كنا نشاهدهم لم نكن نتر ّدد عن القول‪ :‬لقد نجوا من النار‬

‫بأعجوبة‪.‬‬

‫عقربان ساعة قديمة في بيت من خشب بنّي نحتت من حوله أزهار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تذكرت أننا كنا نملك واحدة مثلها ظلت الساعة‬ ‫واجهته من زجاج‬

‫ً‬ ‫أقفاصا ال عصافير داخلها أقفاص‬ ‫كانوا يعرضون على طول الرصيف‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫بالمئات تنتظر مَ ن يأخذها اقتربت من احد الباعة وقبل ان اسأله قال‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫على قضبان القفص تسمع زقزقة وخفق اجنحة‪.‬‬

‫لي ‪ :‬لم يبق في العالم عصافير لقد انقرضت لكنك اذا وضعت اذك‬

‫قايين‬ ‫لم يكن من أحد هناك سوى هذين الرجلين‪ ،‬ال ادري كيف كنت‬ ‫ً‬ ‫منحنيا على األرض يقطف بيديه نبتة عندما‬ ‫ابصرهما كان أحدهما‬

‫‪.‬‬

‫انهال عليه اآلخر بصخرة صغيرة التقطها عن األرض وراح يضرب بها‬ ‫ّ‬ ‫فحطمه انبثق الدم وسقط النخاع على التراب ومضى الجريح‬ ‫رأسه‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫مطلقا زفرات خافتة انقض القاتل على النخاع‬ ‫يتخبط على األرض‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وراح يلتهمه متلذذا به ثم نظر الى السماء‪ ،‬ضرب صدره بيديه‬

‫القاسيتين وصرخ‪...‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أطلت من بين‬ ‫لكنه سرعان ما سمع صوت امرأة‬

‫األشجار‪ ،‬تقول‪ :‬قايين أين أخوك؟ لم ينظر الرجل الى أمّ ه وسرعان‬ ‫ً‬ ‫ما ّ‬ ‫هاربا من نظراتها الحارقة اقتربت األم من‬ ‫شق طريقه في الغابة‬

‫‪.‬‬

‫جثة ابنها وراحت تولول‪ ،‬وقالت‪ :‬اللعنة عليك يا قايين ستصبح أنت‬ ‫ً‬ ‫أوالدا سيقتل بعضهم‬ ‫رجلي الوحيد‪ ،‬أنت ابني القاتل‪ ،‬سأنجب منك‬

‫الرجل الحامل‬

‫ً‬ ‫مرتديا تنورة تبلغ أسفل ركبتيه‪،‬‬ ‫كان الرجل يمشي في الشارع‪،‬‬

‫بطنه منتفخ والى جانبه امرأة كانت تم ّد يدها اليه متلمّ سة بطنه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حينا تلو حين راح الناس يلقون عليهما نظرات ملؤها الحيرة سألت‬

‫‪.‬‬

‫أحدهم عن هذا الرجل‪ ،‬فابتسم قائالً‪ :‬إنه الرجل الحامل وزوجته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تمض على زواجهما أشهر حتى حمل‬ ‫الحي ولم‬ ‫إنهما يسكنان هنا في‬ ‫ّ‬

‫‪28‬‬

‫كانت ساعة الجدار تلفظ الثواني‪ :‬تك‪ ،‬تك‪ ،‬تك‪...‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أذني‪ .‬لم يكن من أحد هناك‪،‬‬ ‫تثقب‬ ‫كادت‬ ‫تكات‬ ‫ثانية‪،‬‬ ‫تتك‪ ،‬ثانية تلو‬ ‫ّ‬ ‫الصالة فارغة‪ ،‬ال طاولة‪ ،‬ال كنبات‪ ،‬ال كراس‪ ...‬النافذة المفتوحة تطلّ‬ ‫ّ‬ ‫تدق دقات عالية كأنها تؤذن بحلول‬ ‫على زرقة السماء‪ .‬راحت الساعة‬ ‫وقت منتظر‪ .‬عندما بلغت الدقة الخامسة والعشرين توقفت‪ .‬كانت‬ ‫الظلمة قد ّ‬ ‫ّ‬ ‫يحل‪ .‬ثم عاودت‬ ‫أن الليل لم‬ ‫حلت من وراء النافذة‪ ،‬مع ّ‬ ‫ساعة الجدار ّ‬ ‫تكاتها‪ :‬تك‪ ،‬تك‪ ،‬تك‪...‬‬ ‫لم يكن في مينائها‬

‫اقفاص‬

‫كنت أنظر الى نفسي في مرآة كبيرة فإذا بي أرى وجهي نصف وجه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا بعين واحدة وأذن‬ ‫أنفي نصف أنف‪ ،‬وكذلك فمي وعنقي كنت‬

‫‪.‬‬

‫ساعة جدار‬

‫ً‬ ‫بعضا‪ .‬وراحت تبكي‪.‬‬

‫كائنات ضارية‬

‫ّ‬ ‫كل ليلة‪ ،‬في ضوء القمر‪ ،‬عندما‬ ‫كنّا من خلف النافذة نبصرهم‬ ‫ً‬ ‫يخرجون من أوكارهم كانت فرائسنا ترتعد خوفا‪ ،‬وكنا نح ّدق إليهم‬

‫‪.‬‬


‫خلدون شيشاكيل‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫مقطوعا بالنصف‪ ،‬كان هكذا نصف رجل‪ ،‬رجال‬ ‫نصف ظل لم يكن‬

‫‪.‬‬

‫بصمت‪ ،‬مختبئين وراء الستائر رجال شبه عراة‪ ،‬رؤوسهم رؤوس‬ ‫ً‬ ‫قفزا‪ ،‬صرخاتهم أقرب الى العواء كانوا ما إن يبصروا‬ ‫ذئاب‪ ،‬يقفزون‬

‫بنصف رجل عندما اقترب من الساحة التي كنا نلعب فيها‪ :‬صرخنا‬

‫على بوابات البيوت‪ ،‬عندما يشمون رائحة بشر في داخلها‪ ،‬لكنهم‬ ‫ّ‬ ‫كل البوابات كانت من حديد صلب‬ ‫ما كانوا قادرين على تحطيمها‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫والنوافذ‬

‫النيام المستيقظون‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ويمزقونه بأنيابهم كانوا يهجمون‬ ‫حيوانا ينقضون عليه‬ ‫إنسانا أو‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫كاألوالد عندما أبصرناه وهربنا خوفا‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪...‬‬

‫في أول الفجر كانوا يعودون بهدوء‪ ،‬كأنهم متعبون‪ ،‬ثم يختفون قبل‬

‫أن تنقشع السماء ويشيع الضوء في الجهات‪.‬‬ ‫الفزاعة‬

‫ّ‬ ‫َ‬ ‫يخش الفزاعة التي‬ ‫يحلق فوق حقل القمح لم‬ ‫سرب الطيور الذي كان‬

‫‪.‬‬

‫كان الهواء يحرّ ك يديها وثيابها التي أشبه باألسمال راحت العصافر‬ ‫ّ‬ ‫ممزقة إياها بمناقيرها‪ ،‬غير مبالية بالفزاعة التي‬ ‫تنقر سنابل القمح‬

‫‪.‬‬

‫لكن الفزاعة سرعان ما رفعت يديها وراحت‬ ‫غرسها الزارعون هناك‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫تركض بين السنابل مطاردة اعداءها أما العصافير فحين سئمت‬

‫حركة الفزاعة انقضت عليها وحملتها بمناقيرها وطارت بها وهي‬

‫تخبط بيديها وقدميها‪.‬‬

‫عندما شاهدنا‪ ،‬نحن أصحاب الحقل‪ ،‬الطيور تحمل الفزاعة‪ ،‬جلبنا‬

‫بنادق الصيد لنطلق النار عليها‪...‬‬ ‫وسط السماء‪.‬‬

‫لكن العصافير كانت ابتعدت في‬ ‫ّ‬

‫حطب‬

‫ً‬ ‫أشجارا عارية هل‬ ‫أشجار عارية في حقل ال تخوم له أنظر فال أرى إال‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حل بها؟ هل التهمت نار أوراقها وتركتها جذوعا بأغصان‬ ‫هو الخريف‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫يابسة؟ أشجار كأنها أحطاب منتصبة في هذا الحقل حتى التراب له‬

‫‪.‬‬

‫لون الحطب اشجار وراء اشجار‪ ،‬حتى منتهى النظر‪ ،‬هياكل عظمية‬

‫ولكن من حطب‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫رجل بعين واحدة‪ ،‬بجفن واحد ويد واحدة وساق ورجل‪...‬‬ ‫أنف ونصف شفتين‪ ،‬نصف عنق‪ ،‬نصف صدر‪...‬‬

‫بنصف‬

‫كان يمشي وأمامه‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫كرسي‬ ‫أحبة كأنهم كانوا في جلسة عزاء جلست على‬ ‫أو أخوة أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ورحت أنظر إليهم بحيرة تامة انهم يبكون ّ‬ ‫كل على طريقته‪ ،‬بصوت‬ ‫خافت أو عال‪ ،‬تأوّ ً‬ ‫ّ‬ ‫بتنهد ما إن هدأ‬ ‫ها وولولة‪ ،‬بحنجرة مجروحة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫قليالً الرجل الذي الى جانبي حتى بادرته بسؤال‪ :‬لماذا تبكون جميعا؟‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وهز رأسه قبل أن‬ ‫غاليا في قريتكم؟ تنحنح‬ ‫شخصا‬ ‫هل فقدتم‬

‫‪.‬‬

‫‪...‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫إلي ثم قال‪ :‬المأساة كبيرة لقد متنا إنك‬ ‫يجيبني من غير أن ينظر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ميتين لم أفهم ما يقول سألته‪ :‬كيف متم وأنتم تبكون؟‬ ‫تبصر‬ ‫أناسا ّ‬ ‫ً‬ ‫أجابني متنهدا‪ :‬مضت ثالثون ليلة ونحن نجلس هنا ونبكي‪ ،‬وعلينا‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫شهرا آخر كي تعود أحالمنا إلينا إنها اللعنة‬ ‫أن نواظب على البكاء‬ ‫التي ّ‬ ‫حلت بنا‪ ،‬نحن أهل هذه القرية فقدنا قدرتنا على الحلم لم يعد‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫قادرا على الحلم ومن دون األحالم نصبح في عداد الموتى‬ ‫أحد منّا‬ ‫ّ‬ ‫في آخر حلم أبصره أحد الرعاة وكان ينام على تلة‪ ،‬زاره كائن غريب‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫وأبلغه باألمر ح ّدثه بلهجة قاسية قائالً له‪ :‬إنكم يا أهل هذه القرية‬ ‫ً‬ ‫حلما كما اعتدتم‬ ‫ستصابون بجفاف األحالم بعد اليوم لن تبصروا‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫نذيرا‬ ‫أن تبصروا من قبل‪ ،‬لدى إغماض عيونكم كانت رؤيا الراعي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حل بنا الجفاف وهجرتنا األحالم ومَ ن ال‬ ‫حقيقيا منذ تلك الليلة‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫يحلم ال يمكنه أن ينام‪ .‬الحلم حارس النوم‪ .‬إننا ننام وكأننا يقظون‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أطل الكائن الغريب مرّ ة أخرى على الراعي في‬ ‫في إحدى الليالي‬ ‫ّ‬ ‫رؤيا خاطفة وقال له‪ :‬على أهل القرية أن يلتقوا كل ليلة في ضوء‬ ‫ً‬ ‫حقا‪ ،‬أن يبكوا‬ ‫القمر ويقضوا ثالث ساعات من البكاء يجب أن يبكوا‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫وينوحوا ّ‬ ‫ثم بعد شهر ربما أو سنة أو بعد سنتين‪ ،‬ستعود أحالمهم‬

‫إليهم‪.‬‬

‫رجل‬

‫‪.‬‬

‫كانوا يجلسون على كراسي من ّ‬ ‫قش في ضوء القمر لم أنتبه كم‬ ‫ً‬ ‫كان عددهم رجال ونسوة‪ ،‬كانوا يبكون جميعا وكأنهم فقدوا أبناء‬

‫هكذا بدأنا البكاء منذ شهر‪ ،‬ثالثين ليلة‪ ،‬وحتى اآلن لم تظهر أحالمنا‪.‬‬ ‫إننا سنظل نبكي حتى نستعيدها‪ .‬حياتنا بال أحالم أرض خراب ّ‬ ‫ثم‬

‫صمت‬

‫شاعر من لبنان‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪29‬‬


‫مقال‬

‫الخارج الذي هو داخلنا‬ ‫عبد الوهاب الملوح‬

‫“ليس الشعر دائما شعرا َّ‬ ‫حقق نجاحا‪ُّ ،‬‬ ‫كل نجاح هو بمثابة نهاية للشعر‪ .‬فالشعر هو البحث والبدايات المتجددة للشعر‪ ..‬انه إعادة‬

‫ابتكار تعالقات فيما بين عناصره” ينتهي الشعر بمجرد تحديده وتعريفه ذلك ما يؤكده هنري ميشونيك صاحب هذه اإلفادة‬

‫فالشعر بوصفه بحثا وبدايات متجددة وكل محاولة لتعريفه هي عملية تعليب تؤدي إلى فساد صلوحيته‪.‬‬

‫ال‬

‫ترتيبات‬

‫وليس من شأنه أن يتعالى بالمعنى الفلسفي‬

‫في قصيدته “أناباز" هذي القصيدة المطولة‬

‫كتابة‬

‫تحتاج‬

‫الشعر‬

‫إلى‬

‫أكاديمية ولم تكن (أبدا) مادة للتصنيع ُ‬ ‫ليت َّم‬

‫اللغة وليس من خالل القوانين واللغة‬

‫جاكوب غير ملتزمة بما حدده وقتها أنسي‬

‫غني إلى تنظيرات‬ ‫لوجيستية كما أنها في‬ ‫ً‬

‫تعليبها لقد جاء الخليل وأفسد الشعر وكلنا‬ ‫نعرف حكاية عبيد ابن األبرص الذي قال‬ ‫شعرا خارج القطيع وال فائدة من إعادة ترديد‬

‫‪.‬‬ ‫أجل البحث عن إيقاعاته المتجددة‪.‬‬

‫لن‬

‫لقد‬

‫سعى‬

‫متحولة عبر التاريخ فالشعر ينهب نفسه من‬

‫يختلف اثنان في أهمية ما قدمته مجلة شعر‬

‫كالم أبي العتاهية “أنا أكبر من العروض”‬

‫ومنجزها‬

‫الشاعر (الشاعر) باالستغراق كما هتف المعري‬

‫للشعر كتابة ورؤية وفعال كانت المساهمات‬

‫فعملية تقنين الشعر هي لحظة تدجين‬

‫الشعري‬

‫والنقدي‬

‫المشرفون عليها إلى تأسيس توجه جديد‬

‫‪.‬‬

‫في رسالة الغفران ليس الشاعر من يُ دجن‬

‫الشعرية مختلفة عن السائد وقتها وصار‬

‫دائما ضد المبني للمجهول ألنه كان حاضرا‬

‫مغايرة للمألوف في الكتابة الشعرية‪ ،‬وكان‬

‫وليس الشعر مِ مَّ ا يُ فترض أن يُ قال كان الشعر‬

‫‪.‬‬

‫بالعفوية وهو ليس التعبير المجاني باعتبار‬ ‫أنه التحقيق األزلي في حقيقة هذا الكون‬

‫وهو أيضا هذي القدرة على التصدي بشكل‬

‫‪.‬‬

‫لغوي فالت لكارثة اللغة المقدسة لقد كان‬ ‫الشعر ومنذ األزل حاجة الكائن للتصدي‬

‫‪.‬‬

‫للميتافزيقيا الشعر كائن غير ميتافيزقي؛‬ ‫كائن ال يتحقق إال بوجوده العيني وإنما‬

‫وجوده خارج صفاته القيمية‪ ،‬هو كائن‬ ‫بوصفه لغة متمردة لذاتها‪ ،‬لغة تحتاج إلى‬ ‫من يتقنها يبحث فيها‪ ،‬يكونها من أجل أن‬

‫تكون فالشعر ومادته اللغة كائن بالكلمات‬ ‫تحتاج إلى أن تتكلم بذاتها وليس بقيمتها‬

‫المعنوية أوال فكما في السياسة هناك‬ ‫أولويات في الشعر أيضا أال وهي سياسة‬ ‫الكلمات “إن الكلمات‪ ،‬في الشعر‪ ،‬ال ينبغي أن‬ ‫ُتستخدم للداللة على شيء‪ ،‬وال أن تجعل‬

‫بإمكان القارئ العربي أن يطلع على تجارب‬ ‫هناك جهد واضح في محاولة التغيير‬

‫وتحديث الكتابة الشعرية‪ ،‬غير أن هذا الجهد‬ ‫انبنى في توجهاته الكبرى على ما قام به‬

‫الشاعر الكبير أنسي الحاج من محاوالت في‬ ‫مرحلته األولى التي اتسمت باالرتكاز أساسا‬

‫على أفكار سوزان برنار‪.‬‬

‫ورغم أن هذه األخيرة كانت في عملها‬

‫والتوهج والمجانية‪.‬‬

‫ورغم أن صاحبة “قصيدة النثر من بودلير إلى‬

‫أيامنا هذه” تؤكد أن هذه القصيدة هي “خلق‬ ‫حر‪ ،‬ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في‬ ‫البناء خارجا عن كل تحديد وشيء مضطرب‬

‫‪.‬‬

‫إيحاءاته النهائية” فلقد أصر الكثيرون على‬ ‫محاصرة هذا النوع من الكتابة والسعي‬

‫إلى تعريفه تعريفا محددا وهم ال يدركون‬ ‫أنهم بهذا المسعى إنما ينسفون هذه الكتابة‬

‫‪.‬‬

‫ويعدمونها فقصيدة النثر هي هذا االنفالت‬

‫‪..‬‬

‫دستر‪ ،‬مُ قوْ نن‪ ،‬مشروط هي‬ ‫من كل ما هو مُ ْ‬ ‫هذي الشعرية التي ال تلتزم بأي شيء سوى‬

‫بما هو مبتكر في جمالياته وكما يقول باتاي‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫“ َيت َ َّ ُ‬ ‫ِين”‬ ‫ي َخا ِر َج ال َقوَ ان ِ‬ ‫َحقق الشعْ رُ ال َحقِ يقِ ُّ‬ ‫ذلك أنه الدهشة‪ ،‬والدهشة ليست ما يجيء‬

‫‪.‬‬

‫“قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا هذه”‬ ‫توصيفها لعمل قصيدة النثر من الداخل‬

‫غير المألوفة وفي أساليب القول الشعري‬

‫تقدم مجموعة من المقترحات من خالل‬

‫‪.‬‬

‫وكيفية تشكلها فلقد تحولت إلى مجموعة‬ ‫من القواعد الصارمة والقوانين المضبوطة‪،‬‬

‫حتى أن بعضهم أصبح يُ ع ِّرف قصيدة النثر‬ ‫انطالقا من هذه المقترحات التي لم تكن‬ ‫في حقيقتها إلزامية لكتابة القصيدة بالنثر‪،‬‬

‫والدليل على ذلك أن من يتابع قصيدة النثر‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يتكلم‪ ،‬بل إن لها غاياتها في ذاتها”‬ ‫أحدا‬ ‫أن يعبر على مقدمات نظرية أو فلسفية‬

‫لم ينتهجوا هذا النهج من مثل رينيه شار‬

‫‪.‬‬

‫الحاج مترجما ما قالته سوزان برنار اإليجاز‬

‫وفق قواعد واشتراطات فهي البحث‬

‫في بلدان أخرى ال يراها ملتزمة بما قدمته‬

‫موريس بالنشو ولهذا ليس من شأن الشعر‬

‫‪30‬‬

‫هو يتعالى جماليا يحقق كينونته من خالل‬

‫جدا‪ ،‬وكذلك أيضا جاءت كتابات ماكس‬

‫سوزان برنار‪ ،‬بل إن بعض الشعراء الفرنسيين‬

‫المستمر في اللغة وفي صنوف اإليقاعات‬ ‫غير المعلب هي “هذا القفز في المجهول” كما‬

‫‪.‬‬

‫يراها بودلير غير أنه ولما يتملك الكثيرون‬ ‫من رغبة في التعريف والتحديد واالطمئنان‬

‫ظلوا يحاولون وضعها في أقفاص ال تتحرك‬ ‫وهي الكتابة المتحركة التي ال تتنفس إال في‬

‫الهواء‪.‬‬

‫فالشعر تجريب باألساس بل إنه التخريب‬

‫المتواصل‪ ،‬لذلك ال يمكن الحديث عنه كأفق‬ ‫نضال بل هو كينونة ليس وفق رأي هايدغر‬


‫حسني جمعان‬

‫ولكن وفق ما يحاوله الشاعر من إقامة في‬

‫‪.‬‬

‫هذا الوجود‬ ‫ٍّ‬ ‫وما القصيدة إال تجل من تجليات هذه‬ ‫الكينونة التي إنما هي خطيئة‪ ،‬لقد صدق‬

‫سيوران عندما قول ال يهمنّي القارئ بقدر‬ ‫ما أن المهم هو محارب اللغة واإلطاحة بكل‬

‫الباستيالت‪ ،‬إنها كتابة الفراغ‪ ،‬والفراغ ليس‬ ‫كبياض فالبياض كينونة هو أيضا؛ الفراغ‬ ‫بوصفه حالة فيزيائية متغيرة وبوصفه‬

‫انتظارا وبوصفه جرحا بالغ اإليحاء؛ صامت‬

‫دائما جارح أيضا غالبا ما يكون صادما كيف‬ ‫يمكن تحويل الفراغ إلى شيء وقح أليس‬

‫هذا من أسئلة الكتابة؟‬

‫البياض كون أيضا بل هو حقيقة ال تكشف‬ ‫عن أسرارها للعابرين حذوها بل لمن يحاول‬

‫اختراقها وهذا واحد من مهام الشعر أيضا؛‬ ‫وسيبقى النقد نقد الفن عموما معوقا كمن‬

‫يركب حافلة في االتجاه الخاطئ طالما ال‬

‫المستلبة إلى التحرر من إلزامية وانضباطية‬

‫وتوهت رامبو الضليل وأخذت بيد بول‬

‫آفاق ابتداع تاريخها الشخصي وتمجيده؛‬

‫ليست هنا… بل إنها ملتبسة ألنها مزيج من‬

‫السير داخل حدود مسار التاريخ؛ تفتح لها‬

‫‪..‬‬

‫حالة ملتبسة بما أنها طارئة ولكنها متواترة‬

‫‪.‬‬

‫أيضا والحقيقة أن ما يجعل لبسها واضحا‬ ‫أنها تأتي في شكل قشعريرة تدهم الكيان‬

‫وتهز جميع مقوماته؛ ليست المسألة متعلقة‬ ‫بدرجة تواطؤ هذا الكيان مع هذه الحالة‬ ‫غير أن ثمة ما يشبه التعاقد السري بينهما؛‬

‫إذن ما الذي يجعل هذه الحالة طارئة؟ ربما‬ ‫ألنها متغيرة وال تضرب موعدا عندما تبدأ‬

‫‪.‬‬

‫في الهبوب عبارة هبوب مهمة جدا في هذا‬

‫تهب فعال لتزعزع فتستولي‬ ‫السياق؛ إنها‬ ‫ّ‬ ‫فتسطو فتتملك دواخل الذات وتسكنها‬

‫‪.‬‬ ‫أوسع من اللحظة‪.‬‬

‫لمدة المدة وحدة زمنية غير محدودة لكنها‬

‫‪.‬‬

‫بالغياب وإذ ينخرط صاحب الرؤيا في هذه‬ ‫االنخطافة يسوقه التردد وتدفعه الريبة وإذا‬ ‫به في مجاهل التيه وغيبوبة الرشد‪ ،‬يذهب‬

‫بعيدا في استكشاف مدارات غير آهلة تأخذه‬ ‫في المغامرة؛ مغامرة لعل الحياء الديني‬

‫وحده هو الذي دفع الفرزدق إلى وصفها “أشد‬ ‫من آالم ضرسي” ولم يجرؤ على القول مثل‬

‫بيكيت إنها “جلسات تعذيب الروح” وألن من‬

‫شأن هذه الحالة أن تنعش الروح سيعمد‬

‫الكاتب‪/‬الشاعر إلى تقويتها بموتيفات تعمل‬ ‫على إطالتها وجعلها تتلبث في قاع الدواخل‬

‫حيث األفعى لكن يغويه عسل فينشغل به‬

‫ّ‬ ‫تفجرات إشرافية دفاقة‬ ‫هي عبارة على‬

‫ينش ّد إلى شجيرة كي ال يسقط في الهاوية‬

‫أعماق الكائن فتزلزل ثوابته‪.‬‬

‫الكتابة يتلذذ التماهي معها وقد تأخذه حيث‬

‫أليس النقد كتابة إبداعية أيضا؟‬

‫ويضج فيها الصمت ويمتلئ الحضور‬ ‫ّ‬

‫كصاحب ابن المقفع الذي وقع في الجب‬

‫ينكتب بلغة إبداعية تنسف أبراج النظريات‬ ‫ُ‬ ‫وتطيح بحيطان القواميس الصلبة‪ ،‬ومحصلة‬

‫إنها حالة ملتبسة ُتتَرْ ُ‬ ‫جم توق الذات‬

‫الغبطة والكآبة يحضر فيها القلق المطمئن‬

‫وتمس أدق الخاليا كأن يلجأ إلى تغييب‬

‫غير عابئ بالجرذان تقرض أسفل الشجيرة‬

‫األمر أن تخلخل عقلية السكونية وتحفر في‬

‫تسيالن إلى أعماق نهر السين والمسألة‬

‫كذلك الكاتب‪/‬الشاعر وإذ هو في مهب‬

‫ال يدري كما أوقعت جويس في الجنون‬

‫وأوصلت ناظم حكمت إلى أقبية السجون‬

‫‪.‬‬

‫الوعي تماما عبر وسائل أخرى حالة ملتبسة‬ ‫ممتلئة بالحياة ال تشبهها غير حشرجة الموت‬

‫لالنوالد من جديد‪.‬‬

‫وأما القصيدة فهي في الخارج الذي هو‬

‫داخلنا‪.‬‬

‫كاتب من تونس‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪31‬‬


‫سرد‬

‫شجرة الكرز‬ ‫خلود شرف‬

‫رغم ًا‬

‫عن أنوفنا هربنا من الحرب‪ ،‬تركنا بيوتنا‪ ،‬أسرارنا‪ ،‬أعمالنا‪،‬‬

‫واتجهنا إلى المناطق اآلمنة‪.‬‬

‫‪ -‬شجرة كرز!‪ ..‬أيتها الشقية‪.‬‬

‫مسافة الزمن تعود معك إلى الخلف إن عدت إلى مسقط رأسك‪،‬‬

‫‪ -‬هنا أصابني أحد الفتية بحجر على رأسي بينما كنت أراقبه وهو‬

‫الذي تعود به‪ ،‬المرآة تحتفظ بذاكرة الوجوه‪ ،‬ستعرفك جيدا مرآتك‬

‫ً‬ ‫مؤلما بكيت بهدوء العارف أن األلم سينتهي‬ ‫ نعم كان‬‫ً‬ ‫ْ‬ ‫غادرت الشجرة المكان منذ رحلتي‪ ،‬األشجار أحيانا تبكي‬ ‫‪-‬‬

‫تفصلك فجوة عن آخر مرة رأيت وجهك بالمرآة وبين الحاضر‬

‫وتقيسك بالسنتيمترات التي كبرتها‪ ،‬وتساعدك يدك التي نسيت كيف‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن هدوء ضيعتك الهدوء هنا‬ ‫تتحسس بها تفاصيل نموك‬

‫‪.‬‬

‫يساعدك لترى الزمن‪.‬‬

‫جمال الضيع وهواؤها ينبت بك طفولتك التي نسيتها على ظهر التل‪،‬‬

‫أو في شقوق الجدران التي كنت تختبئ بها‪ ،‬وبين الحصى التي كنت‬ ‫تخبئ بها قصاصات الورق في لعبة البحث عن الكنز وترسم خرائط‬ ‫ّ‬

‫بالطبشور على الطريق‪.‬‬

‫عندما تعود إلى مكان طفولتك تتلكأ بالمشي تشعر بأن قدمك كبرت‬ ‫فجأة على المكان‪ ،‬وأن ّ‬ ‫كل شيء متوقف عند اللحظة التي غادرت‬

‫بها‪ ،‬وبقيت كأنها بصورة فوتوغرافية تستعيدها اآلن بألبوم العائلة‪.‬‬

‫الطريق اإلسفلتي الطويل كان ال ينتهي بسنين طوال‪ ،‬إال بحضن ماما‬ ‫تنزع حقيبتي المدرسية عن ظهري‪ ،‬وتمسح شعري الجعد المنكوش‬

‫يسرق الكرز‪.‬‬

‫‪..‬‬

‫لقد عرفني‪ ،‬نظرته التي كوت رأس قلبي بحزن شديد أخبرتني لقد‬ ‫ً‬ ‫مألوفا‪ ،‬لكني‬ ‫عرفني‪ ،‬ارتجف قلبي وأنا أرمي السالم‪ ،‬لم يكن وجهه‬ ‫ً‬ ‫سالما بلغة ليست كلغة البشر التي اعتدتها في‬ ‫أشعر أنه يقول لي‬

‫بعد أن تجاوزته‪ ،‬سألت الطفلة‪ ،‬أأعرفه؟‬

‫‪..‬‬

‫‪ -‬ال أبدا‪ ،‬انتقل منذ يوم مجيئك إلى الضيعة‪ ،‬ال أحد يعرف من أين‬

‫أتى وال من هو! كل ما نعرف عنه أنه أتى إلى هنا وطلب عمال في‬ ‫البستان‪ ،‬وهو اآلن ّ‬ ‫يقلم الورود والحشائش‬

‫‪.‬‬

‫تغيرت بعض المالمح ربّما بعض الوجوه شاخت‪ ،‬البيوت باتت أصغر‬

‫هنا‪.‬‬

‫وأخافتنا أصوات الباعة التي مرت بالوقت نفسه فهربنا مذعورين‬

‫بصراخ يشبه من وجد ضبعا‪ ،‬لم يكن سوى مدخل عادي لبيت مهجور‬ ‫شاخ وأشفق على جهلي‪ ،‬لكن الطريق ما زال كما تركتني ذاكرتي به‪،‬‬

‫األشجار كبرت مثلي لكنها لم تلحظ كبرها إال عندما رأتني‪ ،‬طارت‬

‫العصافير منها‪ ،‬عندما أجفلها الضحك‪ ،‬كانت تضحك على جهلها‪.‬‬

‫كعادتي الطفولية مرّ رت السالم بأصابعي على كل ما المسته‪ ،‬ومرّ رت‬

‫‪..‬‬

‫صوتي بسالم على كل من رآني‪ ،‬شجر بيوت قطط وحتى األبقار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التف حولي‪ ،‬ودرت معه كيف عرفوني‪،‬‬ ‫والنسيم الذي مرّ عرفني جيدا‬ ‫ً‬ ‫جيدا من أنا! وكيف ترك هذا الجسد تلك الطفلة هنا ورحل‪،‬‬ ‫ال أعرف‬

‫كان من األفضل أن أترك هذه الطفلة هنا‪ ،‬فلو لم أتركها ما استقبلني‬

‫أحد بحنان‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫عالم السيارات‪ ،‬والفوضى‪ ،‬وال في عالم الحرب‪ ،‬كانت فعالً كسالم‬

‫أعمالهم المنزلية بأنفسهم‪ .‬غريب‪.‬‬

‫عندما كبرت‪ ،‬وذاك البيت الذي أغلق فمه على طفل عندما كنّا صغار‬

‫‪.‬‬

‫ نعم األشجار تبكي وتضحك‪ ،‬وأخبرتها كيف سمعت الشجر يضحك‪.‬‬‫ هذا البستاني يقف مكانها‪ ،‬سأتركك قليال كي ال يظنك مجنونة‪.‬‬‫‪ -‬ال بأس أفهم ما يقولون عمّ ن يحدث نفسه هنا صغيرتي‪.‬‬

‫يدي‬ ‫وقدمي‪ ،‬أغسل‬ ‫وتنزع عنّي مالبسي تدخلني ألغسل جوربي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫جيدا وتسقني من حفنة يدها‪ ،‬ذاكرتي تتوقف عند حفنة يدها والماء‬

‫شهي ال يفارق عطشي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬غريب أن تجد في الضيع مثل هذه المهن‪ ،‬بالعادة القرويون يعملون‬

‫كان يقف في ظل الكرزة وكأنه ظل كرزي‪ ،‬الكرزة التي كانت حاضرة‬ ‫تكررت صباحاتي وذاكرتي أعيشها مرتين‪ ،‬وهذه الشقية تتعفرت‬ ‫ً‬ ‫شيئا ّ‬ ‫كل ما قالته كنت أضحك لسماعه‬ ‫على ثنايا التفاصيل‪ ،‬لم تنس‬ ‫أو أصفن أو أبكي أحيانا كنت أبكي كطفل يمسك بثوب أمّ ه تائها عن‬

‫نفسه‪ ،‬وال يعلم من الحياة سوى أنها أمّ ه‪.‬‬

‫بات هاجسي أن أتفقد حال ذاكرتي على حواف الطريق‪ ،‬كل يوم‬ ‫أمرّ أسقيها‪ ،‬أرى من مات فيها ناسية ّ‬ ‫كل أوجاع العمر وفشله‪ ،‬ناسية‬

‫تلبسته‪.‬‬ ‫الحرب كيف لم تخفق بعد وكبر جسدها على الروح التي ّ‬

‫وألقى البستاني ينتظر وبيده ورود على بوابة الدار‪ ،‬أرمي السالم‬

‫وأناجي النجمة الصباحية عسى أن تكون الورود لي‪ ،‬يتجه باتجاهي‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫يعطيني الورود دونما كالم آخذ الورود وأكمل صباحي‬ ‫ً‬ ‫يوما عن‬ ‫أضع الورود بالمزهرية وأب ّدلها عندما تذبل‪ ،‬لم أتساءل‬

‫معرفته أنها ذبلت بمزهرية كونه بستاني‪.‬‬

‫منسياتي‪ ،‬وكعادتي سألتها عن لون‬ ‫رافقتني هذه الطفلة تعرّ فني على‬ ‫ّ‬

‫لم يسألني اسمي وال سألته من أنت؟‬

‫بصوتي‪ :‬أسود‪.‬‬

‫الورود محاولة خطفها من يدي لكنّي أحاول أن أبقى رصينة أمام‬

‫الشجر في المساء‪ ،‬فأجابتني بخبث العارف ضاحكة ضحكة رافقتها‬

‫‪32‬‬

‫‪ -‬نسي الطريق شجرة هنا هل انتبهت؟‬

‫أي سؤال‪ ،‬وكانت معي يخفق قلبها عندما تأخذ‬ ‫ولم تسأل تلك الشقية ّ‬


‫عوة‬ ‫د‬

‫عدنان حميدة‬

‫تدعو الكتاب والمفكرين العرب‬ ‫إلى المشاركة في محاورها وملفاتها القادمة‬

‫حال الكتاب العربي‬ ‫كيف تنشر الكتب‬

‫في العالقة بين الكاتب والناشر والقارئ‬

‫االستبداد الشرقي‬

‫دور الحاكم المستبد‬ ‫في صناعة االستبداد الديني‬

‫الشعر والتجريب‬

‫هل وصل التجريب الشعري العربي‬ ‫إلى حائط مسدود‬

‫الكتابة النسائية العربية‬

‫الرجل الوحيد الذي أهداني الورد في حياتي‪ ،‬غير أبي‪.‬‬

‫أتأمّ ل في المساء الورود التي ما رأيت أجمل منها في حياتي كانت‬ ‫ً‬ ‫جيدا كيف‬ ‫من النوع الجوري كثيرة النضارة وعزيزة الرائحة تعرف‬

‫تصيد القلب يسحرها وتأسره‪.‬‬

‫كررت صباحاتي وما عاد البستاني ينتظر وال الورود‪.‬‬ ‫‪ -‬هل خدشت حياء الوردة؟‬

‫ ال أظن‪ ،‬لم أتفوّ ه بكلمة‪ ،‬شعرت أن الكالم يَفسد بمثل هذه اللحظات‪.‬‬‫‪ -‬إذن أين ذهب البستاني؟‬

‫‪ -‬ال أعرف ربما هو اآلخر هرب من حالة الحرب التي تتوجسنا وذهب‬

‫ليو ّدع طفولته‪.‬‬

‫بعد مدة سمعت النسوة يحدثن الخيوط التي يغزلنها للحياكة‪ ،‬أن‬

‫البستاني الرجل الغريب الذي مرّ من هنا وسقى الحياة‪ ،‬قد أصابته‬

‫هل تكتب النساء العربيات بلغة الرجل‬ ‫أم أن اللغة بال جنس‬

‫الكتابة والجسد‬

‫الجسد والجنس في اإلبداع العربي المعاصر‬

‫الصحافة الثقافية العربية‬

‫أحوالها‪ ،‬توجهاتها‪ ،‬عالقتها بالكتاب والقراء‬

‫‪.‬‬

‫رصاصة قناص في رأسه بينما كان ذاهبا ليودع ذكرياته‬ ‫ً‬ ‫ورودا كرزية مألت الحافلة التي اصطاده‬ ‫الغريب أن دماغه فاض‬ ‫القناص منها‪ ،‬وقالوا إنه عندما حاولوا أن يلموا جثته صار غبار طلع‬

‫ولم يعرف أحد أين دفنوه‪.‬‬

‫عدت إلى المزهرية في بيتي وجدت الوردة الجورية األخيرة التي‬

‫أعطاني إياها جفت على لونها ولم تمت‬

‫‪ ‬كاتبة من سوريا‬

‫فكر حر وإبداع جديد‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪33‬‬


‫شعر‬

‫ظل لشخصين‬ ‫مريم حيدري‪ /‬لميس سعيدي‬

‫ُه َنا َخل َْف ال َك ِل َم ِ‬ ‫السا ِب َق ِة‬ ‫ات َّ‬ ‫تَ ْح َت ال ُب َقعِ َواآلث َا ِر ال ِتي كُ ْن ُت أَن َْسا َها‬ ‫السطُو ِر‬ ‫ك ُّ​ُل َم َّر ٍة بَ ْي َن ُّ‬ ‫فَتَ ُدلُّ ُك ْم َعلَى ُح ْف َرتِي‪.‬‬ ‫‪*** ‬‬ ‫ت َْستَ ِطي ُع أَ ْن تَضَ َع كُ ْر ِس َّي َك ال َخشَ ب َِّي أَ َما َم‬ ‫َه ِذ ِه الق َِصي َد ِة‬ ‫َوتظُ ُّن أَن ََّك أَن َْت َم ْن أَتَ ْي َت َم ِعي‬ ‫َخ َر ْج َت َو ِحي ًدا‬ ‫َو َع َّريْ َت ال َم ِدي َن َة ال َّنائِ َم َة بَ ْي َن أَفْ َخا ِذ‬ ‫ال َب ْح ِر َوال َج َبلِ‬ ‫َوأَ َّن َهذَا ال َما َء ِ‬ ‫الذي يُ َبل ُِّل اآل َن َه ِذه‬ ‫ال َك ِل َمات‬ ‫َما ُؤ َك‪.‬‬ ‫***‬ ‫كُ ْن ُت أَكْتُ ُب الشِّ ْع َر كَ َم ْن يُ َرا ِه ُن َعلَى‬ ‫َح َيا ٍة َخ ِاس َر ٍة‬ ‫ث ُ َّم َم َّر ال ُح ُّب َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف‬ ‫َو َم َّر ال ُح ْز ُن َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف‬ ‫َو َم َّر األَلَ ُم َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف‬ ‫َو َم َّر ال َف َر ُح َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف‬ ‫َو َم َّر الشَّ غ َُف َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف‬ ‫َو َم َّر األَ َم ُل َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف‬ ‫َو َم َّر ال ُحلْ ُم َسرِي ًعا َوت َوق ََّف‬ ‫َو َم َّر ال َم ْوتُ َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف‬ ‫َو َم َّر ال َوق ُْت َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف‬ ‫‪34‬‬

‫ث َ َّم َة ِظ ٌّل فَ َق ْط‬ ‫َو َم َّر الشِّ ْع ُر َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف‬ ‫ِيق نَ ْح َو ُح ْف َر ِة ال َملَكُوت‪:‬‬ ‫َو ْاستَ َم َّرت ال َح َياة…‬ ‫يُ َو ِاص ُل الطَّر َ‬ ‫بَ ِق َّي ُة أَ ْحالَ ِمي‪:‬‬ ‫‪*** ‬‬ ‫ال ُو ُص ُ‬ ‫اب‬ ‫ول إِلَى ُذ ْر َو ِة ال ُح ِّب َو ِحي َد ًة‬ ‫لَ ْي َس لِألَل َِم بَ ٌ‬ ‫الس َج َنا ُء أَ ْو َم َع اث ْ َن ْينِ‬ ‫فَ َق ْط شَ َباب ُِيك ضَ ِّي َق ٌة يُ ِط ُّل ِم ْن َها ُّ‬ ‫ُعشَّ ٌاق ِبالَ َز ْو َج ٍ‬ ‫ات‬ ‫بَ ْعضُ ُه ْم َعلَى بَ ْع ٍض‪.‬‬ ‫وس يَتَ َم َّو ُج ِفي َها األَ ْح َم ُر َعلَى َر ِص ٍ‬ ‫يف‬ ‫‪*** ‬‬ ‫كُ ُؤ ٌ‬ ‫ِحي َن أُ ْغ ِم ُض َع ْي ِن َّي‪ ،‬أَق ِْذ ُف شَ ْم ًسا قَرِي َب ًة ِفي طَ ْه َرا َن‬ ‫الص ِغي َر َة‬ ‫ِفي َس َمائِك‬ ‫ال ُغ َبا ُر َو ْه َو يُ َغطِّي ِخ َيانَاتِي َّ‬ ‫َو ُص َر َ‬ ‫اخك‪.‬‬ ‫لِك َْي الَ تَ ْم ِشي َو ِحي ًدا ِفي الظَّالَم‬ ‫‪*** ‬‬ ‫‪*** ‬‬ ‫ِظلِّي‪َ ..‬غ ْي َر أَنَّ ُه يَ َّد ِعي أَنَّ ُه ِظ ُّل شَ ْخ ٍص‬ ‫لَ ْي َس لِلظُّ ُنونِ شَ َباب ُِيك ت ُِط ُّل َعلَى أَل ٍَم‬ ‫آ َخ َر‬ ‫َو ِاض ٍح أَ ْو فَ َر ٍح‬ ‫ُوب فَ َق ْط‬ ‫‪ ‬يقف قبالتي‪ ،‬ينفخ دخان سيجارته في‬ ‫ث َ َّم َة ثُق ٌ‬ ‫تَ ْنظُ ُر ِم ْن َها بَ ْي َن ِحينٍ َوآ َخ َر‬ ‫وجهي ويرسل لي ابتسامات ضئيلة كما‬ ‫ِ‬ ‫يفعل األصدقاء في اجتماع رسمي‬ ‫وحي َن ت َُس ُّد َها ِبأَ َصا ِب ِع َك‬ ‫ال يكتفي بذلك‪ ..‬أحيانا‪ ‬ي ّدعي أنه‬ ‫ت َْس ُق ُط الشَّ ْم ُس فَ ْو َق َرأْ ِس َك‬ ‫فَتَ ْكتَ ِش ُف أَ َّن ُه َن َاك َس ْقفًا فَا ِغ ًرا لَ ْم تَ ْنتَ ِب ْه شخص آخر‬ ‫لَ ُه‬ ‫يح ّرك شفاهه بلُغة تبدو أجنبية وفي‬ ‫الليل حين أدخل غرفة مظلمة وأختبئ‬ ‫أَ ْم ٌر الَ يُ َغ ِّي ُر أَ َّي شَ ْي ٍء ِفي َهذَا ال َّن ِّص‪.‬‬ ‫تحت الشراشف‪ ،‬يشعل شمعة ثم يُقبل‬ ‫‪*** ‬‬ ‫علي هائال كما األلم‬ ‫الَ ت َِص ُل الطُّ ُيو ُر الثَّالَث ُون َدائِ ًما إِلَى‬ ‫ّ‬ ‫ظلّي الطويل دائما‪ ،‬الذي يتج ّول في‬ ‫ال ِم ْرآة‬ ‫الظهيرة بينما أكون مستغرقة في‬ ‫قَ ْد تَ ُعو ُدو َن كُلُّ ُك ْم أَ ْد َرا َج ُك ْم‬ ‫َوتُ َو ِاصلُو َن ال َح َيا َة ِفي ال َها ِم ِش ال َها ِدئِ‬ ‫قيلولة قصيرة‬ ‫وبعد الزوال‪ ،‬لكي ال يالحظ أحد الفرق‪،‬‬ ‫ال َب ِع ِيد‬


‫حسني جمعان‬

‫أضط ّر الرتداء كعبي العالي‬ ‫ظلّي الذي ال عط َر ل ُه غير أنه يثير‬ ‫التراب كمطر آب‬ ‫ُربَّ َما لَيس ظلِّي‪ ..‬ق ْد أكون ُمخطئ ًة‬ ‫ربّما هو ُصورتِي في مدين ٍة أ ْخرى‬ ‫(مدينتي هي المدينة التي ال أضط ّر‬ ‫فيها ألخذ صور للذكرى)‬ ‫تمثال لشاعر يقف السائح األجنبي‬ ‫أمامه طويال وهو يبحث عن اسمه‬ ‫المجهول في لوحة رخامية‬

‫وقد يتب ّول عند قدميه سكّير في آخر‬ ‫الليل‬ ‫صورتي التي تحمل اسما آخر‪ ،‬ثقيال‬ ‫بالتاريخ واألساطير‬ ‫أما أنا‪ ،‬فبالكاد أحمل اسمي الهش‬ ‫بالسين والياء‬ ‫صورتي التي توضع على هوية أخرى‬ ‫ويحلم‪ ‬بها رجل ال أعرفه‬ ‫رجل يمشي منذ زمن بعيد‪ ،‬وحيدا‪،‬‬ ‫تحت شمس حارقة‪.‬‬

‫‪*** ‬‬ ‫ُه َنا يَ ِص ُل‬ ‫يَ ِق ُف َعلَى ال َحافَّ ِة‬ ‫َويُ َغطِّي األَشْ َيا َء‬ ‫أَنْظُ ُر إِلَى األَ ْعلَى‬ ‫أُنَا ِدي‪ :‬لَ ِميس!‬ ‫ِيق‬ ‫َه ْل كُ ْن ِت تَ ْع ِر ِفي َن الطَّر َ‬ ‫َدائِ ًما؟‬ ‫‪ ‬شاعرة من إيران وشاعرة من الجزائر‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪35‬‬


‫أصوات‬

‫حين‬

‫تناسخ األصنام‬ ‫أحمد إسماعيل إسماعيل‬ ‫حطم أتباع الدين الجديد في بالد العرب األصنام في‬ ‫ً‬ ‫قرنا‪ ،‬بقصد إلغاء‬ ‫الكعبة ومكة قبل أكثر من أربعة عشر‬

‫والمتمثلة في رجال الدين‪ ،‬قابل للفهم‪ ،‬ألسباب شتى‪ ،‬منها ما يتعلق‬

‫الوحيد‪ ،‬والشرعي‪ ،‬لم يدرْ بخلد أحدهم أن ما نفخ الناس في هذه‬

‫حتى تسللت إلى كل مفاصل الحياة‪ ،‬حتى بات من الصعب فرز ما‬

‫تجسيد األلوهية في األرض‪ ،‬وإعادتها إلى السماء والله‪ ،‬مالكها‬

‫األصنام من أرواح ستنتقل في عملية أشبه بالتناسخ إلى أجساد‬ ‫ً‬ ‫وتأثيرا من تلك‬ ‫أخرى‪ ،‬بشرية هذه المرة‪ ،‬لتمارس سلطة أكثر قوة‬

‫ببؤس تلك المجتمعات التي تسود فيها الخرافات وتزداد األوهام‬ ‫هو ديني عمّ ا هو خرافي‪ ،‬فإن ظهورها وترسيخ وجودها في الحقل‬

‫الوطني والقومي‪ ،‬يفتح باب األسئلة مُ شرّ عة على األسباب والمآالت‪،‬‬

‫األحجار التي كانت في داخلها‪ ،‬وذلك عبر أتباع وأشياع يملكون من‬ ‫ً‬ ‫قديما‪ .‬المفارقة هنا‬ ‫الوسائل ما لم تكن تملكه تلك الهياكل واألشكال‬

‫خاصة إذا علمنا أن القومية‪ ،‬ال غيرها من نظريات وأيديولوجيات‪..‬‬

‫المجهول‪ ،‬وبالبعد عن الحضارة وغياب الفكر‪ ،‬بعكس العصور التالية‪،‬‬

‫الكبرى في حياة المجتمعات العربية‪ ،‬وحتى المجتمعات الشرقية‪ ،‬كما‬

‫ً‬ ‫قديما ارتبطت بحالة الجهل والرهبة من‬ ‫تكمن في أن عبادة األصنام‬ ‫التي أصبح للفكر فيها دور راح يتغلغل في كل مفاصل الحياة البشرية‬ ‫وينيرها‪ ،‬وأخذ المفكرون والفالسفة المتكاثرون يعرضون كل شيء‬

‫للبحث والدرس والتأمل‪ ،‬دون أن يؤثر ذلك على وجود األصنام‬ ‫الجديدة أو حتى مشروعيتها‪ ،‬عدا بعض ما ذهب إليه ّ‬ ‫قلة منهم في‬ ‫ما كتبوه من أدب أو فكر‪ ،‬بشكل مغلف بالرمز واإليهام كما فعل ابن‬ ‫المقفع حين ترجم كتاب كليلة ودمنة‪ ،‬وفي مغامرته كتابة رسالة إلى‬

‫لما يشكله هذا الجانب من أهمية ومركزية في صياغة ثقافة الناس‪،‬‬

‫هي القطب الشريك للدين في صياغة ضمائر الناس وخياراتهم‬

‫يؤكد المفكر السعودي عبدالله الغذامي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تجل لهذه الحالة في فترة الخمسينات ونهاية الستينات‪،‬‬ ‫نجد أفضل‬ ‫والتي تجسدت في شخصية الزعيم جمال عبدالناصر أكثر من غيره‪،‬‬ ‫وما أحيط بها من هاالت ال تختلف عن تلك التي كانت ُتحاط بأصحاب‬ ‫الطرق الصوفية من رجال الدين‪ .‬وذلك من خالل تجسيده للمشروع‬ ‫القومي العربي‪ .‬والذي لم يستمر طويالً‪ ،‬إذ سرعان ما تحطم جزء‬

‫كبير منه‪ ،‬المشروع وصاحبه‪ ،‬إن لم يكن ّ‬ ‫كله‪ ،‬في نكسة حزيران ‪،1967‬‬

‫الصحابة‪ ،‬مما أثار غضب األصنام واالنتقام بأسلوب يدلل على طبيعة‬ ‫قلوبها التي ُقدت من صخر‪.‬‬

‫فانتقل هو‪ ،‬بكامل عظمته‪ ،‬إلى ذمة التاريخ وأرشيفه‪ ،‬وبقيت الثقافة‬

‫واإليمان التي أصبح الفكر فيها زندقة‪ ،‬والفكرة عورة ال يجوز لها‬

‫جاءت بعده‪ ،‬تتص ّدرها شخصية الرئيس العراقي صدام حسين‪ .‬البطل‬

‫فكان من الطبيعي‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬أن تنتشر بعدها ثقافة النقل‬

‫أن تخرج مجردة من رداء العاطفة الفضفاض‪ ،‬بل من حجاب ونقاب‬

‫ثقافة النقل‪ ،‬لتكبر هذه الكرة في تدحرجها على دروب تحرسها عيون‬

‫العسس‪ ،‬وسيوف أشباح مرعبة‪ ،‬حتى أصبح الرداء في أزمان تالية‬ ‫ثقافة‪ ،‬ثقافة فيها رداء الفكرة والمشروع يتقدم في أهميته الفكرة‬

‫ذاتها‪ ،‬كما هو الحال بالنسبة إلى الزي الذي أصبح عالمة كبرى على‬

‫هوية صاحبه‪ ،‬ومواقفه الفكرية والدينية والسياسية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫عاريا فيها وال تتم معاقبته سوى‬ ‫ثقافة ال أحد يحق له أن يظل‬ ‫األصنام‪ ،‬عري ال يشبه في شيء عري إمبراطور أندرسن الذي فضخه‬

‫طفل بريء‪ ،‬بل يؤكد تميز أصحابها وتجاوزهم لشرطهم اإلنساني‪،‬‬

‫في تماثل لشخصيات أسطورية من طراز أخيل وهرقل وجلجامش‬ ‫وأبطال المالحم الشعبية في تجسيدهم لقيم البطولة والتسامح‬

‫والشهامة والوطنية والمعرفة‪ ..‬وحتى الخلود‪.‬‬

‫القديمة الجديدة التي أنتجته تتجدد في شخصيات سياسية أخرى‬ ‫القومي والمحرر ورمز المقاومة لدى شرائح واسعة من أبناء الشعب‬ ‫العربي في أكثر من بلد عربي‪ ،‬والذي تنادى الناس بعد موته‪ ،‬المثير‬ ‫للجدل‪ ،‬والمشاعر المذهبية والقومية‪ ،‬لرؤية صورته مطبوعة على‬ ‫ً‬ ‫وجه القمر‪ .‬والذي هوى بدوره في التاسع من نيسان‪ ،‬تمثاالً‬ ‫وصنما‪،‬‬

‫لتتساقط بعده أصنام أخرى حاولت هذه الثقافة إضفاء هاالت مماثلة‬

‫عليها‪ ،‬فلم تحقق ما تحقق لهذين القائدين ألسباب يطول شرحها‪.‬‬

‫من اإلنصاف القول إن هذه الثقافة لم يقتصر وجودها على المجتمع‬

‫العربي في أقطاره المختلفة‪ ،‬بل تكاد تشمل غالبية شعوب شرقنا‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫والكرد‪ ..‬وفي أصقاع أخرى منها كوريا‬ ‫حاليا والترك‬ ‫المتوسط‪ ،‬الفرس‬

‫في الجزء الشمالي منها‪.‬‬

‫بل إنها كانت حتى األمس القريب منتشرة في أكثر من بلد أوروبي‪،‬‬

‫ومتجسدة في شخصيات وأصنام مألت الدنيا وشغلت الناس أمثال‪:‬‬

‫فهذا الزعيم منقذ وطنه وقاهر الوحش المتربص بالوطن‪ ،‬وذاك‬

‫معبود ألمانيا النازية أدولف هتلر وأبو الشعوب السوفييتية جوزيف‬ ‫ً‬ ‫تاليا لهذه‬ ‫ستالين وبدرجة أقل موسوليني وفرانكو‪ ،‬غير أن ما حدث‬

‫له‪ ،‬وكاشف عن عريه أو حقيقة ما جبل عليه‪ ،‬بمثابة خيانة وزندقة‬

‫في حياتها‪ ،‬إيجابية‪ ،‬تجعل أمر حدوث ذلك في شرقنا المتوسط‪،‬‬

‫القائد رسول الحرية والعدالة‪ ،‬فارتبطت حياة األوطان وسالمتها‬ ‫واستقرارها بحياة ووجود هذا الصنم أو ذاك‪ ،‬وسيكون كل معارض‬

‫وتخلف حضاري وكفر وانحطاط أخالقي‪ ..‬في تكفير عصري مماثل‪،‬‬

‫من حيث الجوهر والهدف‪ ،‬لمن كان يتقلب على دين آبائه في زمن‬ ‫ِّ‬ ‫بحد السيف‪.‬‬ ‫مضى‪ ،‬والذي أحياه السلفيون المتشددون وانتهجوه‬

‫‪36‬‬

‫إذا كان وجود األصنام في تجلياتها األخيرة في المجتمعات المتخلفة‪،‬‬

‫المجتمعات بعد تحطم تلك األصنام من تغيرات وتحوالت هائلة‬ ‫بعد تحطم األصنام‪ ،‬والجارية اليوم‪ ،‬على قدم وساق‪ ،‬وبأيادي دعاة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واردا‬ ‫أمرا‬ ‫الحرية المضرجة بالدم‪،‬‬

‫كاتب مسرحي من سوريا‬


‫بطرس املعري‬

‫حال اللغة العربية‬ ‫استهالل ودعوة‬

‫تهدف المقاالت المنشورة هنا إلى فتح ملف اللغة العربية في عالقتها بالزمن والناس‪ ،‬بالعلم‬

‫واإلبداع‪ ،‬بالفكر والمستقبل وباللغات األخرى‪ .‬في محاولة أولى من «الجديد » لمعرفة حال اللغة‬ ‫العربية اليوم وطبيعة المشكالت التي تواجهها بالنسبة إلى اللغوي واألديب واإلعالمي والقارئ‪،‬‬

‫وفي محاولة إلدراك سبل حل هذه المشكالت على صعيد إنتاج المصطلح المالئم لما ينتجه الزمن‬ ‫ّ‬ ‫مقصرة عن التعامل‬ ‫من أفكار ومصطلحات في لغات أخري وتجد اللغة العربية نفسها عاجزة أو‬ ‫معها أكان ذلك من باب استيعاب المصطلحات الجديدة‪ ،‬عبر استدخال المصطلح في القاموس‬

‫بعد أن شاع وجرى تداوله‪ ،‬أو نحت مصطلح مواز له في اللغة العربية‪.‬‬

‫لكن مقاالت هذا الملف ال تقتصر على ما نشير إليه هنا‪ ،‬فهي تتجاوزه لتنظر في وضع اللغة العربية‬ ‫في مجتمعات عربية تزخر بأقوام وإثنيات تملك لغاتها التي لم تحل إشكالية عالقتها بالعربية أو‬ ‫عالقة العربية بها كاألمازيغية في الشمال األفريقي‪ ،‬أو الكردية والسريانية في المشرق العربي‪،‬‬ ‫فضال عن مسائل من قبيل مدى قدرة اللغة العربية علي إنتاج فكر وإبداع عربيين جديدين في ظل‬ ‫تحديات عصرية غير مسبوقة‪ ،‬وفي ظل صراعات فكرية واقتصادية وسياسية ولغوية عالمية‬

‫بالغة التعقيد‪.‬‬

‫هذا الملف عتبة ودعوة في الوقت نفسه لتكريس عدد كامل من الجديد لحال اللغة العربية اليوم‪.‬‬ ‫قلم التحرير‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪37‬‬


‫ملف‬

‫معضلة المصطلح‬ ‫في الثقافة العربية‬ ‫اليامين بن تومي‬ ‫مما ال شك فيه أن اللغة العربية اليوم تعاني من وضع صعب في ظل العجز الرهيب الذي يمنعها من متابعة مختلف التطورات‬ ‫ً‬ ‫سقفا رمزيا عولميا خارج لغتنا العربية‪ ،‬فهي لغة‬ ‫العلمية والمعرفية‪ ،‬أو أن تكون لغة العصر‪ ،‬سواء شئنا أم أبينا فنحن نعيش‬ ‫مُ شبعة ميتافيزيقيا ووجدانيا وتحتاج إلى ٍّ‬ ‫كم من التحييد لهذه الشحنة الالهوتية من أجل أن تكون لغة علم‪ .‬بل إن األمر ال‬

‫يقتصر على عجز المستعملين لهذه اللغة على المضي بها قدما نحو أن تكون لغة علم‪ ،‬بل وأن تساير على األقل العصر الحديث‬

‫حتى أن المرء يشعر كأن هناك موانع داخل اللغة ذاتها تمنعها من اإلبداع العلمي‪ ،‬أو كأن هناك عوامل خارجية تشتغل بقوة لثني‬

‫اللغة العربية عن الدخول في التجارب الفعالة ما يعني أن لغتنا تعاني مأزقا حقيقيا على مستوى أفق الرؤية‪ ،‬وكذلك على مستوى‬

‫المصطلح‪ ،‬وهي إشكالية متعددة األبعاد لها ثالث مستويات وهي‪ :‬مستوى الرؤية‪ ،‬والمنهج والمصطلح‪.‬‬

‫لقد‬

‫عالجت دراسات وأبحاث كثيرة‬

‫قد شرحه جيدا الفيلسوف المغربي طه‬

‫جعل الفيلسوف األلماني هيدغر يقول بأن‬

‫هذه المسألة في ارتباطها ببنية‬

‫في تربة اللغة العربية‪ ،‬ولعل هذا الوضع‬

‫ارتباطها بحالة المجتمع الجديد والرهانات‬

‫عبدالرحمن حين نظر في ترجمة أو تعريب‬

‫اللغة العربية ومرجعياتها األصلية‪ ،‬وفي‬ ‫التي باتت تهدد اللغة ذاتها‪ ،‬ذلك ألنه من‬

‫الصعوبة بمكان فصل الكلمة المترجمة إلى‬ ‫اللغة العربية عن حمولتها األيديولوجية‬

‫والالهوتية‬

‫واالجتماعية‪،‬‬

‫وبالتالي‬

‫فإن‬

‫انتقال المصطلحات إلى اللغة العربية تفتح‬

‫لها مجاال جديدا بفضل الحمولة الثقافية للغة‬

‫المنقول منها‪.‬‬

‫الكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر إذن أنا‬

‫موجود” بشكل أدى إلى هدم المعمار الفلسفي‬

‫لديكارت‪ ،‬وذلك جراء عدم انسجام هذه‬ ‫العبارة االصطالحية في ترجمتها للعربية مع‬

‫العلمية‪ ،‬ولكي يتم نحت المصطلحات في‬

‫أي لفظة تعبر عن معنى‪ ،‬والمترجم يحوّ ل‬ ‫ّ‬ ‫عبر عنه الغزالي‬ ‫المعاني إلى ألفاظ‪ ،‬وهذا ما ّ‬

‫محمد عابد الجابري في أبحاثه حيث طرح‬

‫صور تنطبع في األذهان‪ ،‬وهو منطوقات‬

‫العربية واألسباب التي أدت بها إلى هذه‬

‫جديدة في جسدها‪ ،‬ولكنه بقدر ما تثري‬

‫ذلك إلى صعوبة نحت وصياغة مصطلحاتها‪،‬‬

‫الحية المتطورة فهما عميقا لمصطلحاتها‬

‫يجب أن تتوفر فيها‪ ،‬وهذا ما ناقشه الدكتور‬

‫على اللسان”‪ ،‬وهذا يعكس أن العالم له‬

‫على اللغة المترجم منها‪ ،‬ويعود السبب في‬

‫وإليها ألن كل لغة تعكس رؤية العالم الذي‬

‫ألن الترجمة ال تراعي الشروط اللغوية فقط‬

‫في هذا السياق يمكن القول بأن الترجمة‬

‫وتشن الحرب‬ ‫أيضا الخيانة لثقافة اآلخر‬ ‫ّ‬

‫أن نحترم خصوصيات اللغة المترجم منها‬

‫اللغة المترجم إليها يتوجب علينا استيعاب‬

‫في قوله “إن ما هو موجود في األعيان له‬

‫الترجمة اللغة العربية‪ ،‬فإنها تحمل معها‬

‫بناء عليه؛ فإنه عندما نترجم ينبغي علينا‬

‫العربية في هذه الجملة التالية وهي “أنظر‬

‫وهكذا وجدنا الكوجيتو يختزل في الترجمة‬

‫ينطبق عليها المثل القائل “مكره أخوك ال‬

‫هي التي ستمكن اللغة العربية من ضخ دماء‬

‫الوجود‪.‬‬

‫ولكيفية اشتغالها وتطبيقها على الحقول‬

‫بل فإنها تراعي كذلك الشروط الفكرية‪ ،‬ألن‬

‫أن تبقى على هامش الثقافة اإلنسانية‪.‬‬

‫اللغة أخطر النعم‪ ،‬بل ويرى أن اللغة مثوى‬

‫المقصد الفلسفي العميق للفيلسوف ديكارت‪.‬‬

‫أمام هذا الوضع الصعب والمعقد تجد اللغة‬

‫بطال”‪ ،‬حيث يستحيل على الثقافة العربية‬

‫التي يُ عتمد عليها في فهم العالم‪ ،‬وهذا ما‬

‫نشأت فيه‪ ،‬هذا وتتطلب الترجمة من اللغات‬

‫تجد” بحسب تعبير طه عبدالرحمن‪.‬‬

‫العربية نفسها في حالة عسيرة‪ ،‬وهكذا‬

‫‪38‬‬

‫خصوصا تلك المصطلحات التي لم تنبت‬

‫الدراسات واألبحاث أصبحت اللغة الركيزة‬

‫وأي تحليل للذهن‬ ‫صورة تنطبع في الذهن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سيجعلنا بصدد تحليل اللغة كما يقول‬ ‫علماء فلسفة اللغة من أمثال غتلوب فريجه‬

‫‪.‬‬

‫وبرتراند راسل وفيجنشتاين ومع تطور‬

‫وتمثل قوانين اللغة ذاتها وشروطها التي‬

‫مسألة مثيرة للجدل حين درس نظام اللغة‬ ‫الوضعية التي يصعب فيها أن تصبح لغة‬ ‫علم‪ ،‬وفي هذا السياق نجده يتساءل‪ :‬هل‬ ‫اللغة العربية لغة مفاهيم أم أنها َّ‬ ‫وقافة عند‬ ‫األلفاظ فقط؟‬

‫ينبغي التذكير هنا أن المجامع العربية قد‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫بطرس املعري‬ ‫حاولت كثيرا أن تتجاوز هذه المعضلة‬

‫بإرسائها الستراتيجية تتحكم في ضبط‬ ‫المصطلح‪ ،‬لكن هذه الجهود قد اصطدمت‬

‫ال يزال عندنا خارج دائرة االستعمال‪ ،‬ألن‬

‫العرب لم يشاركوا بشكل جدي وفعّ ال‬ ‫في بناء السقف الرمزي الحالي للعالم‪ ،‬بل‬

‫العربية اآلن هي أنها تعاني خلال وظيفيا‪،‬‬ ‫حيث أن هناك هوة سحيقة بينها وبين لغة‬ ‫العالم الحديث‪ ،‬أي أن المستعملين لهذه اللغة‬

‫بحواجز كثيرة وذلك نظرا لعدم االلتزام‬

‫فإنهم قد بقوا خارجه وصاروا يعيشون في‬

‫العربية لم يتجانسوا مع الوضعية المعرفية‬

‫السياسية بين الدول القطرية التي حالت‬

‫المصطلحي في شكل تجميع سخيف لعدد‬

‫المصطلحات فقط‪ ،‬بل إنها توجد داخل اللغة‬

‫باستراتيجية موحدة‪ ،‬أو بسبب المشكالت‬

‫دون تنسيق الجهود فيما بينها‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫عزلة عنه وجراء كل هذا فقد كان بحثهم‬

‫من المصطلحات دون أن تكون لديهم‬

‫ويمكن لنا إعادة أسباب هذا العجز أساسا إلى‬

‫فعالية علمية في اختبار المصطلحات‪ ،‬ولعل‬

‫أن الفارق‬ ‫ممّ ا جعلها تبقى منفصلة عنها‪ ،‬أي ّ‬

‫المصطلحات وإحصائها كما هو الحال مع‬

‫عدم استخدام المصطلحات في الحياة العامة‬

‫بين اللغات الحية واللغة العربية‪ ،‬يتمثل في‬

‫أن اللغات الحية لغات استعمالية وتداولية‬

‫يومية‪ ،‬بينما اللغة العربية لغة جامدة في‬

‫هذا ما أدى بالعرب إلى وضع بنك لتجميع‬

‫البنك السعودي للمصطلحات العلمية‪ ،‬وهذا‬

‫يجعل هذه البنوك أو المعاجم بعيدة عن ساحة‬

‫‪.‬‬

‫للعالم الجديد أي أن المشكلة ال تتمثل في‬

‫ذاتها التي تنتمي حضاريا إلى العالم القديم‪،‬‬

‫حيث لم يهتم مستعملوها بتخليصها من تلك‬ ‫الشحنات الوجدانية التي تطفو على السطح‬

‫كل مرة في صورة شوفينية بالغة في التضخم‪،‬‬ ‫بسبب التعامل معها كلغة الكتاب المقدس أو‬

‫‪.‬‬

‫لكونها تعتبر لغة أهل الجنة إن عدم االنتقال‬

‫التداول اليومي‪ ،‬فضال عن غياب تجانس‬

‫باللغة العربية من وضع قديم إلى وضع جديد‬

‫من الداخل‪ ،‬وهذا ما أدي إلى انشطار اللغة‬

‫إبداعه ألن الثقافة العربية لم تتجاوز في‬

‫الحديث هو الذي أدى إلى تلك العوائق وهي‬

‫يومية دارجة واستعمالية يصعب معها إيجاد‬

‫وهذه عملية تبحث عن إيجاد مقابل لأللفاظ‬

‫االنتماء إلى العصر الحديث‪.‬‬

‫قوالب قديمة‪ ،‬حيث لم تتم معالجة اللغة‬

‫العربية بين نموذج فصيح قديم‪ ،‬وبين لغات‬

‫اللغة التي يمكن أن تبني عليها الترجمة‬

‫رؤيتها الصحيحة للمصطلح‪.‬‬

‫ويالحظ كذلك أن المصطلح العلمي والفكري‬

‫فعلي بين وضع المصطلح وبين اختباره أو‬

‫تعاملها مع المصطلح حدود الجمع واإلحصاء‬

‫دون فهم ودون وعي‪.‬‬

‫إن اإلشكال الحقيقي ‪-‬فيما يقول الشاعر‬ ‫اللبناني يوسف الخال‪ -‬الذي تواجهه اللغة‬

‫تتجانس فيه مع قضايا وموضوعات العالم‬ ‫في جلها عوائق فقهية وبنيوية ترفض غالبا‬

‫ففي تقديري فإن اللغة العربية تعاني من‬

‫ثالث إشكاليات وهي‪ 1- :‬إشكالية متعلقة‬

‫بنسق اللغة العربية وانتمائها للعالم القديم‪.‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪39‬‬


‫ملف‬

‫لم يتأصل بشكل دقيق في الثقافة العربية‪،‬‬

‫تعرض إلشكالية الترجمة في الوطن العربي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وشخص‬ ‫وعاين حالها في الثقافة العربية‪،‬‬

‫‪ 2-‬إشكالية تتعلق بالتحديات التي ترسمها‬

‫‪ 3-‬إشكالية تتعلق بالترجمة وكيف نترجم وما‬

‫للمصطلح يتناسب مع خصوصيات الحقلين‬

‫خلص إلى القول بأنه ليس هناك إجماع‬

‫بما أن الحال هو هكذا فإنه من الالزم علينا‬

‫ترجمته في اللغة المنقول إليها‪.‬‬

‫المصطلح في الثقافة العربية‪ ،‬والتعامل مع‬

‫‪.‬‬

‫الثقافة الغربية على اعتبار أنها السقف‬

‫الرمزي للراهن‪.‬‬

‫هي حاجتنا للترجمة في راهننا؟‬

‫وضع عدة اعتبارات مبدئية لفهم إشكالية‬

‫الترجمة كسبيل يؤدي إلى إعادة انخراط‬ ‫اللغة العربية في عالم اليوم‪ ،‬من خالل إيجاد‬ ‫سبل علمية تعمل على تحريك فاعلية هذه‬

‫اللغة‪ ،‬وذلك من خالل ثالث توجهات أساسية‬

‫والهدف منها هو إغناء وإثراء الثقافة العربية‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬تجديد وعينا بالمسار النظري الغربي‪،‬‬

‫ولذلك فإن الترجمة ال يجب أن تعتمد المعنى‬

‫الحرفي بقدر ما يجب أن تعتمد تأويال معينا‬ ‫العلمي والعملي للمصطلح ذاته‪ ،‬ويتماشى مع‬

‫بين المترجمين العرب على طريقة واحدة‬

‫تجمعهم‪ ،‬لعدم وجود هدف مشترك بينهم‪،‬‬

‫أما اإلشكالية الثانية فهي وليدة تراث اللغة‬

‫ولعدم التنسيق فيما بينهم أيضا حول‬

‫أن نستخرج من داخل التراث اللغوي العربي‬

‫عبدالرحمن بين ثالث مستويات من الترجمة‪،‬‬

‫الثقافة العربية تتبناه بشكل سلس ويحفظ‬

‫هذا يقول “وحتى نبين صحة أنموذجنا‬

‫العربية وقوامها وهنا نتساءل‪ :‬كيف يمكننا‬

‫المعادل للمصطلح الغربي‪ ،‬الذي يجعل‬ ‫لهذه اللغة بنيتها ويحفظ للمصطلح حدود‬

‫اشتغاله األصلية دون أن نقع في التناقض‬

‫وثانيا‪ :‬تجديد طريقة التفاعل مع هذه‬ ‫ً‬

‫‪.‬‬

‫ميز طه‬ ‫موضوع الترجمة وبهذا الخصوص ّ‬ ‫ويشتغل كل مستوى في مجال محدد وعن‬ ‫النظري في الترجمة ذات المراتب النقلية‬

‫الثالث‪“ :‬التحصيل” و”التوصيل” و”التأصيل”‬ ‫نترك الخوض في عموم الترجمات التي‬

‫وضعت لجملة من نصوص ديكارت والتي‬

‫النظريات الغربية‪ ،‬وثالثا بيان معوقات‬

‫قام بها ثلة من المتفلسفة البارزين منهم‬

‫ترجمة المصطلح للثقافة العربية‪ ،‬وتح ّدي‬

‫محمد الخضيري‪ ،‬وعثمان أمين‪ ،‬ونجيب‬

‫الوضع البنيوي للغة ذاتها في حال عدم‬

‫‪.‬‬

‫بلدي‪ ،‬وكمال الحاج وجميل صليبا ومفاد‬

‫قبولها لمصطلح معين‪ ،‬خصوصا وأن العربية‬

‫من الالزم علينا وضع عدة‬

‫قول طه عبدالرحمن هو أن مشروع الترجمة‬

‫لذلك‪ ،‬فإن فهم المصطلح ووعي حدود‬

‫اعتبارات مبدئية لفهم‬

‫أيديولوجية سابقة على الهدف المعرفي‪،‬‬

‫والفوضى الرهيبة في نقل المصطلحات كما‬

‫إشكالية المصطلح في‬

‫الدليل على رأيه قدم لنا نموذجا لترجمة‬

‫لها ميزانها الخاص في سك المصطلحات‪.‬‬ ‫اشتغاله‬

‫نتفادى‬

‫يجعلنا‬

‫حالة‬

‫الخلط‬

‫‪.‬‬

‫نشهد ذلك في ساحتنا العربية إن المصطلح‬

‫كائن يحتاج منا مقاربة عميقة له باعتباره‬ ‫مكو ًنا لكينونة الكائن‪ ،‬وباعتباره كيفية‬

‫أساسية لوجوده ومقاربته للعالم ولذاته‪،‬‬ ‫لذلك تفرض علينا ترجمة المصطلح معوقات‬

‫جسيمة تلحق المصطلح ذاته كما تلحق بنية‬

‫‪.‬‬

‫اللغة المنقول إليها وبهذا فقد ترتبت على‬ ‫ترجمة المصطلح الغربي إلى اللغة العربية‬

‫إشكاليتان أساسيتان وهما‪:‬‬

‫‪ 1-‬اإلشكالية األولى وليدة المحمول الغربي‪.‬‬

‫‪ 2-‬اإلشكالية الثانية هي وليدة المأصول‬

‫بالنسبة إلى المترجم العربي يخضع لرؤية‬

‫مما يجعل ترجمته غير عميقة‪ ،‬ولكي يقيم‬

‫الثقافة العربية‪ ،‬والتعامل‬

‫المبدأ الديكارتي “أنا أفكر إذن أنا موجود”‬

‫مع الترجمة كسبيل يؤدي‬

‫اختلف المترجمون في فهم هذا المبدأ‬

‫وكيف تعامل معه المترجم العربي‪ ،‬حيث‬

‫إلى إعادة انخراط اللغة‬

‫بسبب اختالف في المنطلق فأفرغوا المبدأ‬

‫العربية في عالم اليوم‪ ،‬من‬

‫ثالثة أصناف بحسب النموذج الترجمي الذي‬

‫خالل إيجاد سبل علمية تعمل‬ ‫على تحريك فاعلية هذه‬ ‫اللغة‬

‫العربي‪.‬‬

‫من محتواه‪ ،‬وصنّف هؤالء المترجمين إلى‬

‫اعتمدوه وهي كالتالي‪:‬‬

‫ترجمة تحصيلية؛ وهي ترجمة ال تحفظ‬ ‫أي خاصية من خصائص التجديد‬ ‫في قوله ّ‬ ‫للفلسفة‬

‫‪.‬‬

‫ترجمة توصيلية وهي ترجمة تحفظ بعض‬

‫خصائص التجديد في الفلسفة‪.‬‬

‫أما اإلشكالية األولى فهي تجسد صراع‬

‫ترجمة تأصيلية؛ وهي أرقى أنواع الترجمة‬

‫المصطلح يحمل بداخله حمولة أيديولوجية‬

‫ما يراعي فيه المترجم حال خصائص اللغة‬

‫الرؤية الغربية مع نظيرتها العربية ألن‬ ‫وثقافية عن اللغة المنقول منها إلى اللغة‬ ‫المنقول إليها‪ ،‬والتي تتوفر هي األخرى‬ ‫على حمولتها األيديولوجية والثقافية‪ ،‬وهنا‬

‫ريكور بصراع التأويالت‪ ،‬حيث أنه في كثير‬ ‫من األحيان ال نجد مقابال دقيقا للمصطلح‬ ‫في اللغة العربية الختالف في طبيعة اللغة‬

‫أو النتيجة ألن الحقل الثقافي المدروس‬

‫ألنها تحفظ جميع خصائص التجديد‪ ،‬وهي‬

‫‪.‬‬

‫بين الحقل المعرفي للمصطلح داخل ثقافته‬

‫مع روح المعني و تأتي العبارة المترجمة‬

‫لقد عالج النقاد والفالسفة العرب وضعية‬

‫القيمة الفلسفية للكوجيتو‪.‬‬

‫أو الترجمة ال يعنيان أبدا استبدال كلمة‬

‫سنن اللغة المترجم منها وسنن اللغة المترجم‬

‫األصلية‪ ،‬وبين معادله في اللغة العربية؟‬

‫المصطلح وانتهوا إلى نتيجة وهي أن النقل‬

‫بأخرى‪ ،‬بل يعني استبدال ثقافة بثقافة‪.‬‬

‫وفي هذا اإلطار نجد الفيلسوف المغربي‬

‫طه عبدالرحمن قد عالج هذه المسألة حين‬

‫على موازين لغة العرب مع المحافظة على‬

‫وعليه‪ ،‬فإن المصطلح صناعة تشترط فهم‬

‫إليها‬

‫كاتب وأكاديمي من الجزائر‬

‫بطرس املعري‬

‫نلج حالة يسميها الفيلسوف الفرنسي بول‬

‫‪40‬‬

‫العراقيل المختلفة التي تعاني منها‪ ،‬حيث‬


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪41‬‬


‫ملف‬

‫اللغة والمعرفة‬ ‫والقيد الصدئ للحرية‬ ‫جاد الكريم الجباعي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإبهاما عمن يتكلمونها‪ ،‬ال من حيث كيفية نشوئها وتشكلها‪ ،‬أي انبثاقها‪ ،‬ونموها وتطورها‪،‬‬ ‫غموضا‬ ‫اللغة‪ ،‬حتى يومنا‪ ،‬لغز ال يقل‬ ‫ً‬ ‫فقط‪ ،‬بل من حيث ماهيتها وطابع عالقاتها بالمعرفة والفكر واآلداب والفنون والعلوم والتقنيات‪ ،‬والخرافات واألساطير‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫ومن حيث اقترانها بأفعال اإلنسان وأحكامه‪ ،‬وأحواله الفزيولوجية‪ ،‬والذهنية – النفسية الواعية وغير الواعية‪ ،‬وشروط حياته‬

‫االجتماعية‪ -‬االقتصادية والثقافية والسياسية واألخالقية‪ .‬فهي مالزمة للنشاط اإلنساني‪ ،‬ومن أبرز وجوهه‪ .‬وهي ما يمنح هذا‬

‫النشاط معانيه وقيمه‪.‬‬

‫تعنى‬

‫هذه المقاربة بإلقاء ما يمكن‬

‫إلقاؤه من ضوء على “طبيعة‬

‫اللغة” واشتمالها على اللسان‪ ،‬أو الكالم‬ ‫والحكي والقول والخطاب والرسالة والكتابة‬

‫‪..‬‬

‫والقراءة أو التأويل إلخ‪ ،‬على أنها‪ ،‬أي اللغة‪،‬‬

‫يسوّ غ‪ ،‬في نظرنا‪ ،‬البحث في أحوال اللغة‬

‫‪.‬‬

‫بمعزل عن أحوال من يتكلمونها نشير هنا‬

‫إلى أن النقص الخطير في تحليل أوضاع‬ ‫مجتمعنا ناجم عن إهمال التأثير الحاسم‬

‫انفصاح الذات اإلنسانية‪ ،‬ذات الفرد‪/‬الجماعة‪/‬‬

‫للبنى المعرفية‪-‬اللغوية في هذه األوضاع‬

‫وعلى أنها الشكل األعلى من أشكال تملك‬ ‫ُّ‬ ‫التملك فعل‬ ‫اإلنسان لعالمه‪ ،‬على اعتبار أن‬

‫والتعليم والتلقين األيديولوجي وأنظمتها‬

‫المجتمع‪ ،‬وانبساطها في العالم وفي التاريخ‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫بتبين‬ ‫إرادة‪ ،‬ال تكون إال حرة وتهتم‪ ،‬من ثمة‪،‬‬ ‫ُّ‬

‫وإعادة إنتاجها‪ ،‬من خالل مؤسسات التربية‬

‫المغلقة‪.‬‬

‫اللغة انبثاق[‪ ]1‬المعرفة من القوة إلى‬

‫وحدة المعرفة واللغة والحرية‪ ،‬مقابل وحدة‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من واقع‬ ‫المعرفة واللغة والسلطة‪،‬‬

‫ديناميكية‬

‫المقابلة بين وحدة المعرفة واللغة والحرية‬

‫طاقة حيوية ونشاط دماغي وقدرات نفسية‬

‫اللغة العربية وإمكانات نموها وتطورها في‬

‫أفق العصر‪.‬‬

‫وبين وحدة المعرفة واللغة والسلطة هي‬ ‫مقابلة بين الواقع والممكن‪ ،‬في مكان وزمان‬ ‫محددين‪ ،‬تكشف عن جذور االغتراب في‬

‫الطبيعة والدين والسلطة‪ ،‬وعن جذور‬

‫التسلط واالستبداد الضاربة في األعماق‬ ‫ً‬ ‫مركبا‬ ‫المبهمة للمعرفة‪-‬اللغة‪ ،‬وقد صارت‬ ‫تراثا ثقافياً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫رمزيا فائق التعقيد‪ ،‬يسمى‬ ‫ً‬ ‫حضاريا‪ ،‬يلقي بكل ثقله على الحياة‬ ‫أو‬

‫‪.‬‬

‫اإلنسانية إن كل ما يقيد اإلنسان يقيد‬

‫المعرفة‪ ،‬يقيد اللغة‪ ،‬سواء كانت القيود‬

‫‪42‬‬

‫‪.‬‬

‫داخلية أم خارجية‪ ،‬ذاتية أم موضوعية فال‬

‫الفعل‪ ،‬أو من اإلمكان إلى الوجود؛ وترجمة‬ ‫مستمرة‬

‫للمعلومات‬

‫الجينية‬

‫‪..‬‬

‫وأذواقها وقدرة كل منها على تأسيس ذاتها‬

‫وتحقيقها في الزمان والمكان‪ ،‬يصعب فرز ما‬ ‫ّ‬ ‫السجل عمّ ا هو إنساني‬ ‫هو شخصي في هذا‬

‫واجتماعي‪.‬‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬فإن تأسيس‬ ‫فاللغة ذوق وتذوق‬

‫الذات والسعي إلى تحقيقها وتمكينها هما‬ ‫مما يستدعي سائر العالقات المشار إليها؛‬

‫فالتبادل والتواصل‪ ،‬على سبيل المثال‬ ‫ً‬ ‫إنسانيا‬ ‫وسيلتان لتأسيس الذات وتحقيقها‬ ‫ً‬ ‫واجتماعيا‪ ،‬ال العكس‬

‫‪.‬‬

‫ذهب تشومسكي والتوليديون إلى أن‬

‫“دراسة اللغة يجب أن تقوم على دراسة‬

‫الخاصة باإلدراك والنطق ونشاط الحواس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ذكرا وأنثى‪ ،‬إلى‬ ‫في الشفرة الوراثية للفرد‪،‬‬

‫اللغة وإدراك رموزها وعالماتها واستعمالها‬

‫وذهنية وجسدية‪ ،‬ال ينفصل هذا النشاط‬

‫وثيقة بين علم اللغة وعلم النفس المعرفي‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫عن نشاط سائر الجسد ولكن هذه الترجمة‬

‫محكومة بالبيئة الطبيعية واالجتماعية‪ ،‬ال‬

‫‪.‬‬

‫العقل اإلنساني”[‪ ،]2‬ألن عمليات اكتساب‬

‫يعين عالقة‬ ‫كلها عمليات عقلية‪-‬نفسية‪ ،‬مما‬ ‫ّ‬ ‫تبين الطبيعة الفكرية للغة والطبيعة اللغوية‬ ‫ُّ‬ ‫تشكل الذات‬ ‫للفكر‪ ،‬وتبين أثر اللغة في‬

‫العكس فلغة التعبير بوجه عام‪ ،‬ولغة الكالم‬ ‫ّ‬ ‫يبين سيرورة‬ ‫والكتابة بوجه خاص‬ ‫سجل ّ‬

‫بمعناها الواسع‪ ،‬الذي يشتمل على النطق أو‬

‫المتنوعة بمواضيع فاعليتها وعملها من جهة‪،‬‬

‫ولعل دراسة الحاالت الخاصة‪ ،‬كحاالت‬

‫ً‬ ‫وفقا لعالقاتها‬ ‫تشكل الذوات اإلنسانية‪،‬‬ ‫وعالقاتها المتنوعة باألخريات واآلخرين‬ ‫وأشكال انفعالها واستجاباتها‪ ،‬من الجهة‬ ‫ّ‬ ‫وسجل رغباتها وأحالمها وأشواقها‬ ‫المقابلة‪،‬‬

‫وتكوُّ ن الشخصية‪ ،‬على أن تفهم اللغة هنا‬ ‫ً‬ ‫موضوعا للسانيات الحديثة‪.‬‬ ‫الكالم‪ ،‬وقد غدا‬

‫المكفوفين والصم والبكم ومن يعانون من‬ ‫“عيوب الكالم”‪ ،‬كالحبسة والتأتأة واللجلجة‬

‫واللعثمة‪..‬‬

‫تساعد في فهم اللغة بصفتها‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫بطرس املعري‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متعينا‪ ،‬وأثر الصفات الفردية والعامة‬ ‫تفكيرا‬

‫لمن يتكلمونها أو يتكلمنها في إنتاج الرموز‬

‫واإلشارات والعالمات‪ ،‬وفي عمليات تفسيرها‬

‫وتأويلها‪ ،‬أو في ما يسمى “فك الترميز‪.″‬‬

‫الكالم عمل واللغة حدوده؛ الكالم سلوك‬

‫واللغة معاييره؛ الكالم نشاط واللغة قواعده؛‬ ‫الكالم حركة واللغة نظامها؛ الكالم يُ حس‪،‬‬

‫ويُ درك‪ ،‬ويُ فهم‪ ،‬ويُ عقل؛ الكالم فردي‪ ،‬ولكن‬

‫اللغة اجتماعية‪ ،‬ألن المتكلم‪/‬ــة والسامع‪/‬‬ ‫ـــة طرفا هذا النشاط اإلنساني[‪ ،]3‬وكذلك‬

‫الكاتب‪/‬ـة والقارئ‪/‬ــة‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫األدبي والفني والجمالي‪ ،‬أو اعتبارها آلة‬

‫االصطفاء االجتماعي‪-‬السياسي‪ ،‬وال عن‬

‫وسائلها فهي من حيث مستوياتها الصوتية‬

‫والثقافة الشفوية‪ ،‬أو ثقافة العامة والدهماء‬

‫للعقل والمنطق‪ ،‬أو أداة للسلطة ووسيلة من‬

‫‪.‬‬

‫والتركيبية والداللية سلطة بذاتها‪ ،‬هي سلطة‬ ‫المعرفة‪ ،‬تتضمن رؤية للعالم‪ ،‬ال “أداة سلطة‬ ‫وتسلط على النفوس والعقول‪ ،‬أو أداة َسوْ س‬

‫‪.‬‬

‫وسياسة”[‪ ]4‬فإن اعتبار اللغة أداة أو وسيلة‬ ‫ال يستبعد اعتبار اإلنسان نفسه أداة ووسيلة‪،‬‬ ‫على نحو ما تنظر السلطات المستبدة إلى‬

‫رعاياها‪ ،‬وعلى نحو ما تعاملهم‪.‬‬

‫هذا يقتضي التفريق بين سلطة المعرفة‬

‫جدلية الثقافة “الرفيعة” الموسومة بالكتابة‬

‫والرعاع‪..‬‬

‫أو بين الثقافة المكرسة والثقافة‬

‫غير المكرَّ سة واللغة المكرسة واللغة غير‬

‫المكرَّ سة‪.‬‬

‫نلفت النظر إلى أن ما يقال عن ذكورية اللغة‬

‫الفصحى وذكورية علوم اللغة‪ ،‬القديمة ومنها‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وذكورية العلم عامة‪ ،‬ليست‬ ‫والحديثة‬ ‫ً‬ ‫شيئا آخر غير ذكورية السلطة المركزية‬

‫وذكورية الثقافة المركزية‪ .‬اللغة ليست‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫محايدا للعلم‪ ،‬بل هي ذات وحياة‪.‬‬ ‫موضوعا‬

‫االجتماعي ال يكون بغير الفردي وعلى‬

‫وبين معرفة السلطة‪ ،‬أي المعرفة التي‬

‫ولكن الثقافة اجتماعية‪ ،‬واالجتماعي ال‬

‫ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫فمن العبث التفكير في لغة أنثوية مقابل لغة‬ ‫ذكورية‪ ،‬أو لغة الهامش مقابل لغة المتن‪ ،‬بدالً‬

‫والسياسة والتسلط‪ ،‬ولها لغتها الخاصة في‬

‫الثقافة‪ ،‬ونقد جميع أشكال المركزية‪ ،‬في‬

‫المنوال نفسه‪ :‬المعرفة فردية والعقل فردي‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫يكون بغير الفردي العالقة بين الكالم اللغة‬ ‫وبين المعرفة والثقافة هي ذاتها العالقة‬ ‫بين الفردي واالجتماعي؛ االجتماعي حد ال‬ ‫بد من تجاوزه‪ ،‬من أجل حد جديد‪ ،‬وقيد‬

‫تتوسل بها السلطة للهيمنة على النفوس‬ ‫والعقول والضمائر وعلى األجساد‬

‫السوْ س‬ ‫“معرفة السلطة” هذه هي أداة‬ ‫َّ‬

‫‪.‬‬

‫كل زمان ومكان نستدل على ذلك بنشوء‬ ‫“اللغات القومية”‪ ،‬في العصر الحديث‪،‬‬

‫ال بد من كسره‪ ،‬من أجل قيد جديد‪ ..‬تلكم‬ ‫هي نسبية المعرفة‪-‬اللغة ونسبية الحرية‪.‬‬

‫ُّ‬ ‫بتشكل اللغة العربية‬ ‫كما نستدل عليها‬

‫في المجتمع واالستبداد في السياسة‪.‬‬

‫السياسية والدينية‪ ،‬وبالمركزية اإلثنية‪-‬‬

‫من التفكير في كسر احتكار السلطة واحتكار‬ ‫سبيل أنسنة اللغة وأنسنة الثقافة‪ ،‬والخروج‬ ‫من ال َّدوْ ر أو الحلقة المفرغة في ما يسمى‬

‫واقترانها بالثورة الديمقراطية‪ ،‬في “الغرب”‪.‬‬

‫تناقض الذكورة واألنوثة مسألة اللغة هنا‬

‫الفصحى‪ ،‬لغة قريش‪ ،‬واقترانها بالسلطتين‪:‬‬

‫تحوالت ديمقراطية يصعب الرجوع عنها‪.‬‬

‫لذلك‪ ،‬نتحرز أشد التحرز من اعتبار اللغة أداة‬

‫الذكورية والمركزية السياسية‪ ،‬وتشكل‬

‫الخصائص والسمات‪ ،‬هي شكل المعرفة‬

‫أو للتعبير‬

‫لذلك ال تنفك جدلية المعرفة والسلطة وال‬

‫القطعية اليقينية في المعرفة مالزمة للركود‬

‫أو وسيلة‪ ،‬سواء للتواصل والتعارف والتبادل‬

‫والتثاقف والتخاطب‬

‫والوصف‬

‫والتسجيل‬

‫والتبليغ‪..‬‬

‫والتقرير‬

‫واإلبداع‬

‫ثقافة مركزية تنبذ كل ما عداها إلى الهامش‪،‬‬

‫تنفصل عن جدلية المتن والهامش وآليات‬

‫‪.‬‬

‫هي مسألة اإلنسان ومسألة المجتمع‪ ،‬ومسألة‬

‫اللغة نشاط إنساني وطاقة حيوية إنسانية‬

‫ومضمونها وعلة نسبيتها؛ المعرفة لغة واللغة‬ ‫معرفة‪ ،‬كل منهما شرط إمكان األخرى وشرط‬

‫وجودها‪ ،‬فال تكون إحداهما من غير األخرى‪.‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪43‬‬


‫ملف‬

‫ومن ثمة‪ ،‬يمكن النظر إلى اللغة والسلطة من‬

‫الزاوية نفسها التي ننظر منها إلى المعرفة‬

‫والسلطة‪.‬‬

‫فليس استقالل اللغة النسبي‪،‬‬

‫الظاهر[‪ ،]5‬عن المعرفة سوى استقالل السلطة‬

‫النسبي والظاهر عنها‪ ،‬أي عن المعرفة؛ بل إن‬ ‫هذا االستقالل ال يزيد على كونه فاصالً بين‬ ‫المنطوق وغير المنطوق أو الملفوظ وغير‬

‫المبني‪ ،‬وهو‬ ‫المبني وغير‬ ‫الملفوظ‪ ،‬وبين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فاصل يشبه الفاصل بين الوعي والالوعي‪،‬‬

‫وبين العقل والالعقل‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ممكنات أخرى وهذ األخيرة ال تنعدم‪ ،‬هكذا‬

‫تنتج الضرورة) هو نصف الحقيقة‪ ،‬نصفها‬

‫إذا صح أن الكالم فردي واللغة اجتماعية‬

‫وتفسيخها من داخلها ومن خارجها‪ ،‬لكي‬ ‫ّ‬ ‫تولد‬ ‫تعيد إنتاجها من جديد؛ إذ كل سلطة‬

‫ببساطة‪ ،‬بل تتحول إلى ح ّد على الكائن وح ّد‬

‫على الكون (مصدر الفعل كان)‪.‬‬

‫وأن المعرفة فردية والثقافة اجتماعية‪،‬‬ ‫فاللغة ليست مستودع الحقيقة؛ والحقيقة‬

‫ليست غاية اللغة‪ ،‬وليست‪ ،‬من ثمة‪ ،‬غاية‬

‫‪.‬‬

‫المعرفة وإذ ال مفر من االعتراف بأن اإلنسان‬

‫كائن غائي‪ ،‬فإن غاية المعرفة وغاية اللغة‪ ،‬بل‬ ‫غاية المعرفة‪-‬اللغة هي الحياة اإلنسانية في‬

‫‪.‬‬

‫مقاومة ابتداء من لحظة تحققها‪ ،‬ألن‬

‫‪.‬‬

‫تحققها هو نفيها (قل الحرية تعمل على‬

‫تفكيك الضرورة وتفسيخها من داخلها ومن‬

‫خارجها‪ ،‬لكي تعيد إنتاجها من جديد‪ ،‬ألن‬

‫كل تحقق هو نفي وكل تعين هو‬

‫سلب)‪.‬‬

‫هذه العملية التناقضية الجارية بال توقف‬

‫فال يمكن فصل ما يسميه ميشيل فوكو‬

‫حدود الوجود اإلنساني‪ ،‬ليس غير المعرفة‪-‬‬

‫تتيسر مالحظتها على المستوي الميكروي‪،‬‬

‫األولية‪ ،‬التي تنشأ من العالقات المتبادلة بين‬

‫األيديولوجيا فقط‪ ،‬وهذه‪ ،‬أي األيديولوجيا‪،‬‬

‫تتيسر على المستوى الماكروي‪ ،‬الذي يبدي أو‬ ‫ً‬ ‫نوعا من االستقرار و”الثبات”‪،‬‬ ‫يمكن أن يبدي‬

‫“ميكروفيزياء السلطة”‪ ،‬أي عالقات القوة‬

‫األفراد والجماعات‪ ،‬ونقاطها المبثوثة في‬

‫اللغة‪ ،‬التي تزعم أنها مستودع الحقيقة هي‬

‫ولكنه استقرار وهمي أو ثبات وهمي التغيير‬

‫أي المبادئ األولية التي تشكل أنماط التفكير‬

‫االجتماعي السياسي والثقافي الجذري ال‬

‫ومنظومات القيم‪ ،‬بالتالزم الضروري بين هذه‬

‫يكون كذلك إذا لم ينطلق من هذا المستوى‬

‫‪.‬‬

‫السيطرة‪ ،‬أو إرادة السلطة أو “إرادة القوة”‪،‬‬

‫وال فرق‪ ،‬مكنونة في المعرفة‪-‬اللغة‪ ،‬وتنبثق‬ ‫منها‪ ،‬فتستقل عنها‪ ،‬لكي تعيد إنتاجها وإنتاج‬

‫‪.‬‬

‫ذاتها فيها العالقة المركبة بين المعرفة‬ ‫والسلطة هي بالضبط العالقة المركبة بين‬ ‫الحرية والضرورة؛ الضرورة مكنونة في‬ ‫الحرية وتنبثق منها‪ ،‬فتستقل عنها لكي‬

‫تعيد إنتاجها وإنتاج ذاتها فيها مرة تلو مرة‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫المايكروي أو ّ‬ ‫الصغري من هنا تأتي ضرورة‬

‫وتلك؛ إذ السلطة معرفة مموضعة‪ ،‬معرفة ال‬ ‫تتحدد بطبيعة موضوعها فقط‪ ،‬بل بإرادة‬ ‫ً‬ ‫أيضا هذه اإلرادة‪ ،‬إرادة‬ ‫السيطرة عليه‬

‫حيث تجري عملية “صناعة التاريخ” أكثر مما‬

‫‪.‬‬

‫الجسم االجتماعي‪ ،‬عن جنيالوجيا المعرفة‪،‬‬

‫نلفت النظر إلى أن ما يقال‬ ‫عن ذكورية اللغة الفصحى‬ ‫وذكورية علوم اللغة‪،‬‬ ‫القديمة ومنها والحديثة‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وذكورية العلم عامة‪،‬‬

‫العناية بالنظام التربوي والتعليمي وأنسنته‬ ‫وعلمنته ودمقرطته مدخالً إلى التغيير‬

‫‪.‬‬

‫االجتماعي واللغة في صلب هذه العملية‬

‫التاريخية‪ ،‬فال بد من أنسنتها وعلمنتها‬

‫ودمقرطتها‪.‬‬

‫المعرفة تنتج السلطة‪ ،‬ثم تعيد السلطة‬

‫إنتاجها‪ ،‬وتح ّدد حقولها‪ ،‬وتتحكم في توزيع‬ ‫حصادها‬

‫ومحصولها‬

‫وثمارها‪.‬‬

‫“السلطة‬

‫ً‬ ‫شيئا آخر غير ذكورية‬ ‫ليست‬

‫والمعرفة تقتضي كل منهما األخرى‪ ،‬فال‬

‫السلطة المركزية‬

‫لحقل معرفة‪ ،‬وال توجد معرفة ال تفترض‬

‫نفترض هنا أن ثمّ ة عالقة شديدة التركيب‬

‫والتعقيد بين الحرية والمعرفة‪-‬اللغة‪.‬‬

‫توجد سلطة من دون تأسيس مناسب‬

‫وال تقيم عالقات سلطة”[‪ ،]6‬خطابية وغير‬

‫المعرفة‪-‬اللغة شرط إمكان الحرية اإلنسانية‬

‫تعينات أو‬ ‫خطابية‪ ،‬كالمؤسسات‪ ،‬التي هي‬ ‫ُّ‬

‫والتعين تحقق المعرفة هو‬ ‫لهذين اإلمكان‬ ‫ُّ‬

‫واشتباكهما وتحوالتهما التاريخية‪ ،‬ورموز‬

‫تعينها أو تحققها؛ والحرية سلب‬ ‫وشرط‬ ‫ُّ‬

‫تموضعات للمعرفة‪-‬السلطة في تواشجهما‬

‫‪.‬‬

‫نفيها‪ ،‬وتحقق الحرية هو نفيها‪ ،‬ذلكم هو‬

‫جوهر التراجيديا اإلنسانية‪ ،‬وما يضع نسبية‬

‫المعرفة ونسبية الحرية‪ ،‬وما جعل اللغة‬ ‫ً‬ ‫تناوبا بين اإلثبات والنفي‪ ،‬إذ كل إثبات هو‬

‫للواقع‪ ،‬هي ذاتها عناصر الواقع متمفصلة‬

‫مالزمة للسلطة‪ ،‬ولعلها شرط إمكانها‪ ،‬بقدر‬ ‫ً‬ ‫قيما اجتماعية‬ ‫ما تسوّ غ التفاوت‪ ،‬وتمنحه‬

‫على محاوره ونصوصه ووقائعه؛ تختزن في‬

‫بنيتها وأنظمتها دالالت اجتماعية‪-‬اقتصادية‬

‫وثقافية‬

‫وسياسية‬

‫وقانونية‬

‫وأخالقية‬

‫تعين هو سلب”‪ ،‬حسب إسبينوزا‪ .‬وأخالقية‪ ،‬وتضفي عليه هالة من القداسة‪.‬‬ ‫نفي‪ ،‬و”كل ُّ‬

‫تاريخية‪ ،‬تتعدى آليات عملها وشروط‬

‫المقدس والمدنس‪ ،‬وإلى المعرفة المقدسة‬

‫الدالالت‪.‬‬

‫فال تتبين عالقة المعرفة بالسلطة بتمامها إال‬ ‫بالنظر إليها على أنها عالقة إيجاب وعالقة‬

‫‪.‬‬

‫سلب في الوقت نفسه أشرنا إلى سلب‬

‫الوجود‪ ،‬ولكن ماذا عن سلب اإلمكان؟ كل‬

‫نشير هنا إلى معرفة المقدس والمدنس‪ ،‬ولغة‬

‫واللغة‬

‫المقدسة‪.‬‬

‫التقديس‬

‫والتدنيس‬

‫عنصران في الشعور‪ ،‬ال يقتصران على‬

‫كائن ناتج وصائر‪ ،‬ولكن ليس كل ممكن قابالً‬

‫الشعور الديني‪ ،‬إذ ثمة مقدسات ومدنسات‬

‫إلى ما ال حصر له من ممكنات‪ ،‬وبهذا فقط‬ ‫ً‬ ‫توقيعا لممكنات على حساب‬ ‫يكون التاريخ‬

‫المقدسات والمدنسات الدينية‪.‬‬

‫ألن يكون‪ .‬كل ممكن هو سلب لممكن آخر‪..‬‬

‫‪44‬‬

‫اآلخر‪ :‬المعرفة تعمل على تفكيك السلطة‬

‫‪..‬‬

‫مدنية‪ ،‬كالوطنية والسيادة ال تقل دهاء عن‬

‫القول بأن المعرفة تنتج السلطة (قل الحرية‬

‫كفايتها وقدرتها على القيام بوظائفها‪ ،‬وإن‬ ‫تكن هذه غير مستقلة عن تلك‬

‫المؤسسات عامة هي الحقول التي تتعين‬ ‫فيها وحدة الحياة الخاصة لألفراد وحياتهم‬ ‫(النوعية) العامة‪ ،‬أو وحدة الفرد والنوع؛‬ ‫ً‬ ‫وضوحا عن هذه‬ ‫واللغة هي التعبير األشد‬

‫الوحدة الجدلية‪.‬‬

‫فاللغة‪ ،‬وهذه الحال‪ ،‬خروج الذات من عتمة‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫التكوين داخل شرنقتها الذاتية‪ ،‬إلى العالم‪،‬‬ ‫لكي تصير موضوعية‪ ،‬أو لكي تتموضع‬

‫وتفض جميع خصائصها فيه‪ ،‬وتعمل من ثمة‬

‫‪.‬‬

‫ينطبق على اللغة اللغة فردية واجتماعية‬

‫وإنسانية وتاريخية‪ ،‬لذلك قد ال تفيدنا علوم‬ ‫ً‬ ‫كثيرا من دون فلسفة اللغة وتاريخها‬ ‫اللغة‬

‫‪.‬‬

‫على استكشافه وتعرفه وتعرف ذاتها فيه‪.‬‬

‫اللغة المنطوقة‪ ،‬الكالم‪ ،‬إنتاج للمعنى والقيمة‪،‬‬

‫والثقافي‬

‫أي جماعة تنطوي‬ ‫اللغة التي تتكلمها وتكتبها ّ‬

‫والعالم هنا ليس العالم الطبيعي‪ ،‬بل العالم‬ ‫االجتماعي‪-‬االقتصادي‪-‬السياسي‬

‫‪.‬‬

‫واألخالقي‪ ،‬عالم اإلنسان ومن أبرز هذه‬ ‫الخصائص التبادل؛ تبادل األشياء النافعة‬

‫‪.‬‬

‫بالتالزم‪ ،‬والكتابة إعادة إنتاج ولمّ ا كانت‬

‫بذاتها على رؤية للكون (الكوسموس)‪ ،‬ورؤية‬ ‫للعالم (اإليكوس)‪ ،‬ورؤية لإلنسان‪ ،‬وال سيما‬

‫(النافعة)‪.‬‬

‫للمرأة‪ ،‬فإن هذه الرؤية المركبة هي التي‬

‫ليس صفة خارجية من صفاتها لكن التبادل‬ ‫ً‬ ‫فيزيائيا‪ ،‬إذا جاز التعبير‪ ،‬ما‬ ‫يمكن أن يظل‬

‫الكوسمولوجية هي القيد األول للحرية‪ ،‬ألنها‬

‫واألفكار والتصورات والمعارف‬

‫الطبيعة البشرية تبادلية بذاتها؛ التبادل‬

‫‪.‬‬

‫لم يتحول إلى تواصل‪ ،‬أي إلى تذاوت‪ ،‬هذا‬ ‫التحول هو أهم مظهر من مظاهر التمدن‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫تحدد عملية إنتاج المعاني والقيم الرؤية‬

‫التموضع األول للمعرفة واالغتراب األول في‬

‫‪.‬‬

‫الطبيعة‪ ،‬والبذرة األولى للدين فال يمكن‬

‫ونقيضه التفاصل والتجنب‪ ،‬اللذان ال يزاالن‬

‫المثال‪ ،‬تتمحور على التوحيد والوحدانية‬ ‫والطاعة‬

‫والجهاد‪،‬‬

‫والدعوة‬

‫والعبادة‪،‬‬

‫والبطولة‬

‫(التبشير)‬

‫والشهادة‪،‬‬

‫والبعث‬

‫والنشور والثواب والعقاب‪ ،‬والجنة والنار‪..‬‬ ‫والخير والشر والحسن والقبيح والمباح‬

‫والمحظور‪..‬‬

‫‪.‬‬

‫إلى آخر القائمة وتتمحور من‬

‫جهة أخرى على التبادل والعقود والمعامالت‪،‬‬ ‫وعلى الحياة الجنسية من جهة ثالثة‪ ،‬حتى‬

‫ليمكن القول‪ :‬إن الحرب والتجارة والجنس‬ ‫هي أعمدة اللغة ومحاور الرؤية ومادة‬

‫السلطة‪.‬‬

‫من أبرز األمثلة على القيود الداللية‪ ،‬عالوة‬ ‫على القيود النحوية والصرفية‪ ،‬القواميس‬

‫سائدين في المجتمعات ما قبل المدنية‪ ،‬وفي‬

‫العربية من معجم العين إلى القاموس‬ ‫المحيط وما بني عليها مما يعيِّ ن بنية داللية‬

‫المجتمعات المدنية غير المتمدنة على نحو‬

‫كاف‪.‬‬

‫عمل وأنماط سلوك‪.‬‬

‫فالبنية الداللية للغة الفصحى‪ ،‬على سبيل‬

‫مغلقة‪ ،‬ازدهر إلى جانبها البحث في “األصيل‬

‫يمكن أن تكون اللغة تبادلية‪ ،‬تقيم تبادالت‬

‫قد يستهجن بعضنا وجود‬

‫والدخيل”‪ ،‬وبنى تركيبية (صرفية‪-‬نحوية‪-‬‬

‫تكون تواصلية؛ الحالة األولى‪ ،‬التبادلية‪ ،‬هي‬

‫عالقة وثيقة بين قواعد‬

‫مصطلحات ومفاهيم قابلة للتداول المعرفي‬

‫تقتضيها الحاجة والضرورة‪ ،‬ويمكن أن‬ ‫القيد الصدئ للحرية‪ ،‬ألن التبادل يكون بين‬ ‫ذوات مكوَّ نة ومنظومات مغلقة‪ ،‬تقوم فيما‬

‫بينها عالقات شاقولية‪ ،‬تعينها نسبة القوى‪،‬‬

‫في حين يكون التواصل بين ذوات تتشكل‬

‫باستمرار ومنظومات مفتوحة على الدوام‪،‬‬

‫وشبكية‪.‬‬

‫تقوم فيما بينها عالقات أفقية‬

‫من هنا يكتسب التواصل داللة أعمق من‬

‫داللته القاموسية‪ ،‬فيشير إلى انفتاح الذات‬

‫‪.‬‬

‫الفردية والجمعية على أفق إنساني وهذا‬ ‫ً‬ ‫أيضا من ممكنات الطبيعة البشرية ذاتها‪،‬‬

‫السلطة ومبادئ الحكم‬ ‫وبين البنى المعرفية‪-‬‬ ‫أي‬ ‫اللغوية‪ .‬ونكاد نجزم بأن ّ‬ ‫تحسن ذي شأن في األولى‬ ‫ً‬ ‫تحسنا ذا شأن في‬ ‫يستتبع‬ ‫الثانية وبالعكس‬

‫‪.‬‬

‫وهويته‪/‬ـا الجذرية هذا االنفتاح يقتضي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جذريا في بنية المعرفة‪-‬اللغة‪ ،‬أو‬ ‫تغييرا‬

‫‪.‬‬

‫بتغير البنى المجتمعية وتغير قواعد السلطة‬ ‫ً‬ ‫تغي ً‬ ‫جذريا‬ ‫را‬ ‫ومبادئ الحكم ُّ‬

‫‪.‬‬

‫ال شك في أن المعرفة فردية‪ ،‬والعقل فردي‪،‬‬

‫‪..‬‬

‫والضمير فردي لكن هذا ربع الحقيقة‪ ،‬الربع‬ ‫الثاني أن المعرفة تتحدد باألطر االجتماعية‪،‬‬ ‫وكذلك العقل والضمير‪ ،‬والربع الثالث أن‬

‫المعرفة إنسانية والعقل إنساني والضمير‬ ‫إنساني‪ ،‬والربع األخير أن المعرفة تاريخية‬

‫‪.‬‬

‫والعقل تاريخي والضمير تاريخي هذا كله‬

‫وعاجزة عن استقبال مثل هذه المصطلحات‬ ‫ً‬ ‫حسنا‪ ،‬على مبدأ “أهالً‬ ‫والمفاهيم استقباالً‬ ‫وسهالً”‪ ،‬أو مبدأ “السالم عليكم”‬

‫‪.‬‬

‫القواميس العربية عقبات معرفية وقيود‬ ‫على حرية التفكير والتعبير‪ ،‬ومجامع اللغة‬

‫العربية تشدد هذه القيود وتحكم‬

‫إقفالها‪.‬‬

‫على أن العيب ليس في مجامع اللغة‪ ،‬على‬ ‫الرغم من غلبة الطابع السلفي المحافظ‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬بل‬ ‫على معظمها‪ ،‬إن لم يكن عليها‬ ‫في النظم االجتماعية والسياسية أساساً‬ ‫فقد يستهجن بعضنا وجود عالقة وثيقة‬

‫بين قواعد السلطة ومبادئ الحكم وبين‬

‫‪.‬‬

‫اللغة‪-‬المعرفة‪ ،‬بجميع مستوياتها الداللية‬ ‫الصدئة‪ ،‬التي تقيد الحرية وال يتأتى ذلك إال‬

‫والثقافي العمومي على الصعيد العالمي‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫ألن “النوع‪ ″‬اإلنساني هو قوام الفرد اإلنساني‬

‫والنحوية والصرفية والجمالية‪ ،‬وكسر القيود‬

‫بالغية) مغلقة‪ ،‬وال تزال عاجزة عن إنتاج‬

‫فصل “نظرية التوقيف” في أصل اللغة‪ ،‬عن‬ ‫أسطورة‪/‬أساطير الخلق‪ ،‬وال يمكن فصلهما‬ ‫ً‬ ‫معا عن البنى المعجمية والداللية والنحوية‬

‫والصرفية والبالغية أو الجمالية‪ ،‬وال يمكن‬ ‫ً‬ ‫جميعا عن نظام المجتمع وبنية‬ ‫فصل هذه‬

‫أي‬ ‫البنى المعرفية‪-‬اللغوية ونكاد نجزم بأن ّ‬ ‫ً‬ ‫تحسنا‬ ‫تحسن ذي شأن في األولى يستتبع‬

‫‪.‬‬

‫ذا شأن في الثانية وبالعكس وذلكم هو‬ ‫المعنى األعمق للثورة االجتماعية‪ ،‬بما هي‬ ‫عمل تاريخي كلي‪ ،‬يقتضي كسب منجزاته‬

‫كل يوم‪ ،‬بخالف ما تسمى ثورات سياسية لم‬ ‫ً‬ ‫مسوخا‬ ‫تنتج إال‬

‫‪.‬‬

‫السلطة ونظام الحكم‪ ،‬على اختالف تسمياته‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ملكا‬ ‫خالفة أو إمامة أو سلطنة أو إمارة أو‬

‫اللغة كانت عملية‪/‬عمليات التقعيد والتأطير‬

‫ألنها تؤسس حقول معرفة‪-‬سلطة‪ ،‬وتعين‬

‫ما سماه الجابري “عصر التدوين”‪( ،‬هكذا فعل‬

‫ً‬ ‫قيدا بذاتها‪ ،‬بل‬ ‫أو “جمهورية” الرؤية ليست‬

‫‪.‬‬

‫ممارسات خطابية وغير خطابية‪ ،‬وأشكال‬

‫وما من شك في أن أول عملية تقييد للمعرفة‪-‬‬

‫والتصنيف والتنويع والتفريع والتقسيم‪ ،‬في‬ ‫أرسطو في الثقافة اليونانية)‪ ،‬وكانت تهدف‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪45‬‬


‫ملف‬

‫في أساسها إلى تحقيق نوع من االنضباط‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ثانيا‪.‬‬ ‫كليا‪،‬‬ ‫الميتة‪ ،‬التي خرجت من التداول‬

‫واألخالقي‪.‬‬

‫ويدمج المفردات المتداولة في األوساط‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ ،‬ويتعامل مع المصطلحات‬ ‫الشعبية فيه‬

‫استتبع ذلك من علوم اللغة وعلوم الدين‪..‬‬

‫أنها من أهل البيت‪ ،‬دونما تفريق بين أصيل‬ ‫ً‬ ‫رابعا وتعميمه على المؤسسات‬ ‫ودخيل‪،‬‬

‫االجتماعي‪-‬السياسي والثقافي‬

‫(الحظوا الرابطة الداللية بين تدوين اللغة‬

‫والمأثورات واألحاديث النبوية وغيرها وما‬ ‫وبين إنشاء الدواوين‪ ،‬كديوان الجند وديوان‬ ‫الخراج والبريد وغيرها وتطورها التاريخي‪،‬‬

‫إذ التدوين ترجمة معرفية وثقافية للتنظيم‬

‫السياسي‪ ،‬وإنشاء حقول معرفية مواتية‬

‫‪.‬‬

‫للدواوين) ولكن عملية التقييد تلك كانت‬

‫والمفاهيم المتداولة في العالم اليوم على‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫أخيرا‬ ‫التعليمية والثقافية وإتاحته لألفراد‬ ‫ً‬ ‫كثيرا من دون نزع‬ ‫وهذا كله ال يفيد‬

‫إلى الكتابة بحروف التينية أو إلغاء اإلعراب‪،‬‬

‫وجودهم العياني‪ ،‬االجتماعي‪-‬االقتصادي‪-‬‬

‫السياسي والثقافي واألخالقي‪ ،‬فما يعزى‬ ‫إلى اللغة من انغالق وجمود وعجز عن‬

‫المشاركة اإليجابية في الثقافة اإلنسانية‬

‫‪..‬‬

‫الحديثة ال يرجع إلى اللغة في ذاتها‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونخبا وجماعات ومؤسسات‬ ‫أفرادا‬ ‫إلى أهلها‬

‫‪.‬‬

‫ودوالً أو أشباه دول ويعزى‪ ،‬بصورة أساسية‬ ‫إلى بنى السلطات العربية‪ ،‬وهي نسيج‬ ‫من عناصر خطابية وغير خطابية‪ ،‬قوامه‬

‫“اللغة الفصحى”‪ ،‬بما هي لغة السلطة‪ ،‬منذ‬

‫‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫–‬

‫قاموس‬

‫لغوي‪-‬تاريخي‪،‬‬

‫يعنى‬

‫باإليتمولوجيا‪( ،‬علم أصول الكلمات)‪ ،‬ويبين‬

‫ثمة مساحة‪ ،‬تتسع اليوم‬ ‫ِّ‬ ‫باطراد‪ ،‬يتقاطع فيها العلم‬ ‫والشعر والفلسفة‪ ،‬ترهص‪،‬‬ ‫في اعتقادنا‪ ،‬بثورة في‬ ‫المعرفة‪-‬اللغة‪ ،‬يمكن‬

‫ً‬ ‫عددا من القيود الصدئة‬

‫‪.‬‬

‫المختلفة‪.‬‬

‫‪ – 3‬قواميس متخصصة في جميع فروع‬ ‫ً‬ ‫دوريا لمواكبة‬ ‫المعرفة‪ ،‬يصار إلى تحديثها‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫بدءا من القيود القاموسية‬ ‫قيدا تلو اآلخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وصوالً إلى القيود البالغية لكن تخلف العلم‬

‫‪.‬‬

‫والفلسفة ال يزال يحد من انطالقة الشعر‪،‬‬

‫ويحتجز إمكانات الثورة المعرفية‪ -‬اللغوية‪.‬‬

‫ويبدو‬

‫لنا‬

‫أن‬

‫تخلف‬

‫السلطة‪/‬السلطات‬

‫السلطة‪ ،‬على نحو ما استقرت في ثقافتنا‬

‫وطأتها‪ ،‬هي القيد الصدئ للحرية‬

‫مفكر من سوريا‬

‫إشارات‬

‫ً‬ ‫توقيفا‪ ،‬وليست‬ ‫[‪ -]1‬نعني أن اللغة ليست‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬على الرغم من قدرتها‬ ‫اصطالحا‬

‫االصطالحية والترميزية‪.‬‬

‫[‪ – ]2‬جمعة سيد يوسف‪ ،‬سيكولوجية اللغة‬ ‫والمرض العقلي‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪،‬‬ ‫المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪،‬‬ ‫الكويت‪ ،‬العدد ‪ ،145‬يناير‪ ،1990 ،‬ص ‪17‬‬ ‫[‪ -]3‬سيد يوسف‪ ،‬ص ‪ ،47‬بتصرف‬ ‫[‪ – ]4‬محمد سبيال وعبدالسالم بنعبد العالي‪،‬‬ ‫اللغة‪ ،‬سلسلة دفاتر فلسفية‪ ،‬رقم ‪ ،5‬دار‬ ‫توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،2005 ،‬ص ‪5‬‬ ‫[‪ -]5‬نقصد باستقالل اللغة النسبي صيرورتها‬ ‫ً‬ ‫موضوعا مستقالً لعلوم اللغة واللسانيات‬ ‫الحديثة‪ ،‬ما يحصرها في نطاق الوضعية‬ ‫اإليجابية‪ ،‬ويجفف نسغها الروحي أو‬ ‫اإلنساني‪ ،‬وال فرق‬ ‫[‪ – ]6‬ميشيل فوكو‪ ،‬المراقبة والمعاقبة‪ ،‬والدة‬ ‫السجن ترجمة علي مقلد‪ ،‬مركز اإلنماء‬ ‫القومي‪ ،‬بيروت‪ 1990 ،‬ص ‪ 65‬بتصرف‬

‫رؤية أسطورية للكون‪ ،‬ورؤية دينية للعالم‬ ‫واإلنسان أوالً وتستَبعد منه المفردات‬

‫‪ – 4‬توثيق الثقافة الشفوية للمجتمعات‬

‫المعرفة وفروعها‪.‬‬

‫الصغيرة والمجتمع الكبير‪ ،‬وتدوينها‪ ،‬والعمل‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫بطرس املعري‬

‫‪ – 1‬قاموس لغوي يزيل ما تحمله مفردات‬

‫‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫تطور داللة الكلمة واستعماالتها في المجاالت‬

‫التطور المتسارع‪ ،‬في مختلف مجاالت‬

‫اللغة من شحنات أيديولوجية‪ ،‬أنتجتها‬

‫‪.‬‬

‫اإلبداع األدبي عامة والشعر خاصة فقد‬ ‫ً‬ ‫عددا من القيود الصدئة‪،‬‬ ‫كسر الشعر العربي‬

‫‪.‬‬

‫بالفعل والحداثة الممكنة والمعاصرة‪( ،‬على‬

‫بوضع عدد من القواميس‪:‬‬

‫مالمحها‪ ،‬في ثقافتنا المعاصرة‪ ،‬من خالل‬

‫المعاصرة‪ ،‬من خالل اإلبداع‬

‫‪.‬‬

‫متخصصون في جميع فروع المعرفة تقوم‬

‫تطور األخريات من جهة ثانية‪.‬‬

‫وتاريخنا‪ ،‬وعلى نحو ما نعيشها ونعاني من‬

‫مسألة المعاصرة في أفق الحداثة المتحققة‬

‫الوجود ومشاركة في المصير‪.‬‬

‫جهة‪ ،‬ويسهم في تطور كل منها وفق إيقاع‬

‫تبين مالمحها‪ ،‬في ثقافتنا‬ ‫ُّ‬

‫وليست خالقة للسبب ذاته مسألة اللغة هي‬

‫لذلك‪ ،‬ندعو إلى إنشاء مؤسسة عربية قوامها‬

‫تدفق المعارف والموارد الثقافية بحرية‪ ،‬من‬

‫والإنسانيتها هو ما يحتجز هذه اإلمكانات‪.‬‬

‫ولكنها‪ ،‬ككثير من اللغات‪ ،‬ليست معاصرة لها‪،‬‬

‫وزن مفاعلة) تقتضي المشاركة‪ ،‬مشاركة في‬

‫وشبكية متكافئة فيما بينها‪ ،‬على نحو يتيح‬

‫تبين‬ ‫اعتقادنا‪ ،‬بثورة في المعرفة‪-‬اللغة‪ ،‬يمكن ُّ‬

‫بها إلى المعاصرة‪ ،‬معاصرة‪ ،‬اللغات اإلنسانية‬

‫‪.‬‬

‫بين الفئات االجتماعية والمناطق الجغرافية‪،‬‬

‫فيها العلم والشعر والفلسفة‪ ،‬ترهص‪ ،‬في‬

‫فقد كسر الشعر العربي‬

‫الحكم اللغة العربية مزامنة للغات الخالقة‪،‬‬

‫أفق إنساني وديمقراطي‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫باطراد‪ ،‬يتقاطع‬ ‫ثمة مساحة‪ ،‬تتسع اليوم‬

‫تفصيحها إلى يومنا وساعتنا فال يمكن‪،‬‬

‫الخالقة‪ ،‬إال بتغيير قواعد السلطة ومبادئ‬

‫ودمجها في الثقافة الوطنية المنفتحة على‬

‫ونصوصها التأسيسية ومدوناتها وعلومها‬

‫طابع القداسة عن اللغة العربية الفصحى‬

‫األدبي عامة والشعر خاصة‪.‬‬

‫وهذه الحال‪ ،‬تحديث اللغة العربية والنهوض‬

‫من الهامش‪ ،‬وإبراز محتواها اإلنساني‪،‬‬

‫في كل بلد على حدة‪ ،‬وإقامة عالقات أفقية‬

‫التقيد به‪ ،‬أو إلى إصالح النحو الذي دعا إليه‬ ‫ً‬ ‫شيئا‬ ‫أستاذنا سعيد األفغاني‪ ،‬ولم ينجز منه‬

‫‪.‬‬

‫الثقافة فقط‪ ،‬بل إلخراجها من الظل وإزاحتها‬

‫‪.‬‬

‫الذي دعا إليه هادي العلوي ولم يستطع‬

‫ال تكون اللغة إال كما يكون أهلها‪ ،‬في‬

‫العلوم اإلنسانية‪ ،‬وال سيما اجتماعيات‬

‫‪ – 5‬العمل على إنتاج رؤية استراتيجية لتوزيع‬ ‫ً‬ ‫توزيعا عادالً‬ ‫المؤسسات والموارد الثقافية‬

‫ضرورية أملتها عملية تشكل مجتمع جديد‪ .‬وعلمائها‪.‬‬ ‫وعملية تقييد جديدة وحديثة تبدو لنا‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬بخالف الدعوات االنفعالية‬ ‫ضرورية‬

‫ً‬ ‫معينا للباحثين في‬ ‫على نشرها‪ ،‬ال لتكون‬


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪47‬‬


‫ملف‬

‫اإلصالح التربوي‬ ‫والتردي اللغوي‬ ‫صالح بلعيد‬ ‫إن اإلصالح ال ّتربوي في ّ‬ ‫كل بالد العرب مطلب جماهيري حا ّد‪ ،‬فكما ُتطالب الجماهير العربية بال ّتغيير السياسي ُتطالب بتغيير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫سبب َ‬ ‫اله ْدر‬ ‫المنظومات التربوية بعدما عرفت المدارس العربية الرداءة والتأخر العلمي وانتكاسات في المستوى اللغوي‪ ،‬ممّ ا ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫نزيف السقوط الذي تعرفه المنظومات التربوية العربية‪ ،‬واعملوا‬ ‫األمية‪ ،‬األمر الذي جعل المهتمين يقولون‪ :‬أوقفوا‬ ‫وتفشي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وصفات عالجيةٍ مستعجلة‪ ،‬وهذا بإصالحات جادة‪ ،‬بدل الترقيعات السطحية‪ ،‬ودهن األورام لفترات مؤقتة‪ ،‬ووضع‬ ‫على تقديم‬ ‫ٍ‬ ‫تؤت ُأ َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫كلها بصورة دائمة‪ .‬بالفعل حصلت إصالحات تربوية‪ ،‬ولكن في‬ ‫المسكنة‪ ،‬وهذا فعل اإلصالحات القديمة التي لم‬ ‫المساحيق‬ ‫ّ‬ ‫مجملها فوقية‪ ،‬ومُ فتقدة للمعايير العلمية المبنية على القواعد الراشدة؛ األمر الذي يشكل ع ّدة اختالالت على مستوى نجاعة‬ ‫الدول العربية إلى اإلصالحات المرغوبة‪ ،‬وال حافظت على تلك القواعد القديمة التي ّ‬ ‫ُ‬ ‫تلقن بها‬ ‫تصل‬ ‫األداء التربوي والعلمي‪ ،‬فلم‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطالب الرصي َد المضمون‪ ،‬وتعثرت التربية العربية في كل الفنون‪ ،‬ومن هذا التعثر تحوّ ل الحديث إلى ضرورة‬ ‫المتون‪ ،‬وال أمكنت‬ ‫َ‬ ‫إصالح ال ّت ّ‬ ‫عثر‪ ،‬ومراجعة هفوات ال ّت ّأخر‪ ،‬وتصحيح أخطاء ال ّتبعثر‪.‬‬

‫شهد‬

‫ّ‬ ‫المختصون‬ ‫األصدقاء واألعداء‬ ‫بتع ّثر مدارسنا العربية؛ وهذا‬

‫ولم تعمل المدارس العربية على صيغة‬ ‫ّ‬ ‫غذت في‬ ‫ال ّتواصل بين األجيال‪ ،‬وال‬

‫استراتيجية ناجعة‪ ،‬وال على مفهوم عملي‬

‫من روح ال ّتواصل مع اآلخرين باالستماع‬

‫عبر تلك اإلصالحات التي لم تقم على‬

‫وواقعي‪ ،‬وال على نظريات مبنية على‬

‫الشمول‪ ،‬وال على االمتداد في الزمان‪ ،‬وال‬ ‫على االمتداد في المكان‪ ،‬وال على االستناد‬ ‫للتكيف‪ ،‬وال‬ ‫على نظرية علمية‪ ،‬وال قبول‬ ‫ّ‬

‫َ‬ ‫إنتاج األفكار التي تق ّدم‬ ‫استطاع المُ ريدون‬ ‫ّ‬ ‫الحل والعقد استصدار القرار‪،‬‬ ‫لصاحب‬

‫إن‬ ‫للرأي المخالف… ولذلك يمكن أن نقول‪ّ :‬‬

‫المدارس العربية تكون قد أعطت العلم إلى‬ ‫ّ‬ ‫تعطي‪/‬تعلم األدب‪ ،‬وبذا‬ ‫ح ّد ما‪ ،‬دون أن‬

‫ّ‬ ‫كل‬ ‫ومست‬ ‫تع ّثرت اإلصالحات ال ّتربوية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فشلت مفاصل الدول العربية في‬ ‫القطاعات‪،‬‬ ‫مناحي الحياة؛ فتراها تجري وراء ال ّتجارب‬

‫أن اإلصالحات التربوية في‬ ‫ويضاف إلى ذلك ّ‬ ‫معظمها لم تعتمد على ال ّثقافة الوطنية‬

‫الوصول إلى بناء منظومة تربوية معاصرة‪،‬‬

‫نظريات من واقع حال البالد العربية‪،‬‬

‫متوازنة تعطي العلم واألدب‪ ،‬ولذا آن األوان‬

‫المبنية على سيادة ال ّثقافة العلمية‪ ،‬وال على‬ ‫فاعتمدت نظريات مستوردة من واقع ال‬

‫يعاني أزمات‪ ،‬إلى واقع مُ تهرئ موبوء‬ ‫بالصعوبات‪ ،‬ولم تنظر اإلصالحات للمدرسة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تحررية تجاه القيود‬ ‫مسؤولية‬ ‫أن لها‬ ‫على ّ‬

‫واإلصالح‪ ،‬ولم تستطيع أكثر الدول العربية‬ ‫تجمع بين األصالة والحداثة في منظومة‬

‫لمراجعة تلك اإلصالحات‪ ،‬والنظر في‬ ‫مست ّ‬ ‫كل ُ‬ ‫الهويات‪ ،‬ومنها‬ ‫ال ّتفريطات‪ ،‬التي ّ‬ ‫الهوية ّ‬ ‫ُ‬ ‫اللغوية التي هي أمن عام فال أمن‬

‫مائيا دون أمن لغوي‪ ،‬وال أمن عسكريا دون‬

‫أمن لغوي‪.‬‬

‫واألمية‪ ،‬باعتبار المدرسة‬ ‫والجهل والفقر‬ ‫ّ‬ ‫ُتعطي الح ّد األدنى من ال ّتفكير والنقد‬

‫تقول الدراسات الجادة بضرورة إعادة النظر‬

‫ال ّتواجد والمواطنة وقول (ال) في حال الخطأ‪،‬‬

‫من طغيان الفكر الغيبي‪ ،‬ووهم ال ّتنظير‪،‬‬

‫واالختيار الحرّ ‪ ،‬وتربّي في المواطن روح‬

‫‪48‬‬

‫المتمدرسين قبول الرأي الناقد‪ ،‬وما يتبع ذلك‬

‫رسخته المنظومات التربوية العربية‬ ‫في ما ّ‬

‫ّ‬ ‫يشل‬ ‫وعبادة الخطاب الماضوي‪ ،‬واعتماد ما‬

‫‪..‬‬

‫الفكر وحصل هذا بفعل تلك اإلصالحات‬ ‫التي تنظر لل ّتربية وال ّتعليم على أ ّنه قطاع غير‬ ‫خدماتي وغير منتج وعقيم‪ ،‬فال ترى الفائدة‬

‫من تغييره‪ ،‬فهو خارج األطر‬

‫والمضامين‪.‬‬

‫بأن تق ّدم األمم يُ قاس بمقدار‬ ‫ونحن نجهل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ما تنتجه المدرسة من معارف؛ وما تتسم به‬ ‫تلك المعارف من أصالة وج ّدة وابتكار‪ ،‬وما‬

‫تحمله من فكر يعمل على انسجام تربوي‬ ‫ولغوي يعمل على لحمة مجتمعية َت ُسود فيها‬

‫المواطنة قبل المذهبية‪.‬‬

‫بأن المدرسة سفينة المجتمع‬ ‫يجب العلم‬ ‫ّ‬ ‫نحو برّ األمان‪ ،‬فكيف حصلت فنلندا على‬

‫الرتبة األولى في التق ّدم؟ لم يكن ليحصل‬

‫ّ‬ ‫تهتم بالمدرسة‪ ،‬وبالعدالة‬ ‫لها ذلك‪ ،‬لو لم‬ ‫األمية‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وهو بلد امّ حت فيها‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫المرض‪ ،‬فلم يكن ذلك ليحصل‬ ‫وانعدم فيه‬ ‫في بلد الماء واألشجار‪ ،‬وفي بلد ال يملك‬

‫البترول والغاز‪ ،‬ولكنّه حصل بفضل االستثمار‬ ‫ً‬ ‫رقما‬ ‫في ال ّتنمية البشرية‪ ،‬فأضحت فنلندا‬

‫ً‬ ‫راقيا ُتضرب به األمثال في ال ّترقية البشرية‪.‬‬

‫وما يقال عن فنلندا يقال عن أيسلندا‪ ،‬ويمكن‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫بطرس املعري‬

‫ّ‬ ‫متعل ً‬ ‫ما‬ ‫الرأسمال البشري الذي يجب أن يكون‬ ‫ً‬ ‫وصحيا ويقبل الدخول في مجتمع المعرفة‪،‬‬ ‫وهذا ال يكون خارج المدرسة‪ ،‬ولكنّها مدرسة‬ ‫ُ‬ ‫الدول العربية اآلن تعي‬ ‫معاصرة‪ ،‬ولهذا بدأت‬ ‫الدور الجديد للمدرسة وهو إنتاج المعرفة‪،‬‬

‫وإعداد النشء للقرن الحادي والعشرين؛‬ ‫قرن ال ّتفاعل الذاتي‪ ،‬قرن‬ ‫ّ‬ ‫التعلم الذاتي وعلى‬ ‫ال ّتربوية العاملة على‬ ‫المقاربات‬

‫‪.‬‬

‫مدى الحياة ولكن مع رفع مطالب اإلصالح‬

‫التربوي‪ ،‬والدعوة إلى مدرسة عربية حديثة‪،‬‬

‫هناك عقبات كثيرة في األخذ بأسباب نجاح‬ ‫ّ‬ ‫تتوزعها أطراف‬ ‫اإلصالحات التربوية‪ ،‬التي‬ ‫ّ‬ ‫والتوجهات‪ ،‬أطراف‬ ‫متنافرة في الرأي‬

‫مُ تخمة نائمة ال تريد اإلصالح‪ ،‬وأطراف تابعة‬

‫تعتمد على استيراد المنظومات التربوية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ظل هذا الوضع هل يمكن أن تنجح‬ ‫ففي‬ ‫اإلصالحات أو مطالب ال ّتغيير لدى شعوب‬

‫الدول العربية التي دبّت فيها الهزيمة من‬ ‫شحوم الرّ يع والخزينة‪ ،‬وممّ ن هم في مراكز‬ ‫ّ‬ ‫توقفت عن اإلبداع‬ ‫الديمومة‪ ،‬وسفينة العرب‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫نفعا في‬ ‫محطة اإلقالع‪ ،‬ولم تعد تجدي‬ ‫في‬

‫تغيير السائد‪ ،‬وفتح مغاليق الحاضر المارد‪،‬‬ ‫وآسف أن أقول‪ :‬ال تنفع إصالحات تربوية‬ ‫تتناول وصفاتها بال ّتفسير‪ ،‬دون أن يطرأ‬ ‫عليها ال ّتطوّ ير وال ّتغيير‪ ،‬وال يرصد مسارها‬

‫يتتبع عوامل سيادتها ال ّتبرير‪،‬‬ ‫ال ّتقرير‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫أل ّنه ال يتلمّ س الواقع المرير‪ ،‬ولذا قد يعدم‬

‫ال ّتغيير‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫أن نعطي مثالً لبلد آخر وهي جزيرة منعزلة‬

‫المدرسة‪ ،‬وحصل لها التق ّدم والرقي إذن يقع‬ ‫ً‬ ‫حاليا على االهتمام بال ّتربية وال ّتعليم‪،‬‬ ‫الرهان‬

‫ّ‬ ‫حصلت الرتبة‬ ‫في التنمية البشرية‪ ،‬وبذا‬ ‫ً‬ ‫الطب‪ ،‬فأصبحت‬ ‫عالميا في مجال‬ ‫األولى‬ ‫ّ‬

‫الجودة والفعالية لرجال القرن الحادي‬ ‫ٌ‬ ‫دول تعمل على صنع مدرسة‬ ‫والعشرين‪،‬‬

‫(كوبا)؛ كان الجهل والمرض والفقر يفتك‬ ‫ّ‬ ‫كل هذا باالستثمار‬ ‫بأهلها‪ ،‬ولكنّها تجاوزت‬

‫رهان تتسابق األمم فيه بغية الوصول إلى‬

‫ّ‬ ‫المتخصصين‬ ‫كوبا اآلن تص ّدر األطباء‬

‫ٌ‬ ‫دول‬ ‫مواطنة تؤمن بالعلم‪ ،‬وتعمل من أجله‪،‬‬

‫وكبار الجرّ احين إلى البالد الراقية‪ ،‬ولم‬ ‫يكن يحصل ذلك لو لم تستثمر في ال ّتربية‬

‫وال ّتعليم‪ ،‬دون الحديث عن العمالق ماليزيا‬ ‫وبلد اليابان والنّمر اآلسيوي كوريا الجنوبية؛‬ ‫ّ‬ ‫ترتب تاسعة في االقتصاد‬ ‫وهذه األخيرة‬ ‫العالمي‪ ،‬وتنافس اآلن الواليات الم ّتحدة في‬

‫‪.‬‬

‫صناعة النانوتكنولوجي دول قديمة وعريقة‬

‫في الحضارة‪ ،‬استثمرت في البشر‪ ،‬فلم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متخلفة‪،‬‬ ‫التخلف وأخرى حديثة كانت‬ ‫تعرف‬ ‫ّ‬ ‫التخلف بفعل استثمارها في‬ ‫فخرجت من‬

‫ّ‬ ‫التعصب واألمراض‬ ‫تقيم مدرسة تقضي على‬ ‫ّ‬ ‫وكل ما يجعل البلد‬ ‫واالنحرافات والعنف‬ ‫تنهكه األزمات‪ ،‬فهل يمكن أن يحصل في‬

‫واقعنا العربي؟‬ ‫ّ‬ ‫أن الحراك العربي في اتجاه‬ ‫من المعلوم ّ‬ ‫إحداث ال ّتغيير في المنظومات ال ّتربوية‬ ‫مطلب جماهيري جديد يعمل على التثوير‪،‬‬

‫وعلى بناء مدرسة معاصرة تعمل على‬

‫أن صيرورة‬ ‫ال ّتغيير في الذهنيات؛ بحيث ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل تنمية قوية مُ ستدامة تتطلب تعبئة‬

‫إن القرن الحادي والعشرين يسعى للجودة‬ ‫ّ‬ ‫في ال ّتربية وال ّتعليم لنقل المجتمع من‬ ‫مجتمع القبيلة إلى مجتمع المعلومات؛‬

‫مجتمع تكون فيه المدرسة عاملة على‬ ‫مواطنة إيجابية تنحو في ّ‬ ‫اتجاه بناء التالحم‬

‫َ‬ ‫اللحظة الكونية التي‬ ‫اإلنساني وتستوعب‬ ‫ّ‬ ‫نعيشها‪ ،‬واالعتراف بجميع الرموز اللغوية‬ ‫وال ّثقافية والتاريخية والوطنية والمساواة‬ ‫ً‬ ‫واالتجاه إلى مستقبل يُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫مواطنة‬ ‫غذي‬ ‫بينها‪،‬‬

‫ً‬ ‫لغوية ُتؤمن باألبعاد المحلية‪ ،‬وتنفتح على‬

‫‪.‬‬

‫والقيم العالمية ومن هنا فالشرعية‬ ‫المعارف‬ ‫َ‬

‫والديمومة والبقاء أن تكون لإلنسان بما هو‬ ‫إنسان من حيث ما يكتنزه من معارف‪ ،‬ال إلى‬

‫اإلنسان باعتباره صاحب األصول والفضول‬ ‫وأصحاب النفوذ‪ ،‬فهل يمكن أن نعي هذا قبل‬

‫وأن أهل‬ ‫خوض ميادين اإلصالح ال ّتربوي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثقة‪ ،‬وهل يمكن لمدارسنا‬ ‫الميدان قبل أهل‬ ‫أن تربّي مفاهيم ال ّتسابق لألفضل؟ وبذا تأتي‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪49‬‬


‫ملف‬

‫مهمّ ة مدرسة اإلصالح في الوقت المعاصر‬

‫ً‬ ‫‪ 2004/2003‬م‪ ،‬والخطرُ يكبرُ‬ ‫سنة بعد سنة‪،‬‬

‫االنفتاح‪ ،‬وتحديث المجتمع بما يستجيب‬ ‫ّ‬ ‫لكل المرجعيات الرسمية فالمدرسة العربية‬

‫ِ‬ ‫عدم االهتمام بالتنمية البشرية التي عما ُدها‬

‫في نهاية أبريل من ّ‬ ‫كل سنة فإذا وقفنا في‬ ‫ً‬ ‫أسبوعا نستخلص ما يلي‪:‬‬ ‫رقم ‪18‬‬

‫المدرسة؛ فالمدرسة عندنا لم تع ْد جاذبة‪ ،‬ولم‬ ‫ٌ‬ ‫عنف في المدارس‪،‬‬ ‫تفلح في تربية الطفل‪:‬‬

‫للتدريس‪.‬‬

‫للرفع من مستوى المعارف وربطها بقيم‬

‫‪.‬‬

‫اآلن بحاجة إلى تدبير جديد؛ يبدأ من إعادة‬ ‫النّظر في الرؤية التي تنظر بها إلى المعارف‬ ‫والقيم المحلية والوطنية والكلية‪ ،‬والتف ّتح‬ ‫َ‬

‫على مكاسب ومنجزات الحضارة اإلنسانية‪،‬‬

‫حب المعرفة‪ ،‬وطلب البحث‬ ‫وتكريس‬ ‫ّ‬ ‫والمساهمة في تطوير العلوم‪ ،‬وتنمية الوعي‬ ‫بالواجبات والحقوق والتربية على المواطنة‪،‬‬

‫وممارسة‬

‫الديمقراطية‪،‬‬

‫والتشبع‬ ‫ّ‬

‫بروح‬

‫الحوار‪ ،‬وقبول االختالف‪ ،‬وترسيخ قيم‬

‫ويظهر الفسا ُد في شريان المجتمع بفعل‬

‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫غش في االمتحانات‪،‬‬ ‫عنف في المالعب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫فقدان االحترام للمعلمين واألولياء‪ ،‬شلل في‬ ‫ُ‬

‫اإلرادات‪ ،‬البحث عن الربح السريع‪ ،‬فقدان‬ ‫المناعة في التأثير‪ ،‬االنقياد لمن غلب‪ ،‬وفي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المعلم اإلضراب‪،‬‬ ‫تنفس شبابنا ال ّتعب‪ ،‬حلم‬ ‫واختزال عمله في رفع األجور ب َْل َه الحديث‬

‫‪..‬‬

‫‪.‬‬

‫عن جودة التعليم التي ال وجو َد لها فالمدرسة‬ ‫تلقن التلميذ إالّ‬ ‫أصبحت ال ّ‬ ‫الكمية القليلة من‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫أسبوعا = ثلث السنة‬ ‫أسبوعا = من أصل ‪51‬‬ ‫‪18‬‬

‫ً‬ ‫أسبوعا = يساوي ‪ 3‬أشهر وزيادة زمن‬ ‫‪18‬‬ ‫ً‬ ‫التدريس = ‪ 16‬درسا في ّ‬ ‫كل حصة‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫درسا‬ ‫أسبوعا للراحة = ‪33‬‬ ‫أسبوعا – ‪33 = 51‬‬ ‫‪18‬‬ ‫ً‬ ‫ضائعا‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫أسبوعا = ‪ 8‬أشهر راحة‬ ‫‪33‬‬ ‫ً‬ ‫‪ 18‬أسبوعا ليست كاملة‪ ،‬وينقص منها‪:‬‬

‫‪.‬‬

‫ال ّتخفيض في حصص رمضان‪ +‬غيابات‬ ‫ّ‬ ‫المعلم‪ +‬أيام االمتحانات‪ +‬إضرابات فماذا‬

‫‪..‬‬

‫فإن‬ ‫يدرس التلميذ؟ ودون تعليق كبير‪،‬‬ ‫ّ‬

‫األصالة والحداثة‪ ،‬والتف ّتح على ال ّتكوين‬ ‫المِ ْهني المستمرّ فهل ُت ّ‬ ‫مدارسنا‬ ‫حقق هذا‬ ‫ُ‬

‫من سبتمبر إلى نهاية جوان‪ ،‬ومع هذه‬

‫إن مدارسنا بحاجة إلى إصالح جوهري‬ ‫ّ‬

‫فهل هذا هو المطلوب من اإلصالح؛ تكريس‬ ‫العُ َطل في العُ َطل؟ ويضاف إلى هذا الهزال‪،‬‬

‫‪..‬‬

‫تحقيق هذا في برامجها؟‬

‫يعمل على تطوير الرأسمال البشري‪ ،‬وهذا‬

‫بؤر‬ ‫مدارسنا سوى‬ ‫هو الناقص فيها فلم تعد‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وتناسل حلقات اإلخفاق‪،‬‬ ‫إعاقات‬ ‫إلشاعة‬ ‫ِ‬ ‫وهذا ما جعل تقارير ال ّتنمية البشرية‬ ‫ُتشير على العرب بضرورة إعادة النظر في‬ ‫ات ً‬ ‫“إن ثمّ ة ّ‬ ‫فاقا واسع‬ ‫منظوماتها التربوية‬ ‫ّ‬

‫أن النظم التربوية في العالم‬ ‫النطاق على ّ‬ ‫العربي بحاجة إلى تحسين‪ ،‬إذ يذكر تقرير‬ ‫أن هناك‬ ‫البنك الدولي الصادر في العام ‪ّ 2008‬‬ ‫فجوة بين ما تق ّدمه أنظمة ال ّتربية في‬

‫البلدان العربية وحاجات ال ّتنمية وأهدافها‪.‬‬

‫مدارسنا بحاجة إلى إصالح‬ ‫جوهري يعمل على تطوير‬ ‫الرأسمال البشري‪ ،‬وهذا‬ ‫هو الناقص فيها فلم تعد‬

‫تقارير التّ نمية البشرية تُ شير‬

‫التربوية‬

‫‪.‬‬

‫الميزانية التي يعطيها للكرة؟‬

‫واالنحدار والهزال في المُ خرجات منذ‬ ‫اإلصالحات التي بدأت في أواخر ال ّتسعينات‬ ‫حتى تكريس اإلصالحات الجذرية في عامي‬

‫ترب‬ ‫األزمنة في هذه اإلصالحات التي لم‬ ‫ِ‬ ‫التلميذ على األدب‪ ،‬وال على اغتنام الوقت‬

‫‪.‬‬

‫فأين الوقت من ذهب وإذا كانت المدرسة‬ ‫ّ‬ ‫ترخص هدر الوقت وتم ّدد العطل‪ ،‬فأين ذلك‬ ‫ّ‬ ‫المسير الذي يكون أحرص على‬ ‫المعلم أو‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫معلم‬ ‫الوقت واستدراك ال ّتأخير وإ ّنه لم يع ّد‬ ‫ّ‬ ‫المعلم القنوع الذي يعمل‬ ‫اإلصالحات ذلك‬

‫‪.‬‬

‫الشأن العامّ على الخاص وكالمه ال‬ ‫سبق‬ ‫يُ ّ‬ ‫َ‬

‫الحال هكذا‪ ،‬فهل من المأمول أن يحدث‬

‫ومنظومتنا ال ّتربوية في الجزائر واحدة من‬ ‫تلك المنظومات العربية التي عرفت ّ‬ ‫الشلل‬

‫في صورة عكسية‪ ،‬إصالح تربوي مصدر ّ‬ ‫كل‬

‫ّ‬ ‫فمعلم اإلصالحات ال‬ ‫في الظالم دون كالم‪،‬‬

‫تغير ومُ تطوّ ر[‪ “]1‬فإذا كان‬ ‫اقتصاد عالمي مُ ّ‬ ‫ال ّتغيير وال ّتفعيل داخل هذه المنظومة‪ ،‬وفي‬ ‫ّ‬ ‫ظل الوضع المجتمعي الذي ال يعطي ربع‬

‫‪..‬‬

‫الطلبيات‪.‬‬

‫اإلخفاق‪ ،‬وهذا ما جعل‬

‫وتناسل حلقات‬ ‫إعاقات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫بلدان العالم العربي على ال ّتفكير المعمّ ق في‬

‫التطوّ ر المستدام للقدرة على المنافسة في‬

‫أساسية وعدم وجود مدرّ سي اللغة الفرنسية‬ ‫ّ‬ ‫اللغات‪،‬‬ ‫في الجنوب إصالح في هدر‬

‫ألن ال ّتعليم في األساس هو ال ّتدبير‬ ‫الخسائر؛ ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجيد في كل دواليب الدولة فاختلطت‬ ‫ّ‬

‫النظر في منظوماتها‬

‫كيفية تنظيم التعليم على نحو أفضل لضمان‬

‫اإلدارة‪ ،‬وتلك اإلضرابات التي يقوم بها‬ ‫ّ‬ ‫المعلمون لنيل حقوقهم‪ ،‬ونقص أستاذ مواد‬

‫بؤر إلشاعة‬ ‫ُ‬ ‫مدارسنا سوى ٍ‬

‫على العرب بضرورة إعادة‬

‫‪..‬‬

‫ُ‬ ‫الضغط الذي يمارسه التالميذ على‬ ‫ذلك‬

‫والتقليل من الواجبات‪ ،‬وكثرة‬ ‫ّ‬ ‫إ ّنها فوضى حاصلة في إصالح مُ تعثر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فتعطل الجه ُد‬ ‫إصالح أتى بالفشل الذريع‪،‬‬

‫فإن تقرير التنمية البشرية العربية‬ ‫كذلك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصادر عن برنامج األمم المتحدة اإلنمائي‬ ‫ّ‬ ‫أدلة على‬ ‫أن هناك‬ ‫للعام ‪ 2002‬يش ّدد على ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويحث‬ ‫تدهور نوعية ال ّتعليم في المنطقة‬

‫منظومتنا القديمة يكون التلميذ في المدرسة‬

‫اإلصالحات ال ّتربوية دامت العطل فعاشت‪،‬‬

‫العربية‪ ،‬أو تعمل اإلصالحات التربوية على‬

‫‪50‬‬

‫‪.‬‬

‫يخرج عن المطالبة بالحقوق قبل الواجبات‪،‬‬

‫المعلومات‪ ،‬بفعل تزايد العطل والراحات؟‬ ‫ً‬ ‫أسبوعا في السنة‪،‬‬ ‫فتلميذنا ال يقرأ إالّ ‪18‬‬ ‫في الوقت الذي يقرأ التلميذ في العالم بين‬ ‫ً‬ ‫أسبوعا في السنة وعتبتهم البرنامج‬ ‫‪ 34‬و‪36‬‬

‫الكامل‪ ،‬ال عتبة الثالثي األول والثاني[‪ ]2‬كما‬ ‫ّ‬ ‫ويتوقف تالميذنا عن ال ّتدريس‬ ‫هو عندنا‪،‬‬

‫وتفكيره في الراتب والمردوديات‪ ،‬فلم‬

‫الطالب‬ ‫ُ‬ ‫تحصل المواطنة للطرفين‪ ،‬فضعف‬ ‫والمطلوب‪ ،‬وتدهو َر المستوى‪ ،‬وزاد الضعف‬ ‫َ‬ ‫واشتعل الفسا ُد‪ ،‬والفساد في‬ ‫على الضعف‪،‬‬

‫ً‬ ‫فتكا‪.‬‬ ‫المنظومة التربوية أش ّد‬ ‫الفسا ُد‬

‫المدرسي؛‬

‫في الكتاب‬ ‫ويظهر‬ ‫ومدوّ نتي في هذا القول كتاب ّ‬ ‫اللغة العربية‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫ّ‬ ‫المتعلم شبه‬ ‫وكتاب ال ّتاريخ‪ ،‬كتابان يجعالن‬

‫في ال ّتمهين دون الحديث عن تلك اآلالت‬

‫العيب على امتداد أربعة عقود‪ّ ،‬‬ ‫تم اقتراح‬

‫بالشوائب؛‬

‫قبل االستعمال‪ ،‬بل ترمى في مقبرة القصدير‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫محل لها في ال ّتعليم العامّ وسوء‬ ‫فال‬

‫رغم ما فيها من مشاكل تربوية‪ ،‬ونقص في‬

‫أي لغة‪ ،‬وال يدرك تاريخ‬ ‫ببغاوي ال يفهم ّ‬ ‫بالده‪ ،‬وال يستطيع أن يكون مثل الشامبانزي‬ ‫في‬

‫كتابان‬

‫التقليد‪،‬‬

‫مليئان‬

‫يق ّدمان مادة النّصوص األدبية والتاريخ‬ ‫بخيستين‪ ،‬والحضارة العربية اإلسالمية‬ ‫والسكوت عن تاريخنا القديم‪،‬‬ ‫رخيصة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وفعل الحركات الوطنية‪ ،‬ويقفان عند حدود‬ ‫وكأن الجزائر حديثة العهد في امتالك‬ ‫ضيقة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫أن‬ ‫العربية‪،‬‬ ‫وأن تاريخها ليس من الماضي‪ ،‬أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫الماضي من سقط المتاع‪ ،‬وهذا بخس للثقافة‬

‫الوطنية‪ ،‬ولتلك االنتفاضات النضالية‪ ،‬وما‬ ‫عرفته الدول األمازيغية الثالث عشرة (‪ )13‬من‬

‫‪.‬‬

‫تطوّ ر وحضارة وأضيف إليهما كتاب ال ّتربية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يجل‬ ‫يمجد الدين‪ ،‬وال‬ ‫اإلسالمية الذي ال‬

‫‪.‬‬

‫المستوردة بالعملة الصعبة‪ ،‬ويأكلها الصدأ‬

‫‪.‬‬

‫أن ّ‬ ‫كل التالميذ يذهبون‬ ‫التوجيه يظهر في ّ‬ ‫ّ‬ ‫كأننا نع ّد لمعركة ال ّتطبيب أو‬ ‫إلى العلوم‪،‬‬

‫أصعب البداية‪ ،‬ولكن‬ ‫التهيئة والبداية‪ ،‬فما‬ ‫َ‬

‫جيوش من الطلبة‪ ،‬أليس هذا انتحارا مُ علنا‬

‫الثالثة التي نجد فيها إمكانات هائلة وأجهزة‬

‫لخوض البيولوجيا النّووية التي تحتاج إلى‬

‫‪.‬‬

‫لمنظومتنا وإذا تح ّدثنا عن المناهج التربوية‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫التخلف في‬ ‫تجسد‬ ‫عروشا مسندة؛‬ ‫فنجدها‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫البرامج المدرسية بمفردات ال عالقة لها‬ ‫بالواقع‪ ،‬وبنصوص مصطنعة منسوخة من‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النص‬ ‫النص األصيل‪ ،‬وحضر‬ ‫الشابكة‪ ،‬فغاب‬

‫الوسائل المطلوبة‪ ،‬وكان ذلك في ظروف‬ ‫في لحظات التق ّدم المعاصر‪ ،‬وفي األلفية‬ ‫متطوّ رة‪ ،‬نعود القهقرى بسرعة عجيبة‪،‬‬

‫ونتراجع عن المكتسبات القبلية‪ ،‬فأين الخلل‬ ‫يا ُترى؟‬ ‫ّ‬ ‫وإني لست بصدد تسويد وضعية اإلصالحات‬ ‫إن عدم‬ ‫ال ّتربوية في مجال الهدر العامّ ‪ ،‬بل ّ‬ ‫ال ّت ّ‬ ‫حكم اللغوي أسوأ‪ ،‬فإذا نظرنا إلى الواقع‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مرا‪ ،‬وأنقل للقارئ بعض‬ ‫اللغوي فنراه‬

‫الحديث الشريف‪ ،‬ويُ سقط ّ‬ ‫كل مفردات يرى‬

‫ألن النّظرية‬ ‫المشاهد الحزينة ال من النظريات ّ‬ ‫ّ‬ ‫والشك‪ ،‬بقدر ما‬ ‫في أصلها تحمل النقيض‬ ‫ً‬ ‫علميا‪ ،‬وبعض ما أقول‬ ‫أعتمد الواقع والثابت‬

‫وكأن الدين اإلسالمي إرهاب‪،‬‬ ‫فيها اإلرهاب‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫إصالحات كانت في مجملها صالحة‪ ،‬وعادت‬ ‫ِّ‬ ‫تؤد إلى الكارثة‬ ‫على أجيالنا بالفالح‪ ،‬ولم‬

‫وهل نحن في دولة الئكية مِ تعاب كتاب‬ ‫سطحي بسيط ال يعمل على تحريك ال ّتفكير‪،‬‬

‫ضعف لغوي في ّ‬ ‫ٌ‬ ‫اللغات‬

‫كالم العامة وخطب الجمعة‪ ،‬وبه أخطاء‬ ‫ُكتبنا المدرسية بها مجموعة‬ ‫ظاهرة‬

‫الطالب‬ ‫الثالث‪ ،‬ال يستطيع‬ ‫ُ‬

‫من التبخيسات؛ نالت أعراض المنظومة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫حقهم من أن‬ ‫المتعلمين‬ ‫تعط‬ ‫التربوية‪ ،‬فلم‬

‫وَ وَ لِي تلميذ كذلك؛ فلم أشهد ذلك االنحدار‬ ‫ّ‬ ‫اللغوي إالّ مع دفعة اإلصالحات التي عتبت‬

‫الحديث عن الفرق بين العدد‬

‫األولى في مستوى النّجاح في الباكالوريا‪،‬‬

‫تاريخهم الحافل القديم‪ ،‬فأين مستوى تقوية‬

‫والمعدود‪ ،‬واألمر أدهى‬

‫وال يحمل قارئه على ال ّتدبير‪ ،‬ومفرداته من‬

‫‪.‬‬

‫يعرفوا بأ ّنهم أمازيغيون عرب مسلمون‪ ،‬ولهم‬ ‫الوعي بالذات الجزائرية؟ وأين المواطنة‬

‫فإن آليات‬ ‫في صورتها العامّ ة؟ ومن ذلك‬ ‫ّ‬ ‫اإلفساد تكبر بإتقان‪ ،‬وتق ّدم آليات االنتصار‬ ‫التي ُتعمي صاحب القرار ُكتبنا التربوية‬

‫‪.‬‬

‫كسولة تعتمدها الدولة دون منافسة‪ ،‬وليس‬ ‫لها ّ‬ ‫حق إبداء الرأي في صنّاع الكتب‪ ،‬وال في‬

‫ّ‬ ‫عينتهم‪ ،‬أو في لجان ّ‬ ‫وكل‬ ‫نصبتها‪،‬‬ ‫أشخاص ّ‬ ‫لجنة ال تسير وفق رغبات المسؤول ُتستبدل‬

‫َ‬ ‫كتابة جملة صحيحة‪ ،‬دون‬

‫عندما تطالبه بكتابة عريضة‬ ‫ما‪ ،‬فال يدري كيف يكتب‬

‫فيها ال ّتعليم التقني في المرحلة المتوسطة‬ ‫ّ‬ ‫ويوجه له أفضل التالميذ‪،‬‬ ‫وفي الثانوية‪،‬‬

‫ّ‬ ‫يوجهون‬ ‫أن الطلبة الذين‬ ‫واألدهى من هذا ّ‬ ‫إلى ال ّتكوين المهني عندنا من المطرودين‪،‬‬

‫ومن ضعاف التالميذ‪ ،‬والذين ال مستقبل لهم‬ ‫أل ّنهم فاشلون في التعليم العام فهل يفلحون‬

‫أن واليات أخرى تسونامي لغوي‬ ‫ويعني ّ‬

‫‪.‬‬

‫حقيقي‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ضعف لغوي في اللغات الثالث‪ ،‬ال يستطيع‬ ‫َ‬ ‫الطالب كتابة جملة صحيحة‪ ،‬دون الحديث‬ ‫ُ‬ ‫عن الفرق بين العدد والمعدود‪ ،‬واألمر أدهى‬

‫حتى البداية‪ ..‬كوارث لغوية‬ ‫ال يمكن تعدادها‬

‫إن نسبة‬ ‫ال يمكن تعدادها‪ ،‬ونحن نقول‪ّ :‬‬

‫كيف يكتب حتى‬

‫البداية‪..‬‬

‫كوارث لغوية‬

‫وأن عدد‬ ‫النجاح في الباكالوريا ‪ 70‬بالمئة‬ ‫ّ‬

‫الحاصلين على درجة امتياز تجاوز خمسة‬ ‫آالف‪ ،‬أليس هذا تضليال وخرافة‪ ،‬أو هذا هو‬

‫‪.‬‬

‫أن‬ ‫ال ّتقني الذي هو عماد ال ّتصنيع‪ ،‬بدعوى ّ‬ ‫هناك وزارة ال ّتعليم والتكوين المِ هنيين‪،‬‬ ‫وهذا غرور في غرور‪ ،‬أليس ّ‬ ‫كل دول العالم‬

‫الجامعة سنة ‪ 2011‬م‪ ،‬وهذا في والية ُتع ّد‬

‫عندما تطالبه بكتابة عريضة ما‪ ،‬فال يدري‬

‫بلجنة موالية‪ ،‬فهذه هي الخرافة والسراب‬ ‫في أرض بقيعة ال تمطر إالّ األتعاب‬ ‫وإذا أتينا إلى ال ّتسيير فنجد حذف ال ّتعليم‬

‫مستخلص من دراسات ميدانية‪ ،‬ومن خالل‬ ‫ً‬ ‫مدرسا للغة العربية منذ سنة ‪،1984‬‬ ‫كوني‬

‫‪.‬‬

‫علي كباحث أن أقول‬ ‫نجاح اإلصالحات كان‬ ‫ّ‬

‫الهزيل‪ ،‬نصوص ال تترك للتلميذ حرية القرار‬ ‫ْ‬ ‫أبعدته عن األصالة‪ ،‬ولم‬ ‫أو التفكير‪ ،‬فقد‬ ‫تائها وَ ْل َه ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫انا‪ ،‬ال‬ ‫التلميذ‬ ‫تمكنه المعاصرة؛ فبقي‬ ‫فأصبح َح ْيراناً‬ ‫يعرف مقامَ ه‬ ‫َ‬

‫‪.‬‬

‫إصالح لم َ‬ ‫َ‬ ‫يرق للمستوى الشكلي‪َ ،‬‬ ‫الحديث‬ ‫بله‬ ‫َ‬ ‫عن مستوى المضمون‪ ،‬ولمِ ْسنا ِبدامغ البرهان‬ ‫مدى المفارقات الكبيرة بيننا وبين جيراننا‬

‫في بناء المناهج وفي ما يحمله من مواد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للمتعلم من معارف أليس من‬ ‫وما يعطيه‬

‫‪.‬‬

‫أن النقد‬ ‫الحقيقة التي هي مُ رّ ة‪ ،‬ولكن عسى ّ‬ ‫وأن األمم التي تقبل‬ ‫البنّاء يعمل على ال ّتغيير‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫النّقد هي التي تنجح في اإلصالحات وفي‬

‫ذات الوقت ال يجب تعليق فشل اإلصالحات‬ ‫ال ّتربوية على مشجب وزارة ال ّتربية‪ ،‬رغم‬ ‫أ ّنها تتحمّ ل النسبة الكبيرة من الفشل‪ ،‬ولكن‬

‫إذا كانت وزارة التربية تمأل القربة من فوق‬ ‫ووزارات أخرى تثقبها من تحت‪ ،‬فأ ّنى للقربة‬

‫أن ُتمأل! إذن كان يجب أن تكون اإلصالحات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بكل‬ ‫كل الوزارات والمجتمع المدني‬ ‫شأن‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪51‬‬


‫ملف‬

‫َ‬ ‫المرض الذي سرى في المدرسة‬ ‫ألن‬ ‫فئاته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كانت مصادرُ ه متع ّد ً‬ ‫دة‪ ،‬دون الحديث عن‬ ‫ّ‬ ‫المتأسسة‬ ‫المتطلبات الشرسة للعولمة‬ ‫تلك‬ ‫ّ‬ ‫على تنافسية قوية إلغائية‪ ،‬وهناك الرأسمال‬

‫ّ‬ ‫مؤهل وغير قادر على الخلق‪،‬‬ ‫البشري غير‬ ‫ّ‬ ‫مؤسساته في وضع غير‬ ‫بكل‬ ‫فالمجتمع‬ ‫ّ‬ ‫مريح‪ ،‬وبذا كانت ال ّتربية في وضع متدهور‪،‬‬

‫بل في مرحلة تنذر بالخطر‪ ،‬وال يمكن أن‬

‫أن ال ّتدهور الذي ينخر هذه المنظومة‬ ‫ننكر ّ‬ ‫ً‬ ‫شرسا منذ تع ّدد النقابات‪ ،‬التي اختزلت‬ ‫بدا‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫توقف‪،‬‬ ‫المعلم في رفع األجور دون‬ ‫مطالب‬ ‫نقابات تشعل التمرّ د‪ ،‬وال تطالب بتحسين‬

‫الفعل التربوي وال رفع المستوى العلمي‪،‬‬ ‫وال االهتمام بالتلميذ من الناحية الصحية‬

‫نطبل‬ ‫عنها في بالد المنشأ‪ ،‬ونحن ال نزال‬ ‫ّ‬ ‫لها بالمزمار‪ ،‬ونرقص على انهزامنا المُ نهار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تمكننا بناء نظرية لإلصالح‬ ‫وفي عدم‬

‫‪.‬‬

‫ال ّتربوي المِ سوار ولهذا وقع التراجعُ عن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وسكت‬ ‫العربية‪،‬‬ ‫مكتسبات قديمة فأعيبت‬ ‫ُ‬ ‫نفوذ الفرنسية فلم‬ ‫وقوي‬ ‫عن األمازيغية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫اإلصالح من إعطاء الوضع المريح‬ ‫يتمكن‬

‫‪.‬‬

‫ُ‬ ‫أواله لتعليم‬ ‫للعربية وال لألمازيغية‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫مساحات يومية على‬ ‫الفرنسية التي تنال‬ ‫ٍ‬

‫ّ‬ ‫كل ذلك‬ ‫حساب العربية واألمازيغية‪ ،‬ومع‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫مركزية ال تغادر مدارس‬ ‫الفرنسية بقيت‬ ‫فإن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫تالميذ الجبال والجنوب دون‬ ‫المدن‪ ،‬وبقي‬ ‫ً‬ ‫معرفة الفرنسية التي هي قدرهم رغما عنهم‬

‫‪.‬‬

‫والعلمية والثقافية‪ ،‬فنجد بعض النقابات‬ ‫ترهن أوالدنا لمستقبل مجهول‪ ،‬باغتنام‬ ‫األوقات العصيبة لإلضراب‪ُ ،‬‬ ‫وتساوم على‬

‫‪..‬‬

‫التربوي عندنا يعيش الخطر‪ ،‬فما العمل؟‬

‫أو جديد؛ حيث نبدأ الحديث عن مهمّ ة‬ ‫اإلصالح التربوي التي هي مهمّ ة الجميع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتطلب تضافر جهود الجميع‪ ،‬فاإلنسان‬ ‫وذلك‬

‫ال يكون إالّ بالتربية كما قال كانط ‪Emmanuel‬‬ ‫ً‬ ‫إنسانا إالّ‬ ‫“إن اإلنسان ال يمكن أن يصبح‬ ‫‪ّ Kant‬‬ ‫بواسطة التربية‪ ،‬إ ّنه ليس سوى ما تجعل منه‬ ‫التربية” فالوضع المعاصر يقتضي إصالح‬

‫اإلصالح ‪ La réforme de la réforme‬إن لم نقل‬

‫إصالح يقتضي عقلنة المدرسة ‪Repenser‬‬ ‫‪ l’école‬وإ ّنه ينبغي أالّ يكون اإلصالح من أجل‬

‫ُ‬ ‫الحديث عن مقام‬ ‫ال يمكن‬ ‫ّ‬ ‫اللغات الوطنية في مدرسة‬ ‫ً‬ ‫متالحقة في‬ ‫أزمات‬ ‫تُ عاني‬ ‫ٍ‬ ‫أدى إلى‬ ‫تدهو ِرها؛‬ ‫تدهور ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫اليأس داخل منظومة مريضة‬ ‫بعد ما يقرب من عقدين من‬ ‫التجارب الفاشلة‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫اللغات‪،‬‬ ‫وسأقف وقفات نقدية في هذه‬ ‫االنتكاس اللغوي في إصالحات‬ ‫وكيف حصل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحديث‬ ‫قلت فإ ّنه ال يمكن‬ ‫‪ 2004/2003‬ومهما‬

‫َست َْبدِ ل‬ ‫الرابعة ابتدائي إلى السنة الثانية‪ ،‬وي ْ‬ ‫ُ‬ ‫اإلصالح الرمو َز العربية بالالتينية‪ ،‬ويعدمُ‬ ‫َ‬ ‫اإلشارة إلى تعريب العلوم في الجامعة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫متوحشة‬ ‫منهجية العمل “بلسانية‬ ‫ويق ّدم لنا‬

‫تنتج األمية[‪ ”]3‬فهل نطلق على هذا اإلصالح‬ ‫إصالحا‪ ،‬وهو يفترس ّ‬ ‫ً‬ ‫اللغات الوطنية‬ ‫ً‬ ‫افتراسا إصالح يعمل على تمكين هيمنة‬

‫‪.‬‬

‫الفرنسية كلغة عمل وتواصل ويختزل‬ ‫ّ‬ ‫كأنها لغة‬ ‫إصالح العربية في ترقيتها؛‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فالتخلف في عدم العمل فيها وبها‪،‬‬ ‫متخلفة‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫مختلفين‪ ،‬وهو يعتب أبواب‬ ‫سجلين لغويين‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬

‫المدرسة‪ ،‬وفيها منافسة غير شريفة؛ منافسة‬ ‫اللغة األجنبية على ّ‬ ‫تدعو إلى تفضيل ّ‬ ‫اللغات‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫وتنص أكثر الدراسات والبحوث‬ ‫الوطنية‬

‫بأن التلميذ‬ ‫الميدانية القديمة والمعاصرة‬ ‫ّ‬ ‫عليه أن يحتكم إلى َّ‬ ‫الصوْ رَنة الشكلية للغته‬

‫في السنوات األربع من الدراسة بحيث‪ :‬يقرأ ـ‬

‫يعبر ـ يحاور ـ يع ّد‪ ،‬وهذا عبر إغماس‬ ‫يكتب ـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫لغوي في لغته الرّ سمية‪ّ ،‬‬ ‫ثم يمكن أن يتعلم‬

‫‪.‬‬

‫أكثر من لغة وإن لم يكن هذا‪ ،‬فمثالنا على‬

‫ذلك الدول المتق ّدمة مثل مجموعة الدول‬ ‫تعلم ّ‬ ‫الثماني التي ّ‬ ‫اللغات األجنبية بعد أربع‪/‬‬

‫‪1‬ـ ّ‬ ‫اللغة العربية‪ :‬هي ّ‬ ‫اللغة األمّ ‪ /‬لغة األمّ ة‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫واللغة الرسمية‬ ‫لغة االنسجام المجتمعي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫دستوريا‪ ،‬لغة عملت الدولة على إقامة‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أجنبية‬ ‫لغة‬ ‫َت ْف ِرض عليه‬ ‫واحدة أال يكفي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حجة لتأخير تدريس اللغات األجنبية؛‬ ‫هذا‬

‫‪.‬‬

‫حفظا لمتن ّ‬ ‫ً‬ ‫السعودية‪/‬‬ ‫أن ّ‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬أم ّ‬ ‫األردن نماذج على هذا ال ّتقديم‪ ،‬فنسأل هل‬ ‫السعودية‪/‬األردن من الدول المتق ّدمة؟ وما‬ ‫ّ‬

‫عن مقام ّ‬ ‫اللغات الوطنية في مدرسة ُتعاني‬ ‫ً‬ ‫أزمات متالحقة في تدهوُ ِرها؛ تدهوُ ر أ ّدى‬ ‫ٍ‬

‫المؤسسات التي تعمل على ترقيتها‪ ،‬فهي‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫تأهيل لهم دون‬ ‫رأسمال الجزائريين‪ ،‬فال‬

‫أي مجال؟ أال‬ ‫هو التق ّدم الذي أحرزتاه؟ وفي ّ‬

‫الوطنية واألجنبية وكان علينا العمل على‬

‫أميركا ـ بريطانيا ـ الفيتنام؟‬

‫يقرب من عقدين من التجارب الفاشلة‪،‬‬

‫والنهوض بمكوّ ناتها‪ ،‬وتثمين الذات العاملة‬

‫‪.‬‬

‫إلى اليأس داخل منظومة مريضة بعد ما‬ ‫فطالتها ي ُّد العبث وال ّتجارب المستوردة‪،‬‬

‫وبعضها كانت قديمة‪ ،‬وبعضها وقع التراجع‬

‫‪52‬‬

‫االعتبار إلى العربية‪ ،‬والرفع من مردوديتها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وجعلها َ‬ ‫الكفاية اللغوية‬ ‫لغة الجودة‪ ،‬لكن نرى‬ ‫ُ‬ ‫عادت للغة األجنبية التي أنزلت من السنة‬

‫الدول المتق ّد ُ‬ ‫ُ‬ ‫مة لِوَ لِي التلميذ‬ ‫بهذا‪ ،‬بل تتيح‬ ‫قائمة من ّ‬ ‫ً‬ ‫اللغات األجنبية التي يختارها‪ ،‬وال‬

‫ّ‬ ‫ينص بند‬ ‫ـ مواطن الخلل في اإلصالحات‪:‬‬

‫مستوى أداء الفرنسية‪ /‬االهتمام باألمازيغية‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫إن إصالح ‪ 2004/2003‬يقتضي ر ّد‬ ‫الجزائري‬ ‫ّ‬

‫خمس سنوات من دراسة ّ‬ ‫اللغة األمّ ‪ ،‬وبعضها‬ ‫ُت ّ‬ ‫ؤخرها إلى المرحلة اإلعدادية‪ ،‬وال نكتفي‬

‫َ‬ ‫قطاع ال ّتربية وال ّتعليم‬ ‫أن‬ ‫اإلصالح وخاصة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫كل المواطنين؛‬ ‫يمتاح منه‬ ‫قطاع مركزي؛‬ ‫ّ‬ ‫فنجاحه إصالح لكل المجتمع‬

‫اإلصالحات في ميدان لغات المدرسة‬ ‫الجزائرية على‪ :‬ترقية ّ‬ ‫اللغة العربية‪ /‬الرفع من‬

‫مناقشة في خصوص العربية في المجتمع‬

‫خلف ال يكمن في ّ‬ ‫وال ّت ّ‬ ‫اللغة بقدر ما يكمن‬ ‫ّ‬ ‫التحكم في‬ ‫في أهلها فكيف يمكن للتلميذ‬

‫رفع األجور؛ ّ‬ ‫باتخاذ التلميذ رهينة فالوضع‬

‫وإزاء الوضع الخطير ال ب ّد من منطق مغاير‬

‫ٌ‬ ‫ثابت وال‬ ‫ألن الدعمَ المجتمعي‬ ‫السياسي؛‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫تأهيلها والنهوض بها وبمكانة ألسن ُ‬ ‫الهوية‬

‫‪.‬‬

‫تجديد متنها وتطوير أدوات البحث والتعليم‬ ‫على المتون اللغوية‪ ،‬والعمل على الترجمة‬

‫منها وإليها‪ ،‬والعمل على استصدار الدعم‬

‫يجوز أن نقيس على فرنسا ـ كوريا ـ اليابان ـ‬ ‫إصالح تربوي لم يحصل الجهر فيه باعتماد‬

‫الفرنسية التي هي لغة الخفاء والقرار‪،‬‬ ‫والعربية لغة المظهر والشكل‪ ،‬فلم يحصل‬ ‫ُ‬ ‫الحسم في المسألة اللغوية‬

‫“‪..‬‬

‫والحسم‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫بطرس املعري‬ ‫التوجه في االختيار ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫اللغوي‪ ،‬إما‬ ‫جذريا في‬

‫ّ‬ ‫اللغات هي األولى أو الثانية‪ ،‬وهذا ما تفعله‬

‫إرادة سياسية واضحة ـ تقصير المجتمع‬

‫والمؤسساتي‬ ‫األساس للتواصل الشكلي‬ ‫ّ‬ ‫وال ّتحصيل العلمي وهذا الخيار لم يعد وارداً‬

‫وإن الدولة الجزائرية مُ طالبة بحماية ّ‬ ‫اللغة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الوطنية من كل حملة عدائية أو كل ما‬

‫عليها ـ غياب القرار السياسي ـ ضعف الخطط‬

‫اعتماد لغة أجنبية‪-‬فرنسية‪ ،‬وجعلها الوسيلة‬

‫ّ‬ ‫ظل ما تعانيه الفرنكفونية من تراجع‪،‬‬ ‫في‬

‫وعدم القدرة على رفع تح ّدي ال ّتنافس‬ ‫ّ‬ ‫اللغوي العالمي وإما تقويم العربية وتمكينها‬

‫‪.‬‬

‫من فرض نفسها كلغة رسمية فعلية وليست‬

‫فقط شكلية للبالد في اإلدارة والتعليم‪ ،‬دون‬ ‫إهمال ّ‬ ‫ً‬ ‫طبعا‪ ،‬وفي مق ّدمتها‬ ‫اللغات العالمية‬ ‫ً‬ ‫فصاعدا الصينية ّ‬ ‫ثم الهندية؛ اللتان‬ ‫من اآلن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫من شأنهما أن تفتحا للمتلقين آفاقا واسعة‬

‫في المستقبل القريب”[‪.]4‬‬

‫ّ‬ ‫تضمن الدولة‬ ‫حق المواطن أن‬ ‫أليس من‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وحقوق لغته األمّ ؛ فتحميها‬ ‫حقوقه اللغوية‬ ‫ّ‬ ‫وتؤهلها‪ ،‬وهي مسألة ديمقراطية تعمل‬ ‫اللغة الوطنيةُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الحية‪ ،‬أليست‬ ‫كل األمم‬ ‫بها‬ ‫ّ‬

‫الحية‪.‬‬ ‫األمم‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقلص‬ ‫وكل ما‬ ‫يؤ ّدي إلى إضعافها ونبذها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من تواجدها أو ما يجعل اللغة األجنبية‬ ‫أفضل منها‪ ،‬وعلينا الخروج من هذا الوضع‬ ‫ال ّتربوي السلبي غير المُ ريح؛ الذي ُت ّ‬ ‫فضل فيه‬ ‫الفرنسية على العربية‪ ،‬كما ُت ّ‬ ‫فضل الفرنسية‬ ‫كل ّ‬ ‫ّ‬ ‫اللغات األجنبية مهما كان علمُ ها‬ ‫على‬ ‫ُ‬ ‫وتقدّمُ ها إصالح رغم ما أثير حوله من جدل‬

‫‪.‬‬

‫وقالقل واضطرابات واعتصامات‪ ،‬فالدولة‬ ‫فطبقت‬ ‫عزمت على تطبيقه مهما كان‪،‬‬ ‫ّ‬

‫اإلصالح الفاشل‪ ،‬فمن تضرّ ر؟ هل تضرّ َر‬ ‫ألن أوالدهم‬ ‫أوال ُد النّخبة والقبيلة؟ بالطبع ال؛ ّ‬

‫يدرسون في الخارج‪ ،‬ومن بقي في الداخل‬

‫‪.‬‬

‫في حماية لغته ـ العداء للعربية وال ّتحامل‬

‫ال ّتربوية الناجعة ـ ضعف لغة اإلعالم وشيوع‬ ‫األخطاء ّ‬ ‫اللغوية وهذه النقاط التي كان‬

‫‪..‬‬

‫يجب أن يعالجها اإلصالح‪ ،‬ويأخذها في‬ ‫ّ‬ ‫يركز‬ ‫باب ال ّتخطيط‪ ،‬وفي هذه النّقاط الهامّ ة‬ ‫العالم الفاسي الفهري على مسألة ال ّتخطيط‬ ‫ّ‬ ‫اللغوي التي هي الدواء الناجع إذا ما وقع‬

‫ال ّتخطيط الفعّ ال في المسألة ّ‬ ‫اللغوية‪ ،‬وبه‬ ‫ُ‬ ‫رونق العربية إلى مجده‪ ،‬ويتزامن ذلك‬ ‫يعود‬

‫بالقضاء على جملة المتاعب التي أعاقت‬ ‫العربية عن ّ‬ ‫إن حصيلة المتاعب‬ ‫اللحاق قائالً‪ّ :‬‬ ‫جرّ اء عدم التخطيط يعود إلى‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪1‬ـ ضعف إتقان ّ‬ ‫المتعلم‪،‬‬ ‫اللغة العربية لدى‬

‫وضعف نوعية تعليمها‪ ،‬وضعف الوسائط‬ ‫ّ‬ ‫الموظفة في األنشطة ال ّتربوية المرتبطة‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واعتزازا بالذات‪.‬‬ ‫نفسيا وطمأنينة‬ ‫استقرارا‬

‫يدرس منهاج فرنسا‪ ،‬ويُ متحن في تونس‬ ‫وأمام هذا الوضع الذي لم يُ ْن ِزل العربيةَ‬ ‫منزلتَها؛ فإ ّنها في نزول وانحدار‪ ،‬وينضاف‬

‫ّ‬ ‫أعم‪.‬‬ ‫والمعارف‪ ،‬وضعف مردود التعليم بصفة‬

‫بغية الوصول إلى تنخيب المجتمع‪ :‬نخبة‬

‫مثل‪ :‬الحاجة إلى معاجم عصرية ومتنوّ عة‬

‫مختلف أسالك ال ّتعليم (بما فيها العالي‬

‫إ ّنه إصالح تربوي جزائري ال يتبنّى النّظرية‬

‫األفقية للمجتمع‪ ،‬بل يتبنّى نظرة عمودية‬ ‫مركزية وجماعة الدهماء والغوغاء‪ ،‬وهذا ما‬

‫يعود بنا إلى سياسة الكولون‪ ،‬ولعهد مَ َضى‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مطالبة‬ ‫لكل هذا‪ ،‬فالدولة الجزائرية‬ ‫واعتبارا‬ ‫ّ‬ ‫الوطنية المنزلةَ‬ ‫َ‬ ‫بوضع تخطيط يُ نزل الل ِ‬ ‫غات‬

‫األعلى‪ ،‬وتكون ّ‬ ‫الل ُ‬ ‫غات األجنبية على الخيار‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فال ُتفرض على المجتمع الجزائري لغة من‬

‫ّ‬ ‫المنغصات المتراكمة من‬ ‫إلى ذلك بعض‬

‫المواد واألهداف واألساليب ـ الحاجة إلى‬ ‫كتب قواعد عصرية ـ عالج مسألة غياب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جذاب ـ‬ ‫وتعلم‬ ‫ال ّتشكيل ـ طريقة تعليم‬

‫نقص في ال ّترجمة والتأليف ـ اضطراب في‬ ‫المصطلح ـ ضعف إدارة المسألة ّ‬ ‫اللغوية‬ ‫المؤسسات ّ‬ ‫اللغوية ـ عدم وجود‬ ‫ـ ضعف‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫يترتب عنه ضعف اكتساب المهارات‬ ‫بها‪ ،‬مما‬

‫ّ‬ ‫توفر لغة عربية شاملة‪ ،‬تغطي‬ ‫‪2‬ـ عدم‬

‫والتقني واألولي) وتوظف في مختلف المواد‬

‫واألنشطة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫المتعلم في المراحل األولى من‬ ‫‪3‬ـ تع ّثر‬

‫التمدرس ناجم عن صعوبة االنتقال من‬

‫لغة البيت (الدارجة المغربية أو األمازيغية)‬ ‫إلى لغة المدرسة (العربية الفصيحة) وعدم‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪53‬‬


‫ملف‬

‫ً‬ ‫تالفيا‬ ‫العناية بتطوير طرائق الدعم الالئقة‬

‫لسلبيات االزدواجية اللغوية‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الملم‬ ‫توفر المدرّ س الالئق للغة العربية‬ ‫‪4‬ـ عدم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجذابة‬ ‫بالجديد من طرق التعلم والتعليم‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫توفر الكتاب المدرسي والوسائط‬ ‫‪5‬ـ عدم‬

‫التربوية المالئمة[‪.]5‬‬

‫المجتمعية‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكم أن يكون في المرحلة‬ ‫االتكال على‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫االبتدائية فقط‪ ،‬وهي ال ب ّد من دخول كلّ‬

‫طفل إلى المدرسة ليقرأ ويحسب ويحاور‬ ‫ّ‬ ‫ويلخص وأما في المراحل الالحقة أن‬ ‫ّ‬ ‫تحصل المنافسة‪ ،‬وكلما واصلنا إلى المستوى‬

‫‪.‬‬

‫هذا برنامج تخطيطي‪ ،‬وكان األجدر أن نعمل‬ ‫ّ‬ ‫يوفر للغات المدرسة‬ ‫من أجل إصالح متين‬

‫ّ‬ ‫يقل العدد‪ ،‬وهذه هي القاعدة العلمية‬ ‫األعلى‬ ‫ّ‬ ‫الجيد‪ ،‬وقائد‬ ‫التي تعطي النّخبة والمتعلم‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اللغات‬ ‫اللغوية بإيالء‬ ‫ـ تعزيز المواطنة‬

‫ً‬ ‫واحدا‪ ،‬بل نجد أجياالً من الضحايا الذين‬

‫‪.‬‬

‫الضمان األمثل لالنتشار دون صعوبة وأرى‬ ‫اإلصالح في مجال ّ‬ ‫اللغات يعني‪:‬‬

‫الوطنية المكانة األولى في ال ّتدريس‪.‬‬

‫ّ‬ ‫المتعلم من القدر الكبير من الرصيد‬ ‫ـ تمكين‬ ‫المعرفي الذي يفهم ويع ّد ويتحاور ويكتب‬

‫‪.‬‬

‫فإن واقع اإلصالح يقول‬ ‫مسيرة الغد وهكذا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فردا‬ ‫الضحية ليس‬ ‫الضحية؟‬ ‫العكس‪ ،‬فمن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫المتعلمين‪.‬‬

‫يصنّفون بين األميين وأشباه‬ ‫ورغم ّ‬ ‫كل هذا فال نعدم ال ّتغيير لألفضل في‬

‫‪.‬‬

‫بلغته‬ ‫ـ اإلفادة من ّ‬ ‫اللغات األجنبية على أساس أن‬ ‫تضيف إلى لغاتنا وال ُنضاف فيها‬ ‫األجنبي‪ ،‬واستثمار ذلك في نقل المعارف‬

‫والكم أن‬ ‫هل يمكن للكثرة‬ ‫ّ‬

‫ولهذا رأينا تلك المغالطات في اإلصالح‬

‫يعمال على إنتاج النّ خبة التي‬ ‫تنتج وتصنّ ع وتدير البالد‪،‬‬

‫لغوية واضحة‪ ،‬وال على تخطيط تربوي‬ ‫سريعا على متون ّ‬ ‫ً‬ ‫مَ ِرن‪ ،‬فيمرّ‬ ‫اللغات الوطنية‪،‬‬

‫ال يمكن ذلك ً‬ ‫بد‬ ‫أبدا‪ ،‬فال ّ‬

‫الميزان‪ ،‬وما أصبح للغة العربية مكان‪،‬‬ ‫وفس َد‬ ‫ُ‬

‫من مراعاة النوع والتّ قليل‬

‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الكيل‬ ‫فطفح‬ ‫ويركز على لغة أجنبية واحدة‪،‬‬ ‫َ‬

‫أفال يمكن استدراك ما مرّ ؟ يمكن استدراك ما‬ ‫مرّ بالوقوف عند مكامن النّقص‪ ،‬الذي يكون‬

‫الكم لتحصل الترقية‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫المجتمعية‪.‬‬

‫بحسن ال ّتدبير‪ ،‬ومراعاة آليات العصر‪ ،‬والدفع‬

‫بالعربية نحو تحقيق حقول لم تصلها بعد‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫من مثل ال ّتعريب الشامل وكان يجب على‬

‫والتواصل‪ ..‬وهذه خطوات هامّ ة كفيلة‬ ‫بالحفاظ على هذا اإلرث المه ّدد باالنقراض‪.‬‬ ‫فإن اإلصالح التربوي لعام ‪2004/2003‬‬ ‫ومع هذا‬ ‫ّ‬

‫م همّ شها؛ فلم يعمل على االنتقال بالمدرسة‬ ‫ّ‬ ‫بكل‬ ‫إلى بناء مدرسة مواطنة تعترف‬ ‫المكوّ نات ّ‬ ‫اللسانية والثقافية‪ ،‬من مدرسة في‬

‫ُ‬ ‫أداء‬ ‫الجزائر إلى مدرسة جزائرية‪ ،‬ولذلك كان‬ ‫ً‬ ‫ضعيفا وهزيالً؛ ّ‬ ‫كأنها لغة أجنبية‬ ‫األمازيغية‬

‫‪.‬‬

‫يمكن الرفع من مردوديتها وكان يجب أن‬ ‫ً‬ ‫منسجما مع الخطاب‬ ‫يكون اإلصالح ال ّتربوي‬

‫األمازيغي في إطار العمل الجمعوي الذي‬ ‫ينظر للمسألة ّ‬ ‫اللغوية من باب حقوق اإلنسان؛‬

‫أن ُ‬ ‫الهوية األمازيغية عنصرٌ من عناصر‬ ‫على ّ‬ ‫الحق في ّ‬ ‫ّ‬ ‫تلقي اللغة األمّ ‪ ،‬والبحث عن الذات‬ ‫وسط رياح الهيمنة الثقافية واأليديولوجية‪،‬‬

‫وإعادة االعتبار لتراثنا الذي يه ّدده االنقراض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سؤال من نكون ّ‬ ‫كل مرّ ة‬ ‫كي ال يُ طرح‬

‫‪.‬‬

‫ولطي ملف األمازيغية ال ب ّد من مقاربة‬ ‫ّ‬ ‫عقالنية وتاريخية‪ ،‬واإلقرار بتلك األخطاء‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫حق األمازيغية‪ :‬من منع‬ ‫ارتكبت في‬ ‫التي‬

‫‪.‬‬

‫ِ‬ ‫اإلصالحات‬ ‫أن‬ ‫بتدريسها وما يُ ؤسف له ّ‬ ‫َ‬ ‫التربوية تعاطت مع المسألة بصورة العدمية‬

‫المتوارثة‪ ،‬ويغفل النظر في الجانب الشكلي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المتعلمين بدخولهم‬ ‫وال يعمل على إسكات‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخط الذي‬ ‫تفك مسألة‬ ‫والطوباوية‪ ،‬فلم‬ ‫تكتب به‪ ،‬بل تركت المجال للخيار والمفاضلة‪،‬‬

‫طالب ال يتقنون كتابة طلب ال ّتوظيف‪ ،‬وال‬ ‫ً‬ ‫أن عدد طالب فرنسا‪،‬‬ ‫ملء الصكوك‪،‬‬ ‫علما ّ‬

‫األداء‪ ،‬بل يمكن أن يحصل االستدراك بتوفير‬ ‫إطار قانون وتنشيط مدارس تربوية فاعلة‬

‫أن اإلصالح في‬ ‫والنّتيجة واضحة‪ ،‬فنرى ّ‬ ‫َّ‬ ‫الخط األخض َر للفرنسية‬ ‫مسألة الكتابة أعطى‬

‫مليونا ونصف مليون طالب من أصل ثمانين‬

‫وبرامج نوعية‪ ،‬وإيجاد مراكز بحث تربوية‬

‫إلى تلك المزايدة التاريخية التي ي ّتخذها‬ ‫البعض على أ ّنها مجال لألخذ أو لالبتزاز‪،‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫واقتصادا‪ ،‬يبلغ اآلن‬ ‫علما‬ ‫وهي أقوى منّا‬

‫مليون مواطن‪ ،‬والجزائر في جامعاتها اآلن‬

‫مليون وستمئة طالب من أصل ستة وثالثين‬ ‫ً‬ ‫مليونا من السكان‪ ،‬فكيف يمكن تفسير هذه‬ ‫ّ‬ ‫والكم أن يعمال‬ ‫الظاهرة؟ فهل يمكن للكثرة‬

‫على إنتاج النّخبة التي تنتج وتصنّع وتدير‬ ‫ً‬ ‫أبدا‪ ،‬فال ب ّد من مراعاة‬ ‫البالد‪ ،‬ال يمكن ذلك‬ ‫ّ‬ ‫الكم لتحصل الترقية‬ ‫النوع وال ّتقليل من‬

‫‪54‬‬

‫الشفاهية الزائلة إلى صورة البقاء والديمومة‬

‫استعمالها وتدريسها‪ ،‬وقمع الحركات المنادية‬

‫ّ‬ ‫المنغصات‬ ‫اإلصالح التربوي أن يُ راعي تلك‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫فقرا في‬ ‫جميعا للجامعات‪ ،‬ونحن نشكو‬

‫حدثت دينامية التدوين التي نقلت الصورة‬

‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ومختصوها معدومون‪،‬‬ ‫استعمالها محدود‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتحقق بن ُد االهتمام باألمازيغية وال‬ ‫فلذا لم‬

‫‪.‬‬

‫ال ّتربوي الذي لم يقم على تخطيط سياسة‬

‫إلى صلب التعليم‪ ،‬وكان وجودها في‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عظيما‪ ،‬كما‬ ‫فتحا‬ ‫اإلعالم السمعي والبصري‬

‫منبوذة‪ ،‬وتعليمها عن طريق وسيط أجنبي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأن‬ ‫اللغات األجنبية‪،‬‬ ‫وبطرائق تدريس‬ ‫ّ‬

‫السجل ّ‬ ‫اللغوي‬ ‫ـ جعل التلميذ يتأقلم مع‬ ‫ّ‬

‫الجديدة‪.‬‬

‫المؤسساتي لألمازيغية‪ ،‬بإقامة محافظة‬ ‫ّ‬ ‫سامية‪ ،‬فقد ُنقلت األمازيغية من التهميش‬

‫ومعلمين أكفاء‪ ،‬واعتماد وسائل حديثة‪،‬‬ ‫فاعلة؛ لتحقيق الجودة في إنتاج األبحاث‬ ‫ال ّتربوية‬

‫واألدوات‬

‫الضرورية‬

‫لل ّتسيير‬

‫ال ّتربوي‪ ،‬وقيام تخطيط لغوي هادف يح ّد‬

‫‪.‬‬

‫من االختالالت اللغوية األساسية‬ ‫ً‬ ‫دستورية‬ ‫مكتسبات‬ ‫أن‬ ‫ٍ‬ ‫‪2‬ـ األمازيغية‪ :‬ال ننكر ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحققت خالل العشرية األخيرة؛ من حيث‬ ‫ّ‬ ‫الشروط القمينة لتحقيق القانون‬ ‫توفير‬

‫‪.‬‬

‫الحتواء األمازيغية كما لم تشر اإلصالحات‬

‫ّ‬ ‫خاصة ومحدودة‪ ،‬وهي ضمن‬ ‫كأن األمازيغية‬ ‫ّ‬ ‫حقوق مهضومة ألقلية محقورة فنعطي لهم‬

‫مطالبهم الثقافية‪ ،‬وعليهم السكوت‪.‬‬

‫يحتو المسألة‬ ‫وإن اإلصالح ال ّتربوي لم‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫في التعميم التدريجي‪ ،‬بل كرّ س مبدأ‬ ‫التخصيص اللغوي والجهوية والتبسيط‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫للمسألة‪ ،‬ولم ينظر للمسألة من بابها العريض؛‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مؤقت‪،‬‬ ‫مسكن إلى حين‪ ،‬أو هو تجميل‬

‫ال ّثقافية الجزئية‪ ،‬وهو عمل ينطوي على‬ ‫ّ‬ ‫التفكك واالنغالق‪ ،‬ولم‬ ‫مخاطر االنزالق نحو‬

‫وتظهر الحقيقة‪ ،‬فماذا نحن فاعلون؟‬ ‫ً‬ ‫تربويا‬ ‫إن األمازيغية كان يجب أن ُتعالج‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وسياسيا‪ ،‬وهذا هو البرنامج الكفيل بالعالج‬

‫ّ‬ ‫تهم المجتمع الجزائري في‬ ‫أن المسألة‬ ‫على ّ‬ ‫ليته‪ ،‬فترك الفجوة الداعية بالخصوصية‬ ‫ُك ّ‬

‫يخرج اإلصالح من خطاب إحياء السلف‬

‫الصالح‪ ،‬وإسقاط الماضي على الحاضر‪،‬‬

‫واجترار بقايا القبيلة‪ ،‬والمغاالة في تمجيد‬ ‫ّ‬ ‫واللغوي‬ ‫خصوصية النموذج التاريخي‬

‫وسوف يأتي وقت تزول فيه المساحيق‪،‬‬

‫ً‬ ‫تربويا بتهيئة لغوية في معجمها‬ ‫الواقعي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وفي تعليمها وفي تعميمها‪ ،‬وسياسيا أال‬ ‫تدخل في المعالجة ال ّتجزيئية الكفيلة‬

‫‪..‬‬

‫بتحويلها إلى بؤرة توتر اجتماعي‪ ،‬فال نريد‬

‫الضيق؛ فال تستدعي إالّ‬ ‫ثقافية بالمنظور‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المنظور ال ّتراثي أو الثقافي أو الرّ قص‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وبعضا من‬ ‫الكسكسي‪،‬‬ ‫الشعبي وفتل‬

‫والوَ حدة والشفافية والديمقراطية‪ ،‬كما‬

‫وعلى ضوء هذا واصلت اإلصالحات في‬ ‫ال ّتعاطي مع األمازيغية على ّ‬ ‫أنها مسألة‬

‫أن تحصل عندنا بلقنة وطنية‪Bulkanisation‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫أمثال هذه‬ ‫بأن‬ ‫فعلمتنا ال ّتجارب‬ ‫‪،national‬‬ ‫ّ‬ ‫المسائل ُتعالج في إطار الحوار والحكمة‬

‫ّ‬ ‫التخلف‪ ،‬وهذا‬ ‫التاريخ المعتمد على بقايا‬

‫‪.‬‬

‫يكمن في هذا الوصف؛ فالمسألة تستدعي‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تشكل اإلرث الكبير‬ ‫بمسألة األمازيغية أل ّنها‬ ‫للدول المغاربية‪ ،‬واالهتمام بها اهتمام‬

‫بالتاريخ والوحدة والتراث‪:‬‬

‫“‪1‬ـ إ ّنها مُ عطى تاريخي تضرب جذوره في‬

‫‪.‬‬

‫أعماق التاريخ والحضارة المغاربيين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أساسيا في ال ّثقافة‬ ‫عنصرا‬ ‫تشكل‬ ‫‪2‬ـ إ ّنها‬ ‫ّ‬ ‫واإلرث المشترك بين كل مكوّ نات الوحدة‬

‫إن االعتراف باألمازيغية هو‬ ‫ّ‬

‫وديمومتها”[‪.]6‬‬

‫ال ّتدريس لساعات قليالت وعن البحث في‬

‫حِ كايا الجدات‪ ،‬وجمع المدوّ نات‪ ،‬وإقامة‬ ‫ً‬ ‫معالجة‬ ‫المؤسسات‪ ،‬فاإلصالح اعتبرها‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جزئية كفيلة بتغيير النّظرة القديمة‪ ،‬وهذا‬ ‫ً‬ ‫كثيرا‪ ،‬أو هو عالج جزئي‬ ‫عالج قد ال يدوم‬

‫والسياسية واإلقرار بها‬ ‫والجغرافية والدينية‬ ‫ّ‬

‫لغة وطنية‪ ،‬ولمَ ال تكون لغة رسمية‪ ،‬يمكن‬ ‫أن نقول ّ‬ ‫إننا دخلنا مرحلة األمان‪ ،‬وال يدخل‬ ‫البلد في حرب ّ‬ ‫اللغات‪ ،‬وال في االقتتال بيننا‬ ‫في مجال ّ‬ ‫اللغات‪ ،‬فكيف يقتتل الجزائريون‬

‫بمجرّ د أن يعترف بعضهم ببعض‪ ،‬فكيف‬ ‫نقتتل بعد ترسيخ المساواة ّ‬ ‫اللغوية‪ ،‬بل‬

‫للحرية والمساواة والكرامة‪ ،‬واألمازيغية‬ ‫ّ‬ ‫مستقلة مُ تج ّددة‬ ‫منظومة ثقافية ُهويّ اتية‬ ‫في بالد تامزغا‪ ،‬وهي المُ ح ّدد المركزي ُلهوية‬

‫مجرد لغة‪ ،‬بل هي‬ ‫ليست‬ ‫ّ‬ ‫تتميز بنزعتها‬ ‫قيم ثقافية‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسانية وبميلها للحرية‬ ‫والمساواة والكرامة‬

‫تفاعلت مع مكوّ نات العربية واإلسالم‪.‬‬

‫بأن‬ ‫ومن الشيء الذي ال يستقرّ عليه األوان‪ّ ،‬‬ ‫األمازيغية من األفضل أن ُتعالج في إطار‬ ‫احتواء ذلك الخطاب التحاملي على ّ‬ ‫كل ما‬ ‫هو عربي‪ ،‬ذلك الخطاب الذي يق ّدم صورة‬

‫مُ شوّ هة للفتح اإلسالمي؛ خطاب يسكت عن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويمجد الرمو َز القديمة‬ ‫كل ما هو فرنسي‪،‬‬

‫من مثل‪ :‬ماسينيسا‪ /‬يوغرطة‪ /‬نوميديا‪ /‬يوبا‪/‬‬ ‫الكاهنة‪/‬‬

‫كسيلة‪..‬‬

‫والسكوت عن طارق بن‬

‫زياد‪ /‬يوسف بن تاشفين‪ /‬المهدي بن تومرت‪/‬‬

‫إن النهوض بها ركيزة في مشروع المجتمع‬ ‫‪4‬ـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتطلع إليه الدول‬ ‫الديمقراطي الحداثي الذي‬

‫ولذا فالمسألة األمازيغية كان يجب أن‬ ‫ُتعالج في إطار توافقي ننأى بها عن‬

‫الوطن؛‬

‫وباعتماد‬

‫الشرعية‬

‫التاريخية‬

‫َ‬ ‫ّ‬ ‫المسألة أل ّنها من الخطورة بمكان‪،‬‬ ‫أؤكد‬

‫والحضارية للشخصية الوطنية‪.‬‬

‫على العالم المعاصر لتحقيق شروط ازدهارها‬

‫القواسم المشتركة التي تجمع مكوّ نات‬

‫تغيير في الذهنيات؛ ألنّ ها‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫يتعين أن تنفتح األمازيغية‬ ‫وأخيرا فإ ّنه‬ ‫‪6‬ـ‬ ‫ّ‬

‫األمازيغية في إطار شمولي؛ بال ّتركيز على‬

‫الجزائر ومظهر خصوصيتها الحضارية‪ ،‬وقد‬

‫الوطنية بال استثناء‬ ‫ّ‬ ‫‪3‬ـ إ ّنها تم ّثل إحدى الرموز اللغوية والثقافية‬

‫المغاربية‪.‬‬ ‫‪5‬ـ ّإن العناية بها مسؤولية وطنية‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫إن عُ ولجت‬ ‫مُ ناقض ُلهويتنا اإلسالمية ولهذا ْ‬

‫تتميز بنزعتها اإلنسانية وبميلها‬ ‫قيم ثقافية‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫والمتبصرة‬ ‫المعالجة السياسية الجريئة‬

‫وإكراهاتها‪ ،‬وبين مستلزمات الحفاظ على‬ ‫الذات والهوية ال ّثقافية وكان يجب الوعي‬

‫طبق في إطار مغلق‬ ‫ال ّتراتبية‪ ،‬وهذا في ما يُ ّ‬

‫إن االعتراف باألمازيغية هو تغيير في‬ ‫ّ‬ ‫الذهنيات؛ ّ‬ ‫ألنها ليست مجرّ د لغة‪ ،‬بل هي‬

‫أن األمر ال‬ ‫هو إحياء األمازيغية ويؤسفني ّ‬

‫والمفتوحة على المستقبل‪ ،‬والتوفيق بين‬ ‫ّ‬ ‫المتوحشة‬ ‫حاجيات الوطن الشاسع والعولمة‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫وإني‬ ‫لشراء السكوت عن المطالبة بالحقوق‬ ‫تحفظ من تلك التّصرّ فات المُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫مُ‬ ‫خلة بالوحدة‬

‫ّ‬ ‫أن مسألة اإللغاء أو الفرض‬ ‫علمتنا الحياة ّ‬ ‫وأن عدم نزول الملف ّ‬ ‫اللغوي‬ ‫مآلها اإلخفاق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للعامّ ة مآله الفشل‪ ،‬ويكفينا فشالً من‬ ‫ال ّتعريب النازل من األعلى‪ ،‬والذي ّ‬ ‫تم في‬

‫ظروف مجهولة‪ ،‬ووقع تجميده من أعلى‪.‬‬

‫المختار السويسي‪ /‬األمير عبدالقادر‪ /‬عبد‬ ‫الحميد بن باديس… نريد أن ُتعالج المسألة‬ ‫ّ‬ ‫خطها‬ ‫في إطار ر ّد االعتبار لألمازيغية في‬ ‫ّ‬ ‫الخط العربي‬ ‫التفيناغي‪ ،‬وإن لم يكن فيكون‬ ‫هو البديل‪ ،‬وتغيير ذهنية تلك الحركات‬

‫اإلقصائية التي تنظر إلى الحضارة المشرقية‬ ‫على أ ّنها عقيم والحضارة الغربية بديل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫مشروعية االحتواء‪،‬‬ ‫فتضفي على الغرب‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحله إالّ‬ ‫اللغوي ال‬ ‫بأن الملف‬ ‫ونؤكد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والشرعية‪ ،‬فال لتوطيد‬ ‫الحكومات المنتخبة‬

‫الذي لم يق ّدم المناعة المطلوبة المتصاص‬

‫المسألة إلى غد مجهول‪ ،‬أو إلى حاكم يأتي‬

‫وأبقى على تمجيد فِ عْ ل فرنسا اليعقوبية‬

‫سلطة بوليسية‪ ،‬وال للقمع والكبت‪ ،‬وتمييع‬ ‫بعدي‪ ،‬أو السكوت عن قضايا عميقة إلى زمن‬ ‫الحق‪ ،‬فال ّتسويف فتيل وحرب قادمة‪ ،‬فال‬

‫وهو نوع من ال ّتقصير في اإلصالح ال ّتربوي‬

‫المفاعيل السلبية لزمن كان ذات مرّ ة‪،‬‬ ‫التي تعمل لصالح االحتواء‪ ،‬وبقي المعرّ بون‬ ‫سلبيين ينظرون لألمازيغية على أ ّنها‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪55‬‬


‫ملف‬

‫العداء وال ّتجزئة‪ ،‬أليست معرفة األمازيغية‬ ‫زيادة في معرفة ّ‬ ‫اللغات؟ وما دام األمرُ في‬

‫جيد؛ ّ‬ ‫ألنه ال يدخل في النّقصان‪.‬‬ ‫زيادة فهو ّ‬ ‫ّ‬ ‫بأن اللغة‬ ‫سلمنا‬ ‫ويقول أحمد بوكوس “إذا‬ ‫ّ‬ ‫األمازيغية لغة وطنية‪ّ ،‬‬ ‫تعبر عن مكوّ ن‬ ‫وأنها ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أساسي ُ‬ ‫حق‬ ‫وأن تعلمها‬ ‫للهوية الوطنية‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تفضل‬ ‫قواها لالنفصال عن األصالة نخبتنا‬ ‫ألن الغرب أغراها‪ ،‬فتركب‬ ‫الهجرة واالهتجار؛ ّ‬

‫غير قابل للتّصرّ ف‪ ،‬حينئذ يصبح إدماجها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاصا على أساس الوعي‬ ‫فرضا‬ ‫في التعليم‬

‫واآلخر يسحرها‪ ،‬وتستأجر لغته وتترجاه أن‬

‫مختلفة‪ ،‬والتصوّ ر الذي أقترحه يرتكز على‬

‫‪.‬‬

‫والمسؤولية‪ ،‬وهذا اإلدماج قابل لتصوّ رات‬ ‫أربعة مبادئ‪ :‬التعميم واإلجبارية والشمولية‬

‫‪.‬‬

‫والتوحيد[‪ “]7‬إذن فالمسألة األمازيغية‬ ‫ال يكفي أن يكون التعامل معها على ّ‬ ‫أنها‬ ‫مُ عطى مدرسي أو ثقافي‪ ،‬بل هي أعمق‪،‬‬ ‫األغوار‪،‬‬

‫بعيدة‬

‫ممت ّدة‬

‫الجذور‪،‬‬

‫وأراها‬

‫تجيب عن تلك السياسة الفرنكفونية التي‬

‫تسعى الحتواء الدول المغاربية‪ ،‬وخلق بؤر‬ ‫الهوية ّ‬ ‫بدعوى المحافظة على ُ‬ ‫اللغوية‪ ،‬وخلق‬

‫معركة بين ُدعاة العربية و ُدعاة األمازيغية‪،‬‬ ‫اللغة الفرنسية نفسها البديل ّ‬ ‫لتجد ّ‬ ‫اللغوي‬ ‫ّ‬ ‫المفضل ولهذا ال يجب التعامل مع المسألة‬

‫‪.‬‬

‫بالحرمان ّ‬ ‫ألن الحرمان يولد التّطرّ ف‪،‬‬ ‫اللغوي؛ ّ‬ ‫وال بالتفاضل ّ‬ ‫اللغوي‪ ،‬بل بالعدل بينهما في‬ ‫يتبين األفضل‪ ،‬وكذا في إنزال‬ ‫العطاء‪ ،‬حتى‬ ‫ّ‬

‫المقام بشرط العلمية واإلنتاج‪ ،‬فال يجب أن‬ ‫يقع تحريم لغة من باب تفضيل لغة “عندما‬ ‫ً‬ ‫فإن‬ ‫محروما من سلطة الكلمة‬ ‫يجد نفسه‬ ‫ّ‬ ‫نظرته إلى العالم هي التي تصبح غير مكتملة‪،‬‬

‫أن السلطة التي يمكن أن يمارسها على‬ ‫كما ّ‬ ‫أبناء العالم تصبح ضعيفة ومح ّددة بشكل‬ ‫ّ‬ ‫اللغوية‬ ‫كبير[‪ “]8‬وهكذا فرغم الصحوة‬

‫‪.‬‬

‫بواخر الموت لتنقلها إلى الضفة األخرى‪،‬‬

‫يقبل‪ ،‬فأصبح األجنبي يُ ملي ما يُ ريد‪ ،‬ونقبل‬ ‫دون مناقشة ما يُ ريد‪ ،‬وال نرى إالّ بعين اآلخر‬

‫ُ‬ ‫لساننا في المتجر والمقهى‪،‬‬ ‫افرنجج‬ ‫لقد‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نخبة النفوذ والقرار وأصحاب‬ ‫واستلبت‬ ‫ٌ‬ ‫أزمة في المواطنة‬ ‫رؤوس األموال فحصلت‬

‫‪..‬‬

‫ّ‬ ‫اللغوية فاألزمة أزمة ألسن‪ ،‬وأزمة الفرنسية‬

‫ُت ّب ً‬ ‫عا فتلك هي المشكلة‪ ،‬فنحن مغلوبون‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫فلغاتنا َت ْس ُقط‬ ‫لغات الغير‪،‬‬ ‫على أمرنا بتغلب‬ ‫بضعفنا وانهرامنا في نِحل األجنبي وتقليده‬ ‫في زيّ ه ومأكله ولباسه‪ ،‬وأما لغته فنحن‬

‫لها من العابدين‪ ،‬وبها نعمل على سقوط‬ ‫لغتنا؛ أل ّننا من التابعين‪ ،‬وكما قال ابن حزم‬

‫األندلسي “إ ّنما يفيد للغة األمّ ة وعلومَ ها‬ ‫وإن ّ‬ ‫ُ‬ ‫اللغة‬ ‫ونشاط أهلها‬ ‫وأخبارها قوّ ة دولها‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫يسقط أكثرها بسقوط أهلها ودخول غيرهم‬ ‫عليهم” وهكذا تضعف ّ‬ ‫اللغة جرّ اء وضعها‬

‫‪.‬‬

‫كتراث وطني‪ ،‬والعربية كلغة حضارة وعلم؟‬

‫التبعية‪ ،‬وتلك هي المصيبة التي ال نعلم بها‪.‬‬

‫يعشش في أذهان بعض فئات المجتمع‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الناطقة بلغة‬ ‫ّخبة‬ ‫وبخاصة الن‬ ‫الجزائري‪،‬‬

‫ألن (النّخبة)‬ ‫واحدة‪ ،‬وهي الفرنسية الساحرة؛ ّ‬ ‫مُ نغلقة على لغة واحدة‪ ،‬وال تنظر للعالم إالّ‬

‫عن موت غير معلن للغات الوطنية‪ ،‬ووضعية‬ ‫ناتجة عن استصغار ّ‬ ‫اللغات الوطنية بفعل‬

‫سكوت الدولة عن تصرّ فات مم ّثليها في‬

‫اإلدارة‪ ،‬وعن تلك القرارات الرمزية باسم‬

‫الدولة‪ ،‬وهذا ما يلمس في ممثلي دولتنا في‬ ‫الخارج من اشتراط إتقانهم الفرنسية‪ ،‬دون‬

‫ّ‬ ‫التحكم في العربية‪ ،‬بل واشتراط‬ ‫اشتراط‬ ‫على ممثلي الدول األجنبية إتقانهم الفرنسية‪،‬‬

‫وفي ال ّتعيينات المحلية والخارجية التي‬ ‫ُ‬ ‫وتي من قوّ ة‬ ‫ال ينظر إلى المعرّ ب مهما أ‬ ‫َ‬

‫استيعاب ثقافات أخرى خارج الفرنسية‪ ،‬مع‬ ‫ّ‬ ‫نكون‬ ‫للتملك أو لل ّترك وال ّتهذيب‪ ،‬فأن‬ ‫فرص‬ ‫َ‬

‫الحاكمة في بالد المغارب‪ ،‬وتساعد على قمع‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫العمق‬ ‫التاريخ‬ ‫ينصف‬ ‫اللغات الوطنية‪ ،‬فمتى‬

‫اإلقصائية؟‬ ‫‪3‬ـ ّ‬ ‫اللغة الفرنسية‪ :‬سيكون حديثي في هذه‬ ‫ّ‬ ‫النّقطة عن االستعمار اللغوي الذي ما يزال‬

‫امتالك الفرنسية في التوظيف وذلك عبارة‬

‫بمسير جزائري وفي بلد‬ ‫فرض كفاية‪ ،‬فكيف‬ ‫ّ‬ ‫كالجزائر ال يعرف من لغته إالّ السالم عليكم‪،‬‬

‫هو االستيعاب والترجمة‪ ،‬وهو سبيل إلى‬

‫والمعجمية‪ ،‬فلم نعمل بصيغة النّفعية كما‬ ‫ّ‬ ‫فتمل ُ‬ ‫ك اللغات عند الغربيين‬ ‫يعمل اآلخرون‪،‬‬

‫ومتى تستفيق تلك النّخبة من وحشيتها‬

‫التفضيلي للغات األجنبية‪ ،‬بل واشتراط‬

‫الحية‪ ،‬ونحن‬ ‫وهذا ما ال تقوم به األمم‬ ‫ّ‬

‫كلغة دونية في السوق ّ‬ ‫اللغوية‪ ،‬وذلك ما‬

‫الثقافي الجزائري المبني على األمازيغية‬

‫التخلي عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫اللغة األمّ ‪/‬لغة األمّ ة‪ ،‬وال ّتعامل‬ ‫إلى‬

‫المعبودة‪ ،‬فكيف نتدبّر األمر؟‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ك ّ‬ ‫ّ‬ ‫تمل َ‬ ‫ثقافية‬ ‫حتمية‬ ‫اللغات األجنبية‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫وعالمية‪ ،‬والوسيلة إلى ذلك هو تعلمها‬ ‫َ‬ ‫مجال للرفض‬ ‫وال ّترجمة منها وإليها‪ ،‬فال‬ ‫في قبول ّ‬ ‫اللغات األجنبية‪ ،‬وما هو مطروح‬

‫المؤسسات الوطنية لمّ ا‬ ‫فإن‬ ‫األمازيغية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫صراعا لغوياً‬ ‫ً‬ ‫تدخلها هذه اللغة‪ ،‬وبقينا نعيش‬ ‫بفعل لغة النّخبة (الفرنسية) التي تنتج النّخب‬

‫‪56‬‬

‫من زاوية هذه ّ‬ ‫فكأن العالم مختصر‬ ‫اللغة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫نخبتنا‬ ‫فيها‪ ،‬وال يبقى إالّ بها فلقد افتقدت‬ ‫الهوية ّ‬ ‫المفرنسة ُ‬ ‫لباس الغير‬ ‫اللغوية‪ ،‬ولبست‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بكل‬ ‫علها تكون‪ ،‬وهو بخس ذاتي فتسعى‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عنف اإلدارة‬ ‫حاالت‬ ‫المجال ال ّتضييق من‬ ‫ً‬ ‫والمؤسسات والتي تخلق نوعا من الدعوة‬ ‫ّ‬

‫يُ سهم في تغيير بنياتها ِ‬ ‫الصواتية والصرفية‬

‫ّ‬ ‫وتمل ُ‬ ‫ك اللغات عندنا يعني‬ ‫يغني الترجمة‪،‬‬ ‫علينا أن نتدبّر أم َر لغاتنا بالبحث في بعث‬ ‫الن ََّفس في برامجنا ومشاريعنا‪ ،‬وإدخال‬

‫َ‬ ‫بأن‬ ‫ي ّ‬ ‫الحماس إلى باحثينا وطالبنا‪ ،‬وأن نعِ َ‬ ‫َ‬ ‫إقامة المعرفةِ تحتاج إلى االستفادة من‬ ‫ال ّتجارب المتراكمة‪ ،‬وهذه سمة الحضارة‪،‬‬

‫ُ‬ ‫بأن العودة‬ ‫العلم‬ ‫وفي ذات الوقت يجب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلى األصل هي ّ‬ ‫الصواب‪ ،‬بل ذلك ما يحقق‬ ‫االنسجام‪ ،‬ولذا كان السبيل األوفى في هذا‬

‫لغوية في العربية‪ ،‬بل التأشيرة هي امتالك‬ ‫الفرنسية دون غيرها من ّ‬ ‫اللغات األجنبية‬

‫‪.‬‬

‫وهذا عبارة عن َت َلف تدريجي للغات البلد‪،‬‬ ‫بأن إتقان لغة البلد فرض عين وليس‬ ‫نعلم‬ ‫ّ‬

‫ويتع ّثر لسانه في لغته‪ ،‬أليست هذه هي الغربة‬ ‫ّ‬ ‫اللغوية أو المنفى في الوطن وقد يسأل‬

‫‪.‬‬

‫القارئ ما دخل هذا في اإلصالحات ال ّتربوية؟‬

‫بأن اإلصالحات ال ّتربوية لعام ‪ 2003‬م‬ ‫نجيبه ّ‬ ‫ّ‬ ‫لم ّ‬ ‫تعزز لغات البلد‪ ،‬بل فضلت اللغة األجنبية‪،‬‬ ‫لما أعطتها من مقام وذلك ما جعل المسؤول‬ ‫عندنا يقع في أخطاء لغته دون اهتمام يُ ذكر؛‬ ‫ّ‬ ‫يتحفظ ويتحرّ ز ذلك المسؤول من‬ ‫بينما‬

‫تشن‬ ‫الوقوع في أخطاء الفرنسية‪ ،‬فسوف‬ ‫ّ‬ ‫عليه حرب قائمة‪ ،‬وهذا ما يقرأه في دروس‬

‫بأن الخطأ عيب وشتيمة‪ ،‬هذا من‬ ‫الفرنسية‪ّ ،‬‬

‫فإن اإلصالح لم ينفتح‬ ‫جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية‪ّ ،‬‬ ‫على التع ّدد ّ‬ ‫اللغوي األجنبي‪ ،‬فحصر نفسه‬ ‫في االهتمام بالفرنسية فقط‪ ،‬ونظ َر إليها على‬ ‫أ ّنها اللغة العلمية والعالمية التي يقطر منها‬

‫العلم دون غيرها من ّ‬ ‫اللغات‪ ،‬ومن ال يعرف‬

‫الفرنسية فال يعرف‬

‫العالمَ ‪.‬‬

‫وهذه نقطة‬

‫ّ‬ ‫الضعف في اإلصالح ال ّتربوي‪ ،‬الذي تناسى‬ ‫أن الفرنسيين اآلن يتحوّ لون إلى اإلنكليزية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫االتحاد األوروبي‪،‬‬ ‫الفرنسية مه ّددة في‬ ‫وأن‬ ‫ّ‬

‫وأن حدودها مستعمرات فرنسا القديمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وفي العالم العربي ال تتع ّدى بالد المغارب‬ ‫دون ليبيا‪ ،‬وال ّتواصل بها شبه محدود‪ ،‬وهي‬

‫لغة غير عولمية‪ ،‬فلمَ ال نخرج من شرنقة‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫بطرس املعري‬

‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫فيلق من اإلعالم الفرانكفوني الذي‬ ‫فرنسيا؛‬

‫تجاوزت عدد صحفه ‪ 60‬صحيفة وهو يمجد‬ ‫ّ‬ ‫كل ما هو غربي‪ ،‬فكيف يمكن أن يقع إصالح‬ ‫تربوي أمام عنف فرانكفوني يريد إخضاع‬ ‫ّ‬ ‫كل الساكنة لمنطق لغته فقط‪ ،‬وهذا نوع‬ ‫من ال ّتجريد من المواطنة‪ ،‬يجرّ د الناس من‬

‫لغتهم ويهدم ثقافتهم‪ ،‬فاستفحلت الفرنسية‬ ‫بعد استقالل الدول المغاربية‪ ،‬بل أصبحت‬ ‫عندنا أيديولوجية تسعى لتحقيق مصالح‬

‫وتوسعية ثقافية واقتصادية‬ ‫استعمارية‬ ‫ّ‬ ‫بغرض اإللحاق والسيطرة‪ ،‬والتمكين‬ ‫للفرنسية في غير موطنها ومحاربة ّ‬ ‫اللغات‬ ‫فكأن الفرنكفونية عائدة بقوّ ة‬ ‫المنافسة لها‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫لضرب جذورها عندنا أليس هذا نوعا من‬ ‫أسباب األزمة؛ أزمة في ّ‬ ‫اللغات الوطنية‪،‬‬ ‫أزمة في ال ّتعليم واإلدارة واالقتصاد؛ أزمة‬

‫طبق‪ ،‬أزمة‬ ‫حقوق لغوية‬ ‫مغيبة‪ ،‬ودستور ال يُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مبطنة‬ ‫في خطاب معلن وسياسة مخالفة‬

‫‪..‬‬

‫فإلى أين المصير؟ بالفعل لم يحصل ما كان‬ ‫ً‬ ‫منتظرا من اإلصالح ال ّتربوي‪ ،‬غياب الجودة‬ ‫والنّجاعة‪ ،‬تالميذ يجهلون ّ‬ ‫كل اللغات‪ ،‬فما هو‬

‫اإلصالح المنشود؟‬

‫الفرنسية إلى التف ّتح على لغات األقطاب؛‬

‫أو الفرض‪ ،‬ولكن معرفتنا للغة األمّ (العربية)‬

‫ال أحادي ّ‬ ‫ً‬ ‫متعبا أن نجد أقسام‬ ‫اللغات أليس‬

‫وفي الجامعة‪ ،‬وحصل تفضيل لغة أجنبية‬ ‫ّ‬ ‫وتقلصت وظائفها اإلدارية ومعرفتنا‬ ‫عليها‬

‫هيئة وطنية مشهود لها بالكفاءة العلمية‪،‬‬

‫معرفة سلبية بفعل عوامل نفسية في المقام‬

‫الجامعة‪ ،‬ومن الباحثين الجادين الذين‬

‫وهي كثيرات‪ ،‬ولغات لها من العلم الكثير‪ ،‬ولمَ‬ ‫نخطط ألجيال متع ّددي ّ‬ ‫ّ‬ ‫اللغات األجنبية‪،‬‬ ‫ال‬

‫‪.‬‬

‫ال ّترجمة ال تخرج من لغتين أجنبيتين‪ ،‬أليس‬

‫من العيب أال نجد في بالدنا من ال يعرف وال‬ ‫لغة شرقية؟ أليس من الهزيمة أالّ نتواصل مع‬ ‫أهل الحضارة المشرقية بسبب عدم إتقاننا‬

‫اإلنكليزية؟‬ ‫َ‬ ‫أن اإلصالحات ّ‬ ‫أهمية‬ ‫أكدت‬ ‫ومن هنا لو ّ‬ ‫ال ّت ّ‬ ‫حكم في العربية‪ ،‬وتكون اإلشارة إلى‬ ‫ال ّت ّ‬ ‫حكم في إحدى األمازيغيات باعتبارها‬ ‫من لغات البلد‪ ،‬بل واستعمالهما من الضروري‬

‫وليس من الخيار‪ ،‬واألجمل من هذا أن‬ ‫ّ‬ ‫كل المجاالت‪ ،‬وبذلك‬ ‫تكونا حاضرتين في‬

‫ّ‬ ‫تتعزز صالبة الصرح ُ‬ ‫الهوياتي للوطن‪ ،‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ما تمثل في تلك الثنائية القديمة دون‬ ‫مشكلة ُتذكر‪ ،‬وهو تنوّ ع لغوي قديم ترك‬ ‫مزج اللغتين وتناوبها واقتراضها وتداخل‬ ‫أصواتها‪ ،‬فكانت ظاهرة ّ‬ ‫اتصال حقيقي في‬

‫المشهد ّاللساني الجزائري‪ ،‬واآلن ال مفرّ منها‪.‬‬

‫إن العربية واألمازيغية لغتان وطنيتان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مُ تساكنتان ومُ تصاهرتان كل أخذت وظيفة‬ ‫بما تحمله من علم ودين‪ ،‬فلم يحصل القهر‬

‫ضعيفة فنتدرّ ج لنكون دون لغة ‪ Nilingue‬إذ‬ ‫ّ‬ ‫ص حجمُ ها في االستعمال وفي اإلعالم‬ ‫تقل َ‬

‫‪.‬‬

‫بلغة أمّ (األمازيغية) كانت أضعف أو هي‬ ‫األول‪ ،‬وبفعل التوجيه السلبي في عدم‬

‫اإلقرار بثقافتنا كمُ عطى احتشامي على‬ ‫أ ّنها لغة بربرية ال فائدة منها‪ّ ،‬‬ ‫ثم حصلت‬ ‫ُ‬ ‫هيمنة الفرنسية على وضعنا ّ‬ ‫اللغوي‪ ،‬فذلك‬ ‫ما زاد ُ‬ ‫الغربة غربة فلم نكن مثل الشعوب‬

‫‪.‬‬

‫المتق ّدمة التي تمتلك اللغة الكونية للوصول‬ ‫ّ‬ ‫والتحكم في اللغات‬ ‫إلى المعارف الكونية‪،‬‬

‫الوطنية التداولية ‪ Lingua franca‬للتواصل‬ ‫البيني من حجم كبير؛ حجم ّ‬ ‫اللغة األمّ أو‬ ‫ّ‬ ‫يتعلق‬ ‫لغة المنشأ ‪ Mother tongue‬فأغفلنا ما‬

‫بأن‬ ‫بالسيادة والكرامة والمواطنة‪ ،‬وتناسينا ّ‬ ‫توظيف اللغة الجامعة (العربية) عُ ملة صعبة؛‬ ‫ّ‬ ‫فكلما وقع استعمالها وقع عليها الطلب‪ ،‬وجنى‬ ‫أصحابها الفوائد المادية مثل اإلنكليزية التي‬

‫تجني ألصحابها ما يفوق الـ‪ 12‬مليار دوالر‬ ‫ً‬ ‫سنويا‪ ،‬وفوائد انتشار اإلنكليزية تدرّ على‬

‫‪.‬‬

‫معلميها أمواالً كبيرة وهكذا ما يزال ربيعُ نا‬

‫ـ ما هو اإلصالح المنشود؟‬

‫ال نعدم أن تعود المنظومة ال ّتربوية إلى‬

‫عصرها الذهبي‪ ،‬وهذا ال يكون عن طريق‬ ‫تتأسس‬ ‫قرارات وزارية أو أمريات‪ ،‬بل أن‬ ‫ّ‬

‫ومن الذين خدموا مراحل ال ّتعليم إلى‬ ‫لهم وزن علمي في الداخل والخارج‪ ،‬هيئة‬

‫وطنية جزائرية االنتماء‪ ،‬تجمع بين األصالة‬

‫‪.‬‬

‫والحداثة‪ ،‬ولها بعد وطني تحتكم إليه ولهذه‬

‫الهيئة صالحية اقتراح تخطيط سياسة‬

‫لغوية‪ ،‬وتخطيط تربوي عامّ ‪ ،‬ترفعه للقيادة‬ ‫السياسية التي تقترح النّصوص الكفيلة‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫بال ّتطبيق ويكون من مهام هذه الهيئة‬ ‫ّ‬ ‫اللغات‪ ،‬واالستدالل‬ ‫الحسم في وضعية‬

‫بوظائفها حسب مقامها‪ ،‬وفيها يحصل‪:‬‬ ‫تحسين تدريس ّ‬ ‫اللغة العربية‬ ‫ّ‬ ‫التحكم في األمازيغية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إتقان اللغات األجنبية‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫وبهذه الخطوة األولى يمكن أن نقول‪ :‬إ ّننا‬

‫نعمل على ترسيخ مدرسة جزائرية تعمل‬ ‫على تثبيت ُ‬ ‫الهوية الجزائرية الحضارية‪،‬‬

‫والوعي بتفاعل وتكامل روافدها‪ ،‬ومن ثمّ ة‬ ‫يحصل نقل المعرفة والقيم لألجيال وإ ّنه‬

‫‪.‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪57‬‬


‫ملف‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫باللغة الوطنية ارتقى‬ ‫التعليم‬ ‫كلما تق ّدمَ‬ ‫ّ‬ ‫المجتمعُ إلى سلم المدنية وإلى مجتمع‬ ‫التعليم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫باللغة الوطنية‪،‬‬ ‫المعرفة‪،‬‬ ‫وكلما تق ّدمَ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جي ً‬ ‫ّ‬ ‫دة‪ ،‬وكلما وقعَ االهتمامُ‬ ‫حق َق‬ ‫تنمية بشرية ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ديمقراطيا‬ ‫حداثيا‬ ‫مجتمعا‬ ‫بالمدرسة ُتعطينا‬ ‫متشب ً‬ ‫ثا بأصالته‪ ،‬وهذه عهدتنا نحن الكبار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ألن التعليم سياسة يمارسها الكبار تجاه‬ ‫ّ‬

‫عقول الصغار‪.‬‬

‫ودعوني أغادر الحديث عن دور الهيئة‬ ‫ّ‬ ‫خطة وطنية‬ ‫الوطنية‪ ،‬ألمرّ إلى اقتراح‬ ‫شاملة لفعل اإلصالحات التي أراها في هذه‬

‫المقترحات‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يمس التخطيط في‬ ‫أوالً‪ :‬ال ّتخطيط اللغوي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫هذا المعطى ثالث مراحل‪:‬‬

‫ٌ‬ ‫يمس‬ ‫طرح‬ ‫إعادة الجاذبية لل ّتربية وال ّتعليم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫أطراف عمليةِ اإلصالح = المعلم‪ +‬وَ لِي التلميذ‪+‬‬

‫‪.‬‬

‫المنهاج فهل نزل ُ‬ ‫ملف اإلصالح التربوي إلى‬

‫القاعدة؟ لم يحصل هذا‪ ،‬وكان األمرُ من فوق‬ ‫ّ‬ ‫حل‬ ‫بتنصيب لجنة وطنية على المقاس‪ ،‬بعد‬ ‫مجلس أعلى للتربية المنتخب في ثلثين‬

‫من أعضائه‪ ،‬وقد عمل الكثير من مجاالت‬ ‫ّ‬ ‫محل‬ ‫اإلصالح كتنظير‪ ،‬فلم توضع دراساته‬ ‫وح ّ‬ ‫ّ‬ ‫التطبيق؛ ُ‬ ‫ل قبل أن يستكمل ملف التعليم‬

‫العالي‪.‬‬

‫أن اللجنة اعتمدت أعمال المجلس‬ ‫والغريب ّ‬ ‫فما الداعي ّ‬ ‫ّ‬ ‫توصل‬ ‫لحله‪ ،‬واعتماد النتائج التي‬

‫‪.‬‬

‫إليها مجلس استبدل بلجنة صاغت البرنامج‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫والمتوسط والبعيد وفيه تتدرّ ج القضايا‬ ‫ّ‬

‫حسب أهميتها بمراجعة عميقة في‪ :‬تكوين‬ ‫ّ‬ ‫المعلم ــ وضع منهاج تربوي متين ــ بناء كتاب‬ ‫مدرسي يستجيب للمعاصر ــ وضع قواميس‬

‫لغوية حديثة‪.‬‬

‫مرحلة ال ّتخطيط البعيد‪ ،‬وعلى مدى الجيل‪،‬‬

‫وفيها يحصل استدراك النقائص‪ ،‬وتقويم‬ ‫األخطاء وتصحيحها‪ ،‬بل ال ّتراجع عن مواطن‬

‫الضعف‪ ،‬وتقوية مواطن القوّ ة‪ ،‬وفيها أيضا‬ ‫يحصل الفصل بين لغات المدرسة بإنزالها‬ ‫ً‬ ‫تراتبيا وفق األبعاد العلمية والحضارية‬

‫المطلوب إصالح تربوي‬ ‫نسعى جميعنا لتحقيق‬ ‫الهدف المشترك منه‪ ،‬وهو‬ ‫إنزال لغاتنا منزلتها الالئقة‪،‬‬ ‫وال يكون هذا ّ‬ ‫إال بإصالح‬ ‫يعمل على تنشئة مدرسة‬ ‫ّ‬ ‫تتحلى بقدرات معرفية؛ تُ نتج‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قادرا على االختيار‬ ‫فردا‬

‫‪.‬‬

‫بها أمم قبلنا‪ ،‬ونجحت في تخطيط لغوي‪،‬‬ ‫وما عادت المشاكل ُتطرح إذا وقعَ احترامٌ‬

‫اإلصالحي دون أن تقوم بتجريبه الجزئي أو‬

‫ّ‬ ‫التخصص والوظيفة‬ ‫إطار‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ثانيا‪ :‬طرح ملف اإلصالح التربوي للمناقشة‬

‫طبخة غربية في بلد عربي إسالمي دون‬

‫فيه ما هو استعجالي‪ ،‬وما هو على المدى‬

‫العمل في سرّ ية تامّ ة‪ ،‬دون معرفة أعضاء‬ ‫ّ‬ ‫اللجنة لنوع اإلصالح (عيونهم مفتوحة‬

‫ٌ‬ ‫طرح‬ ‫المتوسط‪ ،‬وما هو على المدى البعيد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫تشكل‬ ‫توصيل المعرفة التي‬ ‫مسألة‬ ‫يتناول‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الهدف المباشر والوظيفة األولى لعملية‬ ‫ٌ‬ ‫طرح يعمل على ال ّتفكير في كيفية‬ ‫ال ّتعليم‪،‬‬

‫‪58‬‬

‫‪.‬‬

‫ـ غلق المعاهد ال ّتكنولوجية‬ ‫ّ‬ ‫المؤطرين‬ ‫ـ نقص‬

‫‪.‬‬

‫ـ حرمان المتخرّ جين من ال ّتوظيف‪.‬‬

‫ـ ضآلة المناصب وال ّتباري عليها باآلالف‪.‬‬ ‫ـ هزالة المخرجات‪.‬‬ ‫ـ ضعف البحث ال ّتربوي‪.‬‬

‫المقام األوّ ل‪ ،‬واألمازيغية في الرتبة الثانية‬ ‫ّ‬ ‫واللغات األجنبية بتع ّددها‬ ‫بتع ّدد لهجاتها‪،‬‬ ‫وحسب النفعية الحاضرة‬

‫والمستقبلية‪.‬‬

‫الفرنسية في الحقوق‪/‬اإلنكليزية في اإلعالم‬

‫اآللي‪/‬اإلسبانية والبرتغالية في علوم البحار‪/‬‬

‫اليابانية‬

‫في‬

‫صناعة‬

‫النانوتكنولوجي‪/‬‬

‫الكورية في صناعة المحرّ كات‪/‬األلمانية في‬ ‫ّ‬ ‫والديداكتيك‪/‬اللغات الشرقية في‬ ‫الفلسفة‬ ‫التراث‪/‬الروسية في الصناعات‬

‫الثقيلة‪..‬‬

‫وال يعني هذا وجود تعددية لغوية همجية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لكل هذه مساقات في ال ّتعليم‬ ‫بل أن تكون‬ ‫الجامعي بخصوص االستفادة من لغات‬ ‫ّ‬ ‫وبخاصة في‬ ‫األقطاب‪ ،‬وفي مراكز البحوث‪،‬‬

‫تدريس‪ :‬الفرنسية ‪ +‬اإلنكليزية فقط‪ ،‬وهذا‬ ‫وصوالً إلى رفع مجموعة من التح ّديات التي‬

‫النّقطة ال نعدم ال ّتجارب الناجحة التي قامت‬

‫العلنية‪ :‬أليس من المواطنة أن يُ طرح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وظيفيا يُ ستحضر‬ ‫طرحا‬ ‫اإلصالح ال ّتربوي‬

‫ـ اكتظاظ في األقسام‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫أقسام الترجمة التي نروم لها الخروج من‬

‫لغوي منسجم في إطار تكاملي وفي هذه‬

‫‪.‬‬

‫ـ هبوط المستوى ّ‬ ‫اللغوي إلى األسفل‬

‫يمنح‬ ‫ُ‬ ‫الراهنة‪ ،‬فنحن بحاجة إلى إصالح تربوي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫تراتبية‪ :‬العربية في‬ ‫لغوية‬ ‫سجالت‬ ‫التلميذ‬ ‫ٍ‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتعلق ببناء‬ ‫وكل ما‬ ‫والتاريخية والنفعية‪،‬‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ومتكامل بين اللغات الوطنية في‬ ‫متبادل‬

‫‪.‬‬

‫الكيف‪ ،‬يستنزف البترول دون مردود إصالح‬ ‫ً‬ ‫نظرا لـ‪:‬‬ ‫تلفيقي‬

‫العمل بإصالح جديد يستجيب للتح ّديات‬

‫نزيف االنحطاط‪ ،‬بمراجعة عامّ ة للنقاط‬ ‫ً‬ ‫بدءا‬ ‫السود التي تنخر المنظومة ال ّتربوية‪،‬‬

‫مرحلة ال ّتخطيط على اآلماد ال ّثالث‪ :‬اآلني‬

‫ّ‬ ‫خاصة‪،‬‬ ‫أضرّ بأجيال‪ ،‬وبقطاع ال ّتعليم بصفة‬ ‫ّ‬ ‫بكل المجتمع‪،‬‬ ‫ويعني هذا اإلصالح ال ّتضحية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الكم ال‬ ‫تلفيقيا مُ رتجالً؛ يعتمد‬ ‫إصالحا‬ ‫فكان‬

‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬إصالح اإلصالح‪ :‬في هذه المرحلة يكون‬

‫مرحلة ال ّتخطيط االستعجالي وهذا لوقف‬

‫من إعادة االعتبار للباكالوريا‪ ،‬وما يؤ ّدي إلى‬ ‫المستوى ّ‬ ‫اللغوي الرفيع‬

‫األطراف‪.‬‬

‫ّ‬ ‫اللجنة الوطنية‬ ‫لهذا فإصالح‬

‫إخضاعه للتقويم‪ ،‬فحصل التطبيق بالقوّ ة‬ ‫طبگ) لجنة إصالحات طبخت‬ ‫(طب ْق أو‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫فتم‬ ‫فتح نافذة لخروج رائحة الطبيخ‪،‬‬

‫دون مشاهدات واضحة) لجنة على المقاس‬

‫ّ‬ ‫توجهات عفوية من أجل مناقشة‬ ‫في إطار‬

‫قضية مفصلية في المجتمع‪ ،‬وتقتضي‬ ‫الكثي َر من التعمّ ق وال ّتنسيق بين كثير من‬

‫أجملها في ما يلي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫المعرفة أم إ ّنها تعيد‬ ‫المدرسة تنتج‬ ‫ـ هل‬ ‫َ‬ ‫إنتاجها عبر تحويلها أو استقطابها لمضامين‬ ‫في ّ‬ ‫اللغات األخرى؟‬

‫ُ‬ ‫مدرستنا عبر إصالحاتها يمكن أن تثم َر‬ ‫ــ هل‬ ‫َ‬ ‫معارف العصر؟‬

‫أي معايير يمكن تقويم هذه المعارف؟‬ ‫ـ وفق ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتأتى لبالدنا من خالل مدارسها‬ ‫ـ كيف‬

‫وجامعاتها كسب رهان االنخراط الفاعل في‬ ‫مجتمع المعرفة؟‬ ‫ُ‬ ‫العمل على جعل لغاتنا الوطنية‬ ‫ــ كيف لنا‬ ‫لغات العلم‪ ،‬في الوقت الذي ته ّدد باالنقراض‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫خالل القرن الحالي[‪]9‬؟‬

‫نؤسس لجامعات وطنية‬ ‫ــ كيف لنا أن‬ ‫ّ‬

‫معيارية ذات ال ّتصنيف العالمي©‪ ،‬ولها‬ ‫براءات اختراع‪ ،‬وفيها أساتذة من ذوي‬

‫الكفاءات المُ برّ زة‪ ،‬ومن الحائزين على‬

‫الجوائز العالمية؟‬

‫ــ كيف لنا إعداد مدارس عليا‪ ،‬وثانويات‬

‫كفاءات‪،‬‬

‫تعمل‬

‫والمخترعين‬

‫المرجعيين؟‬

‫على‬

‫إنتاج‬

‫والمسيرين‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وكبار‬

‫المبدعين‬ ‫العلماء‬

‫ــ كيف لنا أن نسترشد أمور ال ّتخطيط الذي‬

‫يعتمد المواطنة قبل االنتماء‪ ،‬أهل العلم‬ ‫ّ‬ ‫الثقة‪ ،‬ال ّتباري لخدمة‬ ‫واالختصاص قبل أهل‬ ‫ّ‬ ‫الشأن العام؟‬ ‫ّ‬ ‫التحكم في آليات العصر‪ ،‬وجعل‬ ‫كيف لنا‬ ‫ً‬ ‫ندا للغات العولمة‪ ،‬واإلنتاج بها‬ ‫لغاتنا تقف‬ ‫وفيها؟‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ :‬المراجعة وال ّتقويم‪ :‬ما أحوجنا إلى‬

‫سياسة الحقيقة‪ ،‬وإلى الصدح والجهر بقول‬

‫(ال) لالعوجاج و(نعم) للمراجعة (ال) للتراجع‪،‬‬ ‫وإ ّنه ال يجوز تعميم اإلصالح ال ّتربوي إالّ‬ ‫ضيقة واإلبا َنة‬ ‫بعد تجربته على مساحة‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫عن نجاحه وفي هذه النقطة يمكن أن يقعَ‬

‫الخالف بيننا في إنتاج األفكار وفق األرضية‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫لكل منا‪ ،‬ولكن يجب أن نضعَ‬ ‫الهدف‬ ‫المعرفية‬ ‫ً‬ ‫واحدا‪ ،‬وسنتبارى في تحقيقه عبر مسارب‬ ‫ّ‬ ‫فكل له طريقه ومنهجه‪ ،‬وهذه سمة‬ ‫متنوّ عة‪،‬‬

‫االعتراف والتكامل البيني‪.‬‬

‫ال ب ّد من هدف مشترك نعمل جميعُ نا للوصول‬ ‫ّ‬ ‫اللغوية) والهدف‬ ‫إليه (تحقيق المواطنة‬

‫المشترك يُ ستقى من ال ّثوابت الوطنية‪ ،‬ومن‬ ‫والفيصل‪ ،‬وإالّ‬ ‫َ‬ ‫ال ّدستور الذي يكون الحكمَ‬ ‫المشي مرة أخرى‪ ،‬وسنحتاج إلى‬ ‫سيتع ّثر‬ ‫ُ‬ ‫إصالح إصالح اإلصالح‬ ‫ّ‬ ‫كل هذه األشياء تتكامل وظائفها من خالل‬

‫‪.‬‬

‫تمفصلها الفعّ ال لضمان ّ‬ ‫الشعا ِر الوطني والذي‬ ‫ً‬ ‫مرفوعا نحو بناء مدرسة النّجاح‬ ‫أضحى‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫جزائرية تعمل على‬ ‫مدرسة‬ ‫والجودة؛ فنريد‬ ‫ّ‬ ‫يحس فيها‬ ‫تجسيد المواطنة اللغوية التي‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫المواطن أ ّنه في بلده‪ ،‬ويُ‬ ‫خاطب بلغة بلده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مدرسة تعمل على زرع الثقة في النفس‪،‬‬

‫ال ّتربوية يرتبط بإصالح المجتمع‪ ،‬فال ِّرهان‬ ‫على ال ّتربية رهان وطني استراتيجي؛ تنطلق‬

‫ّ‬ ‫التوجهات الكبرى إلحداث نقلةٍ نوعيةٍ ‪،‬‬ ‫منه‬ ‫ُ‬ ‫المدرسة باإلجماع‬ ‫فكان يجب أن تحظى‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫الوطني‪ُ ،‬‬ ‫مجتمعيا يقتضي‬ ‫مشروعا‬ ‫صبح‬ ‫وت‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إصالحا حقيقيا‪ُ ،‬‬ ‫وتسهم في ذلك اإلصالح‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫إصالحها‬ ‫كل فعاليات المجتمع‪ ،‬ويكون‬

‫ً‬ ‫ال ّتربوي مُ‬ ‫قدسا مثل الدستور إصالح ال‬ ‫يعبث به العابثون‪ ،‬بل يحرص عليه كلُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫منفتحا يُ ترجم‬ ‫إصالحا‬ ‫ويظل‬ ‫الفاعلين‪،‬‬

‫واقعَ المنظومة ال ّتربوية وسيرورة مستمرّ ة‬

‫لألجيال‪ ،‬ويح ّدد قيمَ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بكل اللغات الوطنية‪ ،‬وبما‬ ‫واالنتماء الجمعي‬ ‫َ‬ ‫العيش المشترك‬

‫تحمله المواطنة من أبعاد‪ ،‬باإلضافة إلى تلك‬

‫ّ‬ ‫التوجهات السياسية واالختالفات المنهجية‪،‬‬

‫وال تظهر فيه آثارُ الحاكم‪ ،‬وال استراتيجية‬ ‫حزب سياسي أو ّ‬ ‫اتجاه ما‪ ،‬وينأى اإلصالح‬ ‫عن االضطرابات والسلطة‪ ،‬ويحظى بتأييد‬

‫ّ‬ ‫المختصين‪ ،‬وتوضع له قواعده وال يحيد‬

‫عنها أحد‪.‬‬

‫فالمطلوب إصالح تربوي نسعى جميعنا‬

‫لتحقيق الهدف المشترك منه‪ ،‬وهو إنزال‬ ‫لغاتنا منزلتها الالئقة‪ ،‬وال يكون هذا إالّ‬ ‫ّ‬ ‫تتحلى‬ ‫بإصالح يعمل على تنشئة مدرسة‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫قادرا على‬ ‫فردا‬ ‫بقدرات معرفية؛ ُتنتج‬ ‫يتكيف مع الواقع‪ ،‬ينشد الحريةَ‬ ‫االختيار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫والرأي اآلخر‪،‬‬ ‫والديمقراطية‪ ،‬ويقبل النقد‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الكونية‬ ‫ويستوعب القيمَ‬

‫‪.‬‬

‫وأريد أن أختمَ دراستي هذه باإلشارة إلى‬

‫ِ‬ ‫سكوت النّخبة الوطنية عن هذا الوضع‬ ‫ّخبة المعرّ بة‪َ،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وبخاصةِ الن‬ ‫المتر ّدي والمُ ؤسف‬ ‫التي عليها العِ وَ ل وال ّتعويل في الكتابة‬ ‫ولكن يبدو أ ّنها نامت على الوعود‬ ‫وال ّتغيير‪،‬‬ ‫ّ‬

‫العرقوبية‪ ،‬وال ّتطمينات ال ّتنويمية‪ ،‬قبل أن‬ ‫ّ‬ ‫تتمكن من استئناف مشروعها‪ ،‬وربّما دخلت‬

‫‪.‬‬

‫محراب الهرْ وَ لة‪ ،‬وراء المنافع العابرة وإ ّني‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫افتقدت سماع شخصيات مسكونة ِب ّ‬ ‫هم اللغة‬

‫العربية‪ ،‬ويبدو لي أ ّنه دبّت فيها الهزيمة‪،‬‬ ‫وأفقدها الفسا ُد ّ‬ ‫اللغوي المَ بنى والمَ عنى‪ ،‬وما‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫دخل في بيتها‬ ‫تطيق المَ أوى‪ ،‬وبعضها‬ ‫عادت‬

‫ْ‬ ‫فسكتت‬ ‫لسان الرومان‪ ،‬فأوقع بينها الشنآن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫اللف وال‬ ‫عن الوضع بما كان‪ ،‬ولم تستطع‬

‫الدوران‪ ،‬وما حرّ كت إصبعها بأضعف اإليمان‪.‬‬

‫إن إصالح المنظومة‬ ‫خاتمة‪ :‬في الحقيقة ّ‬

‫تغيرَ‪،‬‬ ‫فالزمان‬ ‫إحساس المعاينة اليومية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫فهل أغراكم الحال‪ ،‬على ما وصلنا إليه من‬

‫المُ حال؟‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫مستقلة في ال ّتفكير والممارسة؛ ُتعْ مِ ل العقل‪،‬‬ ‫وتثمّ ن االجتهاد‪ُ ،‬‬ ‫وتعتمِ د النقد‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫آليات‬ ‫وتقيم‬

‫التنافس‪َ ،‬‬ ‫وتعْ مَ ل على الوعي بآلية الزمن‬ ‫ّ‬ ‫والوقت كقيمة أساسية في اللحاق بالرَّ كب‬

‫والوضعُ تب ّد َ‬ ‫ل‪ ،‬وما عاد يفيد الوعظ إذا لم‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫يصاحبه‬ ‫بياض‬ ‫الوعي أين أنتم يا من أفنَوا‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫نهارهم في سوادِ‬ ‫الحرف المشكول‪ ،‬أين‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫األصالة من َّ‬ ‫والخ ُل ُق من االنحراف‪،‬‬ ‫الزيف‬

‫ويؤسفني ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫بعض الحقائق‬ ‫لمست‬ ‫كل هذا‪ ،‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫َلمْ س الي ّد‪ ،‬ورأيتها رأي العين‪ ،‬وأحسستها‬

‫كاتب من الجزائر‬ ‫إشارات‬

‫(‪ )1‬ـ أحمد أوزي “المدرسة والتّكوين‬ ‫ّ‬ ‫ومتطلبات بنا مجتمع المعرفة” مجلة‬ ‫المدرسة المغربية المغرب‪ ،2012 :‬المجلس‬ ‫األعلى للتّعليم‪ ،‬العدد ‪ 5/4‬ص ‪112‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫(‪ )2‬ـ ينظر جريدة الخبر ليوم‪ 20 :‬أبريل ‪،2013‬‬ ‫ص ‪( 7‬مواضيع الباكالوريا من الفصلين األول‬ ‫والثاني) العدد ‪7050‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫(‪MoatassimeAhmed, dialogue de sourds et-)3‬‬ ‫‪communication langagière en Méditerranée‬‬ ‫‪L’Harmatta: 2006، p 119‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫(‪ )4‬ـ أحمد الحارثي “األمازيغية وحقوق‬ ‫اإلنسان” مجلة نوافذ المغرب‪ ،2011 :‬العدد‬ ‫‪ ،50-49‬ص ‪77‬‬ ‫(‪ )5‬ـ أزمة ّ‬ ‫اللغة العربية في المغرب‪ ،‬ط‪5‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫الرباط‪ ،2010 :‬دار الكتاب الجديد المتحدة‪،‬‬ ‫ص ‪17‬‬ ‫(‪ )6‬ـ أحمد بوكوس‪ ،‬مسار ّ‬ ‫اللغة األمازيغية‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫تعريب‪ :‬فؤاد ساعة الرباط‪ ،2012 :‬منشورات‬ ‫المعهد الملكي لل ّثقافة األمازيغية ص ‪3031‬‬

‫‪.‬‬

‫(‪ )7‬ـ “األمازيغية والمنظومة التّربوية” مجلة‬ ‫نوافذ المغرب‪ ،2002 :‬عدد مزدوج‪18-17‬‬ ‫يتناول (المسألة األمازيغية في المغرب)‬ ‫ص ‪75‬‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫(‪ )8‬ـ مريم الدمناني “المسألة األمازيغية‪ ،‬لماذا‬ ‫وكيف؟ مجلة نوافذ المغرب‪ ،2002 :‬عدد‬ ‫مزدوج ‪ 18-17‬يتناول (المسألة األمازيغية في‬ ‫المغرب) ص ‪80‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫(‪ )9‬ـ ينص تقرير اليونسكو الصادر في‬ ‫بأن ‪ 300‬لغة سوف تنقرض‬ ‫ديسمبر ‪ّ 2012‬‬ ‫خالل القرن الحادي والعشرين وأكثرها‬ ‫من ّ‬ ‫بأن العربية‬ ‫اللغات اإلفريقية ونعلم ّ‬ ‫‪ +‬األمازيغية من تلك ّ‬ ‫اللغات التي يه ّددها‬ ‫هذا االنقراض فما هي الوصفة اإلصالحية‬ ‫والعالجية التي تفنّد هذه المقولة؟‬ ‫أن الجامعات الجزائرية‬ ‫©ـ ما يؤسف له ّ‬ ‫تتر ّنح في ذيل التّرتيب العالمي وهذا ما‬ ‫استقرّ عليه التّصنيف الذي أع ّدته مجلة‬ ‫تايمز للتّعليم العالي ‪ ،2013‬فأحسن الجامعات‬ ‫الجزائرية اعتلت الرتبة ‪َ 2185‬‬ ‫وأ ْدر َ‬ ‫َج‬ ‫ُ‬ ‫ّصنيف جامعة (منتوري) بقسنطينة التي‬ ‫الت‬ ‫ً‬ ‫عالميا‪ ،‬في ما‬ ‫جاء ترتيبها في المرتبة ‪2185‬‬ ‫جاءت جامعة (أبو بكر بلقايد) بتلمسان في‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫جامعة (العلوم‬ ‫عالميا‪ ،‬واحتلت‬ ‫المرتبة ‪2273‬‬ ‫َ‬ ‫المرتبة ‪،2935‬‬ ‫والتّكنولوجيا هواري بومدين)‬ ‫ّ‬ ‫تحتل ثالث أحسن‬ ‫وهي الجامعة التي‬ ‫جامعة على التّراب الوطني ع‪ /‬جريدة‬ ‫الخبر‪ ،‬العدد ‪ ،7050‬بتاريخ‪ 20 :‬أفريل ‪،2013‬‬ ‫ص‪5‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪59‬‬


‫ملف‬

‫اللغة المستعارة‬ ‫مفيد نجم‬ ‫تواجه اللغة العربية تحديات واسعة تفرضها التطورات المتسارعة إلنجازات العصر العلمية والتقنية والفكرية‪ ،‬حتى أصبح‬

‫استيعاب لغة هذا العصر دليال على قدرة اللغة على الحياة والتطور‪ ،‬خاصة عندما تكون األمة مستهلكة لمنتجات الحضارة‬

‫والعصر‪ ،‬وغير فاعلة في هذا السياق‪.‬‬

‫كشف‬

‫تاريخ الحضارة العربية في‬

‫التي تعيشها الثقافة العربية عموما‪ ،‬والتي‬ ‫ّ‬ ‫يتلخص‬ ‫ت ّتخذ بعدين متناقضين‪ ،‬البعد األول‬

‫المصطلحات الثالثة تعاني في النظرية‬

‫العباسي عن وعي حقيقي بأهمية هذا الدور‬

‫التجديد بحجة مقاومة الغزو الثقافي الغربي‬

‫في داللة المفهوم‪.‬‬

‫عصر التعريب الواسع الذي‬

‫شهده زمن الخليفة المأمون في العصر‬

‫وضرورته على مستوى انتقال اللغة العربية‬ ‫من لغة األدب والشعر والدين‪ ،‬إلى لغة العلم‬

‫والفلسفة والطب والبحث‪ ،‬التي تثري هذه‬ ‫اللغة وتطوّ رها لكي تغني الفكر العربي‬ ‫وتعينه على اإلبداع في شتى مجاالت الحياة‬ ‫والعلوم‪ ،‬وكان نجاح هذه التجربة على‬ ‫مختلف األصعدة دليال واضحا‪ ،‬على حيوية‬

‫اللغة العربية وقدرتها على التطور واستيعاب‬

‫لغة العصر‪.‬‬

‫لنا والحفاظ على الهوية‪ ،‬أما البعد الثاني‬

‫فيتمثل في االنبهار بثقافة الغرب‪ ،‬ومحاولة‬ ‫التماهي معها‪ ،‬بوصفها ثقافة العصر وطريقنا‬

‫لبلوغ الحداثة‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫يقوم بها الباحث اليوم بين الواقع الذي‬

‫يعيشه النقد العربي المعاصر‪ ،‬والتراث النقدي‬ ‫العربي القديم سوف تكشف عن االختالل‬

‫الواضح لصالح األخير‪ ،‬الذي قدم مجموعة‬ ‫كبيرة من المفاهيم النقدية‪ ،‬قبل أن تظهر‬ ‫النظريات النقدية الغربية المعاصرة التي‬

‫يعيش عليها النقد العربي المعاصر اليوم‪.‬‬ ‫اللغة والنقد‬

‫سوى االعتياش على المنجز النقدي الغربي‬ ‫بمدارسه واتجاهاته المختلفة‪ ،‬لكن هذه‬

‫األولى في ترجمة المصطلح النقدي الغربي‪،‬‬ ‫النظرية‪ ،‬في حين تحددت المشكلة الثانية‬

‫باإلشكالية التي يعاني منها المصطلح النقدي‬ ‫في الثقافة الغربية األمّ ‪ ،‬والناجمة عن تعدد‬

‫التيارات واختالفها وتبايناتها على مستوى‬ ‫النظرية والمفهوم في النظرية الواحدة‪ ،‬ما‬

‫أدى إلى ظهور تعريفات متعددة للمصطلح‬ ‫النقدي الواحد‪ ،‬تختلف حموالته الداللية‬

‫‪.‬‬

‫بين ناقد وآخر وبذلك كان ال بد أن تنتقل‬ ‫هذه اإلشكالية مع الترجمة‪ ،‬إلى النقد العربي‬

‫وتخلق حالة من التداخل والبلبلة في اللغة‬

‫والممارسة النقدية العربية‪.‬‬

‫قبل الحديث عن اإلشكالية التي تعيشها اللغة‬

‫إشكالية المصدر‬

‫هذه اإلشكالية ترتبط بمعناها األوسع باألزمة‬

‫المكان الروائي ثالثة مصطلحات بمعنى‬

‫النقدية العربية المعاصرة‪ ،‬ال بد من القول إن‬

‫األحداث والمواقف السردية التي تجري‪،‬‬ ‫بينما مفهوم الفضاء عند عدد آخر من النقاد‬

‫عليها في مقارباته للنص‪ ،‬لم يكن أمامه‬

‫اإلنسانية والعلوم المختلفة أن تحافظ على‬

‫اللغة العربية وتطورها ولعل مقارنة بسيطة‬

‫هو المكان‪ ،‬أو األماكن التي تقدم فيها‬

‫الشخصية فيه‪ ،‬بينما اعتبره الشعريون‬

‫دون مرجعيات نقدية ناجزة‪ ،‬يمكن أن يعتمد‬

‫ونقله إلى العربية بمعناه التام في مرجعياته‬

‫التخلف والضعف‪ ،‬الذي انعكس على وضع‬

‫يعرّ ف جيرالد برنس الفضاء ‪ space‬بقوله‬

‫إن النقد العربي الحديث الذي وجد نفسه‬

‫لم تستطع هذه التجربة الرائدة التي تركت‬

‫استمرارها‪ ،‬فكان ذلك إيذانا ببدء عصر‬

‫النقدية الغربية أصال‪ ،‬من االختالف النسبي‬

‫الغربيين يحمل معنى أشمل من المكان الذي‬

‫العالقة اصطدمت بمشكلتين اثنتين‪ ،‬تمثلت‬

‫لنا ميراثا واسعا وغنيا‪ ،‬في مجاالت العلوم‬

‫‪60‬‬

‫في محاولة االنغالق على الذات‪ ،‬ورفض‬

‫والحيز‪ ،‬وهذه‬ ‫واحد‪ ،‬هي المكان والفضاء‬ ‫ّ‬

‫يستخدم النقد العربي الحديث للداللة على‬

‫يمثل مكونا للفضاء ويرتبط بعالقة حضور‬

‫أحد العناصر الفاعلة في المغامرة السردية‪،‬‬

‫التي تتجاوز مفهوم المكان الذي تجري فيه‬

‫أحداث الرواية‪.‬‬

‫وال يختلف الحال بالنسبة إلى مفهوم الرؤية‬

‫السردية‪ ،‬الذي أطلقت عليه في النقد األنكلو‪-‬‬ ‫سكسوني تسميات متعددة‪ ،‬تجاوزت قضية‬

‫التسمية إلى النظرية وموقع هذا المفهوم‬ ‫ودالالته داخل هذه النظرية‪ ،‬فهناك وجهة‬ ‫النظر والمنظور السردي والتبئير‪ ،‬األمر‬

‫الذي يجعل هذه اإلشكالية على مستوى‬

‫اللغة النقدية تتجاوز موضوع التباين في‬

‫التسمية‪ ،‬إلى مسألة مفهومية ومنهجية‬ ‫في آن معا‪ ،‬ترتبط بالنظرية النقدية وتعدد‬

‫التيارات واالتجاهات داخلها‪.‬‬

‫ويعد مصطلح الكتابة النسوية مثاال آخر على‬ ‫هذه اإلشكالية‪ ،‬بسبب تعدد الترجمات‪ ،‬وتنوع‬

‫المرجعيات النقدية األنكلو‪-‬سكسونية‪ ،‬التي‬

‫‪.‬‬

‫يتم نقل المصطلح عنها إن هذه اإلشكالية‬

‫تتضح من خالل تعدد المصطلحات التي‬ ‫تستخدم للداللة على ذلك‪ ،‬فهناك مصطلح‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫بطرس املعري‬ ‫الكتابة النسوية والكتابة النسائية‪ ،‬والكتابة‬

‫إلى الكتابة النقدية العربية واختياراتها‪،‬‬

‫التي تفرّ عت عنها‪.‬‬

‫بين هذه المصطلحات في الكثير من‬

‫المرجعيات النقدية الغربية‪ ،‬ومدى اقتناع كل‬

‫والكتابة النقدية العربية‪ ،‬وفي تكريس واقع‬

‫‪.‬‬

‫األنثوية‪ ،‬أو األدب األنثوي ويظهر الخلط‬ ‫الترجمات أو الكتابات النقدية‪ ،‬التي تتناول‬

‫موضوع األدب أو قضايا النسوية المختلفة‪.‬‬ ‫في الكتابة النقدية‬ ‫تتجاوز‬

‫هذه‬

‫اإلشكالية‬

‫لغة‬

‫في ضوء عالقة الناقدات العربيات مع‬

‫واحدة منهن بوجاهة ما يحمله كل مصطلح‬ ‫من دالالت‪ ،‬في إطار السياق المعرفي‬

‫والمنهجي للنظرية النقدية عند هذه الناقدة‬

‫‪.‬‬

‫أو تلك وتزداد تعقيدات هذه المشكلة نظريا‬

‫المصطلح‬

‫وإجرائيا مع محدودية استيعاب المصطلح‬

‫منها الكثيرون من العاملين في حقل النقد‬

‫المفاهيم العامة التي تتكون منها هذه‬

‫وحموالته الداللية في الترجمة‪ ،‬التي يتخذ‬ ‫مرجعيات لهم في استيعاب تلك النظريات‪،‬‬

‫ودالالته وموقعه‪ ،‬الذي يشغله داخل شبكة‬ ‫النظرية أو تلك‪ ،‬ال سيما مع تعدد التيارات‬

‫لقد ساهم هذا الوضع في تعميق مشكلة اللغة‬

‫الفوضى الذي ساهمت الصحافة الثقافية في‬

‫تعميقها‪ ،‬لكن الدور األخطر هو الذي لعبته‬ ‫دور النشر الخاصة‪ ،‬من خالل غياب المعايير‬

‫المعتمدة في اختياراتها لألعمال المترجمة‬ ‫ونشرها‪ ،‬فقد ظل الهدف التجاري هو الغالب‬ ‫على عمل تلك الدور سعيا وراء التسويق‬

‫السريع للكتاب المترجم‪ ،‬ال سيما كتب النقد‬

‫الحديث‪ ،‬مستغلة الحاجة الماسة إليها من‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪61‬‬


‫ملف‬

‫قبل طلبة الجامعات والمشتغلين في هذا‬

‫عدد المترجمين أنفسهم‪.‬‬

‫باللغة األجنبية ويمكن القول هنا إن هناك‬

‫إنشاء اتحاد المترجمين العرب في بيروت‪،‬‬

‫الحقل‪ ،‬ممّ ن ليست لديهم المعرفة الكافية‬

‫‪.‬‬

‫تواطؤا يتم بين تلك الدور والمترجمين‪،‬‬ ‫ممن ال يملك الكفاءة المطلوبة في معرفة‬

‫اللغتين‪ ،‬اللغة األجنبية التي يقوم بالترجمة‬ ‫عنها‪ ،‬أو العربية التي يقوم بالترجمة إليها‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تم‬ ‫وفي محاولة لتجاوز هذه المشكلة‬

‫اللغة لكي يحافظ على معناه الحقيقي ولعل‬

‫كمؤسسة غير رسمية‪ ،‬حاولت توحيد‬

‫ترجمه البعض إلى علم الداللة والبعض اآلخر‬

‫جهود مجموعة من المترجمين العرب‪ ،‬من‬

‫ذوي المعرفة الجيدة في اللغتين األجنبية‬

‫استخدام‬

‫مصطلح‬

‫السيميوطيقيا‬

‫الذي‬

‫إلى إنتاج الداللة‪ ،‬ومصطلح الميثولوجيا‬ ‫الذي تمت ترجمته إلى علم األساطير‬

‫ال بد أن ينعكس سلبا على لغة الترجمة‬ ‫ّ‬ ‫ودقتها في استيعاب المعنى‪ ،‬خاصة إذا كان‬

‫والعربية وتكليفها بأعمال الترجمة‪ ،‬لكن ذلك‬ ‫ّ‬ ‫يحل مشكلة ترجمة المصطلح الغربي‬ ‫لم‬

‫البلبلة والتشتت التي يواجهها تعريب هذه‬

‫تعتمد على اجتهاد المترجم ومدى استيعابه‬

‫لها في سياق النظرية النقدية‪ ،‬ال سيما وأن‬

‫هذا المجال‪.‬‬

‫ناهيك عن غياب الدعم المادي الرسمي لها‬

‫أو بسبب ضعفه في إحداهما‪ ،‬األمر الذي‬

‫المترجم ليس من أصحاب االختصاص في‬

‫واستيعابه في الترجمة العربية له‪ ،‬ألنها ظلت‬ ‫للنظرية النقدية الغربية وسياقاتها المعرفية‪،‬‬

‫لتطوير وتوسيع عملها‪.‬‬

‫غياب العمل المؤسساتي‬

‫في الكتابات النقدية‪ ،‬ما يكشف عن حالة‬ ‫المصطلحات‪ ،‬واستيعاب المضمون المعرفي‬

‫هذا المصطلح يتفاوت في دالالته وحدوده‬ ‫بين ناقد غربي وآخر‪ ،‬نظرا لتعدد التيارات‬

‫واالجتهادات داخل النظرية الواحدة‪ ،‬وهو‬ ‫ما يجده الباحث في مصطلح “التناص”‪،‬‬

‫لقد ترافق هذا الوضع مع غياب الجهات‬

‫الذي صكته جوليا كريستيفا أواخر ستينات‬

‫الترجمة‪ ،‬وفي مقدمتها مجامع اللغة العربية‪،‬‬

‫بمفهوم “التعالي النصي”‪.‬‬

‫الثقافية العربية التي تشرف على أعمال‬

‫‪.‬‬

‫القرن الماضي‪ ،‬والذي استبدله جيرار جينيت‬

‫التي أقيمت من أجل هذه المهمة إن غياب‬ ‫دور هذه المجامع اللغوية واقتصاره على‬

‫المستوى األكاديمي‪ ،‬قد ترك الساحة لدور‬ ‫النشر الخاصة والعامة للقيام بهذه المهمة‪،‬‬

‫دون مراعاة للشرطين السابقين المطلوب‬

‫‪.‬‬

‫توفرهما عند المترجم ففي حين اهتمت‬ ‫دور النشر الخاصة بتحقيق الربح المادي‬ ‫بغض النظر عن قيمة الترجمة ومؤهالت‬

‫المترجمين‪ ،‬فإن دور النشر الرسمية قد‬ ‫خضعت في عملها للمحسوبية والعالقات‬

‫أي محاولة جادة‬ ‫الشخصية‪ ،‬في حين لم تتم ّ‬ ‫وحقيقية لتفعيل دور مجامع اللغة العربية‪،‬‬

‫إن هذا الواقع اإلشكالي مرتبط في جانب‬

‫أي محاولة جادة‬ ‫لم تتم ّ‬

‫مهم منه بمسألتين اثنتين‪ ،‬المسألة األولى‬

‫هي ترجمة المصطلح بمعزل عن معرفة‬

‫وحقيقية لتفعيل دور مجامع‬

‫سياقاته المعرفية من قبل المترجم‪ ،‬ما خلق‬

‫اللغة العربية‪ ،‬وتكليفها‬

‫الثانية تتعلق بغياب الجانب المعرفي باللغة‬

‫بالتعاون مع مجموعة من‬ ‫النقاد األكفاء‪ ،‬الضالعين‬

‫مشكالت مفهومية ومنهجية‪ ،‬بينما المسألة‬

‫النقدية ونظرياتها‪ ،‬انعكس سلبا على قدرة‬

‫المترجم على استيعاب دالالته الكاملة في‬

‫إطار النظرية‪.‬‬

‫في اللغة المترجم عنها‬

‫وتبدو هذه اإلشكالية أوضح ما تكون في‬

‫باإلشراف على عمليات‬

‫المتابع في معاجم المصطلحات العربية‪،‬‬

‫تباين المفاهيم والتعريفات‪ ،‬التي يجدها‬

‫وتكليفها بالتعاون مع مجموعة من النقاد‬

‫ترجمة المصطلحات والكتب‬

‫التي يفترض بها أن تكون معينا لكل دارس‬

‫باإلشراف على عمليات ترجمة المصطلحات‬

‫النقدية‬

‫تعاني هذه المعاجم من تباينات واضحة في‬

‫األكفاء‪ ،‬الضالعين في اللغة المترجم عنها‬

‫والكتب النقدية‪ ،‬لكي يكون المصطلح العربي‬

‫المقابل مكافئا للمصطلح النقدي الغربي في‬

‫معناه وداللته‪.‬‬

‫باللغة المترجم عنها‪ ،‬أو اللغة العربية‪ ،‬إضافة‬

‫ونحت المصطلح العربي المقابل له‪ ،‬لم‬ ‫ّ‬ ‫تتوقف عند حدود الترجمة‪ ،‬التي تقوم بها‬ ‫بالنقد‪ ،‬بل هي تتجاوزها إلى اختالف النقاد‬

‫المواقف منه فهناك من يرى أن الترجمة‬

‫فيما بينهم‪ ،‬على صعيد ترجمة المصطلح‬ ‫الغربي‪ ،‬فقد لجأ كل ناقد منهم إلى ترجمة‬ ‫بذريعة أنها الترجمة األكثر استيعابا للمعنى‬ ‫الحقيقي للمصطلح النقدي‪ ،‬حتى وجدنا عدد‬

‫الترجمات المنجزة للمصطلح الواحد‪ ،‬توافق‬

‫إلى غياب المعرفة الكاملة بالنظرية النقدية‬

‫التي يقوم بنقل المصطلح عنها‪ ،‬ما ينعكس‬

‫تتوسع حدود إشكالية المصطلح نظرا لتعدد‬

‫على معرفة القارئ والدارس بهذه المدارس‬

‫العربية للمصطلح النقدي ال يمكنها أن‬ ‫ّ‬ ‫تخلق في‬ ‫تستوعب معناه ألن هذا المصطلح‬

‫استخداماتها‬

‫ّ‬ ‫المشكلة‬ ‫سياق معرفي ولغوي تتعالق وحداته‬

‫لمضمون النظرية‪ ،‬ما يجعل محاولة استيعاب‬ ‫معناه الداللي في اللغة العربية ناقصا‪ ،‬األمر‬ ‫الذي يجعلهم يطالبون باستخدام المصطلح‬

‫والمصطلحات ويجعل اللغة النقدية تفتقد‬

‫إلى‬

‫الدقة‬

‫والعلمية‬

‫ووظيفتها اإلجرائية‬

‫في‬

‫كاتب من سوريا مقيم في ألمانيا‬

‫بطرس املعري‬

‫المصطلح‬

‫ترجمة‬

‫مختلفة‬

‫عن‬

‫اآلخر‪،‬‬

‫ترجمة المصطلحات‪ ،‬وما تقدمه من تعريف‬ ‫أسلفنا في تباين معرفة المترجم الكبيرة‬

‫بين الترجمة والتوطين‬

‫في كثير من األحيان شخصيات ال عالقة لها‬

‫ال يجيد اللغات األجنبية‪.‬‬

‫بها أو بالنظريات النقدية‪ ،‬والسبب يكمن كما‬

‫إن مشكلة ترجمة المصطلح النقدي الغربي‬

‫‪62‬‬

‫كما جاء في النظرية األمّ وتوطينه في هذه‬


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪63‬‬


‫ملف‬

‫اإلرجاء القاتل‬ ‫الجامعة الجزائرية وسؤال اللغة العربية‬ ‫البشير ربوح‬ ‫ليس من العسر أن نبحث في طبيعة العالقات التي تنشأ بين المساحات الفكرية التي تتواجد وتتحرك في مسطح التحليل الناتج‬

‫عن التقاء مفاهيم‪ ،‬وتصادم تصورات‪ ،‬وتقاطع أحكام‪ ،‬واحتكاك نزعات معرفية تؤدي إلى بروز سوء فهم وانبثاق موقف غائم من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ضجيجا‬ ‫الحدث الذي يتحدث عنه الجميع والذي مأل الفضاء‬ ‫وصخبا‪.‬‬

‫اللغة‬

‫العربية غدت‪ ،‬بين حديث‬

‫وزاري انفلت من عقاله الالواعي‬

‫وردود أفعال لم تكن على دراية ودربة كافية‬ ‫بما تنتجه من رؤى وبما تتقول به من‬

‫ملفوظات‪ ،‬وتستند إلى جهاز لساني اجتماعي‬

‫الجزائري‪ ،‬إذ نستطيع أن نعرّ ج ناحية المسار‬ ‫ً‬ ‫واعتمادا على آلية السرد التاريخي‬ ‫التأريخي‪،‬‬

‫واالجتماعية‬

‫الجزائرية هي جزء أساسي من المشروع‬

‫المفارقة القائمة انتكست أعالم اللغة العربية‬

‫إنجازه في مستعمراتها بإرادة متعالية تنظر‬

‫علمية على اإلطالق‪.‬‬

‫إن الجامعة‬ ‫في صورته البسيطة نقول‪ّ :‬‬

‫أي لحظة‬ ‫ناجز ومستعد لالشتغال في‬ ‫ّ‬ ‫يُ ستدعى لها‪ ،‬حيث تعوّ د على ذات المفردات‬ ‫ً‬ ‫وكأن األمر في حاجة‬ ‫سابقا‪،‬‬ ‫التي استعملها‬ ‫ّ‬

‫إلى اآلخر المنحط أنطولوجيا بحسبانه كائنا‬

‫وأضحت قضية القضايا‪ ،‬وتذكرنا فجأة أننا‬

‫هي امتداد طبيعي لما هو قائم في الواقع‪.‬‬

‫إلى الضغط على الزرّ وكفى به حضورا‪،‬‬ ‫ونعبر بها عن هويتنا‪،‬‬ ‫نملك لغة نتحدث بها‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وتحمل في ذات الوقت جزءا كبيرا وخطيرا‬ ‫من تاريخنا‪ ،‬ودخلنا مرة أخرى في معارك‬ ‫جديدة‪/‬تليدة‪،‬‬

‫بنفس‬

‫الرؤية‬

‫والمنهج‬

‫واألسلوب‪ ،‬ومن الموقع نفسه تحت وقع‬

‫الشعور نفسه بالكراهية والعدائية المفرطة‬

‫‪.‬‬

‫اإلمبريالي الكبير الذي سعت فرنسا إلى‬

‫ما قبل مديني‪ ،‬وبالتالي فالجامعة الجزائرية‬

‫أي ذكر في الزمن‬ ‫لم يكن للغة العربية‬ ‫ّ‬ ‫االستعماري على مستوى الجامعة والبحث‬ ‫العلمي‪ ،‬وانسحبت اللغة العربية إلى المناطق‬

‫المطموسة من الفضاء العام الرسمي‪ ،‬يعني‬ ‫جهة الكتاتيب والمدارس األهلية‪ ،‬أي إلى‬ ‫مواقع ُدنيا من المعرفة العالمة‪ ،‬ومنه بقيت‬

‫لآلخر‬ ‫ّ‬ ‫إن المعادل الرمزي لهذا الحديث هو أننا‬ ‫ّ‬

‫ممزوجة بلهجة شعبية متقاطعة مع بعض‬

‫الجندي الذي يتحرك دون أن يتقدم خطوة‪،‬‬

‫حضور قوي في نسيج الخطاب الشعبي‪ ،‬مما‬

‫لم نبرح مكاننا فنحن أشبه ما نكون بذلك‬ ‫فإن الذهاب جهة الحديث عن عالقة‬ ‫وعليه‪،‬‬ ‫ّ‬

‫اللغة العربية حبيسة االستعمال اليومي‬ ‫المفردات الفرنسية التي أضحت تحوز على‬

‫‪..‬‬

‫والفلسفة والتاريخ وغيرها وعلى وقع هذه‬ ‫وانطفأ وهجها‪ ،‬وسيقت إلى مواقع غير‬ ‫لكن بعد بزوغ عصر االستقالل وانحسار‬

‫االستعمار‬

‫الغربي‪،‬‬

‫مع‬

‫بقاء‬

‫الثقافة‬

‫الكولونيالية في أفق التفكير الغربي‪ ،‬كما‬ ‫حدثنا المفكر العربي إدوارد سعيد‪ ،‬دخلت‬

‫الجامعة الجزائرية مرحلة جديدة من‬

‫الحركية السياسية‪ ،‬واالجتماعية ولم تشهد‪،‬‬ ‫إالّ في فترات متباعدة‪ ،‬شحنات قليلة‬ ‫وبائسة من الحركية العلمية‪ ،‬اتسمت بظهور‬ ‫نزعة قوية في إدخال التعريب بصورة قوية‬ ‫وبحرص شوفيني وغليظ على هذه اللغة‪،‬‬ ‫مما أدى إلى تبني سياسة مشوهة وعرجاء‬

‫أي‬ ‫تتحرك دون رؤية حصيفة‪ ،‬وفي غياب ّ‬ ‫مشروع حقيقي للجامعة‪ ،‬تمظهرت أوالً‬

‫متميزة وذات‬ ‫نتحدث عن منجزات ثقافية‬ ‫ّ‬

‫وعدم االنفتاح على األلسنة األخرى مثل‬

‫‪.‬‬

‫تكون سياسية‪ ،‬ومن زاوية مح ّددة وقد‬

‫فرادة الزمت هذه الفترة من كتابات روائية‪،‬‬

‫ألن المسألة ترت ّد إلى حزمة‬ ‫من المجازفة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وحتى‬

‫ما‬

‫يتعلق‬

‫باألدب‬

‫داخلها‪ ،‬ومن تقليص مكانة اللسان الفرنسي‪،‬‬

‫الجامعة الجزائرية باللغة العربية أو بتعبير‬ ‫ً‬ ‫توسعا موقع ومكانة اللغة العربية في‬ ‫أكثر‬

‫تكون علمية بحتة‪ ،‬وهذا نوع مخصوص‬

‫باللسان الفرنسي‪ ،‬بما فيها المواد اإلنسانية‬

‫ضاعف من مأساتها‪ ،‬بحيث كرّ س منطق عام‬ ‫ّ‬ ‫وينزلها منازل وضيعة‬ ‫يحتقر هذه اللغة‬ ‫ليس ببعيد عن هذا التمشي‪ ،‬يمكن أن‬

‫الجامعة الجزائرية‪ ،‬هو من جهة ما‪ ،‬وقد‬

‫‪64‬‬

‫كبيرة من المفاعيل المنغمسة في التاريخ‬

‫ّ‬ ‫فكل المواد تدرّ س‬ ‫الجامعة كان منعدما‪،‬‬

‫شعرية‪ ،‬قصصية‪ ،‬دينية‪ ،‬وفكرية‪ ،‬ارتبطت‬ ‫أن التواجد على مستوى‬ ‫بهذه اللغة‪ ،‬غير ّ‬

‫في إقصاء اللسان األمازيغي من التواجد‬

‫والتعاطي معه باعتباره موروثا استعماريا‪،‬‬ ‫اللسان األلماني‪ ،‬اإلنكليزي‪ ،‬األسباني‪ ،‬ليس‬ ‫من باب اكتساب هذه األلسنة والتعود عليها‪،‬‬ ‫وإ ّنما من أجل جعلها لغة البحث العلمي‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫بطرس املعري‬

‫خاصة‪ ،‬دون أن نهمل األلسنة الصاعدة في‬

‫الضفاف األخرى‪.‬‬

‫إن هذا األمر يحتاج على إرادة قوية وإلى‬ ‫ّ‬ ‫مشروع كبير يسع الجميع ويذهب إلى أقصى‬ ‫مدى‪ ،‬ويجمع في جوفه طموحات شباب‬

‫‪.‬‬

‫جزائري مزوّ د بإرث معرفي وقيمي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وجودا وعدما حول‬ ‫إن أغلب حديثنا يدور‬ ‫ّ‬

‫الحية في‬ ‫خلق فضاء تواصلي بين القوى‬ ‫ّ‬

‫ألن هذا التواصل هو الذي يصنع‬ ‫الجامعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫دروبا للتعارف بين الشخصيات المفهومية‬

‫القادرة على تقديم استشارات قوية وعامة‬ ‫لمستقبل الجامعة في المنظور الزمني‬ ‫القريب وفي المنظور التاريخي البعيد‪،‬‬

‫واالنفتاح على الشخصيات العلمية المُ عولمة‬

‫والتي هي اآلن تنتج المعرفة وتتحكم في‬

‫منطقها اإلبداعي‪.‬‬

‫ربّما بهذه الصورة المتواضعة نستطيع أن‬ ‫ّ‬ ‫ظل‬ ‫نتحدث عن مستقبل للغة العربية في‬

‫تسونامي لساني تقوده الشركات الكبرى‬

‫أن األمر يتعلق بإعادة‬ ‫العابرة للهويات‪ ،‬أي ّ‬ ‫ترتيب البيت الداخلي للجامعة الجزائرية‬

‫وإبعادها عن الذهنية الشعبوية المُ ؤدلجة‬ ‫بصورة مشوّ هة‪ ،‬وتقديم صورة صحية عن‬

‫اللغة العربية والتقليل من الكليشيهيات‬

‫الكرنفالية المنتشرة في خطابنا اليومي‪.‬‬

‫لم يعد لنا الوقت الكافي للدفاع عن اللغة‬ ‫ّ‬ ‫تبقى من الوقت يكفي فقط‬ ‫العربية فما‬ ‫لتنظيم أنفسنا الجديدة والتفكير جماعياً‬

‫والفلسفي واألدبي والفني‪ ،‬لكي نبدأ على‬

‫أحقيتها في الكينونة العلمية‪ ،‬ولم ندفع بها‬ ‫ّ‬

‫في كيفية إخراج هده اللغة من وضعها‬

‫عالم الحداثة الحقيقي‪.‬‬

‫فما هو منتشر بين ذواتنا الهشة خليط من‬

‫ومن تثوير الفضاء الجامعي الذي تعفن‬

‫األقل في هذه المرحلة التاريخية في ولوج‬

‫جهة الخطاب اليومي في مختلف تمظهراته‪،‬‬ ‫لهجات ممجوجة‪ ،‬تمكنت من التسرب إلى‬

‫أن األزمة القائمة بين اللغة العربية‬ ‫تأكد لدينا ّ‬

‫فضاء الفن واإلعالم والسياسة وأغلب‬

‫معها فهم وتحليل ما يجري داخل هذه‬

‫المبتذل‪.‬‬

‫والجامعة هي أزمة مركبة إلى درجة يصعب‬

‫المؤسسة التي توكل إليها مهمة صناعة‬ ‫الوعي وبلورة شخصية وطنية حداثية‬

‫قادرة على ممارسة فكرة المواطنة دون‬ ‫عقدة نقص أو تفوق‪ ،‬فنحن داخل الجامعة‬

‫ظلمنا اللغة العربية عندما نزلناها في مرتبة‬

‫الخادم األيديولوجي لمنظور شعبوي تافه ال‬

‫يستطيع أن يرى أبعد من أرنبة أنفه‪ ،‬ودفعنا‬ ‫بها إلى الدخول في عالقة عدائية مع أخ‬

‫لساني هو اللسان األمازيغي‪ ،‬ولم ندخلها‬ ‫مخابر البحث العلمي لكي تنخرط في مسار‬

‫تعبر فيه عن‬ ‫علمي وفي معترك معرفي‬ ‫ّ‬

‫المجاالت التي بدأت تخضع لمنطق الواقع‬

‫الكولونيالي ومن منزلتها ما بعد االستعمارية‬ ‫بسبب الشلل المتطاحنة ذات المصالح‬ ‫ّ‬ ‫وكل المظاهر التي غدت‬ ‫غير الشرعية‪،‬‬

‫بفعل تكرارها عادية في منظور‬

‫المجتمع‪.‬‬

‫إن اللغة هي عالمة فارقة على عبقرية‬ ‫ّ‬

‫لم يعد من المجدي أن نتباكى على لغتنا‬

‫األمة وفق التوصيف الطريف للفيلسوف‬

‫نتغزل بها كما تعودنا شعريا على تمجيد ما هو‬ ‫قابل للضياع أو في سبيله إلى التبدد‪ ،‬وإ ّنما‬

‫في داخلها معنى الكينونة الحقيقي‪ ،‬وقد‬

‫تأكدنا أن اللغة العربية قد حققت مكاسب‬

‫وغير مطروق يتمثل في تنشيط الخطاب‬

‫الفيزيقية‪.‬‬

‫الجميلة كما توصف‪ ،‬ولم يعد من المفيد أن‬

‫من األجدى أن نجتهد في تعبيد درب جديد‬

‫اللساني العربي داخل الجامعة من خالل‬

‫تفعيل المعجمية العلمية الكامنة فيه‪ ،‬وفي‬ ‫الدفع به صوب المخابر العلمية لكي نحدث‬

‫تناغما بينه ما هو علمي وما هو لساني عربي‪،‬‬

‫واالنفتاح على المنجزات اللسانية الغربية‬

‫األلماني “همبولدت” وهي الروح التي تحوي‬

‫ميتافيزيقية ولم يبق لها إال إدراك المكاسب‬ ‫ليس من صالح الجامعة الجزائرية أن تخلف‬ ‫موعدها التاريخي مع اللغة العربية‪ ،‬وليس‬

‫من صالح اللغة العربية أن تبتعد كثيرا عن‬

‫الجامعة‬

‫كاتب من الجزائر‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪65‬‬


‫ملف‬

‫الصراع بين العربية والفرنسية‬ ‫في رواية “بان الصبح” لبن هدوقة‬ ‫إبراهيم سعدي‬ ‫رغم حساسية المسألة اللغوية‪ ،‬وذلك ألسباب تاريخية تحيل إلى تجربة استعمارية استيطانية فرنسية دامت قرنا وربع قرن‬ ‫انتهت إلى جعل المجتمع الجزائري يعيش بعد االستقالل صراعا لغويا حادا بين العربية والفرنسية‪ ،‬تفرع إلى صراع بين العربية‬

‫واألمازيغية وإلى جدال دام أحيانا حول الهوية الوطنية‪ ،‬لم يتناول األدباء الجزائريون الذين يكتبون بالعربية هذه القضية إال‬ ‫خارج نصوصهم السردية‪ ،‬حيث ذهبوا أحيانا إلى حد “التكفير” اللغوي لبني جلدتهم من ك ّتاب اللغة الفرنسية‪.‬‬

‫في‬

‫المقابل استمات األدباء الجزائريون‬

‫المسألة الكأداء‪ ،‬أي أن المؤلف أوجدها فقط‬

‫وال ريب أيضا أن نية المؤلف في تسليط‬

‫قليلة‪ ،‬دفاعا عن مشروعية الكتابة بالفرنسية‬

‫المجتمع حول اإلشكالية اللغوية‪ ،‬ولذلك لم‬ ‫ّ‬ ‫يكلف المؤلف نفسه حتى مشقة إسناد أسماء‬

‫وثقافية وأيديولوجية معقدة في الجزائر‪،‬‬

‫الفرنكفونيون‪،‬‬

‫عدا‬

‫استثناءات‬

‫التي ارتقوا بها إلى مستويات أدبية لم‬ ‫يدركها الك ّتاب الفرنسيون أنفسهم أحيانا‪،‬‬

‫كما دافعوا أيضا عن مشروعية استعمالها‬

‫لها‪ ،‬مكتفيا بتعريفها بكلمة “رجل” أو “امرأة”‪.‬‬

‫وال ريب أن تحديد الموقع االجتماعي‬

‫كانت أقوى من الدافع إلى التوظيف الجمالي‬ ‫لها داخل هذا النص السردي الواقعي‪ ،‬ممّ ا أدى‬

‫إلى التركيز على فعل القول وإبداء الرأي‪ ،‬أي‬

‫للمناقش كان سيسمح باستنتاجات سوسيو‪-‬‬

‫على فعل الحجاج‪ ،‬أكثر منه على السرد‪.‬‬

‫وتعد رواية “بان الصبح” لعبدالحميد بن‬

‫اللغة العربية أو من اللغة الفرنسية والموقع‬

‫لعبدالحميد بن هدوقة الذي يرى بأن على‬

‫القليلة التي تصدت سرديا لموضوع “حرب‬

‫التحديد هذا يشير إلى غياب مثل هذه‬

‫خارج الكتابة اإلبداعية‪ ،‬أي داخل مجتمعاتهم‬

‫كلغة عمل وتواصل بين الجزائريين‪.‬‬

‫هدوقة من الروايات الجزائرية العربية‬

‫اللغات” بين العربية والفرنسية التي كانت‬

‫البالد مسرحا لها بعد االستقالل‪ ،‬يعني بعدما‬

‫وضعت الحرب الحقيقية أوزارها سنة ‪،1962‬‬

‫بين فرنسا والجزائر‪.‬‬

‫ال نلمس في “بان الصبح” ‪-‬على األقل بصورة‬

‫أدبية فيما يخص العالقة بين الموقف من‬ ‫االجتماعي لصاحبه‪ ،‬اللهم إال إذا كان عدم‬

‫‪.‬‬

‫العالقة إال أنه يمكن من الناحية الفنية‬ ‫تبرير الغياب النسبي للتحديد االجتماعي‬ ‫للشخوص‪ ،‬إذا ما أخذنا بعين االعتبار السياق‬

‫الذي وظفهم فيه المؤلف‪ ،‬والمتمثل في‬

‫وصف جلسة من الجلسات التي كانت تجري‬

‫ويرتبط هذا اإلجراء كذلك بالمنظور األدبي‬

‫األديب أن “يكون ذا تأثير في مجتمعه”‬ ‫وبأنه “لكي يكون ذا تأثير في مجتمعه ‪-‬أي‬

‫لتجد أفكاره صداها في مجتمعه‪ -‬يجب أن‬

‫‪..‬‬

‫يحسن طرح المشاكل التي يتعرض لها ”‬

‫كما ذهب سعيد علوش‪ ،‬في كتابه "الرواية‬

‫واأليديولوجيا"‪.‬‬

‫والواقع أن سمة الجدل طاغية في رواية‬

‫واضحة‪ -‬رأي عبدالحميد بن هدوقة‪ ،‬الذي‬

‫حول “الميثاق الوطني” لمناقشة الخالف‬

‫الحرف العربي‪ ،‬إزاء هذه القضية‪ ،‬فهو‬

‫ففي مثل هذه الجلسات المخصصة للجدل‬

‫وال عجب في ذلك ألن الرواية تعبر عن‬

‫على حساب “الشخصية” الروائية‪ ،‬أي يصبح‬

‫المناقشات العامة‪ ،‬حول “الميثاق الوطني”‪،‬‬

‫ينظر إليه كمؤسس للرواية الجزائرية ذات‬

‫يوظف شخوصا سردية ترافع كل واحدة‬

‫منها عن اللغة العربية أو عن الفرنسية‪.‬‬

‫اللغوي في الجزائر‪.‬‬

‫والنقاش يحتل الرأي والرأي المضاد األولوية‬

‫“بان الصبح” ذات الشخوص المتميزة بكثرة‬

‫الكالم الحامل طابع الحوار والنقاش والنقد‪،‬‬ ‫مرحلة اجتماعية وسياسية طبعتها أجواء‬

‫وهي شخوص نكرة في معظمها‪ ،‬يعني أنها‬

‫“القول” هو الفعل أو الحدث األساس‪ ،‬بحيث‬

‫التي جرت سنة ‪ ،1975‬أي مرحلة تميزت‬

‫رأيها حول هذه المعضلة اللغوية‪ ،‬ولذلك ال‬

‫اآلراء‪ ،‬ولهذا طغى فعل القول أو الحوار على‬

‫والمؤقت في ذات الوقت الذي وسمها بظهور‬

‫ال تعبر عن نفسها داخل النص إال من خالل‬ ‫يعرف عنها القارئ سوى موقفها من هذه‬

‫‪66‬‬

‫لكي تنطق بموقف من المواقف المتداولة في‬

‫الضوء على اللغة بوصفها إشكالية اجتماعية‬

‫يتشكل عنصر الصراع من تصادم األقوال أو‬

‫السرد في هذا الفصل‪.‬‬

‫بزخم أيديولوجي سمح للنقاش الحر والعام‬

‫كل التناقضات التي كانت تتجاذب المجتمع‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫بطرس املعري‬

‫الجزائري‪.‬‬

‫ويرتبط الفصل الخاص بالسجال بين أنصار‬ ‫ّ‬ ‫كل من اللغتين‪ ،‬العربية والفرنسية‪ ،‬بالمجرى‬

‫العام للرواية من خالل شخصيتي “رضا”‬

‫الشاب ذي النزعة التقدمية‪ ،‬و”نعيمة” ابنة‬

‫عمه‪ ،‬الطالبة الجامعية القادمة من‬

‫الريف‪.‬‬

‫وهما الشخصيتان اللتان يستمر وجودهما‬ ‫طوال النص‪ ،‬ألن الشخصيات األخرى‬ ‫الحاضرة في هذا الفصل تختفي جميعها من‬ ‫النص بعد نهاية المناقشة المتعلقة بالمسألة‬

‫اللغوية‪ ،‬أي أنها ال تعيش في النص أكثر من‬ ‫الصفحات التي استغرقتها المناقشة‪ ،‬أعني‬

‫‪.‬‬

‫في الفصل السادس ال غير وال يشارك “رضا”‬ ‫في هذه المناقشة مشاركة مباشرة‪ ،‬وإنما من‬

‫خالل بعض التعليقات التي يبديها البنة عمه‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪67‬‬


‫ملف‬

‫“نعيمة” بشأن تدخالت بعض الحاضرين أو‬

‫بشأن بعض استنتاجات “نعيمة” التي بدورها‬

‫ال تشارك في هذه المناقشة بصورة علنية‪.‬‬

‫هو من جهة فضح وشجب بعض المفارقات‬

‫الماليين؟”‪.‬‬

‫جهة أخرى التوضيح بأن الصراع الدائر في‬

‫الواجب تداولها في الجزائر‪ ،‬تنحصر في لغة‬

‫الخاصة بتلك الفترة المسماة اشتراكية‪ ،‬ومن‬

‫ولهذا فإن حضورهما في هذا الفصل يؤدي‬

‫المجتمع حول اللغة هو شأن يعني النخب‬

‫غايتها ربط المناقشة بالمجرى العام للرواية‪،‬‬

‫لذلك نالحظ بأنه عندما تتناول الكلمة امرأة‬

‫الكتابة‪ ،‬يعني بين الكتابة بالعربية الفصحى‬

‫المثقفة وحدها‪ ،‬وبأن الشعب ال دخل له فيه‪.‬‬

‫أو باللغة الفرنسية‪ ،‬ومن ثمة تكون العامية‪،‬‬

‫من خالل إلحاقها بالمسار الشخصي لـ”رضا”‬

‫تنتمي بدورها إلى فئة العمال‪ ،‬فهي عاملة في‬

‫وظيفة شفوية بحتة‪ ،‬ليست معنية بهذا‬

‫بين مختلف اآلراء المتضاربة حول اللغة‪،‬‬

‫العربية والفرنسية في الجزائر‪ ،‬إذ تقول “أنا‬

‫وظيفتين‪ :‬إحداهما فنية إن جاز القول‪،‬‬

‫و”نعيمة”‪.‬‬

‫والثانية وظيفة الحكم الفصل‬

‫من خالل التعليق على بعضها بغرض‬

‫التصحيح‪ ،‬ال سيما وأن الراوي قد منحه‬ ‫الكفاءة والمصداقية الالزمتين ألداء هذا‬

‫الدور عندما وصفه قائال “كان رضا بعيدا عن‬

‫‪.‬‬

‫كل تحمس أو تطرف هو رجل يزن األشياء‬

‫حمّ ام‪ ،‬ال تتحدث هي أيضا عن مسألة اللغتين‬

‫جئت ألعرف متى تؤمّ م الحمّ امات”‪.‬‬

‫يقول فيها “نواصل أيها اإلخوة شرح الباب‬

‫الثالث وهو الثورة‬

‫الثقافية‪.‬‬

‫وفي هذا‬

‫المساء نتكلم عن اللغة الوطنية من جديد‪،‬‬ ‫ألن بعض اإلخوة باألمس لم يفهموا جيدا‬

‫الموضوع"‪.‬‬

‫ويواصل رئيس الجلسة كالمه قائال “يقول‬ ‫المشروع‪ :‬إن اللغة العربية عنصر أساسي‬

‫للهوية الثقافية للشعب الجزائري‪ ،‬وال يمكن‬ ‫فصل شخصيتنا عن اللغة الوطنية التي‬

‫‪.‬‬

‫نعبر من خاللها ولهذا فإن تعميم استعمال‬

‫اللغة الوطنية وإتقانها كوسيلة عملية‬ ‫خالقة‪ ،‬يشكل إحدى كبرى المهام للمجتمع‬ ‫الجزائري‪ ،‬للتعبير عن كل مظاهر الثقافة‬

‫أنه في كل مرة يعلو صوت من القاعة يطلب‬

‫من المتدخلين المنتمين إلى الفئات الشعبية‬ ‫عدم الخروج عن الموضوع‪ ،‬يعني حصر‬

‫ما يمكن تسميته باالضطهاد‬

‫تدخالتهم في الحديث عن مسألة اللغة‬ ‫في المجتمع‪ ،‬وليس عن القضايا المعيشية‬

‫اللغوي أو بالهيمنة‬

‫المادية فهل حقا‪ ،‬ال تهم الشعب غير األمور‬

‫اللغوية كان أحد أسباب‬

‫بطبعه‪ ،‬ال يكترث بقضايا اللغة‪ ،‬والثقافة‬

‫الهوياتي‬ ‫يقظة الشعور‬ ‫ّ‬ ‫لهذه “األقليات” ولحدوث‬

‫‪.‬‬

‫المادية المعيشية؟ هل الشعب بالفعل مادي‬ ‫والهوية المرتبطتين بها؟‬

‫الحقيقة أنه إذا ما احتكمنا إلى التجربة‬

‫الجزائرية وأيضا إلى تجارب مجتمعات‬

‫اضطرابات دموية وانقسامات‬

‫أخرى في العالم العربي‪ ،‬نجد أن المسألة‬

‫مجتمعية وسياسية حادة‬

‫خصوصا لدى ما يسمى باألقليات في هذه‬

‫اللغوية‬

‫كانت‬

‫شغال‬

‫جماهيريا‬

‫أيضا‪،‬‬

‫هددت‪ ،‬وتهدد‪ ،‬وحدة هذه‬

‫المجتمعات‪ ،‬فما يمكن تسميته باالضطهاد‬

‫المجتمعات‬

‫يقظة الشعور الهويّ اتي لهذه “األقليات”‬

‫اللغوي أو بالهيمنة اللغوية كان أحد أسباب‬ ‫ولحدوث اضطرابات دموية وانقسامات‬

‫مجتمعية وسياسية حادة هددت‪ ،‬وتهدد‪،‬‬ ‫وحدة هذه المجتمعات‪ ،‬مثلما كان الشأن في‬

‫يتكلم ليعلن بأنه لن يخوض في إشكالية‬

‫أريد أن أتكلم عن موضوع آخر‪..‬‬

‫أي إشكال‪.‬‬ ‫وهي العامية‪ ،‬ال تطرح ّ‬

‫هذه النظرة‪ ،‬فكل ما هناك بهذا الشأن هو‬

‫غير أن المتدخل األول‪ ،‬بعد كلمة الرئيس‪،‬‬

‫اللغة قائال “أنا أترك اللغة للذين يعرفون‪ ،‬أنا‬

‫وعليه يقف منها موقف الحياد‪ ،‬على أساس‬

‫أيضا‪ ،‬يكشف هو كذلك بأن الهموم اللغوية‬

‫وعن العقيدة االشتراكية‪.”..‬‬

‫أنا عامل‬

‫في هذه الحالة‪ ،‬غير معني بالرهانات اللغوية‪،‬‬

‫ّ‬ ‫أي شخصية حاضرة في‬ ‫الراوي ال يكلف ّ‬ ‫جلسة المناقشة ‪-‬بما فيها “رضا”‪ -‬للرد على‬

‫كالمه بأنه ينتمي إلى الفئات الشعبية هو‬

‫الفكرة التي يعتنقها بكل الوسائل“‪.‬‬

‫الشعب ال تعنيه المسألة اللغوية‬

‫الصراع‪ ،‬وبالتالي كأن موقف الشعب نفسه‪،‬‬

‫أن اللغة التي يستعملها في حياته اليومية‪،‬‬

‫األحداث ويحاول التدخل لجعلها في صالح‬

‫تبدأ الجلسة بكلمة للرئيس “سي الطيب”‪،‬‬

‫لغة الشعب والحياة اليومية‪ ،‬التي تؤدي‬

‫كما أن تدخل رجل نكرة‪ ،‬يُ ستنتج من‬

‫بميزاتها‪ ،‬ال يتشاءم وال يتفاءل‪ ،‬يراقب‬

‫الجزائر بسبب تهميش األمازيغية واعتبارها‬ ‫مجرد لهجة ال محل لها من اإلعراب‪ ،‬أو في‬

‫علي في هذا العمل ثالثون‬ ‫بالمرسى‪ ،‬مضى‬ ‫ّ‬ ‫سنة إال ثالثة أشهر ”‬

‫ليست الشغل الشاغل لهذه الفئات “الدنيا”‬

‫العراق وسوريا مع اللغة الكردية التي كان‬

‫يقرؤون وال يكتبون‪ ،‬فهو يقول في كالمه‬

‫إنماء الشعور بالذات والرغبة في االنفصال‬

‫الموز واللوز والزبيب والجبن بمختلف‬

‫الشعب نتكلم العربية الدارجة كما هي‬

‫‪. ..‬‬

‫ثم يمضي هذا العامل متحدثا عن بواخر‬

‫أنواعه واللحوم التي ترسو في الميناء سرا‪،‬‬

‫من غير أن نشاهد أثرها في األسواق أو‬

‫‪.‬‬

‫يذوق الشعب طعمها حتى بالعين وال شك‬ ‫أن غرض المؤلف من توظيف هذا التدخل‬

‫‪68‬‬

‫يُ فهم من هذا بأن مسألة الصراع حول اللغة‬

‫من المجتمع‪ ،‬وذلك ببساطة ألن أفرادها ال‬

‫“أنا ليس لي ما أقوله عن اللغة‪ ،‬نحن أفراد‬ ‫ونتفاهم‪ ،‬ليس لنا مشكلة في هذا الموضوع‪،‬‬

‫لكن أريد أن أسأل‪ :‬لماذا ال تحاسب الدولة‬ ‫أولئك الذين كانوا عند االستقالل ال يملكون‬

‫شيئا وأصبحوا اليوم يبنون الفيالت بمئات‬

‫إقصاؤها عامال من العوامل التي أ ّدت إلى‬ ‫عن الدولة الوطنية التي تأسست من الناحية‬

‫اللغوية على األحادية‪ ،‬مثلما كان األمر‬ ‫في السياسة‪ ،‬الشيء الذي أدى إلى جعل‬

‫اللغة العربية تبدو رمزا للهيمنة واإلقصاء‬

‫‪.‬‬

‫لهذه األقليات وقد أدى ذلك‪ ،‬في الجزائر‪،‬‬

‫إلى تغذية العداء لهذه اللغة‪ ،‬وللحضارة‬


‫حال اللغة العربية استهالل ودعوة‬

‫العربية‪-‬اإلسالمية على العموم‪ ،‬خصوصا في‬

‫الحقيقة لغة أبي جهل أيضا‪.‬‬

‫ذلك الطابع العلماني والنزعة المتوسطية‬

‫من الذين بلوروا هذا الرأي في النص شخص‬

‫استعمال العربية الفصحى في الحال‪ ،‬يربط‬

‫بشأن‬

‫العمر‪ ،‬يلبس قميصا بال أكمام‪ ،‬يمسك نظارة‬

‫باإلنسان‪ ،‬وهو رأي متداول في المجتمع‪،‬‬

‫الذين سيخوضون النقاش والجدل في‬

‫للشخصية الثقافية”‪ ،12‬قبل أن يضيف في‬

‫المناطق الناطقة باألمازيغية‪ ،‬كما يدل على‬

‫لألحزاب المتجذرة فيها‪.‬‬ ‫المهم‬

‫أننا‬

‫نستنتج‬

‫مما‬

‫سبق‬

‫المسألة اللغوية في “بان الصبح” بأن‬ ‫هذه اإلشكالية‪ ،‬من غير أن نعرف دائما‬

‫وظائفهم االجتماعية على وجه التدقيق‪،‬‬

‫هم من المتعلمين‪ ،‬أي من الذين يقرؤون‬

‫ويكتبون‪ ،‬وإنما بلغتين مختلفتين إن لم نقل‬

‫متعارضتين‪ ،‬الشيء الذي يشي مرة أخرى‬ ‫بارتباط الصراع اللغوي في الجزائر بالصراع‬ ‫من أجل السلطة‪ ،‬لكن شرط أالّ نحصر هذه‬

‫‪ -‬الدفاع عن العربية باسم الهوية‪:‬‬

‫ارتأى الراوي أن يوضح بأنه “… متوسط‬ ‫شمس"‪ ،‬قال “إن اللغة هي المقوم األول‬

‫األخير قائال “… أقول هذا وأنا لست من أعداء‬

‫المعرفة‬

‫الفعالية والكفاءة باللغة في حد ذاتها وليس‬ ‫ينجم عنه االعتقاد بأن استعمال هذه اللغة‬

‫(الفرنسية على العموم) سوف يؤدي إلى‬

‫الرقي‪ ،‬بينما استعمال لغة أخرى كالعربية‪،‬‬

‫أي لغة أخرى […] إنما أريد قبل‬ ‫الفرنسية وال ّ‬ ‫أن أكون غيري أن أكون أنا أوال” ومن بين ما‬ ‫تعني بالضرورة العداء للغات األجنبية‪ ،‬وهو‬

‫‪ -‬الدفاع عن العربية باسم التاريخ‪:‬‬

‫‪.‬‬

‫يعنيه بهذا القول أن المطالبة باللغة العربية ال‬ ‫خلط معمول به أحيانا في إطار الحجاج‬

‫مثال‪ ،‬سوف يؤدي إلى التخلف والتقهقر‪،‬‬

‫الفرنكفوني في الجزائر‪.‬‬

‫وهو دفاع يجعل المطالبة باللغة العربية‬

‫يتأسس على الشرعية التاريخية‪ ،‬وقد قال‬ ‫به المتدخل الذي تساءل “لماذا قامت ثورة‬

‫بتجلياتها األخرى‪ ،‬في فضاءات اكتساب‬ ‫ونشرها‬

‫بأن هذا المتدخل الذي يدعو إلى تعميم‬

‫كما هو شائع في الفكر األيديولوجي اللغوي‬

‫األخيرة في حدودها السياسية الضيقة‪ ،‬بل‬ ‫(المدرسة‪،‬‬

‫‪..‬‬

‫الدولة وقطاعاتها المختلفة ”‪ ،‬لكننا نالحظ‬

‫نوفمبر إذن؟”‪ ،‬قبل أن يضيف قائال “لقد‬

‫حيل بيننا وبين لغتنا مئة واثنتين وثالثين‬

‫الجامعة)‪،‬‬

‫سنة دون أن أع ّد سنوات االستقالل إلى‬

‫في اإلعالم (توجيه الرأي العام والتحكم‬

‫‪.‬‬

‫فيه)‪ ،‬وكذا في مجال السلطة اإلدارية أو‬

‫الصراع اللغوي قد خفت‬

‫اآلن…” لكن من المعروف أيضا بأن الشرعية‬

‫يتدخل فيها امتالك اللغة المكتوبة كشرط‬

‫حدته بعض الشيء في‬ ‫ّ‬

‫بحجة أن قادة حرب التحرير كانوا كلهم من‬

‫البيروقراطية‪ ،‬وغير ذلك من المجاالت التي‬ ‫ضروري من شروط امتالك السلطة بالمعنى‬

‫الذي نجده عند ميشال فوكو‪.‬‬

‫السنوات األخيرة‪ .‬ومن بين‬

‫ويمكن تقسيم مواقف وآراء هذه النخب‬

‫ما يمكن أن نفسر به هذه‬

‫استعمال العربية وأنصار استعمال الفرنسية‪،‬‬

‫الهدنة‪ ،‬ازدياد نسبة مزدوجي‬

‫المتعلمة إزاء اللغة إلى قسمين كبيرين‪ :‬أنصار‬ ‫من غير أن نجد دائما تعارضا مطلقا بين‬

‫الطرفين‪ ،‬وال انسجاما بين مختلف المواقف‬

‫المنضوية في هذا االتجاه أو ذاك‪.‬‬ ‫المرافعة عن اللغة العربية‬

‫يمكن إيجاز آراء المدافعين عن اللغة العربية‬

‫كما يلي‪:‬‬

‫اللغة العربية في الجزائر على أساس ديني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫“وصفق مع بعض من‬ ‫ذلك أن “رضا” ضحك‬

‫صفقوا خفيفا” بعدما ر َّد على هذا الرأي رجل‬ ‫ذكر في تدخله بأن ال أحد قال بأن العربية‬ ‫“هي لغة أبي جهل”‪ ،‬مع أن العربية هي في‬

‫عبر عنه متدخل خشي أن يوافق الحاضرون‬ ‫ّ‬

‫بالقياس إلى ما كان عليه‬ ‫األمر في السابق‪ ،‬حين‬

‫الفوري للتعريب وفي جميع المجاالت‪،‬‬ ‫بعد اعتماد الميثاق‪ ،‬فما هو مصير أبنائنا‬

‫الذين ال يعرفون العربية؟”‪ ،‬وهو تساؤل ال‬

‫كانت األحادية اللغوية هي‬

‫ّ‬ ‫ينم بالضرورة عن رفض للغة العربية بقدر‬

‫القاعدة‬

‫مرتبط باستخدام اللغة األجنبية في الحياة‬

‫يعبر عن الخوف من ضياع مصدر رزق‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫العامة للمجتمع الجزائري‪ ،‬وهي ظاهرة كانت‬

‫عامة تقريبا في تلك الفترة‪.‬‬

‫‪ -‬الدفاع عن الفرنسية باسم الفعالية‪:‬‬

‫أن العربية تستمد في الجزائر شرعيتها من‬

‫بنزعته اليسارية‪ ،‬ال يريد تأسيس شرعية‬

‫‪ -‬الدفاع عن الفرنسية باسم المصلحة‪:‬‬

‫فقال متسائال “إذا تقرر استعمال العربية‬

‫قوله بأن “العربية هي لغة القرآن”‪ ،‬مما يعني‬

‫المؤلف عبدالحميد بن هدوقة المعروف‬

‫حجاج أتباع اللغة الفرنسية‬

‫اللغة (عربية وفرنسية)‬

‫يؤكده مدافع عن العربية ال نعرف عنه سوى‬

‫لكن يبدو أن الراوي‪ ،‬ومن ورائه على األرجح‬

‫الفرنكفونيين‪ ،‬كما ذكر أحدهم في القاعة”‪.‬‬

‫في القاعة على اقتراح يدعو إلى التطبيق‬

‫‪ -‬الدفاع عن العربية باسم الدين‪:‬‬

‫كون الشعب الجزائري ينتمي إلى اإلسالم‪.‬‬

‫التاريخية استخدمها المتفرنسون أيضا‬

‫وقد قال صاحبه “من حسن حظ الجزائر أن‬

‫األيديولوجي بين اللغتين العربية والفرنسية‪.‬‬

‫تكون في متناولها لغة متطورة ”‪ ،‬قاصدا‬

‫يبلور هذا الدفاع عن اللغة العربية أحد‬

‫واحد إلى “إنشاء بنيات التواصل والتفاعل‬

‫العربية غير قادرة على استيعاب الحضارة‪،‬‬

‫يعني اعتماد االزدواجية اللغوية (عربية‬

‫‪ -‬الدفاع عن العربية باسم الفعالية‪:‬‬

‫المتدخلين ردا منه على مناهض لها يرى بأن‬ ‫فقال المُ رافع عن لغة المتنبي “… لو شئت‬ ‫ّ‬ ‫تكذب هذا‬ ‫لضربت عشرات األمثلة التي‬

‫‪.‬‬

‫الزعم إن العربية قادرة على تسيير شؤون‬

‫‪..‬‬

‫بذلك اللغة الفرنسية بالطبع‪ ،‬داعيا في آن‬

‫بين اللغتين طوال هذه الفترة االنتقالية”‪،‬‬

‫وفرنسية)‪ ،‬كما دعا إلى ذلك‪ ،‬في نفس الفترة‪،‬‬

‫المفكر الجزائري والوزير األسبق للتربية‬

‫“مصطفى لشرف”‪ ،‬وبنفس العبارات تقريبا‪.‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪69‬‬


‫ملف‬

‫‪ -‬الدفاع عن الفرنسية باسم التاريخ‪:‬‬

‫في نهاية المطاف بما يريده المؤلف الذي‬

‫بوا"‪ ،‬مترجمه إلى اللغة الفرنسية‪ ،‬أدلى به بن‬

‫قضية انتهى المطاف بالسلطة القائمة في‬

‫بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاة "رشيد‬

‫تقدم به نفس صاحب الرأي السابق الذي‬

‫يتحمل هكذا مسؤولية هذا الصمت إزاء‬

‫تاريخية معروفة"‪ ،21‬وهو رأي متداول‬

‫البالد إلى االعتراف بشرعيتها واعتبارها لغة‬

‫يضيف بأن “وضعية الجزائر (…) شاذة لظروف‬

‫كثيرا‪ ،‬كما نعرف في الساحة الثقافية في‬ ‫الجزائر‪ ،‬يقوم على االعتقاد بأن مكانة‬

‫الفرنسية في بالدنا نتاج حتمي لقرن وربع‬ ‫قرن من االستعمار االستيطاني الفرنسي‪،‬‬

‫لكن من المعروف في ذات الوقت بأن انتشار‬ ‫الفرنسية بين الجزائريين وعلى نطاق واسع‬

‫قد تحقق أساسا بعد االستقالل‪.‬‬

‫والمالحظ في تدخالت المدافعين عن اللغة‬ ‫أن ال أحد منهم يرفض اللغة العربية‬ ‫الفرنسية ّ‬ ‫من الناحية المبدئية‪ ،‬مما يوحي بعدم وجود‬

‫وطنية‪ ،‬شأنها في ذلك شأن العربية‪ ،‬ولكن‬

‫ذلك بعد تضحيات جسيمة وشرخ مجتمعي‪.‬‬

‫ميموني"‪ ،‬الروائي الجزائري الفرنكفوني‪،‬‬

‫جاء فيه "قدرت دائما بأن الجزائر في حاجة‬

‫إلى هاتين الفئتين من الكتاب وقد دافعت‬

‫‪.‬‬

‫كما نالحظ أيضا‪ ،‬في هذه المحاورة اللغوية‪،‬‬

‫عن هذا الموقف في مختلف الظروف ومع‬

‫غير اللغة الفرنسية‪ ،‬ال سيما اللغة اإلنكليزية‪،‬‬

‫وطن الكاتب…] [ غير أن األحداث الدموية‬

‫غياب االنفتاح على اللغات العالمية األخرى‬

‫"لغة العالم"‪ ،‬فالجزائر ظلت "وفية"‪ ،‬وال‬

‫تزال‪ ،‬للغة مستعمرها السابق‪ ،‬تلك اللغة التي‬

‫اعتبرها كاتب ياسين "غنيمة حرب"‪.‬‬

‫أما إذا عدنا مرة أخرى إلى مؤلف الرواية‪،‬‬

‫ذلك كنت أقول في قرارة نفسي إن اللغة هي‬

‫التي ضربت […]‬

‫الجزائر وكذلك الجرائم‬

‫واالغتياالت التي ]تعرض[ لها المثقفون‬ ‫الجزائريون‪ ،‬جعلتني أعدل عن هذه الفكرة‬

‫الحميمية‪ ،‬ال؛ ليست اللغة هي التي تميز‬ ‫أدبا عن آخر‪ ،‬بل القضايا اإلنسانية التي‬

‫‪.‬‬

‫صراع لغوي في نهاية األمر بالجزائر‪ ،‬وبأن‬

‫تتطرق إليها اآلالم التي تعاني منها الجزائر‬

‫الصراع الحقيقي الموجود في المجتمع ذو‬

‫[…] تستدعي وجوبا من مثقفي اللغتين أن‬

‫صبغة أيديولوجية كما أكد المتدخل الذي‬

‫يتحدوا مثلما وحدتنا اآلالم التي عشناها‬

‫دعا إلى االزدواجية اللغوية‪ ،‬قبل أن يوضح‬

‫‪.‬‬

‫أثناء االستعمار إن ما يميز كاتبا عن آخر‬

‫بأن الصراع الحقيقي هو "بين الرجعية‬

‫المساس بمكاسب هذه‬

‫ليس اللغة التي يكتب بها‪ ،‬بل القيم التي‬

‫ومن واالهم وبين االشتراكيين" لكن هنا‬

‫اللغة أو تلك‪ ،‬العربية أو‬

‫يمكن القول بأن الصراع اللغوي قد خفت‬

‫الفرنسية‪ ،‬في التعليم أو‬

‫ومن بين ما يمكن أن نفسر به هذه الهدنة‪،‬‬

‫والتقدمية‪ ،‬بين اإلقطاعيين والبرجوازيين‬

‫‪.‬‬

‫يقول "رضا" لـ"نعيمة"‪" :‬ليس صحيحا قوله‬

‫إن ال وجود لمن يعادي العربية"‪.‬‬

‫يحملها”‪.‬‬

‫ح ّدته بعض الشيء في السنوات األخيرة‪.‬‬

‫هذا يعني بأنه توجد في الجزائر مشكلة‬

‫اإلدارة أو غيرهما‪ ،‬كان‬

‫ازدياد نسبة مزدوجي اللغة (عربية وفرنسية)‬

‫التقسيمات األيديولوجية‪ ،‬مما يجعلها خارج‬

‫يحدث دائما توتر شديد بين‬

‫حين كانت األحادية اللغوية هي القاعدة‪ ،‬إما‬

‫لغوية قائمة بحد ذاتها‪ ،‬مشكلة تتجاوز حدود‬ ‫مقولتي "التقدمية" و"الرجعية"‪ ،‬بمعنى أننا‬ ‫نجد "تقدميين" و"رجعيين" ولكن يجمع‬

‫“المعربين” و”المفرنسين‬

‫بينهم العداء للغة العربية‪ ،‬وبالتالي ال يمكن‬

‫عربية فقط وإما فرنسية فقط‪.‬‬

‫يضاف إلى ذلك أن مشروع تعميم استخدام‬

‫السابق اليامين زروال قد وُ ضع في الدرج‬ ‫ّ‬ ‫وتم تشميعه في عهد الرئيس بوتفليقة الذي‬

‫الطبقي‪ ،‬بل ضمن جدلية الصراع اللغوي‬

‫والثقافي‪.‬‬

‫بالقياس إلى ما كان عليه األمر في السابق‪،‬‬

‫اللغة العربية الذي كان قد أطلقه الرئيس‬

‫إدراج المسألة اللغوية ضمن جدلية الصراع‬

‫كانت الفرنسية لغة الخطب التي كان يلقيها‬

‫تلك هي اآلراء التي ظهرت أثناء هذه‬

‫عبدالحميد بن هدوقة‪ ،‬الذي كانت زوجته‬

‫في الخارج‪ ،‬بالرغم من تنصيص الدستور‬

‫أنصار العربية عاطفيا وأنصارها فكريا‪،‬‬

‫العربية الجزائرية من القالئل الذين وجدوا‬

‫للجزائر‪.‬‬

‫المناقشة التي دارت‪ ،‬كما يقول الراوي "بين‬

‫‪.‬‬

‫وأعدائها"‪ 24‬ورغم أن الراوي سعى إلى القيام‬

‫بمسح شامل لألطروحات المتداولة حول‬

‫اإلشكالية اللغوية في المجتمع الجزائري‪ ،‬إال‬

‫‪.‬‬

‫أنه ال يمكن اعتبار هذا المسح وافيا ويمكن‬

‫بالخصوص مالحظة غياب اإلشارة إلى اللغة‬

‫األمازيغية في األطروحات التي ظهرت أثناء‬ ‫هذا التجمع‪ ،‬رغم أنها كانت حاضرة خالل‬

‫المناقشات التي دارت في تلك األيام حول‬

‫مشروع الميثاق الوطني‪.‬‬

‫أي إشارة‬ ‫ولن نحمل الراوي مسؤولية غياب ّ‬ ‫إلى المطلب اللغوي األمازيغي‪ ،‬فالراوي يتكلم‬

‫‪70‬‬

‫هدوقة في المركز الثقافي الجزائري بباريس‬

‫األولى فرنسية‪ ،‬فهو بين كتاب الرواية‬ ‫قبوال لدى األوساط‬

‫الفرنكفونية‪.‬‬

‫ويمكن‬

‫القول بأن الرأي الذي استقر عليه في األخير‬

‫مؤلف "ريح الجنوب" هو رأي يقترب كثيرا‬ ‫من موقف رأي المتدخل الذي قال في الرواية‬

‫بأن "الصراع الحقيقي هو بين الرجعية‬

‫والتقدمية" وليس بين فئتين اجتماعيتين‬

‫تفصل بينهما اللغة‪ ،‬إحداها معرّ بة وأخرى‬

‫متفرنسة‪.‬‬

‫على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية‬

‫هكذا بقي ميزان القوة بين العربية والفرنسية‬ ‫على حاله‪ ،‬مما ساهم في إحداث نوع من‬

‫االستقرار في هذا المجال‪ ،‬ذلك أن المساس‬ ‫بمكاسب هذه اللغة أو تلك‪ ،‬العربية أو‬

‫الفرنسية‪ ،‬في التعليم أو اإلدارة أو غيرهما‪،‬‬

‫كان يحدث دائما توتر شديد بين “المعربين”‬

‫‪.‬‬

‫و”المفرنسين” ويمكن القول بأن السياسة‬

‫اللغوية المعتمدة قد أفرزت أجياال من‬

‫ومن ثمة فإن الصراع الجوهري في النهاية‬

‫الجزائريين ما عادوا يحسنون في األخير ال‬

‫ذلك من التصريح الذي نقله عنه "مارسيل‬

‫كاتب من الجزائر‬

‫‪.‬‬

‫هو صراع أيديولوجي وليس لغويا نستنتج‬

‫اللغة العربية وال اللغة الفرنسية وال غيرها‬


‫ملف‬

‫الدروب الضيقة للكتابة‬ ‫خروج اللغة العربية من الموت‬ ‫سالم سرحان‬

‫ال‬

‫يمكن مقارنة حيوية اللغة العربية اليوم بما كانت عليه قبل ثالثة‬

‫عقود فقط‪ ،‬تمكنت خاللها من الخروج من كهوف كثيرة لتخمد‬

‫جميع األصوات التي كانت تقول إنها لغة ميتة تسكن المعاجم التي يزيد‬

‫عمرها على ألف عام‪.‬‬

‫لكن الكتابة بها ال تزال تعاني من الدروب الضيقة‪ ،‬التي يفرضها اإلرث‬ ‫الثقيل للمقدس واالبتعاد الطويل عن الحياة وعمّ ا يقوله الناس في حياتهم‬

‫اليومية‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫يغير استقامة أجسادهم وحركة رقابهم وأصواتهم وكانت الحياة تعود‬ ‫ّ‬

‫إليهم بمجرد تحولهم إلى اللهجة العامية‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫كل ذلك تغير اآلن بعد ثورتين رئيسيتين أصبح كثيرون يتحدثون اليوم‬ ‫بلغة فصحى‪ ،‬لكنها لغة شخصية ومرنة وغير متشددة‪ ،‬تروّ ض الفصحى‬

‫لتكون قريبة من الكالم الشخصي والمباشر‪.‬‬

‫لو تحدثت باللغة الفصحى قبل ثالثين عاما العتبرني الجميع مجنونا‪،‬‬ ‫لكنني اليوم أستطيع أن أتحدث بها مع الناس البسطاء في جميع البلدان‬

‫حتى سبعينات القرن الماضي‪ ،‬كان هناك متحمسون‪ ،‬وخاصة في لبنان‬

‫العربية‪ ،‬دون أن يثير ذلك استغرابهم‪ ،‬بل ودون أن ينتبهوا إلى أنني‬

‫على مدى قرون طويلة كان الناس يعيشون بلهجات تتأقلم وتتطور مع‬

‫تلك هي المسافة الفلكية الشاسعة التي قطعتها اللغة العربية خالل ثالثة‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫نتفهم دوافعهم!‬ ‫ومصر لتحويل اللهجات الى لغات رسمية وكنا‬

‫‪.‬‬ ‫بلهجات غنية حياتيا‪ ،‬لكنها فقيرة ثقافيا‪.‬‬

‫ويعبرون عن جميع مشاعرهم‬ ‫إيقاع حياتهم كانوا يحبون ويكرهون‬ ‫ّ‬

‫أتحدث اللغة الفصحى‪.‬‬

‫عقود‪ ،‬من لغة بعيدة عن الحياة‪ ،‬إن لم نقل ميتة‪ ،‬إلى لغة حية تماما‪.‬‬

‫لكن ذلك ال ينطبق على ما يكتب وما أكتبه اآلن‪ ،‬والذي ال يستطيع اإلفالت‬

‫في المقابل كان جميع ما يكتب يجري في جزيرة أخرى وبلغة قاموسية‪،‬‬

‫من وطأة ألف عام من العزلة الثقيلة‪.‬‬

‫وكان يمكن أن تصبح تلك اللهجات لغات‪ ،‬لو ّ‬ ‫تم اعتمادها رسميا‪ ،‬لتكتب بها‬

‫فهما أوال؛ ضيوف القنوات التلفزيونية الفضائية‪ ،‬وليس األخبار المكتوبة‬

‫تكمن مراجعها في ما كانت تقوله العرب قبل ألف عام أو أكثر‪.‬‬ ‫منجزات الثقافة والتاريخ والمخاطبات الرسمية‪.‬‬

‫حينها كان حنابلة اللغة العربية ومجمعات اللغة العربية يحتقرون ما‬

‫‪.‬‬

‫يقوله الناس‪ ،‬وما يحتضن حياتهم ومشاعرهم وكانوا يؤججون نار‬ ‫األزمة بثباتهم وإصرارهم على عدم التزحزح عن مواقهم المطمئنة في‬

‫المرجعيات القديمة‪.‬‬

‫كانت الحياة تجري بلهجات أو “لغات” تنبض بالحياة‪ ،‬لكن جميع ما يكتب‬

‫كان يحدث في كوكب لغوي آخر‪.‬‬

‫أما الثورتان الرئيسيتان اللتان أنقذتا اللغة العربية من “موتها الطويل”‬

‫للمذيعين بموجب دروب الكتابة‪ ،‬التي ال تزال ضيقة وتدور في بعض‬

‫كهوف التاريخ‪.‬‬

‫الضيوف تعلموا تدريجيا أن يتحدثوا بلغة فصحى‪ ،‬لكنها مرنة ومفتوحة‬

‫على كافة االحتماالت والكلمات دون االلتزام بسياقات تعبير متحجرة‪.‬‬ ‫وقد اعتاد الناس على هذه اللغة فأصبحت مألوفة للجميع‪.‬‬ ‫تلك الثورة حررت الكالم‪ ،‬وقربت اللغة الفصحى مما يقوله الناس‪.‬‬

‫الثورة الثانية هي الكتابة في مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬التي بدأت‬

‫‪.‬‬

‫كل ذلك الجدل انتهى اليوم بعد أن مرّت اللغة العربية بعدة ثورات منذ‬

‫تحرر ما يكتب من دروب الكتابة الضيقة فاألشخاص الذين يكتبون في‬

‫نعم استيقظت اللغة العربية في العقدين الماضيين وأصبحت لغة حية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫متخشبا وبعيدا عن إيقاع الكالم الرشيق‬ ‫لكن معظم ما يكتب بها ال يزال‬

‫ّ‬ ‫وتبث فيها الحياة‪ ،‬لتقترب يوما‬ ‫أصبحت تلك الكتابة تحرّر اللغة العربية‬

‫بالسياقات القاسية‪.‬‬

‫ذلك ينطبق على ما أكتبه اآلن‪ ،‬رغم أ ّني أحاول جاهدا أن أقترب من‬

‫تدريجيا من تحرير الكتابة من دروبها الضيقة‪.‬‬

‫عام ‪.1991‬‬

‫والمباشر‪ ،‬الذي تقترب منه جميع اللغات الحية‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫إيقاع الكالم أحاول استخدام الجمل القصيرة وإنهاء الجملة متى أشاء‬

‫‪.‬‬

‫بأي طريقة‬ ‫واالستجابة لما يفرضه طول النفس كما أحاول أن أبدأ الجملة ّ‬

‫أستطيع استخدامها عندما أتحدث!‬

‫تلك الواقع يريدون التعبير عن أفكارهم بأقصر الطرق دون التزام متشدد‬

‫‪.‬‬

‫بعد يوم ممّ ا يقوله الناس‪ ،‬دون كسر فادح لقواعد اللغة وسوف تتمكن‬

‫لكن ما يكتب للصحف والمجالت “الرصينة” ال يزال خاضعا لقيود‬

‫‪.‬‬

‫السياقات المتحجرة ولو نظرنا لما يكتبه كاتب محدد في مواقع التواصل‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وما يكتبه لصحيفة مطبوعة فسوف نالحظ الفارق الشاسع!‬

‫قبل ‪ 30‬عاما‪ ،‬كان بعض األشخاص المتحمسين أو المتطرفين‪ ،‬مثل بعض‬

‫هل يعلم الك ّتاب أن القارئ والمشاهد يمكن أن ينقطع َنفسه إذا كانت جملة‬

‫في حياتهم اليومية‪ ،‬أو في بعضها‪.‬‬

‫قدرة الذاكرة القصيرة على اإلمساك بالمضمون؟‬

‫معلمي اللغة العربية ورجال الدين‪ ،‬يصرون على استخدام اللغة الفصحى‬

‫‪.‬‬

‫كانوا يبدون وكأنهم خارجون من كهوف التاريخ كان كالمهم بالفصحى‬

‫المذيع والكاتب أطول مما تحتمله عملية التنفس؟ وأنها ينبغي أن تراعي‬

‫شاعر من العراق مقيم في لندن‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪71‬‬


‫مقال‬

‫قتل الرقيب الذاتي‬ ‫جريمة الكاتب المباحة‬ ‫جالل برجس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أي قيد وهو في لحظة الكتابة‬ ‫أنفق الكاتب العربي وقتا طويالً يحلم بذلك الفضاء من الحرية والذي له أن أيجعله منعتقا من ّ‬ ‫ً‬ ‫وفي غمرتها االستثنائية‪ ،‬وعاني ردحا من الزمن كل أشكال الرقابة التي ذهبت به إلى اعتناق جهة من جهات الرمزية‪ ،‬واستلهام‬ ‫ً‬ ‫س َق َ‬ ‫اجتنابا لويالت‬ ‫ط على اآلني المترع بأزمات عديدة‪ ،‬وإلى شكل غير مكتمل العناصر من األدب الساخر‪ ،‬كل ذلك‬ ‫لي ْ‬ ‫التاريخي ُ‬ ‫يؤسس على وعي نقدي ينسحب على كل تفاصيل‬ ‫السلطات السياسية والدينية واالجتماعية التي ال تقبل النقد‪ ،‬في مجتمع لم‬ ‫َّ‬

‫عيشه اليومي‪ .‬فحظيت المكتبة العربية ‪-‬رغم جرأة البعض الذين أخلصوا لرؤاهم‪ -‬بالعديد من اإلصدارات التي جاء جزء منها‬ ‫ً‬ ‫مبتعدا عمّ ا يشغل ويوجع البال العربي المأزوم‪ ،‬والذي يقف قبالة آالت إعالمية‬ ‫على أهبة مواربة ال تفي بالغرض‪ ،‬وجاء آخر منها‬ ‫ً‬ ‫سرا‬ ‫تنقل له‪ ،‬وكأنها تناكفه‪ ،‬زمن التحرر األوروبي بكل عناصر الحرية فيه‪ ،‬وبكل سمات التطور‪ ،‬إضافة إلى ما يصل هذا الكاتب‬ ‫ً‬ ‫كاتبها مكبالً بما يعيقه عن قول رأيه دون مواربة أو تلميح عن بعد‪.‬‬ ‫علنا‪ ،‬من كتب لم يكن‬ ‫أو‬ ‫ُ‬

‫ومما‬

‫ال شك فيه أن الربيع العربي‪،‬‬

‫قد زاد في اتساع فضاء‬ ‫الحرية الذي كان ضئيالً قبل تلك األحداث‪،‬‬

‫وبغض النظر‪ ،‬هل هو فضاء حرية كاف‪ ،‬أو‬

‫يه ّدد رغبة الكاتب وقدرته على التعبير الحر‬

‫المسكوت عنه‪ ،‬ولهذا يعهدون بكتاباتهم إلى‬ ‫ً‬ ‫ألي شكل من أشكال‬ ‫مواضيع ال تثير إزعاجا ّ‬ ‫السلطات المتعددة في حياتنا أما الجزء‬

‫آخر أكثر خطورة من أشكال الرقابة األخرى‪،‬‬

‫المنعتق‪ ،‬أال وهو الرقيب الذاتي‪ ،‬الذي ال يمكن‬

‫يمتلك شروط الحرية الحقيقية‪ ،‬إال أنه يمكننا‬ ‫ً‬ ‫إرهاصا أول لتطور ملحوظ على‬ ‫اعتباره‬

‫لبيئة إيجابية‪ ،‬أسست على عناصر حرية‬

‫تعتبر أهم شروط الكتابة لكن التب ّدالت‬

‫وقد تشكل هذا الرقيب من جملة من‬

‫صعيد الحريات‪ ،‬وخاصة حرية التعبير التي‬

‫‪.‬‬

‫المتسارعة في المكون العام لذلك الربيع ولما‬

‫أرادته الشعوب من فضاء حرية جديد‪،‬‬ ‫واختراق هذا الفعل الذي بدأ شعبيا‪ ،‬ونشوء‬ ‫منظمات إرهابية عديدة‪ ،‬حد من مستوى‬

‫أن يكون إيجابيا إال إذ جاء كنتيجة طبيعية‬

‫حقيقية‪.‬‬

‫العناصر القمعية على مدار التاريخ العربي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كثيرا من مظاهر قمع الحريات‬ ‫الذي شهد‬ ‫بمختلف أشكالها‪ ،‬إلى أن أ ّدت تلك السلسة من‬

‫اإلجراءات إلى أن أخذ اإلنسان العربي يتعامل‬

‫التعاطي مع هذا الفضاء الحر‪ ،‬بل تراجع إلى‬

‫مع هذا الرقيب الداخلي بسهولة خادعة‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫موهوما‪ -‬أنه في حالة تصالح فريد‬‫يشعر‬

‫اإلبداعي‪ ،‬بل علينا التنبه إلى أن الوعي‬

‫ً‬ ‫حقا إال أشياء تستوجب المنع وعدم الخوض‬

‫األبوي الفردي الذي ح ّد من امتالك الفرد‬

‫مستوياتها وتعقيداتها النفسية‪ ،‬بالعربي الذي‬

‫من مؤسسة البيت وأبويته الفردية‪ ،‬وانتهاء‬

‫دائرة في التراب‪ ،‬ويخبره أنه عائد ليقتله‪،‬‬

‫مستوى خطير‪.‬‬

‫لكن ذلك ليس السبب الوحيد في ترهل‬

‫وتعرقل مُ بتغيات الحرية‪ ،‬وأهما حرية التعبير‬ ‫العربي في األصل قد بني على ذلك النمط‬ ‫العربي حريته وحيويته في عيشه‪ ،‬ابتداء‬

‫بالدولة كمؤسسة تدير شؤونه برؤية تضرب‬ ‫ً‬ ‫شكوكا بعدم استعداده ليكون‬ ‫حول هذا الفرد‬ ‫وطنيا بمفهوم هجين عن الوطنية‬

‫الحقة‪.‬‬

‫ولهذا ولد إلى جانب الرقيب السياسي‪،‬‬

‫‪72‬‬

‫والرقيب الديني‪ ،‬والرقيب االجتماعي‪ ،‬شكل‬

‫هذا‪ ،‬وذلك يأتي من باب عدم ذهابهم في‬

‫األصل إلى الفكرة المغايرة والجريئة في قول‬

‫‪.‬‬

‫اآلخر منهم فيقعون عادة في صراع مع هذا‬ ‫الرقيب‪ ،‬ابتداء من تأمّ ل فكرة ما سيكتبون‬ ‫ً‬ ‫ومرورا بتجسيد الفكرة‪ ،‬وانتهاء بإطالق‬ ‫عنه‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫كتبهم هنالك منهم من حسم الصراع وتجاوز‬

‫طروحات وأوامر هذا الرقيب‪ ،‬وتحمّ لوا نتائج‬ ‫ذهابهم إلى حريتهم‪ ،‬فحظوا إمّ ا بالنفي‪ ،‬أو‬

‫‪.‬‬

‫االغتيال بش ّتى أشكاله واآلخر منهم من‬

‫اتخذ الحل الوسط والذي يرضي من جانب‬ ‫ما‪ ،‬ما يريده هذا الرقيب‪ ،‬ويرضى نزعتهم‬

‫أي عائق‪ ،‬وأن ما يقوم‬ ‫معه‪ ،‬وأنه ال يشكل له ّ‬ ‫ً‬ ‫رضوخا لصوت ذلك الداخلي‪ ،‬ما هي‬ ‫بمنعه‬

‫أن نتائجهم اإلبداعي هذا أصبح ككائن أعرج‬

‫بها إذ أراني هنا أشبه هذه الحالة بكل‬

‫بالذي امتلك جرأته وقال ما عليه أن يقال‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫كان الجندي في زمن “هوالكو” يخط حوله‬

‫وهذا ما كان يحدث آنذاك‪ ،‬ويحدث اآلن ولكن‬

‫بشكل آخر‪.‬‬

‫وتتجلى خطورة الرقيب الذاتي في أن بعض‬ ‫الكتاب العرب ال يقعون في صراع مع رقيبهم‬

‫نحو الحرية من جانب آخر‪ ،‬غافلين بذلك عن‬

‫لن تستقيم خطاه‪ ،‬فال هو بالذي صمت وال هو‬

‫لهذه األسباب سالفة الذكر‪ ،‬وأمام تنامي‬ ‫سلطة بعض المنظمات اإلرهابية وصعود‬ ‫تيار تهديداتها‪ ،‬وقبالة بعض السلطات‬

‫السياسية التي ال تقبل النقد المباشر‪ ،‬وتجذير‬ ‫ّ‬ ‫فضل كثير‬ ‫السلطات االجتماعية والدينية‪،‬‬ ‫من الكتاب المكوث على مبعدة من الخطوط‬

‫الحمر‪ ،‬واختيار إما المساحات المحايدة فيما‬


‫عوة‬ ‫د‬

‫إبراهيم الصلحي‬

‫تدعو الكتاب والمفكرين العرب‬ ‫إلى المشاركة في محاورها وملفاتها القادمة‬

‫حال الكتاب العربي‬ ‫كيف تنشر الكتب‬

‫في العالقة بين الكاتب والناشر والقارئ‬

‫االستبداد الشرقي‬

‫دور الحاكم المستبد‬ ‫في صناعة االستبداد الديني‬ ‫‪.‬‬

‫يكتبون‪ ،‬أو المساحات الصامتة وهذا بالطبع عائد للممارسات‬ ‫السلطوية الدموية من قبل بعض من امتلكوا تلك السلطة‪،‬‬

‫ّ‬ ‫أهم بكثير من فعل‬ ‫وبات خوف أولئك الك ّتاب على حياتهم‬ ‫ً‬ ‫ألي‬ ‫الكتابة الحر‪ ،‬والذي يفترض أن يكون ناقدا الذعا ال يرتهن ّ‬ ‫شكل من أشكال السلطة‬

‫‪.‬‬

‫لذا ال مناص من القول من أن الكتابة ‪-‬بما أنها أداة لتحرير‬

‫وعي الجماهير‪ ،‬حتى لو انطلقت من الذاتي معتمدة‬

‫إسقاطاتها على الموضوعي‪ -‬فعل إنساني عليه أن ال يخضع‬

‫‪.‬‬

‫الشعر والتجريب‬

‫هل وصل التجريب الشعري العربي‬ ‫إلى حائط مسدود‬

‫الكتابة النسائية العربية‬

‫هل تكتب النساء العربيات بلغة الرجل‬ ‫أم أن اللغة بال جنس‬

‫ألي شكل من أشكال الرقابة فكيف للكتابة أن تطرح أسئلتها‬ ‫ّ‬

‫اإلنسانية قبالة الركون ألوامر الرقيب‪ ،‬وال بد قبل الشروع‬ ‫أي فعل كتابي من قتل الرقيب الداخلي‪ ،‬بوعي راديكالي‬ ‫في ّ‬

‫يؤدي إلى إنهاء فكرة المواربة‪ ،‬والرمزية الوهمية‪ ،‬والتلميح‬ ‫عن بعد‪ ،‬بما يستوجب التطرق إليه‪ ،‬وهنا ال أدعو إلى كتابة‬

‫ألي أدب جيد‪ ،‬إنما أشير إلى‬ ‫مباشرة تفتقر للعناصر الفنية‬ ‫ّ‬ ‫حرية مباشرة‪ ،‬وليست مواربة إن أنهى الكاتب قيد الرقيب‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫الداخلي‪ ،‬سينهي حتما قيود أشكال الرقابة األخرى بخالف‬ ‫ذلك ستبقى أفعالنا الكتابية محض خطوات عرجاء‪ ،‬في‬

‫الكتابة والجسد‬

‫الجسد والجنس في اإلبداع العربي المعاصر‬

‫الصحافة الثقافية العربية‬

‫أحوالها‪ ،‬توجهاتها‪ ،‬عالقتها بالكتاب والقراء‬

‫زمن على الخطوات فيه أن تستقيم‪ ،‬لتستقيم إنسانيتنا التي‬ ‫تختنق بفعل أدخنة الحروب‪ ،‬وصدى عويل القتلى‪ ،‬وكل‬ ‫مقاصل الطائفية‪ ،‬ونحر اإلنسان لإلنسان‬

‫شاعر وروائي من األردن‬

‫فكر حر وإبداع جديد‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪73‬‬


74


‫حوار‬

‫فاضل الجعايبي‬

‫قتل األب‬

‫والتناكر بين األجيال‬ ‫من تجربة المسرح الملحمي لرائدها برتولد بريشت‪ ،‬والمسرح الفقير لجيرزي غروتوفسكي‪ ،‬ومسرح الالمعقول عند بكيت‬ ‫ويونيسكو‪ ،‬ثم مسرح المواقف عند سارتر‪ ،‬خلق المسرحيون تجربة إبداعية تستوحي نموذجا فكريا فلسفيا‪ ،‬يشكل بالنسبة‬

‫إلى اإلبداع المسرحي‪ ،‬ذلك الوعي الذي يسنده ويوجهه نحو اختيارات جمالية معينة‪ ،‬ويفتح له آفاق التأمل الذاتي والكشف‬ ‫أن السمة المميزة لهذا الوعي هي كونه وعيا جماليا مفتوحا على أبعاد سياسية‬ ‫عن مظاهر التحول والتطور‪ .‬والجدير بالذكر ّ‬ ‫وثقافية واجتماعية مالزمة لزمان ومكان المبدع‪ ،‬ولعل هذه الخاصية هي التي جعلت الدراما الحديثة تتحول إلى حقل لصراع‬ ‫األفكار المسرحية في آن واحد‪ ،‬ومجال لتنازع التصوّ رات الجمالية حول المسرح في عالقته بالمبدع والمجتمع الذي يعيش ضمنه‬

‫وداخله‪.‬‬

‫ويبدو أن المبدع المسرحي اليوم قد استفاد كثيرا من التجارب المسرحية الحديثة‪ ،‬ألنه اقتنع بضرورة الخروج من بوتقة المسرح‬ ‫الجامد‪ ،‬إلى مسرح حافل باألحداث‪ ،‬والجهر بمواقفه الخاصة إزاء ما يكتبه‪ ،‬وتوضيح بعض خلفياته السياسية والجمالية‬

‫واأليديولوجية‪.‬‬

‫وفي ضوء تطور الفكر اإلنساني‪ ،‬واتساع آفاق المعرفة في البحث عن ماهية الوجود والذات وسبر أغوارها في مدى ارتباطها‬

‫بأحداث عصرها وظواهر واقعها المتغير برزت عدة تجارب مسرحية في العالم العربي أيضا‪ ،‬رغم حداثة عهدها‪ ،‬تحاول الربط‬ ‫بين التجربة اإلبداعية وفلسفتها وأثر المجتمع واألحداث فيها‪ ،‬ومن بين هذه التجارب تجربة المخرج التونسي الفاضل الجعايبي‪،‬‬ ‫والتي انبنت وتأسست وتواصلت انطالقا من ثقافته كمخرج وفلسفته ووعيه كفنان ومبدع‪ ،‬وهي في الواقع حصيلة دراسة‬

‫وتكوين وتجريب متواتر طامح دائما إلى التجدد واالرتقاء‪ ،‬وال بد في مثل هذه الحالة من وجود منهج فكري يؤطر التجربة‬ ‫اإلخراجية واإلبداعية‪ ،‬ألن نسق العمل الفني وصيرورته وتواصله هو في الواقع نسيج التجربة الفردية والذاتية من الناحية‬

‫الفنية‪ ،‬وهذا النسيج هو جزء من خبرة المبدع التي تفرز بدورها وعيا جماعيا ومشروعا مسرحيا تكون فيه الذات الحاملة له‬ ‫مشعة ومؤثرة في اآلخرين ولنا في هذا اإلطار لقاء مع المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي حول مساره المسرحي المتواصل‬

‫من أكثر من خمسة وأربعين سنة‪ ،‬وعن عمله الجديد الذي يعرض هذه األيام “العنف”‪.‬‬

‫يتخيل ويتنفس مسرحا‪ ،‬يدير مسرحا ويخلق فرجة مسرحية‪ .‬يقضي أغلب وقته في تهيئة وتوفير وتطوير‬ ‫رجل يفكر ويبدع‪،‬‬ ‫ّ‬

‫األرضية المناسبة والضرورية والناجعة لالرتقاء بالفن المسرحي وضمان استمراريته داخل نسق فكري وجمالي ومنهج واضح‬

‫دقيق ومنظم‪.‬‬

‫يعتبر الجعايبي أن العمل الجماعي مبدأ في مساره المسرحي‪ ،‬وهو أساس التوليد والتوليف والتأليف التشاركي الجدلي‪ ،‬الذي‬ ‫ينطلق من الوعي الفردي الذي يفرز ويحقق بدوره وعيا جماعيا يعطي دفعا حقيقيا لإلبداع المسرحي في مختلف تمفصالته‬

‫ولغاته التقنية والفنية والجمالية‪ .‬لذلك فالمسرح عنده جماعي تشاركي جدلي أو ال يكون‪.‬‬ ‫كيف كانت بداياتك المسرحية‪ ، ،‬حدثنا عن تجاربك المبكرة‬

‫وبداياتك المؤثرة في المسرح؟‬

‫الجعايبي‪ :‬بداياتي المسرحية كانت سنة ‪ 1970‬في فرنسا‪ ،‬وأنا شاب‬ ‫في سن الخامسة والعشرين‪ ،‬من خالل مسرحية “ثلج في الصيف” للكاتب‬

‫‪.‬‬

‫المسرحي الصيني” قوان هان تشينغ” ثم بدأت تجربتي بمسرح الجنوب‬

‫بقفصة من ‪ 1972‬إلى ‪ ،1976‬والتي أخرجت خاللها ثالث مسرحيات وهي‬

‫“جحا والشرق الحائر” و”محمد علي الحامي” و”البرني والعطراء” وهي‬

‫نصوص أعدها واقتبسها محمد رجاء فرحات‪.‬‬

‫بداياتي عبارة عن مرحلة تجريب ومخاض أولي سابق للبداية الحقيقية‬

‫األكثر وعيا ونضجا فنيا وجماليا سنة ‪ ،1976‬مع تأسيس فرقة المسرح‬ ‫الجديد مع مجموعة من المبدعين المسرحيين من بينهم الحبيب‬

‫المسروقي ومحمد إدريس وجليلة بكار‪ ،‬فكانت مسرحية “العرس" هي‬ ‫البداية الحقيقية والفعلية في مساري المسرحي‪ ،‬إضافة إلى ذلك كانت‬ ‫مسرحية “العرس" عمال تأسيسيا لجميع مؤسسي المسرح الجديد الذي‬

‫تواصل من خالل مسرحية “الورثة” سنة ‪ 1976‬و”التحقيق” سنة ‪1977‬‬ ‫و”غسالة النوادر” سنة ‪ 1980‬و”الم” سنة ‪ 1983‬و”عرب” سنة ‪ ،1987‬وتميزت‬

‫‪.‬‬

‫األعمال الست األولى للمسرح الجديد باإلخراج الجماعي لتكون‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪75‬‬


76


‫مسرحية “العوادة” سنة ‪ 1989‬نصا وإخراجا مشتركا مع الفاضل الجزيري‪.‬‬

‫الجماعي‪ ،‬المخرج والكاتب والممثل‪.‬‬

‫وقد اختتمت تجربة المسرح الجديد سنة ‪ 1991‬بمسرحية “كوميديا”‪ ،‬وهي‬

‫هذا من ناحية ومن ناحية أخرى انطلقت تجربتنا في اإلدارة مع فرقة‬

‫“فاميليا” رفقة المبدعة والفنانة المسرحية جليلة بكار وقد أنجزت في‬

‫الجديد وشركة “فاميليا”‪ ،‬وكان العمل خاللها جماعيا وهذا ما عملنا عليه‬

‫نص وإخراج وسينوغرافيا لي‪ ،‬ألتجه بعدها إلى تأسيس شركته الخاصة‬

‫‪.‬‬

‫“فاميليا” عدة أعمال مسرحية أذكر من بينها مسرحيات “فاميليا” و”سهرة‬

‫قفصة‪ ،‬ولكنها كانت بطريقة متواضعة‪ ،‬وتطورت المسؤولية مع المسرح‬

‫اليوم داخل المؤسسة وطورناه‪ ،‬فمثال لوال عمار مطاوع وأسامة الجامعي‬

‫خاصة” و”عشاق المقهى المهجور” و”جنون” وثالثيته المتكونة من‬

‫وخليل ومحمد بن يوسف وكامل الفريق اإلداري والتقني والفني العامل‬

‫ونبهت لما يمكن أن يحدث من صراع وعنف وتدمير‬ ‫التطرف الديني‬ ‫ّ‬

‫الفن الرابع‪ ،‬ولما تحصلنا على فضاء دار المستيري الذي سنحوله إلى‬

‫سقوط الحاكم المستبد والطاغية الظالم في مسرحية “يحي يعيش”‪.‬‬

‫إنتاج وتسويق ساهمت بدورها في إنتاج خمسة أعمال مسرحية خالل‬

‫“خمسون” و”يحي يعيش” و”تسونامي”‪ ،‬التي طرحت من خاللها قضية‬

‫‪.‬‬

‫لإلنسان الحديث والمثقف المستنير في مسرحية “خمسون”‪ ،‬مستشرفا‬

‫بالمؤسسة لما استطعنا تحسين البنية التحتية للمسرح الوطني وقاعة‬

‫إقامة فنية ومتحف للذاكرة المسرحية‪ ،‬ولما استطعنا إحداث خلية‬

‫وقد تطرقت في ذلك للرجعية والظالمية ودعاة الخراب تحت غطاء‬

‫سنة واحدة‪ ،‬ولما كنا قادرين على إعداد استراتيجية إلنتاج أربعة أعمال‬

‫واإلنسانية المحبة والمسالمة في مسرحية “تسونامي”‪.‬‬

‫فنحن نسعى من خالل رهاننا على المجهود الجماعي إلى فتح المجال‬

‫وفهم ديني رافض للحرية واإلنسان المبدع ولكل أشكال الحياة الحيوية‬

‫للمسرحيين التونسيين والذين لهم مشاريع واضحة وجديّ ة لإلبداع في‬

‫ظروف مميزة وذات جدوى‪ .‬وهذا كله يعود بالنفع على المسرح التونسي‪.‬‬

‫الوطنية فعل دائم‬ ‫هل ساعدتكم كل تجاربكم السابقة على إدارة المسرح الوطني‬

‫اليوم؟‬

‫الجعايبي‪:‬‬

‫جديدة للموسم القادم ‪.2016‬‬

‫هذا مؤكد ألن عملنا متواصل ومستمر ونشقه بثبات‬

‫ووعي كبيرين ونقد ذاتي دائم حتى نستمر في التقدم والتطور والرقي‪،‬‬ ‫ألنه ال خيار لنا إما االرتقاء أو الهالك‪ ،‬ونحن نعمل ونشقى من أجل‬

‫والتميز‪.‬‬ ‫االرتقاء المتواصل‪ ،‬وال ندخر جهدنا سعيا منا إلى اإلضافة‬ ‫ّ‬

‫كما أننا نحرص على حسن التصرف في المال العام والحفاظ على مال‬ ‫الشعب التونسي الذي له الحق في التمتع بفن مسرحي يليق به ويحترم‬

‫‪.‬‬

‫ذائقته الفنية فالوطنية فعل دائم وحقيقي وليست شعارا وتشدقا‬

‫وتخليا وتهاونا في المسؤولية‪ ،‬كما أنها ليست وليدة وقتية أو هي دافع‬

‫سريع الزوال يعيش غالبا بعد زوال التهديد المجتمعي الذي بعثه‪.‬‬

‫االرتقاء ممكن‬

‫وقد كانت لنا تجارب في اإلدارة‪ ،‬ولكنها كانت‬ ‫تأسيسية ومتباعدة نسبيا ومختلفة‪ ،‬فمثال إدارتنا‬

‫ومزاج اإلنسان التونسي اليوم وما هو موقع‬

‫لمركز الفن المسرحي كانت تنحصر في إصالح‬

‫المسرحي في المجتمع والوطن؟‬

‫مؤسسة تكوينية نسعى من خاللها إلى الدفاع‬ ‫عن مشروع مسرحي مهني جامع وحاضن للممثل‬

‫والكاتب والمخرج‪ ،‬ولم تكن للمركز صبغة أكاديمية‬ ‫نظرية على شاكلة المدرسة الحديثة اليوم‪ ،‬بل‬

‫كان يرتكز على الجانب التطبيقي أكثر‪ ،‬حيث أنه‬ ‫كان بإمكان من لم يحصلوا على البكالوريا التمتع‬ ‫بالتكوين المقدم من قبل المركز‪ ،‬لكن للمؤسسة‬

‫اليوم مقاييس أخرى ومهام متعددة ال بد أن تكون‬

‫منسجمة ومتناغمة فيما بينها حتى تحقق النجاح‪.‬‬

‫التكوين جزء مهم في العمل المسرحي‪ ،‬لذلك‬

‫أسسنا مدرسة للممثل منذ قدومنا إلى المسرح‬

‫الوطني‪ ،‬محاولة منا في المساهمة في إعداد‬ ‫ممثلين حرفيين وتكوينهم‪ ،‬على أن يكونوا من‬

‫الشبان الجامعيين حتى يستفيد المسرح الوطني‬ ‫من خدماتهم بعد تكوينهم‪ ،‬سعيا منا إلى إرساء‬

‫ركائز مسرح شاب وخلق تواصل بين األجيال‬

‫داخل المؤسسة‪ ،‬وسنسعى في السنوات القادمة‬ ‫إلى فتح اختصاص يعنى بالكتابة والدراماتورجيا‬ ‫وكذلك فن اإلخراج‪ ،‬ليكتمل العمل على تكوين‬

‫الثالوث األساسي الذي يقوم عليه العمل المسرحي‬

‫كيف يرى المسرحي فاضل الجعايبي حال‬

‫”التلفزة” ال تهتم بالمسرح‬

‫الجعايبي‪:‬‬

‫اإلنسان التونسي لألسف يكره‬

‫البلد‪ ،‬وليس له اعتراف ال باآلخر وال بالذاكرة‪ ،‬وهذا‬

‫ولكنها تستنزفه وتفرغه‬

‫يمكن أن يكون ناتجا عن الحركات االستعمارية‪،‬‬

‫من الممثلين‪ ،‬وتساهم‬

‫العقد‪ ،‬وجعلته دائم الخوف‪ ،‬يحس بانعدام الحرية‬

‫في إنتاج صور وخياالت‬ ‫وهمية ألشباح وأشباه‬ ‫ممثلين بوسائل تسويقية‬

‫والتي خلقت في اإلنسان التونسي مجموعة من‬

‫وال يسعى الفتكاكها والتمتع بها‪ .‬هذا إضافة إلى‬ ‫قتل األب وتغييب جيل آلخر فهي ظاهرة مرضية‪.‬‬

‫ولكن هذا ال يجب أن يثنينا عن التواصل مع اآلخر‬ ‫والبحث‪ ،‬ونحن كمجموعة شعارنا مسرح آخر‬

‫‪.‬‬

‫ممكن وارتقاء بالذوق العام ممكن ويجب أن تكون‬

‫انتهازية وتافهة قائمة‬

‫هنالك رجات متتالية وأجيال متتالية قابلة لهزائمها‬

‫على االبتذال‬

‫الخاصة ال تقوم باالحتفاء باألب واالحتماء به‪ ،‬ثم‬

‫ونقائصها وتصنع ركائز لتوجهاتها لتؤسس ذاتيتها‬

‫تدعو إلى قتله‪.‬‬

‫يعتبر البعض من المسرحيين التونسيين‬

‫أن فاضل الجعايبي وهو في سن السبعين قد‬ ‫أشرف مسرحه على التهاوي والنهاية‪ ،‬ما تعليقك‬ ‫على هذا؟‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪77‬‬


78


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪79‬‬


‫ولد فاضل الجعايبي سنة ‪ 1945‬بمدينة أريانة التونسية‪،‬‬

‫درس المسرح في جامعة السوربون الفرنسية وتحصل‬

‫فيها على الماجستير في العلوم المسرحية‪ ،‬كما درس‬

‫بالجامعة الدولية للمسرح ومدرسة شارل دوالن للتمثيل‬ ‫واإلخراج‪ .‬ساهم في تأسيس فرقة الجنوب للمسرح‬

‫بقفصة سنة ‪ 1972‬والمسرح الجديد بتونس سنة ‪ ،1976‬كما‬

‫ساهم في تأسيس شركة الفيلم الجديد‪ .‬وقد أدار ودرس‬

‫وشارك في إعادة هيكلة مركز الفن المسرحي بتونس بين‬ ‫سنتي ‪ 1974‬و‪ ،1978‬ليستقر سنة ‪ 1993‬على تأسيس فرقته‬

‫الخاصة “فاميليا”‪.‬‬

‫وبعد تجربة ثرية ومميزة في العمل المسرحي إخراجا‬

‫وكتابة وتكوينا وإدارة‪ ،‬يشرف الجعايبي اآلن ومنذ ‪2014‬‬ ‫على إدارة المسرح الوطني التونسي‪.‬‬

‫إذا ما اعتبرنا بداية فاضل الجعايبي سنة ‪ 1970‬في‬

‫الفرقة الجهوية بالكاف في مسرحية “فصل دون كالم”‪،‬‬ ‫فإن للمخرج ‪ 45‬سنة من التجربة المتواصلة في الفن‬ ‫المسرحي‪.‬‬

‫الجعايبي‪:‬‬

‫اليتم اللغوي والفكري والمعرفي يجعل من هؤالء‬

‫احترام عقل المواطن التونسي‪ ،‬وإلهائه عن مشاغله وهمومه الحقيقية‪،‬‬

‫الحقيقي لألثر الفني‪ ،‬فهم ينشغلون بالشخص وبعد كل مسرحية يقع‬

‫ساهمت في تخريب المسرح في لبنان وفي مصر وفي سوريا‪ ،‬ففي‬

‫زاعمين بهذا القول مرتكزين على عامل السن‪ ،‬ألنهم ال يقدرون على النقد‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫قتلك ودفنك وأنت مثل طائر الفينيق هناك مجانية واعتباطية مرعبة‬

‫هذه البلدان المسرح يعاني من المسلسالت التي همشته إلى أبعد الحدود‬

‫وكأن وجودك يرمي الظالل عليهم‪ ،‬وفي حقيقة األمر هذا يكشف عن‬

‫وتبقى المعضلة مسؤولية كل المسرحيين المؤمنين بهذا الفن المسرحي‬

‫بروك مازال يبدع وهو في سن التسعين وأريان منوشكين تبدع وهي‬

‫إنسانيةمميزة‪.‬‬

‫بمثابة شعوذة كبيرة والحقيقة نحن نقدم اليوم عملنا الجديد “العنف” بكل‬

‫“العنف” عمل استثنائي‬

‫‪.‬‬

‫يقيد بالسن فالكبار مثل “النبيذ المعتق”‪ ،‬بيتر‬ ‫كبتهم وقسرهم فالفن ال ّ‬

‫‪.‬‬

‫في سن السادسة والسبعين لذلك فالحديث عن السن المتقدم في الفن‬

‫وعي ودقة وثبات‪.‬‬

‫كفن نبيل وحي وقادر على تغيير المجتمعات واالرتقاء بها إلى درجة‬

‫قدمت المسرح الفني الجديد “العنف” في سلسلة من العروض‬

‫التلفزة خطر‬

‫الجديد‪ :‬ما الذي يهدد الفن المسرحي في العالم العربي ما أسباب‬

‫تراجع المسرح؟‬

‫الجعايبي‪ :‬أوال المسرحيون أنفسهم‪ ،‬فهم مطالبون بالعمل الجدي‬

‫وتطوير وعيهم الخاص والذاتي بمشاكل اإلنسان الحقيقية‪ ،‬وال بد أن‬ ‫يكون ذلك داخل مشروع فكري وفني واضح وعليهم التخلي عن فكرة‬ ‫“الله غالب” وتوجيه إصبع االتهام ألنفسهم ال لغيرهم‪ ،‬وعلى كل مسرحي‬ ‫أن ينظر إلى نفسه في المرآة ليرى حقيقته ويواجه أخطاءه حتى يتقدم‬

‫‪.‬‬

‫بثبات وصفاء ويكون حامال لمشروع إبداعي مسرحي حقيقي ثانيا‬

‫التهديد الذي يسلط على المسرح من قبل “التلفزة” وهو خطر حقيقي‬ ‫يدمر الفعل المسرحي فـ”التلفزة” ال تهتم بالمسرح ولكنها تستنزفه وتفرغه‬

‫من الممثلين‪ ،‬وتساهم في إنتاج صور وخياالت وهمية ألشباح وأشباه‬ ‫ممثلين بوسائل تسويقية انتهازية وتافهة قائمة على االبتذال وعدم‬

‫‪80‬‬

‫‪.‬‬

‫فهي تنظر إلى المواطن على أنه كائن مكبوت وال يفهم التلفزة أيضا‬

‫المتتالية منذ شهر نوفمبر بقاعة الفن الرابع بتونس العاصمة وكان‬

‫‪.‬‬

‫اإلقبال الجماهيري غفيرا ما هو “العنف”؟‬

‫الجعايبي‪“ :‬العنف” مسرحية من إخراجي وكانت صياغة السيناريو‬

‫مشتركة بيني وبين رفيقتي في مساري اإلبداعي الفنانة جليلة بكار‪.‬‬ ‫والتي ّألفت بدورها نص المسرحية بشكل حرفي راق‪.‬‬ ‫وكانت السينوغرافيا تشاركية متكاملة بيني وبين قيس رستم الذي صاغ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وشخص أدوار المسرحية كل من جليلة‬ ‫حية للعرض‪،‬‬ ‫ووقع موسيقى ّ‬ ‫بكار وفاطمة بن سعيدان ونعمان حمدة ولبنى مليكة وهي مجموعة من‬

‫الممثلين اشتغلت معها‪ ،‬إضافة إلى ممثلين شبان من خريجي مدرسة‬ ‫الممثل بالمسرح الوطني وهم أيمن الماجري وأحمد طه الحمروني ومعين‬ ‫مومني ونسرين المولهي إضافة إلى فريق تقني متكامل وكل حسب‬

‫تخصصه‪.‬‬


‫كيف كان تطرقك للعنف مسرحيا اآلن وهنا في حاضرنا المليء‬

‫بالعنف على الرغم من أزلية العنف؟‬

‫الجعايبي‪ :‬موضوع العنف معروف ومفضوح منذ اإلنسان األول‬

‫وليس لدينا ما نخفيه‪ ،‬وليس لدينا ما نعرّيه‪ ،‬فالعنف في الممثل وفي‬ ‫المتفرج وفي عالمنا بأسره‪ ،‬لذلك نسرد بعض الحاالت منه ونقوم‬

‫بمسرحتها ولكم أن تتساءلوا عنها وفيها أيها المشاهدين‪.‬‬

‫لذلك فعملنا يقدم لآلخر حاالت كما هي‪ ،‬في قالب فني طبعا‪ ،‬ما يجعل‬

‫هذا اآلخر‪ ،‬الجمهور‪ ،‬يتساءل بذاته عن ذاته‪ ،‬وينتج بمفرده أفكاره أو‬

‫نقده لذاته أوال‪ ،‬ثم ينطلق منها إلى اآلخر ممثال كان أو غيره‪.‬‬

‫مسرحية “العنف” تسرد خمسة حاالت للعنف فالزوجة التي تقتل زوجها‬

‫وهو يقرأ كتابا بدافع صراعها مع سائق تاكسي هو قتل اعتباطي على‬

‫‪.‬‬

‫وجه الخطأ واألم التي تقتل ابنها بحرق نصفه األعلى اعتباطي هو‬ ‫والمثلي الذي يقتل عشيقه ألنه أحبه‪ ،‬والطلبة الذين قتلوا أستاذة‬ ‫اآلخر‪،‬‬ ‫ّ‬

‫العنف فعل إنساني يمكن االمتناع عنه ومساءلته مهما كانت دوافعه‪.‬‬

‫أي سبب‪ ،‬هي حاالت من العنف كلها تشترك في كونها‬ ‫الفلسفة دون ّ‬ ‫اعتباطية وغير منطقية لنتحول من القتل إلى دافع القتل‪ ،‬وكأننا أمام‬

‫الذي ينتجه اإلنسان بشكل اعتباطي ويكون دافعا للتحول إلى وحشية‬

‫فعال أن يمتنع عن إخراج الوحش الذي بداخله ذاك الذي يتحين أن تأتي‬

‫ّ‬ ‫تهم درجتها مادام خالق األسباب ومنتج األفعال‬ ‫فأسباب العنف ال‬

‫‪.‬‬

‫العنيفة هو اإلنسان ذاته لذلك فالطرح المسرحي ينطلق من فعل العنف‬

‫إنسانية مدمّ رة ومخربة لإلنسان ذاته‪.‬‬

‫بطل الغريب أللبير كامو الذي كان يقول “اإلنسان يمتنع‪ ،″‬وعلى اإلنسان‬ ‫الظروف الخصبة ليخرج‪ ،‬لذلك ندعو الجميع إلى‬

‫مقسمة إلى ذوات متنافرة ومتباعدة‬ ‫ثم إن الذات‬ ‫ّ‬

‫التساؤل حول العنف واالمتناع عنه‪ ،‬ونؤكد في‬

‫الواضح لمسألة الشخص والشخصية‪ ،‬فالممثلون‪،‬‬

‫من الكراهية المؤدية للعنف‪.‬‬

‫ومتصادمة‪ ،‬وهذا ما يظهر من خالل الطرح‬ ‫في العرض‪ ،‬هم أشخاص باألساس يحملون‬ ‫أسماءهم الدنيوية‪ ،‬ويمنحونها لشخصياتهم‬

‫الوهمية التي يلعبونها مسرحيا ليقع التساؤل حول‬

‫األنا المنقسم إلى جزأين‪ ،‬مثل لبنى ولبنى األخرى‪،‬‬

‫وفاطمة وفاطمة األخرى‪.‬‬

‫أي قضية‬ ‫وإن دور الفنان ال أن يجد حلوال للعنف أو ّ‬ ‫يطرحها‪ ،‬بل منوط بالفنان والمبدع أن يقدم قضاياه‬

‫كما هي‪ ،‬دون تكلف أو مواربة‪ ،‬لكن دون طرح‬ ‫مباشر سطحي أيضا‪ ،‬والمسرحي يظهر ويخفي ما‬

‫يراه ناجعا وذا جدوى في العرض‪.‬‬

‫المقابل على الحب كميزة إنسانية تحمي اإلنسان‬

‫الفرد هو المسؤول‬ ‫أمام ذاته وأمام اآلخر‪،‬‬

‫فنحن جميعا مسؤولون عن العنف وال بد لنا أن‬

‫نحاكم ونحاسب ذواتنا المنتجة للعنف قبل أن‬

‫نحاسب اآلخر السياسي واالقتصادي واالجتماعي‬

‫وكل فرد ال بد أن يتحمل والثقافي‪.‬‬ ‫مسؤولية في ما نحن‬ ‫عليه اليوم من دمار‬ ‫وخراب لإلنسان‬

‫فالفرد هو المسؤول أمام ذاته وأمام اآلخر‪ ،‬وكل‬ ‫فرد ال بد أن يتحمل مسؤولية في ما نحن عليه‬

‫اليوم من دمار وخراب لإلنسان‬

‫‪ ‬حاوره في تونس‪ :‬عماد المي‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪81‬‬


‫مسرح‬

‫أكاذيب صغيرة‬ ‫مسرحية من فصل واحد‬ ‫درويش األسيوطي‬

‫الشخصيات‪:‬‬

‫(‪ )1‬الشيخ‪ :‬قصير ـ هادئ ـ فوق الستين ـ يلبس نظارة طبية‪.‬‬

‫(‪ )2‬رجل‪ :1‬شاب في العشرين ـ حاد المالمح والطباع ـ يلبس‬

‫مالبس عادية‪.‬‬

‫(‪ )3‬رجل‪ :2‬في األربعين ـ متوسط الذكاء ـ تبدو عليه آثار العلة‪.‬‬ ‫(‪ )4‬رجل‪ :3‬ضخم الجثة ـ فوق األربعين ـ يبدو مسالما‪.‬‬ ‫(‪ )5‬رجل‪ :4‬ضئيل الجسم ـ حركي‪.‬‬ ‫(‪ )6‬المرأة‪ :‬متوسطة الجمال ـ في األربعين من العمر‪.‬‬ ‫(‪ )7‬العالم‪ :‬في الخمسين ـ يلبس مالبس مختلفة عن السائد ـ‬

‫يمسك حقيبة أنيقة بيده‪.‬‬

‫(‪ )8‬العامل‪ :‬يلبس نفس طراز مالبس العالم ـ في العشرين ـ ضخم‬

‫الجثة‪.‬‬

‫(‪ )9‬العامل‪ :2‬يلبس نفس مالبس العالم ـ في الثالثين ـ ضخم‬

‫الجثة‪.‬‬

‫المنظر‪: ‬‬

‫[الساحة الرئيسية بالمدينة‪ ،‬نحن أمام ساحة تاريخية‪ ،‬شيخ على‬

‫كرسي متحرك في‪ ‬وسط المكان تحت بقعة إضاءة يقرأ في صحيفة‬

‫‪.‬‬

‫قديمة في وقار وصمت واستغراق ‪ ‬تدخل مجموعة أهل المدينة‬

‫‪.‬‬

‫من الرجال وبينهم امرأة الجميع يتقدمون في‪ ‬خطوات رتيبة شبه‬

‫‪.‬‬

‫موقعة وقد رفعـوا في أيديهم وأمام وجوههم تماما أوراقا‪ ‬أشبه‬

‫بالمنشورات‪ ،‬يقتربون بهدوء والشيخ مستغرق في القراءة ال يبدو‬

‫رجل‪[ :‬مقاطعا] أريد أن أعرف‪ ..‬الجميع‪ :‬نريد أن نعرف‪ ..‬كلنا‪..‬‬ ‫الشيخ‪[ :‬مغنيا بسخرية] كلنا‪ ..‬نحب القمر‪..‬‬ ‫[ضاحكا] ماذا تريدون ؟‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫رجل‪ :2‬هل ما جاء في هذه األوراق صحيح أم ال ؟‬

‫الجميع‪ :‬نريد أن نعرف‬

‫رجل‪ : 1‬نريد‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬ال‪ ..‬ال تنزعجوا‪ ..‬إنها مجرد أكاذيب‪ ..‬واألكاذيب يا‬ ‫أحبتي‪ ..‬كالعالم‪ ..‬ال تتغير‪ ..‬ستظل برغم كل شيء‪ ..‬مجرد أكاذيب‬ ‫صغيرة‪..‬‬ ‫المرأة‪ : ‬زوجي يا شيخ‪ ..‬لم يعد من يومين إلى البيت‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬مخطئ‪ ..‬زوجك مخطئ يا سيدتي الجميلة‪..‬‬ ‫من ‪ ‬له امرأة مثلك‪ ..‬ال ينبغي أن يتأخر عنها إلى هذا الحد‪..‬‬ ‫المرأة‪ : ‬أخشى عليه‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬وأنا موجود ؟!!‪ ..‬ال ال‪..‬‬ ‫رجل‪ : 1‬هل سنظل هنا إلى األبد؟‬

‫رجل‪ : 2‬نريد أن ننام‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬ناموا‪!..‬‬ ‫رجل‪ : 1‬أين؟‬

‫الشيخ‪ : ‬أرض الله واسعة‪..‬‬ ‫رجل‪ : 3‬أرضنا ضاقت بنا‪..‬‬

‫أنه‪ ‬يشعر بهم إال عندما تضيق الدائرة حوله‪ ،‬يلقى الجميع بأوراقهم‬

‫المرأة‪ : ‬بناتنا تشكو العنوسة أيها الشيخ‪..‬‬ ‫رجل‪ : 4‬ال أجد مسكنا ألعيش فيه‪ ..‬أريد أن أتزوج‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬ولماذا الزواج‪ ..‬؟ أتريد أن ّ‬ ‫تعقد المشكلة أكثر؟ ‪ ‬الناس‬ ‫ال تجد المأوى‪ ..‬هل تريد أن تضيف مشاكل جديدة ؟!!‬ ‫رجل‪ : 1‬أنت المسئول عنا‪..‬‬ ‫الشيخ‪[ : ‬يقرأ في الجريدة] ارتفاع حقيقي في األجور‪..‬‬

‫[ملوحا بالصحيفة القديمة في وجوههم [‬

‫الشيخ‪ : ‬هذا‪ ..‬من األخبار الخارجية‪..‬‬ ‫الجميع‪[ : ‬بامتعاض]‪ ..‬يووه‪..‬‬

‫الشيخ‪[ : ‬هاربا إلى وسط الدائرة] أتظن أن العالم تغير منذ‬

‫متابعة شؤون الدنيا في صحفنا‪..‬‬

‫عند قدميه‪ ‬ويجلسون حوله في شبه دائرة كاملة]‪.‬‬ ‫الشيخ‪[ :‬ضاحكا] ما هذا؟‬

‫يقدم إليه أحد الحضور واحدا من المنشورات في صمت‪ ،‬ينظر‬

‫إلى المنشور من ‪ ‬تحت نظارته ويعاود الضحك] أتصدقون‪ ‬هذه‬ ‫األكاذيب الصغيرة؟!!‬

‫علينا أن نثق في صحفنا!‬ ‫رجل‪ :1‬ولكنها قديمة؟‬

‫صدورها؟!!‪ ‬ال شيء جديد‪[ ..‬مغن] مع اإلنسان‪..‬‬

‫‪82‬‬

‫منذ وجود اإلنسان‪..‬‬ ‫وجد الخير‪..‬‬ ‫كما وجد الشر‪ ..‬سيان‪..‬‬

‫الجميع‪ : ‬ماذا؟‬

‫‪..‬‬

‫الشيخ‪[ : ‬عائدا بكرسيه للخلف] نحن حريصون كما ترون على‬ ‫رجل‪ : 3‬لكن ماذا عنّي أنا؟!!‬


‫إبراهيم الصلحي‬ ‫رجل‪ : 2‬ماذا عنك؟‬

‫الشيخ‪ : ‬أتظن أنك حققت إنجازا بتوقفك عن التدخين؟!!‬

‫‪..‬‬

‫[ضحك من الجميع] اضحكوا !! أزيحوا ما تضعونه على قلوبكم من‬ ‫غم !! نحن رغم ما نحن فيه نعيش على ّ‬ ‫تل من ذهب!!‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫رجل‪[ : 4‬يخرج نصف سيجارة ويعيد إشعالها في عصبية] قل‬

‫الجميع‪ّ : ‬‬ ‫تل من الذهب؟!!‬

‫رجل‪ : 2‬أستطيع أن أشتري اللحم كل أسبوع !!‬

‫رجل‪ : 1‬وما دخل التاريخ والجغرافيا في الذهب؟!!‬

‫‪..‬‬

‫له هذا األحمق !! وما الفائدة؟!!‬

‫‪..‬‬

‫الشيخ‪ : ‬نعم‪ ..‬هكذا قال الخبراء‪ ..‬التاريخ‪..‬التاريخ يا أحبتي‪..‬‬

‫رجل‪[ : 4‬متفلسفا] هناك ماليين ال تدخن‪ ..‬وال تأكل اللحم‪..‬‬ ‫وماليين أخرى تأكل الحم وال تدخن‪!!..‬‬

‫عظمى عمرها مئات السنين بل عشرات السنين !!‬

‫المراة‪ : ‬التروي ماذا ؟أهي نوع جديد من العطور؟‬

‫الشيخ‪ : ‬أنت‪..‬‬

‫الشيخ‪[ : ‬يقرأ] الترويكا تزور المنطقة…‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫رجل‪ : 4‬أظنها من أدوية األمراض المتوطنة وإال ما الذي جاء‬

‫بها إلى المنطقة؟!!‬

‫المرأة‪ : ‬أنا أبحث عن زوجي‬

‫الشيخ‪ : ‬إن لم يعد‪ ..‬تزوجتك أنا‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫الشيخ‪ : ‬إن كان عمرك ‪ 4000‬عام أليس هذا إعجازا؟ هناك دول‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫المرأة‪ : ‬ومن هذا الذي يعيش ‪ 4000‬عام؟‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫المرأة‪ : ‬بعد الشر أنا بنت كذا وعشرين لكنه الحزن‬

‫يغير اإلنسان‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫الشيخ‪ : ‬هذا التاريخ القديم الذي يقف في هذه الساحة يكفينا‬

‫ألن نعيش بال مشاكل‪ ..‬ما بقي لنا من عمر‪..‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪83‬‬


‫مسرح‬ ‫إبراهيم الصلحي‬

‫الجميع‪ : ‬كيف؟‬

‫الشيخ‪ : ‬بالتخطييييييط‪..‬‬ ‫رجل‪ : 1‬طيط ؟!!‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫الشيخ‪ : ‬نعم ال أقصد طبعا التخطيط أي التخطيط ولكن‬

‫أقصد التخطيط التخطيط‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫رجل‪[ : 2‬مندهشا] ال أفهم !!‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫الشيخ‪ : ‬أحبتي ال بد أن نعترف أن هناك مشكلة هل‬

‫تعترفون؟‬

‫الجميع‪ : ‬نعترف‬

‫رجل‪ : 2‬قلت لك ال أفهم‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬أعلم‪ ..‬أعلم‪ ..‬ولهذا أحدثكم باستفاضة مملة‪ ..‬نحن في‬ ‫ضائقة‪ ..‬أتعلمون ؟‬ ‫الجميع‪ : ‬نعلم‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬لكنكم ال تعلمون أننا لسنا وحدنا‪..‬‬ ‫رجل‪ : 3‬هل هناك من هو مثلنا في الدنيا‬

‫رجل‪ : 2‬ال أظن‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬بل تأكد‪ ..‬واحمدوا الله‪..‬‬ ‫المرأة‪ : ‬السلع عندنا غالية‬

‫الجميع‪ : ‬نعم‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫الشيخ‪ : ‬لكنها موجودة هناك من ال يجد القوت !!‬

‫الجميع‪ : ‬يا ستار‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬وال الماء‪..‬‬ ‫الجميع‪ : ‬يا حفيظ‬ ‫الشيخ‪ : ‬مجاعات‬

‫الجميع‪ : ‬يا لطيف‬

‫الشيخ‪ : ‬جفاف وقحط‪..‬‬

‫الجميع‪ : ‬يا رحمن‬

‫‪..‬‬

‫الشيخ‪ : ‬الحمد لله كدنا نخرج من عنق الزجاجة‬

‫رجل‪ : 1‬لثالثين سنة أسمعه يقول ما يقول‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬أنا ال أملك عصا موسى‪ ..‬وال بساط عالء الدين‪..‬‬ ‫رجل‪ : 3‬أتعني أنك ال تجد حال لمشكلتنا؟!!‬

‫الشيخ‪ : ‬من قال هذا‪ ..‬سألنا أهل العلم‪..‬‬ ‫رجل‪ : 4‬أهل العلم من؟‬

‫بعد أربعين دقيقة وربع‪ ..‬يمكن أن أعاود التدخين‪..‬‬ ‫الجميع‪ : ‬يا سالم‪..‬‬ ‫الشبخ‪ : ‬دقة‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬هل أنتم مندهشون؟‬

‫‪[ ‬يدخل من الخلفية رجل في مالبس غريبة مخططة بالعرض]‬

‫المرأة‪ : ‬بل أنا معجبة‪..‬‬

‫حقيقي‪..‬‬

‫أكن أتوقع أن أجد بين هذه الخرائب من لها هذه العيون أو هذا‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫الشيخ‪ : ‬أقدم لكم نابغة التخطيط وبحوث العمليات عالم‬

‫‪..‬‬

‫الجميع‪ : ‬عالم؟!!‬

‫[يعلق حقيبته التي يحمل على كتفه ويفرك يديه]‬

‫الشيخ‪ : ‬اسمح لي يا سيدي بتقديمك‪.‬‬ ‫لدي‪ ..‬ال وقت‬ ‫العالم‪ : ‬ال وقت‬ ‫ّ‬ ‫رجل‪ : 1‬اشرب شايا‪!!..‬‬ ‫العالم‪ : ‬في الخامسة تماما‬

‫‪..‬‬

‫المرأة‪ : ‬لقمة على ما قسم !!‬

‫العالم‪ : ‬في السادسة تماما‪.‬‬ ‫رجل‪ : 4‬نصف سيجارة‪.‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫العالم‪[ : ‬في مراهقة مفاجئة ] بل أنا المعجب !! تصوري لم‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫القوام أو هذه الـ [ مشيرا إلى األرداف] الجميع‪ : ‬والمشكلة؟‬

‫العالم‪ : ‬عفوا‪ ..‬أنا جاهز‪.‬‬

‫‪84‬‬

‫العالم‪[ : ‬يخرج من جيبه ساعة غريبة ويقربها من أذنه]‬

‫‪..‬‬

‫العالم‪ : ‬المشكلة أنكم تعقدون األمور [للمرأة] طبعا تعرفين ما‬ ‫أعنيه؟‬

‫المرأة‪ : ‬أعرف‪ ..‬وأعرف أنكم تسهلونها‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬يا مسهل‪ ..‬هل ندخل في الموضوع‪..‬؟‬ ‫الجميع‪ : ‬ندخل‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬نحن نعرف أن وقتكم ثمين‪ ..‬ونحن سعداء برأيكم في‬ ‫المرأة عندنا‪ ..‬ماذا نفعل‬ ‫العالم‪[ : ‬هارشا رأسه ثم بعد لحظات] األمر بسيط‪ ..‬يلزمكم‬ ‫مشروع قومي لإلسكان‪.‬‬


‫رجل‪ : 2‬إسكان؟‬ ‫رجل‪ : 1‬أين؟‬

‫‪..‬‬

‫رجل‪ : 3‬ال يوجد شبر في المدينة من األرض الفضاء ؟!!‬

‫العالم‪ : ‬ال بد من إخالء هذه الساحة‪..‬‬ ‫الجميع‪ : ‬ماذا؟‬

‫رجل‪ : 2‬وبيوتنا؟‬

‫رجل‪ : 3‬مقابر أجدادنا‪.‬‬ ‫رجل‪ : 4‬كل ما نملك هنا‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬صبرا‪ ..‬صبرا‪ ..‬ال تقلقوا‪ ..‬نحن أصحاب القرار‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬ال تقلقوا‪ ..‬كله في الخطة‪..‬‬ ‫رجل‪ : 2‬بيوتنا‪.‬‬ ‫رجل‪ : 3‬مقابر أجدادنا‪.‬‬ ‫المرأة‪ : ‬أطفالنا‪.‬‬ ‫العالم‪ : ‬هناك خطة للحل على مراحل‪ ..‬خطة مرحلية‪..‬‬ ‫برنامجنا له قلب‪ ..‬وعيون‪..‬‬ ‫المرحلة األولى قلب‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬قلب‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬إخالء المباني العامة فقط‪ ..‬ال مساس بغير ذلك‬

‫الشيخ‪ : ‬ال مساس [جانبا] في هذه المرحلة‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬المدارس‪ ..‬المالجئ‪ ..‬دور الحضانة‪ ..‬المسارح‪..‬‬ ‫المسارح يجب إزالتها أوال‪.‬‬ ‫رجل‪ : 2‬والموظفون‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬كله في الخطة‪.‬‬ ‫رجل‪ : 2‬ماذا عن الموظف‪.‬‬ ‫العالم‪ : ‬سيتحمل المشروع راتبه‪..‬‬ ‫رجل‪ : 3‬دون عمل؟‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫العالم‪ : ‬يكفي أن نعمل نحن نيابة عنكم ويمكن لمن يريد‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫أن يعمل في الفنادق في المطاعم في دور النقاهة واالستشفاء‬

‫والمالهي‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫رجل‪ : 3‬أال يوجد في خطتكم مصانع مثال ؟‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫العالم‪[ : ‬منزعجا] أووه ال بالتأكيد !! هل تريد أن نلوث‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫البيئة ؟!! نحن نريدكم كما أنتم مدينة خضراء مزارات‬

‫‪..‬‬ ‫التاريخ‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫تاريخية فنادق حدائق مالهي ال ينبغي أن نلوث جالل‬

‫رجل‪ : 1‬ومن يرفض‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬يمكنه أن يهاجر‪..‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪85‬‬


‫مسرح‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫الشيخ‪ : ‬لم ال نحن بلد حر ال نمنع أحدا من السفر ليس‬

‫رجل‪ : 4‬هل يزول هذا الحبر؟‬

‫رجل‪ : 1‬ويترك بلده‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬يا عزيزي‪ ..‬الهجرة سلوك حضاري‪ ..‬طبيعي‪..‬‬ ‫الحشرات تهاجر‪ ..‬األسماك تهاجر‪ ..‬الطيور‪..‬‬

‫رجل‪ : 3‬ال أذكر‪..‬‬ ‫رجل‪ : 1‬لن يزول هذا الحبر‪..‬‬

‫لدينا قائمة منع‪..‬‬

‫رجل‪ : 2‬والمرحلة الثانية؟‬

‫المرأة‪ : ‬ومتى كان آخر حذاء اشتريته؟‬

‫رجل‪ : 4‬ومن يحتاج إزالته؟‬

‫العالم‪ : ‬ماذا قلتم؟‬

‫العالم‪ : ‬سنكون مستعدين الستيعابكم في شقق‬

‫الشيخ‪[ : ‬يخلع حذاءه] موافقون‪..‬‬ ‫الجميع‪ : ‬موافقون‪..‬‬

‫العالم‪ : ‬بالطاقة الشمسية‪.‬‬

‫العالم‪ : ‬هذا جميل‪ ..‬هذا حسن‪ ..‬هذه وثيقة حسن النوايا‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫مفروشة ‪ ‬مضاءة…‬

‫المرأة‪ : ‬شقق مفروشة؟‪ ‬مضاءة؟‬ ‫رجل‪ : 4‬بالطاقة الشمسية؟‬

‫[يتقدم الشيخ ويضع بصمة قدمه على الورقة فيتبعه الجميع]‬

‫[يطوي الورقة ويعيدها والختامة إلى الحقيبة في حرص ثم يعطي‬

‫العالم‪ : ‬وأطباق التقاط البث المباشر‪..‬‬

‫إشارة بيده للخارج]‬

‫الشيخ‪ : ‬نحن نفوضك في حل المشكلة بالطريقة الهندسية‬

‫أصوات‪ : ‬هنا خالصكم‬

‫‪ ‬اآلن‪ ..‬نبدأ العمل‪..‬‬ ‫رجل‪ : 3‬البث المباشر؟‬ ‫الجميع‪ : ‬اآلن‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬ستشاهدون ما يحدث في العالم لحظة بلحظة‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬نعم اآلن‪ ..‬ال وقت لدينا نضيعه‪ ..‬علينا أن نفعل شيئا‬ ‫منوعات رائعة‪ 24 ..‬ساعة‪.‬‬ ‫لإلنسانية‪..‬‬ ‫رجل‪ : 4‬هذا جميل‪.‬‬ ‫رجل‪ : 3‬إنسان والله‪.‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬ألم أقل لكم‪ ..‬ال تقلقوا‪..‬‬ ‫رجل‪ : 4‬مخلص‪.‬‬ ‫العالم‪ : ‬تبقى لدينا مشكلة بسيطة‪..‬‬ ‫المرأة‪ : ‬ورقيق‪..‬‬ ‫الجميع‪ : ‬يووه‪ ..‬مشكلة مرة أخرى؟‬ ‫الشيخ‪ : ‬يقول بسيطة‪ ..‬بسيطة إن شاء الله‪ ..‬ال تعقدوا األمور‪ ..‬الشيخ‪ : ‬ودقيق‪..‬‬ ‫رجل‪ : 3‬عالم‪..‬‬ ‫رجل‪ : 2‬وما هي؟‬ ‫[يدخل رجالن يدفعان أمامهما آلة تقترب في شكلها الخارجي من‬ ‫العالم‪ : ‬مشكلة‪ ..‬هندسية‪..‬‬ ‫آلة درس القمح‪ ،‬لكنها تأخذ الشكل البشري‪ .‬ولها فتحتان أحدهمـا‬ ‫رجل‪ : 3‬هندسية؟‬ ‫الفم‪ ،‬وقد رسمت عليه ابتسامة عريضة وينبغي أن نالحظ الشبه‬ ‫العالم‪ : ‬بحتة‪..‬‬ ‫بين اآللة وتمثال الحرية] العالم‪ : ‬اقتربوا‪..‬‬ ‫رجل‪ : 1‬ومالنا ومال الهندسة البحتة؟‬ ‫[الشيخ والعامالن يرددان خلف العالم] أصوات‪ : ‬اقتربوا‪.‬‬ ‫رجل‪ : 2‬عندنا مهندسون‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬اصطفوا‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬المشكلة تحتاج لرأي الخبراء‪..‬‬ ‫أصوات‪ : ‬اصطفوا‬ ‫العالم‪ : ‬فعال‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬األطول فاألطول‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬ونحن نحب أن نترك العيش لخبازه‪..‬‬ ‫أصوات‪ : ‬فاألطول‪.‬‬ ‫العالم‪ : ‬ال أفهم‬ ‫العالم‪ : ‬هنا خالصكم‪..‬‬ ‫رجل‪ : 1‬ال تفهم‪ ..‬وتحل مشكلتنا ؟‬ ‫المناسبة‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫العالم‪ : ‬أنا ديمقراطي هل توافق األغلبية على رأيك هذا ؟‬

‫‪..‬‬ ‫أصوات‪ : ‬موافقون‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬هذا جميل‪ ..‬هذا حسن‪..‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬طبعا أتوافقون؟‬

‫[يخرج من الحقيبة ورقة مطوية بشكل معين يبسطها على األرض‬

‫ويخرج بعدها ختامة كبيرة يضعها إلى جوار الورقة] عليكم توثيق‬

‫هذا الرأي بالتوقيع عليه بأقدامكم‪..‬‬

‫الجميع‪ : ‬بأقدامنا؟‬

‫العالم‪ : ‬نعم‪ ..‬بأقدامكم اليمنى‪ ..‬هذا مهم‪ ..‬إخلعوا أحذيتكم‪..‬‬ ‫رجل‪ : 2‬كنا نبصم بأصابعنا‪.‬‬ ‫الشيخ‪ : ‬هنا المفاجأة‪ ..‬حذاء لكل مواطن‪..‬‬ ‫[يبدأ الحضور في خلع األحذية]‬

‫رجل‪ : 3‬يذكرني هذا بأول حذاء اشتريته‪.‬‬

‫‪86‬‬

‫العالم‪ : ‬أدخلوا إلى فردوسنا الحضاري‪..‬‬ ‫اصوات‪ : ‬أدخلوا ادخلوا‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫العالم‪ : ‬تخلصوا من كل ما يثقل نفوسكم من عنصرية من‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫الشك والقلق ‪ ‬والخوف والضغينة نحن أبناء أمّ واحدة هي‬

‫األرض‪[ ..‬مشيرا لفم اآللة] هذا مدخلكم للحل العلمي لمشاكلكم‪..‬‬ ‫أبشروا‪..‬‬

‫أصوات‪ : ‬أبشروا‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫العالم‪ : ‬األمر ليس صعبا ‪ ‬وليس معقدا بهذه اآللة سنحل‬ ‫مشاكلكم الهندسية‬

‫[يضع العالم في اآللة مفتاحا فتصدر عنها نغمات مختلطة لنشيد‬

‫بالدي بالدي والماسليز وحفظ الله الملك ودينج دونج في لحن‬

‫عبثي]‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫[الشيخ يصف الناس صفا واحدا أمام فم اآللة‪ ] ‬رجل‪ : 1‬ما هذا‬

‫يا مجانين؟‬


‫‪..‬‬ ‫‪..‬‬ ‫يومها جئتم أنتم لكي تمارسوا الفعل الحضاري‪ ‬بشروطكم‪..‬‬ ‫من فوق ظهور خيولكم‪ ..‬واآلن‪ ..‬جاء دورنا نحن‪ ‬لنعبر إليكم‬ ‫فوق آالتنا‪ !!..‬ونمارس نحن الفعل الحضاري الذي توقفتم أنتم‬ ‫عن‪ ‬ممارسته‪ !!..‬وبإتقان‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫فاعل ‪ ‬ومفعول به لقد كنا في يوم من األيام في الدائرة الثانية !‬

‫إبراهيم الصلحي‬

‫العامل‪[ : 1‬يحضر مكعبا آخر] هل هذا الحجم مناسب يا سيدي؟‬

‫‪..‬‬ ‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫العالم‪ : ‬أعتقد وأعتقد أيضا أن مترا مربعا واحدا يكفي‬

‫‪..‬‬

‫الستيعاب كل هؤالء بعد‪ ‬أن وضعناهم ‪ ‬في الحجم األمثل أما‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬ ‫‪..‬‬

‫بقية هذه األرض كل األرض فهي لنا… !!‪ ‬دورنا الحضاري هو‬

‫االستغالل األمثل لكل الموارد أليس هذا هو التعريف‪ ‬العلمي‬

‫لإلدارة؟ االستغالل األمثل لكل الموارد المتاحة‪..‬‬

‫العامل‪ : 2‬إنهم يتصرفون في مكعباتهم وكأنهم ما زالوا بحجمهم‬ ‫القديم؟‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫العالم‪ : ‬دعهم في وهمهم يظنون أن العالم ال يتغير هذا في‬

‫مصلحتنا‪ ..‬دائما‪.‬‬

‫[يضحك بشيطانية] العامل‪ : 1‬أستطيع أن أحضر أسرتي؟‬

‫المرأة‪ : ‬لعلها آلة تبخير‪ ..‬لن تضر‪.‬‬ ‫رجل‪ : 4‬أمراض الصيف زادت‪.‬‬ ‫رجل‪ : 3‬لن نخسر شيئا‪..‬‬ ‫المرأة‪ : ‬سنوفر الصابون‪.‬‬

‫العالم‪ : ‬أدخلوا … أدخلوا في صمت‪..‬‬ ‫أصوات‪ : ‬أدخلوا أدخلوا‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬رددوا اللحن اإلنساني‪ ..‬لحن الخالص من مشاكلكم‬ ‫المزمنة‪ ..‬من عقدكم القديمة‪ ..‬أمامهم أيها الشيخ‪..‬‬

‫[ينهض الشيخ من على كرسيه المتحرك نشيطا‪ ،‬يبدأ في الدخول‬

‫وخلفه الجميع واحدا واحدا إلى داخل اآللة‪ ،‬وعندما يختفي الجميع‬

‫داخل اآللة أو هكذا يبدو‪ ،‬تبدأ اآللة في إصدار أصوات مزعجة‬ ‫وتتحول إلى ثعبان ضخم بعد لحظات‬

‫يسقط من الجانب اآلخر من ناحية الذنب مكعب صغير في حجم‬

‫علبة السجائر أزرق اللون يسرع العالم ويلتقط المكعب في حرص‬ ‫ويتجه للصالة]‬

‫‪..‬‬

‫لقد كانت مشكلتنا في حجمكم أنتم تشغلون مساحات أكبر‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬ ‫المناسب‪ ..‬أيها األصدقاء‪ ..‬لن نحتاج‪ ‬إلى ‪ ‬كل هذه األرض لتسكنوا‬ ‫فيها‪ ..‬لن نحتاج إلى كل هذا التاريخ‪ ..‬نحن‪ ‬نريدكم بهذا الحجم‪..‬‬ ‫من الالزم وهكذا يكون الحل العلمي أن تكونوا بهذا الحجم‬

‫[يفتح المكعب ويخرج دمية للشيخ]‬

‫الحجم المثالي‪ ..‬التاريخ اإلنساني أيها األصدقاء‪ ..‬دائرتان‪..‬‬

‫العالم‪ : ‬طبعا‪.‬‬ ‫العامل‪ : 2‬كلبي سيجد مساحة واسعة ليجري‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬ذكرتني‪ ..‬كيف حاله اآلن‪ ..‬أما زالت تنتابه المخاوف‬ ‫النفسية‪.‬‬ ‫العامل‪ : 2‬ال‪ ..‬عالجه األخصائي النفسي‪ ..‬وهو اآلن بخير‪..‬‬ ‫العامل‪ : 1‬كلما تذكرت حالته‪ ..‬صوته الضعيف‪ ..‬بكيت‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬نعم‪ ..‬نعم‪ ..‬أنا كذلك‪..‬وكلما تذكرت النظرة الحائرة في‬ ‫علي النوم‪..‬‬ ‫عينيه‪ ..‬استعصى‬ ‫ّ‬ ‫العامل‪ : 1‬رقة مشاعر إنسانية‪..‬‬ ‫العالم‪ : ‬نحن البشر‪ ..‬نملك الحس اإلنساني‪ ..‬ولهذا نحن أفضل‬ ‫المخلوقات‪ ..‬ولكن هذه األفضلية ال تعطي لنا الحق أن نتجاهل‬ ‫حيواناتنا البائسة‪ ..‬علينا أن نعاملها بلطف‪ ..‬ورقة وحنان‪ ..‬علينا أن‬

‫نعطي لها من الحرية ما يمكنها من العيش‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫دون مشاكل نفسية تذكروا إننا رسل حضارة وأن علينا أن نقيم‬

‫مجتمع الحرية‪ ..‬واإلخاء‪ ..‬والمساواة‪ ..‬لكل البشر‪..‬‬ ‫العامل‪[ : 1‬منزعجا] كل اليشر يا سيدي؟!!‬

‫‪..‬‬

‫العالم‪[ : ‬يضحك] ال أظنك تقصد [يلقي بالمكعب على األرض‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫وبدمية الشيخ في يده] إشش بدأ الشيخ يفيق [مخاطبا الدمية]‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫ماذا تقول يا سيدي ارفع صوتك تريد أن تنام ؟! ال تقلق عندي‬

‫بيت جميل‪.‬‬

‫[يخرج من الحقيبة نموذجا لبيت خشبي ملون] ال تقلق‪ ..‬عندي‬ ‫ري‪ ..‬انظر يا سيدي‪..‬‬ ‫بيت جميل‪ ..‬بحديقة صناعية‪ ..‬ال تحتاج إلى ّ‬ ‫حجرات واسعة‪ ..‬بالنسبة إليك طبعا‪ ..‬حمامات‪ ..‬مالعب‪ ..‬كل شيء‬ ‫مناسب لحجمكم الجديد‪[ ..‬ينصت] ماذا ؟ ال ال ال تصدق‪ ..‬تكلفة‬ ‫المشروع‬

‫مناسبة‪ ..‬ال تصدق‪ ..‬إنهامجرد أكاذيب صغيرة‪..‬‬

‫[يضحكون والثعبان يعود مرة أخرى إلى شكل تمثال الحرية]‬ ‫[إظالم]‬

‫كاتب من مصر‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪87‬‬


‫أصوات‬

‫مثقفون‬ ‫ولكن أصوليون‬ ‫حميد زناز‬

‫لم‬

‫تعرف الحداثة نسخة أش َد حزنا وال أكثر مسخا مما عرفته في‬ ‫بالد العرب والمسلمين‪ ،‬فهل يمكن أن يتمدن الجسد ويبقى‬

‫العقل في معزل عن التمدن والحضارة‪ ،‬كيف يمكن أن يعيش اإلنسان‬ ‫في عصرين متباعدين في آن؟ ما هي النتائج المترتبة عن هذا التمزق‬

‫ُ‬ ‫نحت أسئلة جديدة‪ ،‬لقد بات ضروريا تهديم كل‬ ‫لم يعد كافيا اليوم‬

‫‪.‬‬

‫األجوبة القديمة تعاني النخب في ديار اإلسالم من عسر نظري مزمن‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫توهم الوصول إلى الحداثة على قارب الدين فكأن الدين‬ ‫يدفعها إلى‬

‫‪.‬‬

‫الحاصل في الذات العربية التي تعيش ماديا في القرن الحادي‬

‫يتكلم فيها حينما تتكلم فهي ال تملك الشجاعة األدبية وال تشعر‬

‫يكفي وصول المالحظ إلى بلد من البلدان العربية أو اإلسالمية ليقف‬

‫للمساهمة في تغيير الذهنيات ودفعها نحو األفضل‪ ،‬نحو الفصل بين‬

‫وهذه الفوضى الذهنية تنعكس على الواقع فترى الناس هائمين على‬

‫وما ينشر من كتب في العالم العربي يقف على نكتة لم تعد تضحك‬

‫والعشرين وذهنيا في القرون الخوالي؟‬

‫على الفوضى المفهومية التي تعتري البشر وتغرقهم في اغتراب شديد‪،‬‬

‫وجوههم كأنهم لم يجدوا رأس الخيط‪.‬‬

‫بواجب إعادة النظر في الموروث الديني ذاته وهو شرط ضروري‬

‫‪.‬‬

‫الحياة وما بعد الحياة ومن يتابع عن كثب ما يكتب في الصحف‬ ‫أحدا هي موضة إمساك العصا من الوسط‪ :‬حداثة إسالموية وإسالم‬

‫حداثوي‪.‬‬

‫ويعود السبب بالدرجة األولى إلى أزمة المثقفين إذ تعاني شعوب‬ ‫العالم العربي واإلسالمي من مرض عضال هو ُ‬ ‫“نخبها” السياسية‬

‫لقد أوضح صاحب جائزة نوبل لآلداب سنة ‪ 1980‬البولوني ميلوش‬

‫العربي اإلسالمي يشبه حال المثقفين اليساريين في فرنسا الستينات‬

‫وعرافين وكهنة في الدول الشيوعية مبينا كيف كانوا مجندين من‬

‫‪.‬‬

‫عموما والثقافية على وجه الخصوص فحال “المثقفين” في العالم‬

‫والسبعينات من القرن الماضي أولئك الذين كانوا يبرهنون على عدم‬

‫وجود الغوالك بترديد بعض مواد من الدستور السوفييتي‪.‬‬

‫شيزالو في كتابه “الفكر األسير”‪ ،‬كيف تحول المثقفون إلى سحرة‬ ‫قبل الحزب لتبرير‬

‫الخطايا‪..‬‬

‫يفعل المثقفون‪-‬العرّافون في الدول‬

‫‪.‬‬

‫العربية اإلسالمية أحسن بكثير من زمالئهم الستالينيين فهم يجهدون‬

‫كذلك تفعل غالب النخب المتأسلمة اليوم‪ :‬تنتخب بعض آيات من‬

‫أنفسهم في محاولة عقلنة الالمعقول مرتكبين ممارسة مدح أعمى‬

‫وأحيانا دون وعي الطريق للدولة اإلسالمية القادمة أو لذلك الشيء‬

‫دون وعي إلى سند ثقافي وإعالمي للظالمية‪ ،‬فيبدو حالهم أقرب‬ ‫َّ‬ ‫مؤلفه‬ ‫إلى حال الكاردينال روشيليو‪ ،‬ذلك الذي كان يكتب مرتاح البال‬

‫القرآن ومن األحاديث النبوية “لِتؤمثِل” عهد الخلفاء ول ُِت ّ‬ ‫مهد بوعي‬

‫الذي يسمّ ى كذلك‪.‬‬

‫تستغل الميليشيات الثقافية الوضع الديني لتزرع اليوتوبيا عن طريق‬

‫الشارع والمدرسة ووسائل اإلعالم وهكذا تؤبد‪ ،‬في غفلة من العقل‬ ‫النقدي‪ ،‬هيمنة اإلسالم السياسي أو ما يسمى اليوم باألصولية وبتسمية‬

‫‪.‬‬

‫للتراث الديني اإلسالمي وبذلك االنبطاح الفكري يتحوّ لون بوعي أو‬

‫“كتاب المسيحي الفاضل” في الوقت الذي كانت فيه مدينة باريس‬

‫‪.‬‬

‫محاصرة وعلى وشك السقوط يغمض كثير من “المثقفين” أعينهم‬ ‫حتى ال يروا االنحطاط الحاصل‪ ،‬فيتخذ بعضهم من األدب الثرثار ملجأ‬

‫‪.‬‬

‫أخرى أكثر دقة هو أوهام اإلخوان المسلمين‪ ،‬وهكذا تقطع هذه‬

‫له ويغرق من تبقى في شبه بحوث جامعية تدخل في إطار المعرفة‬

‫والح ِ‬ ‫َ‬ ‫رْف‬ ‫الفهم الديني للوجود سقط الذين يشتغلون في دنيا الفكر‬

‫ّ‬ ‫يغضون الطرف عن الخرافات واألساطير التي تعشش في مجتمعاتهم‬

‫مقابالت لمنتجات الحداثة‪ ،‬يسقطون المفاهيم القديمة على الواقع‬

‫ما أطرف أن تجد من يكتب ويحاضر في “ما بعد الحداثة األدبية‪-‬‬

‫الميليشيات الطريق أمام كل األصوات الداعية إلى التخلص من قبضة‬

‫‪.‬‬

‫في فخ الدين وثقافة التعليب فراحوا انطالقا من حمّ ى البحث عن‬

‫الجديد المتجدد والمفاهيم الحديثة على الوقائع العتيقة‪ ،‬بل ساهموا‬

‫‪.‬‬

‫في تحويل كثير من األفكار المسبقة إلى بديهيات حرّفوا وأسلموا كل‬

‫شيء بغية إشباع بعض رغبات مكبوتة أو للتمويه عن إفالس الذات‬

‫البين‪.‬‬ ‫ّ‬

‫جعلوا األموات يحكمون األحياء إذ في كل بقاع األرض تمرّ األجوبة مرّ‬

‫الكرام وتبقى األسئلة قائمة‪ ،‬أمّ ا هنا فيحدث العكس‪ ،‬يُ حتفظ بالجواب‬

‫‪88‬‬

‫ُ‬ ‫وتطرد األسئلة‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫الزائدة ينتقد كثير منهم الحداثة ‪-‬وهي فعل نقدي أساسا‪ -‬لكنهم‬

‫وتراثهم الديني على وجه الخصوص‪.‬‬

‫الفلسفية” وهو يتخبط في بنى اجتماعية وإبيستمولوجية ما قبل‬ ‫ُّ‬ ‫وتعقلها قبل أن نتمكن من صنع‬ ‫حداثية! كيف يمكن نقد الحداثة‬

‫مسمار؟ ال يعدو أن يكون الحديث عن “ما بعد الحداثة” في الوقت‬

‫الراهن سوى محاولة لتهيئة الرأي العام لقبول ما قبل الحداثة الحالية‪..‬‬ ‫يشير هادم األصنام‪ ،‬الفيلسوف نيتشة‪ ،‬إلى هذه العوائق البسيكو‪-‬‬ ‫ثقافية التي تكبل عقل اإلنسان قائال “ما مقدار الحقيقة التي يمكن‬


‫عوة‬ ‫د‬ ‫تدعو الكتاب والمفكرين العرب‬ ‫إلى المشاركة في محاورها وملفاتها القادمة‬

‫حال الكتاب العربي‬ ‫إبراهيم الصلحي‬

‫كيف تنشر الكتب‬

‫في العالقة بين الكاتب والناشر والقارئ‬

‫لعقل أن يتحملها بل يجرؤ على تحملها؟ ذلك كان المعيار‬

‫‪.‬‬

‫إلي في تحديد القيم ليس الضالل هو الخطأ‬ ‫الحقيقي بالنسبة ّ‬

‫‪...‬‬

‫وإنما الخطأ هو الجبن [ ] كانت الشجاعة مصدر كل نصر وكل‬

‫خطوة نحو المعرفة”‪.‬‬

‫ال مهمة مستعجلة للنهوض بالفكر العربي غير فلسفة المطرقة‪،‬‬

‫ألن القلم لم يكن في معظم الفترات وإلى حد الساعة سوى‬ ‫امتداد للسبحة‪ ،‬وذلك ألسباب ذكرها نيتشة وأخرى ثانوية‬ ‫كثيرة‪ ،‬تجنب “المثقفون” كل احتكاك مباشر مع الدوغما التي‬

‫‪.‬‬

‫االستبداد الشرقي‬

‫دور الحاكم المستبد‬ ‫في صناعة االستبداد الديني‬

‫الشعر والتجريب‬

‫هل وصل التجريب الشعري العربي‬ ‫إلى حائط مسدود‬

‫تخنق مجتمعاتهم فمنذ مدة طويلة‪ ،‬لم تضرب المطرقة‬

‫ضربات جدية في العقل المُ كوَّ ن وهو األمر الذي ّ‬ ‫عطل حركة‬ ‫الفكر في الوطن العربي وجعله ال يجرؤ على تعقل الواقع‪ ،‬وهو‬

‫ما مدد نزهة العرب في التاريخ‪.‬‬

‫إنني أتساءل عن جدوى بعض المثقفين أو من يزعمون أنهم‬

‫الكتابة النسائية العربية‬

‫هل تكتب النساء العربيات بلغة الرجل‬ ‫أم أن اللغة بال جنس‬

‫كذلك مثلما تساءل ديوجان محقا بخصوص سقراط‪ :‬ما نفع‬

‫امرئ أمضى حياته كلها يتفلسف دون أن يزعج أحدا؟ ما زال‬ ‫المثقف العربي المسلم يتخبط في أزمة أخالقية خانقة‪ ،‬وينبغي‬ ‫على هذا المخلوق إن رغب أن يتحول من حالة الهيولى الفكرية‬

‫إلى مثقف بالفعل مواجهة غولين اثنين‪ :‬استبداد السلطة وجهل‬

‫‪.‬‬

‫الجماهير ويتم هذا بالكف عن بلورة جشع األولى وانتهازيتها‬

‫وتحويل أحكام الثانية المسبقة إلى رأي عام أو ثقافة‪ ،‬فكثيرا‬ ‫ما تراجعت قوى الحرية والالئكية أمام قوى التخلف عندما‬

‫تخرج هذه األخيرة قميص عثمانها المتمثل في المقدسات‬

‫الكتابة والجسد‬

‫الجسد والجنس في اإلبداع العربي المعاصر‬

‫الصحافة الثقافية العربية‬

‫أحوالها‪ ،‬توجهاتها‪ ،‬عالقتها بالكتاب والقراء‬

‫‪.‬‬

‫وغيرها من المُ رهبات وهو ما جعل المجتمعات العربية تدور‬ ‫حول نفسها وتبقى عاجزة عن تكوين نخب حقيقية قادرة على‬

‫إحداث قطيعة معرفية كفيلة بدفع اإلنسان العربي إلى التصالح‬

‫‪.‬‬

‫مع عصره “أتبتغي حياة سهلة؟ ابق قريبا من القطيع وادفن‬

‫نفسك فيه”‪ ،‬هكذا تكلم نيتشة على لسان زرادتشت‪ ،‬وهذا هو‬

‫في األغلب األعم حال المثقفين العرب اليوم‬

‫كاتب من الجزائر مقيم في باريس‬

‫فكر حر وإبداع جديد‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪89‬‬


90


‫سجال‬

‫حوار عل حوار‬ ‫أقالم تحاور عزيز العظمة‬ ‫ي مطلع عامها الثاني تواصل "الجديد" مع هذا الملف ما بدأته مع عددها األول من محاورات‬

‫فكرية وسجال بين كتاب ومفكرين عربا ومفكر ضيف تحاوره وتضعه في مقعد المساءلة‬ ‫الفكرية واألدبية واألخالقية حول طبيعة تشاكله مع قضايا عصره وطبيعة انشغاله‬

‫بالمجريات الكبرى التي يشهدها العرب ثقافة واجتماعا‪.‬‬

‫هنا ‪ 5‬مقاالت تتحاور وتنتقد وتالحظ وتستخلص انطالقا من األفكار التي طرحها المفكر‬

‫عزيز العظمة في العدد الماضي من "الجديد" بصدد موضوعتي األصولية والحداثة وما‬

‫اصطلح عليه بـ"الصعود األصولي" في العالم العربي‪.‬‬ ‫و"الجديد" تترك الباب مفتوحا لمزيد من المساجلين‪ ،‬وللمفكر العظمة للرد على منتقديه‪.‬‬

‫قلم التحرير‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪91‬‬


‫سجال‬

‫حوار مع أفكار عزيز العظمة‬

‫في األصولية‬ ‫وشروط صعودها‬

‫ال نعتقد أن األصوليين‬ ‫بلهاء يعتقدون‬

‫جاد الكريم الجياعي‬

‫بإمكان العودة بالزمن‬

‫أو دحرجته إلى‬

‫الوراء‪ .‬يتعلق األمر‬

‫في اعتقادنا بالمثل‬

‫األعلى األخالقي‪ ،‬الذي‬ ‫تتّخذه هذه الجماعة‬

‫األصولية أو تلك‬

‫أوالً‪ ،‬وباأليديولوجية‬ ‫ً‬ ‫ثانيا‪،‬‬ ‫التي تتبناها‬

‫ً‬ ‫ثالثا‪.‬‬ ‫وبإرادة السلطة‬

‫والطابع السلفي لجميع‬

‫األصوليات‪ ،‬في أيامنا‪،‬‬ ‫يعني النكوص عن‬

‫التمدن واالنتقام من‬ ‫الحداثة‪ ،‬القترانهما‬ ‫بتفاوت اجتماعي‬

‫صارخ‪ ،‬وآليات ظالمة‬

‫لالصطفاء االجتماعي‬

‫والتهميش الثقافي‬

‫والسياسي‪ ،‬وسيطرة‬

‫شبه تامة على الجسد‬

‫االجتماعي‪ ،‬هنا وهناك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫منضبطا أشد ما‬ ‫لجعله‬

‫يكون االنضباط‪ ،‬وقد‬ ‫بلغت هذه السيطرة‬

‫ذروتها في النظم‬

‫النازية والفاشية‬

‫والستالينية وفي‬

‫التسلطية عندنا وعند‬

‫غيرنا‪ ،‬ما يستوجب‬ ‫نقد التمدن المبتور‬

‫والحداثة الناقصة‪ ،‬ال‬

‫نقد ضحاياهما‪ ،‬فالنجاح‬

‫والتقدم يستحقان النقد‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫األصولية ظاهرة تاريخية وعالمية‪ ،‬تكمن جذورها المعرفية في تماهي األصل والهوية‪ ،‬لدى األفراد والجماعات‪.‬‬

‫ً‬ ‫بعضا‪ ،‬هي العرق واألسطورة والوهم‪ ،‬وال سيما وهم‬ ‫ولفكرة األصل ثالثة مصادر رئيسة متواشجة‪ ،‬ويغذي بعضها‬ ‫مركزية اإلنسان في الكون‪ ،‬ومركزية الجماعة النسلية على كوكب األرض‪ ،‬فما من جماعة نسلية‪ ،‬عشيرة أو قبيلة‪،‬‬ ‫إال ولديها اعتقاد راسخ في وعيها وال وعيها بأنها تحتل مركز األرض (المنبسطة)‪ ،‬وتمتاز وحدها بصلتها المباشرة‬ ‫ً‬ ‫شأنا‪ ،‬فال يبلغون‬ ‫بالسماء‪ ،‬وكل من يعيشون خارج حدودها وخلف أفقها المعرفي واإلدراكي دونها منزلة‪ ،‬وأقل منها‬

‫شأوها‪ ،‬وال يتمتعون بمزاياها‪ ،‬فهي نسيج وحدها وفريدة عصرها‪.‬‬

‫ال تزال‬

‫البشرية كلها أو بعضها تضمر أصولها العرقية‪،‬‬

‫وتعيد إنتاج أساطيرها وأوهامها‪ ،‬وتنتج‬ ‫ً‬ ‫وأوهاما جديدة و”حديثة” ومن أحدث هذه األساطير‬ ‫أساطير‬

‫‪.‬‬

‫واألوهام األساطير القومية وأوهام السيادة والشرعية‪ ،‬التي‬

‫رصد الظواهر األصولية‪ ،‬وتساعد في تعريف األصولية‪ ،‬مثل‬ ‫“الحق في حكم الناس وتسيير حاضرهم ومستقبلهم”‪ ،‬نوافقه‬ ‫ً‬ ‫جميعا وعرّ ف األصولية بقوله “لقد اكتسبت هذه اللفظة‬ ‫عليها‬

‫‪.‬‬

‫من الالوعي الجمعي‪ ،‬الذي يختزن معطيات ماضيها “الطبيعي”‪.‬‬

‫ً‬ ‫اصطالحيا يشير إلى أشخاص أو جماعات أو أمزجة‬ ‫معنى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وأهواء تنطوي على مفارقات تاريخية وتستند إليها‪ ،‬وتسلم‬

‫الكبيرة أو الكلية والمجتمعات الصغيرة (‪ ،)communities‬التي لم‬

‫على نحو خيالي) لجماعية معينة‪ ،‬أي األمة في كال المعنيين‪:‬‬

‫تنطوي خطاباتها على أصولية قد تبلغ حد العنصرية‪ ،‬وتتغذى‬ ‫ً‬ ‫دوما في المجتمعات‬ ‫بهده المعاني تكون األصولية ممكنة‪،‬‬

‫تحقق ما يُ رمز إليه بالثورة الكوبرنيكية‪ ،‬على صعيد المعرفة‬

‫والفكر والثقافة‪ ،‬أي المجتمعات والجماعات التي لم تتغير‬

‫زاوية نظرها إلى الكون والعالم‪ ،‬وإلى اإلنسان عامة والمرأة‬ ‫خاصة‪ ،‬ولم ينتقل مركز ثقل المعرفة لديها من السماء إلى‬

‫األرض‪ ،‬وال تزال أسطورة الخلق التوراتية وما قبل التوراتية‬ ‫حية في نماذج تفكيرها وإدراكها وتم ُّثلها وعملها وعالقاتها‬ ‫بتجليات ماهيتها اإلنسانية‪ ،‬أي بمن يتشاركن ويتشاركون‬ ‫معها في الطبيعة اإلنسانية‪ ،‬سواء كانت هذه المجتمعات‬

‫تقليدية أم “حديثة”‪ ،‬تدين باإلسالم أم بالمسيحية أم بالبوذية‬

‫أم بالكونفوشية‪ ..‬أم غيرها‪.‬‬

‫ببدايات وتفترض بدايات كاملة وناجزة (في معظم األحيان‬

‫األمة الوطنية والجماعة الدينية (اشتراك في المعنى يقود إلى‬

‫غموض عام وتشوش أو ازدواجية في العربية) أو الطائفة أو‬

‫‪.‬‬

‫أي شيء يُ تخذ على أنه جماعة طبيعية ما قبل سياسية تتم‬ ‫ّ‬

‫مناقضة صورة هذا العصر الذهبي بصورة حاضر فاسد منحط‬ ‫ً‬ ‫وأخيرا‪ ،‬إن القيام بمحاولة إلعادة تكوين الحاضر على‬ ‫جاهلي‬

‫‪.‬‬

‫صورة العصر الذهبي واستئناف البدء هو السمة المميزة لهذه‬

‫األصولية”‪.‬‬

‫وال نوافقه في قوله “تكمن المفارقة التاريخية في افتراض‬ ‫التغير الذي حدث‬ ‫وأن‬ ‫أ ّنه يمكن الرجوع بالزمان إلى الوراء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫على امتداد أكثر من ألف سنة هو وهم أو على األقل قابل‬

‫ومن ثمة‪ ،‬فإن األصولية ال تقتصر على األصولية الدينية‪،‬‬

‫للرد وللدحرجة إلى الوراء”‪ ،‬إذ ال نعتقد أن األصوليين بلهاء‬

‫األصولية‪ ،‬واألصولية اإلسالمية‪ ،‬السنية أو الشيعية‪ ،‬ليست‬

‫األمر في اعتقادنا بالمثل األعلى األخالقي‪ ،‬الذي ت ّتخذه هذه‬ ‫الجماعة األصولية أو تلك أوالً‪ ،‬وباأليديولوجية التي تتبناها‬

‫وهذه األخيرة على سوئها ووحشيتها‪ ،‬ليست أسوأ مظاهر‬

‫‪.‬‬

‫يعتقدون بإمكان العودة بالزمن أو دحرجته إلى الوراء يتعلق‬

‫أسوأ مظاهر األصولية الدينية‪ ،‬إال إذا سلمنا رؤوسنا لإلعالم‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫دوما‪ ،‬بغاياته أو “رسالته”‪ ،‬على‬ ‫الموجه‪ ،‬واإلعالم موجه‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ثالثا والطابع السلفي لجميع األصوليات‪،‬‬ ‫ثانيا‪ ،‬وبإرادة السلطة‬

‫فكرة مثالية ومقولة أيديولوجية‪ ،‬بخالف الالمباالة‪ ،‬وبخالف‬

‫القترانهما بتفاوت اجتماعي صارخ‪ ،‬وآليات ظالمة لالصطفاء‬

‫‪.‬‬

‫األقل‪ ،‬عالوة على مصادر تمويله وأهداف مموّ ليه الحياد‬

‫االستقالل الذاتي‪ ،‬بالمعنى الكانتي‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫لقد اقترح الدكتور العظمة بعض المعايير التي تساعد على‬

‫‪.‬‬

‫في أيامنا‪ ،‬يعني النكوص عن التمدن واالنتقام من الحداثة‪،‬‬

‫االجتماعي والتهميش الثقافي والسياسي‪ ،‬وسيطرة شبه تامة‬


‫حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة‬

‫‪.‬‬

‫صفوان داحول‬

‫من الالمكان وحازت على المكان كله صحيح أنها احتلت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أساسا‪ ،‬ذلك ألن أصولية “المركز‪″‬‬ ‫هامشا‬ ‫ولكنها احتلت ما كان‬

‫‪.‬‬

‫أمرُّ وأدهى وما دام الحديث يدور حول سوريا‪ ،‬فاألصولية‬ ‫َّ‬ ‫المركبة للسلطة وأيديولوجيتها القومية وسياساتها الوحشية‪،‬‬

‫كانت وال تزال من أبرز شروط إمكان األصولية اإلسالمية‪،‬‬ ‫وشروط اندفاعها على النحو الذي نرى فقد َّ‬ ‫وثقت الشبكة‬

‫‪.‬‬

‫السورية لحقوق اإلنسان معظم الجرائم التي ارتكبتها السلطة‬

‫وبينت‬ ‫والجماعات المقاتلة األخرى في خالل الحرب الدائرة‪ّ ،‬‬

‫أن نسبة الجرائم التي ارتكبتها السلطة والميليشيات التابعة‬

‫لها والمقاتلة إلى جانبها تراوح بين ‪ 91‬و‪ 98‬بالمئة من مجموع‬ ‫ً‬ ‫لماما‬ ‫الجرائم الموثقة‪ ،‬وهذا ما لم يلتفت إليه العظمة إال‬

‫‪.‬‬

‫ونسب‬ ‫وإلى ذلك نستهجن اعتبار اإلسالم مشكلة عالمية‬ ‫ْ‬

‫اإلرهاب إليه‪ ،‬ال إلى جماعات اإلسالم السياسي‪ ،‬بعضها أو‬ ‫ً‬ ‫نابعا من‬ ‫نس َبه إلى أي دين آخر‪ ،‬واعتباره‬ ‫كلها كما نستهجن ْ‬

‫‪.‬‬

‫النصوص التأسيسية لهذا الدين أو ذاك‪ ،،‬وتحميل الدين وزر‬

‫ً‬ ‫منضبطا أشد ما‬ ‫على الجسد االجتماعي‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬لجعله‬

‫الجرائم التي يقترفها مسلمون أو مسيحيون أو يهود أو غير‬ ‫ذلك‪ ،‬ونستغرب قوله “بدالً من أن يكون اإلسالم‪ ،‬كما يحلو‬

‫غيرنا‪ ،‬ما يستوجب نقد التمدن المبتور والحداثة الناقصة‪ ،‬ال‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫نقد ضحاياهما‪ ،‬فالنجاح والتقدم يستحقان النقد‬

‫أنفسنا اليوم وبعد عقدين من الغلوّ والتمدد العالميين في‬

‫يكون االنضباط‪ ،‬وقد بلغت هذه السيطرة ذروتها في النظم‬ ‫النازية والفاشية والستالينية وفي التسلطية عندنا وعند‬

‫‪.‬‬

‫يقول العظمة نفسه‪ :‬تقتصر مالحظاتي على التطورات‬

‫التي جرت في القرن المنصرم‪ ،‬وهي ترتبط بشكل ملموس‬ ‫باتجاهات الحداثة‪ ،‬وخاصة صعود طبقة جديدة من‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫جمعيا‪ ،‬نجد‬ ‫بلسما للعالم‪ ،‬وحالً لمشاكله‬ ‫للبعض أن يتصور‪،‬‬

‫وضع أضحت فيه الكثير من ممارسات وتصورات هذا الدين‬ ‫مشاكل في كل مكان‪ ،‬إنه مشكلة للمسلمين ولآلخرين‪ ،‬وبالفعل‬

‫خطر في كل مكان‪ ،‬وهو األمر الذي يتطلب‪ ،‬بشكل واضح‬ ‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬وفيما يتجاوز الخطابية والكالم العاطفي‬ ‫وواضح‬

‫ً‬ ‫والحماسي االعتذاري والتبريري‪ ،‬تدخالً‬ ‫جماعيا” وال ندري ما‬

‫‪.‬‬

‫األنتلجنسيا الحضرية‪ ،‬التي استم ّدت بعض مادتها البشرية من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تاريخيا‪ ،‬وهذا التطوّ ر‬ ‫أيضا على صورة غير مسبوقة‬ ‫األرياف‬

‫نوع التدخل الجماعي المطلوب لدرء هذا “الخطر” الذي يتهدد‬

‫الهوامش‪ ،‬فهي مرتبطة بالعقدين أو الثالثة الماضية‪ ،‬حيث‬

‫ونجادل في قوله “ليس هناك مسلمون قبل عصر الحداثة‬

‫‪.‬‬

‫األخير ّ‬ ‫تم في ستينات القرن العشرين أما مالحظتي حول‬ ‫عملت فيها الهوامش وكأنها مجرّ دة عن المكان‪ :‬إنها موجودة‬ ‫ً‬ ‫فيزيائيا على أطراف المدن‪ ،‬بيد أنها غير منخرطة في المدن‬ ‫ً‬ ‫جدا؛ تتظاهر الضواحي‬ ‫التي تغيرت معالمها على نحو سريع‬

‫والعشوائية بإعادة إنتاج العالقات االجتماعية‬ ‫الهامشية‬ ‫ّ‬ ‫لمناطق المنشأ‪ ،‬ولكن في ظل ظروف مختلفة‪ ،‬وبالتالي‬

‫‪.‬‬

‫فإن قطاع منطقة الطبالة خارج‬ ‫بأساليب وطرق جديدة هكذا‪ّ ،‬‬

‫‪.‬‬

‫دمشق ليس مجرد استنساخ للقرى المسيحية في حوران كما‬ ‫أن تلة عليا في المزة [مزة‪-‬جبل] ليست مجرد قرية تم نقلها‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫من جبل العلويين فيشير بذلك إلى “العوامل المادية‪ ،‬سياسيا‬

‫واقتصاديا واجتماعيا‪ ،‬فضال عن الشروط المحلية والتغيرات‬

‫السياسية الدولية‪ ،‬وأثره هذه العوامل مجتمعة في تحويل‬

‫«الهامشي» إلى فضاء «المركز»‪ ،‬الفضاء‬ ‫األصولية من شرطها‬ ‫ّ‬ ‫الذي تعيش األصولية في كنفه اليوم؟ ويتساءل كيف يمكن‬

‫أن‬ ‫عدمية‬ ‫لمخلوقات‬ ‫أصولية نبتت في جغرافية الالمكان ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحوز على المكان كله؟‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتعلق بالعدالة ومدخلها االعتراف المتبادل‬ ‫لعل المسألة‬ ‫بالكرامة اإلنسانية والجدارة واالستحقاق‪ ،‬قبل الديمقراطية‬

‫‪.‬‬

‫ومن أجلها فال نعتقد أن األصولية التي قصدها العظمة‬ ‫(األصولية اإلسالمية عامة والداعشية منها خاصة) قد تحوّ لت‬ ‫بالفعل من شرطها الهامشي إلى فضاء “المركز‪ ،″‬أو أنها نبتت‬

‫المسلمين أنفسهم وبقية العالم‪.‬‬

‫أو اإلصالح اإلسالمي (الذي يماثل البروتستانتية في نقاطها‬

‫األساسية) قد سعوا إلى استمداد نظام سياسي من القرآن”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫“نصوصا من القرآن قد استخدمت‬ ‫ونرى أن استدراكه بأن‬ ‫ً‬ ‫دوما للجدال في كل أنواع المسائل‪ ،‬وإلضفاء الشرعية على‬ ‫هذه الحجة أو تلك في السياسة وفي غير السياسة” ال ينفي‬ ‫حكمه القطعي السابق‪ ،‬ويثير إشكالية الفرق بين النظام‬

‫السياسي ونظام الحكم‪ ،‬إذ األول هو صورة الحياة العامة أو‬

‫النوعية للمجتمع المعني‪ ،‬صورة سياسية وقانونية وأخالقية‪،‬‬ ‫أما الثاني‪ ،‬أي نظام الحكم فهو الطريقة التي تدار بها الشؤون‬ ‫العامة والمبادئ النظرية والعملية التي تقوم عليها هذه‬ ‫ً‬ ‫أيضا في أن “أول من قام بذلك‪ ،‬أي باستالل‬ ‫اإلدارة ونجادل‬

‫‪.‬‬

‫نظرية سياسية ونموذج سياسي من القرآن بشكل منهجي‬

‫كان سيد قطب”‪ ،‬إذ يرى بعضهم أن سيد قطب تأثر بكل من‬ ‫ً‬ ‫وجها للمقارنة بين سيد قطب‬ ‫المودودي‪ ،‬والندوي‪ ،‬وال نرى‬ ‫ّ‬ ‫(المتوفى عام ‪“ ،)1704‬واعظ الملك‬ ‫واألسقف بوسويه ‪Bossuet‬‬ ‫ً‬ ‫انطالقا‬ ‫لويس الرابع عشر‪ ،‬وباني نظرية الحق اإللهي للملوك‬ ‫من األناجيل في عصر اإلصالح الكاثوليكي”‪ ،‬ألن سيد قطب‬ ‫ً‬ ‫مناهضا للويس الرابع عشر المصري‪ ،‬جمال عبدالناصر‪،‬‬ ‫كان‬

‫وقد كان عبدالناصر في نظر أغلبية المصريين وأغلبية العرب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫“شعبا في رجل”‪ ،‬على نحو ما وُ صف‬ ‫بمن فيهم المثقفون‪،‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪93‬‬


‫سجال‬

‫‪.‬‬

‫لويس الرابع عشر‪ ،‬ومن وصفه هو بوسيه‪ ،‬على ما أظن وإلى‬ ‫ّ‬ ‫منظر ما سماه “الدولة المدنية”‪ ،‬إذ رأى‬ ‫ذلك كان سيد قطب‬

‫أن دولة الرسول‪ ،‬ثم الخالفة اإلسالمية لم تكن دولة دينية‪،‬‬

‫ولم يتجاوز مفهوم الشورى‪ ،‬الذي يعتبره كثيرون أساس‬

‫“الديمقراطية في اإلسالم”‪.‬‬

‫واألكثر مدعاة لالستهجان قول العظمة بصيغة تقريرية‬

‫“إن العديد من هذه الجماعات‪ ،‬أي المافيات وعصابات‬ ‫قطعية ّ‬

‫التهريب واالتجار بالمخدرات (وربّما كلها)‪ ،‬بما في ذلك‬ ‫الجماعات اإلسالمية‪ ،‬لها أو كان لها اتصال مع الـ “سي آي إيه”‪،‬‬ ‫أو على األقل بعض األجهزة السرية األخرى التي عملت بمثابة‬

‫‪.‬‬

‫داعم أساسي ولوجيستي لها لكل فاعليات هذه الجماعات‬

‫‪.‬‬

‫أسس اقتصاديّ ة واضحة وأساسية” وينم استدراكه (وربما‬

‫‪..‬‬

‫كلها) و(أو على األقل بعض اإلجهزة السرية ) على الظن‬ ‫والتخمين‪ ،‬وهما ظن وتخمين شائعان‪ ،‬يرقيان لدى كثيرين‬

‫‪.‬‬

‫إلى اليقين‪ ،‬ويتصالن بما يسمى “نظرية المؤامرة” وهذا‬

‫المركزية مقترنة‬

‫باألصولية الدينية‬

‫ال ينفي تقاطع المصالح‪ ،‬وال ينفي احتمال أن يكون ما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وواقعيا‪ ،‬ولكن االحتمال‬ ‫صحيحا‬ ‫ذهب إليه العظمة‬ ‫ً‬ ‫يظل احتماالً والظن يظل ظنا حتى يُ قطع باليقين‬

‫واألصولية العلمانية‬

‫الشاملة‪ ،‬إن لم نقل‬

‫اإلسالم السياسي وبين الجماعات غير الرسمية‬

‫منه ولكن الفروق الجوهرية بين جماعات‬

‫وغير القانونية التي وصفها العظمة تجعل‬

‫باالستبداد‪ ،‬وتتصل بأكثر‬

‫ذكورية خالصة‬

‫‪.‬‬

‫ومستوحشة‪ ،‬على نحو جمعي” نفهم من التعددية الثقافية‬ ‫ألي ثقافة أن تعتبر نفسها وأن يعتبرها أهلها ثقافة‬ ‫أنه ال يحق ّ‬ ‫معيارية‪ُ ،‬تفرض على الجماعات الثقافية المختلفة‪ ،‬وهذا مما‬

‫ً‬ ‫كثيرا من التوترات اإلثنية والدينية والمذهبية‬ ‫يولد‪ ،‬وقد ولد‬ ‫ّ‬ ‫واأليديولوجية‪ ،‬ويولد الطائفية حينما يقترن بسياسات‬

‫‪.‬‬

‫حصرية وإقصائية وفي مجال العقائد الدينية‪ ،‬تضفي‬

‫األكثرية الدينية أو المذهبية على عقيدتها قيمة معيارية‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫إذ الكسر أدنى قيمة من العدد الصحيح‪ ،‬الكامل هنا يحسن‬ ‫واإلسالم روحها‪ ،‬أو مقولة “ال تنهض األمة إال بجناحيها‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫العروبة واإلسالم” تندرج هاتان المقولتان في ما سميناه‬

‫‪.‬‬

‫“األصولية المركبة”‪ ،‬التي أنتجت أصوليات مضادة بيد أن‬

‫األهم من هذا كله أن المركزية مقترنة باألصولية الدينية‬ ‫ً‬ ‫اقترانا ال فكاك له‪ ،‬ومقترنة بالسيطرة‬ ‫واألصولية العلمانية‬

‫المقارنة تعسفية‪ ،‬وال تساعد في فهم الجماعات‬ ‫اإلسالمية فضالً عن تفهمها‬

‫مركزية الذات الفردية والجمعية‪ ،‬عالوة على كونها ذكورية‬

‫العظمة هوية الجماعات الجهادية‪ ،‬ومنها داعش‪،‬‬

‫ال ندري لمَ أرجأ العظمة الحديث عن األيديولوجيا‪ ،‬ثم أحجم‬

‫‪.‬‬

‫وال تتسق أطروحة الالمكان التي حدد بها‬

‫الشاملة‪ ،‬إن لم نقل باالستبداد‪ ،‬وتتصل بأكثر من سبب بوهم‬

‫خالصة‪.‬‬

‫مع الزوجين المفهوميين المتقابلين‪ :‬الرسمي‪/‬‬

‫عنه‪ ،‬إذ األصولية منظومة أو نظيمة أيديولوجية أو ال تكون‪.‬‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬بل أمكنة‪ ،‬ونفضل مجاالت‪،‬‬ ‫مكانان أو زمكانان‬

‫على حشد الريفيين المحتاجين إلى خالص وتعبئتهم‪،‬‬

‫الالرسمي‬

‫والمركز‪/‬الهامش‪.‬‬

‫الالرسمي‬

‫والهامش‬

‫لها بناها المعمارية (الهندسية) وخصائصها االجتماعية‬

‫والثقافية‪ ،‬ولعل وصف بعض هذه األمكنة بالعشوائيات‬

‫بالغ الحصافة‪ ،‬فهي مرايا الرسمي ومرايا المركز‪ ،‬وتحمل‬

‫وهذا سر من أسرار نشوئها في المدن والحواضر‪ ،‬وقدرتها‬

‫وسرّ من أسرار انبثاقها من أوساط “البورجوازية الوسطى”‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫علمانيا‪ ،‬وتحالفها مع فئات‬ ‫جيدا‪ ،‬دينيا و‪/‬أو‬ ‫المتعلمة تعليما‬ ‫من “البورجوازية العليا” وال سيما التجارية منها‪ ،‬وهذه‬

‫تقويضهما‪.‬‬

‫أقل حداثة من البورجوازية الصناعية‪ ،‬إذا كان ال بد من‬

‫والديمقراطية تنتمي إلى مجال الالرسمي ومجال الهامشي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المرخص له وغير‬ ‫إذا فهمنا من الالرسمي‪ ،‬الالقانوني أو غير‬ ‫ً‬ ‫رسميا ال نتعامل مع هذه األطروحة‬ ‫المُ شهر والمعترف به‬

‫التاريخ والتراث وأدلجة المأثور الديني وإنتاج خطابات‬

‫تاريخية‪-‬سياسية منها وحشد الريفيين وفقراء المدن‬

‫متخيل يراد للوطن‬ ‫المفارقة‪ ،‬نعني تحويل العقيدة إلى وطن‬ ‫َّ‬

‫المسيسة بعضهم ببعض‪ ،‬ومن أهم‬ ‫أفراد الجماعات األصولية‬ ‫َّ‬

‫إمكان خلخلة الرسمي والمركز وتغييرهما أو‬

‫نشير إلى أن المعارضة السورية‪ ،‬التي تصف نفسها بالعلمانية‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫سجاليا‪ ،‬بل نريد أن نشير إلى واقعة عيانية‪ ،‬هي أقرب إلى‬

‫‪.‬‬

‫الواقعي أن يكون مثله‪ ،‬بل أن يكون هو هو لقد استوطن‬

‫‪.‬‬

‫استعمال هذه المصطلحات “النخبة” المدينية أو الحضرية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫علمانيا وحدها تستطيع أدلجة‬ ‫دينيا أو‬ ‫تعليما‬ ‫المتعلمة‬

‫‪.‬‬

‫حولها األيديولوجيا وإرادة السلطة هما من أهم ما يربط‬

‫ما يميزهم من غيرهم‪ ،‬وفق مبدأ الوالء والبراء‪ ،‬ومن أهم‬

‫شروط انبثاق الطائفية‪.‬‬

‫فلسطينيو الشتات عقيدة التحرير والنضال أو الجهاد في‬ ‫ً‬ ‫مكانا ذا مدى عالمي‪ ،‬تتصادى فيه‬ ‫سبيله‪ ،‬فغدت العقيدة‬

‫الالفت أن العظمة ال يوافق على مشاركة “األحزاب” اإلسالمية‬

‫المؤسسات مثلما استوطن األمميون البروليتاريون العقيدة‬

‫صندوق االقتراع هو الذي يحكم بين األحزاب المختلفة‪،‬‬

‫أصوات القادة والمناضلين والمثقفين والسياسيين وأنشطة‬

‫‪.‬‬

‫‪94‬‬

‫في الخطاب والتعبئة إلى نتائج ‘التعددية الثقافية األوروبية’‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تصورا عن الذات باعتبارها متفرّ دة ومتوحدة‬ ‫وهي تمثل‬

‫سلك المافيات والعصابات التي تتاجر بالمخدرات‬

‫ومقترنة بالسيطرة‬

‫عالوة على كونها‬

‫يرى أن “الجيوش الخاصة التي قدمت من الالمكان‪ ،‬في العالم‬ ‫ً‬ ‫أيضا في الوس أو الكونغو أو كولومبيا‪ ،‬تستند‬ ‫العربي كما‬

‫التأمل في مقولة القوميين من العرب‪ :‬العروبة مادة اإلسالم‬

‫اإلسالمية يمكن أن تقوم بذلك وبما هو أسوأ‬

‫الذات الفردية والجمعية‪،‬‬

‫بالمركزية‪ ،‬على اختالف صفاتها‪ ،‬ومنها المركزية الثقافية‪ ،‬إذ‬

‫‪.‬‬

‫أو األلماس أو غيرها‪ ،‬مع أن بعض الجماعات‬

‫من سبب بوهم مركزية‬

‫يخيل للقارئ أن العظمة مولع‬ ‫في سياق المركز والهامش‬ ‫ّ‬

‫يوصف بموجبها أتباع الديانات والمذاهب األخرى بأنهم‬ ‫“أقليات” أو بأنهم ُ‬ ‫“كسور األمة”‪ ،‬بالمعنيين الرياضي والمجازي‪،‬‬

‫ولعله من التعسف سلك الجماعات اإلسالمية في‬

‫ً‬ ‫اقترانا ال فكاك له‪،‬‬

‫الماركسية – اللينينية أو الماوية‪ ،‬ومثلما تستوطن الجماعات‬

‫اإلسالمية “اإلسالم” على اعتباره رسالة إلى البشر كافة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬خرائط ديمغرافية وجيوسياسية‪.‬‬ ‫العقائد ترسم خرائط‬

‫في الحياة السياسية والمباريات االنتخابية‪ ،‬وأن يكون‬


‫حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة‬

‫‪.‬‬

‫الجماعات اإلسالمية‪ ،‬على اختالفها‪ ،‬على أنها أشخاص‬

‫أمّ ا عن دعوة العظمة إلى لغة جديدة للقبض على الظاهرات‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن الغموض والتبسيط‪ ،‬فهي دعوة حميدة‪،‬‬ ‫الجديدة‪،‬‬

‫وسياسية مساوية لغيرها من األحزاب السياسية‪ ،‬ما لم تكن‬

‫األصولية اإلسالمية‪ :‬اتجاه محمد عبده و”حلقته المباشرة”‪،‬‬

‫ومنها “األحزاب” الدينية هذا يعني بالضبط أنه ال ينظر إلى‬

‫وقوى اجتماعية سياسية قانونية لها وألفرادها حقوق مدنية‬ ‫محظورة بموجب دستور هو عقد اجتماعي سياسي وأخالقي‪،‬‬

‫ال شبه دستور‪ ،‬كالدستور السوري‪ ،‬بل ينظر إليها على أنها بنى‬

‫لكننا لم نر أثرها في الحديث عن االتجاهين الرئيسين في‬

‫ثم مؤسسة األزهر‪ ،‬وال سيما في العهد النصري‪ ،‬وهو اتجاه‬ ‫وصف باإلصالحي ُ‬ ‫وشبِّه باإلصالح اللوثري‪ ،‬واالتجاه الذي‬

‫العالم‪.‬‬

‫أسسه رشيد رضا وأكمله سيد قطب‪ ،‬وقد يمتد إلى بن الدن‬ ‫ّ‬

‫الحكومات الغربية واألميركية ودول الخليج أو عدم رغبتها‬

‫المثقفين العرب إن لم نقل كلهم‪ ،‬من دون اإلشارة إلى أن هذين‬

‫جوهرانية وشيطانية خطرة على المسلمين وبقية‬

‫والمعيار الذي يعتمده في هذا الحكم هو‪ ،‬بكل أسف‪ ،‬رغبة‬

‫‪.‬‬

‫في ذلك فالحكومات الغربية‪ ،‬كما‬

‫‪..‬‬

‫والظواهري والزرقاوي والبغدادي فهذا مما درج عليه معظم‬ ‫االتجاهين كليهما انبثقا من إصالحية‬

‫‪.‬‬

‫يقول‪ ،‬باتت “تشعر (كما هو حال بعض‬ ‫الدول الخليجية) أنها قد ُلدغت من‬ ‫المخلوقات السياسية التي جعلوها‬ ‫ً‬ ‫ممكنة وقاموا برعايتها” وهو معيار‬

‫‪.‬‬

‫فاسد من جميع الوجوه‪ ،‬ويتصل‬

‫بشبهة ارتباط الجماعات اإلسالمية‬ ‫بالمخابرات األميركية أو غيرها‪ ،‬وهذا‬

‫مما يحتاج إلى البرهنة عليه‪.‬‬

‫محمد عبده وسلفيته ولعل جدال‬

‫محمد عبده مع رينان يكشف عن‬

‫حدود إصالحية عبده‪ ،‬التي يتطلع‬

‫لم أرجأ العظمة‬ ‫ال ندري َ‬

‫الجهادية المتطرفة إلى جماعات‬

‫أيديولوجية أو ال تكون‪.‬‬

‫سياسية‬

‫تقبل‬

‫معتدلة‪،‬‬

‫الديمقراطية‪ ،‬وتشارك فيها‪ ،‬من دون‬ ‫أن تنتفي إمكانية االنقضاض على‬

‫السلطة واالستئثار بها‪ ،‬كما حدث في‬ ‫مصر‪ ،‬وهذه اإلمكانية ليست مقصورة‬ ‫على اإلسالميين‪ ،‬والقرائن على ذلك‬

‫‪.‬‬

‫أكثر من أن تحصى المشاركة غير‬

‫المحاصصة‬

‫والتقاسم‬

‫والتناهب؛‬

‫“الدولة القومية”‪.‬‬

‫ً‬ ‫أخيرا‪ ،‬يبدو أن تحليل ما يحدث في‬

‫ثم أحجم عنه‪ ،‬إذ األصولية‬

‫في ظروف محلية وإقليمية ودولية‬

‫باللعبة‬

‫إلى إعادة إنتاجها‪ ،‬بعد أن تبين إخفاق‬

‫الحديث عن األيديولوجيا‪،‬‬ ‫منظومة أو نظيمة‬

‫مناسبة يمكن أن تتحول الجماعات‬

‫بعض كبار المفكرين العرب العلمانيين‬

‫سوريا يقتصر أو يكاد يقتصر على‬

‫إرهاب “تنظيم “الدولة اإلسالمية في‬

‫العراق والشام” (داعش) وممارساته‬

‫الوحشية‪،‬‬

‫وصعود‬

‫األصولية‬

‫اإلسالمية السنية ومخاطرها الراهنة‬

‫وهذا سر من أسرار نشوئها‬

‫والمستقبلية‪ ،‬وال سيما التربية على‬

‫في المدن والحواضر‪،‬‬

‫التوحش‪ ،‬و”إدارة التوحش”‪ ،‬حسب‬

‫وقدرتها على حشد‬

‫شبهه جهاد الزين بكتاب لينين “ما‬

‫كتيب منسوب ألبي بكر ناجي‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫الريفيين المحتاجين إلى‬

‫العمل” فما حدث في سوريا‪ ،‬في نظر‬

‫وسر من‬ ‫خالص وتعبئتهم‪،‬‬ ‫ّ‬

‫أهلية”‪ ،‬وهذا ما ينقضه‬ ‫إلى حروب‬ ‫ّ‬

‫العظمة‪ ،‬ال يعدو كونه “تحول الحراك‬

‫األولى تنتج من عقد اجتماعي بين‬

‫أسرار انبثاقها من أوساط‬

‫هي الدستور‪ ،‬الذي تضعه جمعية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صحيحا‪،‬‬ ‫انتخابا‬ ‫تأسيسية منتخبة‬

‫“البورجوازية الوسطى”‬

‫والواعدين من المجموعات الشبابية‪،‬‬

‫ً‬ ‫جيدا‪ ،‬دينيا‬ ‫المتعلمة تعليما‬

‫ممن كانت لديهم المقدرة على القيادة‬

‫ً‬ ‫علمانيا‬ ‫و‪/‬أو‬

‫والعمل على إنتاج تماسك سياسي‬

‫ومعنوي وطني شامل ومنظور واسع‬ ‫للحراك‪ ،‬قد تم التخلص منهم قتالً‬ ‫أو اعتقاال أو هجرة‪ :‬أوالً‪ ،‬من قبل‬

‫أفراد حرائر وأحرار‪ ،‬صيغته القانونية‬

‫وصيغته العملية أو اإلجرائية هي‬ ‫االنتخابات‪،‬‬

‫والثانية‬

‫بين‬

‫تواطؤ‬

‫جماعات مغلقة على سلم مؤقت‬ ‫َّ‬ ‫وملغم هو هدنة بين حربين إن‬

‫‪.‬‬

‫قول العظمة نفسه إن “الكثير من‬

‫العناصر الشبابية المتعلمة‪ ،‬المستقلين‬

‫وتحسين قواعدها‪ ،‬وإطالق تنافسية حرة ال بديل منها‬

‫ً‬ ‫والحقا‪ ،‬من قبل‬ ‫قوات أمن النظام‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫القوى الجهادية التي حلت محل‬ ‫هذه المجموعات الشبابية وفتكت بما ّ‬ ‫تبقى منها أو امتصت‬

‫سوريا بعد توقف القتال‪ ،‬بحكم األوضاع المعقدة التي أنتجتها‬

‫ومن شاركوا فيه هذا المصير‪ ،‬وهم مئات اآلالف‪ ،‬بل آالفها‪،‬‬

‫ّ‬ ‫واطرادها كفيالن‬ ‫دورية االنتخابات‬ ‫بتحسين شروط اللعبة السياسية‬

‫‪.‬‬

‫لتحوالت ديمقراطية راسخة ال ننفي إمكانية المحاصصة في‬ ‫الحرب والمداخالت اإلقليمية والدولية وتضارب المصالح‬

‫واألهداف‪ ،‬كما هي الحال في لبنان والعراق‪ ،‬ولكننا ال ننفي‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ووضع البالد على سكة إعادة اإلعمار‪،‬‬ ‫إمكانية المشاركة‬ ‫بجميع منطوياتها واستحقاقاتها‪ ،‬وفي مقدمها المصالحة‬

‫الوطنية والعدالة االنتقالية‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫القليل من بقاياها” فإذا كان مصير قادة الحراك ونشطائه‬

‫‪.‬‬

‫فإن الحراك لم يتحول إلى “حروب أهلية” تحتاج المسألة إلى‬

‫مزيد من الدرس والبحث والنقاش‬

‫مفكر من سوريا‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪95‬‬


‫سجال‬

‫عزيز العظمة وأطروحته األصولية‬

‫اضطراب الواقع‬ ‫وتشوش التفكير‬ ‫ما لفت انتباهي في‬

‫قاسم المحبشي‬

‫أطروحات السيد عزيز‬ ‫العظمة هو خلوها من‬

‫األدوات المنهجية‬

‫الجديدة التي طورها‬

‫علماء السوسيولوجيا‬ ‫واإلنسانيات في‬

‫السنوات القليلة‬

‫الماضية في الدراسات‬

‫بداية أشكر “الجديد” وأسرة تحريرها على هذه الفرصة للحوار مع المفكر السوري المخضرم عزيز العظمة الذي‬

‫استضافته المجلة في ملفها المكرس للبحث في إشكالية “تحرير العقل” والذي استهلته بالحوار معه في مشكلة‬

‫الثقافية والنقد الثقافي‬

‫“األصولية والحداثة وانفجار المجتمعات” وقد استهلته المجلة بمقدمة تعريفية بالعظمة وانشغاالته الفكرية‬

‫والحضارة والمدنية‬

‫الصحيح القول إن أهمية مسألة من المسائل تكمن في ذلك الوقيد االنفعالي المستعر بشأنها فمن المؤكد أن سؤال‬

‫ومنها مفاهيم‪ :‬التاريخ‬

‫والهيمنة وعالقات‬

‫القوة والتقليد والحداثة‬

‫والبطريركية والهوية‬

‫واستراتيجيات الهيمنة‬ ‫والعدالة واإلنصاف‬

‫واالعتراف والسياق‬

‫والعولمة وما بعد‬

‫الكولنيالية والهابتوس‬ ‫‪.‬وغير ذلك من مفاهيم‬

‫مفتاحية أثبتت‬

‫جدارتها المنهجية في‬

‫فهم وتفسير كثير من‬

‫المشكالت االجتماعية‬

‫كتلك التي يعالجها هذا‬ ‫الحوار‪.‬‬

‫“بقراءة الحركات اإلسالمية ونقدها”‪ .‬وهي معضلة بالغة األهمية والخطورة باتت تشغلنا جميعا‪ ،‬وإذا كان من‬ ‫تحرير العقل العربي لم يعد من قبيل الترف الفكري والتأمل الفلسفي؛ بل بات ينطوي على أهمية حيوية وضرورة‬

‫وجودية لحياة مجتمعاتنا العربية في مأساتها الكارثية الراهنة‪.‬‬

‫ربما‬

‫كان هذا الحوار الخصيب قد المس الجرح النازف‬ ‫ً‬ ‫أفاقا مغايرة للرؤية المتبصرة لما آل إليه‬ ‫وف ّتح‬

‫المجتمع العربي اإلسالمي يتحول إلى شر مستطير‪ ،‬بينما هو‬

‫واهتمام ووجدت في نفسي الرغبة للتداخل مع ما طرحه‬

‫كما هو الحال في الهند والصين وروسيا وأميركا وأثيوبيا‬

‫‪.‬‬

‫وضعنا هنا واآلن وهذا ما حفزني لقراءة الحوار بحماسة‬

‫األستاذ عزيز العظمة من قضايا إشكالية بالغة الحساسية‬ ‫تحفز إلى المزيد من القراءة والنقاش والنقد والتقييم الذي‬

‫‪.‬‬

‫تستحقه فما الذي قاله األستاذ عزيز في حواره؟‬

‫المشكلة المحورية التي استدعت هذا الحوار هي‪:‬‬

‫كيف يمكن قراءة وتفسير المشهد العربي الراهن بما يعيشه‬ ‫من أحداث دامية وحروب مستعرة وما الذي يفسر انبعاث هذه‬

‫الموجة الكاسحة من خطابات الهويات األصولية التي أخذت‬

‫تشيع في المجتمعات العربية اإلسالمية اليوم على نحو خطير‬ ‫ومثير للحيرة والفزع؟ حروب دينية طائفية عشائرية جهوية‬

‫سياسية مستعرة في كل مكان (مسيحية‪ ،‬قبطية‪ ،‬إسالمية‬

‫‪.‬‬

‫في مصر وشيعية‪ ،‬سنيه مسيحية‪ ،‬عربية كردية‪ ،‬في العراق‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫وسوريا ومسيحية‪ ،‬شيعية‪ ،‬سنية‪ ،‬درزية‪ ،‬في لبنان وزيديه‪،‬‬ ‫حوثية‪ ،‬اثنا عشرية‪ ،‬سنية‪ ،‬سلفية‪ ،‬عشائرية‪ ،‬جهوية في‬

‫اليمن‪ ،‬ولغوية أثنية عربية‪ ،‬أمازيغية بربرية إسالمية في‬ ‫الجزائر‪ ،‬ومسيحية إسالمية‪ ،‬جهوية في السودان‪ ،‬وعشائرية‬

‫‪..‬‬

‫طائفية مناطقية في ليبيا الخ) يحتدم كل هذا في فضاء‬ ‫ثقافي نفسي مشحون بعنف مادي ورمزي‪ ،‬وهستيريا عصابية‬

‫جماعية عدائية شديدة التحريض واالنفجار( دواعش روافض‪،‬‬ ‫نواصب خوارج‪ ،‬مجوسية‪ ،‬صفوية‪ ،‬قاعدة‪ ،‬أنصار الشريعة‪،‬‬

‫‪..‬‬

‫‪.‬‬

‫شيعية‪ ،‬حزب الله‪ ،‬أنصار الله‪ ،‬داعش والنصرة إلخ) والسؤال‬

‫‪96‬‬

‫الملح هنا واآلن هو ما الذي جعل هذا التنوع الهوياتي في‬ ‫في مجتمعات كثيرة أخرى مصدر قوة ودليل صحة وعافية‬

‫وغيرها من الدول التي تضم طيفا واسعا من الهويات (ديانات‪،‬‬ ‫أقليات‪ ،‬أعراق‪ ،‬إثنيات‪ ،‬لغات‪ ،‬طوائف‪ ،‬ملل‪ ،‬نحل‪ ،‬ومذاهب‬

‫‪.‬‬

‫وما ال يعد وال يحصى من الجماعات الثقافية المتنوعة)‬ ‫ً‬ ‫مبتدئا بسؤال عن “الصعود األصولي”‬ ‫تضمّ ن الحوار (‪ )15‬سؤاال‬ ‫ً‬ ‫ومنتهيا بسؤال عن “اليمين الديني األميركي” ولمقتضيات‬ ‫هذه المقاربة سوف نحاول النظر إلى الحوار في بعديه‬

‫النظري المنهجي والوصفي الواقعي‪.‬‬

‫أوال‪ :‬على الصعيد النظري المنهجي‪:‬‬

‫ربما كانت المشكلة المنهجية في صميم العلوم االجتماعية‬

‫واإلنسانية تكمن في ذلك االلتباس القائم بين الرائي وما‬ ‫يراه‪ ،‬بين الذات التي ترى وموضوع الرؤية‪ ،‬إذ أنه من الصعب‬

‫‪.‬‬

‫الفصل بين الذات الراصدة والهابتوس الخاص بها والسؤال‬ ‫هو “كيف يمكننا إنجاز خطاب إبستيمولوجي في موضوع‬

‫سيوسولوجي دائم الحركة والتحول والتغير والتبدل‪ ،‬شأن‬

‫جميع الظواهر االجتماعية؟” إذ أن الباحث في هذا الحال‬

‫يكون جزءا من الظاهرة المراد بحثها‪ ،‬بما تمارسه من تأثير‬ ‫مباشر أو غير مباشر في حياته وحياة جميع أفراد مجتمعه‪،‬‬ ‫“تلك الحياة التي نمنحها تسعة أعشار من وقتنا الذي نعيشه‬

‫في عالمنا الواقعي المعيشي الفوري‪ ،‬بال ماض وال مستقبل‪،‬‬ ‫والتي تشكل فعالً عصب الجسد االجتماعي برمته أي “الحياة‬


‫حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة‬

‫صفوان داحول‬ ‫بال مزايا” التي يسميها عالم االجتماع جلبر دوران “بالجو‬

‫الخانق”‪.‬‬

‫مصطلح (الالمكان) الذي حاول استعماله أداة منهجية في‬

‫في هذا السياق يمكن النظر إلى مقاربة األستاذ عزيز العظمة‬

‫تفسير ظاهرة الحركات األصولية بقوله “ليست هذه الحركة‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫غالبا بالعنوة‪ ،‬بل هي‬ ‫مجرد جيوب م ّتصلة فحسب‪ ،‬أخذت‬

‫المشتعلة في سوريا والعراق ولم يستطع التحرر من آثارها‬

‫تقوم ببناء عالقات محلية‪ ،‬وهي عالقات‪ ،‬بحكم طبيعة‬

‫إذ جاءت إجاباته على أسئلة المجلة تحت ضغط األحداث‬ ‫الحسية وآثارها االنفعالية‪ ،‬وبقدر ما يتعاظم الجزع الذي‬ ‫تحدثه ظاهرة من الظواهر يبدو معها المرء أقل قدرة على‬

‫مالحظتها بشكل صحيح والتفكير فيها بشكل موضوعي‬

‫وإعداد الطرق المالئمة لوصفها ومراقبتها وتفسيرها وفهمها‬

‫وتوقع مآالتها بقدر من التجرد والموضوعية بما يؤمّ ن ح ّدا‬ ‫أدنى من الصدق واألمانة والنزاهة واإلنصاف في معرفة‬

‫‪.‬‬

‫تنشأ من الالمكان وتصدر عنه‪ ،‬هذا رغم أنها حينما تتشكل‬

‫األشياء‪ ،‬هشة وغير مستقرة؛ وهذا يعود‪ ،‬ليس أقله‪ ،‬بسبب‬ ‫أن هؤالء الدواعش آتون من الالمكان” غير أنه لم يقل لنا ماذا‬ ‫ّ‬ ‫يعني بهذا (الالمكان) وعلى األغلب أنه يقصد به من خارج‬

‫التاريخ كما أظن! أو من خارج الحياة بمعنى أن الفكرة اآلتية‬ ‫من خارج الحياة ال تستطيع أن تنتج حتى فكرة موتها وفي‬

‫هذا تكمن‬

‫خطورتها‪ .‬بحسب روجيس دوبريه‪.‬‬

‫الحقيقة وفهمها‬ ‫ً‬ ‫واضحا من تفسيره لظاهرة صعود األصولية‬ ‫وهذا ما بدا‬

‫“وجود المنظمات ذات البنى التحتية الكبيرة التي تساعدها‬

‫جملة من المصطلحات واألفكار التي تعمي وال تضيء منها‬

‫الفاعلة‪ ،‬المحلية والعربية والدولية” وفي هذا تأكيد قاطع‬

‫الدينية والتنظيمات اإلرهابية مثل داعش وأخواتها مستخدما‬

‫لكنه ما يلبث أن يتناقض مع نفسه حينما يذهب إلى القول‬

‫وتقويها وتش ّد من أزرها مجموعات متنوعة من الجهات‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪97‬‬


‫سجال‬

‫لتجذر المنظمات األصولية في البني التقليدية للمجتمعات‬

‫العربية اإلسالمية أليس هذا هو المعنى المقصود بـ(البنى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صارخا مع فكرة‬ ‫تناقضا‬ ‫التحتية الكبيرة)؟ وهذا يتناقض‬ ‫ً‬ ‫الالمكان التي يرددها األستاذ عزيز كثيرا حتى وهو في‬

‫العقل السياسي”‬

‫وكتابات الفرنسي‬

‫“الدولة والمجتمع في‬

‫الغرب واإلسالم والدولة المستوردة” وروجيه كايوا “اإلنسان‬ ‫والمقدس‪ ،″‬وداريو ششايغان “أوهام الهوية”‪ ،‬بارت آالن “الهوية‬

‫والتمثيل”‪ ،‬وفريد بارت “بناء الهوية”‪ ،‬وجان فرانسو بايار‬

‫السياق المقارن من ذلك زعمه اآلنف “بالرغم من قدوم هذه‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫الجيوش الخاصة من الالمكان‪ ،‬في العالم العربي كما‬

‫“الهوية التواصلية”‪ ،‬وأمارتيا صن “الهوية والعنف”‪ ،‬ورينيه‬

‫متفاوتة في االستمرار والدفاع عن الجيوب والمناطق التي‬

‫وجون إهنبرغ “المجتمع المدني‪ ،‬التاريخ النقدي للفكرة”‪،‬‬

‫في الوس أو الكونغو أو كولومبيا‪ ،‬فإنها قد نجحت بدرجات‬ ‫استقطعتها” أليست هذه اإلحداثيات التي يذكرها أماكن تحمل‬

‫أسماء محددة ؟ فضال عن أن المقارنة التي عقدها هنا بين‬ ‫الحركات اإلرهابية اإلسالمية وغيرها في بلدان أخرى ليست‬ ‫ممكنة البتة بسبب اختالف السياقات التاريخية التي لم يعرها‬

‫اهتماما لألسف الشديد‪.‬‬

‫وهو إذ يخلط بين كلمات (األصولية والتطرف والجهاد‬

‫“أوهام الهوية”‪ ،‬وجون جوزيف “اللغة والهوية”‪ ،‬وهابرمانس‬

‫جيرار “العنف المقدس‪ ،″‬وتيد روبرت غير “لماذا يتمرد البشر؟”‪،‬‬

‫ودانيال هيرفيه ليجية وجان بول ويالم “سوسيولوجيا الدين”‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫هاوارد ج وياردا “المجتمع المدني “النموذج األميركي والتنمية‬ ‫في العالم الثالث”‪ ،‬ودنيس كوش “مفهوم الثقافة في العلوم‬

‫االجتماعية”‪ ،‬وبينديكت أندرسون “الجماعات المتخيلة”‪،‬‬ ‫وجون هيلز واخرون “االستبعاد االجتماعي‪ :‬محاولة للفهم”‪،‬‬

‫وكلود دوبار “أزمة الهويات”‪ ،‬وجيل دولوز “االختالف والتكرار”‪،‬‬

‫واإلرهاب والحركات اإلسالمية أو ما أسماه بـ(اإلسالمية)‬

‫وآدم كوبر “الثقافة‪ :‬التفسير األنثروبولوجي”‪ ،‬ومحمد عابد‬

‫في مكان آخر بقوله “ارتبطت اإلسالمية بشكل عام‬

‫الطائي “نحن واآلخر والهوية”‪ ،‬وكتابات أحمد نسيم برقاوي‬

‫القادمة من الالمكان سرعان ما يتناقض مع هذا القول‬

‫لم يلتفت إلى‬

‫الجابري “مسألة الهوية‪ :‬العروبة واإلسالم والغرب”‪ ،‬وصالح‬

‫الفروق التاريخية في‬

‫مع أشكال معينة من العمليات التربوية وهذه‪ ،‬كما‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬من منتجات التحديث” وال أعلم عن أي‬ ‫قلت‬

‫طرابيشي “هرطقات”‪ ،‬وتوفيق مديني “المجتمع المدني والدولة‬

‫الجهادية في األقطار‬

‫ويمكن تتبع الكم الهائل من التناقضات المنهجية‬

‫ثقافية”‪ ،‬وفتحي التريكي “استراتيجيات الهوية”‪ ،‬وأدونيس‬

‫من ذلك قوله “تعتزل الجماعات الجهادية البشر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبيرا من ‘المهاجرين‬ ‫خليطا‬ ‫وتعزل نفسها‪ ،‬حاوية‬

‫“سلسلة األستراليون العرب”‪ ،‬وشريف يونس “سؤال الهوي‪:‬‬

‫الهوية العربية في ظل العولمة”‪ ،‬وحسن الصفار “الطائفية‬

‫إلى جنب مع المال من الخارج” ص‪ 10‬كيف‬

‫االنتقالية”‪ ،‬وفالح عبد الجبار”في المشكلة الطائفية”‪ ،‬ومايكل‬

‫نشأة الحركات اإلسالمية‬ ‫العربية المختلفة‪ ،‬فضال‬ ‫عن أنه أغفل الحديث‬ ‫وعالقات قوى الهيمنة‬ ‫العالم المعولم‬ ‫ودورها في‬ ‫تأجيج‬ ‫المشكلة‬

‫والشكلية التي حفلت بها إجابات األستاذ عزيز‬

‫ً‬ ‫جنبا‬ ‫والغرباء’‪ ،‬من القفقاس وبريطانيا وماليزيا‬

‫عن العوامل الخارجية‬ ‫العالمية في هذا‬

‫تحديث يتحدث األستاذ هنا؟!‬

‫‪.‬‬

‫يكن أن يستقيم هذا القول المتناقض في ذاته‬

‫الذي يقول (تعتزل الجماعات الجهادية البشر‬

‫وتعزل نفسها) وينتهي بأن هذه الجماعات تحوي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبيرا من ‘المهاجرين والغرباء’‪ ،‬من القفقاس‬ ‫(خليطا‬

‫‪..‬‬

‫وبريطانيا وماليزيا ) أليس هذا (الخليط الكبير) الذي‬

‫تحويه الجماعات هم من البشر أيضا يا أستاذنا الجليل‬ ‫ً‬ ‫منطقيا؟!‬ ‫وهذا ينفي القول بالعزلة واالعتزال‬

‫السياسية في الوطن العربي”‪ ،‬وحسن حنفي “الهوية‪ :‬مفاهيم‬ ‫“الهوية غير المكتملة”‪ ،‬وعلي حمدان “إشكالية الهوية واالنتماء”‪،‬‬

‫بين الدين والسياسة”‪ ،‬وكتاب “الطائفية والتسامح والعدالة‬

‫أنجلوياكوبوتشي “أعداء الحوار أسباب الالتسامح ومظاهره”‪،‬‬

‫وسكوت هيبارد في كتاب “السياسة الدينية والدول العلمانية‪:‬‬ ‫مصر والهند والواليات المتحدة األميركية”‪،‬وغير ذلك من‬

‫سلسلة الدراسات واإلصدارات المتصلة بقضايا الهوية المجتمع‬

‫والسياسة‪.‬‬

‫غير أن ما لفت انتباهي في أطروحات السيد عزيز العظمة‬

‫هو خلوها من األدوات المنهجية الجديدة التي طورها علماء‬

‫وفي سبيل تأصيل وتبرير الرؤية المنهجية واألفق النظري الذي‬

‫السوسيولوجيا واإلنسانيات في السنوات القليلة الماضية‬

‫إلى أنه ينتهج لغة جديدة بقوله “إننا بحاجة إلى لغة جديدة‬

‫والحضارة والمدنية والهيمنة وعالقات القوة والتقليد والحداثة‬

‫اعتمده السيد عزيز العظمة في تفسير موضوعات الحوار ذهب‬ ‫طالما أننا نتعامل اآلن مع ظواهر جديدة‪ ،‬ظواهر اعتبرت‬

‫وكأنها ال تستحق النظر‪ ،‬وكأنها مجرّ د انحرافات عن السويّ ة‪،‬‬ ‫مثل فشل الدولة‪ ،‬والفاعلين السياسيين واالجتماعيين خارج‬

‫‪..‬‬

‫التحليلية‬ ‫نطاق الدولة وبالتالي استعصاؤها على المسارات‬ ‫ّ‬

‫في الدراسات الثقافية والنقد الثقافي ومنها مفاهيم‪ :‬التاريخ‬

‫والبطريركية‬

‫والهوية‬

‫واستراتيجيات‬

‫الهيمنة‬

‫والعدالة‬

‫واإلنصاف واالعتراف والسياق والعولمة وما بعد الكولنيالية‬

‫‪.‬‬

‫والهابتوس وغير ذلك من مفاهيم مفتاحية أثبتت جدارتها‬

‫المنهجية في فهم وتفسير كثير من المشكالت االجتماعية‬

‫الرسميين‪:‬‬ ‫المعتادة والمبتناة على افتراض التنظيم والتمأسس‬ ‫ّ‬

‫كتلك التي يعالجها هذا الحوار‪.‬‬

‫الميليشياويّ ة في وسط أفريقيا” وهذا قول ال ي ّتسق مع‬

‫ربما يفسر عدم قدرته تفسير الشروط والعوامل التاريخية‬

‫ظواهر مثل عصابات المخدرات في كولومبيا أو الجيوش‬ ‫حقائق المعرفة والخبرة المتراكمة في الدراسات االجتماعية‬

‫واإلنسانية التي دأبت على معالجة تلك المشكالت منذ زمن‬ ‫طويل وأنتجت سلسلة غنية من الكتب والبحوث والدراسات‬

‫منها على سبيل المثال ال الحصر كتابات روجيس دوبريه “نقد‬

‫‪98‬‬

‫في “الدولة وفي العرب واأليديولوجيا والتاريخ”‪ ،‬وجورج‬

‫إن غياب المنهج النقدي العقالني في رؤية السيد عزيز‬ ‫والثقافية والسياسية التي كمنت وراء هذا النتائج الفاجعة‬ ‫في لحظة المجتمعات العربية الراهنة إذ جهد إلى ردها إلى‬

‫ما يسمى بـ(ثورات الربيع العربي) ‪ 2011‬م‪ ،‬وفسر بروز ظاهرة‬ ‫التطرف واإلرهاب في سوريا على نحو خاصة بتعثر ثورة‬


‫حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة‬

‫التغيير السورية‪.‬‬

‫والوس‪ ،‬الذهب والماس والمعادن النادرة الثمينة (التي تعتمد‬

‫كما أنه لم يلتفت إلى الفروق التاريخية في نشأة الحركات‬

‫عليها الهواتف المحمولة) في الكونغو ورواندا‪ ،‬هذا إضافة إلى‬

‫عن أنه أغفل الحديث عن العوامل الخارجية وعالقات قوى‬

‫الدوافع السياسية”‪.‬‬

‫اإلسالمية الجهادية في األقطار العربية المختلفة‪ ،‬فضال‬ ‫الهيمنة العالمية في هذا العالم المعولم ودورها في تأجيج‬ ‫المشكلة وأقصد الواليات المتحدة وإسرائيل وروسيا ودول‬ ‫أوروبا الغربية وغيرها‪ ،‬وأنه ألمر مثير للعجب أن يخلو هذا‬

‫الحوار الطويل من ذكر أو إشارة إلسرائيل! وال كيف يمكن‬ ‫تفسير اختفاء إسرائيل من هذا النص المثير في حين أن‬

‫حضورها الفاحش في الواقع والمشهد يفقأ العين؟! وهكذا هو‬ ‫الحال دائما حينما يكون الواقع شديد االضطراب والتشوش‬

‫تكون األفكار مشوشة!‬

‫ثانيا‪ :‬في تشخيص وتوصيف الواقع‬ ‫في‬

‫تشخيصه‬

‫مستهل‬

‫الخوّ ة والغنيمة والفدية‪ ،‬وبالطبع الدعم المالي الخارجي ذا‬

‫وهذا يناقض القول السابق الذي أكد فيه أنها من صناعة‬

‫الدوائر االستخبارية الغربية‪ ،‬وبدال من بحث دور وأثر ثورة‬ ‫الفقيه اإليرانية في استنفار وبعث وتفعيل وتأجيج الهويات‬

‫الطائفية القاتلة في األقطار العربية من منطق جدلية النقيض‬ ‫الذي يخلق نقيضه اكتفى األستاذ عزيز العظمة بإشارة‬

‫وصفية تقريرية للعالقة بين إيران واألسد إذ قال “لعل‬ ‫اإليرانيين راغبون في استكمال ما بدأه حافظ األسد عندما‬

‫التمس موسى الصدر العتبار العلويين شيعة اثنا عشرية‪،‬‬ ‫وتعميم ذلك على قطاعات أوسع من‬ ‫الشعب السوري باسم تصدير الثورة‬

‫لصعود‬

‫اإلسالمية‪ ،‬وربما رغبوا أن يشهدوا‬ ‫ً‬ ‫يوما ما زوجة الرئيس األسد مرتدية‬

‫الجماعات األصولية يقول المفكر‬ ‫“إن‬ ‫العربي السوري عزيز العظمة‬ ‫ّ‬

‫العديد من هذه الجماعات (وربما كلها)‪،‬‬ ‫بما في ذلك الجماعات اإلسالمية‪ ،‬لها‬

‫أو كان لها اتصال مع الـ”سي آي إيه”‪،‬‬ ‫أو على األقل بعض األجهزة السرية‬ ‫األخرى التي عملت بمثابة داعم‬

‫‪.‬‬

‫اكتفى األستاذ عزيز‬

‫التشادور”‪.‬‬

‫على كل حال إنني إذ أعرب عن وجهة‬

‫العظمة بإشارة وصفية‬

‫نظري في بعض ما تضمنه هذا الحوار‬

‫تقريرية للعالقة بين إيران‬

‫الرغبة في المزيد من المعرفة والفهم‬

‫من قضايا إشكالية إنما انطلق من‬

‫أساسي ولوجيستي لها لكل فاعليات‬

‫واألسد إذ قال “لعل‬

‫واضحة وأساسية” ويضيف بعبارة‬

‫اإليرانيين راغبون في‬

‫وقد تكون أنت على صواب‪ ،‬ولكن‬

‫استكمال ما بدأه حافظ‬

‫أوجه الحقيقة المحتملة على الدوام‪،‬‬

‫الجماعات‬

‫هذه‬

‫أسس‬

‫اقتصاديّ ة‬

‫أخرى‪ ،‬لدينا ظواهر نتجت عن‬

‫وضع حيث «الالرسمي» (االقتصاد‬ ‫غير الرسمي أو “األسود”‪ ،‬من خالل‬

‫شبكات المافيات‪ ،‬أو السياسات الال‪-‬‬

‫دستورية ذات الوزن الغالب لألجهزة‬

‫‪.‬‬

‫األمنية) بهذه اللغة شديدة التبسيط‬

‫يوصف ويشخص الظاهرة شديدة‬

‫التعقيد وجوهر المشكلة عنده هو‬ ‫ظهور جماعات خارج األطر (الرسمية‬

‫القانونية للدولة) وهو بذلك يقر منذ‬ ‫ً‬ ‫كيانا‬ ‫البدء بوجود الدولة بوصفها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫للسوي والشاذ ولم‬ ‫رسميا‬ ‫ومعيارا‬ ‫ّ‬ ‫أي دولة يتكلم هنا ال سيما‬ ‫افهم عن ّ‬ ‫ويقارن‬

‫بين‬

‫حاالت‬

‫للود قضية فقد أكون أنا على خطأ‬ ‫والنقاش‬

‫بالحوار‬

‫سوف‬

‫تنكشف‬

‫األسد عندما التمس موسى‬

‫إذ أن الحقيقة مستقلة دائما في آخر‬

‫الصدر العتبار العلويين‬

‫أن أعارض بقدر ما يهمّ ني أن أكون‬

‫‪.‬‬

‫المطاف وفي طلب الحقيقة ال يهمّ ني‬

‫شيعة اثنا عشرية‪ ،‬وتعميم‬

‫على صواب ولو نسبيا‪.‬‬

‫ذلك على قطاعات أوسع‬

‫في معضلة الهويات القاتلة‬

‫من الشعب السوري باسم‬

‫وفي الختام أود اإلسهام بوجهة نظري‬

‫تصدير الثورة اإلسالمية‬

‫التي تستعر اليوم في مجتمعاتنا‬

‫وهو يخلط بين الشرق والغرب‬ ‫منتقاة‬

‫والخالف في الرأي يجب أن ال يفسد‬

‫من‬

‫‪.‬‬

‫مجتمعات ال رابط وال شبه بينها أبدا وهو إذ حاول الجمع بين‬

‫الخاصة في معضلة الهويات القاتلة‬ ‫العربية بضراوة مروّ عة إذ شهدت‬

‫بنفسي‬

‫تجربة‬

‫انزياحات‬

‫الهوية‬

‫واستراتيجياتها الصراعية المدمّ رة‬ ‫في اليمن والعراق‪ ،‬فعلى مدى نصف‬

‫غير الناس هوياتهم في اليمن شماال وجنوبا مرات‬ ‫قرن فقط ّ‬ ‫عدة‪ ،‬وها نحن اليوم نشهد جدال صاخبا وصراعا م ّتقدا بشأن‬

‫الحركات األصولية وغير األصولية في العالم أكد أن جميعها‬ ‫ً‬ ‫أيضا على أن كل هذه‬ ‫مبعثها اقتصادي في قوله “دعنا نؤكد‬

‫الهوية اليمنية‪ ،‬وهوية الجنوب‪ :‬أهي جغرافية أم سياسية؟‬

‫واسع كل أولئك‪ ،‬من حركات خالصية وغيرها ممن نتكلم عنه‪،‬‬

‫والحوثية والسلفية وغير ذلك من خطابات الهويات التقليدية‬

‫الحركات هي كذلك مشاريع اقتصادية وأرباب عمل على نطاق‬

‫‪.‬‬

‫يعملون على السيطرة على الموارد االقتصادية الضخمة‪ :‬النفط‬ ‫واآلثار والصوافي والغنائم والرسوم على البضائع واألفراد (ما‬

‫يسمّ ى بالجزية والزكاة) في سوريا‪ ،‬والمخدرات في كولومبيا‬

‫فضال عن احتدام أوار الهويات الطائفية‪ ،‬الزيدية والشافعية‬

‫الفرعية الكثيرة وهي خطابات أخذت تستقطب جموع‬

‫واسعة ومتزايدة من الناس في الجنوب والشمال وذلك بعد‬ ‫مرور أكثر من نصف قرن على قيام (الجمهورية الثورية) في‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪99‬‬


‫سجال‬

‫الشمال وإحراز االستقالل الوطني من االستعمار البريطاني‬

‫كالتسامح‪ ،‬وعندما يصبح العنف ظاهرا‪ ،‬يوجد أناس ينساقون‬

‫الممارسات السياسية التي دفعتهم إليه وقد أذهلني ما شهدته‬

‫ولكنهم أنفسهم‪ ،‬غالبا الذين يتيحون له النصر” وفي ظل غياب‬

‫‪.‬‬

‫في الجنوب ليس ألن الناس يرغبون في ذلك بل بسبب‬

‫‪.‬‬

‫في بغداد من تب ّدل سريع وعنيف في صراع الهويات الطائفية‬ ‫قبل االجتياح األميركي وبعده‪ ،‬إذ سنحت لي فرصة الدراسة‬

‫العليا في جامعة بغداد في تلك المدة الفاصلة‪ ،‬التعرف على‬ ‫حقيقة المعضلة الطائفية في العراق التي نشهد اليوم أهوالها‪،‬‬ ‫ففي عام ‪ 2004‬وجدت العراق بصورة مختلفة كليا عن تلك التي‬

‫عرفتها في الثالث السنوات السابقة‪ ،‬وكانت حمى الطائفية هي‬

‫أبرز مالمح العهد الجديد‪ ،‬على الرغم من أنها مازالت حينذاك‬ ‫في طور التفقيس البريمري (نسبة إلى األميركي بريمر) الذي‬

‫‪.‬‬

‫حكم العراق بعد احتاللها وكما دفعت حرب صيف ‪ 1994‬م‬ ‫التي شنتها القوى التقليدية المهيمنة في الشمال اليمني ضد‬ ‫الجنوب المدني‪ ،‬تحت رايات دينية وأيديولوجية وسياسية‬ ‫مختلقة وما تالها من ممارسات تعسفية تدميرية لكل‬ ‫مؤسسات دولة مواطني الجنوب (السياسية والعسكرية‬

‫ال بديل من إعادة‬

‫واالقتصادية والثقافية‬

‫والقانونية‪..‬‬

‫الخ) نقول كما‬

‫التفكير بالعلمانية‬

‫دفعت تلك الغزوة التكفيرية الظالمة الجنوبيين إلى‬

‫بعيدا عن المنظور‬

‫يتشبثون ويضحون بحياتهم في سبيلها‪ ،‬على نحو‬

‫األيديولوجي الذي‬

‫أميركا للعراق في إيقاد نار الهويات الطائفية‬

‫التعرف على ذاتهم الجنوبية المهزومة‪ ،‬وجعلتهم‬ ‫لم يشهد له التاريخ مثيل‪ ،‬فكذلك فعلت غزوة‬

‫يشوش معناه التقني‬ ‫ّ‬

‫التي كانت هامدة تحت رماد الطغيان السياسي‬

‫الحقيقي‪ ،‬بوصفها تقنية‬

‫الجمهوري البعثي‪ ،‬وزادتها اشتعاال بمنحها المزيد‬ ‫من الزيت األميركي شديد االشتعال‪ ،‬في سبيل‬

‫إليه بحرية وحماس‪ ،‬ويوجد آخرون منهم يعارضون نجاحاته‬

‫مؤسسة محايدة للعدالة‪ ،‬أقصد الدولة الحديثة القائمة على‬

‫الفصل بين السلطات الثالث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)‬

‫واستقالل المجاالت‪( ،‬السياسي والديني والمدني واالقتصادي‬ ‫والثقافي‬

‫والعلمي‪..‬‬

‫الخ) فيستحيل إيجاد وسيلة ناجعة‬

‫يمكنها السيطرة على ظاهرة الحروب الطائفية المشتعلة‪ ،‬وكل‬

‫المحاوالت الراهنة المعتمدة على المدخل األمني في ضبط‬

‫ظاهرة العنف في المجتمعات العربية بالقوة العسكرية العارية‬ ‫المحلية أو الخارجية‪ ،‬من المؤكد أنها تزيده اشتعاالً مثل (اللهب‬

‫الذي يلتهم كل ما يمكن أن يلقى عليه بقصد إطفائه)‪.‬‬ ‫ختاما‬

‫ال بديل من إعادة التفكير بالعلمانية بعيدا عن المنظور‬ ‫األيديولوجي الذي يشوّ ش معناه التقني الحقيقي‪ ،‬بوصفها‬

‫تقنية سياسية ناجعة مجربة ومختبرة عبر ثالثة قرون من‬

‫التاريخ السياسي للدولة الحديثة ليس في أوروبا وأميركا‬ ‫فحسب بل في كثير من دول أسيا وأفريقيا وفي مجتمعات‬ ‫إسالمية مماثلة لمجتمعاتنا العربية اإلسالمية‪ ،‬ومنها ماليزيا‬

‫‪.‬‬

‫وأندونيسيا وتركيا وباكستان وغيرها إذ أن الفصل بين‬ ‫المجال السياسي والمجال المدني يستلزم بالنتيجة استقالل‬

‫المجال الديني عن هيمنة السياسي‪ ،‬وبهذا تكون العلمانية ليس‬ ‫كما جرى ويجرى تصويرها بوصفها ضد الدين والتدين بل هي‬ ‫في حقيقة األمر تحرير المقدس من تبعيته للمد ّنس واستعادت‬

‫سياسية ناجعة مجربة‬

‫تحقيق إستراتيجية (الشرق األوسط الجديد)‬

‫ً‬ ‫ومتتما‬ ‫روح الدين اإلسالمي الحقة الذي جاء رحمة للعالمين‬

‫ومختبرة عبر ثالثة قرون‬

‫أنطاكيا الجديدة‪( ،‬جنة الله في بالد العرب الخراب)‬

‫قال سبحانه وتعالى “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‬ ‫ً‬ ‫شعوبا وقبائل لتعارفوا” (الحجرات اآلية ‪ )13‬أو “أدع‬ ‫وجعلناكم‬

‫من التاريخ السياسي‬ ‫للدولة الحديثة‬

‫التي ستكون فيها دولة االحتالل اإلسرائيلي‬

‫(الشرق األوسط الجديد)! أال تالحظون اليوم كيف‬

‫تبدو صورة دولة إسرائيل بالمقارنة مع دول الجوار‬ ‫العربي؟!‬

‫فما الذي يدفع الناس إلى تبديل هوياتهم وإنشاب‬

‫مخالبهم في بعضهم بعضا تحت راياتها وبتحفيز منها‬

‫كسراطين البحر حتى الموت؟! وهنا يلزمنا النظر إلى العنف‬ ‫حينما يكون مقدسا‪ ،‬إذ أن الصراع حينما يكسب صفة مقدسة‪،‬‬ ‫(دينية أو أيديولوجية)‬

‫يتحول إلى ثأر مزدوج جاهلي‬

‫وعصبوي ديني‪ ،‬وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف‬ ‫هو أخطرها على اإلطالق‪ ،‬ذلك ألن (الثار الحر) يشكل حلقة‬ ‫مفرغة وعملية المتناهية وال محدودة‪ ،‬ففي كل مرة ينبثق‬

‫‪.‬‬

‫الجسد االجتماعي‪ ،‬ويهدد وجوده بالخطر وهذا ما نراه ماثال‬

‫اليوم في العراق‪ ،‬حيث يصف (المالكي حربه مع داعش بثارات‬ ‫الحسين) ومن المعروف في مثل هذه الحاالت كيف أن أقل‬ ‫عنف يمكن أن يدفع إلى تصاعد كإرثي‪ ،‬ومشهد العنف له شيء‬

‫من (العدوى) ويكاد يستحيل أحيانا الهروب من هذه العدوى‪،‬‬

‫“فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا‬

‫‪100‬‬

‫إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي‬

‫أحسن” (سورة النحل اآلية ‪“ ،)125‬وال تجادلوا أهل الكتب إال بالتي‬ ‫هي أحسن” (العنكبوت اآلية ‪ ،)46‬أو ما جاء في السنة الشريفة‬

‫“ال يرحم الله من ال يرحم الناس‪“ ،″‬ال يحل لمسلم أن يروّ ع‬ ‫ً‬ ‫مسلما” وغير ذلك مما احتواه الدين اإلسالمي الحنيف من قيم‬

‫تحث على الرحمة واللطف والصفح والرفق واإلنصاف والعدل‬

‫واالعتراف والتسامح والتصالح والعفو واإليثار والتعاون‬

‫والتضامن والشفقة والمودة والعطف والمحبة والصبر والحلم‬

‫والحكمة والتفكير والتبصر والتواضع والبشر وإفشاء السالم‬ ‫وعدم الغضب ونهى عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والكذب‬ ‫والخداع والسب والتنابز باأللقاب والكبر والغرور والتطرف‬

‫والتعصب والجهل والعنف والغدر والتعذيب والتمثيل‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫فإن المرأة التي‬ ‫(في ص‪ 10‬يقول في سياق القرية أو القبيلة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جنسيا في كثير من أرجاء سوريا ُتعتبر مصدرا للعيب‬ ‫تخطئ‬ ‫والعار باعتبار اجتماعي وليس قانونيا)ً‬

‫كاتب من اليمن‬

‫صفوان داحول‬

‫أي نقطة ما من الجماعة مهما تكن صغيرة‪ ،‬يميل‬ ‫منها من ّ‬ ‫إلى االتساع واالنتشار (كالنار في الهشيم) إلى أن يعم مجمل‬

‫مكارم األخالق بما حمله من تعاليم وقيم إنسانية سامية كما‬


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪101‬‬


‫سجال‬

‫رداً على عزيز العظمة‬

‫تفكيك أهوال اإلرهاب‬ ‫وتحرير االسئلة‬

‫الرؤية التي ينطلق منها‬

‫البروفيسور عزيز تنطلق‬

‫خالد حسين‬

‫من وقائع مرتبطة‬

‫بالزمان والمكان‪،‬‬

‫هذه الرؤية الواقعية‬ ‫ــ التاريخية تكتسب‬ ‫تجليها من قراءة‬

‫مستقبل سوريا‪ ،‬هذا‬

‫المستقبل الغامض الذي‬ ‫يتناسب مع ما يقول‬

‫به العظمة في توصيف‬

‫“ولكن ثمّ ة‬ ‫عميق الداللة‬ ‫ّ‬

‫سلوى قابعة في أمل‬

‫غير واضح المعالم”‪،‬‬

‫فاختراع هذه الفضاء‬

‫ثانية ـ الفضاء السوري‬

‫فعلي‬ ‫ــ يرتبط على نحو‬ ‫ٍّ‬ ‫بلوحة القوى الفاعلة‬

‫والمتصارعة‪ ،‬مع األخذ‬

‫بعين االعتبار القوى‬

‫اإلقليمية والعالمية التي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫خلفية لصراع‬ ‫تشكل‬ ‫القوى الداخلية‪ .‬وبناء‬

‫ليس من السهولةِ‬ ‫أن القراءة‬ ‫بمكان مواجهة حوار البروفيسور ُّ‬ ‫السوري عزيز العظمة (مجلة الجديد‪ ،‬ع ‪ ،)11‬ذلك ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫وتتأسس بموجبها خرائط القراءة وتمت ُّد‪ ،‬ال تكتفي بمالحقةِ‬ ‫توحش اإلرهاب اإلسالموي‬ ‫التاريخية التي ينتهجها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مكث ٍف من تحليالت سوسيو ــ ثقافية‬ ‫سياق‬ ‫وإنما‪ ،‬وفي الوقت ذاته‪ ،‬تطارد نظائره في المجتمعات األخرى؛ وذلك في‬ ‫ٍ‬ ‫برشقات من المعلومات االقتصادية وحزمة العالئق العائمة والمضمرة التي تربط هذه الجماعات بمراكز‬ ‫مسنودة‬ ‫ٍ‬

‫المال الرسمي والالرسمي؛ لتغدو معها ظاهرة الجماعات اإلرهابية‪ ،‬وتحت وطأة استراتيجيات المقاربة التاريخية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عام وأحداث‬ ‫عموما بشكل‬ ‫يتنزل في سياق أحداث العالم‬ ‫تاريخيا‬ ‫حدثا‬ ‫جديدة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الصارمة برؤيةٍ واضحةٍ ولغةٍ‬ ‫ٍ‬

‫بشكل‬ ‫العالم العربي‬ ‫خاص‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫تقتنص‬

‫بداهة البروفيسور عزيز األسئلة المغلقة‬

‫ليوسعها عبر ربط أهوال اإلرهاب‬ ‫للمحاور‬ ‫ّ‬

‫باألهوال التي ارتكبها النظام السوري‪ ،‬فالمحاور ـوكما يظهر‬

‫للقارئ من أسئلته ـ يب ّئر الحوار في ثيمةِ إرهاب الجماعات‬ ‫ً‬ ‫مسؤولة وحدها عن الجحيم الذي‬ ‫األصولية فحسب وجعلها‬

‫على ذلك يمكننا تضييق‬

‫ابتلع وما يزال يبتلع الفضاء السوري بتغييب المسؤولية‬

‫حول مستقبل سوريا‬

‫مشهد الجحيم وإشعاله ومن ثمَّ ة المشاركة الفعّ الة فيه؛‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫علمانية‬ ‫أصولية‬ ‫والحق يقال ــ تقابلها‬ ‫فاألصولية الجهادية ـ‬ ‫مشوّ ٌ‬ ‫هة ي ّدعيها النظام‪ ،‬كشفت أحداث سوريا أنها أش ُّد هوالً‬

‫مساحة االختالف بين‬ ‫ما يقول به العظمة‬

‫الغامض وقولة هايدغر‬

‫التي انتقدها في البداية‬ ‫“إله فقط قادر على‬

‫إنقاذنا”‪ ،‬فاألمل الغامض‬

‫لدى عزيز العظمة ليس‬ ‫إال إله هايدغر الغ\‬

‫ائب‪ .‬وهكذا يعود بنا‬

‫عزيز العظمة من حيث‬ ‫ال يدري إلى حلول ما‬

‫قبل حداثية أو ما بعد‬

‫حداثية كان قد اعتبرها‬ ‫نذير شؤم‪.‬‬

‫المباشرة ــ ربما عن غير قصد منه ــ إلجرام النظام بترتيب‬

‫في جرائمها وتدميرها من األصولية الجهادية عبر تعاضدٍ بين‬

‫ظاهري وبنية طائفيةٍ (تتجاوز الفضاء‬ ‫كاذب‬ ‫ا ّدعاء علماني‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫السوري إلى لبنان والعراق وإيران وأفغانستان)‪ ،‬بنية ما قبل‬ ‫تاريخية لم تخرج من ماضيها أصالً ومن هنا يكتشف القارئ‬

‫‪.‬‬

‫أن ثمة مساحة مسكوت عنها في أسئلة المحاور ذاتها‬

‫بخصوص أهوال النظام السوري!‬

‫يقطع عزيز العظمة مع توجهات ما بعد الحداثة النكوصية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫جانبا سؤال المحاور الذي يستدعي‬ ‫ينحي‬ ‫كما يصفها‪ ،‬عندما‬

‫حيز الحوار قولتي هايدغر “إله فقط بإمكانه إنقاذنا اآلن”‬ ‫إلى ّ‬

‫“الرب قد عاد إلى الشرق األوسط”‪ ،‬وإذ ي ِ‬ ‫َص ُم‬ ‫وبول دانهار‬ ‫ُّ‬ ‫حضور هايدغر بالشؤم في بداية الحضور؛ فإنه يرفض تماماً‬ ‫قولة دانهار بعودة الدين إلى الفضاء السوسيو ــ ثقافي للشرق‬

‫األوسط؛ ومن هنا يموضع ظاهرة األصولية في سياق تاريخي‬

‫تتعالق فيه هذه الجماعات األصولية مع المصالح المادية‬

‫‪102‬‬

‫‪.‬‬

‫في سياق عالمي ولكن ما يسترعي االنتباه هنا هو َ‬ ‫الهيكلة‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫التوحش اإلرهابي‬ ‫يقدمها في توصيف انفجار‬ ‫الجديدة التي‬ ‫من خالل استقدام مصطلح “الالمكان”‪ ،‬وبهذا الصدد يقول‬

‫“الالمكان بمعنى نبذ المنشأ وإعادة تشكيل الذات ثم الالمكان‪،‬‬ ‫أي المكان الخيالي واالفتراضي (دابق‪ ،‬الشام‪ ،‬القسطنطينية‪،‬‬

‫رومية في خطاب داعش)‪ ،‬على نحو يضارع هذه الذات‬

‫‪.‬‬

‫الجديدة والالمكان بمعنى الخروج عن كل األزمنة التاريخية‬ ‫والخروج عليها” وربما يم ّثل تشكيل داعش اإلرهابي مثاالً‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫ساطعا على اشتغال مفهوم ” الالمكان” في تأسيس كينونة‬

‫هذا التنظيم وانتشاره السرطاني األفقي‪ ،‬ليس في سوريا‬

‫والعراق فحسب‪ ،‬وإنما تفخيخ الفضاء العالمي على شساعته‬

‫بهذه الكينونة ــ الكابوس‪/‬الرعب (األحداث األخيرة في فرنسا‬ ‫ُّ‬ ‫تدفق اإلرهابيين من أمكنة مختلفة ــ وقد‬ ‫وأميركا)‪ ،‬وذلك عبر‬ ‫باتت (ال ـ أمكنة) إلى مكان مستقر(سوريا‪ ،‬العراق) وقد غدا في‬

‫أن الكينونة اإلرهابية ـ وهي كذلك‬ ‫حوزة “الالمكان”‪ ،‬كما لو َّ‬ ‫ً‬ ‫فعالً‬ ‫وواقعا ـ ال عمل لديها سوى إخراج المكان إلى الالمكان‬ ‫ومن ّ‬ ‫ثم إخراجه من التاريخ ذاته‪ ،‬أقصد المكان ــ التاريخ أي‬

‫‪.‬‬

‫العمران من حيث العالقات والثقافة والكينونة ولكن السؤال‪:‬‬ ‫ماذا بشأن نجاعة أفهوم “الالمكان” في هيكلة إرهاب “الدولة”‬ ‫وتوصيفه؟ ألم يعتمد النَّظام األسدي على قوى بهيمية‬ ‫(الشبيحة) وميليشيات شيعية (لبنانية وعراقية) والحرس‬

‫ِّ‬ ‫المدمرة‬ ‫الثوري اإليراني ثم التقنية الروسية في أعتى أشكالها‬ ‫وتاريخا وكائنا‪ً،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ذاكرة‬ ‫مؤخرا؛ ليجري تدمير المكان بوصفه‬ ‫أي بمعنى الدفع باألمكنة الحضارية ذاتها إلى الالمكان وخارج‬


‫حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة‬

‫صفوان داحول‬ ‫أن عزيز وفي حمأة االحتفاء بالمصطلح الجديد‬ ‫التاريخ؟ بيد ّ‬ ‫ً‬ ‫يدع هذه المساحة نهبا للمسكوت عنه!‬

‫إن استمرار و‪/‬أو تفريخ الجماعات الجهادية في”مكان ـ‬

‫الالمكان” الذي تقطنه وتشغله يتعلق بالحاضنة الشعبية‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بتوفر هذا الحضن الذي يسمح باستمرارها‬ ‫فوجودها يرتهن‬

‫واتساعها وممارسة توحشها وتغوّ لها‪ ،‬هذه النقطة المهمة تقود‬ ‫ً‬ ‫مساحة من االختالف‬ ‫البروفيسور عزيز إلى نتيجة تفتح‬ ‫إن داعش‬ ‫معه‪ ،‬يقول في حواره ” إنني أذكر كل هذا ألقول ّ‬ ‫ليس لديها على نحو كبير بيئة حاضنة بقدر ما لديها بيئة غير‬

‫‪.‬‬

‫ممانعة وفي بعض األحيان متواطئة” ورغم إيراده أسباب‬

‫اقتصادية وعنفية مقنعة سادت الفضاءات الريفية في سوريا‬ ‫للخروج بهذا المآل من القول؛ فإن الحقل ال َّداللي تتضاءل‬

‫فيه االختالفات بين المفهومات المذكورة من حيث المعنى‪:‬‬ ‫حاضنة‪ ،‬غير ممانعة‪ ،‬متواطئة‪ ،‬فالعوامل االقتصادية والعنفية‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫بدايات كاملةٍ وناجزةٍ (عصر النبي‬ ‫وغالبا ما‬ ‫عادة)‬ ‫يَحِ ُّن إلى‬ ‫ٍ‬

‫يجري “مناقضة صورة هذا العصر الذهبي بصورةِ‬ ‫حاضر فاسدٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫يمثل العودة بالمجتمعات نحو‬ ‫منحط”؛ وهذا النكوص الذي‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫ماض أو الخروج من سياق التاريخ والتلذذ باإلقامة‬ ‫تاريخ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫في “الالـ تاريخ” ولكن تحت طائلة العنف‪ ،‬هذا التجلي للفكر‬ ‫النكوصي واألصولي بنشوئه وانفجار عنفه يجد مرجعيته‬ ‫األساسية في القراءة الحرفية للقرآن التي ّ‬ ‫دشنها رشيد رضا‪،‬‬ ‫حيث تقوم هذه القراءة على إزاحة التآويل المحتملة للخطاب‬ ‫القرآني لحساب الفهم الحرفي وتجفيف الممكنات الداللية‬

‫للسياق النصي ثم انسداد اآلفاق بين النص والتاريخ‪.‬‬

‫هذا االتجاه ــ وعكس ما مضت فيه إصالحية محمد عبده ــ‬ ‫هو الذي أتاح تفريخ األصولية وسمح لها بأن ترفع من نفير‬

‫‪.‬‬

‫صعودها في العالم العربي وهنا يكشف عزيز العظمة الجذور‬ ‫ٌ‬ ‫أصل‬ ‫والجذامير التي تبيح للعنف أن يرتبط بالخطاب؛ فالعنف‬

‫ال تفي بتأويل القبول الشعبي من عدمه لداعش وأخواتها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يطل الرأسمال الرمزي للمجتمعات (قضايا الهوية‪،‬‬ ‫ومن هنا‬

‫إلى تأسيسه هذه الجماعات “إن قرآن العنف والحق والتقويم‬

‫ّ‬ ‫يرحله العظمة من مجال التفسير السوسيولوجي وهنا‬ ‫الذي‬

‫‪.‬‬

‫‪..‬‬

‫الموقف من اآلخر‪ ،‬البنية الثقافية‪ ،‬إلخ) بقوةٍ في هذا السياق‬

‫‪.‬‬

‫تمكن اإلشارة إلى أن الموقف المتأرجح للكتلة البشرية العربية‬

‫(أو الشوايا بلغة عزيز العظمة) في الجزيرة (شمال شرق سوريا)‬

‫من النظام والحراك الثوري والدواعش‪ ،‬فقد ظلت هذه الكتلة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جزءا ضئيالً من ذوي‬ ‫جانبا‬ ‫نهبا لقلق االختيار‪ ،‬وإذا نحينا‬

‫االتجاه الديني من أفرادها الذين شاركوا في الحراك؛ فإن هذه‬ ‫الكتلة لم تحسم اختيارها وظلت في النهار مع النظام وفي‬

‫‪.‬‬

‫الليل مع داعش‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يق ّدم عزيز العظمة مقاربة عميقة لألصولية الدينية في العالم‬ ‫األهوائي الذي‬ ‫بنوع من النُّكوصي‬ ‫العربي من خالل تحديدها‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬

‫في الخطاب الديني الذي يالزم أي كيانات يمكن أن تسعى‬

‫شأن قديم قِ َدم األديان التوحيدية‪ ،‬وفي رسائل وعِ ظات‬ ‫الق ّديس أوغسطين بيانات بالغة الفصاحة على ذلك وحوله”‬

‫وإذا تجاوزنا َح َّد االتفاق مع العظمة في هذا الشأن؛ فإنه في‬

‫أساسي في تفسير “الصعود‬ ‫الوقت ذاته يتغاضى عن بعدٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫األصولى” وتفريخ الجماعات الجهادية (في سوريا) من خالل‬

‫القفز على الممارسات اإلرهابية للدولة وتغييبها من السياق‬

‫التفسيري؛ فالمرء ال يحتاج إلى جهد كبير لمالحظة الصعود‬ ‫األصولي في مناطق األكثرية السنية بعد أن ُتركت هذه حقوالً‬ ‫مكشوفة للموت المجاني الذي مارسته قوى السلطة مدعومة‬ ‫ّ‬ ‫تتغذى على ثارات الحسين وزينب واالستغراق‬ ‫بميليشيات‬ ‫ٍ‬

‫‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫علو‬ ‫تاريخي ال مبرر له وهذا يعني أن الكثير من‬ ‫في حقدٍ‬ ‫ٍّ‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪103‬‬


‫سجال‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫طارئا وبفعل سياسات‬ ‫أمرا‬ ‫نفير الصعود األصولي لم يكن إال‬

‫ً‬ ‫سياسات‬ ‫جمة تشير إلى اتباع النظام‬ ‫عالمات‬ ‫الحراك” إن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫وهنا ينبغي أن نتذكر أن توصيم الباحث لما بعد الحداثة‬

‫ّ‬ ‫عجل بانهيار قيم‬ ‫السياسات بعد استالم االبن للسلطة مما‬

‫تمس ٌ‬ ‫ك بنجاعة مشروع‬ ‫هايدغر بالحضور الشؤم هو في الواقع‬ ‫ُّ‬

‫ِّ‬ ‫ويقدم األستاذ العظمة ما يفاجئ القارئ بخصوص المسار‬

‫التطييف التي أجادها نظام بشار األسد‪.‬‬

‫بالنكوصية والتبشير بما قبل الحداثة عبر توصيف حضور‬ ‫الحداثة للمجتمعات ونفي تهمة الفشل عن مشروع الحداثة؛‬

‫المواطنة والكرامة الشخصية والتعليم إلى الحدود القصوى‪.‬‬

‫السوسيولوجي لمجتمعات الشرق األوسط نحو الديمقراطية‬ ‫ً‬ ‫لبرنامج سرديٍّ تتق َّدم به نحوها قوى هذه‬ ‫تحقيقا‬ ‫بوصفها‬ ‫ٍ‬ ‫المجتمعات‪ ،‬لكن ما يقول به يستند إلى أرضية سوسيولوجية‬ ‫ملموسة ـ وال سيما ما حدث ويحدث في مصر وليبيا واليمن‬

‫يلجأ عزيز العظمة إلى لغةٍ جديدةٍ في َب ْن َينَةِ مفهوماته في‬

‫بشار األسد ــ أي من حيث طارئية األنظمة الديمقراطية‬

‫ِّ‬ ‫والصراع الذي‬ ‫والجماعات من الفتك بالقوى الوطنية من جهةٍ )‬

‫الديمقراطية‪ ،‬واندفاع اليوتوبيا المنجزة ونهاية التاريخ التي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ورسوخا‬ ‫تمأسسا‬ ‫أتت مع نهاية الحربالباردة ما أصبح أكثر‬

‫ّ‬ ‫والصراع‬ ‫سياق توصيف الجحيم الذي يبتلع الفضاء السوري‬ ‫ّ‬ ‫الدائر بين النَّظام والجماعات األصولية (بعد أن تمكن النظام‬ ‫يطحن هذه الجماعات ضد بعضها البعض من جهة أخرى؛‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جديدا يعضد‬ ‫تعبيرا‬ ‫ولذلك ينبثق مفهوم “الهوامش”‬

‫‪.‬‬

‫تأويله للصعود األصولي ويعكس موضوعه بصورة‬

‫مفهوم ” الهوامش”‬ ‫في ّ‬ ‫ظل سياسات‬ ‫السلطة السورية ذات‬ ‫النهج الطائفي لم يعد‬ ‫ُيقصر على الريف ذاته‬

‫يمتد ليستغرق‬ ‫وإنما بات‬ ‫ُّ‬

‫(وحتى تونس) ومحاوالت روسيا وإيران الحثيثة لتعويم‬ ‫“فإن فكرة االستبداد‪ ،‬أو على األقل‬ ‫ورسوخ االستبداد‪ ،‬يقول‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫السلطوية‪ ،‬تصبح أفضل تمأسسا من رؤى الحركة الحتمية نحو‬

‫‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تاريخيا”‪.‬‬ ‫أن األنظمة الديمقراطية ربما كانت شاذة‬ ‫هو فكرة ّ‬

‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫عادة وتعصف‬ ‫التوقع المأمول‬ ‫وال شك أن هذه القولة تعاكس‬

‫أدق‪ ،‬وهو بذلك يصوّ ب سؤال المحاور “أرياف تقاتل‬ ‫ً‬ ‫أريافا” إلى “هوامش تقاتل هوامش”‪ ،‬يقول بهذا‬

‫والالتوقع؛ ليغدو برنامج المسار السوسيولوجي للمجتمعات‬

‫ضد أرياف بقدر ما هي هوامش ضد هوامش‪،‬‬

‫بقوة ليبتلع مصر‪ ،‬وتونس غدت على مسار االستبداد أما بقية‬

‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أريافا‬ ‫المسألة‬ ‫وتصحيحا “ليست‬ ‫توضيحا‬ ‫الصدد‬ ‫وذلك في رقصات الموت في ظل تشبيح متبادل‬ ‫من قبل العديد من العناصر المنتمية إلى الفئات‬ ‫المهمّ شة إلى درجة الرثاثة”‪ ،‬وفي واقع الحال؛‬

‫فإن النظام السوري الذي أحدث منعطفات من‬

‫مهب التمني الميتافيزيقي وتقذفه إلى مسار الهامش‬ ‫به في‬ ‫ّ‬

‫رؤية معيارية ال تصدم أمام الوقائع الفعلية‪ ،‬هكذا عاد االستبداد‬

‫الدول األخرى فح ّدث وال حرج‪.‬‬

‫ً‬ ‫تاريخيا في مقابل رسوخ‬ ‫إن كون “األنظمة الديمقراطية” شاذة‬

‫واع‬ ‫نحو‬ ‫أرسطيةٍ تتسلل على‬ ‫االستبداد إنما يشي بجذامير‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إلى تفكير عزيز العظمة حول عبوديةٍ ثاويةٍ بل قارّ ة في البنية‬

‫التشويه في كينونة السوريين‪ ،‬لم يكن له من‬ ‫شاغل خالل األربعين سنة سوى ّ‬ ‫اتباع استراتيجية‬ ‫ٍ‬ ‫تهميش جهنمية متعمّ دة “للمكان” وال سيما الريف‬

‫ّ‬ ‫تتحكم ببنية التفكير التي تقود مقاربته‪ :‬الغرب‪/‬الشرق‪/‬‬ ‫ثنائيات‬

‫االجتماعية واالقتصادية واالستيالء على األراضي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫لتدفق األفكار األصولية‬ ‫مناسبا‬ ‫فضاء‬ ‫ً‬ ‫أسس‬ ‫األمر الذي ّ‬

‫إن الرؤية التي ينطلق منها البروفيسور عزيز تنطلق من وقائع‬

‫الضواحي واألحياز‬ ‫المكانية الشعبية وحتى‬

‫عبر التدخل السافر ألجهزة األمن بتخريب العالقات‬

‫والنمو السرطاني لهذه األفكار التي باتت اآلن تجتاح‬

‫الريف وتمضي به إلى رقصة الموت المأساوية‪.‬‬

‫الذهنية للمجتمعات الشرقية واستحباذها لالستبداد‪ ،‬األمر‬

‫الذي يجعلنا أن نموضع مالحظته هذه في استمرار تناسل‬

‫‪.‬‬ ‫حتى هذه اللحظة تدعم قراءة البروفيسور العظمة‪.‬‬

‫الديمقراطية‪ /‬االستبداد‪…،‬إلخ مع االعتراف بأن هذه الثنائية‬

‫مرتبطة بالزمان والمكان‪ ،‬هذه الرؤية الواقعية ــ التاريخية‬

‫تكتسب تجليها من قراءة مستقبل سوريا‪ ،‬هذا المستقبل‬

‫ّ‬ ‫ظل سياسات السلطة السورية ذات‬ ‫إن مفهوم ” الهوامش” في‬

‫الغامض الذي يتناسب مع ما يقول به العظمة في توصيف‬

‫ليستغرق الضواحي واألحياز المكانية الشعبية وحتى البلدات؛‬ ‫ً‬ ‫سمة سيميائية للمكان السوري في زمن هذه‬ ‫فـ”الهامش” كان‬

‫المعالم”‪ ،‬فاختراع هذه الفضاء ثانية ـ الفضاء السوري ــ يرتبط‬

‫النهج الطائفي لم يعد يُ قصر على الريف ذاته وإنما بات يمت ُّد‬

‫السلطة الطائفية بلبوسها القوموي؛ ولذلك ال يستغرب عزيز‬

‫“ولكن ثمّ ة سلوى قابعة في أمل غير واضح‬ ‫عميق الداللة‬ ‫ّ‬

‫فعلي بلوحة القوى الفاعلة والمتصارعة‪ ،‬مع األخذ‬ ‫على نحو‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫خلفية‬ ‫تشكل‬ ‫بعين االعتبار القوى اإلقليمية والعالمية التي‬

‫‪.‬‬

‫سنة الماضية في التاريخ السوري الذي تدهور فيه الشعور‬

‫قادر على إنقاذنا”‪ ،‬فاألمل الغامض لدى عزيز العظمة ليس إال‬

‫القومي والكرامة الشخصية والشعور الطبيعي بالتضامن بين‬

‫الناس إلى مستويات بدائية أسفرت عن الرغبة في االنتقام‬ ‫بين للقيم ومنها قيم المواطنة‬ ‫الخالص واألعمى‪ ،‬مع ته ّتك ّ‬

‫والوطنية والتكافل االجتماعي المدعوّ ة‬ ‫والمصلحة العامة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أحيانا بالنخوة (عادت األخيرة للبروز والفعل المتقطعين أيّ ام‬

‫لصراع القوى الداخلية وبناء على ذلك يمكننا تضييق مساحة‬

‫الغامض وقولة هايدغر التي انتقدها في البداية “إله فقط‬

‫‪.‬‬

‫إله هايدغر الغ\ائب وهكذا يعود بنا عزيز العظمة من حيث‬

‫ال يدري إلى حلول ما قبل حداثية أو ما بعد حداثية كان قد‬

‫اعتبرها نذير شؤم‬

‫كاتب من سوريا مقيم في ألمانيا‬

‫صفوان داحول‬

‫العظمة االنتقام الخالص واألعمى للسكان من هذه السلطة‬ ‫التي “لم تترك للسكان (ومن ّ‬ ‫تبقى من السكان) سوى االستياء‬

‫االختالف بين ما يقول به العظمة حول مستقبل سوريا‬

‫واإلذالل واإلهانة والفاقة؛ وهذا‪ ،‬بشكل ما يختصر األربعين‬

‫‪104‬‬

‫طائفية ٍ خالل األربعين سنة الماضية‪ ،‬بل وتفاقمت هذه‬

‫لكن الواقع على ضديد من ذلك؛ فتجربة الدولة الوطنية‬ ‫المزعومة التي اتخذت من الحداثة سبيالً لها قد فشلت‬ ‫ّ‬ ‫وشكلت أرضية خصبة للصعود األصولي وهذا ما ال‬ ‫وانهارت‬

‫يقترب منه عزيز العظمة‪.‬‬

‫البلدات‬

‫‪.‬‬


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪105‬‬


‫سجال‬

‫انطالقا من أفكار عزيز العظمة‬

‫الجماعات النصية‬ ‫أحمد برقاوي‬ ‫يبدو مراد وهبة مفكرا‬

‫ثائرا على األصولية‪،‬‬

‫متشبعا بالفكر العلماني‪،‬‬

‫معليا قيم العقل‪ ،‬ولكنه‬ ‫يفاجئنا برأي صادم‬

‫حول دور المؤسسة‬

‫العسكرية في الحياة‬

‫السياسية‪ ،‬بل إنه يدعو‬

‫المثقفين إلى تأييدها‪،‬‬ ‫بدعوى أن البالد أمام‬

‫قدم العزيز عزيز العظمة بعقل تاريخي حصيف في حوار مع الجديد تحليالً للظاهرة األصولية بوصفها ظاهرة ذات‬

‫أساس اقتصادي عالمي تماثل الحركات غير األصولية في عالم غير إسالمي في سلوكها الهادف إلى الثروة‪.‬‬

‫لقد أعاد لي الحوار السؤال عن الحركات األصولية اإلسالمية مرة أخرى ولكن في صيغة جديدة‪ :‬لماذا يكون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أيديولوجيا لحركات عنفية غاضبة على الواقع المعيش؟‬ ‫أساسا‬ ‫دائما‬ ‫اإلسالم‬

‫فالتفسير االقتصادوي‪ ،‬والبحث عن األساس المادي‪ ،‬والوقوف عن هامشية القوى التي أنتجتها الرأسمالية‬

‫المتعولمة‪ ،‬كل هذا ال يجيب عن السؤال الذي طرحنا‪.‬‬

‫ثنائية الجيش أو‬

‫اإلخوان‪ ،‬وكأنه يستجير‬ ‫من الرمضاء بالنار‪.‬‬

‫وهذا غريب من مفكر‬

‫في مثل تجربته‪ ،‬عاش‬

‫تحت حكم مؤسسة‬ ‫عسكرية فشلت في‬

‫إنشاء دولة ديمقراطية‬ ‫منذ ‪ ،1952‬وأباحت‬

‫لنفسها االستئثار بما‬ ‫يفوق ربع االقتصاد‬ ‫المصري‪.‬‬

‫ما‬ ‫عنفية؟‬

‫هذه السرعة العجيبة في انتقال اإلسالم من دين‬

‫شعبي – ثقافي إلى أيديولوجيا سياسية‪ ،‬وحركات‬

‫حالة المأزق فظهرت الحركات الجهادية التي قتلت السادات‬

‫والتي ظل نظام مبارك يقاومها بعنف مطلق إلى أن استقر له‬

‫ولماذا لم تأخذ االحتجاجات العنفية التي ترتد إلى أسبابها‬

‫األمر بعد قبضة حديدية استمرت حتى خلعه‪ ،‬ولكن ما إن‬

‫وعندي أنه دون النظر إلى البنية الثقافية – الجهادية والذاكرة‬

‫الساحات حتى عادت األصولية الجهادية مرة أخرى‪.‬‬

‫المادية صورة غير إسالموية؟‬

‫التاريخية التي يتوارثها جمهور ما قبل الحداثة بهذه السرعة‬ ‫في اغتراب عن روح العصر الرأسمالي وبسببه ال يكون فهم‬

‫لألصولية اإلسالمية في صورتها الراهنة أو السابقة عليها‪.‬‬

‫عادت مصر إلى المأزق التاريخي بعد االنقالب على ثورة‬

‫وقس على ذلك ما جرى ويجري في سوريا‪ ،‬فمن قلب اإلخوان‬ ‫ً‬ ‫طبيعيا‪ ،‬نشأت‬ ‫المسلمين‪ ،‬الحزب السياسي الذي كان ظهوره‬ ‫الحركة العنفية الجهادية‪ ،‬الطليعة المقاتلة‪ ،‬كنتيجة للمأزق‬

‫أجل كيف استطاع رجل دين شيعي قدم من إيران إلى لبنان‬

‫التاريخي السوري الذي صنعه حكم حافظ األسد الدكتاتوري‪،‬‬

‫القومية والشيوعية وينتهي بها األمر ألن يصبح حزب الله هو‬

‫األصولية العنفية‪ ،‬التي سرعان ما ظهرت على نحو أشد‬

‫أن يجر وراءه الطائفة الشيعية حاضنة األيديولوجيات‬

‫الحزب الذي يقود وعيها وسلوكها؟‬

‫كيف ّ‬ ‫تأتى أن تحطم األحزاب الشيعية في العراق التعايش‬

‫وكما فعل نظام مبارك فعل نظام األسد وقضى على الحركة‬ ‫كلية هيمنة السلطة على مجتمع قاده الوارث إلى أعقد‬ ‫بانهيار ّ‬

‫المآزق التاريخية التي مرت بها سوريا منذ استقاللها‪.‬‬

‫باستعارات دينية سرعان ما تحولت إلى مصدر لسلوك عنفي؟‬

‫وحين وصل المأزق الجزائري إلى الحد األقصى بعد إلغاء‬

‫المفقود بواسطة داعش وما شابهها في بالد العرب وبعض‬

‫تحولت الجبهة إلى حركة مسلحة عنفية‪.‬‬

‫كيف انتقل جزء من السنة إلى عالم استعادة فردوس الخالفة‬

‫بالد اإلسالم اآلسيوية واألفريقية؟‬

‫هذه الجماعات األصولية هي جماعات نصية قبل كل شيء‪،‬‬

‫كان يكفي للخطاب في ظل أزمة أو مأزق تاريخي أن يتحول‬

‫إلى سلطة وسلطة آمرة‪.‬‬

‫تقول فرضيتي‪ :‬إن اإلسالم السياسي في صورته الجهادية –‬

‫العنفية هو األيديولوجيا المطابقة للمأزق التاريخي الذي تشعر‬ ‫فيه نخبة هي باألساس أيديولوجية وتعبر عنه بالخطاب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مأزوما‬ ‫جمهورا‬ ‫فتجر وراءها‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬ففي‬ ‫لن أعود إلى التاريخ البعيد‪ ،‬بل إلى التاريخ القريب‬

‫مصر السادات الذي راح يحطم دولة الرعاية عبر ما سمّ ي‬ ‫باالنفتاح‪ ،‬وانحدار جزء مهم من الفئات الوسطى إلى الفئات‬

‫‪106‬‬

‫الفقيرة‪ ،‬مع معاهدة سالم مع عدو‪ ،‬وصل المجتمع المصري إلى‬

‫نتائج االنتخابات التشريعية التي فازت بها الجبهة اإلسالمية‬

‫وليس تدمير بوش للعراق وتسليم األحزاب الطائفية الشيعية‬ ‫الحكم بكل ما تنطوي عليه من فساد وثأر بدائي عنفي إال‬

‫المأزق الذي أنتج داعش‪.‬‬

‫واآلن لماذا يتحول اإلسالم إلى أيديولوجيا عنفية كتعبير عن‬

‫المأزق التاريخي؟ إن األمر مرتبط بثالثة عناصر حاضرة في‬

‫‪.‬‬

‫اإلسالم كإمكانيات‪ :‬الجهاد‪ ،‬التشريع‪ ،‬الذاكرة الجمعية وهذه‬

‫‪.‬‬

‫أي خطاب آخر ثم إنها عناصر‬ ‫العناصر ليست حاضرة في ّ‬ ‫ثان‪ ،‬وفي ترابط ال‬ ‫مجتمعة دون النظر إلى ما هو أول وما هو ٍ‬

‫ينفصم كما سنرى‪.‬‬

‫الجهاد في اإلسالم‪ ،‬بمعزل عن تنوع الفهم له‪ ،‬هو القتال في‬ ‫سبيل الله‪ ،‬كيف صار القتال في سبيل السلطة والخالص‬


‫حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة‬

‫صفوان داحول‬ ‫األرضي قتاالً في سبيل الله؟‬

‫والجمهور‪ ،‬وبالعكس حين انهزم الخالص األرضي ووصل‬

‫إن الثقافة المتكونة على فكرة شرع الله الموجودة في النص‬

‫المجتمع إلى المأزق التاريخي استيقظ الخالص اإللهي‬

‫السعيدة سرعان ما تستيقظ في شروط المأزق التاريخي‬ ‫بوصفها أيديولوجيا خالصية ّ‬ ‫تعززها ذاكرة ال تني تتراكم في‬

‫وعندي إن إهمال الثقافة المتكونة عبر قرون في فهم‬ ‫ً‬ ‫فقيرا‪ ،‬فالهوية الدينية‬ ‫األصولية الراهنة يجعل من وعينا بها‬

‫القرآني والنبوي والفقهي والمنسية في معمعان الحياة العادية‬

‫المدرسة والجامع واألسرة على نحو مستمر‪ ،‬وعندها يصير‬

‫الجهاد وسيلة األيديولوجيا الدينية الخالصية ويضفي معنى‬ ‫ً‬ ‫كبيرا عليها مما يسمح باستعادة الموت في سبيل تحقيق‬ ‫شرع الله‪ ،‬فالموت في سبيل شرع الله هو حياة أخرى سعيدة‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫إن األموات “أحياء عند ربهم يرزقون”‬ ‫وبسيطا جداً‬ ‫ً‬ ‫خطابا مألوفاً‬ ‫ً‬ ‫تقدم الطليعة الدينية الخالصية‬ ‫ً‬ ‫وحاضرا في وعي العامة‪ ،‬فتكون االستجابة له بال جهد وبال‬

‫‪.‬‬ ‫أسماء تحمل المضامين ذاتها أسماء سريعة اإلغراء‪.‬‬

‫عناء تفكير فجند الله وحزب الله وأنصار الله وما يشابهها من‬

‫لم يعد الخالص األرضي قائما في األرض‪ ،‬األرض التي دللت‬ ‫ّ‬ ‫المخلصين الدنيويين‪ ،‬بل في خطاب يحمل معنى‬ ‫على فشل‬

‫الخلود لمن يُ قتل في سبيل الله‪ ،‬ليحقق حاكمية الله على‬

‫‪.‬‬

‫األرض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حين كان المخلص عبدالناصر في ذروة حضوره كمخلص‬ ‫أرضي وكانت الناس مازالت تنطوي على آمال كبيرة في‬ ‫تحقيق شعاراتها العظيمة لم يكن للخالص اإللهي اإلخواني‬

‫والتحريري حتى في أساليبه السلمية مكانة لدى العامة‬

‫اإلسالمي في صورته العنفية‪.‬‬

‫النائمة التي استيقظت على أصوات قذائف األميركي على‬ ‫بغداد وقذائف النظام على المدن والقرى السورية وهكذا‪ ،‬في‬

‫أماكن أخرى من بلدان العرب‪ ،‬ما كان لها أن تظهر إال بوصفها‬

‫هوية مقاتلة مسلحة بمعنى مقدس‪.‬‬

‫والحق يجب أن نميز بين األهداف الخفية للنخبة المؤسسة‬ ‫للجهاد العنفي والمصالح األرضية التي تتكون عبر الممارسة‬ ‫ً‬ ‫مضحيا‬ ‫من جهة والجمهور العام الذي يمشي وراء هذه النخبة‬ ‫ً‬ ‫أوهاما من جهة‬ ‫من أجل أهداف هو مقتنع بها حتى ولو كانت‬

‫ثانية‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ميكانيكيا للواقع األرضي‬ ‫انعكاسا‬ ‫وهنا يبرز الوعي ال بوصفه‬ ‫ً‬ ‫وإنما بوصفه فاعالً‬ ‫خطيرا في إعادة تشكيل األرض في عملية‬

‫ّ‬ ‫نكوص تاريخي يشكل بديالً‬ ‫ألحط أشكال الحكم الدكتاتوري‬

‫‪.‬‬

‫في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اآلن لتكتمل‬

‫دائرة المأزق التاريخي الذي يحتاج إلى استعادة حيوية‬

‫الفئات الوسطى ذات الوعي التاريخي المتجاوز‬

‫كاتب من فلسطين مقيم في اإلمارات‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪107‬‬


‫سجال‬

‫نظرة علي بعض أفكار عزيز العظمة‬

‫يبدو مراد وهبة مفكرا‬

‫الالمكان ليس إال مكانا‬ ‫تواطأوا على إخفائه‬

‫ثائرا على األصولية‪،‬‬

‫جابر بكر‬

‫متشبعا بالفكر العلماني‪،‬‬

‫معليا قيم العقل‪ ،‬ولكنه‬ ‫يفاجئنا برأي صادم‬

‫حول دور المؤسسة‬

‫العسكرية في الحياة‬

‫السياسية‪ ،‬بل إنه يدعو‬

‫المثقفين إلى تأييدها‪،‬‬ ‫بدعوى أن البالد أمام‬

‫ثنائية الجيش أو‬

‫اإلخوان‪ ،‬وكأنه يستجير‬ ‫من الرمضاء بالنار‪.‬‬

‫وهذا غريب من مفكر‬

‫في مثل تجربته‪ ،‬عاش‬

‫تحت حكم مؤسسة‬ ‫عسكرية فشلت في‬

‫إنشاء دولة ديمقراطية‬ ‫منذ ‪ ،1952‬وأباحت‬

‫لنفسها االستئثار بما‬ ‫يفوق ربع االقتصاد‬ ‫المصري‪.‬‬

‫ً‬ ‫وسحرا‪ ،‬ما خلص إليه المفكر عزيز العظمة‪ ،‬في حواره مع‬ ‫أكثر التحليالت بشأن المتطرف “الداعشي” إثارة‬ ‫مجلة “الجديد”‪ ،‬بأنه كائن قادم من الالمكان‪ ،‬ربما من حيث فكرة االنتماء “الجغرافي – السياسي”‪ ،‬أقصد الحدود‬

‫السياسية‪ ،‬فإن المتطرف بكل العالم قادم من الالمكان‪ ،‬وإن كانت الفكرة بأنه كمتطرف إسالمي جاء من الالمكان‬ ‫وربما يسير إلى الالمكان‪ ،‬فهنا يتوجب علينا التريث قليالً‪ ،‬فمن خاض تجربة االعتقال مع اإلسالميين في سجون‬ ‫النظام السوري‪ ،‬يعرف حق المعرفة بأنهم ولدوا بيننا جسدا وروحا ولكن المجتمع المرهق تخلص منهم بأن همشهم‬ ‫ً‬ ‫حقدا شحن الخطط ألجل االنتقام‪ ،‬انتقام لم‬ ‫وتركهم على حواف االهتمام‪ ،‬فخلقوا لهم مظلوميتهم التي استحالت‬ ‫يوفر أبناء جلدتهم في مرحلة من المراحل ونموذج الرقة ودير الزور السوريتين يشهد على هذا الحال‪ ،‬فليس كل‬

‫األمراء في التنظيم من المهاجرين‪.‬‬

‫الالمكان‬

‫الذي فهمته من التجربة ومن التلميحات‬

‫التي خاض بها العظمة في إشاراته‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جيدا لنا ومدرك‬ ‫معروفا‬ ‫مكانا‬ ‫السياسية القصيرة جدا‪ ،‬ليس إال‬

‫معلمي عن الخلق فهما لسبب وجودي‪ ،‬فخرجت من عالمهم‬

‫وبالعودة قليال إلى الواقعين االقتصادي واالجتماعي في‬

‫بحثت فيه عن أمثالي ورفاق دربي ووجدت القليل منهم‬

‫المعالم ولكن التواطؤ العام أراد له أن يبقى طي الكتمان‪،‬‬ ‫المناطق التي تسيطر عليها اليوم التنظيمات المتطرفة‪،‬‬ ‫وبالذات الجزيرة السورية‪ ،‬أي الرقة ودير الزور‪ ،‬فسنجد‬

‫باألرقام أن هاتين المحافظتين األغنى في سوريا لكونهما‬ ‫السلة الغذائية والنفطية والموارد البشرية وفي األخيرة تكمن‬

‫الكارثة‪ ،‬فبيئة أكثر من ‪ 70‬بالمئة من أبنائها شباب ويتركون بال‬

‫تعليم‪ ،‬والمؤشرات تظهر ‪ 114‬نقطة سكانية في دير الزور‬

‫تتراوح األمية فيها بين ‪ 25‬و‪ 99‬بالمئة‪ ،‬من أصل ‪ 131‬نقطة‬

‫سكانية هي كل المحافظة‪.‬‬

‫والدهشة تكتمل بمعدالت األمية في الرقة وبالذات في الفئة‬

‫إلى مكان ال أدركه كليا وإلى اليوم لم تكتمل معالمه‪ ،‬مكان‬ ‫ومازالت قرون استشعاري فعالة وتبحث عن المزيد من الرفقة‬ ‫الممكنة‪ ،‬الالمكان لشاب من جيل الثمانينات هو كل شيء‬

‫وكل الخالص‪ ،‬كيف له وهو الالديني أن ينادي من شرفات‬ ‫سجن صيدنايا “الله موالنا وال مولى لكم” ليستفز عناصر‬

‫الجيش السوري والمخابرات التي كانت تسعى عام ‪ 2008‬لحل‬ ‫أزمة االستعصاء في تلك البقعة الجغرافية من الالمكان‪ ،‬ذاك‬

‫السجن الذي نسيه السوريون بغالبهم كما نسوا يوما تدمر‬ ‫والمزة وغيرها الكثير من الفروع‪ ،‬ربما خوفا وربما تواطؤا‬ ‫مع السفاح‪ ،‬كيف لمن دخل تلك الدهاليز أن يخرج اليوم‬

‫العمرية فوق ‪ 15‬سنة‪ ،‬فنجد أن ‪ 394‬نقطة سكانية من أصل ‪422‬‬

‫ليقول بأنه ينتمي إلى هذا المكان أو ذاك؟ إلى هذا المجتمع‬

‫الرقة ست نقاط سكانية كان الفقر فيها ‪ 100‬بالمئة والنسبة‬

‫استحالوا متطرفين ال يمكن لنا لومهم فقط ورمي كل الخطايا‬

‫نقطة تتراوح نسبة األمية فيها ما بين ‪ 25‬و‪ 100‬بالمئة‪ ،‬وفي‬

‫العامة للفقر تصل إلى أكثر من ‪ 60‬بالمئة وهذا الحال قريب‬ ‫جدا إلى دير الزور‪ ،‬وهذه األرقام من دراسة أشرفت عليها‬

‫مؤسسات دولية بالتعاون مع القصر الرئاسي السوري‪.‬‬

‫أو ذاك؟ فنحن ال نشبههم وال نعرف كنههم وال ندرك ألمهم‪ ،‬فإن‬

‫على أكتافهم‪.‬‬

‫لكم أو ّد يا سيدي الكريم أن أخبرك وكل من حمل معك ثقل‬

‫عالمنا وبحث عن حلول نظرية وفكرية لما نحن فيه‪ ،‬لكم‬

‫وهذه الدراسة نفسها تؤكد ترك تلك الجغرافية بال تنمية وال‬

‫أو ّد أن أقول‪ ،‬بأنكم تشاركون بالخطيئة يا سيدي‪ ،‬نحن لسنا‬

‫فكيف لهم أن يستقبلوا تنظيم الدولة أو غيره من التنظيمات‬

‫نقبل فكرة بأن الطفل الصغير في بالد تبعد عنا أربع ساعات‬

‫حتى فرصة التعبير عن الرأي وبهذه كغيرهم من أبناء سوريا‪،‬‬

‫‪108‬‬

‫التي جاءت من الالمكان المشترك بينهم؟ الالمكان هنا ما‬ ‫ً‬ ‫يافعا‪ ،‬ولم أجد ال برواية أبي وال أمي وال‬ ‫أفهمه يوم كنت‬

‫إال أبناء فترات مشوهة من تاريخ هذا المكان‪ ،‬كيف لنا أن‬


‫حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة‬

‫صفوان داحول‬

‫‪.‬‬

‫بالطائرة‪ ،‬يحظى بكل االهتمام والعناية والتعليم الالزم وأن‬

‫وت ّ‬ ‫ُ‬ ‫نظرون عنها وحولها اليوم يا سادة نحتاج إلى مفكر يدخل‬

‫ٌ‬ ‫ومعلم يدرك بأنه مستقبل بالده لذا يعطيه من روحه‪،‬‬ ‫حياتهم‪،‬‬

‫كل هذا؟ فاليقين اليوم يؤكد أن اإلنسان كائن يحب الحياة‪،‬‬

‫له أبوين طيبين يعطونه كل الوقت الالزم ليكون جزءا من‬

‫كيف لنا أن نراه اليوم عبر العالم الصغير الذي خلقته ثورة‬

‫االتصاالت ونبقى بعالمنا المكاني هذا؟ كيف لنا أال ننتفض‬

‫أقلها على المستوى النفسي والداخلي ونرمي بكل ما يقال‬ ‫من فكر وفلسفة تحاول أن تعالج ما تظنون أنه مصابنا؟‬

‫وأنتم بكثير من األحيان تقفون بعيدا عن جغرافيا أنفسنا‬

‫عقولنا وعقول أولئك الالمكانيين ويفهم لماذا وكيف حصل‬

‫كيف استحال إلى انتحاري يقتل ُليقتل؟ وتسأله لماذا فيقول‬ ‫لك هي الشهادة؟ هذا طريق الله‪ ،‬والسبيل األقرب إليه‪ ،‬كيف‬

‫استحال هكذا وكيف نسترده؟‬

‫الحقيقة أني ربما أجد فرصة طيبة ألقول كل ما يخطر بذهني‬

‫وأذهان العشرات من جيلي‪ ،‬بعض الشبان الذين يبذلون إلى‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪109‬‬


‫سجال‬

‫اليوم جهدا كبيرا وأنا معهم‪ ،‬لنحافظ على القليل من العقل‬

‫ال بد من ربطه بالمكان األصيل‪ ،‬وهنا أخالف قليال فكرة بأن‬

‫وفي بعض األحيان متواطئة مع داعش على سبيل المثال‬

‫متوقع ومن غير المرجح على اإلطالق‪ :‬هكذا‪ ،‬فقد أصبح غير‬ ‫ً‬ ‫أمرا‬ ‫عصي ًا على التصور‪ ،‬من يوم إلى آخر‪،‬‬ ‫المحتمل وما كان‬ ‫ّ‬

‫في عالم الالعقل الذي نحياه‪ ،‬كي ال نكون بيئة غير ممانعة‬ ‫ال الحصر‪ ،‬وأن نبقى قادرين على العمل والكتابة وتحليل‬ ‫وتفنيد شعار “اإلسالم هو الحل” والوقوف أمام جماعات‬

‫اإلخوان المسلمين قبل غيرهم‪ ،‬لكونهم بيئة حاضنة للتطرف‬ ‫من خالل سعيهم وشغلهم الدائم على عملية تسييس اإلسالم‬

‫وخلق حالة من األحقية في الحكم والسلطة للمسلم لكونه‬

‫مسلما فقط‪ ،‬ومن ثم أحقية الحكم لإلخواني فقط‪ ،‬وهكذا‬

‫حتى وصلنا إلى الداعشي صاحب الحق في الموت والحياة‬

‫وليس الحكم السياسي فقط‪ ،‬وباتت كلمة مسلم بل بات‬ ‫اسمي ذو الطبيعة اإلسالمية يمثل رعبا للغرب وبات هو‬ ‫هويتي قبلت أم رفضت فأنا اليوم أصنّف مسلما وربما‬ ‫متطرفا حتى أثبت العكس‪ ،‬حالة االتهام هذه ال يمكن أن‬ ‫تبقى إلى األبد‪ ،‬فإما أن أقبل التهمة وأتماها فيها وأخوض‬ ‫في المكان مشترك مع من أنسب إليهم خطأ‪ ،‬أو أحافظ‬

‫فكرة الالمكان بمثابة‬

‫على مقاومتي وصبري‪ ،‬وهذا األخير يستمد طاقته‬ ‫من الفكر النظيف ومقدرة أمثال العظمة وغيره من‬

‫البوابة لفهم الهبوط‬

‫المفكرين والكتاب على تحليل المواقف وشرحها‬

‫وخلق البدائل‪.‬‬

‫الكابوسي للتنظيم‬

‫“ما حدث في شرق سوريا في األشهر األخيرة كان تماما غير‬

‫ً‬ ‫واقعا”‬

‫‪.‬‬

‫بالطبع تصور داعش على حالها اليوم كان غير وارد حتى‬ ‫بذهن أكثر مخرجي أفالم الرعب خياالً‪ ،‬ولكن عدم التنبؤ‬

‫بها أي عدم المقدرة على استشراف فكرة نمو التطرف بهذه‬ ‫ً‬ ‫عموما‪ ،‬فهنا يمكن القول بأن هذه الفكرة‬ ‫المنطقة وبكل الشرق‬ ‫قاصرة قليالً وغير ملمّ ة بالحقائق بشكل كامل‪ ،‬واإلشارة إلى‬

‫أن داعش مجرد عمل مخابراتي حيك في الالمكان ومن ثمة‬ ‫ً‬ ‫كليا‪ ،‬وأن المجتمع بيئة ال تمانع‬ ‫سقط بالمظالت غير دقيق‬ ‫فيه ظلم للمجتمع نفسه‪ ،‬فالمجتمع قاوم قليال ولكنه هو ابن‬

‫ذاك الالمكان ومستعد للتماهي معه في حال توافق مع بعض‬ ‫التفاصيل الصغيرة بنفسه‪ ،‬بأن يعطيه بعض السلطة وبعض‬

‫المقدرة على إثبات الذات‪ ،‬وهذا ما أشار له العظمة في‬

‫الحديث عن العشائر العائدة إلى الحياة‪.‬‬

‫ونبقى في الواقع قليال‪ ،‬مع تحليل تجربة الجنود األطفال‪،‬‬

‫فخالل عملي على فيلم وثائقي بهذا السياق‪ ،‬أخبرني أحد‬

‫الخبراء النفسيين بأن فكرة التجنيد لليافعين سهلة لدرجة أن‬

‫البدائل هنا‪ ،‬ال أقصد بها طبعا دينا جديدا أو‬

‫التنظيمات هذه ال تحتاج لمن يستقطب هؤالء األطفال بشكل‬

‫بالماركسية الدينية‪ ،‬ولكن البديل هنا أن‬

‫فيها لحد الهوس‪ ،‬وهذا الحال ال يتعلق بالعقيدة التي تتبناها‬

‫العالمي اليوم والذي‬

‫فكرا أيديولوجيا يصل بنا إلى تجربة شبيهة‬

‫أحال أحالم الكوكب‬

‫نملك أو نطرح بوابات الحل ال أن نقف أمامها‬

‫دموية كارثية‪ ،‬ولكن‬

‫المشكلة فقط دون طرح الحلول غير الحلول‬ ‫ً‬ ‫يوما بحق‬ ‫اإلقصائية التي وافقت عليها أنت‬

‫االمتالء كهؤالء األطفال‪ ،‬فمن يقدر على خلق المادة القادرة‬

‫مثال نعاني كارثة داخل المجتمع السوري الالجئ‬

‫“الحاصل أن أي تفكير في مستقبل سوريا ينبغي أن ينطلق‬

‫عاجزين فإن أنتم يا سيدي كنتم تشيرون إلى‬

‫مجازر متتالية وصورا‬ ‫الالمكان ال بد من ربطه‬ ‫بالمكان األصيل‬

‫اإلسالميين ولو بطريقة غير مباشرة‪ ،‬فاليوم‬

‫في تركيا حيث تنتشر المدارس الدينية بنسبة‬

‫‪ 99‬بالمئة والتي تديرها جماعات اإلخوان والمقرّ بة‬

‫منها‪ ،‬ولكن الحقيقة أن ال بديل حقيقيا لهذه المدارس‪،‬‬

‫كيف للحركة المدنية السورية التي ما زالت ترفض العمل‬

‫الميداني بشكل مباشر وتحافظ على مقعدها التنظيري في‬ ‫ذاك القصر العاجي البعيد‪ ،‬أن تأتي بعد أعوام وتقول “تبا‬

‫لإلسالميين” فقد خربوا المجتمع السوري من خالل التربية‬

‫اإلسالمية المتطرفة وخلقوا من األطفال السوريين بيئة‬

‫خصبة للتنظيمات المتطرفة‪.‬‬

‫تلك التنظيمات بقدر ما هي مسألة نفسية بحتة‪ ،‬أي الرغبة‬ ‫ً‬ ‫ظالما ولكن ببعض الجزئيات فالمجتمع‬ ‫باالمتالء‪ ،‬وربما أكون‬

‫اإلسالمي اليوم يعاني من عقدة الضآلة والتقزم ويبحث عن‬

‫على التسرب إلى النفوس وغمرها يملك المجتمع‪.‬‬

‫من هذه المعطيات وليس من وهم االستمرار في عمليات‬

‫سياسية فقدت أسسها البنيوية والديمغرافية” وهذا ال يعني‬ ‫قبول التصنيف غير المباشر بأن كل الفصائل المسلحة بسوريا‬

‫اليوم هي فصائل متطرفة وجهادية مدعومة من قبل تركيا‬ ‫والخليج‪ ،‬وبأن النظام ومن معه يعملون وفق منظومة غير‬ ‫جهادية على أقل تقدير‪ ،‬والحقيقية أن النظام ومن معه‬

‫جهاديون أكثر من داعش نفسه وهم اليوم يمثلون الطرف‬ ‫ً‬ ‫عقائديا وإن لم يقتتلوا بشكل مباشر إلى اليوم‬ ‫الخصم المباشر‬ ‫إال ما ندر‪ ،‬ويتفرّ غ بل يتعاون النظام مع داعش لقصف مواقع‬

‫أحاول ككل مرة ّ‬ ‫أطلع فيها على حزمة أفكار تعجبني وتثير‬

‫ونقاط تلك الفصائل التي أطلق عليها العظمة اسم الجهادية‬

‫الحزمة أو تركها لعدم قدرتها على إدراك الواقع بصورة كلية‪،‬‬

‫المجتمع الدمشقي ومحيطه إلى مجتمع اإلمام الفقيه واألول‬

‫خيالي‪ ،‬على حكها بالواقع واألرض ومنها أعيد فهم تلك‬

‫الحقا‪ ،‬ومن هنا كانت فكرة الالمكان بمثابة البوابة لفهم‬ ‫الهبوط الكابوسي للتنظيم العالمي اليوم والذي أحال أحالم‬ ‫الكوكب مجازر متتالية وصورا دموية كارثية‪ ،‬ولكن الالمكان‬

‫فهل يتفق داعش والنظام على مدنية الدولة‪ ،‬واألخير يحيل‬ ‫أي داعش يحيل الرقة ودير الزور وغيرها من أراضي العراق‬ ‫إلى أرض اإلرهاب السني بحجة مجابهة اإلرهاب الشيعي‬

‫المقابل‬

‫كاتب من سوريا مقيم في ستراسبورغ‬

‫صفوان داحول‬

‫أو استخدام أجزاء منها ومن غيرها إلعادة بناء صورة كاملة‬ ‫لبنية الواقع ومتعلقاته ُتعين على هضمه بهدف تفكيكه‬

‫‪110‬‬

‫منظم‪ ،‬بل هم من ينجذبون لهذه التنظيمات‪ ،‬بل ويتماهون‬


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪111‬‬


‫سجال‬

‫األسئلة المرايا‬ ‫وإطالقية اإلجابات‬ ‫مستهل حوار مع المفكر مراد وهبة‬

‫ال يُ مكن اختزال تفسير‬

‫محنة العقل‪ ،‬في عالمنا‬

‫عبد الرحمن بسيسو‬

‫العربي المتردي منذ ألف‬ ‫عام‪ ،‬بالعامل الفقهي‪ ،‬أو‬

‫الفكري‪ ،‬الذي ال يالمس‬

‫إال حيِّ ً‬ ‫وإن كان‬ ‫زا ضئيالً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫مؤث ً‬ ‫را‪ ،‬من أحياز البنىية‬

‫الفوقية للمجتمعات‬ ‫العربية‪ ،‬ناهيك عن‬

‫إغفاله بُناها التَّحتية‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬فالتفسير العميق‬

‫إنما يكمن في تحليل‬

‫األوضاع االقتصادية‬

‫واالجتماعية والسياسية‬ ‫والثقافية إلدراك‬

‫مُ سبِّبات الت ُّ‬ ‫َّخلف‬

‫المُ زمن‪ ،‬واالستبداد‬

‫ِّ‬ ‫المُ‬ ‫تشعب والمتشابك‬ ‫والمتمدد‪ ،‬داخالً‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫وخارجا‪ ،‬وفي أطواء‬

‫َّ‬ ‫الضمائر وثنايا العقول‪،‬‬

‫ُّ‬ ‫نشك‬ ‫وهو األمر الذي ال‬ ‫ِّ‬ ‫المفكر مراد‬ ‫أن‬ ‫في َّ‬ ‫وهبة يدركه تماما‪ً،‬‬ ‫ُ‬ ‫نتساءل‪ ،‬عن‬ ‫ولكننا‬ ‫دوافع إغفاله وعدم‬

‫األخذ به من قبله في‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫تتشكل‬ ‫مجلة "الجديد"‪ ،‬على مِ حور‬ ‫تتحرَّ ك المُ قابلة مع المُ فكِر المصري مراد وهبة‪ ،‬والمنشورة في العدد السابق من‬ ‫مص َ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫حلقات دوائره المتشابكة من ْ‬ ‫ومتنوعة‪،‬‬ ‫محموالت ثقافية ومفاهيم فكرية عديدة‬ ‫وألفاظ وعبارات ذات‬ ‫لحات‬ ‫ط‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫غير َّ‬ ‫تأسست في الوعي العربي‪،‬‬ ‫أنها تعو ُد‪ ،‬في خاتمة المطاف‪ ،‬إلى ثنائية فقهية ‪ -‬فكرية‪ ،‬وربما فلسفيةٍ إلى حد ما‪َّ ،‬‬

‫ْ‬ ‫منذ ما يربو على األلف عام‪.‬‬ ‫وفي الواقع المجتمعي لبالد العرب‪ ،‬وتابعت الحضور في كليهما‪،‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واإلرث الهامشي‬ ‫اإلرث المهيمن‬

‫ُ‬ ‫إرث ابن تيمية‪ ،‬المُ هيمن على نحو‬ ‫أح ُد طرفي هذه ال ُّثنائية هو‬ ‫ُ‬ ‫إرث ابن رُ شد‪ ،‬المقموع والمُ حتجزة‬ ‫طاغ‪ ،‬وثانيهما هو‬ ‫قطعي‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫إمكانيات تطوره وممكناته على نحو أبقاه هامشيا وبالطبع‪،‬‬ ‫فإن كال اإلرثين يمت ُّد عبر َّ‬ ‫زمن قديم ي ِ‬ ‫َص ُل ُه‬ ‫الزمن وصوالً إلى‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬

‫‪.‬‬

‫واقع‬ ‫بمرجعياته ال َّثقافية األولى التي تبلورت في سياق‬ ‫ٍ‬ ‫بمعطيات‪ ،‬ومُ ْن َحك ٍِم إلى‬ ‫متسم‬ ‫اجتماعي وسياسي وثقافي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫بالضرورة وفي واقع الحال‪ ،‬المعطيات‬ ‫شروط‪ ،‬ليست هي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫أحقاب‬ ‫تحكم الواقع اآلخر‪ ،‬المتوالي عبر‬ ‫والشروط التي‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫زمنية ومراحل تاريخية متغايرة وممتدة في الزمن لما يزيد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أن يُ تابعَ َحمْ َ‬ ‫اإلرث‬ ‫ل‬ ‫على األلف عام‪ ،‬وهو الواقع الذي أري َد له ْ‬

‫تشخيص الواقع الذي‬ ‫ً‬ ‫أمراضا‬ ‫نعيشه ونعانيه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وسموما‪ ،‬كي يُ حسن‬

‫الماضوي المهيمن على تلك الثنائية‪ ،‬أي إرث ابن تيمية‪ ،‬بكل ما‬

‫جراثيمه ومُ سبِّبات‬

‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫متفتح‪،‬‬ ‫إنساني‬ ‫لعقل‬ ‫اإلرث الذي ال يُ مكن‬ ‫ممكن! والذي هو‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫أو إلنسان يُ عمِ ُ‬ ‫بثقل‬ ‫أن تنوء‬ ‫أن يقبل لنفسه العاقلة ْ‬ ‫ل عقله ْ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫العقل عن تأمُّ ل‬ ‫قي َد بأغالله الكابحه‬ ‫قيوده‪ ،‬أو أن تستمرئ ال َّت ُّ‬

‫تشخيصه وتحليل‬ ‫أمراضة‬

‫خام يُ غلق إمكانية االنفتاح على‬ ‫ثقل‬ ‫تراكم عليه من‬ ‫ٍ‬ ‫وس ٍ‬ ‫باهظ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫صيرورة الحياة فيحتجز إمكانية الذهاب إلى أي مستقبل‬

‫العالم‪ ،‬والمً ِّ‬ ‫معتم يُ غلق العين عن‬ ‫قبو‬ ‫سمرة األقدام في قاع‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ال َّت ُّ‬ ‫ضوء ويكبح الخطو عن َّ‬ ‫ٍ‬ ‫الذهاب نحو أفق‬ ‫قبة‬ ‫طلع صوب َّ‬ ‫إنساني أبعدَ!‬ ‫ٍّ‬

‫وإلى ذلك‪ ،‬وفي سياق األعم األغلب من إجاباته عن أسئلة‬ ‫ُ‬ ‫نستخلصه مما تنطوي عليه هذه‬ ‫الجديد‪ ،‬وبحسب ما‬

‫اإلجابات من إحاالت فكرية وسياسية مُ باشرة أو ضمنية‪ ،‬نجد‬ ‫فكرُ مُ راد وهبة يُ ِّ‬ ‫أن المُ َّ‬ ‫كث ُف تشخيصه ِّ‬ ‫للصراع المُ تشعِ ب الذي‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫درجات استعارها في‬ ‫استعر وال يزال يستعرُ ‪ ،‬بوتائر تتباين‬ ‫المجال العربي‪ ،‬في اإلحالة إلى مكونات ِّ‬ ‫الصراع ما بين هذين‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الهامشي‪،‬‬ ‫إرث ابن تيمية المُ هيمن‪،‬‬ ‫اإلرثين‪:‬‬ ‫وإرث ابن رشدٍ‬ ‫ِّ‬

‫‪112‬‬

‫وذلك من ُد اللحظة التي فيها "أعلن ابن تيمية ُك ْف َر ابن رشد‪،‬‬ ‫ابتداء من قرب‬ ‫ً‬ ‫مما جعله على هامش ال َّتاريخ العربي"‪ ،‬أي‬

‫نهاية القرن الثاني عشر الميالدي ح َّتى اآلن‪.‬‬

‫إغراق في المصطلحات الفقهية‬ ‫فما هي‪ ،‬بإيجاز ومن غير‬ ‫ٍ‬ ‫والفلسفية أو َت َق ٍّ‬ ‫ص للخلفيات السياسية والمذهبية التي باتت‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫المالمح العامة لكال اإلرثين‪ ،‬على نحو‬ ‫ُ‬ ‫تماما ومتداولة‪،‬‬ ‫معروفة‬

‫ما تتب َّدى في إجابات المُ ِّ‬ ‫فكر مراد وهبة على أسئلة الجديد‪،‬‬ ‫وبحسب ما يُ مكننا قراءته مضمَّ ً‬ ‫نا في الخالصات والرُّ ؤى التي‬ ‫تب ُّثها تلك اإلجابات المنطوية على إحاالت مُ باشرة‪ ،‬أو ضمنية‪،‬‬

‫لما تناولته‪ ،‬أو خلصت إليه‪ ،‬مؤلفات وكتابات ودراسات عديدة‬ ‫أنجزها المُ ِّ‬ ‫فكر الفيلسوف؟‬

‫ثنائية تناقضية ال تنتهي وال تتناهى‬

‫نستطيعُ ‪ ،‬قبل َّ‬ ‫توضيحات‪ ،‬ومن‬ ‫الذهاب إلى عرض ما يلزم من‬ ‫ٍ‬ ‫تعس ٍف أو مبالغة‪ ،‬أن ُنوج َز هذه المالمح‬ ‫قدر من‬ ‫دون أدنى‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اإلرث المهيمن في‬ ‫إن‬ ‫عبر صوغها في عبارة واحدة‬ ‫تقول َّ‬ ‫لح على تعطيل العقل وإعمال النَّقل في‬ ‫عالم العرب إنما يُ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫الهامشي‬ ‫األعم األغلب من األمور الجوهرية‪ ،‬فيما يدعو اإلرث‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫أمر‪ ،‬ووفق طبائع فطرية ومُ ِّ‬ ‫دات‬ ‫إلى إعمال‬ ‫حد ٍ‬ ‫العقل في ُكل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫العقل َن ْف ُسهُ‬ ‫يُ‬ ‫منهجيةٍ واضحةٍ مْ لِيها‬ ‫ٌ‬ ‫نائية تناقضية ال تنتهي وال تتناهى‪ ،‬فحين يُ عَ َّط ُ‬ ‫ل‬ ‫إذن‪ُ ،‬ث‬ ‫إ َّنها‪،‬‬ ‫ْ‬

‫‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ل‪ ،‬الذي هو ِس ُ‬ ‫ْ‬ ‫العَ ْق ُ‬ ‫تميزه عن‬ ‫وعالمة‬ ‫ان الفارقة‬ ‫مة‬ ‫ُّ‬ ‫اإلن َس ِ‬ ‫الحية والنباتات والحيوانات والمخلوقات‬ ‫غيره من الكائنات‬ ‫َّ‬ ‫والموجودات واألشياء‪ ،‬بجميع أنواعها وأصنافها ومُ َسمَّ ياتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يأخ ُذ َن ْف َس ُه بنفسهِ ‪ ،‬إلى ُكنْهِ يُ‬ ‫يُ‬ ‫ناقض‬ ‫اإلنسان‪ ،‬أو هو‬ ‫ؤخذ‬ ‫ُ‬

‫‪.‬‬

‫ُ‬ ‫فارق ما ُج ِب َ‬ ‫ل‪ ،‬أصالً‪ ،‬عليه‬ ‫فِ ْطرته‪ ،‬وإلى طبيعة ُت‬ ‫ِّ‬ ‫تنفتح هذه ال ُّثنائية ال َّتناقضية المُ‬ ‫تشعبة على الالتناهي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هكذا‬


‫عمران يونس‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫كل الثنائيات المتناقضة‪ ،‬والتي تبدو‪ ،‬في فكر مراد‬ ‫لتضم‬ ‫انغالقا تاماً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ينغلق ُّ‬ ‫كل طرف منها‬ ‫وهبة‪ ،‬وكأ َّنما هي ثنائيات‬ ‫على نفسه على نحو ال يتيح إمكانية العثور على وسيط يفتح‬

‫واحدهما على نقيضة‪ ،‬بأي درجة ووفق أي معيار ومن أي‬ ‫جهة‪ :‬المُ ْغ ُ‬ ‫ُ‬ ‫والمفتوح؛ الجام ُد والمتح ِّرك؛ المُ عْ ت ِْم والمُ ضيئ؛‬ ‫لق‬

‫العبودية والحرية؛ الظالمية واالستنارة؛ الجهل والعلم؛‬ ‫ال َّت ُّ‬ ‫خلف وال َّتق ُّدم‪ ،‬المنقول والمعقول؛ الماضي والمستقبل؛‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫المرونة وال َّت ُّ‬ ‫حجر؛ ال َّثبات‬ ‫والق َّبة؛‬ ‫السلفية والمستقبلية؛ القبو‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫والعماء‪،‬‬ ‫واألصالة؛ اإلبصار‬ ‫والتحول؛ االتباع واإلبداع؛ الزيف‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫السقوط‬ ‫الخ‬ ‫السكون والحركة؛ ال َّتدني والرُّ قي؛ ُّ‬ ‫رافة والحقيقة؛ ُّ‬

‫والصعود؛ الغفلة واليقظة؛ ُ‬ ‫ُّ‬ ‫القعُ ود والنُّهوض‪ ،‬المُ طلق وال ِّنسبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫نائيات متقابلةٍ َت َق َ‬ ‫ُ‬ ‫ابل‬ ‫تكتنزه ألفاظ اللغة من ث‬ ‫وذلك إلى آخر ما‬ ‫ٍ‬

‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫تصل‬ ‫أبدا‪ ،‬وليس من واسطة‬ ‫الضدين اللذين ال يجتمعان‬ ‫بينهما‪ ،‬وال يُ‬ ‫مكن‪ ،‬ببديهة العقل‪ ،‬إزاحة أو رفع ما بينهما من‬ ‫ُ‬

‫السلب واإليجاب‪ ،‬والعدم‬ ‫تناقض وجوديٍّ‬ ‫قاطع‪ ،‬من حيث َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫حيث‬ ‫والوجود‪ ،‬واالفتقار إلى الملكة وال َّتوافر عليها‪ ،‬أو من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غيابا ُ ُ‬ ‫آن‬ ‫انعدام إمكانية االلتقاء أو ال َّتضايف‪،‬‬ ‫وحضورا‪ ،‬في ٍ‬ ‫ً‬ ‫معا‪ ،‬إال في سياق صراع تتع َّدد أنواعه‪ ،‬وتتنوَّ ُ‬ ‫ع مجاالته‪،‬‬ ‫واحدٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫استِعَ ا ِرهِ وضرَاوَ تِه‬ ‫وتتباين درجات ْ‬

‫‪.‬‬

‫الساللة الرَّ شدية المُ ِّ‬ ‫تنورة‬ ‫ُّ‬

‫ً‬ ‫وتأسيسا على ُخالصةٍ مُ عْ َتمَ َدةٍ من قِ َبلهِ وفق تحليله ورؤيته‬ ‫إن "ال َّت ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫يكون باستدعاء‬ ‫المتردي‬ ‫ب على الواقع‬ ‫غل َ‬ ‫ُ‬ ‫تقول َّ‬

‫فلسفة ابن رشد التي ساهمت في تطور الحضارة الغربية"‪،‬‬ ‫يذهب المُ ِّ‬ ‫فكر مُ راد وهبة إلى تأكيد انتمائه إلى الساللة‬ ‫ُ‬ ‫الرُّ شدية المً ِّ‬ ‫تنورة‪ ،‬إي إلى اإلرث الهامشي في ال َّثقافة العربية‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اإلرث َ‬ ‫ص ْلب ُ‬ ‫وعالم العرب‪ ،‬وفي ُ‬ ‫ِ‬ ‫العقلية‬ ‫سفة‬ ‫الف ْل‬ ‫ص ْلب هذا‬ ‫ً‬ ‫المستنيرة التي تبلورت‪ ،‬عربيا‪ ،‬على يد الفيلسوف ابن رشد‪،‬‬ ‫مُ ْس َتل َِه ً‬ ‫ُ‬ ‫شارحه‬ ‫كان هو‬ ‫ما الفيلسوف اإلغريقي "أرسطو" الذي‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫األكبر‪ ،‬وبانيا على مُ نجزه الفلسفي العقلي الشامل‪ ،‬المتماسك‬

‫‪.‬‬

‫والرَّ صين‬ ‫َّ‬ ‫المؤكدِ‬ ‫َ‬ ‫ذلك التأكيد‪،‬‬ ‫وكأَ ِّني بمراد وهبة ال يعدو في إعالنه‬ ‫ُ‬ ‫أن يُ‬ ‫ِ‬ ‫عطاء‪،‬‬ ‫نفسه من‬ ‫ضيء على ما ق َّدمه هو‬ ‫َ‬ ‫أصالً‪ ،‬إال ْ‬ ‫طوال ما يربو على سبعة عُ قود من العطاء الفكري الفلسفي‬

‫ِّ‬ ‫والسياسي وال َّتعليمي والتربوي‪ ،‬ومن إسهامات‬ ‫واالجتماعي‬ ‫َّ‬ ‫تتوخى‪ ،‬ضمن مقاصد وغايات نبيلة‬ ‫رصينة‪ ،‬جريئةٍ ومُ ق َّدرة‪،‬‬

‫أخرى‪" ،‬إحياء فلسفة ابن رشد في مُ واجهة فكر ابن تيمية"‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يتجلى‪ ،‬بوضوح ساطع‪ ،‬في حياته العلمية‬ ‫نحو‬ ‫وذلك على‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫وسلوكه العملي وتجاربه الفكرية والمجتمعية‪ ،‬ومؤلفاته‬

‫وكتاباته الفكرية والفلسفية واإلبداعية ومقاالته السياسية‬ ‫َّ‬ ‫توخت‪ ،‬وال‬ ‫العديدة‪ ،‬المتنوَّ عة الموضوعات والقضايا‪ ،‬والتي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫تتوخى‪ ،‬مُ‬ ‫عربي مستنير‬ ‫وعي‬ ‫ضمنا‪ ،‬إنهاض‬ ‫باشرة أو‬ ‫تزال‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫يُ‬ ‫ُ‬ ‫تؤسس لنهضة‬ ‫سهم في إطالق حركة تنويرية عميقة شاملة‬ ‫ً‬ ‫عربية عميقة وشاملة أيضا؛ نهضة تنقل العرب من "الواقع‬ ‫فضل المُ ِّ‬ ‫القائم" إلى "الواقع الممكن"؛ هذا الذي يُ ِّ‬ ‫فكرُ مُ راد وهبة‬ ‫ٍ‬

‫أن يستبدل به مصطلح "الواقع القادم"‪ ،‬وهو االستبدال الذي‬ ‫ْ‬

‫تبين دوافعه‪ ،‬ومسوغات اعتماده من وجهة نظر‬ ‫سنحاول ُّ‬ ‫المُ ِّ‬ ‫فكر‪ ،‬وذلك في إطار مناقشةٍ أوَّ لية سنذهب إلى إثارتها في‬

‫‪.‬‬

‫فقرات الحقةٍ وضمن سياق يتصل بموضوع حواري مالئم‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫مؤلفات المُ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫فكر مراد وهبة‬ ‫ولية على عناوين‬ ‫إن إطاللة أ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫المتنوعة الحقول والمجاالت على مدى ستة عقودٍ ‪،‬‬ ‫وكتاباته‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫وأوضاع لم تكن‬ ‫أحوال‬ ‫ظل‬ ‫في‬ ‫أو‬ ‫‪،‬‬ ‫نشر‬ ‫ظروف‬ ‫وفي‬ ‫صعبةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪113‬‬


‫سجال‬

‫ً‬ ‫بأن تكشف ال ِّنطاق الواسع والمُ تشابك‬ ‫مواتية‬ ‫تماما‪ ،‬لكفيلة ْ‬

‫من الموضوعات المُ لحة والقضايا الشائكة والمشاكل المُ زمنة‬ ‫واإلشكاليات المُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫تتصل بالواقع العربي (وال سيما‬ ‫عقدة التي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وفكريا‬ ‫فلسفيا‬ ‫المصري) القائم‪ ،‬والتي َسعى إلى تغطيتها‬ ‫ِّ‬ ‫تقصي جذور‬ ‫السعي إلى‬ ‫عبر مُ ساءلتها‪ ،‬وربما كذلك عبر َّ‬

‫مُ س ِّب َباتها‪ ،‬وتشخيصها‪ ،‬وإثارة حوار خالق حول معالجات‬ ‫سابقة لها‪ ،‬وصوالً إلى استخالصات وخالصات وتوصيات‬ ‫َّ‬ ‫ومؤصلة تتساوق مع منهجه الفلسفي العقالني‬ ‫عميقةٍ ‪،‬‬

‫المنطقي‪ ،‬ويسهم إدراكها واألخذ بها في إدراك الواقع المُ تردي‬ ‫وعي نهضويٍّ جديد‪ ،‬واستنباط‬ ‫القائم والشروع في تأسيس‬ ‫ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫عمل تمكن‬ ‫مستقبلية‪ ،‬وامتالك وسائل وأدوات وطرائق‬ ‫رؤى‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫النَّاس من تجاوز واقعهم االستبدادي الالإنساني َّ‬ ‫الضاري عبر‬

‫ِ‬ ‫االنخراط في حراكٍ مجتمعي واسع ودؤوب يدركون‪ ،‬وهم‬ ‫ً‬ ‫أن مستقبالً‬ ‫ِّ‬ ‫ممكنا يتساوق مع‬ ‫يعبرون مساراته‬ ‫المتشعبة‪َّ ،‬‬

‫الحوار مع األفكار‬

‫رؤى فالسفتهم ومفكريهم وصنَّاع الرأي عندهم وقادتهم‬

‫َّ‬ ‫يتوخى‪،‬‬ ‫والرؤى ال‬

‫المخلصين األوفياء‪ ،‬فيما هو يستجيب إلزاحة آالمهم‪،‬‬ ‫وتحقيق تطلعاتهم‪ ،‬وتلبية آمالهم‪ ،‬قد أوشك على‬

‫ً‬ ‫قطعا‬ ‫وال ُيمكن له‬

‫ً‬ ‫َّ‬ ‫قبضا على‬ ‫يتوخى‪،‬‬ ‫أن‬ ‫ْ‬ ‫طبيعة‬ ‫أي‬ ‫ٍ‬ ‫حقيقة من ِّ‬ ‫درجة أو نوع‪ ،‬وإنَّ ما‬ ‫أو‬ ‫ٍ‬

‫دؤوب إلثارة‬ ‫سعي‬ ‫هو‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫وتلمس اإلجابات‬ ‫األسئلة‬ ‫ُّ‬ ‫التي تُ فضي‬ ‫الفهم وتعزيز‬

‫القدوم‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫يخصصها‬ ‫فال نكا ُد نجاوز قراءة فقرة من الفقرات التي‬ ‫ِّ‬ ‫المُ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫بقلم‬ ‫مسك أصابعُ الكف‬ ‫حتى ُت‬ ‫فكر لإلجابة عن سؤال‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫ِّ‬ ‫العقل المُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫حف ُز بما تنطقه أو بما ال‬ ‫لخط أسئلةٍ يُ مليها‬ ‫يتهيأ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مباشرة أو تنطوي ضمنا عليه من‬ ‫تبثه‬ ‫اإلجابات‪ ،‬وبما‬ ‫تنطقه‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫ميزة ُتحسب للسائل‬ ‫أحسب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫رات وخالصات وتلك‪ ،‬فيما‬ ‫تبص ٍ‬

‫‪.‬‬

‫إن َّ‬ ‫تم تقديمها في سياق‬ ‫والمجيب‪ ،‬وال تحسب على أيٍّ منهما ْ‬ ‫جدالي‪ ،‬وبوصفها مقترحات قابلة للجدل؛ فما الفكرُ إال أسئلةٌ‬

‫تبحث عن إجابات ما أن يجدها المُ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫فكرُ ح َّتى يحولها عَ ْق ُل ُه‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫المُ حف ِز والمُ َحفز‪ ،‬كما عقل المتلقي المتفاعل النّاقد‪ ،‬إلى أسئلة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫واستيعابا أعلى‪،‬‬ ‫أعمق‪،‬‬ ‫وإدراكا‬ ‫فهما أوسعَ ‪،‬‬ ‫جديدة تتوخى‬ ‫ً‬ ‫ٍّ‬ ‫شك أقلَّ‬ ‫ظالل‬ ‫ويقينا ذا‬ ‫ِ‬

‫‪.‬‬

‫العنوان الرئيس‪ :‬تحييد الداللة وتحفيز العقل‬

‫ُ‬ ‫أن نبدأ‪ ،‬أي وفق تسلسل عملية‬ ‫إذن من‬ ‫فلنبدأ‬ ‫حيث ينبغي ْ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫القراءة‪ ،‬رأسيا وأفقيا‪ ،‬أي أننا سنبدأ من العنوان الرئيس‬

‫ٍّ‬ ‫واالستهالل‪َّ ،‬‬ ‫نحو‬ ‫ثم ننتقل إلى األسئلة واإلجابات‪ ،‬وذلك على‬ ‫ُّ‬ ‫يُ مكننا‪ ،‬عبر توالي القراءات‪ ،‬من إدراك هيكلية المُ قابلة وتوزع‬

‫ً‬ ‫وسيرا على نهج الساللة الرُّ شدية‪،‬‬ ‫وإلى ذلك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أن " ال أح َد يملك الحقيقة‬ ‫وتأسيسا على حقيقة ْ‬

‫أقسامها‪ ،‬ومن تعرُّ ف بُني األسئلة واإلجابات عبر تلقي رسائلها‬

‫سؤال تفضي اإلجابة عنه إلى‬ ‫كل جواب إلى‬ ‫ٍ‬ ‫تأصيل إجابة سابقة عبر تعديلها أو تقليصها‬

‫تفتح بدورها‬ ‫ُ‬ ‫الخالصات من أسئلة تتوق للعثور على إجابات‬

‫َّ‬ ‫والشك وتحويل‬ ‫المُ طلقة"‪ ،‬ومتابعة لنهج ال َّتساؤل‬

‫أو اإلضافة عليها لضبطها وتطويرها‪ ،‬أو إبدالها‬ ‫ً‬ ‫تماما لثبوت الحاجة العقلية والمنطقية إلى‬

‫مفتوح‬ ‫ُ‬ ‫ذلك‪ ،‬فإننا‬ ‫وار فكريٍّ‬ ‫نذهب إلى إثارة حِ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫مع ما طرحه المُ فكر الفيلسوف مُ راد وهبة‪ ،‬في‬

‫ُّ‬ ‫رات ورؤى‬ ‫أفكار‬ ‫المُ قابلةِ المُ شار إليها‪ ،‬من‬ ‫وتبص ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إلى ترقية‬ ‫فإن الحوار مع األفكار‬ ‫وخالصات وبطبيعة الحال‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫يتوخى‪،‬‬ ‫أن‬ ‫يتوخى‪ ،‬وال يُ مكن له‬ ‫االستيعابوالرؤى ال‬ ‫قطعا ْ‬ ‫ً‬ ‫أي طبيعةٍ أو درجةٍ أو نوع‪،‬‬ ‫قبضا على حقيقة من ِّ‬

‫‪.‬‬

‫وتعميق اإلدراك‬

‫دؤوب إلثارة األسئلة وتلمُّ س اإلجابات‬ ‫ٌ‬ ‫سعي‬ ‫وإ َّنما هو‬ ‫ٌ‬ ‫التي ُتفضي إلى ترقية الفهم وتعزيز االستيعاب وتعميق‬ ‫عتم ُّ‬ ‫اإلدراك لتفتح أفق التماس يقين ال يُ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫بالشك‬ ‫ظله المسكون‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫على يقينيته الرَّ اهنة التي يُ ِّ‬ ‫سوغها العقل بوصفه ملكة إدراك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عقلي من جهة‪ ،‬وباعتباره حيِّ ً‬ ‫ُ‬ ‫يكتنز معرفة مُ‬ ‫َّ‬ ‫تحصلة‬ ‫زا معرفيا‬ ‫ٍّ‬ ‫َّ‬ ‫رسخ حقيقتها‬ ‫تم تأصيلها عبر ملكة اإلدارك العقلي على‬ ‫نحو َّ‬ ‫ٍ‬

‫اليقينية الرَّ اهنة‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬

‫هيكلية المُ قابلة وبنى األسئلة واإلجابات‬

‫فإن قراءة المُ قابلة‪ ،‬وال نقول المُ حاورة‪ ،‬من‬ ‫وفي واقع األمر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫وإجابات تبثُّ‬ ‫تتأسس على مُ‬ ‫دركات سابقة‬ ‫حيث كونها أسئلة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬

‫ُّ‬ ‫ات ومرَّ ات‪،‬‬ ‫خالصات‬ ‫رات جديدة‪ ،‬ومُ عاودة قراءتها مرَّ ٍ‬ ‫وتبص ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫والسعي إلضاءة اإلجابات وتدقيقها وإدراك مُ ِّ‬ ‫سوغاتها عبر‬ ‫َّ‬ ‫متابعة َّ‬ ‫الذهاب إلى استشارة المظانِّ القريبة ِّ‬ ‫الصلة بها في‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الخاصة‬ ‫المتنوعة‪ ،‬ومن ضمنها مؤلفاته‬ ‫كتابات مراد وهبة‬ ‫ودراساته المنشورة ضمن كتب مشتركة‪ ،‬ومقاالته المتواترة‬

‫‪114‬‬

‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫واسعا أمام انهمار‬ ‫تفتح المجال‬ ‫ٌ‬ ‫والصحف‪ ،‬إنما‬ ‫في المجالت‬ ‫أسئلة تتنوَّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫وغايات انبثاقها ومقاصدها‪،‬‬ ‫ع أشكالها وأنماطها‬

‫وتبين كيفيات صوغها إلدراك منطوياتها‬ ‫وتحليل عباراتها‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫والشروع في مناقشة خالصاتها استجابة لما تثيره هذه‬

‫ُ‬ ‫أن‬ ‫يتوخاه أي‬ ‫الحوار مع المقابلة على م َّت َسع‬ ‫فكر يريد لنفسه ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫يكون مُ‬ ‫ستنيرا‬

‫‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫الموز ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫يحمل‬ ‫ع على سطرين مترابطين‬ ‫العنوان‬ ‫يحضىرنا‬ ‫ُ‬ ‫مضاف ومُ ضاف إليه هي عبارة‬ ‫أولهما عبارة تأتي في صيغة‬ ‫ٍ‬ ‫مصدر واسم مفرد مُ عرَّ ف‪،‬‬ ‫"تحرير العقل" التي تتكون من‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والتي تبدو‪ ،‬لعدم اكتمالها في صيغة جملة‪ ،‬عبارة مُ حايدة ال‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫الحقا‬ ‫سيقرأه‬ ‫أن ما‬ ‫تتوخى‬ ‫شيئا سوى لفت انتباه القارئ إلى َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫إنما يتعلق بموضوع "تحرير العقل"‪ ،‬فيما يحمل السطر الثاني‬

‫ُ‬ ‫ً‬ ‫تعطف صيغة اإلضافة "سجون الماضي"‪ ،‬المكونة‬ ‫عبارة أخرى‬ ‫َ‬ ‫جمع أضيف إليه اسم مُ فردٍ مُ عَ رَّ ف‪ ،‬على صيغة النَّعت‬ ‫من اسم‬ ‫ٍ‬ ‫"المحرَّ مات الثقافية" المكوَّ نة من اسم جمع مُ عرَّ ف وصفة هي‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫أن المحرمات الموصوفة‬ ‫اسم جمع مُ عرَّ ف‬ ‫بدورها‬ ‫توضح َّ‬ ‫ٌ‬ ‫صيغ‬ ‫ثقافية فحسب‪ ،‬لتضعَ القارئ أمام ثالث‬ ‫هي محرَّ مات‬ ‫ٍ‬ ‫ضافة ومنعوتةً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫األسماء‪ ،‬مُ‬ ‫لغوية نحوية تعتمد‪ ،‬كما الحظنا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫نحو يُ غيِّ ب حضو َر الفعل والخبر‬ ‫ومعطوفة‪ ،‬وذلك على‬ ‫ٍ‬ ‫أن‬ ‫فيحول دون اكتمال المعنى في تركيبة العنوان الذي يبدو َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫توخى أال يكون إال مُ‬ ‫حايدا في داللته المباشرة التي‬ ‫واضعه قد‬ ‫سعى‪ ،‬عبر استدراج دالالت ضمنية غير محايدة‪ ،‬إلى وسمها‬

‫بالمُ راوغة‪ ،‬وذلك من خالل وسم المُ حرَّ مات بصفة "ال َّثقافية"‬ ‫بالزمن "الماضي" ُ‬ ‫ُ‬ ‫وت ِّ‬ ‫وت ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫حديدها‬ ‫جون‬ ‫الس‬ ‫حديدها بها‪،‬‬ ‫وخص ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫يخص إال‬ ‫به عبر إضافتها إليه‪ ،‬وكأ َّنما تحرير العقل أمرٌ ال‬ ‫ْ‬ ‫شيدت في‬ ‫تحرير هذا العقل من المحرمات ال َّثقافية التي َّ‬

‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫األصل والمُ سبِّب‬ ‫العلة‬ ‫"سجون الماضي"‪ ،‬والتي هي‬ ‫الماضي‬ ‫َ‬


‫السجون المعلولة برسوخ وجودها في الماضي‬ ‫ُ‬ ‫األساس لتلك ُّ‬ ‫الذي مضي‪ ،‬أو في الماضي الذي يتم َّدد في األزمنة ْ‬ ‫إذ ال يزال‬ ‫ً‬ ‫حاضرا في الحاضر بوصفه الغطاء ال َّثقافي المهيمن على هذا‬ ‫ً‬ ‫الحاضر على نحو يجعله مُ َّ‬ ‫رشحا للهيمنة على المستقبل الذي‬

‫ماض بعيد!‬ ‫نبئ بمجيئه من أغوار‬ ‫ٍ‬ ‫يُ ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫العنوان‪ ،‬المُ‬ ‫ٍ‬ ‫بذكاء‬ ‫ستل من فحوى المقابلة‬ ‫هكذا يُ حضر‬ ‫ُ‬

‫ُ‬ ‫يحرص على تفادي الوقوع في شرااك ما اتسمت به أقوال‬ ‫المُ ِّ‬ ‫فكر ُ‬ ‫وخالصاته الواردة فيها من يقينية قاطعة وحاسمة‬ ‫كان هذا َّ‬ ‫َّ‬ ‫الش ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ظل يقين‪،‬‬ ‫ك‬ ‫شك ح َّتى لو‬ ‫ومُ عمَّ مة ال يعتورها‬ ‫َ‬ ‫يُ َح ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ضرُ القارئ لتلقي المُ قابلة بعقل مُ ِّ‬ ‫يكف عن‬ ‫تفتح ناقد ال‬ ‫ٍ‬ ‫تفحص األسئلة وإدراك اإلجابات بوصفها َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ولدة أسئلةٍ أخرى‬ ‫تفتح‪ ،‬بدورها‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫السؤال‬ ‫ُ‬ ‫تقترح إجابات مُ غايرة ال تني‬ ‫أفق ُّ‬

‫‪.‬‬

‫االستهالل‪ :‬إثارة وتشويق وتلميع مرايا‬

‫َّ‬ ‫ويتخلى‬ ‫أن االستهالل يُ غادرُ منطقة المُ َحايدة ومنطقها‪،‬‬ ‫غير َّ‬ ‫أسسه العنوان لدى القارئ من‬ ‫عن ما َّ‬ ‫ِّ‬ ‫تحفيز لالطالع على المقابلة ومقاربتها‬

‫ِّ‬ ‫بعقل مُ‬ ‫ائل وناقد‪ ،‬فما‬ ‫تحف ٍز‪ ،‬مُ ت َ‬ ‫َس ٍ‬ ‫أن تقعُ عين القارئ على مُ ستهلِّ‬ ‫ْ‬ ‫االستهالل ح َّتى تقرأ عبارة خبرية‪ ،‬أو‬ ‫ٌ‬ ‫محذوف‬ ‫خبر‪،‬‬ ‫جملة اسمية في محل‬ ‫ٍ‬ ‫مبتدأها‪ ،‬لتنتمي إلى صحافة اإلثارة‬

‫والتشويق "أخطر أستاذ جامعي في‬

‫‪..‬‬

‫العامة باعتبارهم “نخبة” "‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫مقرونة‬ ‫االستهالل‬ ‫يتوخاها‬ ‫ويزدا ُد اشتعال اإلثارة التي‬ ‫باألحكام القاطعة‪ ،‬وذلك في تعارض مع مقاصد العنوان‬

‫وعبارات من قبيل‬ ‫الرئيس‪ ،‬مع توالي وقوع العين على جمل‬ ‫ٍ‬ ‫أن أستاذ الفلسفة قد "سعى على مدار سنواته التسعين‪،‬‬ ‫َّ‬

‫أن يكون سقراط في القرن العشرين‪ ،‬أن يتنازل عن “عرش‬ ‫الفالسفة” إلى حيث يوجد الجماهير‪ ،‬يحاورهم ويغيِّ ر من‬

‫معتقداتهم السائدة المتوارثة عن غير تفكير‪ ،‬وتحمَّ ل في‬

‫سبيل ذلك الكثير من الهجوم والحمالت الشعواء التي‬ ‫خطرا على المجتمع "‪ ،‬أو من قبيل أن المُ ِّ‬ ‫ً‬ ‫فكر مراد‬ ‫اعتبرته‬ ‫َّ‬

‫‪.‬‬

‫وهبة يمتلك "العديد من األفكار التي تعد صادمة للكثيرين"‬ ‫وأنه "ضد الجماعات الدينية واإلسالمية بكافة تفرعاتها"‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫وأنه‬ ‫ً‬ ‫تباينا بين هذه الجماعات وفروعها يُ‬ ‫وجب الفصل بينها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال يرى‬

‫أن تكون "فروعا كثيرة من أصل واحد هو‬ ‫وإنما هي ال تعدو ْ‬

‫“األصولية الدينية” ‪...‬‬

‫الم ُّ‬ ‫ستل من فحوى‬ ‫ُ‬ ‫العنوان‪ُ ،‬‬ ‫يحرص على‬ ‫بذكاء‬ ‫المقابلة‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫تفادي الوقوع في شرااك‬ ‫الم ِّ‬ ‫فكر‬ ‫ما اتسمت به أقوال ُ‬

‫الخبر الواصفة هو " المفكر واألكاديمي‬

‫ُ‬ ‫وخالصاته الواردة فيها من‬

‫وأن نعته بالـ "أخطر"‪ ،‬إنما‬ ‫مراد وهبة"‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ورد في " التقارير األمنية"‪ ،‬وذلك َّ‬ ‫ألنهُ‬ ‫ِّ‬ ‫السياسات االقتصادية‬ ‫عارض"بعض‬

‫‪.‬‬

‫يقينية قاطعة وحاسمة‬ ‫عممة ال يعتورها ٌ‬ ‫شك‬ ‫ُ‬ ‫وم َّ‬

‫ولكن‬ ‫في عصر الرئيس السادات"‬ ‫َّ‬

‫كان هذا َّ‬ ‫الش ُك َّ‬ ‫ظل‬ ‫حتَّ ى لو‬ ‫َ‬

‫َّ‬ ‫األعم األغلب من‬ ‫أن‬ ‫جرَّ اء معرفتنا َّ‬

‫يقين‪ُ ،‬ي َح ِّض ُر القارئ لتلقي‬

‫خفوت اإلثارة سرعان ما يختفي‬ ‫المفكرين واألكاديميين والمثقفين‬

‫المصرين‪،‬‬

‫على‬

‫تع ُّدد‬

‫توجهاتهم‬

‫وحرمانه من التفكير الناقد الذي‬ ‫َّ‬ ‫وأنه‬ ‫يجعله ينظر إلى المستقبل"‪،‬‬

‫"يقبل بالعلمانية التي تدفع نحو تطور‬

‫أن هذه‬ ‫الجامعات المصرية"‪ ،‬غير َّ‬ ‫ُ‬ ‫تخفت حين تكشف‬ ‫اإلثارة سرعان ما‬ ‫المعني بعبارة‬ ‫أن‬ ‫التوضيحات الالحقة َّ‬ ‫َّ‬

‫التي ساهمت في تخريب العقل العربي‪،‬‬

‫بعقل ُمتفتِّ ح ناقد‬ ‫المقابلة‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬

‫َ‬ ‫عارض‪ ،‬ليس‬ ‫الفكرية والسياسية‪ ،‬قد‬

‫المجتمعات والتي تعد البديل الوحيد‬

‫‪.‬‬

‫للدوغماطيقية الفكرية "‪ ،‬وما إلى ذلك‬ ‫أقوال حاسمة وقاطعة‬ ‫وغيره من‬ ‫ٍ‬ ‫تنطوي على إثارة ُتجافي طبيعة‬ ‫ُ‬ ‫الحر ومقتضيات‬ ‫الفكر التنويري‬

‫التفكير الفلسفي الرَّ صين‪ ،‬ومغالطات‬ ‫ال تؤيدها الوقائع المشهودة والحقائق‬

‫ِّ‬ ‫الصلة‪ ،‬وال سيما‬ ‫التاريخية ذات‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫تلك المتعلِقة بما قدمه المفكرون‬ ‫ال َّتنويريون‬

‫توجهاتهم‪،‬‬

‫العرب‪،‬‬

‫وعلى‬

‫على‬

‫مدار‬

‫تع ُّدد‬

‫القرنين‬

‫األخيرين من َّ‬ ‫الزمان على األقل‪ ،‬من‬ ‫رفض ألنطمة‬ ‫"أفكار صادمة"؛ ومن‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫المتعددة والمتشابكة مع أنظمة‬ ‫ال َّتابو‬

‫االستبداد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا؛‬

‫ومن‬

‫ِّ‬ ‫المتعددة‬ ‫كشف‬

‫والمُ تشابكة‬

‫عن‬

‫مخاطر‬

‫األصولية وال َّتطرف والتفكير الظالمي‬ ‫ً‬ ‫أيا كانت مصادرها ومقاصدها‬ ‫ِّ‬ ‫المتنوعة والمتشابكة والمتضافرة مع‬

‫"بعض السياسات االقتصادية في‬

‫قوى االستعمار واالستبداد وأنظمة‬

‫السادات نفسه‬ ‫عصر السادات" بل‬ ‫َّ‬ ‫وج َّ‬ ‫ُ‬ ‫السوية على‬ ‫ل سياساته غير‬ ‫َّ‬

‫امتداد مرحلة حكمه مصرَ‪ ،‬أي طوال ما يسميه االستهالل‬ ‫ُ‬ ‫السادات" بأكمله‪َّ ،‬‬ ‫ليشتعل من جديدٍ ‪ ،‬وعلى‬ ‫ثم يعود‬ ‫"عصر َّ‬ ‫الفور‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أن صفة ُ‬ ‫الخطورة تلك لم‬ ‫إذ تخبرنا جملة‬ ‫االستهالل َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُتبارح المُ فكر واألكاديمي مراد وهبة‪ ،‬فـ "ذلك الخطر ال زال‬

‫‪...‬‬

‫ال َّتابو؛ ومن قبول بالعلمانية (وفق‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫متحوالً وحمَّ ال أوجه)‪ ،‬ومن‬ ‫مصطلحا‬ ‫متبدل لكونها‬ ‫مفهوم‬

‫إطالق للفكر التنويري النَّاهض على اإلعالء من شأن العقل‬ ‫ُ‬ ‫الح ِّر إلنهاض وعي قادر على تمكين النَّاس من إطالق مسيرة‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫نهضوية شاملة تمكنهم من مغادرة الماضي المتمدد في‬

‫ّ‬ ‫والذهاب إلى مستقبل يستدعيه وعيهم من مستقبل‬ ‫حاضرهم‬

‫[كذا في األصل] يالزمه حتى اآلن"‪ ،‬ولكن ألسباب أخرى مؤداها‬ ‫َّ‬ ‫أنه "رافض على طول الخط أن يقمع عقله أو يساير الواقع أو‬

‫َّ‬ ‫مؤصل ال يُ فارق إدراك شروط نقل الواقع‬ ‫بوعي‬ ‫يتصوَّ رونه‬ ‫ٍّ‬

‫يسكنه غيره من المفكرين القانعين بضرورة انفصالهم عن‬

‫ُ‬ ‫وتتسم بالواقعية‬ ‫وفق رؤية مستقبلية‪ ،‬شاملة ومتماسكة‪،‬‬

‫أن يقبع في برج عاجي بعي َدا عن المجتمع الجماهيري‪ ،‬والذي‬

‫ممكن منشود‪ ،‬ومقتضيات فعل ذلك‬ ‫واقع‬ ‫القائم المرفوض إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪115‬‬


‫سجال‬

‫العملية وإمكان التطبيق!‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فإن ما يُ‬ ‫نقول‬ ‫ؤخذ على استهالل المُ قابلة‪ ،‬وال‬ ‫وعلى ما يبدو ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫تعكس إال‬ ‫المُ حاورة‪ ،‬من إثارة وتشويق‪ ،‬أو من تلميع مرايا ال‬ ‫ُ‬ ‫مقوالت المُ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ملمح‬ ‫يلتقط سطحها‬ ‫فكر وخالصات تفكيره‪ ،‬وال‬ ‫َ‬ ‫ٍّ‬ ‫مناقض‪ ،‬يُ حاوره‪ ،‬إنما يعو ُد‬ ‫فكر آخر‪ ،‬مُ غاير أو‬ ‫ظل يعو ُد إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫في األصل‪ ،‬وعلى األغلب‪ ،‬إلى وقوعه في شراك اإلجابات‬

‫عبر تعمُّ ده تصعيد ما انطوت عليه هذه اإلجابات من إثارة‬ ‫ً‬ ‫قدرا هائالً‪ ،‬وغير‬ ‫وتشويق ينبعان بدورهما من اكتسابها‬ ‫مسبوق في مجال الفكر والفلسفة على األقل‪ ،‬من الوثوقية‬ ‫ٍ‬ ‫المؤسس والحسم القاطع!‬ ‫اليقينية وال َّتعميم غير‬ ‫َّ‬

‫جرثومة ال َّت ُّ‬ ‫خلف ومُ ضا ُّدها الحيوي‬

‫عصرنا ووسمت حاضرنا؟ وهل نحو تسعة القرون التي‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫زمنا َجمُ د‬ ‫تكن إال‬ ‫الصراع لم‬ ‫تفصلنا عن زمن اندالع ذلك‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وانتفت صيرورته ْ‬ ‫فيه َّ‬ ‫إذ امتنعَ وجو ُد النَّاس‪ ،‬ف َخل ْ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫الز ُ‬ ‫نوع‪ ،‬ولم‬ ‫مراحله وأحقابه من أي صراع‪ ،‬من أي طبيعة أو‬ ‫ٍ‬

‫معرفي‬ ‫حقل‬ ‫مكاني أو‬ ‫أي َحيِّ ٍز‬ ‫تغير في ِّ‬ ‫يعتورها تحوُّ ل أو ُّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫أو مجال؟!‬

‫ومقوالت مفعمة باإلثارة والتشويق وغيرهما من ِّ‬ ‫السمات‬ ‫التي أشرنا إلى اقترانها بها‪ ،‬ومن ذلك‪ ،‬مثالً‪ ،‬حرصه‬

‫أن ينطبق‪ ،‬بدرجة أو بأخرى‪ ،‬على أغلب األسئلة التي من‬ ‫إليه‪ْ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫اطالع‬ ‫على‬ ‫اعتمادا‬ ‫تم‬ ‫قد‬ ‫جميعا‬ ‫إعدادها‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫بيعي‬ ‫الط‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫المعني ومفكرين‬ ‫واف من قبل مُ عدها على كتابات المُ فكر‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫آخرين ذوي ِ‬ ‫المتعلقة بموضوعات المُ قابلة‬ ‫صلة‪ ،‬وال سيما تلك‬

‫ً‬ ‫جرثومة‬ ‫أن يكون إال‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫طريقة في‬ ‫تُ ْم ِلي‬

‫التَّ فكير ُيمكن التَّ ُّ‬ ‫خلص‬ ‫منها بتعاطي العلمانية‬ ‫التي هي "مضاد‬ ‫َّ‬ ‫يتكف ُل بالقضاء‬ ‫حيوي"‬ ‫ُ‬ ‫العقل‬ ‫عليها‪ ،‬فيتعافي‬

‫المك َّثف على تشبيه األصولية‪ ،‬أو التيار الالعقالني‬ ‫المُ حافظ ممثالً بابن تيمية وأتباعه‪ ،‬بـ "جرثومة‬ ‫ال َّت ُّ‬ ‫خلف"‪ ،‬واعتباره فلسفة ابن رشد بمثابة "المضاد‬ ‫ُّ‬ ‫الحيوي لل َّتخلص من هذه الجرثومة" [مراد وهبة‬ ‫(مُ ح ِّرر)‪ :‬حوار حول ابن رشد‪ ،‬مقدمة الكتاب‪،‬‬ ‫المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬

‫‪ ،1995‬ص ‪ ،]10‬وذلك في اقتران مع تأكيد خالصة‬ ‫ُ‬ ‫إن "تطبيق العلمانية‬ ‫حاسمة وقاطعة‬ ‫تقول َّ‬

‫‪...‬‬

‫[هو] المخرج الوحيد من هيمنة التيارات‬ ‫َّ‬ ‫مجلة الجديد‪ ،‬العدد‬ ‫األصولية" [تحرير العقل‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫‪ ،11‬ص ‪]66‬‬ ‫ً‬ ‫وكأنما ال َّت ُّ‬ ‫جرثومة ُتمْ لِي‬ ‫أن يكون إال‬ ‫خلف ال يعدو ْ‬ ‫طريقة في ال َّتفكير يُ مكن ال َّت ُّ‬ ‫ً‬ ‫خلص منها بتعاطي‬

‫َّ‬ ‫يتكف ُ‬ ‫ل بالقضاء‬ ‫وجميع العلمانية التي هي "مضاد حيوي"‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫صحته وجميع ملكاته‬ ‫العقل ويستعيد‬ ‫عليها‪ ،‬فيتعافي‬

‫ليشرع في نقل النَّاس من حال ال َّت ُّ‬ ‫َ‬ ‫خلف إلى‬ ‫وطاقات وطاقاته‬ ‫نحن‪ ،‬في هذا العصر‪ ،‬غير مُ طالبين‪ ،‬كي‬ ‫نقيضه! وكأ َّنما‬ ‫ُ‬ ‫ُنقضي على ال َّت ُّ‬ ‫خلف ونغادر أزمنته‪ ،‬إال بخوض صراع فكري‬

‫قديم نستعيده كي ننتصرُ فيه لـ"ابن رشد" على "الغزالي"‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ثم على وريثه الذي صار رأس ساللته "ابن تيمية"‪ ،‬وكأ َّنما‬ ‫ً‬ ‫كان علمانيا من القرن الحادي والعشرين يعيش في‬ ‫ابن رشد‬ ‫َ‬

‫"غزالي" القرن الثاني عشر‪ ،‬أو‬ ‫كان‬ ‫القرن الثاني عشر‪ ،‬فيما‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫القرن الثالث عشر‪ ،‬محض فقيهين ظالميين‪،‬‬ ‫"ابن تيمية"‬ ‫َ‬

‫ويكا ُد أمرُ الوقوع في ِّ‬ ‫الشراك الذي أخذ االستهالل إلى ما أخذه‬

‫ً‬ ‫سلفا‪ ،‬أو تلك التي نجمت عن‬ ‫ومحاورها األساسية المُ قرَّ رة‬

‫‪.‬‬

‫عقب تقرير زمن إجراء المُ قابلة ومع‬ ‫تحديث ذلك االطالع‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫تتسم‬ ‫أن لعبة الوقوع في الشراك قد صارت تبادلية‬ ‫ذلك‪ ،‬يبدو َّ‬ ‫ُ‬ ‫بال َّتواطؤ ما بين السائل والمجيب‪ْ ،‬‬ ‫األسئلة مقوالت‬ ‫فإذ ت َبنَّت‬ ‫وأقواالً بدا أ َّنها "مُ َّ‬ ‫و"خالصات مُ َّ‬ ‫ؤصلة"‪،‬‬ ‫سلمات" و"بديهيات"‬ ‫ٍ‬

‫تداولة بكثافةٍ وإسراف‪ ،‬أو ألن المُ ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متواترة‪ ،‬أو مُ‬ ‫فكر‬ ‫لكونها‬ ‫َّ‬ ‫قد اعتب َر ها خالصات يقينية وحقائق راسخة ال يعتورها ظلُّ‬ ‫شك‪ ،‬نج ُد أن المُ ِّ‬ ‫ً‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫تأسيسا على ما أضاءه‬ ‫يشرع في اإلجابة‬ ‫فكر‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫السؤال من بداهةٍ أو حقيقةٍ راسخةٍ أو مقولةٍ يقينيةٍ موسومةٍ‬ ‫بإطالقيةٍ‬

‫تؤهلها لل َّتعميم‪.‬‬

‫أن تكون‬ ‫وكأ َّنما األسئلة ال تعدو ْ‬

‫صفحات من مؤلفاته السابقة‬ ‫إال مرايا ال يرى فيها المفكر إال‬ ‫ٍ‬ ‫مالمح ُّ‬ ‫تدل ُه‪ ،‬من جديد‪ ،‬على ما كان قد ُ‬ ‫َّ‬ ‫توصل إليه‬ ‫رآه أو‬ ‫أو‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫خالصات ورؤى وأفكار!‬ ‫قبل‪ ،‬من‬ ‫وصاغه‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬

‫َ‬ ‫غفل أهميتها‪،‬‬ ‫وكي ال نطيل الوقوف عند هذه المالحظة أو ُن‬ ‫نلفت انتباه القارئ‪ ،‬بإيحاز‪ ،‬إلى بعض األسئلة ومستهل‬

‫اإلجابات التي تندرج‪ ،‬للوهلة األولى‪ ،‬في هذا اإلطار‪ :‬السؤال‬ ‫األول (تر ُّنح الفكر العربي بين الجمود األصولي وال َّتمرد‬ ‫ُّ‬ ‫(تجذر المُ حرَّ مات في المجتمعات‬ ‫العاجز)؛ السؤال الثاني‬

‫العربية)؛ السؤال الثالث (هامشية فلسفة ابن رشد واستبعادها‬ ‫عن التطبيق)؛ السؤال الرَّ ابع (اإلبداع وال َّتعليم‪ ،‬وانحطاط‬ ‫ال َّتعليم في ش َّتى بالد العرب)؛ السؤال السابع (المصير المُ خزي‬

‫مسكون بمحمد بن عبد الوهاب‪،‬‬ ‫سياسي‬ ‫إسالم‬ ‫أو داعيتي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫الخفي المدعو أبا بكر‬ ‫وحسن البنا‪ ،‬وسيد قطب‪ ،‬وبالكائن‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫مؤلف كتاب "إدارة ال َّت ُّ‬ ‫وحش"‪ ،‬أو‬ ‫ناجي الذي يُ ْزعَ ُم أ َّنه‬

‫إيجابي‬ ‫الرَّ بيع العربي"‪ ،‬وعجز المثقف العربي عن أداء أي دور‬ ‫ٍّ‬ ‫إبَّان هذه ال َّثورات)؛ السؤال الثاني عشر (ال َّتطور يقف مع‬

‫السوداء "خليفة للمسلمين" في دولتهم الكرتونية‬ ‫والعنصرية َّ‬

‫السؤال التاسع عشر (الهوَّ ة القائمة بين العقل األوروبي والعقل‬

‫ح َّتى البلطجي المُ َّ‬ ‫نصب من قبل قوى االستعمار واالستبداد‬

‫أن‬ ‫المُ صطنعة المُ سمَّ اة بـ"ال َّدولة اإلسالمية" التي يُ راد لها ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫تعرض أمام البشرية بأسرها صورة مُ‬ ‫صطنعة لإلسالم ُتجافي‬

‫‪116‬‬

‫عصورهم ومسبِّبات صراعاتهم التي أسهمت في تأسيس‬

‫وفي حقيقة األمر‪ ،‬فإن كتب المُ ِّ‬ ‫فكر الفيلسوف مراد وهبة‬ ‫َّ‬

‫كأنما التَّ ُّ‬ ‫خلف ال يعدو‬

‫ملكاته‬

‫كثب وأولينا مؤلفاتهم‪ ،‬وسيرهم‪،‬‬ ‫والغزالي وابن تيمية عن‬ ‫ٍ‬ ‫وسالالتهم‪ ،‬وامتداداتهم السابقة والالحقة‪ ،‬عناية العقل‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫حق اإلدراك‪ ،‬شروط‬ ‫حق الفهم وأدركنا‪،‬‬ ‫النَّاقد ففهمناهما‬

‫ُ‬ ‫شراك ال َّتواطؤ ‪ :‬األسئلة المرايا وإطالقية اإلجابات‬

‫وعبارات‬ ‫عناوين وأقوال‬ ‫ودراساته ومقاالته ال تفتقر وجود‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬

‫صحته‬ ‫ويستعيد َّ‬

‫نحن قد قرأنا ابن رشد‬ ‫حقيقته‪ ،‬أو غيره وغيرهم‪ ،‬فهل‬ ‫ُ‬

‫الذي وصلت إليه الدول العربية إبَّان ما أطلق عليه "ثورات‬

‫لكن المجتمع يُ ساند الدوغماطيقية واألصولية)؛‬ ‫العلمانية‬ ‫َّ‬

‫نواح عديدة)؛ السؤال العشرون (الفكر العربي في‬ ‫العربي في‬ ‫ٍ‬ ‫غيبوبة وجميع تياراته يُ عاني من سيطرة المُ حرَّ مات الثقافية)؛‬


‫إبراهيم الصلحي‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وحاكما جميع تجلياتها‪،‬‬ ‫منبثقا عنها‬ ‫لفلسفته‪،‬‬

‫وضمن هؤالء الفالسفة‪ ،‬بل في مقدمتهم‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬ابن تيمية وابن رشدٍ ‪ ،‬وساللتيهما‪،‬‬ ‫وذلك بوصفهما الفيلسوفين‪ ،‬أو الفقيهين‪،‬‬ ‫أو الفقيه والفيلسوف‪ ،‬اللذين هما‪ ،‬ح َّتى‬ ‫اللحظة‪ ،‬طرفا الثنائية التناقضية الخالدة في‬ ‫أزمنتنا؟! وهل يُ مكن إدراك الفكر بمعزل عن‬

‫سياقاته وارتباطاته وأنماط تجليه وأحوال‬ ‫ٌ‬ ‫شروط موضوعية‬ ‫المجتمعات التي حكمتها‬ ‫وكانت هي الحاضنات‪ ،‬أو المستنبتات‪،‬‬ ‫أو المجاالت الحيوية أو الكهوف المعتمة‪،‬‬ ‫النبثاق هذا النوع أو ذاك من الفكر‪ ،‬وتنميته‬

‫والسعي إلى تحقيق وجوده في‬ ‫وتمديده‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أحياز الحياة العملية‪ ،‬أأقبية كانت أم قبابا‪،‬‬ ‫عبر آليات تطبيق تنبع منه‪ ،‬أو ُت ُ‬ ‫فرض عليه؟!‬ ‫إن "المُ حرَّ مات‬ ‫وهل يكفي ْ‬ ‫أن ُنك ِّرر القول َّ‬ ‫ِّ‬ ‫الثقافية مُ تجذرة في المجتمعات العربية"‪،‬‬ ‫مُ كتفين بإرجاع ذلك ال َّت ُّ‬ ‫جذر إلى "ماضوية‬

‫أن‬ ‫العقل العربي" الذي "يستمتع ويشتهي ْ‬ ‫يحيا في الماضي"‪ ،‬أو إلى "الخوف من تلقي‬

‫صدمات في المعتقدات الرَّ اسخة"؟‬ ‫َّ‬ ‫أكسب العقل‬ ‫العلة وأين المعلول هنا؟ ما الذي‬ ‫َ‬ ‫فإين‬

‫السؤال الثالث والعشرون (ال َّتساؤل َّ‬ ‫عم إذا كانت "الرأسمالية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حاسما في ال َّتاسيس لـ"األصولية‬ ‫دورا‬ ‫الطفيلية" قد لعبت‬

‫ِّ‬ ‫الدينية" وذلك في صيغة يحيل فيها السؤال على إجابة‬ ‫ِّ‬ ‫معلومة تؤكد أنها قد فعلت)؛ السؤال الرَّ ابع والعشرون (إخضاع‬ ‫ال ُّتراث للرؤية المُ ستقبلية وتجريده من القداسة)؛ السؤال‬

‫الخامس والعشرون (تخليص الثقافات العربية من العنف‬

‫المُ ق َّدس الذي اجتاحها)؛ السؤال التاسع والعشرون (المأزق‬ ‫ِّ‬ ‫أن يُ سمَّ ى‬ ‫المتمثل في عدم وجود "فالسفة عرب" أو ما يمكن ْ‬ ‫"فلسفة عربية" وكيفية الخروج منه)؛ السؤال الثالثون (من‬ ‫ِّ‬ ‫المفكر والفيلسوف)؛‬ ‫هم الفالسفة العرب وما هو الفرق بين‬

‫‪.‬‬

‫السؤال الواحد والثالثون (ارتفاع نسب اإللحاد في العالم‬

‫‪.‬‬

‫العربي وتوتر العالقة بين اإليمان وإعمال العقل)‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫وإذ يبدو أن اغلب األسئلة الواردة أعاله‪ ،‬وإجابات المفكر‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫مؤصلة‬ ‫عنها‪ ،‬تتضمَّ نان مقوالت ق ِّدمت في هيئة بديهيات‬ ‫ً‬ ‫فكريا‪ ،‬أو راسخة في ال َّتاريخ‪ ،‬أو ذات صدقية تستجيب‬ ‫فإن مجرد تقديمها على هذا النَّحو إ َّنما‬ ‫لمعايير قائلها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يستدعي مُ ْ‬ ‫سالتها ليفتحها على الجدل؛ فهل يُ مكن تشخيص‬ ‫الفكر العربي وتلخيص حاله من جميع األوجه بـ"ال َّتر ُّنح" بين‬ ‫ُ‬ ‫جمودٍ أصولي وتمرًّ دٍ عاجز؟ وما معنى "الـ َّتر ُّنح" في سياق‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حقيقيا‪،‬‬ ‫إدراكا‬ ‫نحن قد أدركنا‬ ‫يتص َّدى لتشخيص الفكر؟ وهل‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومكانيا‪" ،‬األنساق" التي حكمت الفكر‬ ‫زمانيا‬ ‫وأفقيا‪،‬‬ ‫عمقيا‬ ‫ً‬ ‫العربي عموما‪ ،‬والنَّسق الفلسفي الشامل والمتكامل الذي‬

‫أسفرت عنه فلسفة ُك ِّ‬ ‫مؤس ً‬ ‫ِّ‬ ‫سا‬ ‫ل فيلسوف فيما كان هذا النَّسق‬

‫العربي ماضويته؟ وما الذي أوقف العقل‬ ‫أسس‪ ،‬أصالً‪،‬‬ ‫النَّاقد عن العمل؟ أو ما الذي َّ‬

‫إللغاء العقل؟ وهل الخوف من تلقي صدمات في المعتقدات‬ ‫الرَّ اسخة هو الذي َّ‬ ‫جذرها فق َّدسها وأحاطها بنظام تحريم؟ أو‬ ‫ُ‬ ‫تفعيل عقل‪،‬‬ ‫ليس في إدراك الخوف واالستجابة لمقتضياته‬

‫بدرجة أو بأخرى؟ وهل االستجابة للخوف ال تكون إال بإلغاء‬

‫العقل أو باإلمعان في الخضوع ألنظمة ال َّتحريم؟ أليس ثمة‬

‫أن اإلنسان ال يقدر على‬ ‫من استجابات ممكنة أخرى طالما َّ‬ ‫العيش طويالً مع الخوف في دهاليز الخوف؟! وهل األمر‬ ‫مقتصرٌ برمَّ ته على ذلك الدوان في مجال الفكر بمعزل عن‬ ‫تطبيقاته العملية وآلياتها‪ ،‬وعن ُّ‬ ‫الشروط الموضوعية المتباينة‬

‫والمتغايرة التي حكمت المجتمعات وتحكمها وستحكمها؟‬ ‫َّ‬ ‫تتجلى في الواقع العملي على نحو‬ ‫أن‬ ‫وهل يمكن‬ ‫ِّ‬ ‫ألي فكرة ْ‬ ‫ِّ‬ ‫مُ طابق لصورتها المرتسمة في العقل أو لظلها المرسوم في‬ ‫أن يغيِّ ر األفكار ويُ ِّ‬ ‫عدلها‬ ‫خيلة؟ وهل كان للتطبيق العملي ْ‬ ‫المً َّ‬ ‫أو يأتي بأفكار جديدة ُت ِّ‬ ‫عززها أو تناقضها‪ ،‬أم أنه لم يفعل؟‬ ‫تشخيصي تحليلي ودقة‬ ‫ألن نعرف‪ ،‬بعمق‬ ‫إننا لفي حاجة‬ ‫ْ‬ ‫ٍّ‬ ‫علمية ُتجافي االنطباعات األولية واألقوال االنفعالية‬ ‫واألحكام الموروثة والمتداولة‪ ،‬األسباب الجذرية‪ ،‬الحقيقية ال‬ ‫المتخيلة‪ ،‬التي أفضت بمجتمعاتنا العربية‪ ،‬على تباين أوضاعها‬ ‫َّ‬

‫ومساراتها والشروط الموضوعية التي تحكمها أحيازها‪ ،‬ألن‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫وتخل ٍف تتباين‬ ‫تبقي‬ ‫موسومة‪ ،‬على مدار ألف عام‪ ،‬بجمودٍ‬

‫أنماط متباينة من السكون والجمود والعجز‬ ‫درجاتهما بين‬ ‫ٍ‬

‫المهيض والموت؟!‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪117‬‬


‫سجال‬

‫عزل ِّ‬ ‫الصراع عن مسبِّباته الجذرية‬

‫َّ‬ ‫ولعل الكالمَ عن تكفير ابن رشدٍ ‪ ،‬وتهميش فِ ْكره (العقالني‬ ‫ً‬ ‫المُ ستنير) استنادا إلى تكفيره من قبل الفقيه ابن تيمية‬

‫يُ درك المسبِّبات والشروط الموضوعية الحاكمة والضرورات‬ ‫والعلل‪ ،‬وال نعتم َد ال َّتفسير نفسه في مقاربة ِّ‬ ‫الشق الثاني‪ ،‬أي‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫المثمثل في كون ابن رشدٍ "موضع اضطهاد في أمَّ ته"‪،‬‬ ‫الشق‬

‫السلفي)‪ ،‬مع استمرار هيمنة فكر األخير وبقاء فكر‬ ‫(النَّقلي َّ‬ ‫ً‬ ‫األول مُ همَّ شا طوال تلك القرون وفي جميع المجتمعات‬

‫بقصد تفسيره وإدراك مُ سبِّباته؟!‬

‫على االرتجال أو التَوظيف اإليديولوجي والسياسي أو في‬

‫مُ فارقة ابن رُ شد ومحنة العقل‬

‫أن يُ ْحمَ َ‬ ‫ل‪ ،‬من جوانب عديدة‪ ،‬إال‬ ‫والثقافات العربية‪ ،‬ال يُ مكن ْ‬ ‫أحسن األحوال‪ ،‬على استسهال إطالق األحكام واستنباط‬

‫الخالصات من خالصات سابقة‪ ،‬أو من معلومات وردت في‬ ‫كتب تراثية‪ ،‬لم ُت ْخ َ‬ ‫ضع ألي نوع من المراجعة أو ال َّت ُّ‬ ‫فحص‬

‫‪.‬‬

‫مستهل تفسيره ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الشق الثاني من المُ فارقة‪ ،‬يتساءل مراد‬ ‫في‬ ‫وهبة َّ‬ ‫عم إذا كان "ثمَّ ة عالقة بين ترجمة مؤلفات ابن رشد‬

‫والتغير االجتماعي [في أوروبا ع ب] في القرن الثاني عشر‬ ‫ِّ‬ ‫[كذا]؟ َّ‬ ‫ليؤكد وجود تلك‬ ‫ثم يشرع في توصيف ذلك ال َّتغير‪،‬‬

‫فإن المسألة‬ ‫المُ عمَّ ق والتدقيق الرَّ صين وفي حقيقة األمر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫معزول بين مذهبين فلسفيين‪ ،‬أو بين فقيه‬ ‫بصراع‬ ‫تتعلق‬ ‫ال‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وفيلسوف‪ ،‬أو بوشاية رفعها إلى "الخليفة" أو إلى "ولي األمر"‬

‫أن "سلطان الطبقة الثالثة" قد بدأ في النُّمو‪،‬‬ ‫العالقة‪ ،‬وليبيِّ ن َّ‬ ‫ُ‬ ‫وأن ذلك ُك ِّله قد تواكب مع "بزوغ الرُّ وح العلمانية التي ترفض‬ ‫َّ‬

‫في النَّاس ض َّد الثاني‪ ،‬أو كيد كاده نفرٌ من المقربين من‬ ‫ُ‬ ‫نتيجة‬ ‫رأس السلطة السياسية ض َّد هذا أو ذاك‪ ،‬فكانت‬

‫َّ‬ ‫الذاتية المتصلة بالمكونات والخصائص التي‬ ‫بالعوامل‬

‫ُّ‬ ‫يخص ابن تيمية ومناصريه وابن رشد ومناصرية‪،‬‬

‫الفعلية إلقدام هذا الحاكم‪ ،‬أي فريدريك الثاني‪ ،‬على األخذ‬

‫أو إلى "الحاكم" أحدهما ض َّد اآلخر‪ ،‬أو فتوى أطلقها أولهما‬

‫َ‬ ‫محض أمر واحدٍ منه‪ ،‬فيما‬ ‫ذلك ُك ِّله‪ ،‬أو بعضه‪ ،‬أو ربما‬

‫وهكذا ينهي مراد‬

‫أن "أصدر المنصور [األمير المُ وحدي المنصور بن‬ ‫وهبة ْ‬ ‫ً‬ ‫أمرا بنفيه [أي ابن رشد]‬ ‫أبي يعقوب يوسف‪ ،‬ع ب]‬

‫المكرس لتفسير‬ ‫مقالة‬ ‫َّ‬

‫‪.‬‬

‫إلى إليسانة"‪ ،‬وإحراق كتبه ولكن‪ ،‬وبحسب ما‬ ‫ٌ‬ ‫تذكرُ‬ ‫مرجعية أخرى ذات ِ‬ ‫ص َلة‪ ،‬ما هما إال‬ ‫كتب‬ ‫ٌ‬

‫مفارقة ابن رشد بتفسير‬

‫رأس السلطة‬ ‫تبين األميرُ ؛ الذي هو ُ‬ ‫عامان ح َّتى َّ‬

‫ً‬ ‫تفسيرا‬ ‫شقها األول‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫يختزل‬ ‫موضوعيا‪ ،‬فيما هو‬

‫السياسية‪ ،‬حقيقة الوشاية الكيدية أو ال ُّتهمة‬ ‫ً‬ ‫سياسية‪ ،‬فاستدعاه واسترضاه‬ ‫التي لم تكن إال‬

‫تفسير َّ‬ ‫الشق الثاني‬

‫يُ مكن عزو تهميش فكر ابن رشد وفلسفته إلى‬

‫بالعامل الفكري‬

‫وأكرمه كواحد من كبار رجاالت دولته! فهل‬

‫أي من تلك األسباب أو ح َّتى إليها مجتمعة في‬ ‫ِّ‬ ‫ظل عدم استمرار محنته َّ‬ ‫الشخصية إال لعامين؟‬

‫ِّ‬ ‫مستهل جواب عن هذا‬ ‫ربما نستطيع العثور على‬

‫السؤال األخير‪ ،‬في المفارقة التي تقيمها الجملة‬ ‫ً‬ ‫مباشرة للجملة التي اقتبسناها أعاله من إجابة‬ ‫التالية‬

‫المُ ِّ‬ ‫فكر عن سؤال "الجديد" حول "السبيل إلى إخراج‬

‫‪.‬‬

‫فلسفة ابن رشد من الهامش إلى ال َّتطبيق" ومن المفيد‪ ،‬هنا‪،‬‬

‫ُ‬ ‫تقيم المفارقة وفق ما وردت في‬ ‫نقتبس كامل الفقرة التي‬ ‫أن‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫سياق اإلجابة يقول مراد وهبة‪" :‬وأجهضت فلسفة ابن رشد‬ ‫ً‬ ‫أمرا بنفيه إلى إليسانة‪،‬‬ ‫في العالم العربي حين أصد َر المنصور‬

‫‪.‬‬

‫في حين أمر اإلمبراطور فريدريك الثاني بترجمة كتبه في‬ ‫الصراع مع رجال ِّ‬ ‫مواجهة ِّ‬ ‫الدين المسيحي"‬

‫‪.‬‬

‫ُ‬ ‫مستهل الجواب الذي تمليه هذه المُ فارقة إال سؤال آخر‬ ‫ليس‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫نستله من دراسة‪ ،‬أو ربما هي مقالة فحسب‪ ،‬للمفكر مراد‬ ‫وهبة بعنوان "مفارقة ابن رشد" [ابن رشد مُ ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فك ً‬ ‫ورائدا‬ ‫عربيا‬ ‫را‬

‫لالتجاه العقلي (كتاب مُ شترك)‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪،‬‬ ‫القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،1993 ،‬الصفحات ‪ ،]38 – 31‬والسؤال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومنطقيا وبحسب أي منهج تحليلي‬ ‫عقليا‬ ‫هو‪ :‬هل من الجائز‪،‬‬

‫الش َّق الثاني من المُ فارقة‪ ،‬أي ِّ‬ ‫فسر ِّ‬ ‫أن ُن ِّ‬ ‫الشق المتم َّثل في‬ ‫كان‪ْ ،‬‬

‫‪118‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ممه ً‬ ‫ِّ‬ ‫موضوعيا‬ ‫تفسيرا‬ ‫دا للتنوير في أوروبا‪،‬‬ ‫كون ابن رشد‬

‫ُ‬ ‫ويربط مراد‬ ‫حكومات ثيوقراطية يكون مركزها روما"‬ ‫وجود‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫وهبة العوامل الموضوعية التي اعتمدها أساسا لتفسيره‬

‫‪.‬‬

‫وَ سمت ُهوية الحاكم فأملت توجهاته وأوامره‪ ،‬وبال ّدوافع‬ ‫بمشورة مستشاريه وإصدار األمر بترجمة مؤلفات ابن رشد‪،‬‬

‫تستجيب لمناهضة الثيوقراطية كنظام‬ ‫ُ‬ ‫ألن "فلسفته‬ ‫وذلك َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اجتماعي تسانده الكنيسة الرُّ ومانية"‬

‫‪.‬‬

‫مُ فارقة في تفسير المُ فارقة‬

‫أن المفارقة التي تنبع عن منهج تفسير المُ فارقة‪ ،‬إنما‬ ‫غير َّ‬ ‫ِّ‬ ‫تكمن في اكتفاء مراد وهبة‪ ،‬في تفسيره للشق الثاني من‬

‫المفارقة التي أضاءها أمام عقولنا‪ ،‬بإعادة إثارة السؤال‪" :‬ماذا‬ ‫حدث البن رشد في العالم اإلسالمي؟ وفي اختزال الجواب‬

‫بعبارة‪" :‬ال رشدية"‪ ،‬وفي تقليص تجليات تهميش الفلسفة‬

‫الرُّ شدية بعدم ورود اسم ابن رشد‪ ،‬أو أيٍّ من مؤلفاته‪ ،‬في‬ ‫ً‬ ‫عرضا وفي مناسبات ال‬ ‫المراجع التراثية ذات الصلة‪ ،‬إال‬ ‫ِّ‬ ‫الكف‪ ،‬وذلك على نحو جعل هنري كوربان يُ ق ِّرر‬ ‫تتجاوز أصابع‬ ‫أن "الرُّ شدية في َّ‬ ‫أن يشعر بها أحد" [مراد‬ ‫الشرق مرَّ ت من غير ْ‬ ‫َّ‬ ‫وهبة‪ :‬مفارقة ابن رشد‪ ،‬مقال ضمن كتاب‪ :‬ابن رشد مُ ِّ‬ ‫فكراً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ورائدا لالتجاه العقلي (كتاب مُ شترك)‪ ،‬المجلس األعلى‬ ‫عربيا‬

‫للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،1993 ،‬ص ‪َّ ،]37‬‬ ‫ثم في الخلوص‪،‬‬ ‫بعد هذا العرض الموجز‪ ،‬إلى تفسير أسباب اضطهاد ابن رشد‬ ‫(في العالم اإلسالمي بحسب مراد وهبة وفي الشرق بحسب‬ ‫هنري كوربان) بـ "اضطهاد الفلسفة والفالسفة"‪ ،‬وكأ َّنما المُ ِّ‬ ‫فكر‬

‫ً‬ ‫جوابا ال ينطوي‬ ‫يجيب عن السؤال بتعديل صيغته ليصبح‬ ‫على إضافة ذات مغزى‪ ،‬بالرغم من كونه مُ عادلة منطقية‪ :‬لماذا‬

‫كان الفيلسوف ابن رشد موضع اضطهاد في أمَّ ته؟ الجواب‪:‬‬

‫ألن أمَّ ة ابن رشد اضطهدت الفلسفة والفالسفة‪،‬‬ ‫وألن ابن رُ شدٍ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫فيلسوف‪ ،‬فقد اضطهد في أمَّ ته! هكذا يتبدى االضطهاد الذي‬

‫يتوخى السؤال معرفة أسبابه َّ‬ ‫َّ‬ ‫علة نفسه؟ فسبب االضطهاد‬ ‫هو االضطهاد! وسبب تهميش الفلسفة والفالسفة وإقصائهما‬

‫هو تهميش الفلسفة والفالسفة وإقصائهما! وسبب اضطهاد‬


‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫وتضطهدهم‬ ‫فيلسوفا في أمَّ ة تكره الفالسفة‬ ‫ابن رشد هو كونه‬ ‫تكره الفلسفة ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتنكر حاجتها إليها!‬ ‫ألنها‬ ‫ٍّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫وفي خالصةٍ مُ كثفة ومُ ركزة تتسم بتعميم مُ خل‪ ،‬يفصح‬

‫المُ ِّ‬ ‫فكر عن تقديره ألسباب االضطهاد فيقول‪" :‬وفي تقديري‬ ‫أن من أسباب اضطهاد ابن رشد اضطهاد الفلسفة والفالسفة"‪،‬‬ ‫َّ‬

‫إلدراك‬

‫االقتصادية واالجتماعية والسياسية والثقافية‬ ‫مُ سبِّبات ال َّت ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫خلف المُ زمن‪ ،‬واالستبداد المُ‬ ‫تشعب والمتشابك‬

‫ً‬ ‫والمتمدد‪ ،‬داخالً‬ ‫ِّ‬ ‫وخارجا‪ ،‬وفي أطواء َّ‬ ‫الضمائر وثنايا العقول‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫المفكر مراد وهبة يدركه تماما‪ً،‬‬ ‫ُّ‬ ‫أن‬ ‫وهو األمر الذي ال‬ ‫نشك في َّ‬ ‫ُ‬ ‫نتساءل‪ ،‬عن دوافع إغفاله وعدم األخذ به من قبله في‬ ‫ولكننا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تشخيص الواقع الذي نعيشه ونعانيه‪ ،‬أمراضا وسموما‪ ،‬كي‬

‫َّ‬ ‫"إن‬ ‫ثم يذهب إلى توضيح هذه الخالصة بخالصة ثانية تقول َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫اضطهاد الفلسفة كان مستحبا لدى الجماهير"‪ ،‬وثالثة توضح‬

‫َّ‬ ‫ليتمكن‬ ‫يُ حسن تشخيصه وتحليل جراثيمه ومُ سبِّبات أمراضة‬

‫وإن علماء الكالم هم‬ ‫َّ‬

‫التي تعافينا من أوجاع هذا الواقع وآالمه‪ ،‬فتعفينا من مكابدة‬

‫"إن الجماهير في حاجة لمن يحرضها ألنها‬ ‫األمر فتقول‬ ‫َّ‬

‫عاجزة عن قراءة الفلسفة وفهمها ‪...‬‬

‫المُ ح ِّرضون"‪ ،‬وإلى غير ذلك من أقوال مماثلة تختزل أسباب‬

‫االضطهاد بالصراع بين علم الكالم‬

‫من تزويدنا بالمضا َّدات الحيوية والترياقات ووصفات العالج‬

‫آالم السقوط المُ ِّ‬ ‫روع في مهاوي مآالته المأساوية المُ هلكة!‬

‫إغفاالت منهجية‬ ‫وأجوبة جدالية‬

‫والفلسفة‪ ،‬ذاك الذي تبلور في الخالف‬ ‫مؤس ً‬ ‫سا على‪،‬‬ ‫بين الغزالي وابن رشد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أو مُ ْسفِ ً‬ ‫َ‬ ‫الفالسفة‬ ‫را عن‪ ،‬تكفير الغزالي‬

‫بسبب تأثرهم بالفلسفة اليونانية‪.‬‬

‫وهكذا ينهي مراد وهبة مقالة المكرَّ س‬ ‫لتفسير مفارقة ابن رشد بتفسير شقها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫موضوعيا‪ ،‬فيما هو‬ ‫تفسيرا‬ ‫األول‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫الشق الثاني بالعامل‬ ‫يختزل تفسير‬

‫الفكري‪ ،‬أي بهيمنة الفقه والفقهاء‬ ‫ِّ‬ ‫والمتكلمين من أصحاب علم الكالم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ثم يعو ُد في الفقرة األخيرة لينسب‬

‫الغزالي إلى الفلسفة‪ ،‬ال إلى الفقه‬ ‫َّ‬ ‫ثم‬ ‫أو علم الكالم‪ ،‬وليخلص من‬ ‫إلى القول "وإذا ُكنَّا قد انتهينا إلى‬ ‫أن فلسفة ابن رشد هي في جذور‬ ‫َّ‬

‫فإن فلسفة‬ ‫التنوير‪ ،‬في أوروبا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الغزالي ض َّد التنوير وإذا كان ابن‬ ‫ً‬ ‫غائبا في كل من المشرق‬ ‫رشد ما زال‬

‫‪.‬‬

‫العربي والمغرب العربي‪ ،‬فمعنى ذلك‬

‫َّأن التنوير غائب‪.".‬‬

‫وينتهي‬

‫األمر‬

‫باجتزاء‬

‫منهجي‬

‫وتعميمية قاصرة ال يحققان سوى‬ ‫موضوعي‬ ‫العجز عن تقديم أي تفسير‬ ‫ٍّ‬

‫لسيادة‬

‫االضطهاد‬

‫في‬

‫عالمنا‬

‫يتأس ُس اإللحاح على نقد هذا‬ ‫ال‬ ‫َّ‬

‫الم ِّ‬ ‫فكر ُمراد‬ ‫ما الذي دفع ُ‬ ‫ألن يستبدل مصطلح‬ ‫وهبة ْ‬ ‫"الوضع القادم" بالمصطلح‬ ‫"الوضع الممكن" الذي‬ ‫ُ‬ ‫وراسخ‬ ‫مؤص ٌل‬ ‫هو مصطلح‬ ‫َّ‬ ‫الحضور في الفلسفة‬

‫اإلغفال غير المُ سوَّ غ‪ ،‬مع الحرص‬

‫وتبين متضمَّ ناته‬ ‫على تبيان مثالبه‬ ‫ُّ‬

‫ودالالته‪ ،‬على افتقار النَّهج الذي‬ ‫اتبعه مراد وهبة‪ ،‬في تفسيره مفارقة‬ ‫ِّ‬ ‫والدقة‬ ‫ابن رشد‪ ،‬إلى الموضوعية‬

‫العلمية والرَّ صانة الفكرية‪ ،‬فحسب‪،‬‬ ‫يترس ُخ بسبب من تواتر تكرار‬ ‫وإنما‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫مقترنا بإغفاالت منهجية‬ ‫تجلياته‬

‫َّ‬ ‫يتطلبها العقل النَّاقد والتفكير‬ ‫أخرى‬ ‫ُ‬ ‫وعي‬ ‫الح ِّر مع النَّاس بغية إنهاض‬ ‫ٍّ‬

‫والعلوم اإلنسانية‪ ،‬وفي‬

‫نهضوي يحملهم إلى مستقبل أفضل‬

‫نظرية األدب النَّ قد األدبي‪،‬‬

‫على تكوين رؤية واضحة ومتماسكة‬

‫يتوقون إليه وال يمتلكون القدرة‬

‫الم َف ِّك ُر الفرنسي‪،‬‬ ‫ُم ْذ َص َّكة ُ‬

‫بشأنه‪ ،‬في إجاباته عن أسئلة المقابلة‬ ‫َّ‬ ‫ولعل هذا‬ ‫التي نتحاور معها‪ُ ،‬هنا‬

‫التكويني‪ ،‬لوسيان غولدمان‪،‬‬

‫مُ عاودة اإلطالل على بعض مؤلفات‬ ‫ِّ‬ ‫المفكر وكتاباته ومقاالته ذات ِّ‬ ‫الصلة‪،‬‬

‫الم ِّ‬ ‫نظر والنَّ اقد البنيوي‬ ‫ُ‬

‫الم ِّ‬ ‫فكر المجري‬ ‫ُمستلهما ُ‬ ‫جورج لوكاتش‬

‫العربي‪ ،‬وذلك لتفاديهما ح َّتى مُ جرَّ د‬

‫اإلشارة‪ ،‬وال نقول التناول المنهجي‬ ‫االستقصائي‪ ،‬إلى االستبداد المزمن‪،‬‬

‫واالستعمار الخارجي المتعاقب‪،‬‬ ‫اللذين حكما َّ‬ ‫كل أحياز هذا العالم طوال ما يربو على ألفية‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫الموحدية حتى اآلن‪ ،‬نعم حتى‬ ‫منذ أواخر الدولة‬ ‫كاملة‪ ،‬أي‬ ‫اآلن!‬ ‫َّ‬ ‫يُ‬ ‫َّ‬ ‫شك في أنه ال مكن اختزال تفسير محنة العقل‪ ،‬في عالمنا‬ ‫وال‬ ‫العربي المتردي منذ ألف عام‪ ،‬بالعامل الفقهي‪ ،‬أو الفكري‪ ،‬الذي‬ ‫ِّ‬ ‫مؤث ً‬ ‫ال يالمس إال حيِّ ً‬ ‫را‪ ،‬من أحياز البنىية‬ ‫وإن كان‬ ‫زا ضئيالً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫الفوقية للمجتمعات العربية‪ ،‬ناهيك عن إغفاله بُناها ال َّتحتية‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬فالتفسير العميق إنما يكمن في تحليل األوضاع‬

‫‪.‬‬

‫ال َّترسخ قد عمق لدينا ْ‬ ‫إذ أدركنا‪ ،‬عقب‬

‫أن تكون‬ ‫أن المسألة تقترب من‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نهجا مُ‬ ‫عتمدا من‬ ‫ظاهرة‪ ،‬أو‬

‫قبله‪.‬‬

‫أن يُ ِّ‬ ‫فسر‪ ،‬فيما نحسب‪،‬‬ ‫ولهذا اإلدراك ْ‬ ‫األعم األغلب من المقوالت واألقوال‬

‫والخالصات التي وردت في إجابات‬ ‫المُ ِّ‬ ‫فكر‪ ،‬وآليات التحليل واالستنباط‬ ‫المجتزأة التي َّ‬ ‫ات َبعَ َها‪ ،‬والتي يأبى‬

‫يلح على ضرورة‬ ‫أن نأخذ بها فيما هو‬ ‫ُّ‬ ‫علينا العقل النَّاقد ْ‬ ‫إخضاعها لل َّت ُّ‬ ‫فحض والتدقيق والنَّقد‪ ،‬وذلك على نحو يستجيب‬ ‫لتعريف ابن رشد للحكمة بوصفها "الن ََّظرُ في األشياء بحسب‬

‫ما تقتضيه طبيعة البرهان" وهو التعريف الذي يضعه مراد‬

‫أن يُ لبِّي‬ ‫وهبة في رأس مقالته‪ ،‬أو على‬ ‫نحو يُ مكن واحدنا من ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫دعوة إيمانويل كانط للكائن البشري‪" :‬ك ْن جريئا في إعمال‬ ‫ُ‬ ‫العقل"‪ ،‬فيما هو‬ ‫يأخذ نفسه بمقولة رينيه ديكارت التي ألزمَ‬

‫ومتميزة" وهما‬ ‫بها نفسه‪":‬ال أومن بفكرة إال إذا كانت واضحة‬ ‫َّ‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪119‬‬


‫سجال‬

‫َّ‬ ‫يكف مراد وهبة عن اإلشارة إليهما‬ ‫ال َّدعوة والمقولة اللتان ال‬ ‫مُ َح ِّف ً‬ ‫َ‬ ‫عقول النَّاس على إدراك مقتضياتهما ومقاصدهما‪،‬‬ ‫زا‬

‫ً‬ ‫داعيا إلى تلبية األولى‪ ،‬واالقتداء بالثانية!‬ ‫ً‬ ‫نذهب إليه‪ ،‬وبقصد فتح األسئلة‬ ‫ُ‬ ‫وتدليالً أوَّ ليا على ما‬ ‫موضوعيا وخالَّ ً‬ ‫ً‬ ‫قا‪ ،‬نور ُد أقواالً‬ ‫وإجاباتها على حوار ُنريده‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫التفحص والنَّقد بغية فتحها‬ ‫ب اإلخضاع إلى‬ ‫تتطل ُ‬ ‫وخالصات‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومنهجيا‪ ،‬على‬ ‫فكريا‬ ‫لمناقشة مُ عمَّ قة قد ُتفضي إلى تأصيلها‪،‬‬ ‫نحو يتيح األخذ بها وفق مُ ِّ‬ ‫غات وآليات تحليل وإدراكٍ‬ ‫سو ٍ‬ ‫ً‬ ‫يقبلها العقل النَّاقد‪ ،‬أو يملي ضرورة رفضها تماما الفتقارها‬

‫تلك المُ ِّ‬ ‫سوغات أو لتجرُّ د عملية الوصول إليها وإقرارها عن‬ ‫إعمال تلك اآلليات‪ ،‬أو لكال األمرين معاً‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫بعضا من هذه األقوال‬ ‫نور ُد ُهنا‪ ،‬على سبيل التمثيل ال الحصر‪،‬‬

‫ُ‬ ‫تندرج في نطاق مسألة واحدة هي مسألة‬ ‫والخالصات‪ ،‬التي‬ ‫ُّ‬ ‫ترنح الفكر العربي وغياب الرؤية المستقبلية التي أثارها‬ ‫سؤال المقابلة األوَّ ل‪ ،‬وسنعم ُد في هذا السياق إلى تثبيت‬ ‫ُ‬ ‫قراءة هاته الخالصات‬ ‫األسئلة األوَّ لية التي تستدعيها‬

‫ما حاجة المقهورين‬

‫ً‬ ‫من قبل عقل يُ ري ُد لنفسه أن يكون عقالً‬ ‫يتوس ُ‬ ‫ل‬ ‫ناقدا‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نفسه بتف ُّتح وجرأةٍ ‪،‬‬ ‫فيعمل‬ ‫البرهان سبيالً لإلدراك‪،‬‬

‫من النَّ اس إلى ثورة‬ ‫فكرية شاملة تسقط‬ ‫عتادها من ٍّ‬ ‫عل عليهم‬ ‫واقع يعانون‬ ‫وعلى‬ ‫ٍ‬

‫تتأسس على‬ ‫ضراوته وال‬ ‫َّ‬ ‫ُمشاركتهم العملية‬ ‫في سبر أغواره‬ ‫ممكناته‬

‫جلي ًا‪ ،‬متميِّ ً‬ ‫وال يُ دْخِ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ومؤصالً‪،‬‬ ‫زا‬ ‫ل رحابه إال ما كان‬ ‫َّ‬ ‫من األفكار أو من خالصات القول‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫يستهل مراد وهبة إجابته عن السؤال األوَّ ل‬ ‫ِّ‬ ‫المتعلق بقصور الفكر العربي وعجزه عن إنهاض‬ ‫ِّ‬ ‫إن "تر ُّنح الفكر العربي‬ ‫ثورة فكرية‪،‬‬ ‫بالقول َّ‬ ‫وعجزه عن القيام بثورة فكرية شاملة يرجعُ إلى‬

‫عجزه عن تكوين رؤية مستقبلية"‪ ،‬ويُ ضيف إلى‬ ‫ً‬ ‫أقرب إلى خالصة أخرى تقول‬ ‫ُ‬ ‫توضيحا هو‬ ‫ذلك‬

‫إنه "بغياب الوضع القادم أو الرؤية المستقبلية‬ ‫يظل الوضعُ القائم في حالة أزمة"‪ُ ،‬ث َّم يُ ردف قائالً‬ ‫ُّ‬

‫ً‬ ‫مأزوما وال يُ وجد رؤية‬ ‫وإدراك "عندما يكون الوضع القائم‬ ‫ُّ‬ ‫مستقبلية لتغييره‪ ،‬هنا يحدث التراجع والتخلف"‬

‫‪.‬‬

‫ُ‬ ‫تشرع األسئلة في االنهمار‪:‬‬ ‫أن نقرأ ما قرأنا ح َّتى‬ ‫ما ْ‬ ‫َّ‬ ‫وكأن المسألة برمَّ تها تتعلق بصراع‬ ‫أال يبدو األمر‪ ،‬هنا‪،‬‬ ‫َّ‬

‫فكري مُ فارق للواقع‪ ،‬أو كأ َّنما الوضعين "القائم" و"القادم"‬

‫يسبحان في فضاء بال ُهويَّ ة سواء أكان هذا الفضاء هو‬ ‫عاجز‬ ‫لفكر‬ ‫مساحات المجتمع أو مدارات العقل؟ ُث َّم كيف‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أن يتر َّنح؟ وما هو معنى تر ُّنح العجز أو تر ُّنح الفكر العاجز؟‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫أليس الفكرُ الحرُّ ‪ ،‬المتفت ُح المُ ستنير‪ ،‬الملتصق بالواقع على‬ ‫ِّ‬ ‫يمكنه من سبر أغواره لتشخيصه وتعيين أمراضه‬ ‫نحو‬ ‫وإدراك ممكناته الفعلية وتحديد موارده وطاقاته‪ ،‬هو وحده‬ ‫القادرُ على بلورة رؤية مستقبلية؟ وح َّتى لو أمكن الحصول‬

‫على رؤية مستقبلية‪ ،‬واضحة ومتماسكة‪ ،‬أو مهوَّ شة‬ ‫ومُ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ولعل‬ ‫فكككة‪ ،‬أو غائمةٍ عائمة‪ ،‬أو غير غائمة وغير عائمة ‪-‬‬ ‫ً‬ ‫أن يكون متوفرا‪ ،‬على مستوى الفكر المُ طابق‬ ‫مثل هاته الرؤى ْ‬

‫للواقع أو المُ فارق للواقع‪ ،‬في كتب األولين والمعاصرين من‬ ‫ِّ‬ ‫المفكرين االصالحيين والتنويرين على تباين اتجاهاتهم‬ ‫لتوفر الرُّ ؤية المستقبلية أن يُ ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫شكل‪ ،‬وحده‪،‬‬ ‫ومشاربهم ‪ -‬فهل‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫راسخة وصلبة ُت ُ‬ ‫نهض ثورة فكرية شاملة؟ وما هي‬ ‫رافعة‬ ‫وأن‬ ‫هيئ للتغيير‬ ‫ْ‬ ‫معايير الرؤية المستقبلية التي يُ مكن ْ‬ ‫أن ُت َ‬ ‫تسهم في إنجازه؟‬

‫َّ‬ ‫ثم ما حاجة المقهورين من النَّاس إلى ثورة فكرية شاملة‬ ‫ٍّ‬ ‫واقع يعانون ضراوته‬ ‫تسقط عتادها من عل عليهم وعلى‬ ‫ٍ‬ ‫تتأسس على مُ شاركتهم العملية في سبر أغواره وإدراك‬ ‫وال‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ممكناته فيما هم يسبرون أغوار أنفسهم ويدركون ممكناتها‪،‬‬

‫ويهيئون أنفسهم إلطالق ثورة يتواكب فيها الفكر مع حراك‬ ‫ّ‬ ‫ويعززه ويُ ِّ‬ ‫رسخ‬ ‫النَّاس في تضافر وتفاعل يثري كليهما‬ ‫حضوره في العقل وفي الواقع اللذين هما المجال الحيوي‬

‫المُ شترك للتغيير المفضي إلى االنتقال من "الواقع القائم" إلى‬ ‫"الواقع الممكن"؟‬

‫ثم ما الذي دفع المُ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ألن يستبدل مصطلح‬ ‫فكر مُ راد وهبة‬ ‫ْ‬

‫"الوضع القادم" بالمصطلح "الوضع الممكن" الذي هو مصطلح‬ ‫مؤص ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫وراسخ الحضور في الفلسفة والعلوم اإلنسانية‪ ،‬وفي‬ ‫ل‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ص َّكة المُ َفكرُ الفرنسي‪ ،‬المُ نظر‬ ‫نظرية األدب النَّقد األدبي‪ ،‬مُ ْذ َ‬ ‫والنَّاقد البنيوي التكويني‪ ،‬لوسيان غولدمان‪ ،‬مُ ستلهما المُ ِّ‬ ‫فكر‬ ‫المجري جورج لوكاتش؟ وكذلك ما المُ ِّ‬ ‫سوغ العقلي‪ ،‬المنطقي‬

‫والفعلي‪ ،‬الستبدال مصطلح الرؤية المستقبيلة" بمصطلح‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫صكه غولدمان‪،‬‬ ‫"رؤية العالم" أو "الرؤية للعالم" الذي‬ ‫في سياق نسق فلسفي مُ تكامل مع المصطلحين األوَّ لين؟ َّ‬ ‫ثم‬

‫ِّ‬ ‫المسوغ الفلسفي أو العملي أو المنطقي لجعل "الرؤية‬ ‫ما هو‬ ‫ً‬ ‫المستقبلية" رديفا لـ "الواقع القادم"؟‬ ‫الحيز المتاح‪ُ ،‬هنا واآلن‪ ،‬على صفحات‬ ‫ليس ثمَّ ة من م َّتسع في‬ ‫ّ‬

‫"الجديد" لكتابة أيٍّ من اإلجابات التي يقترحها العقل بوصفه‬ ‫ً‬ ‫ملكة تفكير واستقصاء وتحليل‪ ،‬وحيِّ ً‬ ‫معرفيا يكتنز معرفة‬ ‫زا‬

‫تتأسس على معلومات مُ َّ‬ ‫دققة ومعطيات مُ َّ‬ ‫رجحة وأفكار‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫مؤصلة‪ ،‬فما غاية األسئلة التي طرحناها‪ ،‬هنا‪ ،‬إال إثارة ال َّتفكير‬ ‫َّ‬ ‫في إطالق حوار ثريٍّ وخالق وليس لكاتب هذه السطور إال‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫خافتا لعقل يتوق لتلقي عطاء عقول أخرى‬ ‫صوتا‬ ‫أن يكون‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫أن تسكن عقله‪ ،‬ليفكر‬ ‫فيكتزه في عقله إذ يتيح لتلك العقول ْ‬

‫فيها وبها ومعها الستجالء صدقية حقيقةٍ ‪ ،‬أو جوهر فكرة‪ ،‬أو‬

‫رصانة تشخيص أو تحليل ‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫كان لهذه األسئلة أن تنبثق على النَّحو‬ ‫الحق أ َّنه ما‬ ‫ومن‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫الذي تقدم لوال ثراء اإلجابات الجدالية التي قدمها المُ فكر‬ ‫مراد وهبة على أسئلة "الجديد"‪ ،‬وهو ال َّثراء الذي يكمن‬

‫جوهره في َّ‬ ‫الطاقة الهائلة التي تملكها تلك اإلجابات على‬ ‫توليد األسئلة‪ ،‬وعلى تحفيز العقل على إمعان التفكير‪ ،‬وحثِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫وتوسيعا‬ ‫الكف على مواصلة الكتابة‪ ،‬متابعة للحوار‪،‬‬ ‫أصابع‬ ‫ً‬ ‫له بما يستجيب ِّ‬ ‫للسعة‪ ،‬الهائلة أيضا‪ ،‬من الموضوعات التي‬

‫َّ‬ ‫توخت إتاحة المجال‬ ‫تطرقت إليها المُ قابلة التي يبدو أ َّنها قد‬ ‫أمام المُ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫شيئا عن ُكل شيء‪ ،‬وليالمس‬ ‫فكر مراد وهبة ليقول‬ ‫بأقواله وخالصاتة ُك َّ‬ ‫ل مسألة وموضوع ذي صلة بتوق العرب‬

‫إلى فتح نافذه في جدران سجونهم لعلهم ينفذون منها إلى‬

‫واقع جديدٍ ممكن‬

‫كاتب من فلسطين مقيم في براتشسالفا‬ ‫فادي يازجي‬

‫‪120‬‬


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪121‬‬


‫شعر‬

‫غرقى جبليون‬ ‫محمد ناصر المولهي‬

‫صغِ ير ٌ‬ ‫َزوْ بَعَ ٌة َ‬ ‫َة‬

‫ٍ‬ ‫سنوات ِم َن اله ِْس ِتيريَا‬ ‫حتاج إلى‬ ‫أَ ُ‬ ‫وضج ٍر يكون ف ّحاما ألنْفَاسي‬ ‫يهرسها عل ُّو التِّالل‬ ‫أجنح ٌة كثير ٌة ُ‬ ‫ويدف ُنها في َه ْيكَلي ال ُمح َّمل بـ‪ 60‬كلغ‬ ‫من األَعضَ اء‪.‬‬ ‫أصبحت َمقبر ًة ث َقيل ًة من‬ ‫حتّى أنٍّي‬ ‫ُ‬ ‫يش وال َخالَيَا الف ِ‬ ‫ال ِّر ِ‬ ‫َاسدة‬ ‫ال ُسو َر لي‬ ‫وال أَ ْسما َء‬ ‫ال تَوارِي َخ‬ ‫أ ْهذي ثم أ ْهذي‬ ‫صاصة‬ ‫وأستل ِقي طَ ِّي ًبا كري ٍح ُمصاب ٍة ب َر َ‬ ‫أصبح ما ضَ ا َع م ِّني هو األَ ْج َم ُل‬ ‫ها قد َ‬ ‫واألكث ُر ُحضُ و ًرا وأل ًما‬ ‫وبدأتْ أش ُّد مناطقي بعدا وخطورة في‬ ‫تمزيقي‬ ‫ما سيحدث‪َ :‬ز ْوبَ َع ٌة م ْن بقايَا أ ْج ِن َحة‬ ‫جلَ َبة ُدخان‬ ‫ثقل يَ ْم ُحو ُه ال َخ َواء‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫‪ ‬‬ ‫ض ْح َ‬ ‫ألجل ِ‬ ‫كةٍ‬

‫ال َج ْدوى من األَ ْمر‬ ‫لك َّن ِني أَفْ َعلُه‬ ‫هكذا تَع َّو ْدت‬ ‫‪122‬‬

‫أن أُلْقي قَ ْم ًحا‬ ‫لعصافي َر سي ْق ُن ُصها ال َّر َصاص‬ ‫ٍ‬ ‫بكلمات يت ُركُونها‬ ‫أن أح ِّدثَ ما ِّري َن‬ ‫َوراء ُهم‬ ‫لست أ ْعرِف‬ ‫تع َّودْتُ أن أق َُول ما ُ‬ ‫بأصا ِب ِعي‬ ‫وأن أص ُر َخ كات ًما َصوتِي َ‬ ‫أفعل ما ال َج ْدوى م ْنه‬ ‫أنا ُ‬ ‫أفعلُ ُه وأنا أضْ َحك‬ ‫كل َذلِ َك أل ْجلِ ِض ْحكَة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫‪ ‬‬ ‫ال مفرَّ‬

‫رأيت الغ َد‬ ‫ُ‬ ‫ق ْر َب ميناء العاصم ٍة الق َِديم‬ ‫يحمل شيئًا في يَ ِده‬ ‫ل ْم يَ ُك ْن ُ‬ ‫كا َن ُم َح ِاصرا بم ْن ي ْنتَ ِظ ُرونَه‬ ‫أصا ِب ِعهِم‬ ‫بدخانٍ ب ْي َن َ‬ ‫وتوارِي ُخ ُجو ِعى على أكْتا ِفهِم‬ ‫ي ْجرِي بع ْي َن ْين ُم ْغ َمضتَ ْين‬ ‫ي ْجرِي هاربًا‬ ‫اصر‪.‬‬ ‫ي ْجرِي وهو ُم َح َ‬ ‫‪ ‬‬

‫ال ُت ْ‬ ‫شعِ ُلوا ال َّنا َر‬

‫ص ِّدقُونا‬ ‫إ ْن قُلْنا إنَّنا نَ َقلْنا ِج َباالً وبُ َح ْيرات‬ ‫في َعربَ ٍ‬ ‫ات من ُعل َِب الطَّ َم ِاطم‬ ‫إ ْن تَح َّدثَ أح ُدنَا‬

‫ع ْن نسا ٍء يَ ْخ ُر ْج َن من ِث َمار‬ ‫عن أبديِّ ٍة عريَانَة على ض َّف ِة نَ ْهر‬ ‫ص ِّدقُوا ما نقولُ ُه ل ُك ْم‬ ‫تحتنا مالئ َك ٌة بأبنائِ َها وزيَاتي َن‬ ‫ص ِّدقُونا‬ ‫بينما تُشْ علُون ب َنا ال َّنار‪.‬‬ ‫أنا اب ُنك أيضا‬

‫لقد آذونِي كثي ًرا‬ ‫هشَّ ُموا أن ِفي ببندق َّي ٍة‬ ‫أذني ب ُعوائ ِه ْم الحا ِّد‬ ‫قط ُعوا َّ‬ ‫الصغي َر ب ُد ُموعهم‬ ‫م ّزقُوا قلبِي َّ‬ ‫وأظفار ِه ْم الم ْد ُسوس ِة في أصاب ِع ِه ْم‬ ‫قدمي في َمتا َه ٍة من الطُّ ُرقات‬ ‫أذابوا ّ‬ ‫حادفُوا ظهرِي بألس َن ِت ِه ْم‬ ‫وأع ُي ِن ِه ْم ِ‬ ‫ذات الشَّ َف َرات‬ ‫طع ُنوا ِ‬ ‫شمسي‬ ‫خلف التِّالل‬ ‫الهاربَ َة َ‬ ‫يت َب ُع َها خ ْي ُط ِد َماء‬ ‫دف ُعونِي إلى ُركْنٍ ُمظْ ِلم‬ ‫سرقُوا لُقْم ِتي و ِث َيابي‬ ‫وج َّع ُدوا ِجلْدتي من ال َع َراء‬ ‫فلماذا لم تَ ْم َن ْع ُهم عن ذلك؟‬ ‫‪ ‬‬ ‫نقصان‬

‫بري‬ ‫الغ ُّص ُة تنط َُح ُح ْنجرتِي كَثَ ْو ٍر ّ‬


‫حسني جمعان‬

‫تستَ ِع ُّد لل َّزوال‬ ‫ثم إنك لم تُ َغ ِّير شيئًا‬ ‫حتى تلك الجوار ُِب‬ ‫التي ت ْحب ُِس البر َد في ِر ْجل ْيك‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫ه َذا المَ َ‬ ‫َ‬ ‫طر‬

‫تنتفض في ِ‬ ‫رأسي‬ ‫إنّها غابة ه ّي َجتْها ريح‪.‬‬ ‫وقف هذا البكاء؟‬ ‫كيف أُ ُ‬ ‫وخ ّداي آثار عجالت في الطِّين‬ ‫ِ‬ ‫غادرت اآل َن‬ ‫ها قد‬ ‫واكتمل المشه ُد بال ُّنق َْصانِ‬ ‫ركبتي على‬ ‫علي اآلن أن ألطِّخ ّ‬ ‫هل ّ‬ ‫األ ْرض؟‬ ‫علي أن أطلق ال َّنار على ِ‬ ‫رأسي ؟‬ ‫هل ّ‬ ‫سأظل أسأل دائ ًما‬ ‫ِ‬ ‫كلمات ال ُح ِّب تتح َّو ُل‬ ‫ما الذي يج َع ُل‬ ‫إلى َسكَاكِي َن بَار َد ٍة؟‬ ‫كل هذا ألجل أ ْن يكت ِم َل ال َمشْ َهد؟‬ ‫‪ ‬‬

‫رصاصا ُمذابًا‬ ‫قد يكو ُن ً‬ ‫ٍ‬ ‫أشواك يقف ُز‬ ‫أو س ْر َب‬ ‫قد يبدو هذا المطَ ُر ُخيو َط َما ٍء‬ ‫أثواب بار َد ٍة‬ ‫تتح َّو ُل إلى ٍ‬ ‫لك َّن ُه َمط ٌر في ال ِّن َهايَة‬ ‫َمطَ ٌر لوالَ ُح ْزنُك‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫َ‬ ‫شاعِ ٌر‬

‫كتبت ما استطَ ْع َت‬ ‫ها أنت َ‬ ‫حركات ِ‬ ‫ِ‬ ‫الح ْبر‬ ‫ألصقت أ ْخيلَ ًة على‬ ‫ال ُمتْرفة‬ ‫وها هي كلماتُك عاري ًة أمام ُغ َرباء‬ ‫ك ِر َه َك ال َب ْع ُض‬ ‫‪ ‬وأح َّب َك آخ ُرون‬ ‫(وحقيقة ال أجد سببا ُمقْنعا لهذا)‬ ‫إمكانات للمطر‬ ‫ها قد غ َد ْوتَ شا ِع ًرا‬ ‫قد يبدو هذا المط ُر أسالكًا وسياطًا‬ ‫أو ُح َق ًنا ت ُّ‬ ‫ُدق دفع ًة واحد ًة في عضالتك بجرا ٍح الئِقَة‬ ‫وشفتَ ْين خبيرتين بال ِم ْك ُروفُونات‬ ‫ال َّز ْرقَاء‬ ‫يح من كُتلِ‬ ‫يعرف َُك ال َب ْع ُض‬ ‫قد يكُو ُن برا ٍغ ف َّك َكتْها ال ِّر ُ‬ ‫ويجهل َُك آخ ُرون‬ ‫ال َغ َمام‬ ‫من الغبا ِء أ ْن تَ ْحلُم بال ُخلُود في ٍ‬ ‫أرض‬ ‫أو ثقوبًا ال عد َد ل َها‬

‫نصا عن خيب ِتي‬ ‫كنت‬ ‫سأكتب ً‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫بتنظيف ُمفرداتِي‬ ‫والتهيت‬ ‫ُ‬ ‫الس َن ِ‬ ‫وات و َماليينِ األفْ َواه‬ ‫من أث ِر َّ‬ ‫أخذتُ أو ِقفُها بجانب ِ‬ ‫بعض َها‬ ‫أدف ُع بعضَ َها إلى ِعناقٍ حا ٍّر‬ ‫وأنخ ُز أخرى لتن َّز‬ ‫ربطتُها ج ّي ًدا‬ ‫أجول بين ُخ ِ‬ ‫وأخذتُ ُ‬ ‫طوطها كآم ِر ِس ْجن‬ ‫ُ‬ ‫كيف لتلك ال َّرخويَّات ال ُمس ّنة‬ ‫وأتساءل َ‬ ‫أن تقُول خيبتي‬ ‫وتحملُها على أ ْذ ُرعها ال َجافّة‬ ‫إلى قارئٍ يُ َفلّي ال ّد َم في الكل َم ِ‬ ‫ات‪..‬‬ ‫خيبتي تهيج كعاصفة من الحجا َرة‬ ‫كلماتي تركُل بعضها وتهرب إلى ال َه َباء‬ ‫إنّها ت ُخونُني هي األُ ْخرى‬ ‫م َّزق ُْت ال َو َرقة‬ ‫و ُر ْح ُت أُ ْص ِغي إلى ُهطُو ِل ال َمطَر‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫َّ‬ ‫لس ُت ْم َق َت َل ًة‬ ‫ألن ُك ْم ْ‬

‫أغل ُبكُم لن يبني غُرفَة‬ ‫ولن يظف َر ِ‬ ‫بوظيفَة‬ ‫أغل ُبكُم ل ْن ي ِج َد ال ُح َّب‬ ‫ويربّي طمأنين ًة وديع ًة في أيّامه‬ ‫أغل ُبكُم لن يُفْلح في بح ِث ِه ع ْن ذَاتِه‬ ‫ولو ش ّرح ُح َب ِ‬ ‫يبات الغُبار بمشط‬ ‫وعوانس وع َّزابًا‬ ‫نس ِّمي بعضكُم عاطلي َن‬ ‫َ‬ ‫وفشلَ ًة‬ ‫نس ّمي أغلَ َبكُم “طبق ًة مسحوق ًة ”‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪123‬‬


‫وكأنَّكُم حنطة في ر َحى‬ ‫لكي تنتصروا‪.‬‬ ‫أنتُ ْم لستُ ْم قتل ًة ْ‬ ‫‪ ‬‬ ‫ما سيحدث‬

‫‪124‬‬

‫الَ ُت ْخ ِب ُرو َ‬ ‫ها ِب َذل َ‬ ‫ِك‬

‫ال تُخب ُروها أنني لن أكو َن هنا غ ًدا‬ ‫صبا َحا‬ ‫ال تد ُعوها تعرف أنني لن أعود أب ًدا‬ ‫مازالت تُمسكني من أذني‬ ‫وتد ِّر ُسني الرياضيات واللغة في المط َبخ‬ ‫مازالت تح ِّم ُمني‪ ،‬تدلُكُني بزيت‬ ‫الزيتون‬ ‫بالخل‬ ‫وتك ِّم ُد رأسي الساخن ِّ‬ ‫تغ ِّني لي‬ ‫وت ْغ ِلفُني بال ُّدعاء‬ ‫تشتُ ُمني‬ ‫وتلفّني بال ُّدعاء‬ ‫بكت حين ب َك ْي ُت‬ ‫وحدها ْ‬ ‫وك ُبرتْ حين ك ُبرتُ‬ ‫وحدها من ستسقُط حين أسقُط‬ ‫اكتبوا وأومئوا لها باس ِمي‬ ‫ِ‬ ‫السنوات‬ ‫دعوها تنتظ ُرنِي‬ ‫بصمت َّ‬ ‫وال تتركوها تعلم أنَّني لم أع ْد ُهنا‪.‬‬

‫العودة إليها‬

‫ُ‬ ‫ان عَ ْ‬ ‫ون‬ ‫س ٌ‬ ‫فرْ َ‬ ‫ص ِر ُّي َ‬

‫ب ُ‬ ‫ون‬ ‫َال ٌ‬

‫قالُوا إنَّهم ذاه ُبون بعي ًدا‬ ‫حيث لم يذهب أحد بع ُد‬ ‫وإن أسما َء ُهم أكب ُر من أن يحملُوها‬ ‫بمفر ِد ِهم‬ ‫رفعوا ر ُؤوس ُهم وأنوفَ ُهم‬ ‫قالوا إن ل ُهم معارك لي ْن ِ‬ ‫تصروا‬ ‫كل شيء‬ ‫وإنَّهم وحد ُهم ير ْون َّ‬

‫أحاو ُِل ال َعو َدة‬ ‫ال تسألُوني إلى أيْ َن‬ ‫أنا ال ُ‬ ‫أعرف‬ ‫****‬ ‫رأيتها من ف ْجو ٍة‬ ‫أجل رأيتُها‬ ‫ال تسألوني م ْن هي‬ ‫أنا ال أذك ُرها‬ ‫****‬ ‫كل شيء فقاقيع‬ ‫حتى‬ ‫الموانئ والغيماتُ‬ ‫ُ‬ ‫حتى ُصرا ُخها‬ ‫فقاقي ُع‬ ‫****‬ ‫أريد أن أعود إليها‬ ‫ألعيدها إلى‬ ‫ما كان وما لم يُكُن‪.‬‬

‫دون أن أع ِرفَها‬ ‫من بعيد أنظُ ُر إليها‬ ‫حياتي الذاه َب ُة دون و ْجه ِة‬ ‫أفلت من ِيد طفْلٍ‬ ‫كبالونٍ َ‬

‫محمد عتيبي‬

‫بحزنٍ عابرٍ‪ ،‬ودمع ٍة طارئ ٍة‬ ‫يمكنك أن تكتب لي نعيا الئقا‬ ‫بخسارتي‬ ‫وال تنس أن تض ِّمنه مقط ًعا من قصيدة‬ ‫لي عن الموت‬ ‫عليه أن يُعجب فتيات كثير ٍ‬ ‫ات‬ ‫ويق ُر َص قلوب ُه ّن الطريّ َة‬ ‫الصحف ذلك‬ ‫ستنشر إحدى ّ‬ ‫سيقرأ بعضهم العنوا َن دون انت َباه‬ ‫وقد يهت ّم أستاذ متقاعد بال َّن ْعي‬ ‫لينسى اسمي بعد عشر دقائق‪..‬‬ ‫َ‬ ‫حبيبتك‬ ‫بعد شه ٍر ستالقي‬ ‫أعرض من و ْجهك‬ ‫بابتسامة َ‬ ‫وسيكو ُن ال َّنعي ممسحة للنوافذ‪.‬‬ ‫أنا وحي ٌد دون ِذكرى‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬حِ وَ ٌ‬ ‫س‬ ‫ار مَ عَ َحا ِر ٍ‬ ‫بماذا تش ُعر؟‬ ‫مثقاب تتوغَّل في كل سنتمتر م ِّني‬ ‫مائة‬ ‫ٍ‬ ‫ما ثقلُك هذا؟‬ ‫ال شي َء‬ ‫في ماذا تفكِّر؟‬ ‫في الفرا ِر‬ ‫أنت؟‬ ‫أين َ‬ ‫أنظر إلى ِ‬ ‫نفسي‬ ‫إلى أين ٍ‬ ‫تمضي؟‬ ‫قلبي ملعق ُة مل ٍح‬ ‫بإصبعي‬ ‫أح ِّركها في الماء ْ‬ ‫من أنت؟‬ ‫أنا‬ ‫ماذا تريد؟‬

‫أحلم بستين دقيقة وعلبة سجائر‬ ‫وزجاجة ٍ‬ ‫نبيذ‬ ‫أريد ليل ًة واحد ًة‬ ‫عقاب‬ ‫أعوم في امرأة كريش ِة ِ‬ ‫أريد غدا واح ًدا كي أضحك أكثر‬ ‫وخمس دقائق ألحز َم نفسي وأر َحل‪.‬‬

‫ثم ركبوا على كراسي المقا ِهي‬ ‫والحانَات‬ ‫َص ِهلُوا عال ًيا‬ ‫وتدل َّْت سيقانُهم‬ ‫اإلسفلت‬ ‫دون أن تت ُرك أثرا على ْ‬ ‫كنت أنظُ ُرهم‬ ‫ُ‬ ‫وأخفي في كُ ّم ُسترتي ِضحك ًة واسعةً‪.‬‬

‫شاعر من تونس‬


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪125‬‬


‫مقال‬

‫خرافة الضرورات الشعرية‬ ‫صالح حسن رشيد‬

‫وحساسية اإلبداع الخالّق إلى ضرائر الشعر‬ ‫اثنان فقط من النحويين؛ هما اللذان نظرا بعين الفن البليغ‪ ،‬وعبقرية األداء العالي‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وإضافة‪ ،‬وحِ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫على أنها مِ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫طبيعية لثقافة الشاعر الواسعة‪ ،‬واستطالته اللغوية المتمكنة‪ ،‬وأنها‬ ‫ونتيجة‬ ‫وأصل معتم ٌد‪،‬‬ ‫لية‪،‬‬ ‫يزة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خروجا على قواعد اللغة ومسموعها‪ .‬هذان العَ لمان النحويان؛ هما‪ :‬سيبويه‪ ،‬وابن مالك؛ صاحب ألفية النحو‬ ‫عيبا أو‬ ‫ليست‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫الشهيرة‪ .‬ولو قد َر لهذا الرأي الفني األدبي اللغوي؛ أن يذيع‪ ،‬ويسود‪ ،‬وينتشر بين النحويين قديما وحديثا؛ لكانت لدراسة اللغة‬

‫العربية‪ ،‬والنحو‪ ،‬والشعر‪ ،‬وضرائر الشعر طريقة أخرى‪ ،‬وفتوحات أخرى غير ما نرى‪ ،‬ونقرأ‪ ،‬ونشمئز منه‪ ،‬ونستعيذ بالله من‬

‫شروره وخرافاته‪.‬‬

‫لقد‬

‫وقعت مجافاة رأي كل من‬

‫الشعري‬

‫العربية‪،‬‬

‫سيبويه وإبن مالك‪ ،‬ووئد فهمهما‬

‫المستقيم‬

‫مع‬

‫طبيعة‬

‫ومجازاتها‪ ،‬وطرائقها العجيبة في الصوغ‪،‬‬ ‫واالبتكار الفني؛ المستجيب لهذا الخروج‬ ‫ٌ‬ ‫مندوحة في لغات العرب‬ ‫اللغوي؛ الذي له‬ ‫ولهجاتها؛ وفي حس العربية المسبوك‬ ‫بالنبوغ والتوالد‪ ،‬المطواع لكل مج ّدد يمتلك‬

‫األدوات؛ وفي الطليعة الشعراء؛ وحصل هذا‬ ‫الوأد لصالح تقزيم األدب‪ ،‬وقتل الشعر‪،‬‬ ‫وإضاعة بالغة العربية وملكاتها الفنية‬ ‫الرائعة‪ ،‬ووضع الشعراء في سجن النحو‬ ‫األبدي؛ لتكبيل الشعراء وتعذيبهم؛ باسم‬

‫التعليل والتخريج والضرورات والمحافظة‬ ‫على القاعدة النحوية التي ما أنزل الله بها‬

‫من سلطان وال كهان وال فرمان‪.‬‬

‫يتعين على علماء اللغة والنحاة‬ ‫ومن هنا؛ كان‬ ‫َّ‬ ‫والنقاد درس لغة الشعر وضرائره على حدةٍ ؛‬

‫بمعزل عن نحو النحاة‪ ،‬ولغة النثر؛ أي من‬ ‫ٍ‬ ‫خالل ما ُأ ِّ‬ ‫سميه بـ(اإلعراب الفني الكلي)‪ ،‬أو‬ ‫نظرية (قرآن اللغة) التي وفقني الله لالهتداء‬

‫ونظر‪ ،‬ومعايشةٍ للقرآن‬ ‫بحث‪،‬‬ ‫إليها؛ بعد طول‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫والفصحى‬ ‫فلوال الشعر؛ َلما كان إثراء اللغة؛ ولوال‬

‫‪.‬‬

‫تهويمات وشطحات وتجديدات وابتكارات‬ ‫تطور‬ ‫وتحليقات الشعراء؛ َلما كان للغة من‬ ‫ٍ‬ ‫انبجاس وال ِّ‬ ‫انخراق في الكيف‬ ‫ساع وال‬ ‫ات‬ ‫وال‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫واإلجادة والكفاءة والمقدرة؛ ممّ ا أ ّدى إلى‬

‫‪126‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأساسا‪.‬‬ ‫مرجعية‬ ‫النحو‬

‫ُّ‬ ‫تفجر بحار بالغتها وظهور ف ِّنياتها وضرورة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبالغيا في‬ ‫ولغويا‬ ‫وصرفيا‬ ‫نحويا‬ ‫دراستها‬

‫لذا؛ فقد ورد في بحث “الضرورة الشعرية‬

‫النحاة في عالم التنظير والدرس‪.‬‬

‫على ألفية ابن مالك” للدكتور السعودي‬

‫ضوء خروجات الشعراء على ما تعارفه‬

‫قال سيبويـه(ت‪180‬هـ) في (الكتاب) “وليس‬ ‫ٌ‬ ‫شيء يضطرون إليـه؛ إالّ وهم يحاولون به‬ ‫وجها”ً‬

‫‪.‬‬

‫أي؛ أنه يريد أن يقول‪ :‬إن الضرورة الشعرية؛‬

‫ومفهومها لدى النحويين دراسة تطبيقية‬ ‫إبراهيم بن صالح الحندود؛ الذي قال فيه‬ ‫“وقد حاول بعض المحدثين (الدكتور حماسة‬

‫عبداللطيف في كتابه الضرورة الشعرية)‬

‫االعتذار البن مالك بأنه كان يعمل ثقافته‪،‬‬

‫وفكره حين َّبين رأيه في الضرورة الشعرية‪.‬‬

‫لون من اإلبداع‪ ،‬وخرق لنظام اللغة؛‬ ‫هي‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وجه محمو ٌد‬ ‫لبناء نظام لغوي جديد آخر؛ له‬

‫فكان يضع في اعتباره لهجات العرب‬

‫الحركة المتتابعة من المحافظة والخرق‪،‬‬

‫النبوي الشريف بحيث إذا ورد فيها شيء‬

‫في لهجات العرب‪ ،‬وذائقتها‪ ،‬وتفننها! وبهذه‬

‫والخرق والمحافظة تنمو اللغة‪ ،‬وتتعاظم‬

‫على مر األيام‪.‬‬

‫والمالحظ أن هذا الخروج الفني قد ورد‬ ‫ً‬ ‫خرقا لقواعد النحاة الصلدة؛ في آيات الكتاب‬

‫العزيز؛ فمن ذلك قوله تعالى “وتظنون بالله‬ ‫الظنونا” بمد وإطالق مَ ِّدة النون الثانية؛‬ ‫لتناسب المعنى؛ وهي من ضرائر الشعر‬

‫المتباينة‪ ،‬والقراءات القرآنية‪ ،‬والحديث‬ ‫قال النحاة عن نظيره في الشعر إنه ضرورة‬

‫لم يع ّده هو كذلك‪ ،‬بل يرجع كل ظاهرة إلى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ينص على أنه لهجة قبيلة‬ ‫وأحيانا‬ ‫أصلها‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫معينة وضرورة عند غيرهم فنراه ‪-‬مثالً‪-‬‬

‫يقول عن تسكين هاء الغائب واختالس‬ ‫حركتها “وقد ُت َّ‬ ‫سكن أو ُتختلس الحركة بعد‬

‫ً‬ ‫اختيارا‪،‬‬ ‫متحركٍ عند بني عُ َقيل‪ ،‬وبني كالب‬ ‫ً‬ ‫اضطرارا” وبرغم موافقة‬ ‫وعند غيرهم‬

‫‪.‬‬

‫المستحبة الفنية حسب مصطلحات النحاة‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫التي ال أوافق عليها أبدا أبدا؛ من منطلق‬

‫حماسة عبداللطيف لرأي ابن مالك من طرف‬

‫سبحانه “فأضلونا السبيال”! فللقرآن لغته‬

‫وكأن ابن مالك ارتكب كبيرة الكبائر النحوية‬

‫عالم الفن‪ ،‬والجمال‪ ،‬والبالغة! وكذلك قوله‬

‫الخاصة‪ ،‬ونحوه الخاص‪ ،‬وتراكيبه الخاصة‪،‬‬ ‫وفواصله‬

‫الخاصة‪،‬‬

‫وبالغته‬

‫الخاصة‪،‬‬

‫وخروجاته على نحو النحاة الخاصة‪،‬‬

‫‪..‬‬

‫وقواعده الخاصة فمتى يلتفت إليها النحاة‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن وضع‬ ‫واللغويون بدراسةٍ خاصة‬

‫خفي؛ فإنه يقدم األعذار الواهية نيابة عنه؛‬

‫والعروبية؛ التي يستحق عليها اإلعدام خيانة‬ ‫لعربية النحاة؛ ال عربية الشعراء المقدمين‬ ‫على النحاة واللغويين في فهم العربية‪،‬‬

‫ومعرفة دقائقها‪ ،‬والتأطير لها‪.‬‬

‫يقول الدكتور الحندود في بحثه القيم “وقد‬


‫إبراهيم الصلحي‬ ‫ذكر ابن مالك مثالً في كتاب ‘التسهيل’ جملة‬

‫وإمكان إدراكه مع الضرورة؛ ولذلك أجرى‬

‫إمساكٌ للعصا من المنتصف؛ لعدم إغضاب‬

‫هو كذلك؛ كحذف نون الوقاية من ‘ليس’‪ ،‬و‬

‫المشهورة‬

‫أخلص هؤالء النقاد لقضيتهم هذه؛ لقالوا‬

‫من المسائل يع ّدها بعضهم ضرورة‪ ،‬وال يراها‬

‫‘ليت’‪ ،‬و’عن’‪ ،‬و ‘قد’‪ ،‬و’قط’‪ ،‬وزيادة ‘ال’ في‬

‫العلم‪ ،‬والتمييز‪ ،‬والحال‪ ،‬وإسكان عين ‘مع’‪،‬‬

‫بعض العلماء عليها (السيوطي في األشباه‬ ‫والنظائر)‬

‫القاعدة‬

‫األصولية‬

‫(الضرورة ُتق َّدر َ‬ ‫لغوي من‬ ‫بق َدرها) فالشاعر‬ ‫ٌ‬ ‫الطراز األول؛ فهو من َّ‬ ‫ثم خبيرٌ بالحد الذي‬

‫خفي المعنى أو التبس‪.″‬‬ ‫إذا تجاوزه‬ ‫َ‬

‫والفصل بينها وبين تمييزها‪ ،‬وتأكيد المضارع‬ ‫ً‬ ‫مضارعا‪ ،‬والجواب‬ ‫المثبت‪ ،‬ومجيء الشرط‬

‫إحاالت من النقد الحديث‬ ‫ويورد جمال صقر‬ ‫ٍ‬

‫ويرى الدكتور الحندود؛ أن ابن مالك َّ‬ ‫بث رأيه‬

‫أبو ديب‪ ،‬وعز الدين إسماعيل‪ ،‬وحماسة‬

‫ثنايا مؤلفاته؛ فقال “وفي بعض كتبه األخرى‬

‫فكرة التجاذب بين العَ روض وبين القواعد‬

‫ً‬ ‫ماضيا‪ ،‬وإجراء الوصل مجرى الوقف”‪.‬‬

‫الطريف هذا حول الضرورة الشعرية في‬

‫يشير إلى أن بعض الظواهر تكثر في الشعر‬

‫دون النثر”‪.‬‬

‫ال؛ بل ذهب إلى أنه متأثرٌ في هذا التخريج‬ ‫الفني للضرائر بسيبويه؛ فقال “ولعله في هذا‬

‫‪.‬‬

‫متأثرٌ بسيبويه وهذا يُ شعِ ر؛ بأنهما يُ د ِركان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاصا به في صرفه‪ ،‬ونحوه‬ ‫نظاما‬ ‫أن للشعر‬ ‫ينبغي أن يدرس وحده منفصالً عن النثر‪،‬‬ ‫ولكن النظرة السائدة إلى وحدة اللغة جعلت‬ ‫هذه المالحظة تقف عند ح ّد اإلدراك الذي‬ ‫لم يؤيده التنفيذ العملي” نقالً عن الباحث‬

‫حماسة عبداللطيف‪.‬‬

‫ويقول الباحث محمد جمال صقر في كتابه‬ ‫“عالقة عروض الشعر ببنائه النحوي” وهو‬

‫أطروحته للدكتوراه في كلية دار العلوم‬ ‫جامعة القاهرة “وال بد من ظهور المعنى‪،‬‬

‫لـ(يوري لوتمان‪ ،‬وشبلنر‪ ،‬وفتوح أحمد‪ ،‬وكمال‬ ‫عبد‬

‫اللطيف)‪..‬‬

‫ترى أن الشعر يعتمد على‬

‫النحوية والصرفية في بناء لغة الشعر؛‬ ‫فيقول “إذا تح َّدث النقاد عن أن لعروض‬ ‫الشعر وبنائه النحوي كليهما قواعد ضابطة‪،‬‬ ‫نظاما مُ َّت ً‬ ‫ً‬ ‫وأن الزحاف والعلة في‬ ‫بعا‪،‬‬ ‫أو‬ ‫َّ‬

‫جانب العروض‪ ،‬والضرورة في جانب البناء‬ ‫ٌ‬ ‫صدع‬ ‫النحوي كليهما؛ كسرٌ للقواعد‪ ،‬أو‬

‫ٌ‬ ‫مزاج‬ ‫للنظام‪ ،‬وأن بنيان الشعر أو القصيدة‬ ‫ً‬ ‫معا؛ أي من القواعد الضابطة‪،‬‬ ‫من ذلك كله‬ ‫ومن كسرها‪ ،‬ومن النظام المُ َّتبع‪ ،‬ومن صدعه؛‬

‫فكالهما في الحقيقة نظام؛ وإن كان أحد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫معا‬ ‫سلبيا؛ وبهما‬ ‫إيجابيا‪ ،‬واآلخر‬ ‫النظامين‬ ‫حياة الشعر‪ ،‬أو القصيدة‪ ،‬وإبداعها”! فإلى‬ ‫ما قبل نهاية النص السابق؛ كان كالم هؤالء‬ ‫ً‬ ‫صحيحا؛ إال أن قولهم‪ :‬بصفة السلبية‬ ‫النقاد‬ ‫في جانب من جوانب الشعر؛ هو في الحقيقة‬

‫النحاة؛ أو إزعاجهم‪ ،‬أو تأليبهم عليهم! ولو‬

‫بحق‪ :‬إن نظام الشعر؛ هو إحياء للغة‪ ،‬وثراء‬ ‫للفن‪ ،‬وإيجابية ال حد لها‪ ،‬وال طاقة؛ بدالً من‬ ‫عبارات النحاة الفضفاضة؛ التي ال ترتبط‬

‫بعالم الخيال والشعر‪.‬‬

‫ويأتي جمال صقر برأي للدكتور نجيب‬ ‫ٍ‬ ‫البهبيتي في كتابه “تاريخ الشعر العربي”‬

‫ذهب فيه إلى أن “مراجعة أقدم نصوص‬ ‫ّ‬ ‫توضح أن ذلك الشاعر الجاهلي كان‬ ‫الشعر‬ ‫ً‬ ‫جريئا على تغيير البناء النحوي؛ لتسلم‬ ‫ً‬ ‫مفهوما” إذن؛‬ ‫عروض شعره؛ مادام المعنى‬ ‫فالشعر هو الخرق المتواصل الجميل؛ طلباً‬

‫‪.‬‬

‫للفن والعبقرية اللغوية‬ ‫ً‬ ‫نصا البن جني‬ ‫وأورد الباحث جمال صقر‬ ‫ً‬ ‫مدافعا عن شجاعة‬ ‫في “الخصائص” قال فيه‬ ‫الشاعر‪ ،‬وجرأته في إحداث التغيير اللغوي‬ ‫الفني؛ بمهارته اللغوية‪ ،‬وحدسه‪ ،‬وعبقريته؛‬

‫التي لوالها لما عارض القرآن هذا الشعر‬

‫َ‬ ‫رأيت الشعر‬ ‫المتفجر بالبيان والمجاز‪“ :‬متى‬ ‫قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها‪،‬‬

‫وانخراق األصول عنها؛ فاعلم أن ذلك منه‪،‬‬ ‫وإن َّ‬ ‫دل من وجهٍ على جوره وتعسفه؛ فإنه‬ ‫ْ‬

‫‪.‬‬

‫من وجهٍ آخر مُ ْؤذِ ٌن ِ‬ ‫بصياله وتخمُّ طه وليس‬ ‫دليل على ضعف لغته‪ ،‬وال قصوره عن‬ ‫بقاطع‬ ‫ٍ‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪127‬‬


‫مقال‬

‫اختيار الوجه الناطق بفصاحته؛ بل مثله‬

‫“ضرائر الشعر‪ ،‬والضرورة الشعرية وما إلى‬ ‫ذلك من خرافات” َلهو ممّ ا يناقض شعر‬

‫ً‬ ‫ملوما في عنفه وتهالكه؛ فإنه‬ ‫فهو وإن كان‬

‫وتحطيم ألقوال‬ ‫لنظام اللغة العربية المنثور‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫عندي مثل مجرى َ‬ ‫الجموح بال لِجام‪ ،‬ووارد‬ ‫ً‬ ‫الحرب الضروس حاسرا من غير احتشام؛‬

‫‪..‬‬

‫مشهو ٌد له بشجاعته وفيض منته ”‪ ،‬إذن؛‬ ‫فلوال هذه الجسارة اللغوية‪ ،‬وتلك الشجاعة‬

‫النحوية من الشعراء؛ ما كان هناك شعرٌ ‪ ،‬وال‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫فارق بين عباقرة‬ ‫عالية‪ ،‬وال‬ ‫لغة‬ ‫إبداع‪ ،‬وال‬

‫الشعر‪ ،‬وال صغاره‪.‬‬

‫فني‬ ‫كسر‬ ‫الشعراء الكبار‪ ،‬وما ُج ِبلوا عليه من‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬

‫سقطة نازك‬

‫بحتمية التجديد الشعري في ميعة شبابها؛‬ ‫نكصت عن عقبها في فوران نضجها‬

‫وألقها؛ فهاجمت ابتكارات الشعراء اللغوية‬

‫وتجديداتهم الفنية؛ فقالت في كتابها‬ ‫“قضايا الشعر المعاصر”‪ :‬إنه لسخف عظيم‬

‫أي حرية لغوية‪ ،‬ال‬ ‫أن يمنح الشاعر نفسه ّ‬ ‫يملكها الناثر! إن كل خروج على القواعد‬ ‫المعتبرة ينقص من تعبيرية الشعر‪ ،‬ويبعده‬ ‫عن روحية العصر”! وأرى؛ أن كالمها هذا ال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فنيا! وأن‬ ‫موسيقيا‪ ،‬وال‬ ‫شعريا‪ ،‬وال‬ ‫يستقيم‬

‫‪..‬‬

‫ذلك منها ردة شعرية إلى أجواء الظالمية‬

‫الذي يساير اللغة البليغة مع فنها الرحيب‪،‬‬

‫والنحوي‪ ،‬واإلتيان بما صدم النحويين‬

‫الممنهج‪ ،‬النحو الحقيقي‪ ،‬النحو الفني‪ ،‬النحو‬ ‫وليس مع القواعد المنخرقة بكالم الشعراء‬ ‫مع عالمها المدهش الساحر؛ الذي رفعها إلى‬ ‫ُ‬ ‫أن تصبح أم اللغات؛ يوم كان الشعراء أرباب‬

‫العربية؛ ال النحاة‪.‬‬ ‫جوهر الشعر‬

‫إذن؛ فقد آن األوان لهدم مصطلح الضرورة‬

‫الشعرية‪ ،‬وردمه لصالح مصطلح “جوهر‬

‫الشعر” الذي ألهمني الله إلى سبكه ووضعه؛‬ ‫ً‬ ‫أي اعتبار هذه الخروجات أصالً‬ ‫مهما‬ ‫فني ًا‬ ‫ّ‬ ‫في عالم اإلبداع‪ ،‬واصطياد لحظات اإللهام‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫واإلشراق‪ ،‬والتجلي الفني وآن للنحاة أن‬

‫يعرفوا؛ أن الشاعر مفطورٌ على كسر قاعدة‬

‫مطارحتها‪،‬‬

‫الفتان الخالب العجاب‬ ‫ٌ‬ ‫إذن؛ فعملية اإلبداع الشعري خلق آخرُ للغةٍ‬

‫التي نادت بحتمية التجديد‬

‫جديدة‪ ،‬تظهر فيها مهارة الشاعر كلغويٍّ‬

‫يصنع لغته الساحرة؛ تلك اللغة التي؛ تخالف‬ ‫ومصطلحات النحاة في زحافاتها‪ ،‬وعللها؛‬

‫نضجها وألقها؛ فهاجمت‬

‫ومعاني بالغية‪ ،‬ومضامين‬ ‫ألغراض فنية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫قشيبة؛ ال تتحقق إال بهذا الخروج الفني‬ ‫المطلوب‪ ،‬وهذا التحطيم النحوي المرغوب؛‬

‫إلحداث النغم‪ ،‬والموسيقى‪ ،‬واأللق‪ ،‬واإلبهار‪.‬‬

‫زاولها؛‬ ‫يتلمَّ سها‪ ،‬ويشعر بها‪ ،‬ويفطن إليها‪ ،‬ويُ ِ‬ ‫إالّ مَ ن لديه جيشان الشعور‪ ،‬ويمتلك‬ ‫جرأة التوليد اللغوي‪ ،‬والنحت‪ ،‬واالشتقاق‪،‬‬

‫واالختراع‪ ،‬واإلتيان بما يناقض القواعد‪،‬‬ ‫ويضرب النظام النحوي اآللي للترويج‬

‫لنظام لغويٍّ شعري آخر؛ لحساب عالم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الجمال‪ ،‬والتذوق‪ ،‬والمهارة‪ ،‬والتوكيد على‬

‫أن العربية مِ ٌ‬ ‫لك ألهلها الشعراء‪ ،‬واألدباء‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫والمجددين فقط أمّ ا المتاجرون باسمها‪،‬‬

‫ابتكارات الشعراء اللغوية‬ ‫وتجديداتهم الفنية‬

‫المتواصل؛ الكاشف عن قدرة هذه اللغة على‬ ‫متكرر؛‬ ‫عدم التموضع في‬ ‫نظام لغوي واحدٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بل هي مَ ن تصنع نظامها المتجدد؛ بفضل‬

‫شعرائها الميامين في كل العصور‪.‬‬

‫فرحمة الله على هؤالء الشعراء المهرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ونجانا الله من غير المهرة؛‬ ‫الكرام البررة؛‬ ‫مِ ن البخالء َ‬ ‫الق َترَة على العربية؛ بما لها من‬

‫فضل وبالغةٍ وأريحيةٍ واسعة؛ فال يُ خرجونه‬ ‫ٍ‬

‫للناس؛ ألنهم أعدى أعدائها‪.‬‬

‫وعصمنا الله من نحو النحاة المتزمتين‬ ‫شيب العربية في شبابها‪،‬‬ ‫المتح ِّنطين؛ الذي َّ‬ ‫وأثكلها في كالمها‪ ،‬وألفاظها‪ ،‬وتراكيبها‪،‬‬

‫وبعد كل ما تق ّدم؛ فقد اتضح بالدليل‪ ،‬وتأكد‬

‫وتعابيرها‪ ،‬وشعرها‪ ،‬ونثرها! ومن ثمة؛‬

‫األصل هو قريض الشعراء‪ ،‬وكالم البلغاء‬

‫وقومها يفرّ ون منها‪ ،‬وهي اآلن منزوية ذليلة‬

‫بالبرهان والذائقة‪ ،‬واإلخالص للقضية؛ أن‬ ‫عند التعرض للتقعيد اللغوي بعد األصل‬

‫القرآني الجامع المانع‪ ،‬وأن ما أزعجنا النحاة‬ ‫بصوغه ولوكه ومضغه وعجنه وخبزه‬

‫وإجبارنا على السجود له‪ ،‬تحت عنوان‬

‫‪128‬‬

‫الشعري في ميعة شبابها‬ ‫نكصت عن عقبها في فوران‬

‫لغة العرب النثرية في نحوها‪ ،‬وقواعدها‪،‬‬

‫والحساسية اللغوية؛‬ ‫والموهبة‪ ،‬واإلضافة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫في جوهر هذا الشعر‪ ،‬وهو الخروج الفني‬

‫من أسف أن نازك المالئكة‬

‫‪.‬‬

‫ونظام نحوي يُ خالف‬ ‫عجفاء‪ ،‬وقواعد خنفاء‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جوهر الشعر والشعراء في صميم الفن‪،‬‬

‫أن شرف العربية في شعرها‪ ،‬وأن عبقريتها‬

‫إليها‪ ،‬ويستولدها‪ ،‬ويعرف أماكن بكارتها‪،‬‬

‫ومواقعتها؛ لإلتيان بالجنى الطيب الشهي‬

‫في محفوظهم الناقص‪ ،‬وما خدشهم في‬

‫دروس‬ ‫تقليديتهم الجافة‪ ،‬وما توارثونه من‬ ‫ٍ‬

‫والمُ ِّ‬ ‫لوثون لمجدها‪ ،‬والمتالعبون بشرفها؛‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫فهم عالة عليها‪ ،‬وليسوا سوى كهنة؛ لم تدرك‬

‫وزوجها‪ ،‬وأفضل من يتصرف فيها‪ ،‬ويضيف‬

‫ومواقيت‬

‫وحذلقاتهم؛ هو تجديد الشعراء اللغوي‪،‬‬

‫التي تن ُّد عن النحاة الجامدين‪ ،‬وال يكاد‬

‫الشعراء! فالشاعر هو أبو اللغة‪ ،‬وربها‪ ،‬وابنها‪،‬‬

‫إنجابها‪،‬‬

‫النحاة منذ أيام سيبويه في عالم المجاهيل‬ ‫أن‬ ‫والمتروكين والمشعوذين والضعفاء؛ إالّ َّ‬ ‫ما ّ‬ ‫نجاها من تعقيدات النحاة‪ ،‬وتهويماتهم‪،‬‬

‫األدبية‪ ،‬وسيطرة الجهل والخرافة على عالم‬

‫وكيفية‬

‫غير المطروق‪ ،‬وال المعروف‪ ،‬وال المدروس‬ ‫من قبل؛ ولوال ذلك؛ لتحنَّطت العربية‪َ ،‬‬ ‫وق َبرَها‬

‫وخرق لقواعدها الرتيبة البالية! وال‬ ‫نحاتها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ظان؛ أنني ضد النحو! ال؛ فأنا مع النحو‬ ‫يظنن‬ ‫ٌّ‬ ‫َّ‬

‫الكبار‪ ،‬والتي ال تستقيم مع بالغة العربية‪ ،‬وال‬

‫ومن أسف؛ أن نازك المالئكة التي نادت‬

‫ٌ‬ ‫مجبول على الجديد اللغوي‬ ‫الكالم النثري؛‬

‫جعلوها اآلن؛ كالمعلقة؛ فأبناؤها يكرهونها‪،‬‬ ‫جب النحاة المجحف‬ ‫في‬ ‫ّ‬

‫ناقد من مصر‬


‫قص‬

‫خمس أقاصيص‬ ‫خالد خميس السحاتي‬

‫أقـنعة‬ ‫َ‬ ‫ص ْد َف ًة فِ ي َحدِ َ‬ ‫يقةٍ عَ امَّ ةٍ ‪َ ،‬ت َحوَّ َ‬ ‫َذ َ‬ ‫اللق ُ‬ ‫التقيا ُ‬ ‫اء العَ ا ِبرُ إلى‬ ‫ل‬ ‫ص ْي ٍف‬ ‫ات َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ات مَ عْ ُسولةٍَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صداقةٍ ‪ ،‬تطوَّ ر ِ‬ ‫َت العِ القة ِب ُسرْ عَ ةٍ مُ ـذهِ لةٍ ‪ ،‬بَاع لها كلِمَ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ان‪َ ،‬توَ ّ‬ ‫غـَل في قلبها َ‬ ‫َ‬ ‫أن يَمْ نَعَ ُه‬ ‫س‬ ‫بأبخ‬ ‫فاشترت‬ ‫األثمَ‬ ‫ِ‬ ‫الخالِي ُدون ْ‬ ‫ِ‬

‫أح ٌد‪َّ ،‬‬ ‫ات ُ‬ ‫َّ‬ ‫فكر في مَ اضيهِ المُ ؤل ِ​ِم‪ ،‬عَ ا َدت لذا ِك َرتِهِ َس َنوَ ُ‬ ‫الغربَةِ‬ ‫َ‬ ‫ياع‬ ‫والض ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ولحظات عُ مْ ِر َها التي مضت‬ ‫وتذكرت هي والدها المَ ريض‪،‬‬ ‫والحِ رْ مَ ان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫له ُخ ً‬ ‫َس ِر ً‬ ‫حكمة‪ ،‬وَ مَ َ‬ ‫يعا‪ ،‬رسمت ُ‬ ‫ض ْ‬ ‫طة مُ‬ ‫ت فِ ي تنفيذ مَ رَاحِ ل َِها حتى‬

‫ُ‬ ‫النهاية‪َّ ،‬‬ ‫ينتشلها من مُ ستنقع الرَّ تابة القاتل‪ ،‬وفي اليوم التالي‬ ‫عل ُه‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ل مرَّ ةٍ ‪ ،‬لكن َُّه ْ‬ ‫لم‬ ‫انتظرته طويال في ذات المكان الذي التقيا فيه ألوَّ ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫يـأت‪ ،‬عادت إلى ُشقتها فوجدتها خالية تماما‪ ،‬وزهرة الياسمين التي‬ ‫ً‬ ‫لقاة على األرض‪ ،‬دخلت ُ‬ ‫غرفة والدها مُ ْس ِرعَ ًة‪ ،‬فأدركتهُ‬ ‫ُ‬ ‫أهدتها له مُ‬ ‫يلفظ أنفـاس ُه َ‬ ‫ُ‬ ‫بكلمات لم تفهمها َخ َلعَ ْ‬ ‫ت قِ نَاعَ َها‬ ‫األخِ ير َ​َة‪ ،‬ويُ تَمْ ت ُِم‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫َجـل يُ َ‬ ‫قابلها في َّ‬ ‫رت َأ ْن تفترس أوَّ َ‬ ‫يص‪ ،‬وَ َقرَّ ْ‬ ‫الطــريق!‬ ‫الرَّ خِ َ‬ ‫لر ُ ٍ‬

‫‪.‬‬

‫ال َّنوْ ِم‪ ،‬وَ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫انتظا ِر ال ِّر ْح َلةِ َ‬ ‫الل ْي ُ‬ ‫لي ْ‬ ‫َجل ُِس عَ َلى َن ِ‬ ‫القادِ مَ ةِ ‪،‬‬ ‫يق فِ ي‬ ‫اص َيةِ الط ِر ِ‬ ‫ُ‬ ‫والحدِ َ‬ ‫الجمِ يعُ ‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫والغ ُيومُ‬ ‫القمَ رُ‬ ‫يقة َ‬ ‫َ‬ ‫سيفرح َ‬ ‫وح َّتى‬ ‫ات قليلةٍ‬ ‫بَعْ َد َل َح َظ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ل أن ُتخبر َ‬ ‫الحدِ َ‬ ‫ُ‬ ‫يقة نامت ق ْب َ‬ ‫ألن َ‬ ‫القمَ ـ َر ِبقِ َّ‬ ‫الليل‬ ‫صةِ انتظا ِر‬ ‫الليل؛‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِب َشــوْ ق َل ْن يَأتِي َأبَـداً‬ ‫لمَ ـوْ ك ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬

‫‪.‬‬

‫َنـ َد ٌم‬ ‫الزعْ َت ِر َش َجر َ​َة َ‬ ‫الك َر ِز ِبعَ َف ِويَّ ةٍ ‪َ :‬ه ْ‬ ‫لت َن ْبت َُة َّ‬ ‫ل يُ ِري ُد َه ُؤالَ ِء َلنَا َ‬ ‫َسأَ ْ‬ ‫الخ ْي َر أو‬ ‫َت َش َجر َُة َ‬ ‫أجاب ْ‬ ‫وء يُ ْزعِ ُج ُه ْم؟ َ‬ ‫السالَمَ ؟ َأمْ َأ َّن َنوْ مَ نَا فِ ي ُه ُد ٍ‬ ‫ت‬ ‫صوْ ٍ‬ ‫الك َر ِز ِب َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫القا ِبعَ ة ُهنَاكَ عِ ْن َد َس ْ‬ ‫اسأَلِي تلك ال َّدبَّاب َ​َة َ‬ ‫افِ‬ ‫ل َحمْ ل َق ِ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫الج‬ ‫ح‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫َخ‬ ‫ت‬ ‫‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫يفت َ​َها المُ َثرْ ِثرَةَ‬ ‫َ‬ ‫ت َقذِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ح‪ ،‬ث َّم أطلق ْ‬ ‫الدبَّابَة فِ ي ش َجرَةِ الك َر ِز ِبشز ٍر وَ ِ‬ ‫اض ٍ‬ ‫الس َؤال ِب َط ِر َ‬ ‫الح ْق ُ‬ ‫تحوَّ َ‬ ‫يقت َِها ّ‬ ‫َ‬ ‫اصةِ ‪َ ،‬‬ ‫الخ َّ‬ ‫أشالء‬ ‫ل إلى‬ ‫ل‬ ‫يب عَ ِن‬ ‫َ‬ ‫ج َ‬ ‫ُّ‬ ‫ل ُِت ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ان المَ ْحرُ ومَ ةِ مِ َن َ‬ ‫َاب‪،‬‬ ‫وع وَ األغ َ‬ ‫ل وَ التر ِ‬ ‫مُ مَ زقةٍ مِ َن الفرُ ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫الح َياةِ وَ األمَ ِ‬ ‫عَ ر َ‬ ‫الزعْ َت ِر اإل َِجاب َ​َة َل ِكن َ​َّها َح ْت ً‬ ‫ت عَ َلى َ‬ ‫الس َ‬ ‫َ‬ ‫ت َن ْبت َُة َّ‬ ‫ْ‬ ‫َف ْ‬ ‫اللعِ‬ ‫دِ‬ ‫اكَ‬ ‫ين!‬ ‫ال‬ ‫ؤ‬ ‫ذ‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫مَ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪..‬‬

‫ُح ُل ٌ‬ ‫ـم‬ ‫َ‬ ‫الليلةِ َحال َِكةِ َّ‬ ‫ب المُ ْن َه ُ‬ ‫َح ِّجرَةٍ ‪ ،‬بَـ َدا ُ‬ ‫الظالَم َكقِ ْطعَ ةِ َف ْح ٍم مُ ت َ‬ ‫ك‬ ‫فِ ي تلك‬ ‫الح ُّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫مُ ْنتَحِ ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َست ْ‬ ‫َجدِ ي عَ طفا مِ ْن رُ وَّ ادِ الزيْ ِف المُ زرْ ك ِش‬ ‫با عَ لى قا ِرعَ ةِ الط ِريق‪ ،‬ي ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اء َّ‬ ‫الذا ِكرَةِ ‪ ،‬ي ْ‬ ‫او ُ‬ ‫َ‬ ‫بخوَ ِ‬ ‫َش َتكِي العُ ْزلة القاتِلة ب َْي َن َج َن َب ِ‬ ‫ل‬ ‫ان‪ ،‬يُ َح ِ‬ ‫ات ال ِّن ْس َي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اإلب َ‬ ‫وب‬ ‫السر ُ‬ ‫لى الضفةِ األخرَى‪َ ،‬ح ْيث ال يَخت ِبئ َّ‬ ‫َاب فِ ي قل ٍ‬ ‫ْحا َر ِبال زادٍ ِإ َ‬ ‫ب َف ِز ً‬ ‫مَ يِّ تَةٍ ‪ ،‬وَ الَ َي َت َد َّثرُ َ‬ ‫ب ال َّن َزاهَةِ َف ْجأَ ًة‪ ،‬استيقظ ُ‬ ‫عا‪،‬‬ ‫الح ُّ‬ ‫اله َذي ُ‬ ‫َان ِب َثوْ ِ‬ ‫مِ ن َه َذا المَ ْش َهدِ المُ ْزعِ ج‪َ ،‬ح َ َ‬ ‫جـ َز مـ َ َك ً‬ ‫ـانا فِ ي‬ ‫ِ وَ اوَ‬ ‫ْ‬ ‫ل أ ْن ي َْغ ُـفـو َقـلِيالً‪ ،‬ل َِي ْح ِ‬ ‫ُحلـُ ٍم َجـدِ يدٍ‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫انتظـار‬ ‫َ‬ ‫الكـوْ ن‪ ،‬ويَمْ نَعُ ُ‬ ‫شعُّ ِب ُنو ِرهِ عَ َلى َ‬ ‫َ‬ ‫القمَ رُ يُ ِ‬ ‫ب‬ ‫السوَ ادِ أ ْن َت ْح ُج َ‬ ‫الغ ُيومَ َقاتِمَ َة َّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الحدِ َ‬ ‫َ‬ ‫ين والعَ ِ‬ ‫ين وال َبائ ِ‬ ‫ين‪َ ،‬‬ ‫ون َ‬ ‫يقة َت ْخل ُد ِإلى‬ ‫اشقِ َ‬ ‫ِس َ‬ ‫الحالِمِ َ‬ ‫ضوْ َء ُه عَ ْن عُ ُي ِ‬

‫نهاية الحكاية‬ ‫ين َأ ْخر َ‬ ‫َج ُ‬ ‫فِ ي َدا ِر المُ ِ‬ ‫صوَ َر َأوْ الَدِ هِ ‪َ ،‬تأمَّ َل َها ِبعِ نَايَةٍ وَ َلمَ َس َها ِب َيدِ هِ ‪،‬‬ ‫س ِّن َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫انهمَ ر ْ‬ ‫َ‬ ‫َت ُدمُ وعُ ُه ِب َغ َزارَةٍ ‪ ،‬اختل َط ْ‬ ‫ت مَ َشاعِ ـرُ ُه‪ ،‬ل ْم يَعُ ْد قادِ را عَ لى ال َّت َح ُّك ِم‬

‫اء وَ ُ‬ ‫َات وَ ُدمُ ٌ‬ ‫يها‪ ،‬ذِ ْك َري ٌ‬ ‫فِ َ‬ ‫غــرْ ب ٌَة‪ ،‬وَ َق َـف ِب ُ‬ ‫وع وَ ِو ْح َد ٌة مَ َح َّب ٌة وَ َش َق ٌ‬ ‫صعُ ـوبَةٍ‬ ‫ً‬ ‫ـذةِ ‪َ ،‬ن َ‬ ‫ب النافِ َ‬ ‫َ‬ ‫ـظـ َر إلى ُّ‬ ‫ـس َس‬ ‫الصـوَ ِر للمَ ــرَّ ةِ األخِ يرَةِ ‪،‬‬ ‫مُ تـَوَ ِّجها َ‬ ‫صــوْ َ‬ ‫(تح َّ‬

‫‪..‬‬

‫ً‬ ‫يـح ال َبـاقِ ي‪َ ،‬س َق َ‬ ‫ـط عُ َّك ُ‬ ‫ِ‬ ‫قـل َب ُه) َّ‬ ‫از ُه‬ ‫أكمـلت ال ِّر ُ‬ ‫بعيـدا‪،‬‬ ‫ثم مَ َّـز َق َـها ورمَ ى ِب َها‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ي َ‬ ‫ض‪َ ،‬خــرَّ عَ لى وَ ْج ِـهـهِ‬ ‫ب عَ ِن النَّبـْ ِ‬ ‫الهـــ ِرمُ ‪َ ،‬توَ ق َـف قـل ُب ُه المُ ْتعـ َ ُ‬ ‫الخش ِب ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫صـ ِريـعا انتَهـ َ ِ‬ ‫ت الحِ كـايَة‪ ،‬أ ْسـدِ ل‬ ‫صفـَق الجمْ هـورُ ِب َحـرَارَةٍ‬ ‫السـ ِتـارُ ‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ب ُك ُّ‬ ‫ــل فِ ي َطــ ِريـقِ ـهِ‬ ‫بَـا ِر َدةٍ ‪ُ ،‬ث َّم َذهـ َ َ‬

‫‪.‬‬

‫كاتب من ليبيا‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪129‬‬


‫قص‬

‫إرهابية في تل كلخ‬ ‫شفان خليل‬

‫كم‬

‫كانت دهشته كبيرة حين قال له الضابط المسؤول عنه‬

‫“ستكون من أوائل الهاربين عندما نذهب لتحرير الجوالن”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كثيرا‪ .‬لماذا يقول له ذلك؟ ّ‬ ‫قلبا كالحجر؟‬ ‫ألنه ال يملك‬ ‫فكر في كالمه‬ ‫ألنه ال يستطيع سرقة أحالم الفقراء‪..‬؟ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألنه لم يتحوّ ل إلى وحش‬ ‫بشري بعد ّ‬ ‫ينفذ ما يقال له من دون تفكير؛ كألة حرب وقودها المزيد‬ ‫ّ‬

‫من دماء األبرياء؟‬ ‫ّ‬ ‫كل ذلك أل ّنه قال له عندما سأله زميله الضابط‪ ،‬المسؤول عن السرّ ية‬ ‫األخرى‪ ،‬عن الغنائم التي جلبها له عناصره في األيام التي قضوها في‬ ‫ً‬ ‫شيئا ذا قيمة‪ ،‬على عكس‬ ‫تل كلخ‪ ،‬وكان جوابه بأ ّنهم لم يجلبوا له‬

‫ً‬ ‫ذهبية‪.‬‬ ‫قطعا‬ ‫صديقه الذي جلب له جنوده‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫وكأن ذاك الذهب كان ملكهما في‬ ‫بعضا‬ ‫كانا يتكلمان مع بعضهما‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫أي إحساس بالذنب‬ ‫السابق‪ ،‬وهما استرجعاه من دون ّ‬ ‫ّ‬ ‫أي شيء‪ ،‬ردّ‬ ‫عندما قال له بعد أن ّ‬ ‫وجه إليه التهمة بأنه لم يجلب له ّ‬ ‫عليه بأ ّنه ال يستطيع سرقة ذكريات أولئك الناس كي ال يلوّ ث ذاكرته‬

‫‪.‬‬

‫فكانت تهمة الخيانة العظمى جاهزة له‪.‬‬ ‫ً‬ ‫منفيا في عوالمك الخاصة‪.‬‬ ‫إمّ ا أن تمتهن العبودية للقائد أو أن تكون‬ ‫***‬

‫‪.‬‬

‫يهجس لنفسه قائالً‪ :‬هي لعبة المظلوم الذي يتحوّ ل إلى ظالم خدعة‬ ‫ّ‬ ‫تظل متدحرجة‬ ‫الحرب‪ ،‬لعبة الموت‪ ،‬كرة النار التي‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫استيقظ مرة أخرى على كابوسه الدائم ذلك المشهد المؤلم للطفلتين‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫وهو يراقبهما تركضان‪ ،‬وفجأة تقفز إحداهما إلى األعلى تطمئن‬ ‫نفسها بأنها قد تنجو بنفسها بعد تلك القفزة‪ ،‬لكنها كانت قفزتها‬

‫األخيرة وصرختها المدوّ ية التي وصلت إلى أذن أختها‪ ،‬برغم أزيز‬

‫الرصاص‪ ،‬فعادت لتسحبها‪ ،‬لكن الرصاصة ال تعرف الرحمة‪ ،‬فأردتها‬

‫شهيدة‪.‬‬

‫التاريخي في تل كلخ‪،‬‬ ‫رجع الجنود إلى حمص ليحتفلوا بنصرهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وليمجدوا من جديد قائدهم الخالد‬

‫‪.‬‬ ‫كانت تلك المرة األولى واألخيرة التي يخرج فيها معهم إلى غزواتهم‪.‬‬

‫ّ‬ ‫إداري‪ ،‬لكن في كل يوم‪،‬‬ ‫ليتم تعيينه في مركز‬ ‫استطاع أن يدفع رشوة‬ ‫ّ‬ ‫وبعد كل مداهمة‪ ،‬كان يرى المزيد والمزيد من المسروقات في القطعة‬ ‫ً‬ ‫أحيانا لتبقى‬ ‫العسكرية‪ ،‬حتى أ ّنهم كانوا يجلبون معهم بعض األغنام‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الحقا‪.‬‬ ‫يتم بيعها‬ ‫مع الجنود أليام حتى‬

‫بعد انشقاقه بخمسة أشهر ّ‬ ‫تلقى نبأ أسر جميع عناصر سريته في‬

‫كمين نصب لهم في حمص‪.‬‬

‫‪130‬‬

‫ً‬ ‫جاهدا نسيان تلك الجريمة المؤلمة أن يقتل الجنود وردتين‬ ‫يحاول‬ ‫ً‬ ‫لم تبلغا من العمر أربعة عشر ربيعا كيف له أن ينسى كانتا تهربان من‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫موتهما المحتوم في أرض زراعية مفتوحة‪ ،‬من غير سواتر‪ ،‬وفوّ هات‬ ‫ّ‬ ‫موجهة‬ ‫بنادق المئات من الجنود ورشاشات عربات الدوشكا كلها‬ ‫ّ‬ ‫حضرت لهما أمهما مالبس‬ ‫إليهما‪ ،‬وكأنهما كانتا تعرفان مصيرهما فقد‬

‫‪.‬‬

‫بيضاء‪ ،‬كانتا ترتديانها وهما تهربان إلى جنتهما خائفتين‪.‬‬

‫كم تمنّى في تلك اللحظات ّ‬ ‫أل تكون أمهما تراقبهما‪ ،‬كما يفعل هو‪ ،‬هما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ذاهبتان إلى فردوسهما لكنه لم يكن فردوسا اختياريا !‬

‫‪..‬‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫يوما من األيام‪ ،‬لكن القدر قد اختار له الخدمة‬ ‫جنديا‬ ‫لم يختر أن يكون‬

‫اإللزامية في ذاك التوقيت‪ ،‬وشاءت األقدار أن تكون نهاية خدمته مع‬

‫‪.‬‬

‫بداية الثورة وبعد صدور مرسوم االحتفاظ بالجنود الذين انتهت‬ ‫م ّدة خدمتهم‪ ،‬انتقل من دمشق إلى حمص حيث كانت خدمته في‬

‫أحد أفواج القوات الخاصة‪.‬‬

‫بعد الوصول إلى حمص بدأت حملة التجييش للجنود بأنهم يقاتلون‬

‫‪.‬‬

‫اإلرهابيين والمتطرفين والخونة وعمالء الخارج وبعد كل جملة أو‬

‫أي خطاب كان يبدأ القطيع بالتصفيق الحاد‪ ،‬والهتاف‬ ‫جملتين من ّ‬ ‫بحياة القائد الخالد‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫كانت البداية ببعض المداهمات على أحياء حمص الداخلية كان‬ ‫يتجنبها بداعي المرض تارة‪ ،‬أو بدفع بعض من المال كرشوة تارة‬

‫أن الجنود كانوا متحمّ سين للخروج أكثر‬ ‫أخرى‪ ،‬لكن الطامة الكبرى ّ‬ ‫من القادة أنفسهم وهو يع ّد الدقائق والساعات واأليام بانتظار قرار‬

‫‪.‬‬ ‫التسريح‪ ،‬قبل أن تتلوّ ث يده بدماء أحدهم‪ ،‬أو العكس‪.‬‬

‫ً‬ ‫ألن غالبية هذه‬ ‫يوما من األيام حالً بالنسبة إليه‪،‬‬ ‫لم تكن الحرب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتم استخدامهم‬ ‫الحروب ال تكون من اختيار المشاركين فيها‪ ،‬فقط‬

‫ّ‬ ‫مؤججيها‪.‬‬ ‫كوقود لجشع‬

‫***‬

‫ً‬ ‫ناقوس الخطر ّ‬ ‫أخيرا صدرت األوامر بخروج مجموعتهم كاملة‬ ‫دق‬

‫‪.‬‬

‫إلى تل كلخ القريبة من حمص‪ ،‬حيث كان أغلب الجنود متحمّ سين‪،‬‬

‫يقومون بتنظيف أسلحتهم الصدئة كأدمغتهم وقلوبهم‬

‫السوداء‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تم تسيير سبعمِ ئة مقاتل إلى تلك البلدة مع ش ّتى صنوف األسلحة‬

‫الثقيلة‪.‬‬

‫بعد الوصول إلى مشارف المدينة‪ ،‬وقبل الدخول إليها بدأ القصف‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫دوي المدافع والهاون من طرف واحد المدينة‬ ‫العشوائي المنظم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫خالية من الرجال جميعهم خرجوا بعد وصول تسريبات مقصودة‬


‫عمرو وهيبية‬

‫بأن الجيش قادم خشية أن يلقوا حتفهم‪.‬‬ ‫إليهم ّ‬

‫عقب يومين من القصف ستبدأ الوحدات المقاتلة بالدخول لحصد ما‬

‫تبقى من األرواح‪ ،‬التي ظنت بأنها ستنجو من براثن تلك الوحوش‬

‫البشرية‪ .‬بدأت عمليات االقتحام للبيوت التي كانت خالية بمعظمها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تقريبا في بيت من‬ ‫مكثت كل مجموعة مؤلفة من عشرة عناصر‬

‫‪.‬‬

‫البيوت لالختباء واالحتماء لكن ممّ ن؟‬

‫كانت األولوية هي البحث عن المجوهرات الثمينة في البيوت قبل‬

‫‪.‬‬

‫اإلرهابيين المزعومين‪ ،‬وسرقتها وبيعها جاءت األوامر من السلطات‬ ‫العليا بعد مكوثهم يومين في أحد المنازل بتهديم البيت من الداخل‬

‫‪.‬‬

‫قبل الخروج منه لكنهم لم يستطيعوا االنتظار حتى الخروج من‬ ‫المنزل‪ ،‬وبدأوا بتحطيم وتكسير ّ‬ ‫كل شيء‬

‫‪.‬‬

‫حاول أن يعيد بعض األثاث إلى مكانه‪ ،‬لكن العيون كانت متوّ جهة‬ ‫بأن عليهم أن يراعوا‬ ‫صوبه‪ ،‬أل ّنه سبق أن تكلم مع الجنود قائالً لهم ّ‬ ‫ً‬ ‫يوما من األيام لنفس‬ ‫حرمة هذه البيوت‪ ،‬فقد يتعرض بيت أحدهم‬

‫‪.‬‬

‫الشيء لكن ح ّتى أسالك الكهرباء وأنابيب الماء في الحمامات لم‬ ‫ً‬ ‫خارجا بقية المدة التي‬ ‫تسلم من أذاهم‪ ،‬وبذلك باتوا يقضون حاجتهم‬

‫قضوها في المنزل‪.‬‬

‫***‬

‫أحب أن يترك رسالة لصاحب البيت‪ ،‬بأ ّنه كان أضعف من أن يقف‬ ‫لكم‬ ‫ّ‬

‫في وجه هؤالء القتلة‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫أعجبته أيقونة كتب عليها “الكفر يدوم لكن الظلم ال يدوم” احتفظ‬

‫‪.‬‬ ‫تكون بارقة أمل فوق كل ذاك الدمار‪.‬‬

‫بها وعند صدور األوامر بالخروج من المنزل أرجعها إلى مكانها‪ ،‬لعلها‬

‫ً‬ ‫أخيرا كسر حاجز الصمت الذي كان يفتك به ببطء سأل الضابط‪:‬‬

‫‪ -‬لماذا أعطيت األوامر بتهديم البيت؟”‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫أجابه دون تر ّدد “ليكون هذا اإلرهابي عبرة لمن لم يعتبر”‪.‬‬

‫إلرهابي؟‬ ‫بأن المنزل‬ ‫ وكيف عرفت ّ‬‫ّ‬ ‫أي إجابة مقنعة‪ ،‬أنهى الحديث معه بتوجيه الشتائم‬ ‫أل ّنه لم يكن لديه ّ‬ ‫ّ‬ ‫إليه‪ ،‬وتذكيره بالمقولة العسكرية الشهيرة في الجيش “نفذ ثم‬

‫اعترض”‪.‬‬

‫بعد مضي خمسة أيام كانت هي األطول واألقسى في حياته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يدخن على الشرفة‪ ،‬جاءت عجوز في الستين من عمرها‬ ‫وبينما‬ ‫ً‬ ‫تقريبا‪ ،‬واقتربت من الجنود الذين يقفون أمام بوابة المنزل السفلية‪،‬‬

‫وسألتهم بعد السالم عليهم‪:‬‬

‫يا أوالدي أنا صاحبة هذا البيت أعيش هنا مع حفيدي الصغير‪ ،‬فقط‬ ‫أو ّد أن أخبركم بأن هناك الكثير من الطعام والمؤونة في البيت‪ ،‬كلوا‬ ‫ما شئتم‪ ،‬تعاملوا مع البيت كما لو أ ّنه بيتكم‪ ،‬فقط تركت بعض الزهور‬

‫على الدرج‪ ،‬وهي بحاجة إلى السقاية‪.‬‬ ‫أن الجنود في األسفل أدركوا‬ ‫‪ ‬هنا لم يتمالك نفسه‪ .‬أجهش بالبكاء‪ .‬كما ّ‬ ‫بأن هناك خلالً ما‪ ،‬لكن الطمع والجشع ككرة النار تكبر كلما تدحرجت‬ ‫ّ‬

‫أكثر فأكثر‪ ،‬وبحركة ال إرادية كادت تكلفه حياته‪ ،‬قال لضابطه “سيدي‬

‫‪.‬‬

‫اإلرهابيين في الخارج ينتظرونك”‬ ‫إن أصحاب البيت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫بحركة متفاجئة سريعة‪ ،‬انتفض الضابط من مكانه باحثا عن سالحه‬

‫‪.‬‬

‫خرج إلى الشرفة ليرى تلك المرأة العجوز‪ ،‬ونزل إليها لتخبره بما‬ ‫ً‬ ‫سابقا‬ ‫أخبرته للجنود‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫العلوي لم يستطع النظر في عيونه يبدو أ ّنه‬ ‫بعد صعوده إلى الطابق‬ ‫ّ‬ ‫أيضا لديهم بعض الرحمة‪ ،‬لكن كرة النار ال ترحم أحدا‪ً،‬‬ ‫ً‬ ‫حتى القتلة‬

‫ً‬ ‫تماما‬ ‫فقد ابتلعتهم‬

‫كاتب ومترجم من سوريا مقيم في غالسكو‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪131‬‬


132


‫حوار‬

‫محمود شقير‬

‫خبز اآلخرين‬

‫وعربيا بالكتابة بأسلوب السهل‬ ‫فلسطينيا‬ ‫محمود شقير كاتب وقاص وروائي فلسطيني ذو نتاج غزير في هذا المجال‪ ،‬وقد تميز‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫محسنات لفظية أو استفاضات أو زوائد‪ ،‬وكذلك باشتغاله المتفاني على أعماله لجهة الفنية‬ ‫الممتنع‪ ،‬ذاه ًبا الى اللغة من دون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫خاصة لكتاباته السردية على تنوّ عها‪ .‬وفي كل كتاباته الصحفية واألدبية كانت‬ ‫العالية‪ .‬كل هذا وأكثر أسهم في تكوين سمات‬ ‫ً‬ ‫عاما قضاها بالمنفى جراء إبعاد سلطات االحتالل‬ ‫القدس دائمً ا حاضرة بقوة‪ ،‬فمنذ عودته إلى الوطن عام ‪- 1993‬بعد ثمانية عشر‬ ‫االسرائيلي له‪ -‬كتب كتابًا عن القدس هو “ظل آخر للمدينة” وأتبعه بثالثة كتب أخرى عن المدينة المُ قدسة‪ ،‬هي “القدس وحدها‬

‫هناك”‪“ ،‬قالت لنا القدس‪ ،″‬و”مدينة الخسارات والرغبة”‪.‬‬

‫وتكريما لمسيرته الحافلة بالعطاء األدبي والفكري‪ ،‬منحته مؤسسة محمود درويش “جائزة محمود درويش للحرية واإلبداع‪ ″‬في‬ ‫العام ‪ ،2011‬فكان أول فلسطيني يحظى بها‪ .‬وفي العام ‪ 1991‬منحته رابطة الكتاب األردنيين “جائزة محمود سيف الدين اإليراني‬ ‫للقصة القصيرة”‪ .‬ومؤخرًا منحته “لجنة القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية” جائزة “القدس للثقافة واإلبداع‪ ،″‬تقديرًا لجهوده‬

‫المثابرة في الكتابة من القدس عن القدس وللقدس‪.‬‬ ‫“الجديد” التقته وكان لها معه هذا الحوار‪..‬‬

‫بداية‪ ،‬ماهي نقطة التحوّ ل التي أسست فعال لبدء مسيرتك‬

‫األدبية؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫شقير‪:‬‬

‫كان كتابي األول “خبز اآلخرين” هو أبرز إنجاز‪ ،‬على اعتبار‬

‫أنه الكتاب الذي ق ّدمني إلى القراء‪ ،‬وكان هو فاتحة ما يزيد عن‬

‫‪.‬‬

‫خمسة وأربعين كتابًا أنجزتها حتى اآلن للكبار ولألطفال لعل “طقوس‬

‫‪.‬‬

‫ربما كان ظهور مجلة “األفق الجديد” في القدس نقطة‬

‫للمرأة الشقية” وهي قصص قصيرة ج ًّدا من أبرز إنجازاتي كذلك وال‬

‫ابتدأت المجلة في الصدور كل نصف شهر‪ ،‬ثم تحولت إلى مجلة‬

‫العائلة” ومسلسل “عبدالرحمن الكواكبي” الذي أخرجه الفنان صالح‬

‫‪.‬‬

‫التحول التي أسست لهذه المسيرة كان ذلك في العام ‪ 1961‬حين‬

‫‪.‬‬

‫شهرية كنت قبل ظهورها أحاول نشر مقاالت وقصص في الصحف‬

‫‪.‬‬

‫اليومية الصادرة في القدس حاولت كذلك إرسال بعض القصص إلى‬

‫مجالت في الخارج‪ ،‬ولم أحظ بفرصة واحدة لنشر قصة لي أو مقالة‬

‫أي مجلة من هذه المجالت‪.‬‬ ‫في ّ‬

‫‪.‬‬

‫وقد تكرر األمر نفسه مع مجلة “األفق الجديد” ذهبت إلى رئيس‬

‫تحريرها المرحوم الشاعر أمين شنار‪ ،‬قابلته في مكتبه الكائن في مقر‬

‫‪.‬‬

‫صحيفة “المنار” بشارع الزهراء في القدس ق ّدمت إليه أربع قصص‪،‬‬ ‫وبعد أن قام بقراءة هذه القصص لم يوافق على نشرها‪ ،‬لكنه أبدى‬

‫‪.‬‬

‫مالحظة ربما كانت هي حبل النجاة للكاتب المنتظر قال‪ :‬لديك قدرة‬

‫‪.‬‬

‫على كتابة قصة ناجحة بعد أشهر من ذلك اللقاء عدت إليه بقصة‬

‫مستوحاة من واقعة التشريد التي عانينا منها أنا وأسرتي وأهل‬ ‫قريتي حين اعتدت العصابات الصهيونية في العام ‪ 1948‬على جبل‬ ‫المكبر ُنشرت القصة في أحد أعداد المجلة في العام ‪ ،1962‬وبعد ذلك‬

‫‪.‬‬

‫توالى نشر قصصي في “األفق” وفي غيرها من المجالت والصحف‬

‫الفلسطينية والعربية‪.‬‬

‫أكثر من خمسين عاما من الكتابة‪ ،‬هل تحدثنا بإيجاز عن أهم‬

‫وأبرز اإلنجازات خالل مسيرتك األدبية؟‬

‫أنسى مجموعتي القصصية الساخرة “صورة شاكيرا” وروايتي “فرس‬

‫أبو هنود‪ ،‬وقام بدور البطولة فيه الفنان نبيل المشيني وآخرون‪.‬‬

‫ومع أنني كتبت عد ًدا غير قليل من القصص والروايات لألطفال‬

‫وللفتيات والفتيان فما زالت روايتي “أنا وجمانة” تشكل واحدة من‬

‫أبرز إنجازاتي‪ ،‬كما أ ّدعي للفتيات والفتيان‪.‬‬

‫ما الذي تختزنه الذاكرة من ذكريات عن كتابك األول “خبز‬

‫اآلخرين” الذي قدمك ككاتب قصة قصيرة في الوطن المحتل وفي‬

‫الشتات؟‬

‫شقير‪ :‬مما تختزنه الذاكرة حول هذا الكتاب أن قصصه جمعت‬ ‫وأعدت للنشر حينما كنت معتقالً في السجون اإلسرائيلية جراء‬

‫‪.‬‬

‫نشاطي السياسي ضد االحتالل قامت “دار صالح الدين” في القدس‬

‫بجمع الغالبية العظمى من القصص التي كنت نشرتها في مجلة “األفق‬

‫الجديد” واقترحت على القائد السياسي الشاعر توفيق زياد أن يكتب‬ ‫ّ‬ ‫متأخرًا تسع سنوات عن‬ ‫مقدمة للكتاب الذي صدر في العام ‪1975‬‬

‫موعد صدوره األول ألسباب عديدة‪.‬‬

‫وقد ُطبع هذا الكتاب مرات عدة في األرض المحتلة وتم تداوله‬ ‫على نطاق واسع‪ ،‬وبخاصة لدى طلبة الجامعات الذين ما زالوا كلما‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪133‬‬


‫حوار‬

‫ً‬ ‫بعضا منهم يتحدثون معي عن التأثير اإليجابي الذي تركه‬ ‫التقيت‬

‫شقير‪:‬‬

‫وحين تم إبعادي من السجن إلى لبنان‪ ،‬استقبلت في بيروت بصفة‬

‫فيه حتى وهو غير مؤهل لذلك ثمة وفرة من الكتابات التي تنتسب‬

‫“خبز اآلخرين” قد نشرت مرارًا في صحف ومجالت عربية والقت‬

‫التواصل االجتماعي وغيرها من المواقع اإللكترونية‪ ،‬حيث تختلط‬

‫في نفوسهم هذا الكتاب‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫كوني كات ًبا وليس رجل سياسة كانت بعض قصصي وبخاصة قصة‬

‫ترحي ًبا واسعً ا آنذاك‪ ،‬ولذلك تم االحتفاء بي على هذا األساس‪.‬‬

‫أبعدت خارج فلسطين من العام ‪ 1975‬وحتى العام ‪ ،1993‬فكيف ّ‬ ‫أثر‬

‫اإلبعاد في تجربتك األدبية؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫وغامضا ذلك أن هذا اللون‬ ‫ملتبسا‬ ‫ما زال هذا المستقبل‬ ‫ً‬

‫من الكتابة اإلبداعية يغري كل راغب في الكتابة أن يجرّ ب حظه‬

‫‪.‬‬

‫عن حق وعن غير حق إلى فن القصة القصيرة ج ًّدا على صفحات‬ ‫القصة القصيرة ج ًّدا مع الخاطرة والمقالة الموجزة واألمثولة‬

‫‪.‬‬

‫واألهجية السياسية وقصيدة النثر وفي ظني أن التماهي مع قصيدة‬ ‫النثر ال يعيب القصة القصيرة ج ًّدا‪ ،‬إذ لطالما اعتمدت قصيدة النثر‬ ‫على السرد القصصي المكثف‪ ،‬وال ضير من اعتماد القصة القصيرة‬ ‫ج ًّدا على بعض سمات قصيدة النثر على أال تغرق في لغة الشعر‪،‬‬

‫ّ‬ ‫تمكنت من إثراء‬ ‫كان له تأثير متع ّدد األبعاد من جهة‪،‬‬

‫فتصبح غير محددة المالمح‪ ،‬أو تصبح أقرب إلى الشعر منها إلى‬

‫العالم‪ ،‬ولم تصل إلى األرض المحتلة بسبب الحصار وأتيحت لي‬

‫يضاف إلى ذلك إهمال النقاد للقصة القصيرة عمومً ا وليس للقصة‬

‫ثقافتي بما كان ينقصني من كتب ظهرت في الوطن العربي وفي‬

‫‪.‬‬

‫فن القصة على الصعيد العربي من‬ ‫فرص لالطالع على ما وصل إليه ّ‬

‫‪.‬‬

‫تجديد اقتضته متطلبات العصر واختالف الظروف واألحوال ومن‬

‫جهة أخرى أتاح لي النظرُ إلى الوطن من بعيد عدم االكتفاء بمشاعر‬ ‫حبي للوطن‪ ،‬وإنما ً‬ ‫أيضا القدرة على رؤية األخطاء‬ ‫الحنين للتعبير عن ّ‬

‫والسلبيات إلى جانب التسليم بما هو إيجابي في مسيرة النضال‬

‫‪.‬‬

‫الوطني ضد االحتالل وقد انعكس هذا األمر على كتاباتي القصصية‬

‫عصيا على‬ ‫حيث لم أعد أنظر إلى الفلسطيني باعتباره كائنًا مقاومً ا‬ ‫ًّ‬

‫النقد‪ ،‬وإنما بوصفه كائنًا بشريًّ ا له مظاهر ضعفه مثلما له مظاهر قوته‪.‬‬ ‫كذلك‪ ،‬أسهم المنفى في التدخل في خياراتي الفنية واإلبداعية‪.‬‬ ‫إذ لم أعد وأنا في المنفى قادرًا على استحضار المكان األول الذي‬

‫تشكلت من خالله قصصي األولى‪ ،‬بما اتسمت به من سرد مطوّ ل‬ ‫نسبيا‪ ،‬فاستعضت عن ذلك باللجوء إلى كتابة القصة القصيرة ج ًّدا‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫المفصل محدد األبعاد‪ ،‬وذلك‬ ‫التي يمكنها االستغناء عن المكان‬ ‫الحيز‬ ‫باالكتفاء بمكان جزئي أو بجزئية من مكان تكفي ألن تكون‬ ‫ّ‬

‫القصة القصيرة ج ًّدا‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫القصيرة ج ًّدا وحسب هذا اإلهمال وضعف االهتمام والعزوف عن‬

‫وضع األسس والقواعد الخاصة بكتابة القصة القصيرة ج ًّدا‪ ،‬يجعل‬ ‫مستقبل هذا اللون من الكتابة اإلبداعية عرضة للدخول في متاهة‬

‫أو للمراوحة في المكان‪ ،‬رغم أن اإليقاع السريع لعصرنا يشجع على‬

‫التعاطي مع الكتابة المتقشفة التي باإلمكان قراءتها بسرعة قياسية‪.‬‬ ‫أما زلت تتهيب الدخول إلى عالم الكتابة الروائية ‪-‬كما تقول‪-‬‬

‫بسبب قناعتك أن الرواية فن يتطلب الكثير من االستعدادات‬

‫الثقافية والفنية‪ ،‬عالوة على التجربة الواسعة في الحياة؟ وكيف هي‬

‫عالقتك مع األجناس األدبية األخرى؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫أعتقد أنني استطعت كسر هذا التهيب بعد أن أنجزت‬

‫روايتين للكبار هما “فرس العائلة” و”مديح لنساء العائلة” اللتين‬

‫تطرقتا لسيرة عشيرة بدوية فلسطينية منذ بدايات القرن العشرين‬

‫الذي يحتضن مادة السرد المتقشف الذي ال يزيد عن أسطر معدودات‪.‬‬

‫إلى ما قبل نهاية هذا القرن بعشرين سنة‪ ،‬أي إلى فترة حصار بيروت‬

‫إلى أي مدى أسهم المراس الطويل في كتابة القصة القصيرة‬

‫إلى سيرة الشعب الفلسطيني الذي عانى وما زال يعاني من الغزوة‬

‫ّ‬ ‫خاصة لكتاباتك السردية على تنوّ عها؟‬ ‫ج ًّدا في تكوين سمات‬

‫شقير‪:‬‬

‫في العام ‪ ،1982‬ولعل في سيرة هذه العشيرة البدوية إشارة مؤكدة‬

‫الصهيونية التي شردت الشعب واستولت على األرض‪.‬‬

‫لكن التهيب ما زال يساورني كلما هممت بكتابة‬

‫‪.‬‬

‫ربما أسهم هذا المراس الطويل في‬

‫نص روائي للكبار أقول للكبار ألنني أنجزت‬

‫وفي االبتعاد ما أمكن عن المحسنات البديعية‬

‫بتدوين المالحظات للشروع باستكمال ما بدأت‬

‫تجنب االسترسال غير الضروري في السرد‪،‬‬

‫التي ال لزوم لها‪ ،‬وفي الميل إلى استخدام اللغة‬ ‫المتخففة من النعوت قدر المستطاع‪ ،‬والميل‬

‫كذلك إلى الجملة القصيرة المكثفة‪.‬‬

‫وبالطبع‪ ،‬فإن للسرد المطوّ ل سواء أكان ذلك في‬ ‫ً‬ ‫شروطا أخرى‬ ‫القصة القصيرة أم في الرواية‬ ‫تتجاوز حدود القصة القصيرة ج ًّدا وأساليب‬

‫كتابتها‪.‬‬

‫كيف ترى مستقبل القصة القصيرة ج ًدا في‬

‫وطننا العربي؟‬

‫‪134‬‬

‫‪.‬‬

‫عد ًدا من الروايات للفتيات والفتيان اآلن‪ ،‬أقوم‬

‫أتأمل بعض شخوص‬ ‫الرواية القادمة‪ ،‬وأواصل‬ ‫التهيب إلى أن تحين‬ ‫ّ‬ ‫لحظة الشروع في‬ ‫الكتابة‬

‫به في “فرس العائلة” وما تابعته في “مديح لنساء‬

‫العائلة” لعلني أغطي الفترة الزمنية من سيرة‬

‫العشيرة التي بعثرتها الظروف وتقلبات الحياة‬

‫وتغيرات الزمن التي تمتد من ثمانينات القرن‬

‫العشرين إلى أيامنا هذه على وجه‬

‫التقريب‪.‬‬

‫أدوّ ن المالحظات وأتأمل بعض شخوص الرواية‬ ‫التهيب إلى أن تحين لحظة‬ ‫القادمة‪ ،‬وأواصل‬ ‫ّ‬

‫الشروع في الكتابة‪ ،‬وبعد ذلك‪ ،‬ينكسر التهيب‬

‫وتتقدم الكتابة نحو األفق المأمول‪.‬‬

‫وأما بخصوص عالقتي مع األجناس األدبية‬

‫األخرى فقد جرّ بت كتابة النص المسرحي‪،‬‬


‫والسيناريو والحوار للمسلسل التلفزيوني‪ ،‬والقصة لألطفال‪ ،‬والرواية‬

‫للفتيات والفتيان‪ ،‬والمقالة األدبية والسياسية‪ ،‬ولم أكتب الشعر‪.‬‬

‫لديك اهتمام خاص بأدب األطفال‪ ،‬وفي بعض قصصك محاولة‬

‫الستعادة مأثورات (كليلة ودمنة) عبر رؤية معاصرة‪ ،‬ماذا تقول عن‬ ‫تجربتك الخاصة في أدب األطفال؟ وما هي اآلفاق التي يمكن أن‬

‫تنفتح أمام هذا األدب في ظل استعادة مأثورات أخرى؟‬

‫شقير‪ :‬هذه التجربة ابتدأت أواسط سبعينات القرن العشرين وقد‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫تضافرت عوامل عدة لتحفيزي على الكتابة لألطفال قبل ذلك كنت‬ ‫تجد في قصصي المكتوبة للكبار اهتمامً ا بالطفولة من خالل إسناد‬

‫‪.‬‬

‫البطولة في بعض قصصي ألطفال أو فتيان ووجدت في المجالت‬ ‫المكرسة لألطفال حي ًزا لنشر قصصي وبخاصة مجلة أسامة السورية‬

‫أثناء رئاسة زكريا تامر لتحريرها ومن ثمة رئاسة ناديا خوست‬

‫للتحرير‪.‬‬

‫“تامر”‪“ ،‬أوغاريت”‪“ ،‬الزيزفونة”‪“ ،‬البحيرة” وغيرها‪ ،‬غير أن‬

‫هذا األدب بحاجة إلى مزيد من التطوير‪ ،‬وذلك ألن نزعة‬

‫التوجيه واإلرشاد والمباشرة ما زالت تتبدى في بعض نصوص‬

‫هذا األدب‪.‬‬

‫وما زلنا بحاجة إلى إطالق العنان للخيال من دون تحفظات‪ ،‬وإلى‬

‫التحرر من بعض التعاليم التربوية التي ترى في الطفل كائنًا مطيعً ا‬ ‫ّ‬ ‫نلقنه ما نرغب فيه ونرضاه‪ ،‬من دون االنتباه إلى رغباته ونزعاته‬ ‫وميوله‪ ،‬في حين أن المطلوب تمكين الطفل من التعبير عن نفسه‬

‫بشكل حر‪ ،‬وتمكينه من إطالق قدراته الذهنية إلى أبعد الحدود‪.‬‬

‫أي وطن يحلم به‬ ‫تقول‪“ :‬الوطن الحلم أجمل من الوطن الواقع‪ّ ″‬‬

‫محمود شقير؟‬

‫شقير‪ :‬الوطن الواقع هو الذي نعيش همومه كل يوم ونصطلي معه‬ ‫في أتون المعاناة‪ ،‬ونظل متشبثين به رغم عسف المحتلين وطغيانهم‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫معنيا وأنا أكتب أولى قصصي المكرسة لألطفال أن أستوحي‬ ‫وكنت‬ ‫ًّ‬

‫ألنه ال وطن لنا سواه أما الوطن الذي أحلم به فهو فلسطين المبرّ أة‬

‫التي كانت ترتكبها قوات العدو ضد أطفال فلسطين‪ ،‬وأن أجعل حب‬

‫ً‬ ‫أيضا بفلسطين ال مكان فيها للتخلف االجتماعي واالقتصادي‪،‬‬ ‫أحلم‬ ‫ّ‬ ‫مدني قادر على تمثل‬ ‫وللتعصب والتزمت واإلقصاء فيها مجتمع‬ ‫ّ‬ ‫كل جديد في الحياة‪ ،‬وعلى تحقيق المساواة الفعلية بين الرجل‬

‫وقائع النضال اليومي في فلسطين ضد االحتالل‪ ،‬ورصد الجرائم‬

‫الوطن واألرض على رأس القيم الوطنية واإلنسانية التي تضمنتها‬

‫‪.‬‬

‫قصصي وإلى جانب القصص التي يُ سند دور البطولة فيها إلى‬

‫معنيا بكتابة قصص لألطفال أبطالها بشر‪ ،‬وبخاصة‬ ‫الحيوانات كنت‬ ‫ًّ‬

‫من األطفال‪.‬‬

‫من القيود‪ ،‬المتحررة من سطوة الغزو ومن همجية االحتالل‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫والمرأة وفيها نظام سياسي ديمقراطي بعيد من احتكار السلطة على‬ ‫نحو شمولي‪ ،‬قادر على تلبية مطالب الناس في العدل االجتماعي‬

‫ومع مرور الزمن‪ ،‬تنوعت تجربتي في الكتابة لألطفال وللفتيات‬

‫‪.‬‬ ‫تجعلهم يعيشون في أمن ورفاهية وسالم‪.‬‬

‫المكرّ سة لألطفال‪.‬‬

‫أي أثر تركه حصولك على “جائزة محمود درويش للحرية‬ ‫ّ‬ ‫واإلبداع‪ ″‬في العام ‪ ،2011‬ال سيما وأنك أول فلسطيني حظي بها وما‬

‫‪.‬‬

‫والفتيان استوحيت التراث في بعض قصصي كما ورد في سؤالك‪،‬‬ ‫وأفسحت في المجال لعنصر الخيال باعتباره من أهم عناصر القصص‬

‫أي متعة تجدها في هذا النوع من األدب؟ وكيف يمكن الوصول‬

‫إلى الطفل؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫تتب ّدى المتعة حين أنجح في كتابة نص قادر على التعبير‬

‫عن اهتمامات الطفل‪ ،‬قادر في الوقت نفسه على‬

‫والمساواة فيها اعتناء أكيد باألطفال وتلبية لكل الشروط التي‬

‫‪.‬‬

‫معنى أن يكون هناك جائزة فلسطينية عالمية باسم محمود درويش؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫تشرّ فت بحصولي على هذه الجائزة الرفيعة‪ ،‬واعتبرتها‬

‫االستجابة لرغباته‪ ،‬وعلى إثراء خياله‪.‬‬

‫تعبير عن سنوات العمل الثقافي المشترك التي‬

‫‪.‬‬

‫خضناها معً ا‪ :‬محمود درويش وأنا فقد عملنا‬

‫عبر المراس الطويل في هذه الكتابة‪ ،‬وعبر‬

‫والمراكز الثقافية والمؤسسات التي تعنى‬ ‫بالطفولة‪ ،‬لمناقشة القصص معهم والتعرف إلى‬

‫مدى استجابتهم لها‪ ،‬ومدى تعبيرها عنهم‪.‬‬

‫تقيم حال أدب الطفل في فلسطين‬ ‫كيف ّ‬

‫اليوم؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫ثمة حضور الفت ألدب الطفل خالل‬

‫السنوات األربعين الماضية في فلسطين‪ ،‬من‬ ‫خالل مؤسسات معنية بأدب الطفل‪ ،‬مثل‬

‫فخرًا أن اسمي ارتبط باسم محمود درويش‬

‫من خالل هذه الجائزة‪ ،‬وهي في الوقت نفسه‬

‫ّ‬ ‫يتم‬ ‫وأما الوصول إلى الطفل عبر الكتابة فإنه‬ ‫اللقاءات مع األطفال في المدارس وفي األندية‬

‫‪.‬‬

‫أحسن تكريم لي وإلنجازاتي في حقل الكتابة اإلبداعية ويكفيني‬

‫حب الوطن واألرض كانا‬

‫معً ا لسنوات في األمانة العامة التحاد الكتاب‬

‫والصحافيين الفلسطينيين حين كان درويش‬

‫على رأس القيم الوطنية‬

‫رئيسا لالتحاد وكنت عضوً ا في األمانة العامة‬ ‫ً‬

‫واإلنسانية التي تضمنتها‬

‫لخمس سنوات‪ ،‬وكذلك في “لجنة مسارات”‬

‫قصصي المكرسة‬ ‫لألطفال‬

‫‪.‬‬

‫لالتحاد وعملنا معً ا في “لجنة جوائز فلسطين”‬ ‫التي أشرفت على المهرجان الثقافي الفلسطيني‬

‫‪.‬‬

‫قصصا‬ ‫ً‬ ‫في بلجيكا في العام ‪ 2008‬وكنت أنشر‬

‫ونصوصا في مجلة “الكرمل” التي كانت برئاسة‬ ‫ً‬

‫محمود درويش‪.‬‬

‫ولعل وجود جائزة عالمية باسم محمود درويش‬ ‫أن يجد تفسيره في حضور اسم درويش‪،‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪135‬‬


‫حوار‬

‫صادق توما‬

‫كونيا حمل فلسطين من خالل شعره اإلنساني الفذ‬ ‫بوصفه شاعرًا‬ ‫ًّ‬

‫إلى العالم‪.‬‬

‫لكل مبدع طقوس خاصة بالكتابة‪ ،‬ما هي الطقوس الخاصة التي‬

‫تمارسها عند الكتابة؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫قبل اعتمادي على الحاسوب‪ ،‬كانت لي طقوس تتمحور‬

‫حول الدفاتر‪ ،‬والورق المسطر‪ ،‬وأقالم الحبر الناشف‪ ،‬وكذلك أقالم‬

‫‪136‬‬

‫‪.‬‬

‫الرصاص‪ ،‬والكربون على الدفاتر كنت أكتب مسودات قصصي‪،‬‬ ‫وعلى الورق كنت أقوم بعملية تبييض القصص‪ ،‬والكربون أضعه‬

‫تحت الورق لكي أحتفظ بنسخة مبيضة من كل قصة أكتبها وأقوم‬

‫‪.‬‬

‫بإرسالها إلى مجلة أو صحيفة وحين شرعت في كتابة المسلسالت‬ ‫للتلفزيون نصحني أحد األصدقاء باستخدام قلم الرصاص والممحاة‬

‫‪.‬‬

‫لكتابة السيناريو والحوار من دون تبييض بمعنى أنني أمحو الجملة‬ ‫التي ال تروقني وأواصل الكتابة على الورقة فال أمزقها وال أستبدل‬

‫بها ورقة أخرى‪.‬‬


‫وكنت أكتب في الصباح حينًا وفي المساء حينًا آخر‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫بعد اعتمادي على الحاسوب‪ ،‬تغيرت األمور بشكل جذري أكتب‬

‫مباشرة على شاشة الحاسوب‪ ،‬وأجري ما أريد من تغييرات وتعديالت‬ ‫ّ‬ ‫أي وقت متاح‬ ‫على النص المكتوب‪ ،‬وأوفر وق ًتا كثيرًا‪ ،‬وأكتب في ّ‬

‫‪.‬‬

‫هل نالت تجربتك في الكتابة حظها من المتابعة النقدية؟ وإلى‬

‫أي حد أسهم النقد في تطوير مشروعك السردي؟‬ ‫ّ‬

‫شقير‪:‬‬

‫على الصعيد اإلبداعي؟ أم أنه أفقدك ميزات ما؟‬ ‫أي ميزات‬ ‫شقير‪ :‬بالعكس‪ ،‬لم يفقدني وجودي في المدينة ّ‬ ‫علي‪ ،‬فهي المدينة األولى‬ ‫ويمكنني القول إن للقدس فضالً كبيرًا‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫من اهتماماتي واختياراتي في السياسة وفي األدب سواء بسواء‪.‬‬

‫التي تف ّتحت عيناي عليها منذ الطفولة وهي التي ألهمتني الكثير‬

‫وحين اتجهت إلى كتابة القصة القصيرة كانت القدس هي الحاضنة‬ ‫التي احتضنت العديد من قصصي ولم يكن ذلك أمرًا مفتعالً أو‬

‫‪.‬‬

‫أعتقد ذلك‪ ،‬فقد ُكتبت عن قصصي ورواياتي المكرسة‬

‫الحي بين عالقتي‬ ‫انصياعً ا لواجب أو تقليعة ما‪ ،‬بل هو التفاعل‬ ‫ّ‬ ‫بالمدينة ومادة قصصي التي استوحيتها من أجواء المدينة وما ج ّد‬

‫دراسات عليا وقد كانت ذروة هذه الدراسات الكتاب الذي ألفه‬

‫حيا من أحياء المدينة‪ ،‬حيث ال أنقطع عنها ال في الليل وال‬ ‫قريتي ًّ‬

‫للكبار وللفتيات والفتيان‪ ،‬وعن مجموعاتي القصصية دراسات‬

‫ومقاالت كثيرة‪ ،‬من نقاد متخصصين وغير متخصصين ومن طلبة‬

‫‪.‬‬

‫االستاذ الدكتور محمد عبيدالله الموسوم بـ”تحوالت القصة القصيرة‬ ‫ّ‬ ‫متبصر‬ ‫في تجربة محمود شقير” الصادر في العام ‪ ،2014‬وفيه تحليل‬

‫لمجموعاتي القصصية‪ ،‬واستخالصات عميقة حول تجربتي في‬

‫كتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة ج ًّدا‪.‬‬

‫ومما ال شك فيه أن النقد أسهم إسهامً ا أكي ًدا في تطوير مشروعي‬ ‫السردي‪ ،‬ما يجعلني أشعر بامتنان تجاه كل من قال كلمة حق في حق‬

‫‪.‬‬

‫عليها من ظروف وتقلبات وقد تعززت هذه العالقة بعد أن أصبحت‬

‫في النهار‪.‬‬

‫وبالطبع‪ ،‬لم تقتصر كتابتي عن المدينة على القصص القصيرة‪ ،‬فقد‬

‫وردت القدس في كثير من كتبي المنشورة‪ ،‬ومن أهم هذه الكتب “ظل‬

‫آخر للمدينة” الذي أعتبره سيرة للمدينة‪.‬‬

‫ويكفيني فخرًا أن “لجنة القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية”‬ ‫منحتني مؤخرًا جائزة “القدس للثقافة واإلبداع‪ ″‬تقديرًا لجهودي‬

‫نتاجاتي القصصية‪ ،‬سواء أكان ذلك لجهة السلب أم لجهة اإليجاب‪ .‬المثابرة في الكتابة من القدس عن القدس وللقدس‪.‬‬ ‫فمن أشاد بجوانب من كتابتي ّ‬ ‫حفزني على مزيد من اإلجادة في ما‬ ‫ً‬ ‫نبهني إلى نواقص وسلبيات في كتابتي أرشدني‬ ‫كتبت‬ ‫الحقا‪ ،‬ومن ّ‬

‫إلى مواقع الخلل في هذه الكتابة‪ ،‬ما أسهم في تجنب مثل هذا الخلل‬

‫في كتابات الحقة‪.‬‬

‫إذا عدنا معً ا إلى مرحلة البدايات وسألنا عن األدباء والكتاب‬

‫الذين تأثرت بهم والذين كانوا مصدر اإللهام لك فماذا تقول؟ وأيّ هم‬ ‫أقرب إليك؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫العربي‬ ‫رغم ما تعانيه القدس من حصار‪ ،‬ومن محاوالت لتبديد طابعها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫معنية بالمحافظة على‬ ‫تظل‬ ‫المسيحي الفلسطيني‪،‬‬ ‫اإلسالمي ببعده‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫معنية بأن تكون مدينة‬ ‫وتظل في الوقت نفسه‪،‬‬ ‫مشهدها األصيل‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫التع ّددية واالنفتاح فكيف يتبدى ذلك من خالل تجربتكم الشخصية؟‬ ‫أعتقد أن أهم درس تعلمته من القدس هو احترام التعددية وتعايش‬

‫الديانات واألفكار والمذاهب والتجارب السياسية والحزبية على نحو‬

‫‪.‬‬

‫حضاري مرموق ولم أكن بعي ًدا عن هذه الحالة الفريدة من التعددية‬

‫‪.‬‬

‫والتعايش شهدت وأنا فتى وما زلت أشهد تعايش المسيحيين‬ ‫الفلسطينيين المقدسيين مع المسلمين الفلسطينيين المقدسيين في‬

‫‪.‬‬

‫تأثرت بقصص يوسف إدريس‪ ،‬وأعجبت بأسلوبه النابض‬

‫شخصيا‪ ،‬فقد كنت أزور المسجد‬ ‫تآلف وانسجام وفي ما يتعلق بي‬ ‫ًّ‬

‫أعماق الشخصية القصصية ويعطيها الحق في التصرف بما تمليه‬

‫وكنت في الوقت نفسه أزور كنيسة القيامة وأتعلم منها كيف يكون‬

‫بالحيوية وعمق التصوير في قصصه القصيرة‪ ،‬حيث يذهب إلى‬ ‫عليها نوازعها النفسية‪ ،‬وكذلك بروايات نجيب‬ ‫محفوظ‬

‫اهتمامً ا‬

‫وإيالئه‬

‫ًّ‬ ‫خاصا‪.‬‬

‫الموضوعات‬

‫وتأثرت‬

‫األقصى وأتعلم منه كيف تتماهى االستنارة الفكرية مع تعاليم الدين‪،‬‬

‫كانت القدس وما زالت مه ًدا للتعددية رغم‬

‫االجتماعية‬

‫بقصص‬

‫أنطوان‬

‫محاوالت المحتلين اإلسرائيليين هذه األيام‬

‫قصصيا‬ ‫تشيخوف وبخاصة حين يرسم مشه ًدا‬ ‫ًّ‬

‫محكمً ا وقادرًا على التغلغل في وجدان المتلقي‪.‬‬

‫كما تأثرت بأسلوب أرنست هيمنغواي الذي ينحو‬ ‫نحو السهل الممتنع‪ ،‬سواء أكان ذلك في قصصه‬

‫أم في رواياته‪.‬‬

‫إلي وإلى‬ ‫يظل يوسف إدريس هو األقرب‬ ‫ّ‬ ‫تجربتي في كتابة القصة القصيرة‬

‫‪.‬‬

‫تأثير القدس‪ ،‬أو وجودك في المدينة‪،‬‬

‫واضح في الكثير من قصصك‪ ،‬هل توثق أدبيا‬ ‫لصراع المدينة‪ ،‬وتخصها باهتمامك أكثر من‬

‫سواها؟ وهل تعتبر وجودك في المدينة ميزة‬

‫التسامح نابعً ا من جوهر العقيدة الدينية‪.‬‬

‫لتهويدها ولفرض وجهة نظر واحدة متعصبة‬

‫القدس هي المدينة‬ ‫التي ألهمتني الكثير من‬ ‫اهتماماتي واختياراتي‬ ‫في السياسة وفي األدب‬ ‫سواء بسواء‬

‫إقصائية عنصرية عليها‪ ،‬بما يخالف طبيعة‬

‫المدينة وال يتواءم مع تراثها وثقافتها وتاريخها‪.‬‬ ‫رغم كثرة ما كتب عن فلسطين‪ ،‬أال تتفق‬

‫معي أن ثمة الكثير الذي لم يُ كتب بعد عن‬

‫جوانب ع ّدة في حياة الشعب الفلسطيني‬

‫ومعاناته وآالمه وآماله وفي بعض تجليات‬

‫التجربة الفلسطينية؟‬

‫شقير‪ :‬صحيح ثمّ ة الكثير الذي لم يكتب بعد‬

‫‪.‬‬

‫بسبب عمق المأساة الفلسطينية التي ابتدأت‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪137‬‬


‫حوار‬

‫صادق توما‬

‫‪.‬‬

‫قبل مئة عام وما زالت فصولها المؤلمة تتوالى حتى اآلن صحيح‬

‫العمق والوضوح في السنوات القليلة القادمة‪ ،‬بسبب ما تتعرض له‬

‫الفلسطيني‪ ،‬إال أن الحاجة إلى مزيد من الكتابة عن القضية‪ ،‬وعما عاناه‬

‫المستوطنات عليها حتى اآلن‪.‬‬

‫أن ثمة نتاجات أدبية فلسطينية متنوعة في الوطن وفي الشتات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تغطي مئات السنوات من تاريخ الشعب‬ ‫من بينها مشروعات روائية‬

‫الفلسطينيون من عسف وتعذيب وتشريد واعتقال وسجن وقتل‬

‫وحرمان من الحياة الطبيعية على أيدي الغزاة الصهاينة‪ ،‬تستحق‬ ‫بذل الكثير من الجهود التي تليق بما قدمه الشعب الفلسطيني من‬

‫تضحيات‪.‬‬

‫وأعتقد أن مثل هذا األمر يتحقق اآلن‪ ،‬وسوف يتحقق بمزيد من‬

‫‪138‬‬

‫القضية الفلسطينية من محاوالت حثيثة لتبديدها عبر كسب الوقت‬ ‫لتهويد القدس‪ ،‬ولمصادرة ما ّ‬ ‫تبقى من أرض لم تجر مصادرتها وبناء‬

‫برأيك هل استطاعت النتاجات القصصية والروائية وحتى‬

‫الشعرية‪ ،‬من تقديم الرواية الفلسطينية الحقيقية عن النكبة للعالم‪،‬‬ ‫وتسليط الضوء على ما تعرض له الفلسطيني على أيدي الصهاينة‬

‫الذين احتلوا األرض وعاثوا فيها فسا ًدا؟‬


‫شقير‪:‬‬

‫إلى ح ّد ما نعم‪ ،‬وال أريد أن أدخل في طقس جلد الذات‪،‬‬

‫كما ال أريد في الوقت نفسه إعالن الرضا عن النفس والقول إن كل‬

‫‪.‬‬

‫شيء في هذا الصدد على ما يرام فالمأساة التي تعرّ ض لها الشعب‬

‫الفلسطيني‪ ،‬المتمثلة في أبشع عملية غزو استعماري متس ّتر بأردية‬

‫الدين تتطلب ليس فقط تصوير المعاناة واأللم ومضاعفات التشريد‬ ‫والعيش في خيام‪ ،‬وإنما كذلك فضح طبيعة الحركة الصهيونية‬ ‫وتفنيد حججها الكاذبة التي تحاول تقديم نفسها للعالم على اعتبار‬

‫أنها حركة تحرر قومي للشعب اليهودي‪ ،‬وإعادة موضعتها في مكانها‬ ‫الصحيح على اعتبار أنها واحدة من إفرازات النظام الرأسمالي‬

‫شقير‪:‬‬

‫رغم التزام الغالبية العظمى من المثقفين‬

‫الفلسطينيين بالتعبير عن الهم الوطني الفلسطيني في‬

‫كتاباتهم‪ ،‬إال أن اضطالعهم بمواقف فعلية ناقدة للسلطة‬

‫ومؤثرة في مسار األحداث ليس في المستوى المطلوب‪ ،‬بل إن‬

‫هناك نوعً ا من العزلة ومن التخلي عن هذا الدور بالنظر إلى التبعات‬

‫المترتبة على القيام به‪ ،‬وبالنظر إلى تهميش السلطة السياسية لدور‬ ‫المثقف وإبقائه في الظل‪ ،‬ألن السلطة نفسها ال تحتمل النقد إال في‬ ‫تمس جوهر سلطتها‪ ،‬وألنها ال تدرك بشكل فعلي‬ ‫حدود ضئيلة ال‬ ‫ّ‬

‫أهمية الثقافة في بناء اإلنسان وفي تعزيز هويته وإغنائها‪ ،‬وفي‬

‫العالمي‪ ،‬وهي غزوة استعمارية استهدفت وتستهدف تشريد أهل‬ ‫ّ‬ ‫محل‬ ‫البالد األصليين‪ ،‬وإحالل مهاجرين يهود من كل أنحاء العالم‬

‫الصهاينة والتصدي لمخططاتهم التهويدية التوسعية لذلك‪ ،‬تكتفي‬

‫هل ترى أن المؤسسة الثقافية الرسمية الفلسطينية تقوم بدورها‬

‫المحل الالئق به‪ ،‬مع التنويه بأن من واجب المثقف أال ينتظر أن‬

‫المواطنين الفلسطينيين‪ ،‬أهل البالد الشرعيين‪.‬‬

‫الحقيقي تجاه حماية وصون الثقافة والهوية الفلسطينية في داخل‬

‫الوطن المحتل وخارجه‪ ،‬وبالتالي التأسيس لحالة ثقافية دائمة وذات‬

‫تأثير على وعي الناس؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫ال أعتقد ذلك‪ ،‬وذلك بالنظر إلى ضخامة الجهد المطلوب‬

‫‪.‬‬

‫والتطلعات التي يجب إنجازها فرغم ما قدمته المؤسسة الثقافية‬ ‫الرسمية من إنجازات هنا وهناك إال أن المطلوب هو أكثر من ذلك‬

‫بكثير‪.‬‬

‫تصليب إرادته وتمكينه من الصمود في وجه ممارسات المحتلين‬

‫‪.‬‬

‫السلطة بثقافة المشهد واالستعراض من دون الغوص إلى جوهر‬ ‫ّ‬ ‫المحل الالئق بها‪ ،‬ومن ثمة وضع المثقف في‬ ‫المسألة ووضعها في‬ ‫تحمله السلطة وتضعه في المحل الالئق به‪ ،‬إذ عليه هو نفسه أن‬

‫ينتزع هذا الدور المنتظر منه‪.‬‬

‫إن ما يدفعني إلى التذكير بضرورة اهتمام السلطة بالثقافة نابع‬ ‫من حقيقة أن للسلطة مصلحة في تفعيل دور الثقافة في مواجهة‬

‫االحتالل‪ ،‬ألنها وبحسب برنامجها الخاص بإقامة الدولة المستقلة‬

‫يجب أن تكون معنية بذلك‪ ،‬أي بتفعيل دور الثقافة‪.‬‬

‫ما هو مفهوم الثقافة الوطنية في ظل ما نشهده من عولمة‬

‫حين نتذكر ضآلة الموارد المالية المرصودة للثقافة في موازنة‬

‫ومتغيرات؟‬

‫الرسمية حتى وإن كان في إطارها أشخاص راغبون في تعزيز دور‬

‫شقير‪ :‬نحن الفلسطينيين ما زلنا نعيش مرحلة التحرر الوطني‬ ‫بالنظر إلى أن بالدنا ما زالت ترزح تحت االحتالل‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫يرتب علينا‬

‫أي مدى تستصغر السلطة قيمة‬ ‫السلطة الفلسطينية ندرك إلى ّ‬ ‫الثقافة‪ ،‬وبالطبع‪ ،‬فإن هذا األمر ينعكس على نشاط المؤسسة الثقافية‬

‫الثقافة داخل الوطن المحتل وخارجه‪.‬‬

‫ولو أجرينا مقارنة سريعة بين ما تفعله سلطات االحتالل اإلسرائيلي‬

‫تجاه النتاجات األدبية اإلسرائيلية وبين ما تفعله السلطة الفلسطينية‬ ‫تجاه النتاجات األدبية الفلسطينية‪ ،‬ألدركنا‬

‫مفهومً ا محد ًدا للثقافة الوطنية يعلي من شأن القيم التي تحض على‬

‫حب األرض والوطن‪ ،‬وعلى التضحية في سبيلهما‪ ،‬ويستنفر‪ ،‬أي هذا‬ ‫المفهوم‪ ،‬كل مخزونات الذاكرة الجمعية للشعب من تراث شعبي‬

‫‪.‬‬

‫حجم التقصير في الحالة اإلسرائيلية‪ ،‬ثمة‬

‫مؤسسة متخصصة في ترجمة النتاجات األدبية‬

‫وتطويرها ضمن هذا السياق‪ ،‬ويحافظ في‬

‫اإلسرائيلية إلى لغات عدة وتوزيعها في العالم‪،‬‬ ‫وذلك لحشد التأييد إلسرائيل ولعدوانها المستمر‬ ‫على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية‪،‬‬

‫ألي‬ ‫فعليا‬ ‫بينما في الحالة الفلسطينية ال وجود‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫جهد من هذا القبيل وفي هذه الحالة‪ ،‬يبقى‬ ‫ً‬ ‫وقفا على بعض دور النشر العالمية التي‬ ‫األمر‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تتولى ترجمة بعض اإلصدارات األدبية ألدباء‬ ‫فلسطينيين معروفين‪ ،‬وهذا وحده ال يكفي‬

‫بطبيعة الحال‪.‬‬

‫ما هي أهمية الدور الذي يقع على عاتق‬

‫المثقف في واقعنا الفلسطيني؟ وهل ترى أنه‬

‫استطاع أن يقدم قضيته بالشكل المطلوب؟‬

‫وأغان وحكايات وخصائص قومية ووطنية‬ ‫ٍ‬ ‫لزجها في معركتنا ضد االحتالل‪ ،‬وإلحيائها‬

‫الوقت نفسه على وحدة الشعب على أسس‬

‫أهم درس تعلمته من‬

‫وطنية جامعة‪ ،‬وفي أولها الموقف المبدئي من‬

‫االحتالل لجهة رفضه وضرورة مقاومته‪.‬‬

‫القدس هو احترام‬

‫ثمة عنصر جديد في الحالة الفلسطينية‪ ،‬ناتج‬

‫التعددية وتعايش‬

‫ما زال فيه هذا االحتالل موجو ًدا فوق أرض‬

‫الديانات واألفكار‬ ‫والمذاهب والتجارب‬ ‫السياسية والحزبية‬

‫عن تشكيل السلطة الفلسطينية في الوقت الذي‬

‫‪.‬‬

‫الوطن هنا يتداخل الوطني مع االجتماعي‪،‬‬

‫وتكتسب الثقافة الوطنية بع ًدا جدي ًدا يضع في‬ ‫االعتبار نقد السلطة والدفاع عن مصالح الناس‬ ‫ضد ما في السلطة من بيروقراطية وفساد‪،‬‬ ‫جن ًبا إلى جنب التحريض من خالل أدوات الفن‬

‫واألدب ضد االحتالل وممارساته العنصرية‬

‫االستيطانية‪.‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪139‬‬


‫حوار‬

‫هل يمكن الحديث عن مشروع ثقافي صهيوني وما هي مالمحه‬

‫إن وجد؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫تأسست ونهضت على‬ ‫يمكن القول إن الحركة الصهيونية ّ‬

‫‪.‬‬

‫سياسيا‪ ،‬كانت‬ ‫جذر الثقافة واألدب إذ قبل أن تتبلور هذه الحركة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تبشر‬ ‫هناك كتابات أدبية كتبها يهود وغير يهود‪ ،‬راحت كتاباتهم‬

‫على الناحية الجمالية أو الفنية للعمل اإلبداعي‪ ،‬خاصة وأن هناك نقا ًدا‬

‫يتهمون “النص الفلسطيني” بأنه مباشر وانفعالي؟‬

‫شقير‪ :‬ربما وقع هذا في بعض فترات التاريخ الفلسطيني المعاصر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مثل في فترة صعود الكفاح المسلح ضد االحتالل وتمجيد الفدائي‬

‫بعودة اليهود إلى أرض الميعاد‪ ،‬فلسطين‪ ،‬ومارست هذه الكتابات من‬ ‫أجل ذلك تضليالً وتزويرًا للحقائق من أجل غسل أدمغة العالم حول‬

‫االنتفاضة األولى حيث أقدم شعراء كثيرون على تمجيد أطفال‬

‫وحين تشكلت المفاهيم السياسية لهذه الحركة‪ ،‬واصلت تسخير‬

‫معه “إن شعر االنتفاضة بحاجة إلى عشرة آالف عامل لتنظيفه من‬

‫بتسييس الدين واستخدامه في التغطية على جوهرها العنصري‬

‫لكن مما ال شك فيه أن ساحة األدب الفلسطيني ّ‬ ‫ظلت طوال الوقت‬

‫الحقائق الخاصة بفلسطين وبتاريخها القديم والحديث‪.‬‬

‫األدب لخدمة أهدافها االستعمارية اإلحاللية اإلقصائية‪ ،‬وقامت‬ ‫الذي يعني أوّ ل ما يعني‪ :‬تجاهل وجود الشعب الفلسطيني على أرض‬

‫وطنه‪ ،‬واإلنكار التام لهذا الوجود‪.‬‬

‫برأيك ما هو سبب عدم قدرة المثقف الفلسطيني خاصة والعربي‬

‫عموما على تفكيك المشروع الصهيوني ثقافيا؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫أعتقد أن جهو ًدا ال يستهان بها بذلت في هذا الميدان‪ ،‬من‬

‫أبرزها ما قام به غسان كنفاني في دراسته لألدب الصهيوني في العام‬ ‫‪ ،1967‬فقد عرّ ى األسس التي قام عليها هذا المشروع‪ ،‬وقام بدراسة‬

‫عشرات المؤلفات األدبية التي كتبها يهود وغير يهود‪ ،‬وهي التي‬ ‫بشرت بهذا المشروع قبل أن تتضح معالمه السياسية في شكل حركة‬

‫‪.‬‬

‫منظمة ثم إن جهو ًدا أخرى قام بها دارسون فلسطينيون ضمن هذا‬

‫السياق الذي يفضح حقيقة المشروع الصهيوني ويعرّ يه‪ ،‬من بينهم‬

‫صالح حزين‪ ،‬وليد أبو بكر‪ ،‬حسن خضر‪ ،‬والدكتور عادل األسطة‪.‬‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬ثمة جهود بذلت من جانب مثقفين إسرائيليين‬

‫“الذي خلقا من جزمة أفقا” على رأي محمود درويش‪ ،‬وفي فترة‬ ‫الحجارة‪ ،‬ما حدا بمحمود درويش أن يقول ذات مرة في حوار أجري‬

‫الحجارة”‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تضحي بالجمالي من أجل‬ ‫وإلى اآلن تحفل بنماذج أدبية راقية ال‬

‫ّ‬ ‫تضحي بالمضمون‬ ‫المضمون المباشر‪ ،‬وهي في الوقت نفسه ال‬ ‫النضالي اإلنساني للمقاومة الفلسطينية بكل أشكالها من أجل جمالية‬

‫شكلية فارغة‪.‬‬

‫يالحظ ازدياد ابتعاد الكثير من األدباء الفلسطينيين بشكل‬

‫خاص عن الموضوع الفلسطيني في اآلونة األخيرة‪ ،‬وتقوقعهم أكثر‬

‫حقيقيا خارج الغوص في‬ ‫حول ذاتهم استنا ًدا لفكرة أنه “ال أدب‬ ‫ً‬ ‫الذات”؟‬

‫شقير‪:‬‬

‫في كل األحوال‪ ،‬ال ب ّد من دخول األدب الجيد إلى مصهر‬

‫‪.‬‬

‫الذات وإال لكان فاق ًدا للروح وللقدرة على اإلقناع ثم إن حصر األدب‬ ‫الفلسطيني في دائرة الموضوع الفلسطيني‪ ،‬بمعنى النضال ضد‬

‫االحتالل‪ ،‬قد يُ بقي هذا األدب في دائرة ضيقة ليس من اإلنصاف‬ ‫إبقاؤه فيها وحسب‪ ،‬وهذا بدوره يطرح سؤاالً مشروعً ا عن ماهية‬

‫معادين للصهيونية‪ ،‬مثل إيالن بابيه الذي فضح في كتابه “التطهير‬ ‫ُ‬ ‫العرقي في فلسطين” خطة بن غوريون التي أطلق عليها اسم “الخطة‬

‫الصهيونية لفلسطين‪ ،‬أم هو واقع فلسطين وشعبها بكل ما لهذا‬

‫إبان نكبة العام ‪ ،1948‬وثمة ما كتبه عوز شيالح الكاتب الرافض‬

‫من أجل الحرية والعدالة‪ ،‬ومن أجل العيش الطبيعي مثل باقي‬

‫ّ‬ ‫وتم بموجبها تنظيم مجازر إبادة ضد قرى وبلدات فلسطينية‬ ‫داليت”‪،‬‬ ‫للصهيونية وإلسرائيل في “أراض للتنزه” وهي كما وصفها مؤلفها‬ ‫“رواية في شذرات‪ ،‬تتحدث عن وجود لليهود فوق أرض فلسطين‬

‫فعليا لشعب آخر ما زالت‬ ‫يحاول بشتى الطرق أن يخفي تحته وجو ًدا‬ ‫ًّ‬

‫آثار قراه المدمرة بادية للعيان”‪.‬‬

‫في هذا السياق كيف ترى تناول األدباء الفلسطينيين‪ ،‬وخاصة‬

‫‪..‬‬

‫داخل األرض المحتلة‪ ،‬لآلخر (اليهودي) وما سبب ابتعاد الكثيرين‬

‫منهم عن تناوله بشكل مباشر وعميق؟‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫وأذكر‬ ‫حبيبي ورواية “الصورة األخيرة في األلبوم” لسميح القاسم‬

‫بروايات “مدينة الله” لحسن حميد‪“ ،‬هوان النعيم” لجميل السلحوت‪،‬‬

‫“زغرودة الفنجان” لألسير في سجون االحتالل حسام زهدي شاهين‪.‬‬ ‫وغيرها من روايات وقصص وقصائد‪.‬‬

‫المشروع الفلسطيني‪ :‬هل هو فقط ما له عالقة باالحتالل وبالغزوة‬

‫الواقع من تشعبات‪ ،‬وبكل ما لهذا الشعب من طموحات وتطلعات‬ ‫ً‬ ‫واضحا‪ ،‬وأنا أفهم تقوقع‬ ‫شعوب األرض؟ أظن أن ما أقصده بات‬

‫بعض الكتاب الفلسطينيين حول ذاتهم على اعتبار أن ذلك بوجه من‬

‫الوجوه تعبير غير مباشر عن صلف الواقع الذي نحياه‪ ،‬وعن تأثير هذا‬

‫‪.‬‬

‫الواقع على داخل النفس البشرية ولعل هذا األمر يقودنا على نحو ما‬ ‫ّ‬ ‫وأذكر في‬ ‫إلى أدب المقاومة وإلى ما يمكن إدراجه ضمن هذا األدب‪،‬‬ ‫هذا الصدد بما ورد في كتاب محمود درويش “أثر الفراشة” حين قال‬

‫“كل شعر جميل مقاومة”‪.‬‬

‫أعتقد أن اقتصار الموضوع الفلسطيني على مقاومة االحتالل إنما‬

‫‪.‬‬

‫هو إفقار لألدب وللحياة ذلك أن الفلسطيني كائن بشري مثل بقية‬

‫البشر‪ ،‬له تطلعاته الوطنية وله همومه الشخصية‪ ،‬وال ضير من تناول‬ ‫هذه الهموم ما دامت تقدم الفلسطيني إلى العالم على اعتبار أنه كائن‬

‫بشري يستحق الحياة الحرة الكريمة المشتهاة‬

‫‪ ‬حاوره‪ :‬أوس داوود يعقوب‬

‫عيل رضا سعيد‬

‫شقير‪ :‬هنالك أعمال أدبية فلسطينية غير قليلة تناولت هذا اآلخر‬ ‫ّ‬ ‫أذكر في هذا الصدد برواية “المتشائل” إلميل‬ ‫من زوايا مختلفة‬

‫‪140‬‬

‫إلى أي مدى يمكن أن يساهم االلتزام السياسي بفكر أو قضية ما‬


‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪141‬‬


‫مقال‬

‫احتمال النفاق في التشكيل‬ ‫‪ ‬عاصم الباشا‬ ‫ّ‬ ‫النحات‬ ‫جنوبيها‪ .‬دعاني‬ ‫حدث ذلك في خريف ‪ ،2003‬وربما في السنة التالية‪ ،‬في مدينة إيشيون القريبة من عاصمة كوريا الجنوبية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المتمير كانغ للمشاركة في ملتقى للنحت ُن ّ‬ ‫تبين أن المدعوّ ين كنا اثنا عشر‪ ،‬قدموا من تايوان‬ ‫الكوري‬ ‫واإلنسان‬ ‫ظم هناك‪ ،‬فوافقت‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبالد «الشيت» وإيطاليا وسلوفاكيا وألمانيا وكوريا الجنوبية وإسبانيا وهولندا وأستراليا وفرنسا و‪ ..‬إسرائيل ‪.‬‬

‫شارك‬

‫من ال يعرف الحقيقة قد يص ّدق الزيف‪.‬‬

‫اثنان من فرنسا‪ ،‬ذلك ألنهم‬

‫ع ّدوني كذلك بسبب جواز‬ ‫سفري الذي ّ‬ ‫علي خالل ربع قرن كل‬ ‫وفر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المنغصات التي يتعرّ ض لها حامل الجواز‬

‫لكن كل هذا استرسال لتقديم ما يهمّ ني من‬ ‫ّ‬ ‫التذكر‬ ‫هذا‬

‫كان األلماني الشاب (مقارب لألربعين) ممّ ن‬

‫يمارسون ما يسمّ ى "مينيماليزم"‪ ،‬وكان يزهو‬

‫السوري (بما في ذلك الدخول في والخروج‬

‫‪.‬‬

‫‪..‬‬

‫باستخدامه التقنيات واألدوات الحديثة‪ ،‬وأنا‬

‫من سوريا!) ولكن سرعان ما أدرك الجميع‬ ‫ّ‬ ‫متخف بلبوس فرنساوي‬ ‫أنني سوري‬

‫ال أرى أي ضير في هذا‪.‬‬ ‫أنجز‪ ،‬مثلي‪ ،‬عملين‪ .‬األول‬

‫‪.‬‬

‫من النافل ذكر تجاهلي لإلسرائيلي والحقيقة‬

‫‪.‬‬

‫أنه تجنّبني طوال العشرين يومً ا كان يبدي‬

‫أفقي يدور حول صخرة طبيعية وذلك‬

‫‪.‬‬

‫ما يشبه الذعر من مجرّ د مروري بقربه‪،‬‬

‫الماسي المعتاد استخدم‬ ‫باستخدام القرص‬ ‫ّ‬ ‫جهاز الليزر لرسم أفقية الخط‪ ،‬وهو جهاز‬ ‫ّ‬ ‫متوفر بكثرة في األسواق طبعه المتعالي‬

‫‪.‬‬

‫فينزاح لم نتبادل كلمة واحدة طوال اللقاء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتكلم سوى الروسية ألنه‬ ‫علمً ا أنه ما كان‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫كان يقول‪ّ :‬‬ ‫المتخلفون!‬ ‫تعلموا أيها‬

‫كان قد هاجر حدي ًثا من أوكرانيا إلى مجمّ ع‬

‫النازيين الجدد‪.‬‬

‫(شكل تقريبي)‬

‫قبلت الدعوة عالمً ا أن الحجر الذي سنتعامل‬

‫أما موضوع الحمق والنفاق فكان في عمله‬

‫لكنني اعتدت الميل للتح ّديات وقلت لنفسي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫تتعلم وتحاول وذلك ما كان‬ ‫تراقب قليالً‪،‬‬

‫طلب قطعة غرانيت مستطيلة أبعادها حوالي‬

‫الثاني‪.‬‬

‫به هو الغرانيت‪ ،‬ولم يسبق لي معالجته‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يقصوا له‬ ‫‪ 0,60 × 1,5 × 3‬م تقري ًبا وطلب أن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مختص وليس‬ ‫(شق العمل األول أنجزه عامل‬

‫ً‬ ‫طريفا‪ :‬صنع مقاعد‬ ‫موضوع الملتقى كان‬

‫لألماكن العامة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫القصة)‬ ‫هو بنفسه! وفي العمل الثاني تكرّ رت‬

‫‪.‬‬

‫مربّعً ا أبعاده ‪ 30 × 80 × 80‬سم في زاوية منه‬

‫أنجزت اثنين‪ ،‬أولهما أسميته "بالد الرافدين"‬ ‫ّ‬ ‫ألذكر بجرائم المغول الجدد في العراق‬

‫‪.‬‬

‫أمّ ا الثاني‪ ،‬على عادتي عندما أجد موا ًدا‬

‫بهدف إزاحة الكتلة المقتطعة لمسافة ‪ 1‬سم‪.‬‬

‫أعتبره جهالً منها بمجمل القضية‪ ،‬وأن على‬

‫ويتسنى لي الوقت فقد صنعته من فضالت‬ ‫الملتقى‪ ،‬ولم أضع له عنوا ًنا‬

‫الجهلة أن يصمتوا‪.‬‬

‫حصل بعد أشهر‪ ،‬وجاء من طرف زوج‬

‫بمدى النذالة التي تقف عليها‪ ،‬إذ قامت‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ولعل أحقر ما تعرّ ضت له في ذلك الملتقى‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫النحات السلوفاكي شديدة التديّ ن حاولت‬

‫هذه مرارًا (كانا يعرفان الروسية) أن تجمعني‬

‫‪.‬‬

‫باإلسرائيلي الجديد كنت أسعد بتجاهلها‬

‫وإفهامها أنني أحتقر ما تسعى إليه وأنني‬

‫‪142‬‬

‫ّ‬ ‫شق‬ ‫عبارة عن‬

‫انتقمت منّي (لش ّدة تديّ نها) بصورة تنبيء‬ ‫باستخدام الفوتوشوب لتلصق صورتي‬ ‫بجانب اإلسرائيلي على المقعد الذي نحته‬

‫زوجها (في الصورة األصلية كنت مع زوجها)‬

‫وأرسلتها لي في أعياد الميالد!‬

‫عن الكتلة األمّ ‪ ،‬بالشكل التقريبي المرفق‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القص بالليزر أو ما‬ ‫يتطلب آالت‬ ‫‪ ‬قص كهذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتأتى من حبيبات‬ ‫والقص‬ ‫بضخ الماء‪،‬‬ ‫يعرف‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫رملية دقيقة تدفعها المياه بشدة وبكال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القص‬ ‫التحكم بعمق‬ ‫التقنيتين يمكن‬ ‫ً‬ ‫إزعاجا ومطالبة‬ ‫جلي أنه كان أكثر المشاركين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للمنظمين‪ ،‬لكنهم رضخوا لنزواته بفلسفة‬

‫الشرق األقصى تلك‪.‬‬

‫ّ‬ ‫مختص وسهى العمّ ال‬ ‫نقلوا الكتلة إلى معمل‬

‫عاصم الباشا‬

‫‪.‬‬


‫قص‬

‫عن حشو فراغ القص قبل أن ينتهوا منه‬ ‫فكسر وزن الكتلة المقطوعة الزاوية الداخلية‬

‫انقراض‬

‫‪.‬‬

‫العميقة‪ ،‬تلك التي من المحال رؤيتها فطار‬ ‫عقل "الفنان" األلماني وطالب بحجر آخر‬

‫وتكرار العملية!‬

‫ّ‬ ‫توترت‪،‬‬ ‫من الطبيعي أن أجواء الملتقى‬

‫‪ ‬سعيد موفقي‬

‫وحاول بعض المشاركين التلطيف مع احتقار‬ ‫ّ‬ ‫"نحات" يطالب أن يُ عمل له وال‬ ‫ضمني ل‬

‫يعمل‪.‬‬

‫قلت له‪ :‬ال عليك‪ ،‬حتى الهواء غير قادر على‬

‫النفاذ إلى الزاوية المكسورة (الكسر ال يتجاوز‬ ‫أنافق في الفن!‬

‫‪.‬‬

‫ال أخفيكم أن جوابه أزعجني تماسكت‬ ‫وقلت له‪ :‬ما أردته من "فكرة" تصل إلى‬

‫إبراهيم الصلحي‬

‫‪.‬‬

‫السنتمتر الواحد!) رمقني شزرًا وأجاب‪ :‬أنا ال‬

‫‪..‬‬

‫الناس بوضعه الحالي هذا إن كان في العمل‬ ‫"فكرة"! وإن كان نح ًتا!‬

‫أن نتجاهل بعضنا في األيام التالية كان‬

‫منطقيا‪.‬‬ ‫ً‬

‫الغريب أن التعبير الذي استخدمه "النفاق في‬

‫الفن" استوقفني منذ أيام‪ ،‬أي بعد سنوات‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫مرتجا صادرًا عن نفس غير‬ ‫وجدته تعبيرًا‬

‫قويمة‪ ،‬أو‪ ،‬في أحسن الحاالت‪ ،‬نفس لم‬

‫تتلمّ س ماهية العمل الفنّي‪.‬‬

‫ذلك ألن حالة إبداع حقيقية ال يمكن أن‬

‫‪.‬‬

‫تقارب حقارة كالنفاق ثم أن من الحماقة‬ ‫البحث عن الكمال‪ ،‬فالمدرك بحق موقن بأن‬

‫ال كمال في عمل إبداعي‪ ،‬أيًّ ا كان‪ ،‬وأن في‬

‫ذلك ضمان ديمومته‪.‬‬

‫ّ‬ ‫وتتملك‬ ‫ما من لوحة أو منحوتة تحيط‬

‫ّ‬ ‫يتصفحها بشوق وقلق‪ّ ،‬‬ ‫ثم يم ّدد رجليه الطويلتين‬ ‫ينزوي بجريدته في مقهى المدينة‪،‬‬

‫الكمال من غاياته‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ثم يتساءل المرء‪ :‬أال يتطلب الكمال شيئا من‬ ‫النقص ليصبح كامالً؟!‬

‫ّ‬ ‫يمص سيجارته بغضب‪ ،‬لثالث مرّ ة يحاول رفسها في المطفأة‪ ،‬لكن ال زال بها‬ ‫وهو‬ ‫ّ‬ ‫المصات الجميلة كما كان يتح ّدث في وصفها عندما يجتمع بأصدقائه ويروي لهم‬ ‫بعض‬ ‫مغامراته في المقهى‪ ،‬فيتركها بين أصابعه الثالثة تلهو بها‪ ،‬يمسكها كما لو أ ّنه يخشى‬

‫سينيكا‪" :‬الرياح ال تساعد من ال يعرف‬

‫الضيق‪ ،‬وحركة‬ ‫ووهجها يغيب في زحمة األبخرة المكوّ مة على الرّ ؤوس في بهو المقهى‬ ‫ّ‬

‫الكمال‪ ،‬بل هي دومً ا تفاصيل لجهد ليس‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أتذكر هنا قوالً لفيلسوف قرطبة الرومانية‬

‫وجهته"‪.‬‬ ‫التشكيل‪ ..‬وفي كل المجاالت‪.‬‬

‫وهذا سبب كثرة الحمقى في‬

‫أما النفاق ( لوفهمناه على أنه إ ّدعاء) فهو‬ ‫ّ‬ ‫متوفر بكثرة كذلك‬ ‫ُ‬ ‫يوميا باح ًثا عن الوجهة‪ ،‬ثم‬ ‫لذا أمَ رْ مر حياتي‬ ‫ً‬

‫‪.‬‬

‫بين قوائم الطاولة التي لم تكن مناسبة لهيكله‪ ،‬أزعجه عدم االنسجام‪ ،‬يشعر بمضايقة‪،‬‬

‫يعذبها بأصابعه فتزيد من عذابه‪ ،‬كانت ّ‬ ‫ّ‬ ‫لذتها تتضاءل‬ ‫فرارها وال يريدها أن تنتهي‪،‬‬ ‫الوافدين مستمرة‪ ،‬من حين آلخر تلطمه أيدٍ عابثة وتدافع األجساد المكتظة الباحثة عن‬

‫كراس بجواره أو قريبة منه‪ ،‬لكنّها تبتعد عنه كالفارّ ة من رائحة بالوعة صرف المياه‪،‬‬ ‫فتزيد من غضبه‪ ،‬توقفت الحركة وواصل قراءة خبر اليوم الذي لم يكن مناسبا هذا‬ ‫الصباح أيضا‪ ،‬يعود ّ‬ ‫ّ‬ ‫الضجيج بعد هدوء نسبي ويتراكم شيئا فشيئا‪ ،‬لحظتها شيء ما‬

‫قرض نفسه من الجريدة‪ ،‬يسحب رجليه بسرعة ّ‬ ‫ثم يطوي جريدته في حنق‪ ،‬يطفئ‬

‫أعمل ما استطعت عسى الرياح تساعدني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مدركا بالطبع أن الرياح هي العمل‪ ..‬وإن لم‬

‫مصة‪ ،‬ربّت النادل على كتفه حينما ّ‬ ‫آخر ّ‬ ‫هم بالمغادرة‪ :‬ادفع ثمن ما قلت‪ ،‬عفوا ما شربت‪،‬‬

‫نحات وكاتب من سوريا مقيم في غرناطة‬

‫قاص من الجزائر‬

‫يقلها سينيكا‬

‫بش ّدة ما بقي من سيجارته حتى كوته‪ ،‬صرخ ّ‬ ‫ثم لعنها وهو ينفث ما بقي في صدره من‬

‫وضع كلتا يديه في جيبي سرواله مفتعال البحث عن النقود وهو يدرك أنهما مثقوبان منذ‬ ‫طردته ّ‬ ‫الشركة‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪143‬‬


‫مقال‬

‫شيء عن دوما‬ ‫الشهوة حينما تضج على رأس طاغية مثقف‬ ‫نوار جابر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جيدا للحياة مثلنا نحن من نحيا في الخارج أو في محافظات ومناطق سورية شبه آمنة‪ .‬نحن العاديون‬ ‫مقوما‬ ‫ال يملك أبناء دوما‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫في الحياة داخل سوريا مثال ن ُ‬ ‫ملك ألطفالنا متاجر أللعاب األطفال‪ ،‬وشوارع كلها بضائع صينية‪ ،‬ألعاب من كافة األصناف ويكون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نظريا‬ ‫سعرها مقبوالً ومن السهل التعامل به‬ ‫وعمليا‪ .‬إن قطعة صينية رخيصة تكفي لرغبة طفلنا في اللعب‪.‬‬

‫مُقوم‬

‫الرغبات مفتوح أمامنا‪،‬‬

‫وعلماء االجتماع إن اللعب هو أحد أهم‬

‫األرض السورية‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ونكبته‪ ،‬وقد َن ُ‬ ‫حلم به نمتلك صورة الرغبة‬

‫يكتشف فيها اإلنسان أدوات عيشه ويُ نشئ‬

‫أخرى لتأمين النجاة األطفال ها هنا حينما‬

‫نراه‬

‫أقله‬

‫‪.‬‬

‫ونشتهيه‬

‫وآلياتها واشتهاءها وممارسة االستمناء‬ ‫عليها إن لزم األمر في اختزال الشهوات‬

‫‪.‬‬

‫ومحاولة تفريغها إننا نتمكن من اكتشاف‬

‫ٌ‬ ‫شيء‬ ‫الممكن المرغوب وهذا شيء جيد إنه‬ ‫ً‬ ‫قاسيا نستطيع كي ال نقع‬ ‫من الحياة ولو كان‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫عن اللعب الكثير من معارفه ال فرق كبير بين‬

‫األسد ُ‬ ‫وحكام دوما الحاليين فهم يعرفون أن‬ ‫األطفال غير مهمين إال على مستوى النضج‬

‫الذكوري المُ سلح‪ ،‬مرحلة السلوك القضيبي‬ ‫ُ‬ ‫السالح ُكل شيء‪،‬‬ ‫المعمم الذي يكون فيه‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬نملك في‬ ‫في خطيئة الشهوة أن نصلي‬ ‫المحافظات اآلمنة ‪-‬وهي قليلة جدا‪ً-‬‬

‫‪.‬‬ ‫الغربية المائعة الحديثة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تحصن األبواب‪،‬‬ ‫تتسع لنا‪ ،‬ودوريات األمن‬ ‫وفي الغالب ُت ّ‬ ‫حصن السماء فالصواريخ قليلة‬

‫في دوما أمام األطفال مُ حاكاة لوصية‬

‫كالالذقية أماكن الصالة‪ ،‬الجوامع والكنائس‬

‫في‬

‫على محافظة الالذقية ومعدومة‬ ‫ً‬ ‫طرطوس (المحافظتان األكثر أمانا في‬ ‫ً‬ ‫سوريا)‬

‫‪.‬‬

‫الرب والشيطان‪ُ ،‬كل‬ ‫نملك الصالة والشهوة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫نحن العاديون مهجورون‬ ‫تقريبا‪ ،‬إنما‬ ‫شيء‬ ‫ُ‬

‫من كل شيء‪ ،‬يكفينا َش ُ‬ ‫رف الرؤية لمحركات‬

‫‪.‬‬

‫الرغبة في دوما ال يملكون حتى المتاجر‬

‫‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬وال حتى ذاكرة الرغبة هذه مشكلة‬ ‫يعرفها الطاغية صاحب البراميل‪ ،‬هو يعرف‬ ‫أن رغبات أطفال دوما صفرية لم تنشأ‬ ‫ألنه يحاصرها لما يقارب الخمس سنين‪،‬‬

‫وال تتجاوز الرغبة عندهم حدود الغريزة‬

‫كالتنفس‪ ،‬والرغبة في إسكات بعض المطالب‬

‫الغريزية كاألكل بوصفهِ فِ عال فمويا محضا‬

‫‪.‬‬

‫أي شرط من شروط االستذواق وحتى‬ ‫بال ّ‬ ‫اللعب بقذف البول في حمام مُ عتم يبدو‬ ‫ً‬ ‫صعبا داخل البيت فال كهرباء هناك البتة‬ ‫وكمالحظة‬

‫‪144‬‬

‫طرق المعرفة فاللعب من أهم الوسائل التي‬

‫مجدية‬

‫يقول‬

‫‪.‬‬

‫النفسانيون‬

‫ً‬ ‫داع آلليات اللعب‬ ‫أي شيء وال‬ ‫وتعويضا عن ّ‬ ‫ٍ‬

‫ً‬ ‫فرسا‬ ‫زهران علوش حاكم دوما يمتطي‬

‫النبي مُ حمد بتعليم األطفال ركوب الخيل‬ ‫‪ ،‬واألسد يمتطي البرميل كما يُ تيح له هذا‬

‫‪.‬‬

‫العالم الحديث من تقانة وسماح ويقدس‬ ‫ُ‬ ‫موالوه األحذية كشيء من اغتراب اإلنسان‬ ‫عن أصالته في فهم الشيء بذاته بجعل‬ ‫ً‬ ‫الحذاء في ذاتهِ‬ ‫معلما لماهية اإلنسان فبدل‬

‫‪.‬‬

‫التحدث بالفهم عن الشيء بذاته كالحذاء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يصبح الحذاء بذاتهِ‬ ‫معرفيا‪ ،‬ويتداركنا‬ ‫شيئا‬

‫هو‪ ،‬ويتحول الموالون إلى عبيدٍ غرباء ِ‬ ‫وشبه‬ ‫األحذية‬

‫العسكرية‬

‫منفصمين‪ ،‬فمشاهد‬ ‫في كل مكان َتليق بما يقدسه البشر ال بما‬ ‫يلبسونه! في أثناء تقبيل الموالين ألحذية‬

‫العسكر يُ خفي المُ صور ويكتفي بوجوه‬ ‫متملقي النظام‪ ،‬في الغالب وجه العسكري‬

‫الذي ال يُ صدق رغم أنه صاحب القدم ما‬

‫يحصل لهذا الحذاء‪ ،‬فالمعدة الجائعة ال تعرق‬ ‫قيمة هذا األيقون المُ ستحدث ومن سيصدق‬ ‫ً‬ ‫بشرا تترامى لتقبيل حذاء فشل ممثلوه‬

‫باألصل عن حماية وجودهم في ثالثة أرباع‬

‫أقله على الموالين البحث عن ممثلي أحذية‬

‫‪.‬‬

‫يمرون بقرب تماثيل الحذاء في الالذقية أو‬ ‫طرطوس يخطئون في قول تميمة المرور‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يخص‬ ‫ويظنون أن كل هذا الورد الموضوع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إلهيا هذا مرض شائع يُ صاب به الدماغ‬ ‫شانا‬

‫‪.‬‬

‫(منطق تصديق الشكل‬

‫المُ درك)‪.‬‬

‫أطفال‬

‫ً‬ ‫كثيرا في فك هذا الرمز‬ ‫المواالة سيخطئون‬

‫‪.‬‬

‫المستحدث عن القداسة الدينية الصالة في‬

‫دوما أمر استشهادي‪.‬‬

‫نظام البراميل يكره الصالة‪ ،‬فهو يكره أن‬ ‫يُ ّ‬ ‫عكر أهالي ضحايا مجازر اإلبادة التي يقوم‬

‫بها ُكل يوم صفوة الله‪ ،‬فيضرب لهم المساجد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويصلوا في الشوارع العامة‬ ‫يضجوا‬ ‫لكي‬

‫المفتوحة‪ ،‬وليصرخوا كمجانين الشوارع‬

‫‪.‬‬

‫فهذا أفضل من تنظيم الصالة للرب ولكي‬ ‫ال يُ ذعر الله من دعائهم المُ شترك‪ ،‬ونحيبهم‬

‫المقيت‪ ،‬فيضرب شوارعهم وبيوتهم ويُ بيد‬ ‫صوتهم كامالً في البدء لم يكن الكلمة‪ ،‬بل‬

‫‪.‬‬

‫الصمت والدم الذي يخترق بساتين عامرة‪.‬‬ ‫هذا هو إلهنا الحديث األرضي‪ ،‬هذا ما ال‬

‫‪.‬‬

‫يُ مكن إنكاره ما تبقى من أماكن صالة‬

‫جماعية ال يقف بوجهها مسلحون على‬

‫األبواب ليراقبوا صرخات الناس ومطالبهم‬ ‫كما في المناطق اآلمنة‪ ،‬بل يدخل المسلح‬

‫إلى الداخل ليخطب بهم وهو يحمل بارودته‪.‬‬

‫زهران علوش يدخل ببساطة ومرافقته‬ ‫ُتسكت مطالب الناس بإيماءة ُترعب من‬ ‫يشاهدها على اليوتيوب فما بالك إن كانوا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حكيما حينما‬ ‫عموما كان مُ حمد‬ ‫أمامك‬

‫‪.‬‬


‫جواد‬

‫‪.‬‬

‫العجائب في أحوال دوما المُ ستجدة أن‬ ‫قصفها الدكتاتور بوسط سوقها التجاري‪ ،‬أو‬

‫سوقها الغذائي‪ ،‬هذا ما روته صور المجزرة‪،‬‬ ‫صورٌ لعربات الفاكهة والخضار‪ ،‬شيئيات‬

‫الغريزة الفطرية‪ ،‬مكنونات الرغبة البشرية‬

‫‪.‬‬

‫البسيطة والساذجة الفاكهة إحدى أكثر ما‬ ‫يستهدفه الدكتاتور في صواريخه و التي‬ ‫نستطيع نحن العاديون التقاطها من أي سوق‬ ‫ً‬ ‫صديقا على الموبايل دون أن‬ ‫ونحن ُنكلم‬

‫‪.‬‬

‫ننظر إلى وجه البائع حتى إال أن الدكتاتور‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫تماما أن البهجة الوحيدة ألبناء دوما‬ ‫يعرف‬

‫‪.‬‬

‫هي ما تبقى على عرباتها المتنقلة فاكهة‬

‫مقتصرة على ما توفر‪ ،‬وما يُ مكن تهريبه أو‬

‫زرعه‪ ،‬أو حتى خطفه‪.‬‬

‫نعم لقد ضرب الدكتاتور سوق الفاكهة ألنه‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫متخلفا هذا‬ ‫يعرف جدواها البشرية‪ ،‬ليس‬

‫المجنون الذي يحكمنا‪ ،‬ي ُ‬ ‫َعلم أن اإلبادة‬ ‫تحتاج قتل ُكل رغبة‪ ،‬وكل مطلب دماغي‬

‫‪.‬‬

‫ملح للبهجة (‪ )fruit‬الفاكهة بمعناها اآلني‬

‫تأتي من جذر التيني (‪ )fructose‬أي البهجة‪،‬‬ ‫هذا ما يعلمه االستبداد عن دوما‪ ،‬أن ألطفالها‬ ‫بهجة في أكل بعض الفاكهة‪ ،‬مما يجعلهم‬

‫يشعرون ببهجة ما‪ ،‬وهو له واجب استئصال‬ ‫مباهجهم‪ ،‬ال يكفيهم شحهم بكل شيء‪،‬‬

‫عليهم أن يحرموا من شيء يخص جسدهم‪،‬‬ ‫ذهنهم‪ ،‬كيميائية جسدهم‪ ،‬قد غفل الدكتاتور‬

‫‪.‬‬

‫لبعض الوقت عن تذكره ما يعرفه طاغيتنا‬

‫‪.‬‬

‫ُ‬ ‫يتوقعه أطفال دوما نحن‬ ‫عن الفاكهة ال‬

‫العاديون لسنا دومانيين البتة‪ ،‬ما يصعب‬

‫تصديقه عِ لم الطاغية في اإلبادة‪.‬‬

‫األدب الغرائبي ها هنا هو قصتنا الدائمة‪،‬‬

‫قال ألتباعه “ال ُتدخلوا السالح إلى مكان‬

‫َمسك الموت‪.‬‬ ‫لطالما ال ي ّ‬

‫واستوحاش حامله ال أستطيع حفظ عدد‬

‫األخيرة‪ ،‬استنطاق المُ جرم للمعرفة في عمله‪.‬‬

‫الصالة” فالنبي كان يشعر ُ‬ ‫بجرمية السالح‬

‫‪.‬‬

‫البراميل والصواريخ التي تضرب ظهر مدينة‬ ‫دوما‪ ،‬هنالك أح ٌد ما يعرف العدد‪ ،‬ال بد أنه‬ ‫ً‬ ‫جدا فاإلحصاء عملية جيدة للدماغ هذا‬ ‫ذكي‬ ‫ّ‬ ‫ما يجهله أمناء األمم المتحدة الذين توقفوا‬

‫‪.‬‬

‫عن إحصاء قتالنا وضحايا طاغيتنا الطبيب‪.‬‬

‫ً‬ ‫جيدا‪،‬‬ ‫نحن العاديون نستطيع أن نرى المأساة‬ ‫في داخل ُكتابنا بُع ٌد خفي للتنافس على‬ ‫أفضل ما يُ كتب عن هذه المأساة المريعة‪،‬‬ ‫التي ال نشعر فيها إال بالمرارة التي اعتدنا‬ ‫عليها وكأنها تكرار يومي‪ ،‬حِ س المفاجأة‬

‫يختفي في يومياتنا وهذا شيء سيئ أن‬ ‫ً‬ ‫تحيا هكذا بروتين يومي دموي بات مُ‬ ‫حببا‪،‬‬

‫األكثر غرابة في كل هذا وفي جريمة دوما‬ ‫ً‬ ‫تماما أن اإلبادة شيء أصيل في‬ ‫فهو يعي‬

‫طيات القرن الحادي والعشرين‪ ،‬وعليه أن‬

‫يُ درك ماهية الكائن البشري‪ ،‬ومنشأ غرائزه‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫جدا‪،‬‬ ‫حديث‬ ‫قاتل‬ ‫ليقتل فيه بشريته‪ ،‬إنه‬ ‫يُ شبه شخصيات كرتونية شريرة يُ بالغ‬ ‫في صنعها لفصل القيم وتعليم األطفال‬

‫والناشئة‪.‬‬

‫وقلما‬

‫تجسدت‬

‫في‬

‫الواقع‪،‬‬

‫فاستجرار كل مخيلة ممكنة إلبادة الناس‬

‫وترويعهم وإخافتهم وتشويههم هو شيء‬ ‫ً‬ ‫أسدي بامتياز وليس مُ‬ ‫بواقع آخر‬ ‫ناطا‬ ‫ٍ‬ ‫هذه اللذة األسدية ال تبدو واقعية في‬

‫‪.‬‬

‫أي كتابةٍ عنها بل تنتمي ألدب الغرائب ال‬ ‫ّ‬

‫عمّ ا يكتشفه الدكتاتور من مباهجنا‪ ،‬وما‬

‫سنتحول إليه قبل‬

‫زواله‪.‬‬

‫المباهج التي‬

‫سيرثها الدومانيون من فشلنا في حمايتهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا المزروع في‬ ‫هو اكتشاف ألم اآلخر‬ ‫عينيه كفكرة الكتشاف ألم الناس الذين‬

‫‪.‬‬

‫يفرحون لمقتلهم على أمل أن يكونوا أحياء‬ ‫ً‬ ‫وحوشا‪ ،‬ماذا تبقى لهم من الحياة حتى‬ ‫ال‬

‫ال يتوحشوا؟ نحن العاديون ال نعرف من‬ ‫ّ‬ ‫توقف فيها الزمن لبرهة‬ ‫الوحش سوى صو ِر‬ ‫وهي كافية لنعتاد على ما يحصل لهم نحن‬

‫‪.‬‬

‫لتقبل ما‬ ‫العاديون زمننا بليد ويُ سارع دماغنا‬ ‫ّ‬

‫‪.‬‬

‫يحصل لكم أنتم وألنكم تحت نار اإلبادة‬ ‫ً‬ ‫بطيئا في تقبل ُكل هذا‬ ‫سيكون دماغكم‬

‫‪.‬‬

‫الموت إنها الفطرة ال المقصد‬

‫كاتبة من سوريا‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪145‬‬


‫قص‬

‫لفافة من حرير‬ ‫‪ ‬فكري عمر‬

‫أوقفني‬

‫‪.‬‬

‫بنظرة وإشارة كان يقف أعلى سلم منزله‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫أنه أكثر وضوحا من شمس ساطعة رجل خائف استأمنني على كنز‬

‫ليقعد‪.‬‬

‫حياته وحياة قبيلته وأنا قبلت بمحض إرادتي في وقت لم أكن أدرك‬

‫‪ -‬سيدى‪ ،‬طمأنني سمتك‪ ،‬وقلت لنفسي إنك الشخص الوحيد الذي‬

‫بواقع حالي جاء متأخرا‪ ،‬لذا فأنا لست مسؤوال عن أي شيء يحدث‬

‫الخارجي تقدمت ناحيته ثنى ساقيه‬

‫‪.‬‬

‫صارت رأسه في مستوى رأسي قال لي‪:‬‬

‫يمكنني الوثوق فيه من كل الذين مروا من أمامي‪ ،‬فهل خانني‬ ‫حدسي؟‬

‫قلت مدفوعا بالحياء‪ ،‬وبالرغبة في المساعدة‪:‬‬

‫لي أو حولي؟‬

‫قلت لنفسي لو تركتك نهبا لالحتماالت سأتالشى وسأجدني في‬

‫موقف شبيهة وقد فقدت الثقة بقدرتي على التحمل أو اإليفاء‬

‫‪ -‬ال‪ .‬لم يخنك حدسك وإراداتى رهن أمرك‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫اخترته‪.‬‬

‫بالوعود ساعتها سأؤنب نفسى على عدم بذلي أي مجهود لفعل ما‬

‫إلي لفافة من حرير قائال‪:‬‬ ‫دفع َّ‬

‫ ها هنا كنز حياتي وحياة قبيلتي‪ ،‬فال تضيعنا‪.‬‬‫‪.‬‬

‫تناولتها تحسست نعومة الحرير في يدى‪ ،‬وبشيء كالكرة‪ ،‬أو البلورة‬

‫‪.‬‬

‫داخلها‪ ،‬شيء صغير لكنه ثقيل ثقل حجر كبير من الجرانيت وضعت‬

‫يدى اليسرى كي تؤازر اليمنى في حملها‪ ،‬وقلت له بينما ألهث‪:‬‬ ‫‪ -‬وما المطلوب منى بالضبط؟‬

‫‪ -‬ال شيء سوى الوقوف هنا لدقيقة‪ ،‬أو أقل حتى أخرج لك مرة أخرى‪.‬‬

‫قلت مطمئنا إياه‪:‬‬

‫‪ -‬األمانة كنز ال يفنى‪.‬‬

‫فيه أنني ال أستطيع التحمل‪ ،‬فهل أخون األمانة مدعيا أن معرفتي‬

‫‪.‬‬

‫قلت أيضا‪ :‬ما يضيرني لو فعلت أقصى ما يمكن أن أفعله أن أقف‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫مصلوبا هكذا أمام الباب الفخم الملون ممسكا باللفافة بيدي منتظرا‬

‫صاحبها الذي قد يخرج في أي لحظة منقذا إياي من ورطة بطلها‬

‫‪.‬‬

‫ضميري الذى ال يكف عن تأنيبي كنت أقف ككلب الحراسة على وعد‬ ‫ُ‬ ‫لن أسأل عن تضييعه في نفس الوقت ال أستطيع المغادرة هنا شيء‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫حقيقي وأكثر قسوة من مشهد جثة ملقاة في الشارع لقد قال الرجل‬ ‫قبيلتي ولم يقل أسرتي‪ ،‬أال يدفعك هذا للتفكير في مصائر عدد من‬

‫فرد‪..‬‬

‫‪.‬‬

‫كان قد دفع الباب واختفى من أمامي اللفافة الثقيلة جدا دفعتني‬

‫البشر يتجاوز المئة‬ ‫وأحالم قد ُتقصف في لحظة حين تمضي أنت غير عابئ باآلخرين‬

‫ألعلى فإذا السماء غائبة تحت سيل من ظالم دامس ال يطرقه هالل‬

‫أعطيه اللفافة وأمضى كما ُتقدر لي المصادفات الغريبة‪ ،‬أو أضعها‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫للنظر حولي كي أخفف عن نفسى هذا اإلحساس بالضعف نظرت‬

‫‪.‬‬

‫صغير‪ ،‬أو نجمة تومض في البعيد‪ ،‬أو شبح سحابة عابرة في الوقت‬

‫رجال ونساء وأطفال أمان وخطوات‬

‫‪.‬‬ ‫قلت بعد قليل‪ :‬فألصعد ألطرق الباب حتى يفتح لي أحدهم الباب‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫بجانب الباب وشيء ما منعني الغريب أنني ظللت لوقت طويل‬

‫نفسه كان الشارع يحيا تحت إضاءة قوية من ألوان مختلطة عجيبة‪ .‬أراقب كل ما يتبدل أمامي وأعاود النظر إلى باب الدار فأجده كما هو‪.‬‬ ‫أنا شحيح البكاء وجدتني أنهنه فجأة‪ ،‬ثم تنفرط دموعي مدرارا كأنها‬ ‫عدت للباب الغريب الذى تتألأل ألوانه فتخطف انتباهي‪.‬‬ ‫عاودت النظر إلى الشارع متمنيا أن ينظر لي أحدهم ويصمني‬

‫تنثال من مخزن ال ينضب‪ ،‬وأتكئ على الساللم العنا الدار وصاحبها‬

‫فعلها مع الكثيرين‪ .‬حينها سألقى ما بيدي وأمضى غير مبتئس‪ ،‬أو‬ ‫عابئ بشيء‪ ،‬لكن أحدا لم ينظر في وجهى وهو يمضى أو يحدثني‪.‬‬

‫ال تخصني مباشرة بل تخص آخرين تورطت فيها بمصادفة بحتة‪،‬‬

‫وفى واقع غريب لن يحاكمني أحد بسبب المضي منه لما ضبطت‬

‫كانت تمضى مسرعة دون أن تلتفت نحوى‪ ،‬وأحيانا كانت تتالشى من‬

‫حمل الوعد وال يستطيع أن يتحمل حتى النهاية‪.‬‬

‫بالمجنون‪ ،‬وأن ما وقعت فيه اآلن هو مقلب من صاحب الدار الذى‬

‫ومرة واحدة ضربني يقين قاتل بأنني في فخ؛ ألن كائنات الشارع‬

‫أمامي‪ .‬في لحظة‪ ..‬عدت ببصرى بسرعة للشيء الوحيد الذى أعرفه‪..‬‬ ‫إلى باب الدار الفخم الملون‪ ،‬ألمسكه بعيني فال يفلت‪ .‬كان قلقي قد‬ ‫بدأ يتزايد‪ ..‬وطوَّ ح بي قلق هائل حين فكرت في كل االحتماالت التي‬ ‫ال تسيطر عليها إرادتي الهشة‪ .‬لكن لمَ أنا مرتبك وخائف هكذا في أمر‬

‫لو تركته لن أموت فورا؟‬ ‫ُ‬ ‫هل أ َلم على ما ال أقدر على السيطرة عليه؟ هنا شيء حقيقي أحس‬

‫‪146‬‬

‫‪.‬‬

‫وبابها الملون لم يأت أحدا ليطبطب على أو ليشاركني همومي التي‬

‫‪.‬‬

‫نفسي في موقف ضعفها ذاك قلت‪ :‬وما ذنب الرجل؟ الذنب ذنب من‬

‫‪.‬‬

‫فكرت في الهرب‪ ،‬وشيء ما أمسك بي وقال‪ :‬قف حتى النهاية ورغما‬

‫عني التزمت مكاني مختزال كل أمنياتي في باب الدار الذى سيفتح‬

‫حتما ذات لحظة عن وجه الرجل الغريب الذى يمد يده؛ ليسترد‬

‫لفافته‪ ،‬ويعتقني‬

‫كاتب من مصر‬


‫قصة قصيرة‬

‫بيدق في لعبة الشطرنج‬ ‫نهار حسب اهلل‬

‫والخوف على صبغ وجوهنا بلون باهت مُ‬ ‫تعب‪.‬‬ ‫ْ‬

‫‪.‬‬

‫قفز أو ُدفعَ جندي أبيض من مكانه في الجهة المقابلة تحرك خطوة‬ ‫ً‬ ‫معلنا بداية اللعبة‬ ‫مرتجفة واحدة‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫الخوف إحساس عدمي‪ ،‬غير مرئي‪..‬‬ ‫زمالئي ويقطر من مساماتهم في تلك اللحظة‪.‬‬

‫ولكنه كان يختلط مع عرق‬

‫اشتعل فتيل الحرب وسرعان ما تحوّ لت المربعات داخل رقعة‬

‫الشطرنج إلى فخاخ تتصيد الضحايا وتبعث بهم إلى الهالك‪..‬‬

‫ً‬ ‫مرئيا‪ ،‬يتحرك ببطء ما بين الخطوط‪ ،‬يتصيد الضحايا‬ ‫شبح الموت بدا‬

‫ويسلب حياة من دفعته تعاسة قدره للمرور بجواره‪.‬‬ ‫سقط جندي هنا وآخر هناك‪ .‬محاصر هنا‪ ،‬ومقيد هناك‪.‬‬

‫لم ُتفرز دماء البيض والسود عن بعضهما‪ ،‬ولم تعزل الجثث حسب‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وشكلت رُ‬ ‫كاما‬ ‫اللون والفريق‪ ،‬وإنما تعانقت على األرض رغم خصامها‬ ‫ً‬ ‫بشريا وأبعدت عن لعبة الموت إلى الهامش خارج البالط‪ ،‬واعتلى منها‬

‫رائحة بخور المقابر‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫الزمن داخل رقعة لعبة شطرنج المربعة احترت في نفسي واختلفت‬

‫‪.‬‬

‫معالم الكون في رأسي‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫حاولت استرجاع قواي‪ ،‬لملمت نفسي ووقفت مرغما على واحد من‬

‫‪.‬‬

‫المربعات األربعة والستين المميزة عن بعضها باألبيض واألسود‬ ‫صراعا كبيراً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ركت البيادق المبعثرة من حولي‪ ،‬وأحدثت‬ ‫أيادٍ خفية َح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غريبا بين البيادق قبل بدء المعركة‬ ‫وتدافعا‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫اصطف الجيشان‪ ،‬األبيض واألسود‪ ،‬على نحو متقابل وقف كل في‬ ‫ً‬ ‫متأهبا ألوامر الحرب‬ ‫مكانه‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫وكأي حرب طائشة زج الجنود الشبان في‬ ‫وكعادة لعبة الشطرنج‬ ‫ّ‬ ‫صفوف الموت األمامية فيما اختفى الملكان وحاشيتيهما خلف‬ ‫السواتر التي ُش ْ‬ ‫كلت بالجنود الثمانية لكل طرف‬

‫‪..‬‬

‫‪.‬‬

‫وجهي األسمر وقصر قامتي‪ ،‬نسباني إلى الجيش األسود‪ ،‬وسرعان ما‬

‫كان الخوف يغتالني آالف المرات‪ ،‬يجرّ د الروح ويبعدها عن الجسد‬

‫كلما لمست رأسي تلك اليد الخفية وغيرت موقعي‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫تغيرت وجهة اللعب إلى الزاوية األخرى‪ .‬ابتعدت األنظار عنّي‪.‬‬ ‫يبدو أن القدر أمهلني فرصة الخالص‪ ..‬لم أنتظر طويالً‪ .‬رميت نفسي‬ ‫ً‬ ‫مراقبا مجريات المعركة‬ ‫بين الهالكين على الهامش‪ .‬حبست أنفاسي‬ ‫تخيلت أساليب‬ ‫حاولت الخالص من مأزقي ولو بالموت العاجل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بأقلها وجعاً‬ ‫الموت كلها شاهدت أبشع الجثث حلمت‬

‫بصمت ثقيل‪ ،‬متحمّ الً قساوة الجثث التي ترمى على جسدي بين‬

‫لحظة وأخرى‪.‬‬

‫أفرغت ساحة المعركة من الجنود البسطاء وسيطر الملكان‬

‫وحاشيتهما على األرض‪.‬‬

‫ً‬ ‫وجها لوجه بمواجهة تاريخية لم أشهدها من قبل مواجهة‬ ‫تقابال‬

‫حاسمة دامية لمحاصرة أحدهما واإلطاحة به‪.‬‬

‫‪..‬‬

‫تحولت إلى بيدق مستعد للموت‪.‬‬ ‫تنبهت لنفسي ومن معي من الجنود في الصف األول المواجه للموت‪.‬‬

‫بصوت مسموع (كش يا شعب) وتعانقا عناق األحبة‪ ،‬وشربا نخب‬

‫الحكايات التي يخفيها الصمت بداخل كل واحد منهم‪ ،‬ربما يكون لكل‬

‫لها مثيال‬

‫ً‬ ‫مسحورا بتلك الوجوه الصامتة من حولي‪ ،‬ال أحتاج لتخمين‬ ‫كنت‬

‫واحد منهم حكاية تشابه حكايتي‪.‬‬

‫اختلفت مالمحي والجنود من حولي على الرغم من تعاون القلق‬

‫‪.‬‬

‫انتظرت لحظة نطق (كش ملك) من أحد الطرفين غير أنهما قاال‬

‫النصر من بقايا الدم المنهمر على البالط‪ ،‬واختنقا بضحكة لم أسمع‬

‫كاتب من العراق‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪147‬‬


‫مقال‬

‫نصوص أوغاريت‬ ‫هنا يبدأ التاريخ‬ ‫تيسير خلف‬ ‫ثمة أسئلة معلقة بانتظار اإلجابة عليها منذ عام ‪ 1929‬م‪ ،‬وهو عام اكتشاف مدينة أوغاريت في رأس شمرا قرب مدينة الالذقية‬ ‫السورية‪ .‬هذه األسئلة تتعلق بالهوية الحضارية لكنعان القديمة وبجغرافية المالحم التي عثر على نصوصها في هذه المدينة‬

‫التي أعطت للبشرية األبجدية األولى‪ ،‬وعالقة األساطير والمالحم والنصوص األدبية المكتشفة بما يسمى المالحم واألساطير‬

‫اإلغريقية وكذلك بما يسمى بالكتاب المقدس لدى اليهود‪.‬‬

‫لقد‬

‫بأي شكل من‬ ‫يمكن التغافل‬ ‫ّ‬ ‫األشكال عن الهوية الكنعانية‪-‬‬

‫لمعتقداتهم‪.‬‬

‫العمورية لحضارة أوغاريت‪ ،‬فهذا األمر بات‬ ‫ّ‬ ‫المسلمة التاريخية‪ ،‬لقد بدأ الكنعانيون‬ ‫بحكم‬

‫مالحمهم وآدابهم التي طوروها في أرض‬

‫أرض كنعان (فلسطين القديمة) منذ مطالع‬

‫الذي تحركت فيه هذه المالحم هو فضاء‬

‫باالستقرار في أوغاريت قادمين من جنوب‬

‫لقد نقل الكنعانيون معهم إلى أوغاريت؛‬

‫كنعان القديمة‪ ،‬ولذلك كان الفضاء الجغرافي‬

‫األلفية الثانية قبل الميالد وحتى عام ‪1250‬‬

‫جنوبي أرض كنعان (فلسطين القديمة)‪،‬‬

‫أنهم منحوا المدينة بشكل تدريجي الهوية‬

‫الحلم أبو اآللهة إيل أن يذهب إلى النقب‬

‫قبل الميالد‪ ،‬أي عام خراب أوغاريت‪ ،‬بحيث‬

‫الثقافية الكنعانية‪ -‬العمورية‪ ،‬على الرغم من‬ ‫الطبيعة الدولية لها بحكم موقعها التجاري‬

‫المتميز‪ ،‬ووجود جاليات متعددة فيها‪،‬‬

‫حورية‪ ،‬وحثية‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫فالملك كرت ملك بيت خبر الذي أمره في‬

‫ويتزوّ ج من ابنة ملك أدوم حورية‪ ،‬اقتضى‬ ‫تحرك جيشه من مملكته بيت خبر إلى أدوم‬

‫وبأي حال من األحوال فإن حركة‬ ‫سبعة أيام‪،‬‬ ‫ّ‬

‫جيش كبير كما هو الوصف في الملحمة لمدة‬

‫الالفت للنظر هو أن مجمع اآللهة األوغاريتي‬

‫سبعة أيام ال يمكن أن تتجاوز مئة إلى مئة‬ ‫ً‬ ‫كيلومترا ولذلك فبيت خبر ال‬ ‫وخمسين‬

‫إيل ومعه داجون وبعل وعناة وعشيرة‬

‫محاوالت البعض جعلها في جنوبي لبنان أو‬

‫‪.‬‬

‫البدايات والنهايات‪ ،‬وهي التي كان من‬

‫المفترض أن تربط الملحمة مع تسلسل‬ ‫الحق‪ ،‬يرى بعض الدارسين أنه يكمل بعضه‬ ‫ً‬ ‫بعضا ولذلك فإن ملحمتا كرت وأقهات ربما‬

‫‪.‬‬

‫يكونان فصلين متتابعين لملحمة واحدة‬ ‫ّ‬ ‫تلخص تاريخ كنعان األسطوري فالملك‬

‫‪.‬‬

‫دانيل يوصف في بعض الكسر بأنه ابن الملك‬ ‫صح ذلك فملحمتا كرت وأقهات‬ ‫كرت‪ ،‬وإن‬ ‫ّ‬

‫هما فصلين كبيرين من فصول ملحمة‬

‫الكنعانيين الكبرى‪.‬‬

‫ثمة مالحظة ال بد من التنويه لها في هذه‬

‫هو نفسه مجمع آلهة الكنعانيين المعروف‬ ‫ً‬ ‫أيضا كبير اآللهة‬ ‫في فلسطين القديمة فهنا‬

‫يمكن أن تكون خارج فلسطين الحالية‪ ،‬وأما‬

‫ورد ذكرها بوصفها اإللهة الرئيسة لدى شعب‬

‫وعشتاروت ويم وموت وكوثر ورشف وغير‬

‫قرب أوغاريت نفسها‪ ،‬فهي محاوالت غير‬

‫ذكرها في ملحمة أقهات باسم فجت أو بجت‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫ذلك باإلضافة إلى أنصاف اآللهة الذين‬

‫يسمون الرفائيين الذين نقرأ أسماءهم في‬ ‫المالحم األوغاريتية وهم الملك كرت (الذي‬ ‫أصبح عند الفينيقيين ملقرت)‪ ،‬وزوجته‬

‫حورية وابنه يصب والملك دانيل وابنه‬

‫أقهات وابنته فجت [فتجاية] وغيرهم‪.‬‬

‫منطقية وال تنسجم مع سياق الملحمة‪ ،‬الذي‬

‫ركز على التعامل مع المواقيت بدقة الفتة‪.‬‬

‫واألمر نفسه يقال عن ملحمة أقهات بن‬

‫دانيل فمسرحها في النقب جنوبي فلسطين‬

‫بوصفها ستعيد الحياة لشقيقها بعد موته‪،‬‬ ‫ولذلك فإن معنى اسمها باللغة اآلرامية فجة‬ ‫ً‬ ‫تماما مع دورها في هذه الملحمة‪،‬‬ ‫ينسجم‬

‫فهو يعني المنعشة أو المحيية‪ ،‬وثمة أكثر‬

‫في جنوب لبنان‪ ،‬كما حاول أتباع المدرسة‬

‫وتنعش المخلوقات‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫بموطن‬

‫التوراتية أن يبرهنوا‪ ،‬وعلى رأسهم األب‬

‫لتدوين هذه المالحم) مرتبطين‬

‫التجكر‪ ،‬الشعب الشقيق للفلستيين‪ ،‬ورد‬

‫الحالية كما يذهب أغلب العلماء الذين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأيضا‬ ‫استنادا إلى النصوص نفسها‪،‬‬ ‫درسوها‪،‬‬

‫ولذلك يبدو كنعانيو أوغاريت في القرن‬

‫أسالفهم القديم‪ ،‬أي أرض جنوبي كنعان‬

‫العجالة؛ وهي اإللهة فتجاية أو بتجاية التي‬

‫أطلق عليه هذا االسم مثل‪ :‬نبع الفيجة ونبع‬

‫إلى البيئة الجغرافية والغطاء النباتي وليس‬

‫الرابع عشر قبل الميالد (وهو الوقت التقريبي‬

‫‪148‬‬

‫(فلسطين القديمة) برابط الجغرافيا المكانية‬

‫(القدس)‪.‬‬

‫إن تلف الكثير من مقاطع هاتين الملحمتين‬ ‫ّ‬ ‫أضاع بعض التفاصيل المفيدة‪ ،‬وخصوصاً‬

‫ديفو مدير المدرسة التوراتية في أورشليم‬

‫من معبد أقيم على نبع ماء في سوريا اليوم‬

‫البجة على اعتبار أن المياه هي التي تحيي‬

‫ً‬ ‫أيضا حول موقع الجبل‬ ‫سؤال يطرح نفسه‬ ‫المقدس لدى الكنعانيين القدماء‪ ،‬والذي‬


‫اآللهة السورية القدمية عنات‬ ‫هذا السؤال يقودنا إلى نقطة على غاية من‬

‫األهمية وهي سعي أتباع المدرسة التوراتية‬ ‫في التاريخ ألن يعقدوا المقارنات بين ما‬

‫يسمّ ى الكتاب المقدس اليهودي‪ ،‬وبين‬ ‫نصوص مالحم وآداب أوغاريت‪ ،‬وكأن‬

‫التوراة هي الوريث الشرعي والوحيد لهذا‬ ‫التراث‪ ،‬على اعتبار أن نصوص أوغاريت‬ ‫هي النصوص الوحيدة المكتشفة حتى اليوم‬

‫‪.‬‬

‫تعبر عن ثقافة الكنعانيين القدماء إن‬ ‫التي ّ‬ ‫هذه المحاوالت المحمومة‪ ،‬والتي استندت‬

‫إلى بعض التعبيرات األدبية وتشابه بعض‬

‫الحوادث والشخصيات‪ ،‬قد ساهمت في‬

‫التشويش على هوية أوغاريت الكنعانية‬ ‫وعالقتها بكنعان القديمة (أي فلسطين فيما‬ ‫بعد)‪ ،‬وقصرتها على المقارنات غير العادلة‬

‫مع نصوص الكتاب المقدس لدى اليهود‪ ،‬هذه‬ ‫المقارنات التي انجرف وراءها الكثيرون‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫ومنهم بعض الباحثين والنقلة العرب بحيث‬ ‫ً‬ ‫كتابا حول أوغاريت في اللغة‬ ‫أنك لن تجد‬

‫موسعة عن عالقة‬ ‫العربية إال وفيه فصول‬ ‫ّ‬ ‫نصوص أوغاريت بما يسمّ ى الكتاب المقدس‬

‫اليهودي‪.‬‬ ‫وبعد‪ ..‬فإن ملحمة كنعان األسطورية التي‬ ‫نجد بعض فصولها في نصوص أوغاريت‪،‬‬

‫هي السلف المباشر لملحمتي اإلغريق اإللياذة‬

‫‪.‬‬

‫واألوديسة فهناك جبل مقدس يقطنه كبير‬ ‫اآللهة وفيه مجمع اآللهة وهناك مخلوقات‬ ‫ملكية نصف إلهية‪ ،‬وتفاصيل كثيرة مشتركة‪،‬‬

‫ّ‬ ‫يرجح التأثير األسطوري الكنعاني‬ ‫مما‬ ‫والفينيقي فيما بعد على الذهنية األسطورية‬

‫لإلغريق‪ ،‬فالرابط بين مالحم وأساطير الخلق‬

‫السومرية والبابلية مع المالحم اإلغريقية‬ ‫كان بحاجة إلى حلقة وسيطة ضائعة‪ ،‬ال شك‬

‫في أنها الحلقة الكنعانية – الفينيقية‪.‬‬

‫موضوع أوغاريت وعالقتها بكنعان القديمة‬

‫أي فلسطين فيما بعد‪ ،‬موضوع كبير لم يأخذ‬ ‫حظه من العناية والدرس بسبب هيمنة‬

‫يسمى جبل بعل‪ ،‬وهو جبل صفون‪ ،‬لقد‬

‫عليها أي نبات‪ ،‬ولذلك فجبل صفون يجب أن‬

‫أتباع المدرسة التوراتية على معظم مراكز‬

‫الالذقية‪ ،‬ولكن الجبل األقرع سمّ ي بذلك‬

‫القدس‪ ،‬ومن المرجح أنه هو نفسه جبل‬

‫بحاجة إلى الكثير من الباحثين والبحوث‪،‬‬

‫قيل إن هذا الجبل هو الجبل األقرع قرب‬

‫ألن قمته جرداء من األشجار فيما تحيط‬

‫‪.‬‬

‫الغابة به من كل جانب فصفون تعني األجرد‬ ‫وهي صفة مطلقة لخلو الجبل من األشجار‬ ‫والنباتات‪ ،‬وليس قمته فقط‪ ،‬فالصفاة في‬

‫اآلرامية ووريثتيها السريانية والعربية‪ ،‬هي‬ ‫الصخرة الجرداء التي ال يمكن أن ينبت‬

‫يكون في كنعان القديمة‪ ،‬وربما هو أحد جبال‬ ‫صهيون بعد أن سادت الثقافة اآلرامية في‬ ‫عموم سوريا القديمة في األلفية األولى قبل‬

‫‪.‬‬

‫الميالد ألن صهيون باللغة اآلرامية تعني‬

‫‪.‬‬

‫العطشان أو القاحل فقداسة هذا الجبل‬ ‫سابقة على اليهود‪ ،‬بل هي قداسة كنعانية‬

‫األبحاث التاريخية واآلثارية‪ ،‬وهو موضوع‬

‫والدارسين والدراسات‪ ،‬ألن تاريخ فلسطين‬

‫المغيب يبدأ من هنا‬ ‫القديمة‬ ‫َّ‬

‫كاتب من سوريا مقيم في اإلمارات‬

‫دون ريب‪.‬‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪149‬‬


‫كتب‬

‫أوضاع اللغات السودانية‬ ‫والتخطيط اللغوي‬

‫األوهام‪ ،‬وتدبيج األساطير عن ماضيها التليد ومنجزها‬

‫باسم فرات‬

‫فمن أجل تفادي هذه المشاكل في أبعادها السياسية‬

‫يقود‬

‫الجهل بتنوعنا وعدم االعتراف واالحتفاء‬

‫بخصوصية كل فئة إلى صعود وتضخم األنا‬

‫عند األقليات؛ مما يُ دخل عقلها الجمعي في متاهة‬

‫الكتابي‪.‬‬ ‫الحضاري العظيم‪ ،‬مهما كانت حداثة تاريخها‬ ‫ّ‬

‫والعرقية‪ ،‬ومن أجل استقرار البالد وخدمتها؛ يجب‬ ‫االعتزاز بتنوعنا واالعتراف أن اللغات جميعها هي لغات‬

‫وطنية مع جعل لغة واحدة أو أكثر رسمية ال بمفهوم‬

‫بل في تسهيل التواصل بين أبناء األمة‪.‬‬

‫إقصائي‬ ‫ّ‬ ‫إن دراسة هذا التنوع وتثقيف الجماهير بأهميته بل كون‬ ‫معرفته أول مفاتيح الثقافة والعلم‪ ،‬وتخصيص مساحة‬ ‫زمنية في المدارس لهذا األمر سبب في نشأة األطفال‬ ‫على التعايش واالعتزاز باآلخر المختلف‪ ،‬فالجهل يخلق‬

‫الخوف والعداء‪ ،‬واإلنسان عدوّ ما يجهل كما قيل في‬

‫األثر‪.‬‬

‫يتناول الدكتور بهاء الدين الهادي خير السيد في كتابه‬ ‫“أوضاع اللغات السودانية والتخطيط اللغوي” ما أشرنا‬ ‫ً‬ ‫مزيجا أنتج أكثر من‬ ‫إليه أعاله‪ ،‬إذ إن السودان يحوي‬

‫مائة لغة باتت مهددة بسبب انتشار العربية والتمازج‬

‫واالنصهار والهجرة الداخلية وضعف هذه اللغات أمام‬ ‫متطلبات الحياة المعقدة‪ ،‬وعدم االهتمام الجاد من قبل‬

‫الجميع‪ ،‬ومنهم أفراد المجموعات العرقية نفسها حسب‬

‫قول الباحث‪.‬‬

‫تهدف الدراسة (الكتاب) إلى معرفة واقع التخطيط‬

‫اللغوي ودوره في انتشار اللغات السودانية أو أنحسارها‪،‬‬

‫والتعرف على التخطيط اللغوي ودوره وواقعه والتعريف‬

‫‪.‬‬

‫به وفي ‪ 196‬صفحة‪ ،‬بمقدمة وثالثة فصول وخاتمة‪،‬‬

‫نمضي بسياحة معرفية عن بلد طالما عُ ّد سلة الغذاء‬

‫‪.‬‬

‫العربي‪ ،‬وأهله رم ًزا للطيبة والوفاء لكن ما نجهله هو‬

‫حسب كتاب بهاء الدين الهادي خير السيد”أوضاع اللغات‬ ‫السودانية والتخطيط اللغوي” الصادر في الخرطوم‬ ‫َ‬ ‫وعرقيا ذات ثراء‬ ‫مؤخرا‪ُ ،‬تعد البلدان المتنوعة لغويًّ ا‬ ‫ًّ‬

‫ثقافي ينعكس على دقائق حياتها كلها‪ .‬لكن من الممكن‬

‫تنوعه‪ ،‬تمامً ا كما نجهل تنوعنا الباذخ في أرجاء المنطقة‬

‫العربية‪.‬‬

‫العرقية والقومية‬

‫يناقش مصطلح العرقية (اإلثنية) ويورد ما جاء في‬

‫أن يتحول هذا الثراء إلى نقمة وبالء؛ يؤديان إلى تدمير‬

‫الموسوعة البريطانية “جماعة أو مجموعة من السكان‬

‫بدكتاتوريتها‪ ،‬أو سمحت بنجاح مشاريع دول قريبة أو‬ ‫بعيدة تريد ال َّن ْيل من الوحدة الوطنية‪ .‬والجهل بتنوعنا‬

‫مشتركة من العرق واللغة والقومية الوطنية أو الثقافة”‪،‬‬

‫البالد لو كانت السياسات خاطئة واألغلبية تمادت‬

‫تميزها عن المجتمع األوسع‪ ،‬وتربط بين أفرادها روابط‬

‫ويوضح خلط هذا التعريف‪ ،‬لكنه ال يبدي وجهة نظر في‬

‫اللغوي والعرقي والقومي والديني والمذهبي‪ -‬أعني جهل‬ ‫النخب الثقافية والسياسية‪ -‬العسكرية على ح ّد سواء‪،‬‬

‫إال أنه يرى أن أقرب تعريف لها‪“ :‬هي اللغة التي يكتسبها‬

‫تلك المشاريع المشار إليها أعاله‪ ،‬كما هو نجاح إلى تمادي‬

‫دائمً ا في البيت”‪.‬‬

‫وعدم االحتفاء بالتعددية‪ ،‬هو في جوهره سماح لنجاح‬

‫دكتاتورية األكثرية أو الحكومة‪.‬‬

‫المسألة‪ ،‬وكذا الحال فيما يخص اللغة األم واللغة األولى‪،‬‬ ‫الطفل في مراحل تعلمه اللغة األولى المبكرة‪ ،‬ويتحدثها‬

‫استعمل مفهوم الجماعة اإلثنية ألول مرة عام ‪1909‬‬ ‫ميالدية‪ ،‬وصار أحد أكثر المفاهيم إثارة للخالف‪ ،‬وفي‬ ‫عام ‪1952‬م‪ ،‬أصدر مجموعة من علماء االجتماع كتابًا‬

‫عن منظمة اليونسكو‪ ،‬بعنوان “بيان حول الساللة ‪The‬‬

‫‪150‬‬


‫‪ ”Statement on Race‬وركز في وجوب إسقاط‬

‫مصطلح عرق واستبدال مصطلح إثنية به‪.‬‬

‫في حين عالم االجتماع األلماني ماكس ويبر‬ ‫عَ رّ َفه كما يلي "تلك المجموعات البشرية التي‬ ‫تتمتع باعتقاد موضوعي في أصلها الموحد‬ ‫الذي انحدرت منه؛ نسبة للتشابه الجسماني‪،‬‬ ‫أو تتشابه في العادات أو بسبب ذكريات‬

‫االستعمار والهجرة‪ ،‬وهذا االعتقاد يجب‬ ‫أن يكون مهمًّ ا لتكوين المجموعة نفسها‪،‬‬

‫منفصلة‪ ،‬فهي إحدى األدلة على قوة وتأثير‬

‫‪.‬‬

‫اللغة العربية المالحظة التي لمستها وأنا‬ ‫أتتبع خارطة اللغات وانتشارها‪ ،‬هي أنه ليس‬ ‫وفي اإلثنية واألعراق في السودان‪ ،‬نتعرف‬

‫يشير واقع التخطيط اللغوي للغات القومية‬

‫خمسين مجموعة عرقية‪ ،‬مما جعل الهوية‬

‫‪2009‬م‪ ،‬إلى ارتباطه بالسلطة الحاكمة أيًّ ا كانت‬ ‫توجهاتها نحو اللغات وأمرها‪ ،‬إالّ من بعض‬

‫على التنوع الغزير الذي يعج بأكثر من‬

‫السودانية أمرًا معق ًدا‪ ،‬وفي الوقت نفسه يندر‬

‫‪.‬‬

‫ً‬ ‫شبيها له في إفريقية والعالم العربي‬ ‫أن نجد‬

‫‪ 1500‬سنة ق م وكان المعينيون يتحكمون‬

‫القومية في نهاية المطاف‪ ،‬إذ يقول‪“ :‬تصير‬

‫السكان‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫المجموعة قومية عندما يكون لديها تصور‬

‫لتاريخها الجماعي‪ ،‬وعندما يعي أفرادها هذا‬

‫التصور ويتجاوبون معه‪ ،‬وهو تصور يفترض‬

‫فيما يخص العرب فإن وجودهم يعود إلى‬

‫‪..‬‬

‫في تجارة البحر األحمر‪ ،‬وهم يشكلون غالبية‬

‫والعربي الوافد” هذه الجملة التي أشاعها‬

‫كتبوا بعد سقوط األمويين‪ ،‬فحصروا العرب‬ ‫رفضوا حتى إيصال حدودها لموانع طبيعية‬

‫أن األولى جماعة تملك لغتها الخاصة ولكنها‬ ‫لغة شفاهية‪ ،‬أو ُدوّ َنت مؤخرًا (القرن التاسع‬

‫حين شبه الجزيرة العربية هي امتداد للعربية‬

‫شفاهية فقط أما القومية فهي مجموعة‬

‫أراس في أذربيجان والبحر المتوسط بينما‬

‫‪.‬‬

‫ذاكرة جمعية كتابية تمتد لما قبل القرن‬ ‫التاسع عشر إن لم يكن السابع عشر‪ ،‬أي أنها‬ ‫أنجزت منظومتها الثقافية المدونة قبل هذا‬

‫التاريخ بفترة‪ ،‬والمنظومة هي إنجاز تصور‬ ‫لتاريخها الجماعي ورموزها وقيمها المعبرة‬

‫عنها وتدوين ذلك‪.‬‬

‫اللغة األم واللغة األولى الرسمية‬

‫مثل نهر الفرات‪ ،‬فحصروها في الصحراء‪ ،‬في‬

‫التي جعلها المؤرخون اإلغريق تمتد إلى جبل‬ ‫البحر األحمر عندهم هو البحر العربي ألن‬

‫العرب ينتشرون على ضفتيه‪ ،‬كما ذكروا أن‬

‫النيل من جنوب مصر وحتى العمق السوداني‬

‫اليوم يسكنه العرب‪ ،‬وثمة مناطق واسعة‬ ‫من منطقة الهالل الخصيب الكبرى وشمال‬

‫شرق وشرق إفريقية كانت أماكن سكنى‬

‫‪.‬‬

‫العرب قبل اإلسالم ودلتا النيل هي إحدى‬

‫الواليات الثالث مع العراق الشمالي وسورية‬ ‫التي في وثائق الرومان يطلق عليها العربية‪،‬‬

‫ال يفرق الكاتب بين اللغة األم واللغة األولى‪،‬‬

‫وفي تركيا كانت ممالك عربية قبل الميالد‪،‬‬

‫معها‪ ،‬ربما انطلق من‬

‫هذا على العرب؛ ينظرون للشعوب واألعراق‬

‫لكني أميل إلى أن األولى هي اللغة التي‬

‫يكتب بها ويتعامل‬

‫منطلق الكتابة؛ إذ ثمة شعراء وأدباء كتبوا‬

‫بلغة تختلف عن لغتهم األم‪ ،‬حتى حين غادروا‬ ‫بلدانهم إلى بلدان تختلف لغويًّ ا لم يجربوا‬

‫الكتابة باللغة األم‪ ،‬وبقيت اللغة األولى هي‬ ‫ً‬ ‫عادة هي لغة‬ ‫لغة إبداعهم‪ ،‬لكن اللغة األولى‬

‫كما أن المستشرقين أنفسهم حين يدعون‬ ‫التي تعيش في منطقة ما‪ ،‬قبل أكثر من ألف‬ ‫سنة على أنها أصيلة وهو ما نراه فيما يخص‬ ‫الماوْ ريين في نيوزلندا والعديد من األقوام‬

‫في بريطانيا وسواها‪.‬‬

‫يذكر المؤلف عن الرحالة الفاطمي بن سليم‬

‫رسمية‪ ،‬وإن كان ثمة خروج عن هذه القاعدة‪-‬‬

‫األسواني؛ حين زار بالد النوبة عام ‪975‬‬

‫التطرف العنصري التركي نهاية القرن التاسع‬

‫المحليين‪ ،‬لدرجة أن كثيرين منهم نسوا اللغة‬

‫كما نرى عند شعراء وأدباء نشأوا في فترة‬ ‫عشر‪ -‬ومع ذلك كتبوا بالعربية وهم من أرومة‬

‫غير عربية‪ ،‬وهذه النقطة تحتاج إلى دارسة‬

‫ً‬ ‫علميا بالمعنى العلمي‬ ‫تطبيقا‬ ‫مخرجاتهما‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫وفقا لعلم اللغة االجتماعي‪،‬‬ ‫للتخطيط اللغوي‬

‫لكن نصوص اتفاقية السالم الشامل ‪2005‬م‪،‬‬

‫والجملة هي “ما بين السوداني العريق‬

‫جملة كثيرا ما ترددت من دون وجه حق‪،‬‬

‫ذاته‪ ،‬وفي الترويج لهذه القيم والرموز"‪.‬‬

‫سكانية عادة تخلو من النقاء العرقي‪ ،‬ولديها‬

‫‪.‬‬

‫اللغات السودانية غير العربية‪ ،‬وأبدت اهتمامً ا‬ ‫واضحا بها ولم تستثن ً‬ ‫ً‬ ‫لغة دون أخرى‬

‫قبل اإلسالم في شبه الجزيرة العربية التي‬

‫عشر وما بعده) فهي مجموعة تملك ذاكرة‬

‫الشذرات التي وردت في مؤتمر الرجاف‬ ‫طبق‬ ‫‪1928‬م‪ ،‬واتفاقية أديس أبابا ‪1972‬م ولم ُت ّ‬

‫وفي أثناء استعراضه لهذا التنوع ذكر‬

‫بالتأكيد وجود مجموعة أفراد متخصصة‬ ‫كلي ًة في إيجاد رموز وقيم عامة‪ ،‬وتصدر عن‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫إذا الفرق بين اإلثنية والقومية كما أعتقد‪،‬‬

‫السودانية في الفترة الزمنية من ‪1898‬م وحتى‬

‫ً‬ ‫واضحا ال لبس‬ ‫أوردت ألول مرة ورو ًدا‬

‫األعاجم من مستشرقين ومَ ن سبقهم ممن‬

‫هذا الماضي الجماعي‪ُ ،‬‬ ‫وتعَ ّبر عنه في الوقت‬

‫أن االختالط والتزاوج ُسنّة الحياة منذ القدم‪،‬‬

‫ً‬ ‫بإمكان لغة كتابية أن تزيح ً‬ ‫كتابية أخرى‪ .‬والنقاء العرقي أسطورة أكثر منه حقيقة‪.‬‬ ‫لغة‬

‫وليس من الضروري أن تشترك في رابطة‬ ‫ً‬ ‫ووفقا لعالم االجتماع اللغوي‬ ‫الدم الحقيقي‬ ‫فيشمان فإن اإلثنية تنتقل وتتحول إلى‬

‫العرب قبل اإلسالم”‪ ،‬عن توغل العرب بين‬ ‫اآلراميين حتى ذابوا فيهم‪ ،‬وهي ّ‬ ‫أدلة على‬

‫ميالدية؛ وجد أن العرب قد اختلطوا بالسكان‬

‫‪.‬‬

‫العربية وهذه الشهادة التاريخية ذكرتني‬ ‫بما أورده جواد علي في “المفصل في تاريخ‬

‫تصب في مصلحة‬ ‫نصوصا‬ ‫ً‬ ‫فيه وال غموض‬ ‫ّ‬

‫وأخيرًا‬

‫أورد‬

‫الباحث‬

‫سبعة‬

‫‪.‬‬

‫مقترحات‬

‫وتوصيات‪ ،‬نوجزها بما يلي‪ :‬قيام مسوح‬

‫‪.‬‬

‫لغوية اجتماعية علمية جادة وشاملة إيالء‬ ‫أمر التخطيط اللغوي والسياسة اللغوية إلى‬ ‫جهات ومراكز ومؤسسات بحثية وأفراد‬

‫‪.‬‬

‫ذوي صلة اإلسراع في إنشاء مراكز بحثية‬ ‫ُتعنى باللغات السودانية‪ ،‬ودعم القائم‬ ‫منها‪ ،‬لتمنح درجات علمية في هذه اللغات‬

‫‪.‬‬

‫وأوضاعها تشجيع الدولة للدراسات التي‬ ‫ُتعنى باللغات السودانية‪ ،‬وتشجيع المبادرات‬

‫‪.‬‬

‫الفردية والمؤسساتية الداعمة لها تحييد‬

‫األيديولوجيات والسياسة عمومً ا‪ .‬المساواة‬ ‫ً‬ ‫وفقا للتشريعات الدولية‪.‬‬ ‫بين اللغات قاطبة‪،‬‬ ‫رفع الوعي اللغوي لتقليل اللغات المهددة‬

‫باالنقراض‪ ،‬ونفي الشعور بضعة مكانة هذه‬

‫اللغات‪.‬‬

‫أعتقد أن المكتبة العربية بحاجة ماسة‪ ،‬لكتب‬

‫تتناول التنوع اللغوي والعرقي والقومي‬

‫واإلناسي‬ ‫والديني والمذهبي واالجتماعي‬ ‫ّ‬ ‫(األنثروبولوجي) في العالم العربي‪ ،‬على أن‬

‫يتم توزيع هذه الكتب بشكل جيد‪ ،‬بحيث ال‬ ‫تخلو مكتبات الجامعات والمعاهد والكليات‬

‫والمكتبات العامة منها‪ ،‬وتتبناها جامعة‬ ‫الدول العربية‪ ،‬فثمة كتب كثيرة تتناول هكذا‬

‫مواضيع طبعت طبعات محدودة أو على‬ ‫نفقة المؤلف‪ ،‬ولم يُ ّ‬ ‫سلط عليها الضوء‪ ،‬وهو‬ ‫ما حدث مع مؤلف هذا الكتاب‬

‫شاعر من العراق مقيم في الخرطوم‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪151‬‬


‫كتب‬

‫«أنا وأنت» ألحمد الخميسي‬ ‫واإلنسانية المهدورة‬

‫واقع كابوسي‬ ‫وخيال فانتازي‬ ‫ممدوح فرّاج النابي‪ ‬‬

‫يميل‬

‫نتاج أحمد الخميسي القصصي إلى الترميز‬ ‫ً‬ ‫وأيضا النزوع إلى اإلنسانية بمعناها الرحب‪،‬‬

‫واالنحياز لمهمّ شيها والغضب على حقوقهم المسلوبة‬

‫والضائعة أينما وجدوا‪ ،‬وإن كان يُ عبِّر عن هذا في إطار‬ ‫السياسية‬ ‫سخرية مريرة من الواقع بكل إحباطاته‬ ‫ّ‬

‫العالمية وما‬ ‫كنوع من اإلدانة الكاملة للسياسة‬ ‫واالجتماعية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫اقترفته من أخطاء عانى ويالتها األطفال والفقراء والضعفاء‬ ‫في كل أصقاع العالم‪ ،‬فتساوت الطفولة المشردة بين‬

‫الجنسيات المختلفة‪ ،‬البوسنة والهرسك والسودان‪ ،‬مع أطفال‬

‫مصر‪.‬‬

‫الرمزي والواقعي‬

‫ِّ‬ ‫قصة متقاسمة بين‬ ‫تتكوّ ن المجموعة من خمس عشرة‬ ‫القصة القصيرة التي ال تتجاوز الصفحة الواحدة كقصص‬ ‫(النور‪ ،‬وجه‪ ،‬مرآة‪ ،‬طرح القلب)‪ ،‬والقصة الطويلة التي تنتصر‬

‫للحكي والسرد والشخصيات كما في قصص (سأفتح الباب‬ ‫ً‬ ‫وأيضا بيت جدي التي تنزع الختراق حدود‬ ‫وأراك وآليونا)‬ ‫َّ‬ ‫الموزعة‬ ‫القصة إلى أنواع أرحب وتحتمل لكثير من التفاصيل‬ ‫داخلها إلى جانب التقاطعات مع الجوانب السيرية الذاتية‬

‫ً‬ ‫وأيضا الثقافية في تقديمها لمحة عن حركة اليسار المصري‪.‬‬ ‫الجامع بين هذه القصص إلى جانب السخرية المريرة من‬ ‫ّ‬ ‫المتهكم‬ ‫األوضاع بأسلوب يمزج فيه بين الفصيح والعامي‬

‫‪.‬‬

‫السرد الكالسيكي‪،‬‬ ‫في الحوارات كما يزاوج في قصصه بين ّ‬

‫السرد الذي يعمد إلى التقنيات الحداثية حيث النصوص‬ ‫وبين ّ‬

‫تميل إلى التكثيف واالنفتاح على أنواع أخرى ال صلة لها بما‬ ‫هي مكتوبة تحت إهابه سوى في نقلها للواقع بقسوته إلى‬ ‫المتن الحكائي دون بالغة زائدة أو حتى فائض لغوي‪ ،‬فتتغير‬

‫وظيفة القصة لتأخذ شكل التقرير اإلخباري‪ ،‬حيث يزودها‬

‫بالمعلومات الحقيقية التي تخدم غرض القصة نفسه‪ ،‬على‬ ‫نحو ما نجده في تقرير الجهاز المركزي لإلحصاء عن أطفال‬

‫ِّ‬ ‫المصور الصحفي والنهاية‬ ‫الشوارع‪ ،‬وبالمثل تقرير عن حكاية‬ ‫التي انتهى إليها بعد حصوله على جائزة الصورة التي التقطها‬

‫للطفل في إحدى قرى السودان النائية‪.‬‬

‫يفارق العنوان في «أنا وأنت» داللته المباشرة التي يقصدها‪،‬‬

‫أدبية‬ ‫أحمد الخميسي كاتب مصري ينتمي إلى عائلة‬ ‫ّ‬ ‫فوالده ّ‬ ‫الشاعر الرَّ احل عبدالرحمن الخميسي‪ ،‬يكتب‬

‫فيتجاوز العالقة الشخصية بين السارد وزوجته الراحلة في‬

‫مراوحة بين الحضور والغياب‪ ،‬إلى اآلخر المهمّ ش والمقموع‬ ‫مكان مُ ِّ‬ ‫سجالً حالة من التعاطف والتماهي معه أينما‬ ‫في كل‬ ‫ٍ‬

‫‪.‬‬

‫القصة القصيرة‪ ،‬نشر أعماله في مجالت “صباح الخير”‬

‫كان ومع هذا ال يُ فارق العنوان داللته البسيطة في عالقته‬

‫المصطلحات األدبية عن الروسية”‪“ ،‬المسألة اليهودية‬

‫يسري عبيرها في داخله حتى يتحوّ ل إلى شجرة كما في‬

‫و”القصة” و”الكاتب” وغيرها‪ ،‬له في الترجمات “معجم‬

‫لألديب الروسي دوستويفسكي”‪ ،‬و”نجيب محفوظ في‬

‫مرايا االستشراق”‪ ،‬ومن أعماله القصصية‪“ :‬قطعة ليل‬

‫كناري”‪ ،‬و”رأس الديك األحمر”‪ .‬صدر له مؤخرًا «أنا وأنت»‬

‫عن دار نشر كيان ‪.2015‬‬

‫بزوجته الفقيدة‪ ،‬التي يتردد طيفها في أكثر من قصة‪ ،‬بل‬

‫‪.‬‬

‫قصة «طرح القلب» ثمّ ة مراوحة في النصوص بين الرمزي‬ ‫والواقعي‪ ،‬فيتقاطعان معً ا كنوع من ِّ‬ ‫رد الدال إلى المدلول‬ ‫دون الحاجة إلى فك شفرات وتأويالت تذهب بالنص إلى‬

‫غير ما هدف وابتغى السارد‪.‬‬

‫الرمزية موغلة في قصة «روح الضباب» رغم الواقعية التي‬ ‫تحيل إليها فالقصة تلخص حالة الضباب التي اعترتنا بعد‬ ‫الرئيسيتين الهاربتين من‬ ‫الشخصيتين‬ ‫الثورة‪ ،‬في صورة‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬

‫‪152‬‬


‫ً‬ ‫أيضا إلى مجهول «لمح‬ ‫مجهول والذاهبتين‬ ‫ٍ‬ ‫بصيص نور في آخر زقاق عن يمينه انطلق‬

‫فالسارد يسرد عن الحرية الضائعة‬ ‫ضائعة»‬ ‫ّ‬

‫مختلفان‪ ،‬وال ينتميان لبعض لكن يربطهما‬

‫يطير العصفور يسير على األرض‪ ،‬وعندما‬

‫‪.‬‬

‫نحوه وقبل أن يصل إليه تفجر النور أمامه‬ ‫ً‬ ‫حريقا هائالً» هما على مستوى الحدث‬

‫الفنتازيا الممزوجة باأللم في قصة «سماء‬

‫الزمن وتسرسبه في غفلة منا له حضوره‬

‫التي فقدت األمل في أن ترفرف في ظل‬ ‫عدم وجود المناخ المناسب‪ ،‬فبدالً من أن‬

‫أشبه بمرثية لحالة التالهي التي نعيشها‬

‫الخوف والمصير المجهول وحالة الضبابية‬ ‫ّ‬ ‫كل‬ ‫التي أفقدتهما التمييز «في الحرب‬

‫عدم طيرانه يأتي جواب العصفور فانتازيا‬

‫أي حرب نخوض» هي صورة‬ ‫وال نعرف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ملخصة لوضعية األحداث بعد الثورة وكأنها‬

‫ورغم مرور أعوام كثيرة وتب ّدل ملوك وقيام‬

‫األشباح فعلى ح ّد قول البطل حاتم «لم يمر‬

‫السلبية) حيث ال بارقة أمل‪ ،‬وجرى الزمن‬ ‫قمّ ة ّ‬

‫ٍ‬ ‫مفهوم‪ ،‬أما اآلن فإننا ال نرى العدوّ ‪،‬‬ ‫شيء‬ ‫ٍ‬

‫‪.‬‬

‫أشبه بمرثية لهذه الثورة التي سيطرت عليها‬

‫يدور الحوار بين العصفور والطفل عن سبب‬

‫حروب وغيرها إال أن الحالة واحدة (وهي‬

‫يكون نتائجها األمان كان الخوف وانعدام‬

‫معتمة‪ ،‬حتى الجو لم يعد يعبره طير وال نحل‬

‫‪.‬‬

‫كأنه مرسوم في لوحة» ومع حالة الرمزية‬

‫ّ‬ ‫القصة حيث األصوات‬ ‫التي تشير إليها‬ ‫المرعبة‪ ،‬إال أن الواقع ومآسيه حاضران‬ ‫في تلك المشاهد التي ينقلها أبطال الرواية‬ ‫عن مآسي المعذبين في البوسنة والهرسك‬

‫وضحايا الحروب وأطماع السلطة كما في‬

‫حكاية كيفين كارتر الذي التقط صورة الطفل‬ ‫السوداني عام ‪ ،1993‬وانتحاره بسبب مطاردة‬ ‫ذكريات القتل والجثث والغضب واأللم‬

‫واألطفال الجائعين والجرحى‪ ،‬ومن ثمة تأتي‬ ‫هذه القصة لتكون حاف ًزا لبطلي القصة حاتم‬ ‫وهدى للخروج من المخبأ ومواجهة العزلة‬

‫والموت التي يفرضها النظام‪ ،‬وهو األمل الذي‬ ‫السارد رغم حالة الضباب‪ ،‬والذي يتكرّ ر‬ ‫سرَّ بَه ّ‬

‫مرة ثانية في قصة «سماء ضائعة»‪.‬‬

‫العصافير إلى أذرع‪ ،‬والسيقان الدقيقة إلى‬

‫كما تميل بعض القصص إلى الفنتازيا سواء‬

‫‪.‬‬

‫في المتن كما في قصة «روح الضباب» أو‬ ‫في العنوان كما في قصة «الصبي الذي يأكل‬

‫الماء» فالعنوان يميل إلى الفنتازيا‪ ،‬على الرغم‬ ‫من واقعية القصة المؤلمة‪ ،‬كأن يعمد السارد‬

‫إلى كسر حدة الواقع المؤلم بهذه الفنتازيا‪،‬‬ ‫وهناك نوع ثالث من الفنتازيا رغم واقعية‬

‫الصورة‪ ،‬ولكن في حدوثه تجاو َز تأثير‬ ‫الفنتازيا كما في صورة الطفل في إحدى قرى‬

‫السودان والمطاردة المثيرة بينه وبين النسر‬

‫‪.‬‬

‫الذي ينتظر سقوطه لالنقباض عليه تتكرر‬

‫لهذا الشهر من أعمال‪ ،‬ما بين أعمال منزلية‬ ‫عجوز منهك‪ ،‬تجاعيد عميقة حول عينيه»‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫صاحب الوجه في لحظة المرآة وهي اللحظة‬

‫الصادقة يُ درك أنه في أثناء صراعه مع الدنيا‬ ‫لم يبق من العمر إال تلك المالمح المنعكسة‬

‫‪.‬‬

‫على المرآة تكرر سرقة العمر ولعبة الزمن‬

‫العصافير للواقع المفروض عليها‪ ،‬حتى غدت‬ ‫ّ‬ ‫تحقق لها‬ ‫تنفخ الهواء بضجر‪ ،‬فشلت في أن‬

‫يصوّ ر مشاعر األب المتضاربة بين الفرح‬

‫الحصار والفشل في أن يعمل مثلما يعمل‬

‫ِّ‬ ‫يجسده في صورة ابنته بفستان‬ ‫العمر وهو ما‬

‫وجودها في الطبيعة الجديدة‪ ،‬ومع حالة‬ ‫البشر‪ ،‬يقاوم وهي النافذة الوحيدة لألمل‬ ‫السارد بعد حالة من اليأس‬ ‫التي تركها‬ ‫َّ‬

‫«فشب على أصابع قدميه ورفرف‬ ‫والتشاؤم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫بذراعيه ألعلى بحثا عن السماء الضائعة»‬

‫في قصتي «مرآة» و«خطوبة»‪ ،‬وفي خطوبة‬ ‫لخطوبة ابنته لتبدأ حياة جديدة‪ ،‬وبين مرور‬

‫الزفاف األبيض وصورة زوجته بلون الغياب‪.‬‬

‫ً‬ ‫أيضا كما في قصة‬ ‫المعاني الفلسفية حاضرة‬ ‫«النور» وهي أقصر القصص تقري ًبا‪ ،‬يأخذنا‬

‫‪.‬‬

‫السارد في معنى فلسفي حول ماهية النور‪،‬‬ ‫ّ‬

‫الكاتب في قصة «ليلة بال قمر» فأثناء حكيه‬

‫العشق‪ ،‬فمع أن العشق صار يسري في‬ ‫ِّ‬ ‫كل مكان ومصدره القمر‪ ،‬لكن الغريب أن‬

‫كما ال تفارق الفنتازيا التاريخ الذي يعود إليه‬ ‫عن المُ وكل لهم باإلعدام وعندما ينقص منهم‬

‫واحدا في مشهد فنتازي‪ ،‬يكون البديل الذي‬ ‫ينقذهم من مصير الذين أعدموهم في أقرب‬

‫شخص يلوح لهم‪.‬‬

‫السارد هو قصص‬ ‫فمصدر النور كما يرى‬ ‫ّ‬

‫السماء لم تعد تلهم البشر دروب العشق‪،‬‬ ‫نفس المعاني الفلسفية العميقة حاضرة في‬ ‫ِّ‬ ‫يؤكد‬ ‫قصة «قرب البحر»‪ ،‬حيث المعنى الذي‬

‫حالة الحنين بمعناه الواسع سواء الحنين إلى‬

‫وغير‬ ‫السارد أن اإلنسان مهما ب ّدل اللغة‬ ‫عليه َّ‬ ‫ّ‬

‫ِ‬ ‫“أنا‬ ‫وأنت” و”طرح القلب” فيستحضرها تارة‬

‫وهو المعنى الذي يشعر به مَ ن يحمل ُهويات‬ ‫ِّ‬ ‫متعددة‬

‫الحبيبة الغائبة بفعل الموت كما في قصتي‬ ‫كشخص له وجود فيزيقي ملموس حاضر‪،‬‬

‫يتبادالن الطعام في مشهد رومانسي يغلف‬ ‫القصة برومانسية شفيفة هي األخرى مفتقدة‬

‫الزمن المنسرب‬

‫السارد في انهماك يراجع خططه‬ ‫فبينما‬ ‫ّ‬

‫وعندما يبحث عن صاحبه يكتشف أنه هو‬

‫أرجل غليظة» ومع حالة المعايشة لهذه‬

‫محطات المترو‪ ،‬األسواق‪ ،‬نوافذ البيوت‬

‫ّ‬ ‫قصة «وجه»‬ ‫العمر في غفلة منه كما في‬

‫وكتابية‪ ،‬حتى يفاجأ في المرآة بـ«وجه رجل‬

‫علينا زمن كهذا‪ ،‬ال ندري فيم نحن غارقون‪.‬‬

‫الرؤية والمصير المجهول «كل شيء على‬ ‫حاله‪ ،‬الشوارع مهجورة‪ ،‬المحالّت مغلقة‪،‬‬

‫عن االستمتاع بهذه القيمة التي منحها هللا‬ ‫لإلنسان فصار غافالً عنها‪ ،‬حتى يفاجأ بسرقة‬

‫«ليس ثمّ ة سماء» وعندما يريد أن يختبر‬ ‫ً‬ ‫فراغا غائمً ا”‪،‬‬ ‫الطفل صدق العصفور “فشاهد‬

‫حتى اختفى نهر الزمن‪ ،‬فتحولت «أجنحة‬

‫ال ندري من أين أو إلى أين نمضي» وبدال ما‬

‫الطاغي داخل القصص‪ ،‬وإن كان حضورًا‬

‫في الكتابة القصصية‪ ،‬وتارة أخرى عبر‬

‫االستيقاظات المتوالية على روائحها النفاذة‪،‬‬

‫ِّ‬ ‫يعوض به حالة‬ ‫والتي يعقبها حِ وارٌ مُ تبادل‬

‫‪.‬‬

‫الغياب المادي والحقيقي أو بافتقاد القيم‬

‫وأخالقيات الماضي‪ ،‬كما في قصة «بالميرو»‬ ‫حيث الحنين إلى زمن ومشاعر غائبة‪ ،‬فما‬ ‫ّ‬ ‫ارد‪/‬الصحفي إلى المكان الخطأ‬ ‫الس‬ ‫أن يدخل َّ‬

‫ليرسل رسالته عن واقع االحتفال للجريدة‬ ‫التي أرسلته إلى هنا‪ ،‬فمن خالل تعامله مع‬

‫تحسر لهذه‬ ‫أصحاب المكان نراه في حالة‬ ‫ُّ‬

‫األولية الغائبة‪ ،‬والتي ما أن تتجسد‬ ‫العالقات‬ ‫َّ‬

‫له في أصحاب المكان حتى يشعر بالغربة‪.‬‬

‫األوطان‪ ،‬لكنه ال بد أن يعيش في وطن واحد‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫ٍّ‬ ‫بترو‬ ‫على الجملة نحن مع قصص مغزولة‬

‫وأناةٍ ‪ ،‬ال فائض لغويا في لغتها‪ ،‬جعلت من‬

‫اإلنسان ومأساته تيمتها‪ ،‬مراوحة بين الواقع‬ ‫حينًا إلى الفنتازيا حينًا آخر لتهرب منه‪ ،‬حتى‬

‫الرمزية التي غلبت على كثير من القصص‬ ‫فمع األسف تتجاور وتتماس مع واقعنا في‬

‫كابوسيته‪ ،‬وكل هذا جاء عبر لغة طيعة‬

‫جذلة في فصاحتها‪ ،‬صارمة وحادة في‬ ‫ً‬ ‫إحالتها ال تحتمل تأويالً‬ ‫ّ‬ ‫يخل بالمعنى‬ ‫مفرطا‬ ‫ً‬ ‫وأيضا‬ ‫الحاملة له‪ ،‬في واقعيتها وسخريتها‬ ‫في عذوبتها ورقتها في التعبير عن الحب‬

‫واالفتقاد والحنين‬

‫كاتب من مصر‬ ‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪153‬‬


‫كتب‬

‫المختصر‬ ‫كمال البستاني‬

‫التعصب أو الجنون الجماعي‬

‫كيف نفهم أن أفرادا يمكن أن يهجموا في شكل جماعات‬ ‫لقتل آخرين ؟ عادة ما يعزى ذلك إلى التعصب‪ ،‬كمرض‬ ‫ذهني عابر لألزمنة‪ ،‬ال يمكن القضاء عليه إال بالعنف‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫ليجتث كما يجتث الورم الخبيث ولكن جيرار حداد‪،‬‬

‫أستاذ التحليل النفسي المطلع على مختلف الكتب‬

‫السماوية‪ ،‬يذهب مذهبا آخر إذ يقترح في كتابه “في‬ ‫يد الرب اليمنى” تحليل مختلف العوامل‪ ،‬التي شجعت‬

‫‪.‬‬

‫التعصب في الماضي والحاضر ويغوص في أعماق‬ ‫النفس ليعرف كيف يصبح المرء متعصبا‪ ،‬والمنابع‬

‫السيكولوجية التي تروي متعة الذي يتصور أنه يملك‬ ‫وحده الحقيقة‪ ،‬ويصف هوس المؤامرة واإليمان بأن‬

‫اللحظة الحاسمة التي ستكشف له العالم قد أزفت‪،‬‬

‫ليقترح قراءة أنتروبولوجية ونفسية لجنون جماعي‪ ،‬ال‬

‫‪.‬‬ ‫العدو هي خير وسيلة لمحاربته على قدم المساواة‪.‬‬

‫تخلو منه مختلف األديان والحضارات ويرى أن معرفة‬

‫من أجل تاريخ آخر‬

‫جديد المؤرخ مارك فيرّ و كتاب بعنوان “العمى – تاريخ آخر‬ ‫لعالمنا” يتساءل فيه عن العمى الذي ضرب على أبصار‬

‫العالم منذ الحرب العالمية األولى حتى صعود اإلسالم‬

‫الراديكالي مرورا بالفاشية والنازية وسقوط الشيوعية‬ ‫وأحداث ‪ 11‬سبتمبر واألزمات االقتصادية التي فاجأتنا‪،‬‬

‫وال تزال‪ ،‬برغم تطور اإلعالم‪ ،‬حيث تصل المعلومة اآلن‬

‫‪.‬‬

‫في التو واللحظة إلى أقصى بقعة في األرض فترات‬

‫حرجة لم تستطع‪ ،‬أو لم تشأ‪ ،‬بلدان وساسة ونخب‬

‫وشعوب مواجهتها إال بعد فوات األوان‪ ،‬بسبب جملة‬ ‫من العوامل كغياب الشجاعة أو سوء التقدير أو التحليل‬

‫الخاطئ أو اإلنكار أو نتيجة وطأة األوهام والنظريات‪.‬‬

‫ويتساءل الكاتب في خضم هذه الهزات العنيفة التي ال‬ ‫نزال نشهدها حتى اليوم هل يمكن توقع كل شيء‪ ،‬وهل‬ ‫نكتفي بالفهم أم نمر إلى المواجهة ؟ وهل يمكن تصور‬

‫مخرج لما يج ّد عبر العالم من أزمات ونزاعات ؟ كتاب‬

‫ال يكتفي بطرح تلك األسئلة بل يستكشف أسباب عمى‬

‫العالم رغم وجود زعماء ومفكرين يملكون رؤية نافذة‪.‬‬ ‫داعش وخطر التقسيم‬

‫“داعش‪ ،‬التهديد األكبر” عنوان كتاب جديد للمؤرخ‬

‫والمحلل السياسي ألكسندر أدلر‪ ،‬صاحب أسبوعية “البريد‬ ‫العالمي” يؤكد فيه أن كل المؤشرات تفيد بأن الشرق‬

‫األوسط دخل في منطقة زوابع غير مسبوقة‪ ،‬حيث‬ ‫يتوقع أن يعاد توزيع كل األوراق على غرار ما حصل‬

‫إثر تفكك اإلمبراطورية العثمانية‪ .‬فقد بدأ يتحلل بظهور‬ ‫داعش الذي شكل صدمة بنيوية تهز أسس عدة دول‪.‬‬

‫ويتساءل الكاتب عن هذا التنظيم القوي الذي يتشكل‬ ‫في دولة تطمح أن تكون عابرة للقارات‪ ،‬وما دوافعه ؟‬

‫هل هو الحقد على الغرب‪ ،‬أم الوجه الراديكالي لإلسالم‪،‬‬

‫‪154‬‬


‫أم هو سمة من سمات منطقة مختلة التوازن‬

‫إلى إيديولوجيا تعاملهن كاإلماء‪ ،‬وكيف‬

‫في القرن الثالث الميالدي‪.‬‬

‫متوافرة في مصنع التاريخ ‪ :‬تردد أمريكا‪،‬‬

‫أن تقترح شكال توتاليتاريا لـ “الكل الديني”‪.‬‬

‫زاوجت بين الفن الغريكو روماني والمؤثرات‬

‫من زمن بعيد ؟ وفي رأيه أن كل العناصر‬

‫قوة الهالل الشيعي‪ ،‬إيران الجديدة ومصر‬ ‫الجديدة‪ ،‬رهان األقطار المجاورة كتركيا‬

‫والسعودية واألردن‪ ،‬الحرب بال رجال…‬

‫كسر الطوق الجهادي‬

‫استطاعت هذه الصيغة المتطرفة لإلسالم‬

‫أما الثالث فيعالج القضية من زاوية قضائية‪،‬‬

‫ويحلل هوامش المناورة المتاحة للغرب‬ ‫وللعالم اإلسالمي والوسائل التي يمكن‬

‫توفيرها لمقاومة هذا الوباء المعاصر‪.‬‬

‫للمقالة التحليلية لهذا العام‪ ،‬تحلل دنيا‬

‫اإلسالم السياسي جيل كيبل كتاب بعنوان‬

‫التي يلجأ إليها الجهاديون في داعش‬ ‫وجبهة النصرة الستقطاب الشباب الفرنسي‪،‬‬ ‫مستفيدة في ذلك من تجربتها الميدانية‬ ‫في وصف التحوالت التي تطرأ على وقع‬ ‫تجنيده للجهاد‪ ،‬حيث يبدأ المجند بشطب‬ ‫عائلته وااللتحاق بعائلة جديدة تعوضها هي‬

‫الجماعات الراديكالية اإلسالمية‪ ،‬وينوب‬

‫التقليد والتكرار استعمال العقل‪ ،‬وتصبح‬ ‫الجماعة هي التي تفكر بدال عنه وينعدم‬

‫إحساسه بالناس وبالوجود فال يفكر إال في‬

‫‪.‬‬

‫القتل والموت فهل يستطيع الشباب المغرر‬ ‫به إيديولوجيا أن يكسر الطوق ويفك القيد‬

‫ليستعيد حياة طبيعية كسائر الشبان ؟ تقول‬

‫جديد الباحث المتخصص في جماعات‬

‫“رعب في فرنسا”‪ ،‬ينطلق فيه من السنوات‬

‫العشر التي تمتد من أحداث الشغب في‬ ‫ضواحي بعض المدن الفرنسية التي اندلعت‬ ‫في خريف ‪ 2005‬إلى غاية عملية شارلي‬ ‫هبدو ثم اعتداءات الباتاكالن‪ ،‬ليبين كيف‬

‫أن فشل السياسات االقتصادية وتهميش‬ ‫شباب الهجرة ما بعد الكولونيالية اجتماعيا‬

‫وسياسيا دفعا ببضعهم إلى التوسل بنموذج‬ ‫“إسالم‬

‫شامل”‬

‫مستوحى‬

‫من‬

‫السلفية‬

‫لاللتحاق بالقطب الجهادي الذي يريد تدمير‬

‫‪.‬‬

‫الغرب “الكافر” وكان لظهور جيل جديد من‬ ‫مسلمي فرنسا والتحوالت اإليديولوجية‬

‫للجهادية دور في انبهار عدد من الشبان‬

‫الفرنسيين بالمعارك في سوريا والعراق‪،‬‬

‫الكاتبة إن ذلك ممكن ولكنه عمل يستوجب‬ ‫إمكانات َ‬ ‫ونفسا طويال‪ ،‬حتى يستعيد اإلنسان‬

‫ينقلوا عملياتهم داخل فرنسا في الوقت‬

‫وأصحابه وباله‪ ،‬وحب الحياة ومباهجها‪.‬‬

‫حزب الجبهة القومية يهدد بتصدع المجتمع‬

‫ذاته ويستعيد إحساسه بالحب‪ ،‬حب أهله‬

‫الجهادية وسبل مقاومتها‬

‫ثم انضمامهم إلى جبهات القتال‪ ،‬قبل أن‬

‫‪.‬‬

‫نفسه صار صعود اليمين المتطرف وخاصة‬

‫الفرنسي الذي يواجه اليوم خطر أطراف‬ ‫متطرفة من الجهتين تريد أن تفرض مناخ‬

‫“الجهادية” كتاب يجمع مساهمات ثالثة‬

‫رعب وربما حربا أهلية‪.‬‬

‫الباحث الفرنسي فيليب ميغو والباحث‬

‫مؤرخ فرنسي يرثي تدمر‬

‫متخصصين في اإلرهاب اإلسالموي هم‬

‫اإليراني فرهاد خسروخاور وقاض لمكافحة‬ ‫اإلرهاب دفيد بنيشو‪ ،‬يطرحون األخطار‬

‫‪.‬‬

‫المحدقة وسبل التصدي لها يقدم األول‬ ‫بسطة عن مختلف الجهاديين وبنيتهم‬

‫اإليديولوجية‬

‫وقدرتهم‬

‫على‬

‫التعامل‬

‫االستراتيجي‪ ،‬طرقهم في الضغط‪ ،‬وسائل‬ ‫إعالمهم‪،‬‬

‫شبكات‬

‫تواصلهم‬

‫وتكوينهم‪،‬‬

‫أهدافهم وتشظيهم إلى مجموعات صغيرة‬

‫‪.‬‬

‫مزروعة في كل مكان أما الثاني فيتناول‬ ‫الظاهرة من زاوية اجتماعية ليبين كيف‬

‫يستقطب الجهاديون في العالم اإلسالمي‬ ‫وكذلك الغربي شبانا من األقلية المسلمة‬

‫ومن معتنقي اإلسالم وكيف تنجذب اإلناث‬

‫المحلية‪ ،‬ليبين في حسرة مرة أي كنز فقدت‬

‫‪.‬‬

‫اإلنسانية بتدميرها في عرضه لهذا الكتاب‬ ‫كتب ماتياس إينار المتوج بغونكور هذا العام‬ ‫‪“ :‬ال رثاء أصدق وأنبل من الرثاء الذي يخص‬

‫‪.‬‬

‫في كتابها “كيف الخروج من القبضة‬

‫بوزار عالمة أنتروبولوجيا األديان الوسائل‬

‫الباهرة‪ ،‬التي قامت على هندسة معمارية‬

‫به بول فيان مدينة تدمر ”‬

‫تصدع المجتمع الفرنسي‬

‫الجهادية” الفائز بجائزة مجلة لكسيبريس‬

‫ويصف معالمها‬

‫الثقافة لمقاومة الظالمية‬

‫“فولتير أو الجهاد” عنوان كتاب جديد لجان‬ ‫ّ‬ ‫بريغلي‪ ،‬عن دور الثقافة في مقاومة‬ ‫بول‬

‫‪.‬‬

‫الظالمية يبين فيه كيف انغرست “ثقافة‬

‫التعويض” ( وهو مصطلح عادة ما يستعمل‬ ‫في مجال تعاطي المخدرات ) كثقافة‬

‫الضواحي وثقافة الشباب في أدمغة أفرغت‬ ‫بعناية وصارت سهلة االختراق أمام هجمة‬

‫اإلسالم السياسي‪ ،‬معتبرا أن الوسائل التقنية‬

‫‪.‬‬

‫الحديثة هي سبب ذلك التعويض والكاتب‬ ‫يدين كافة األطراف من ساسة ومربين‬

‫وإعالميين‪ ،‬آثروا في رأيه االستسالم دون‬ ‫مقاومة أمام الجهل الزاحف الذي مثل‬

‫ذورته موقف ساركوزي من رواية أميرة‬

‫‪.‬‬

‫كليف لمدام الفاييت وفي رأيه أن الثقافة‬ ‫الفرنسية‪ ،‬كوريثة لعصر األنوار‪ ،‬مدعوة إلى‬

‫‪.‬‬

‫مواجهة الثقافة الظالمية يقول ‪ :‬هل نحن‬ ‫حقا ورثة فولتير أم أننا ننحدر إلى البربرية‬

‫دون أن نعي ذلك ؟ وهو السؤال الجوهري‬ ‫الذي يطرحه الكتاب على المسؤولين كافة‪،‬‬

‫والمتواطئين مع تلك االستقالة‪.‬‬

‫الهجرة كسبب للقلق الفرنسي‬

‫كتاب آخر عن تردي األوضاع في فرنسا‬ ‫عنوانه “التحلل الفرنسي ‪ :‬كيف وصلنا‬

‫بعد مؤلفاته عن السوسيولوجيا الرومانية‬

‫إلى هذا ؟” ومؤلفته مليكة صوريل وهي‬

‫لإلنيادة‪ ،‬صدر لبول فاين األستاذ الشرفي‬

‫بالمجلس األعلى لالندماج‪.‬‬

‫واألساطير‬

‫اإلغريقية‬

‫وترجمته‬

‫الرائعة‬

‫بالكوالج دو فرانس وواحد من أكبر‬

‫المؤرخين الفرنسيين المتخصصين في‬ ‫العصر الروماني القديم كتاب جديد بعنوان‬ ‫“تدمر‪ ،‬الكنز الذي ال يعوّ ض”‪ ،‬بعد أن استولى‬ ‫عليها برابرة داعش وعاثوا في كنوزها تدميرا‬

‫وتقويضا‪ ،‬ليذكر بظروف تأسيسها على يد‬ ‫سليمان كما جاء في التوراة‪ ،‬ومكانتها كقوة‬ ‫مشرقية عظمى ومركز اقتصادي وتجاري‬

‫مزدهر ودور الزباء في توسيع نفوذها في‬ ‫المنطقة وصراعها ضد اإلمبراطور أوريليان‬

‫باحثة فرنسية من أصل جزائري‪ ،‬وعضو‬ ‫تنطلق الكاتبة‬

‫من المنظومة اإلدارية والسياسية لتبين‬ ‫مقدار اإلفالس الذي أصاب نخبة فرنسية‬

‫تنهشها عيوب ال حصر لها كالتذلل والتهاون‬

‫والعجز وعدم الكفاءة والالمباالة‪ ،‬إلى جانب‬ ‫الجبن وما يتبعه من احتقار للحرية‪ ،‬حرية‬

‫‪.‬‬

‫الفكر خاصة وترى أن المنحدر الذي سارت‬ ‫فيه تلك النخبة التي تكاد ال تتغير بدأ منذ‬ ‫مدة طويلة‪ ،‬فهي نفسها التي بيدها السلطة‬

‫والنفوذ من زمن طويل‪ ،‬منحدر من سماته‬ ‫التخلي عن تحليل المشاكل بعمق واالعتراف‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪155‬‬


‫كتب‬

‫المختصر‬

‫إبراهيم الصلحي‬

‫باألخطاء واستحضار األسئلة المؤلمة التي‬

‫وهي ابنة مهاجرين‪ ،‬تدين الماسكين بالسلطة‪،‬‬

‫رسمية وبيانات ورسائل ونصوص نظرية‬

‫‪.‬‬

‫تكون خواتيمها في الغالب ال تسر فالكاتبة‪،‬‬ ‫الذين يدركون في رأيها الصعوبات المتعلقة‬ ‫بالهجرة واالندماج والتي تطرح اليوم بحدة‪،‬‬

‫فهي المصدر األكبر للقلق الجماعي الذي ما‬

‫انفك يسيطر على الفرنسيين‪.‬‬ ‫موسوعة اإلرهاب‬

‫نعيش اليوم عصرا عجيبا يجمع بين نقيضين‪،‬‬ ‫ثورة تكنولوجية وعلمية مذهلة تريد أن‬

‫تسمو باإلنسان‪ ،‬وثورة تدميرية تنتهك‬ ‫حرمة اإلنسان وتقوض منجزاته‪ ،‬قديمها‬

‫وحديثها‪ ،‬بأعمال إرهابية ما انفكت تتطور‬

‫‪.‬‬

‫لتأخذ أشكال إبادة جماعية أحيانا حتى‬

‫صار اإلرهاب حديث الساعة دون أن يكون‬

‫المتدخلون في الميديا وسواها على اطالع‬ ‫شامل بهذه الظاهرة‬

‫وجذورها‪.‬‬

‫“تاريخ‬

‫اإلرهاب‪ ،‬من العصر القديم إلى داعش” كتاب‬ ‫ضخم أراده مؤلفاه جيرار شاليان وأرنو‬

‫بالن موسوعة شاملة عن اإلرهاب في شتى‬ ‫أوجهه‪ ،‬ال تستعرض نشوءه وتطوره في‬ ‫مختلف الحضارات منذ القدم حتى أشكالها‬

‫الحالية بقدر ما تحلل األسباب التي هيأت‬ ‫لهذه الظاهرة عبر التاريخ‪ ،‬باالستعانة بخبراء‬

‫الباحثان على جملة من الوثائق من خطب‬ ‫ألهم اإلرهابيين في العالم من باكونين إلى‬

‫بن الدن والبغدادي‪.‬‬

‫العالم‪.‬‬

‫التاريخ المشترك‬

‫جديد جان بيير فيليو‪ ،‬أستاذ تاريخ الشرق‬

‫األوسط المعاصر في معهد العلوم السياسية‬

‫القضية الفلسطينية‬ ‫في عيون مستشرق‬

‫بباريس كتاب بعنوان “العرب‪ ،‬مصيرهم‬ ‫ومصيرنا” يعود فيه صاحبه إلى الحملة‬

‫“مسألة فلسطين” هو الجزء الرابع للكتاب‬

‫الفرنسية على مصر عام ‪ 1798‬ليقدم للقارئ‬

‫العالم‬

‫الصلة بتاريخ الغرب‪ ،‬وأوروبا‪ ،‬وفرنسا‬

‫الضخم الذي وضعه المؤرخ هنري لورانس‬

‫أحد‬

‫البارزين‬

‫المتخصصين‬

‫‪.‬‬

‫في‬

‫العربي وقضاياه ويغطي المرحلة الحساسة‬

‫الممتدة من ‪ 5‬حزيران ‪ 1967‬تاريخ الهزيمة‬

‫العسكرية النكراء لجيوش العرب أمام‬

‫الكيان الصهيوني‪ ،‬إلى ‪ 4‬حزيران ‪ 1982‬تاريخ‬ ‫االجتياح اإلسرائيلي‬

‫للبنان‪.‬‬

‫وفي رأيه‬

‫أنها مرحلة مهمة بلغ فيها الصراع العربي‬ ‫اإلسرائيلي أوجه قبل أن يتحول إلى صراع‬

‫‪.‬‬

‫فلسطيني إسرائيلي هذا الجزء يستعيد‬

‫الطابع الفريد للمراحل التاريخية لتلك الفترة‬

‫المضطربة‪ ،‬التي صار فيها الصراع األساس‬ ‫بين قوة غاصبة وشعب مقاوم يطرح ألول‬

‫تاريخا مغايرا عن العرب‪ ،‬وهو تاريخ وثيق‬ ‫تحديدا‪،‬‬

‫من‬

‫واالستعمارية‬

‫جهة‬

‫العنيفة‬

‫الحمالت‬

‫والوعود‬

‫العسكرية‬ ‫الكاذبة‬

‫والمناورات الدبلوماسية ومن جهة مساندة‬

‫الدكتاتوريات المجرمة أو األنظمة الرجعية‬

‫المستبدة‪.‬‬

‫هذا “التاريخ المشترك” سبب‬

‫مأساة العرب‪ ،‬ال ينبغي أن ينسينا تاريخا‬

‫آخر‪ ،‬مهمال وغير متداول‪ ،‬أال وهو تاريخ‬

‫االنفتاح الثقافي‪ ،‬الذي بدأ مع “أنوار العرب”‬ ‫في القرن التاسع عشر‪ ،‬وكذلك تاريخ الغليان‬

‫الديمقراطي والثورات االجتماعية التي عادة‬

‫‪.‬‬

‫ما تسحق سحقا قاتال وكالهما تعبير عن‬

‫مرة في شتى المحافل الدولية واإلقليمية‪.‬‬

‫رغبة في التحرر من الهيمنة الغربية ومن‬

‫في الكوالج دو فرانس‪ ،‬وفضله أنه يصف‬

‫رأي الكاتب أن العالم العربي‪ ،‬برغم تراجيديا‬

‫والكتاب هو خالصة عدة سنين من التدريس‬

‫عالميين‪ ،‬أكدوا أن إدراكنا لها تطور بدوره‪.‬‬

‫ما جرى في تلك الحقبة ليساعد على فهم‬

‫إطارها التاريخي‪ ،‬لحصر الرهانات الحالية‬

‫المعاصر وتطور مجتمعاته‪ ،‬والقواعد التي‬

‫فالراديكالية اإلسالمية مثال توضع هنا في‬

‫‪156‬‬

‫‪.‬‬

‫لهذه الظاهرة لم تستنفد مفعولها واعتمد‬

‫تنظم العالقات الدولية في هذه المنطقة من‬

‫اآلليات السياسية في الشرق األوسط‬

‫‪.‬‬

‫االستبداد لكي يكتب العرب تاريخهم وفي‬ ‫الحاضر‪ ،‬بصدد كتابة تاريخ يولد اآلن على‬

‫مرأى من الغرب‪ ،‬ولو بأحرف من دم‬

‫كاتب من لبنان مقيم في ليدز‪/‬بريطانيا‬


‫‪‎‬رسالة باريس‬

‫أسلمة الراديكالية‬ ‫أبو بكر العيادي‬

‫في‬

‫رأي بعض المحللين العارفين بشؤون اإلسالم والمسلمين مثل‬ ‫أوليفي روا وجيل كيبل وبيار جان لويزار فإن التفسيرات األكثر‬

‫ً‬ ‫رواجا لما جرى في فرنسا تصطدم بالسؤال التالي‪ :‬إذا كانت أسباب‬

‫الراديكالية بنيوية فلماذا ال تمس إال شريحة ضئيلة ممن نسميهم مسلمي‬

‫فرنسا؟ أي الذين ينعتون اليوم بالشباب المتطرف‪.‬‬

‫قلة قليلة توقفت عند هذا الشباب المتطرف‪ ،‬الذي يوصف مرة بالطابور‬

‫الخامس‪ ،‬ومرة أخرى بالعدو الداخلي‪ ،‬لتحلل َ‬ ‫كنهه والعوامل التي أدت‬

‫إلى تطرفه ثم جنوحه إلى العنف ض ّد بلد يفترض أنه واحد من مواطنيه‪.‬‬

‫هذا الشباب من يكون؟ وما هي دوافعه؟ وما هي المراحل التي مرّ بها كي‬

‫يصبح متطرفا‪ ،‬ألن اإلنسان ال يولد إرهابيا بل يغدو كذلك؟‬

‫ينتمي السواد األعظم من المتطرفين في فرنسا إلى شريحة عمرية‬

‫واحدة‪ ،‬تتراوح بين مرحلة ما قبل المراهقة (‪ 15‬سنة) وما بعدها بقليل (‪25‬‬

‫‪.‬‬

‫سنة) ومن النادر أن تتجاوز أعمار بعضهم الثالثين عاما هذه السن هي‬ ‫مرحلة تحوّ ل تمس أكثر جوانب الوجود حساسية‪ ،‬فجميع ُ‬ ‫مثل الطفولة‪،‬‬

‫التي لها صلة بإدراك الطفل للحياة والعالم والخير بشكل ساذج‪ ،‬تسقط‬ ‫في طور المراهقة‪ ،‬ويكتشف المراهق أن المجتمع تغلب عليه المظاهر‪،‬‬

‫وأن رؤية العالم كما يقترحها اآلباء كاذبة‪ ،‬عندئذ يشرع في استبدال مثله‬

‫الضائعة بمثل جديدة‪ ،‬وقد يقوده السعي إلى البحث عن النقاء والعدل‪.‬‬

‫هذا التحول‪ ،‬كما يقول فتحي بن سالمة أستاذ علم النفس المرضي‬ ‫بجامعة ديدرو بباريس‪ ،‬يصعب تحقيقه لدى الشبان الذين يعانون من‬ ‫اضطرابات هووية هامة‪ ،‬إمّ ا ألنهم تعرضوا لحوادث في حياتهم‪ ،‬وإما‬

‫أثارت أحداث باريس األخيرة ردود أفعال كثيرة‬

‫بسبب قصور وسطهم العائلي أو االجتماعي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حل للخروج من الفراغ وحتى الضياع‪.‬‬ ‫فهم عادة ما يكونون في انتظار‬

‫هما التفسير الثقافي والتفسير العالم ثالثي‪ .‬األول‬

‫الراديكالية القصوى تمنح هؤالء الشبان الذين يعيشون مشاكل عويصة‬

‫في األوساط الثقافية والفكرية والسياسية‪ ،‬ولم‬ ‫تخرج قراءة األحداث في عمومها عن منحيين‬

‫يضع في المقدمة صدام الحضارات‪ :‬ثورة الشبان‬ ‫أي درجة ال يمكن لإلسالم أن‬ ‫المسلمين ّ‬ ‫تبين إلى ّ‬

‫يندمج‪ ،‬ما لم يوجد إصالح فقهي يقصي الدعوة‬

‫وفي رأيه أن الخطاب الراديكالي ينفذ من هذه الثغرة‪ ،‬وأن األيديولوجيا‬

‫حال شافيا من سبل أخرى‪ ،‬وبذلك يفقدون ما يسميه تفردهم‪ ،‬أي ما يكون‬ ‫به اإلنسان إنسانا‪ ،‬ليصبحوا مشابهين لكل المجموعة أو الفرقة أو ال ِّنحلة‬

‫التي ينتمون إليها‪ ،‬وينعدم تعاطفهم مع بقية البشر‪ ،‬فيقتلون ويذبحون‬

‫إلى الجهاد من القرآن‪ .‬والثاني يستحضر المعاناة‬

‫ّ‬ ‫أي إحساس بالذنب‪.‬‬ ‫ويفجرون دون ّ‬

‫القضية الفلسطينية ورفضهم التدخل العسكري‬

‫الفرنسيين الذين اعتنقوا اإلسالم‪ ،‬فهم أيضا ينطلقون من تيه ومن‬

‫ما بعد الكولونيالية‪ ،‬وتماهي أولئك الشبان مع‬

‫الغربي في الشرق األوسط‪ ،‬وإقصائهم من المجتمع‬

‫الفرنسي العنصري والمعادي لإلسالم‪.‬‬

‫ينطبق هذا على الشباب ذي األصول العربية مثلما ينطبق على الشبان‬

‫وضع مأزوم ال مخرج منه‪ ،‬فيجدون في هذه األيديولوجيا ما يشبه‬

‫الديانة‪ ،‬ليس من جهة اليقين بالسلوى فحسب‪ ،‬بل من جهة انتسابهم‬ ‫إلى مجموعة فيها من يزر وزرهم ويفكر بدال عنهم ويخرجهم من عزلتهم‬

‫وينوب عن عجزهم على التكيف مع عالم اليوم‪.‬‬

‫فالتطرّ ف‪ ،‬كما يقول جيرالد بونر‪ ،‬أستاذ علم االجتماع بالجامعة نفسها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صحة فكرة وجدارتها‪ ،‬أي أ ّنه التزام‬ ‫ال يكون إالّ نتيجة اعتقاد جازم في‬ ‫يقسم األفكار المتطرّ فة إلى ثالثة‬ ‫راديكالية‪ ،‬ولو أن بونر‬ ‫راديكالي بفكرة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪157‬‬


‫أنواع‪ :‬أفكار ضعيفة االنتقال بين الذوات‪،‬‬ ‫أي ال تنتشر إالّ في صفوف عدد محدود من‬

‫طال الزمان أم قصر مثل سراب تحول إلى‬

‫األيديولوجيا تجتذب المنحرفين في الغالب‪،‬‬

‫ليست خالفة البوادي السورية‪ ،‬التي ستتبخر‬

‫الناس‪ّ ،‬‬ ‫ألنهم يرونها إما غير مقنعة وإما غير‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعيا‪ ،‬وهي‬ ‫مناسبة للواقع وأفكار معتلة‬ ‫ّ‬

‫كابوس‪ ،‬بل ثورة هؤالء الشبان‪ ،‬التي بدأت‬

‫إذا ما ّ‬ ‫تم االلتزام بها كليا إلى عجز فئة ما‬

‫ثورة إسالم أو مسلمين بل هي مشكلة‬

‫‪.‬‬

‫صراعية‪ ،‬تؤ ّدي‬ ‫قيم ومعتقدات ذات شحنة‬ ‫ّ‬ ‫عن العيش مع اآلخرين‪ ،‬لكونها ال تقبل رؤية‬

‫‪.‬‬

‫للعالم تخالف رؤيتها والثالثة‪ ،‬وهي أكثر‬

‫أشكال التطرف خطورة‪ ،‬تلك التي تجمع بين‬

‫كال النوعين السابقين‪.‬‬

‫والشائع أن بؤر التطرف موجودة في‬ ‫المساجد‪ ،‬أو في بعضها على األقل‪ ،‬تلك‬ ‫التي يتزعّ مها إمام كما يتزعم المنحرف‬ ‫عصابة‪ ،‬ولكن جيل كيبل‪ ،‬أستاذ العلوم‬

‫السياسية المتخصص في اإلسالم والعالم‬ ‫العربي المعاصر‪ ،‬يعتقد أن دور المساجد في‬ ‫استقطاب الجهاديين ضعيف‪ ،‬برغم وجود‬

‫أئمة سلفيين متعصبين على رأسها أحيانا‪ ،‬أوال‬

‫ألن أغلب شبان الجالية العربية المتشددين ال‬

‫يرتادونها‪ ،‬فهم منحرفون وأصحاب سوابق‬ ‫وال عالقة لهم بالدين‪ ،‬وألن أغلب معتنقي‬

‫اإلسالم من الفرنسيين‪ ،‬وإن كانوا ال يعانون‬ ‫على المستوين االجتماعي واالقتصادي‪،‬‬

‫يعيشون في فضاءات جغرافية ال هي‬ ‫بالضواحي وال باألرياف وال بالمدن‪ ،‬فضاءات‬

‫الزمن والتسميةِ يسود سكانها السأم‬ ‫خارج‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫والملل ومن ثمّ ة‪ ،‬وهذا هو التفسير الثاني‪،‬‬

‫في الواقع منذ ‪ ،1996‬وفي رأيه أنها ليست‬ ‫محددة تخص فئتين من الشباب‪ ،‬الجيل‬

‫الثاني من أبناء العرب المهاجرين المغاربيين‬

‫تحديدا‪ ،‬ومعتنقي اإلسالم من شباب أهل‬

‫‪.‬‬

‫البالد والجامع بينهما ثورة جيل‪ :‬كالهما‬ ‫يقطع مع أهله‪ ،‬أو ما يمثله األهل من جهة‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬ويمارس الطقوس الثقافية‬

‫‪.‬‬

‫الشبابية نفسها فالجيل الثاني المغاربي ال‬ ‫ينخرط في إسالم اآلباء‪ ،‬ألنهم في تصوره‬ ‫يمثلون تقاليد ال يعرفها‪ ،‬فقد نشأ هذا الجيل‬ ‫في الغرب وحذق لغته‪ ،‬وعاش عيشة أبنائه‪،‬‬

‫من حيث المأكل والمشرب وارتياد المالهي‬

‫والخمارات وتعاطي الحشيش ومراودة‬

‫‪.‬‬

‫الفتيات وما سهل انجذاب هذا الجيل إلى‬

‫اإلسالم السلفي‪ ،‬أي إسالم معياري دغمائي‬ ‫ُ‬ ‫رفضه ثقافة اآلباء‬ ‫ينبذ مفهوم الثقافة‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫الفرنسي‪ ،‬فثورتهم ناجمة عن قطع مع كل ما‬

‫يمثل المؤسسة‪ :‬األسرة والدولة والثقافة‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫ألن الراديكالية هي التي تجذبهم وبالتالي‬

‫ما تعيش أسلمة الراديكالية‪.‬‬

‫هذا الشباب بوجهيه العربي والفرنسي ال يلوذ‬

‫الرقمية‪ ،‬وخاصة تطور المواقع االجتماعية‬ ‫َ‬ ‫سلطة‬ ‫الذي يعطي البروباغندا الجهادية‪،‬‬

‫صراحة‪ ،‬على صفحات التواصل االجتماعي‪،‬‬

‫العالم‪ ،‬ال يملكون معالم يهتدون بها‪ ،‬تغويهم‬

‫تمنحه إياها رغبة الثأر من حرمان مكبوت‪،‬‬

‫‪.‬‬

‫ِ‬ ‫إسالم‬ ‫ماض مؤسطر ‪-‬ماضي‬ ‫فكرة البحث في‬ ‫ٍ‬

‫األصول كما أعاد صنعه وتزويره وتسويقه‬ ‫سلفيون راديكاليون‪ -‬عن نظام سوف يقدم‬

‫بالتقية على غرار اإلخوان‪ ،‬بل يعلن انتماءه‬

‫ويستعرض قناعاته وأناه الجديدة التي‬

‫‪.‬‬

‫ورغبة القتل واالنبهار بموته نفسه والعنف‬

‫الذي يمارسه هو عنف حديث‪ ،‬يقتل كما‬

‫يقتل غيره في أميركا أو النرويج بدم بارد‪،‬‬

‫دون تمييز ضحاياه‪ ،‬في نوع من النيهيلية‬

‫وفي رأي كيبل أن الحلم بالجهاد معناه أن‬

‫الساحقة‪.‬‬

‫رجولية‪ ،‬بطولية ؛ ومعناه أيضا أن االنخراط‬

‫في برودة دم بأن مقترفيه يحقدون على‬

‫نفسه في حياة ملحمية‪،‬‬ ‫يرى المتطرف‬ ‫َ‬

‫في مشروع جماعي ‪-‬أي بناء الخالفة‪ ،‬الذي‬ ‫يق ّدم كطوباوية أرضية خالية من الفقر‬

‫والبطالة‪ -‬هو توطئة لعالم فردوسي في‬

‫اآلخرة‪.‬‬

‫والنزعة الذاتية التي يتحدث عنها بن‬

‫سالمة تجد جذورها في عزلة هؤالء الشبان‬ ‫المتطرفين عن الجاليات المسلمة‪ ،‬فقليل‬ ‫منهم يرتاد المساجد‪ ،‬وأئمتهم هم في العادة‬

‫نصبوا أنفسهم بأنفسهم‪ ،‬وراديكاليتهم تتم‬

‫حول مخيال عن البطل والعنف والموت‪،‬‬

‫وليس حول الشريعة‬

‫والطوباوية‪.‬‬

‫وإذا‬

‫كان بعضهم قد مر بجماعة التبليغ أو خالط‬

‫اإلخوان في اتحاد المنظمات اإلسالمية‬ ‫في فرنسا‪ ،‬فما من أحد منهم تابع دروسا‬

‫دينية أو اهتم بالفقه اإلسالمي أو حاول‬ ‫فهم طبيعة الجهاد وحتى نشأة الدولة‬

‫اإلسالمية داعش‪ ،‬وما من أحد منهم ناضل‬ ‫ضمن حركة سياسية بدءا بالحركات الداعمة‬

‫‪.‬‬

‫للقضية الفلسطينية فراديكاليتهم تتم حول‬

‫ويفسر فتحي بن سالمة هذا القتل الجماعي‬ ‫العالم الذي يعتبرونه صنوا للفساد والرذيلة‪،‬‬ ‫أي أنهم اختاروا العالم اآلخر‪ ،‬واختيار‬

‫العالم اآلخر معناه المرور إليه عبر الموت‪.‬‬ ‫بالنسبة إلى أناس يائسين من الحياة ومن‬

‫مجموعة صغيرة من األصحاب‪ ،‬ومن اإلخوة‬

‫رياضيا أو السجن‪ ،‬ليخلقوا فيما بينهم عائلة‪.‬‬ ‫الجالية المسلمة بقدر ما هم تعبير عن ثورة‬

‫جيلية تمس فئة محددة من الشباب‪.‬‬

‫وليس أمام هؤالء غير خيارين‪ :‬راديكالية‬

‫اليسار المتطرف‪ ،‬وتتطلب مرجعية فكرية ال‬ ‫يملكونها‪ ،‬وراديكالية متأسلمة هي المتوافرة‬ ‫في السوق اآلن‪ ،‬واعتناقها ال يكلف فائض‬

‫جهد وال معرفة‪ ،‬والمعلوم أن عالقة اإلنسان‬ ‫مع العالم ال تتم إالّ بطريقتين‪ :‬المعرفة أو‬

‫االعتقاد‪ ،‬كما يقول جيرالد برونر في كتابه‬

‫‪.‬‬

‫“الفكر المتطرّ ف كيف يصبح الناس العاديّ ون‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫متعصبين” فاتتهم المعرفة إذن فسعوا إلى‬

‫االعتقاد‪ ،‬ولو في أيديولوجيا توتاليتارية‬

‫متسترة بالدين‪.‬‬

‫والخالصة كما يقول أوليفيي روا أن داعش‬ ‫تنهل من خزان شباب فرنسيين راديكاليين‬ ‫أعلنوا انشقاقهم‪ ،‬وراحوا يبحثون عن سردية‬

‫كبرى يضعون عليها بصماتهم الملتاثة بالدم‪.‬‬

‫وسحق داعش لن يغير من ذلك شيئا‬

‫كاتب من تونس مقيم في باريس‬

‫محمد خياطة‬

‫لهم المعايير والقيم الواجب التمسك بها‪.‬‬

‫القانون‪.‬‬

‫وموضوعية أما معتنقو اإلسالم من الشباب‬

‫المسيحية” دورا هاما في نشر النزوعات‬

‫إبهار قوية وإذا شبان تائهون أمام فوضى‬

‫إذ يصبحون باسم قانون أسمى خارجين عن‬

‫أي أن اإلرهابيين ليسوا تعبيرا عن راديكالية‬

‫متجذرة ثقافيا إلى أبنائهم ألسباب ذاتية‬

‫فإن فرنسا ال تشهد راديكالية إسالمية بقدر‬

‫والبروتستانت‪ ،‬يقول كيبل‪ ،‬تمثل الثورة‬

‫فألنها تضفي على جرائمهم نوعا من “النبل”‪،‬‬

‫أيضا‪ ،‬في مكان محدد قد يكون الحي أو ناديا‬

‫‪.‬‬ ‫فإن كليهما يبحث عن ضالته في اإلنترنت‪.‬‬

‫األخروية وتغذية الحروب بين الكاثوليك‬

‫‪.‬‬

‫عالم يعتبرونه ال يحتمل وإذا كانت هذه‬

‫والثقافة الغربية اللتين صارتا بمثابة رمز‬ ‫ُ‬ ‫وعجز اآلباء عن نقل ديانة‬ ‫كرهه لنفسه‪،‬‬

‫يلبي أسباب تلك الثورة‪،‬‬ ‫واإلسالم المعتدل ال ّ‬

‫وكما لعبت المطبعة إبان “حركة اإلصالح‬

‫‪158‬‬

‫أما أوليفيي روا فيعتقد أن مشكلة فرنسا‬

‫أنفسهم‪ ،‬يغدو الموت وسيلة للخروج من‬


‫‪‎‬رسالة باريس‬

‫العدد ‪ - 12‬يناير‪ /‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫‪159‬‬


‫غيتو إسالمي‬

‫‪160‬‬

‫المهاجرون من الفجوة الثقافية‬ ‫إلى الهوة النفسية‬ ‫هيثم الزبيدي‬

‫تكشف‬

‫الصدام بين الغرب والمهاجرين العرب والمسلمين‬

‫عقلية االنعزال والتميز والتفكير بالجالية كغيتو إسالمي‪ .‬ما عاد‬

‫السنوات السابقة من احتكاكات هنا وهناك‪ .‬مرة عن النقاب ومرة عن‬

‫اآلباء واألمهات من جيل المهاجرين المنفتحين استسلموا بمرور‬

‫أخيرا‪ .‬كان هذا الصدام متوقعا بما حفلت به‬

‫بناء جامع ومرة عن تسلسل األفكار المتشددة إلى المدارس‪ .‬هذه‬

‫المرة صار اللعب على المكشوف‪.‬‬

‫الوقت لتأثيرات القادمين الجدد أو لضغوط ابنائهم الذي صاروا‬

‫يتماهون أكثر وأكثر مع ثقافة إسالمية مجتزئة تعيش نموذجا‬

‫واقع الهجرة للعرب والمسلمين هو واقع منوع‪ .‬موجات أولى من‬

‫مصطنعا في الغرب المسيحي‪.‬‬

‫موجات أخرى من المثقفين ممن فضلوا الغربة على مواجهة قسوة‬

‫العربية واإلسالمية‪ .‬الحق في العبادة والحق في اللباس والحق في‬

‫األثرياء الذين ضايقتهم االجراءات االشتراكية االعتباطية‪ ،‬ثم‬ ‫التفسيرات الضيقة للثقافة في انظمة منغلقة فكريا‪ ،‬ثم موجة من‬ ‫السياسيين المعارضين الذين لم يكونوا مخيرين باألصل بين السجن‬ ‫وحبل المشنقة من جهة واالغتراب من جهة ثانية‪ ،‬تبعهم عدد كبير‬ ‫من المبتعثين الذين قدموا إلى الغرب ليدرسوا ثم قرروا االستقرار‪،‬‬ ‫وأخيرا موجات الهجرة االنسانية التي بدأت مع الحروب التي عصفت‬ ‫بالمنطقة منذ عام ‪ 1990‬وحتى اآلن‪ .‬هذا الكالم ال يشمل المهاجرين‬

‫الذين ارتحلوا مع االرث االستعماري من شمال افريقيا‪.‬‬

‫لم يعر الغربيون الكثير من االهتمام لتطور ظاهرة عزلة الجالية‬

‫اختيار نمط الحياة يضمنها القانون‪ .‬أوروبا تعلمت من دروس التمييز‬ ‫ودفعت اثمان باهظة منذ عصر “حروب االسترجاع‪ ″‬القشتالية‬

‫االراغونية في األندلس ونفي اليهود والمسلمين كنتيجة لها ولمحاكم‬

‫التفتيش‪ ،‬وصوال الى الهولوكوست في عصر النازية‪.‬‬

‫لكن حروب الشرق غيرت كل هذا‪ .‬غزو العراق وتدميره وانفالت‬ ‫عقال الحروب الطائفية في الشرق األوسط وتأسيس الجهاد السلفي‬

‫واإلسالم الخميني لقواعد على االرض‪ ،‬في العراق وسوريا ولبنان‬

‫ما كان يجمع الموجات األولى‪ ،‬أي قبل موجات النازحين‪ ،‬أن القادمين‬

‫واليمن‪ ،‬وبتواطؤ من الغرب أو مشاركة مباشرة‪ ،‬جعل مسار الجاليات‬

‫واالندماج النسبي في المجتمعات الغربية‪ .‬ال أزياء مختلفة وال اكل‬

‫يمكن القول أن الغالبية العظمى من الجالية تريد ان تنأى بنفسها عن‬

‫جاءوا بتطلعات منفتحة تريد االستقرار وضمان التعليم لألبناء‬ ‫يميز إال في حالة ما ذكر في النص المقدس صريحا بالتحريم‪ .‬كان‬ ‫المهاجرون انفسهم صورة عن بقايا العصر المنفتح في البالد العربية‬

‫في مرحلة االربعينات والخمسينات والستينات وبدايات السبعينات‪.‬‬

‫يأخذ وجهة تصادمية فيما بينها ومع المجتمعات الغربية الحاضنة‪.‬‬

‫المشاكل حتى وان حافظت على الفجوة الثقافية مع المجتمعات‬ ‫المضيفة‪ .‬كانت تحتمي بالخصوصية الثقافية ونجحت في هذا إلى‬ ‫حد كبير إلى أن قامت القلة القليلة ممن ذهبت بعيدا في تطرفها‪،‬‬

‫لكن شيئا ما تغير‪ .‬صار ما يجمع المهاجرين هو الحلقات الدينية‬

‫بالتحرش بأمن المجتمعات‪.‬‬

‫المغتربين‪ .‬تحول دكان التسوق العربي الذي كان يربط المغتربين‬

‫الغربي كان ينظر إلى المسلمة المحجبة قبل عشرة أعوام على انها‬

‫التي انشأتها جماعات االسالم السياسي أكثر مما تجمعهم نوادي‬ ‫بتراث موائدهم وما اعتادوا عليه من أكالت‪ ،‬إلى دكان لبيع المنتجات‬

‫“الحالل”‪ .‬بعض المنتجات الحالل وصلت إلى درجة الطرافة‪ :‬جاكيت‬

‫من جلد بقرة مذبوحة حالل أو حمص مسلوق حالل‪ .‬ومع الحالل‪،‬‬

‫انتشرت كتيبات الدعوة‪ ،‬ثم مراكز “ثقافية” إسالمية‪.‬‬

‫تقوقع المهاجرون أكثر مع هجوم الفضائيات ومن ثم االنترنت‪ ،‬ثم‬

‫هنا توقف التعامل الغربي مع ما يحدث على انه تباين ثقافي ال أكثر‪.‬‬ ‫تلتزم بثقافة مختلفة‪.‬‬

‫نفس الغربي‪ ،‬مع زيادة وعيه باالسالم‪ ،‬صار ينظر إلى المحجبة قبل‬

‫خمسة أعوام على انها تلتزم بالشريعة‪ ،‬أو هكذا يعتقد على األقل‪.‬‬

‫الغربي‪ ،‬مع احساسه بالقلق من خطر االرهاب قبل عام او عامين‪ ،‬بدأ‬ ‫ينظر إلى المحجبة بأنها انسانة ال تقول أنا مسلمة ملتزمة بل هي‬

‫وصول الموجات الجديدة من مهاجري الحروب ما بعد التسعينات‪.‬‬

‫إمرأة ال تثق بالمجتمع وتحتجب منه بغطاء للشعر أو بنقاب كامل‪.‬‬

‫والتجمعات التسوقية وحلقات الدعوة‪.‬‬

‫اليوم الغربي‪ ،‬ومع الهجمات االرهابية‪ ،‬ما عاد يسكت على انعدام‬

‫تغير شكل الجاليات وصار أبناؤها يميزون انفسهم باللباس واألكل‬

‫لكنه كان يسكت ويقول انها حرية شخصية‪.‬‬

‫كل هذا ال مشكلة فيه‪ .‬سبق العرب المهاجرين اليه الصينيون واالفارقة‬

‫الثقة هذا ويرد ويقول‪ :‬أنا أيضا ال اثق بك وال بما تخفين‪.‬‬

‫واألفارقة على األزياء المزركشة بالوانها الفاقعة التي يرتدونها يوم‬

‫اتساعا‪ .‬هنا دخلنا حقا مرحلة الخطر‬

‫والهنود مثال‪ .‬الصينيون حافظوا على اكلهم والهنود على عمائمهم‬ ‫االحد عند الذهاب للكنيسة‪.‬‬

‫الخلل الثقافي كان عند المهاجرين العرب والمسلمين‪ .‬استهوتهم‬

‫‪160‬‬

‫اللقاء في صالة الجمعة كافيا‪.‬‬

‫هنا ما عاد الحديث يدور عن فجوة ثقافية‪ ،‬بل عن هوة نفسية تزداد‬

‫كاتب من العراق مقيم في لندن‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.