aljadeedmagazine.com
بط رس
مـؤسسها ونارشها Publisher الثاني 2014 نوفمبر/تشرين
امل عري
هيثم الزبيدي
Haitham El-Zobaidi
رئيس التحرير Editor
هذا العدد بهذا
الجراح نوري َّ
Nouri Al-Jarrah
العدد تستهل "الجديد" سنتها الثانية منفتحة على اإلبداعات األدبية ً ً ً ومسرحا ويوميات ،وعلى التيارات الحديثة في وشعرا سردا المبتكرة
الفكر العربي ،باذلة صفحاتها ألصوات التفكير النقدي ولألقالم العربية المنادية
بالتغيير االجتماعي والثقافي والسياسي ،انطالقا من وعي مستقبلي يرى في حال ً ً َضيا ال مناص من تغييره ،حتى يمكن للعرب أن يصبحوا جزءا واقعا مر العرب الراهنة فاعال من الحاضر العالمي ،ويمكنهم بالتالي أن يستعيدوا دورهم الخالق في الحضارة
اإلنسانية.
فكريا ،يحفل العدد األول في السنة الجديدة بثالثة محاور رئيسية ،يتمثل األول في خمس مقاالت سجالية لعدد من األقالم العربية حاورت من مواقع ومشارب
متعدد األفكار التي طرحها المفكر عزيز العظمة في العدد الحادي عشر من "الجديد" وتمحورت حول القضايا المتفرعة من صدام األصولية والحداثة ،ومسألة "الصعود
األصولي" في المجتمعات العربية.
ّ وست مقاالت من مشرق العالم العربي المحور الثاني حول "حال اللغة العربية"، ّ شخصت وناقشت مسألة اللغة والمصطلح والتفكير المعاصر وأدوار اللغة ومغربه،
مستشارو التحرير أزراج عمر ،أحمد برقاوي عبد الرحمن بسيسو ،خلدون الشمعة، خطار أبو دياب ،أبو بكر العيادي ابراهيم الجبين ،رشيد الخيون تحسين الخطيب ،مفيد نجم
التصميم والتنفيذ
القسم الفني -مؤسسة "العرب" لندن
رسامو العدد:
فادي يازجي ،حسين جمعان إبراهيم الصلحي ،مروان قصاب باشي خلدون شيشاكلي ،صفوان داحول بطرس المعري ،عدنان حميدة ،عمران يونس محمد عتيبي ،عمرو وهيبية ،صادق توما ،جواد محمد خياطة ،عاصم الباشا ،علي رضا سعيد جمال الجراح ،ساي سرحان
العربية ومشكالتها في مجتمعات عربية تتكلم لغات ش ّتى وتص ّدر عن مرجعيات ثقافية ولغوية متعددة ،وتعاني من مشكالت فكرية عميقة ومتشعّ بة وتفتقر إلى لغة
نقدية خالقة قادرة على سبر المشكالت الثقافية واالجتماعية من باب الحاجة إلى
تفكيكها وتحليلها استنادا إلى أفكار ومصطلحات جديدة.
املوقع عىل اإلنرتنت:
www.aljadeedmagazine.com
ّ يتعلق باإلرهاب الفكري والقمع خصوصا ذاك الذي حمله معه إلى المحور الثالث
عبر عن نفسه في معاداة الكلمة المجتمعات العربية رواج فكر التحريم ،وهو ما ّ
.
واألدب والفكر الحر ،والمضي في هذا العداء إلى حدود العنف واإلرهاب الجسدي أخيرا ،فإن هذا العدد وقد جنح ّ جله نحو الفكر ،لم يخل من نصوص شعرية وقصصية ً أخيرا ومسرحية ،وحوارين واحد أدبي وآخر فني ،ورسوم وعروض للكتب ،ثم رسالة ثقافية من باريس عكست النقاش المستعر بين النخب الفرنسية حول اإلسالم
والمسلمين والمهاجرين انطالقا من الوقائع الباريسية األخيرة
المحرر
تصدر عن Al Arab Publishing Centre المكتب الرئيسي (لندن) Kensington Centre Hammersmith Road 66 London W14 8UD, UK Tel: (+44) 20 7602 3999 Fax: (+44) 20 7602 8778 لالعالن Advertising Department Tel: +44 20 8742 9262 ads@alarab.co.uk لمراسلة التحرير editor@aljadeedmagazine.com االشتراك السنوي لالفراد 60 :دوالرا .للمؤسسات 120 :أو ما يعادلها تضاف إليها أجور البريد.
عمران يونس
ISSN 2057- 6005
ال تنشر المجلة كتابات سبق نشرها ورقيا أو إلكترونيا وال تدخل المجلة في أي مراسالت بشأن النصوص التي تعتذر عن نشرها.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
46
طيب تيزيني: اإلنسان الوحش العودة إلى ما قبل تاريخ
2
ر حــر وإبدا
ع جد يد
ثقا فية عربية
عة
كـ ف
جام
المحتويات
العدد - 12يناير /كانون الثاني 2016
السنة الثانية كلمة
6
اآلخر مرآة األنا
والخيال البشري عابر للزمن والهويات نوري الجراح
مقاالت
8
وقائع االستبداد الديني
في مطاردة الحاكم المتجبر أهل الفكر وروح الثقافة هاني حجاج
سلطة الخطاب فرس الرهان
18
في ظاهرة الجماهير أشرف صالح محمد
30
الخارج الذي هو داخلنا
72
قتل الرقيب الذاتي
126
خرافة الضرورات الشعرية
142 144 148
عبد الوهاب الملوح
جالل برجس
صالح حسن رشيد
احتمال النفاق في التشكيل عاصم الباشا
شيء عن دوما
نوار جابر
نصوص أوغاريت
هنا يبدأ التاريخ تيسير خلف
أصوات
36
تناسخ األصنام
88
مثقفون ولكن أصوليون
عمران يونس
82
غالف العدد الماضي ديسمبر /كانون األول 2015
ُ كتاب في العدد أحمد برقاوي
أكاديمي ومفكر من فلسطين مقيم حاليا في اإلمارات ،له العديد من المؤلفات في الفلسفة واالجتماع. رأس قسم الفلسفة في جامعة دمشق.
عبد الرحمن بسيسو
ناقد من فلسطين له مؤلفات في نقد الشعر العربي الحديث ودراسات في الرواية ،والتراث الشعبي ،أبرزها حول ظاهرة القناع في الشعر العربي المعاصر. مقيم في سلوفينا ،ويشغل منصبا سفير دولة فلسطين. مريم حيدري
شاعرة ومترجمة من إيران لها العديد من الترجمات الشعرية العربية إلى الفارسية كشعر محمود درويش ،وسركون بولص، وصالح فائق ،وغيرهم .ولها ترجمات شعرية فارسية حديثة إلى العربية .تقيم وتعمل في طهران. ابراهيم سعدي
كاتب جزائري له العديد من الروايات والمؤلفات النقدية والفكرية ،منها « المرفوضون»« ،فتاوى زمن الموت»، «بوح الرجل القادم من الظالم»« ،مقاالت ودراسات في المجتمع العربي» « ،مقاالت في الرواية» .مقيم في الجزائر. هيثم حسين
وروائي ومترجم كردي سوري، ناقد ّ يكتب في الشأن الثقافي واألدبي العربي والعالمي ،متخصص في النقد الروائي وله عدد من المؤلفات النقدية .من أعماله الروائية "آرام سليل األوجاع المكابرة"، "رهائن الخطيئة"" ،إبرة الرعب".
أحمد إسماعيل إسماعيل
حميد زناز
مسرح
أكاذيب صغيرة مسرحية من فصل واحد درويش األسيوطي
لوحة الغالف للفنان مروان قصاب باشي
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
3
148
132 37
ملف /حال اللغة العربية استهالل ودعوة
74 90
أقالم تحاور عزيز العظمة
38
معضلة المصطلح في الثقافة العربية
42
اللغة والمعرفة والقيد الصدئ للحرية
48
اإلصالح التربوي والتردي اللغوي
60
اللغة المستعارة
102
اإلرجاء القاتل
106
أحمد برقاوي
108
الالمكان ليس إال مكانا تواطأوا على إخفائه
64 66 71
اليامين بن تومي
جاد الكريم الجباعي
92 96
صالح بلعيد
مفيد نجم
الجامعة الجزائرية وسؤال اللغة العربية البشير ربوح
الصراع بين العربية والفرنسية
في رواية “بان الصبح” لبن هدوقة إبراهيم سعدي
في األصولية وشروط صعودها جاد الكريم الجياعي
اضطراب الواقع وتشوش التفكير
قاسم المحبشي
الدروب الضيقة للكتابة
تفكيك أهوال اإلرهاب وتحرير االسئلة خالد حسين
الجماعات النصية
جابر بكر
حوار على حوار
سالم سرحان
112
4
ملف /سجال
األسئلة المرايا وإطالقية اإلجابات مستهل حوار مع المفكر مراد وهبة عبد الرحمن بسيسو
22
37 سرد
شعر
22
أكاليل على األبواب
34
32
شجرة الكرز
122 محمد ناصر المولهي
عبده وازن
خلود شرف
74 132
محمود شقير خبز اآلخرين
قص
129
خمس أقاصيص
130
إرهابية في تل كلخ
143
انقراض
146
لفافة من حرير
147
بيدق في لعبة الشطرنج
خالد خميس السحاتي
كتب
150 152 154
157
باسم فرات
«أنا وأنت » ألحمد الخميسي ممدوح فر اّج النابي
المختصر
كمال البستاني
أسلمة الراديكالية أبو بكر العيادي
األخيرة
فكري عمر
نهار حسب اهلل
أوضاع اللغات السودانية والتخطيط اللغوي
رسالة باريس
شفان خليل
سعيد موفقي
ظل لشخصين
مريم حيدري /لميس سعيدي
غرقى جبليون
حوار فاضل الجعايبي قتل األب
90
160
غيتو إسالمي
المهاجرون من الفجوة الثقافية إلى الهوة النفسية هيثم الزبيدي العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
5
كلمة
اآلخر مرآة األنا الخيال البشري عابر للزمن والهويات سنة
ً عددا انصرمت ،وها نحن في أولى مرت على صدور “الجديد” ،وها نحن في مطلع سنة جديدة من حياة المجلة .أحد عشر
ً مخاضا العدد الثاني عشر ،واألول من سنة ثانية .كل عدد مضى كان له محور وكانت له قصة .وفي كل عدد عرفت “الجديد”
ومغامرة ،ألجل أن تكون ،كما أرادت لنفسها أن تكون؛ المجلة العربية الجامعة ،والمنبر الذي يجتمع على صفحاته أهل األدب والفكر والفن، بأريحية وانفتاح.
حاولت “الجديد” بسعي جاد أن تكون الفضاء الذي تتحرر فيه الثقافة العربية من قيودها ،وتستعيد الكتابة جرأتها الفكرية وألقها اإلبداعي،
والكاتب كرامته كصاحب فكر حرّ وخيال طليق.
ً ً وطالعة ،على صفحات “الجديد” أثبت جدواه .والتزامنا بما أعلنا عنه من احترام حرية القلم مكرسة رهاننا على تجاور األقالم العربية،
ً فكريا استقطب خيرة األقالم العربية ،وبعض األقالم وجرأته ،مادام يبشر بقيم الجمال والحق والحرية ،واالنفتاح على اآلخر ،أثمر حوا ًر
األجنبية ،وهو ما عبرت عنه تلك السجاالت الحية التي دارت على صفحات “الجديد” على مدار العام المنصرم.
ثان ،والذين احتفوا بالجديد وأقبلوا عليها بشغف من كل قطر عربي ،وكذلك عام مضى على الشروع في المغامرة ،وها نحن في عام ٍ في المهاجر والمنافي العربية ،يتزايدون عددا بعد آخر .ليكون لـ”الجديد” أسرتها من القراء ،الذين ستظل تطالبهم بأن يبدوا مالحظاتهم
واقتراحاتهم وأفكارهم حول منبرهم الثقافي ،حتى يمكنه أن يفي بوعوده ،ويلعب الدور المنتظر منه ،ليقدم لهم مع أول كل شهر ما يتوقعونه من منه إلى جانب ما ستفاجئهم المجلة من ثمرات العقول واألرواح في ثقافتنا العربية المعاصرة. ***
لفتتني هذا الشهر إشارة من المفكر جاد الكريم الجباعي إلى أدوار الشعراء في تجديد اللغة ،ودور الخيال الطليق في إثرائها بصياغات جديدة .السياق الذي تحدث فيه المفكر ال يتمحور حول دور الشعر في تجديد اللغات ،ولكنه يتركز حول قدرة اللغة على المضي أبعد من
الحكي والقول والخطابة والرسالة والكتابة والقراءة والتأويل وغيرها من العناصر التي تختص بها اللغة ،لتنفتح باللسان والذات على الكينونة اإلنسانية والوجودية كلها .واألهم أنها تتجاوز الهوية الصادرة عنها لتخترق الهويات األخرى ،فهي كما يذهب الجباعي في وصف
ُّ اللغة ،في إطار ملف تنشره “الجديد” في هذا العدد “الشكل األعلى من أشكال ّ ً “التملك فعل إرادة ،ال تكون معتبرا أن تملك اإلنسان لعالمه” بتبين وحدة المعرفة واللغة والحرية ،مقابل وحدة المعرفة واللغة والسلطة”. إال حرة .وتهتم ،من ثمة، ُّ ***
آثرت أن أدخل من هذا “التحديد” إلى ما سأذهب إليه من تصورات عن انفتاح الشعر والشاعر على األسطورة ،بوصفها المنظومة الجمالية
األوسع لعمل الخيال ،إن في اللغة العربية أو لغات أخرى .انطالقا من ثالث حقائق.
أوال :أن اللغة كلما ترقت في انفتاحها على اآلخر ووقفت في مراياه كلما اقتربت من ذاتها العميقة وأغنتها.
ّ تفجر بالصور. وثانيا :أن األسطورة هي المهاد الرموزي اللغوي لالوعي البشري ،وقد
ً غورا ،وأبعد انفتاحا على الكينونة البشرية ،وأعني وثالثا :أن األسطورة من طبيعتها أنها تذيب الهوية في أصل أسبق عليها ،وأعمق منها
ً به الخيال البشري العابر للهوية والزمن معا.
من هنا يصبح السؤال مثال :لماذا تكتب في زمنك الحديث من وراء أقنعة أسطورية وأدبية؟ سؤاال قد يبدو نافالً ،رغم عمق اإلشكالية
ً كثيرا ما ووجهت من قبل محبي الشعر بهذا السؤال .وهو ما ظل يحرضني على الكتابة عن هذا األمر، التي يصدر عنها .وألعترف هنا أنني
ً بحثا في طبيعة عالقة الشعر باألسطورة ،وعالقة الشعراء باألقنعة األسطورية. محاوالً تلمس المسألة ،ليس بحثا عن أسباب ،ولكن ً ً ضربا من الغوص بحثا عن جواب لسؤال ،ال سبيل في النهاية إلعطاء جواب عنه يشفي غليل السائل ،مادام الشعر نفسه وبالتالي ليس
ً بحثا في ما وراء األشياء المنظورة ،وربما هو ضرب من التهويم والتيه ما وراء كل األسباب. عميقا في الذات
***
ً ً كثيرا إلي أن الشاعر يخطو جهة األقنعة ليقترب من نفسه أكثر .يبتعد قليالً أو حائرا أمام هذا السؤال .ولكن مرات يخيل لطالما وقفت ّ
6
ً أقنعة بابلية وفرعونية وهيلينية وآرامية ..ومعها القناع الشيكسبيري ،ومن ثمة عن صورته ،ليتحرر منها ،فإذا بالصور واألقنعة تنادينه؛
تتحدر من أعالي اللغة مع الكلمات أسماء :مثل جلجامش ،سيبتيموس سيفيروس ،أوزيريس ،تيريسياس ،ديدالوس ،يوسف ،تيلماخوس،
لكل منهم من إحالة ورمز إيكاروس ،نرسيس ،بينيلوبي ،آخيل ،أورفيوس ،مريم ،يوحنا المعمدان ،هاملت ،أليعازر ،وغيرهم آخرون ،بما ٍ ً ً ً ً ً ً مسيحيا وغيره هو تراث إسالميا أو إغريقيا ،أو فرعونيا أو سوريا أو عراقيا أو وتاريخ ميثولوجي وداللي .التراث األسطوري ،سواء أكان شخصي للشاعر .مادام من أبناء المتوسط ،قلب العالم القديم ،وفي القلب منه المركز الحضاري المحترق اليوم سوريا القلب الخافق للعالم
ٌ إرث شخصي للشاعر ،وهو ما يجعله ،بالضرورة، القديم ،وعليه ،فإن كل ما أبدعته قرائح ناس المتوسط ،ال سيما على الضفة الشرقية هي ورغم أفانين االنغالق وجنون التعصب األعمى للذات الجريحة ،يتح ّدر من صلب هذه اللوحة البشرية الرائعة بخياالتها الميتافيزيقية
وهيامها بالجمال.
ً انفتاحا كهذا على اآلخر أساسه الوعي بالفضاء الحضاري الفسيح للذات المنتمية إلى حوض المتوسط هو ما أورثني ،شخصيا ،ولعا ولعل
منذ طفولتي باألساطير والحكايات والمالحم التي أبدعتها حضارات هذه البحيرة العظيمة ،وللجغرافيا السورية القديمة نصيب كبير في
هذا اإلبداع.
***
لكن األساطير ال يمكن أن تكون معطيات كالسيكية بالنسبة إلى الشاعر الحديث ،وهو ال يجدر به أن يتعامل مع تلك النصوص وشخصياتها
ً مجددا في صياغات شعرية خاصة عابرة للزمن وعابرة األسطورية كمعطيات نهائية ،بل كعوالم وأرواح متحركة ومتبدلة وقابلة للوالدة للهوية معا .وإال وجب علينا أن نستغرب احتفاء شاعر عربي باألسطورة اإلغريقية ،ونستغرب احتفاء شاعر إنكليزي بأساطير الهند ،أو شاعر فرنسي بأساطير البطولة في التراث األلماني.
إن نظرة على شظايا التراث الحكائي العربي القديم تفيدنا بأن العرب استلهموا تراثات لغوية جاورت لغتهم تعود إلى فارس وحوض الرافدين وبيزنطة ومصر القديمة.
ونظرة على شعر ونثر أدباء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا ،ال سيما رومانسيي فرنسا وألمانيا وبريطانيا تجعلنا نقف على
ذلك التأثير الهائل للشرق وحكاياته وأساطيره في األدب األوروبي.
وعلى رغم مالمح الفتة للنزوع االستعالئي أو ما جرى االصطالح عليه بالنزعة المركزية األوروبية في األدب المذكور ،إال أن هذا لم يمنعنا أبدا من التمتع بكتابات غوتة ،وشاتوبريان ،وفلوبير ،وميلفل ،وكيبلنغ ،ورامبو وغيرهم ممن انعكس في أدبهم سحر الشرق وبرزت تلك التمثالت الحكائية األسطورية والعجائبية الشرقية في كتاباتهم .وهو ما ال يجب أن يمنعنا من نقد قراءتهم لنا ،ونقد تمثالتنا لهم. ***
ولو ،نحن ذهبنا أبعد ،فإن الكتابة الشعرية ،كما تتراءى لي ،فكرة وممارسة وعمال مع اللغة وأخيلتها ،بينما هي تتمثل اإلرث األسطوري
وأيقوناته ،إنما ترى في أيقونات هذا اإلرث أنها تحمل قابليات وإمكانات أوسع بكثير من المعطي الناجز للصورة القديمة أو األيقونة في زمنها .وهذا يجعل الشاعر في بحث دائم في تلك المالمح األسطورية عمّ ا يتمتع بالطاقة المشعة ،ذلك اللغز اإلنساني المنعكس في حيرة
الشاعر وحيرة الفنان وهما يعيدان في عصرهما الحديث صياغة الواقعة اإلنسانية ،ومعها الهوية الخاصة ،في احتماالت وميول ونزوعات ً مجددا ،وقد تفجرت عن تتوارى كلها وراء الصورة الكالسيكية المنظورة لأليقونة ،فيخرجانها من كونها مرآة أشباح وظالال ملغزة ،لتشع احتماالت كانت مكبوتة في مكان ما ،وكان ال بد من تواريخ تمرّ ،حتى تكتشفها عين جديدة ،عين شاعر قادم من زمن آخر يتلمس بأصابعه كنحات ويكتشف بحواسه تلك الندبة السرية في الجمال القديم والتي ما إن يلمسها حتى تضيء األيقونة بنور جديد ،حتى تولد ثانية
ومعها روح جديدة هي روح عصر جديد.
***
قد يبدو هذا حديثا صرفا في الجمال الفني ،ولكنه في الحقيقة بحث في جمال العالقة بين الذات واآلخر ،وبين ثقافتنا وثقافته ،ليس
بوصفه غريبا نتقرّ ب منه ولكن بوصفه شريكا في كوكب ،وما يملكه ونملكه إرث مشترك لنا معا ،كما أن حياتنا المعاصرة هي مشترك كبير. ***
ً أبدا ،كشعراء ،لو نحن اكتفينا بنسج أجنحة إيكاروس بلغة عصرنا ،مهما ك ّنا بارعين في إعادة تصوير الواقعة .ال بعد ذلك ،ما من فضل لنا
بد من شيء آخر ،شيء أبعد وأقوى وأعمق وأكثر إبداعية ،ال بد أن نتصرف ،كشعراء ،على نحو يمكننا من أن نجعل هذا اإليكاروس يولد من جديد هو وأجنحته وحلمه بالحرية ،ويحمل ،في الوقت نفسه ،مالمحنا الشخصية.
نوري الجراح
لندن في 18ديسمبر/كانون األول 2015
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
7
مقال
وقائع االستبداد الديني في مطاردة الحاكم المتجبر أهل الفكر وروح الثقافة هاني حجاج هذا موضوع يرمينا في بعد تاريخي أبعد لتفسير العالقة بين القوة االستبدادية ،والعمل الفني القائم على أصالة لغوية قومية ً وحريصا على دفع االسترابة التي يخالطها القهر الذي ينطلق من عقاله القمعي ،وفي التراث الممتد سوف نعثر على ما فعلته خالفة أبي عباس السفاح بخصوصها ،وما نتج عن عداوة المنصور ألبي حنيفة النعمان الفقيه ،وابن المقفع الباحث والكاتب،
والشاعر سديف من جلد وتعذيب وسجن وقتل؛ وما فعله عهد المهدي في بشار بن برد وأبي العتاهية وحماد عجرد وعبدالكريم بن أبي العوجاء؛ وما حدث في عصر هارون الرشيد الذهبي من سجن لبشر بن المعتمر الهاللي شيخ معتزلة بغداد ،وإعدام
لصالح بن عبدالقدوس ،ومروان بن أبي حفصة ،وما فعله المأمون من سجن الفقيه أحمد بن حنبل وقتل أبي نواس .وقتل المعتصم لدعبل وتاريخ الواثق الحافل من تعذيب ألحمد بن حائط المعتزلي ونفي مروان بن أبي الجنوب وحبس ذي النون
المصري المقصوف وجلد الفيلسوف الكندي ومصادرة كتبه ،وما فعله المتوكل من سجن علي بن الجهم والشاعر الجماني العلوي محمد بن صالح العلوي وقتل بن الزيات واضطهاد المعتزلة ومطاردتهم وتحويل حياتهم إلى جحيم مقيم .وقتل المعتضد البن السم وقتل محمد بن داود الطيب السرخسي تلميذ الكندي الفيلسوف العظيم وعقاب المكتفي البن الرومي الشاعر المرهف بدس ُ
الجراح وتعذيب أبي الفضل البلخي وصلب الحالج والتمثيل بجثته.
الجد
المتوحش الذي ألقى بظالل إرثه
التي نصبت محاكم التفتيش لكل مفكر،
وعلي الغاياتي ونفي شوقي واغتيال فودة
عيون” إلحسان عبدالقدوس بدعوى أنها
المشؤوم على حبس البارودي
ومحاولة قتل محفوظ وتشويه كليلة ودمنة
ومصادرة ألف ليلة وليلة والصراع الفاشل ُّ والتغلب على التعصب الديني لتحرير المرأة ُّ والتخلص من الطاغية والوصول لحكم عادل وتحقيق قيم المواطنة الحديثة واستيعاب
تخرج عن التقاليد المرعية وأن ُحسن
أي شيء إال أنها غير ناصرية قد ال يميزها ّ وكلها استعراضية تعوّ ض فشله في الظهور
األسلوب
وجمال
الصياغة
والمعالجة
الموضوعية ال تغفر للكاتب طرحه لمسائل توجد فعالً في المجتمع ال يستطيع حتى
األنبياء إنكارها؛ فصودرت الرواية قبل
اآلخر؛ وظهور موضوع المسكوت عنه أمام والمستنيرين تتصيد لهم األخطاء فأطاحت
قباني ليتمكن من نشر ديوانه “هوامش على
بعلي فاهمي من الجامعة ،والسبب هو
حصوله على درجة الدكتوراه في فرنسا عن ْ ورف ُ ض تدريس بحثه “المرأة في اإلسالم”، جورجي زيدان المسيحي للتمدن اإلسالمي،
الغفران برسالة إلى عبدالناصر كما فعل نزار دفتر النكسة” وكما فعل ثروت أباظة لعرض فيلمه “شيء من الخوف” لكن عبدالناصر كان ً سلبيا ،يلعب لحسابه وأفكاره للموازنة بين
السادات بانفتاحه ومذاهبه البهلوانية التي
على السينما؛ فقضى على أنصار الناصرية
والبعث القومي اليساري الجديد باالستعانة بسجناء اإلخوان المسلمين الذين ّ تم شحنهم ّ بالغل في معتقالت ناصر ،ليتحالف معهم
للقضاء على بقايا نظام جمال ،لكن هذا ً شخصيا في التالعب بالنار أودى بحياته هو حادث دراماتيكي معروف؛ لكن دعواه بإقامة
دولة دينية تزامنت مع انقالب محمد ضياء الحق في باكستان ثم قيام الثورة اإليرانية
األزهر والجماعات اإلسالمية فظلت رواية
وإعالن الجمهورية اإلسالمية برعاية دول النفط دون أن ُت ِّ أي قدم الحلول الدينية ّ
بسبب تأليفه كتاب “اإلسالم وأصول الحكم”
على أرفع وسام أدبي ،جائزة نوبل 1988بعد
وغيرها؛ بل كانت تهدف إلى تدمير مؤسسات
طه حسين بسبب كتابه “في الشعر الجاهلي”
كل حاكم بعده وسار على نهجه من عنف مع
وفصل الشيخ علي عبدالرازق من منصبه
القضائي وإسقاط شهادته األزهرية عنه والعاصفة التي واجهت عميد األدب العربي حتى جاء عهد عبدالناصر ودولته البوليسية
8
فهاجم مجلس الشعب رواية “أنف وثالث
باألدباء والمبدعين والمفكرين حتى جاء
اكتمال نشرها ،فطلب عبدالقدوس صك
العقول الملوَّ ثة التي ترصدت للمبدعين
وحفلت المعتقالت من عام 1959حتى 1964
“أوالد حارتنا” رائعة نجيب محفوظ ممنوعة من النشر في مصر حتى بعد حصول مؤلفها
وفاة عبدالناصر وتركه لتقاليد قمعية ارتضاها
طوائف اليسار وإحجام لليمين المعتدل.
أفكار لعالج ثورة الخبز في مصر والسودان
الدولة المدنية وبالتالي القضاء على حرية اإلبداع والتعبير باعتبار أن مشايخ الطريقة الجديدة هم أصحاب الفرقة الناجية الحائزة
فادي يازجي ً حصريا والوصية على تنفيذه، على الدين
ً مبلغا بالجامعات؛ وتغريم جمال الغيطاني ً ضخما لدفاعه ضد الحكم الظالم على الشاعر
امتدادها السرطاني.
اإلرهاب
ألعمال سينمائية كثيرة من “المهاجر” ليوسف
بشكل معتدل لتبعية الغرب مع استقالل
صاحب أهم كتاب عن مدارس التفسير
اإلعياء وانحدر أي أمل في الرقي ،وتحول
فهي نائب الحق والناطق باسم الشرع وكلمة
الله على األرض.
وظهر
االستبداد
المعنوي
ثم
الجسدي بعماء وحشي ،فقتل الشيخ الذهبي
القرآني ثم اغتيال فرج فودة ومحاولة قتل مكرم محمد أحمد وقتل رفعت المحجوب
ومحاولة اغتيال عاطف صدقي وعمليات
تصفية قيادات بالدولة ثم طعن محفوظ
.
في منتصف عام 1994وفي فترات الحقة
أحمد حجازي ،وكان الرقيب بالمرصاد
شاهين حتى “بحب السيما” ،حتى تفاقم
حضور العقل النقدي إلى تخلف مُ قيم!
هنا دعاة اإلسالم ال المسيحية هم من
وجب عليهم التزام حدود صالحيات معينة ال يجاوزونها للتدخل في شؤون دنيوية،
.
تزعم تدمير العالم اإلسالمي ويجب وقف على محور آخر هناك العلماني الداعي
مفهوم
المواطنة
مع
إلغاء
االستقالل
الحضاري ،ودعاة فصل الدين عن الدولة
وهم األغلبية في مراكز التوجه السياسي ً نفوذا في واإلعالمي والثقافي واألكثر أنظمة المؤسسات الوطنية ومنهم طائفة كبيرة تدين بعقائد اإلسالم وال تعاديها،
الخبراء فيها أعلم بها وهكذا تعقد الحوار ً بدءا –الصراع -بين الدينيين والعلمانيين
الثابتة والمصادر االعتقادية والعقائدية،
الخميني أن دم سلمان حالل ،وفي عام 2011
وضع العلماني العربي في سلة واحدة مع
أي هي تكون إسالمية بالمصطلح الذي تعنيه
ووصف أعماله باإللحاد وهو يجدد البيعة
انقسام اإلسالميين على أنفسهم بين متشدد
صودرت “وليمة ألعشاب البحر” لحيدر حيدر و”آيات شيطانية” لسلمان رشدي فأعلن
كانت للظواهري فتوى تكفير نجيب محفوظ
.
من إشكالية ضبط المصطلحات ،ومسألة
العلماني الغربي ونسق فكري واحد؛ ثم
للمال في أفغانستان! ً حقا مراده هذا اإلرهاب الديني الذي بلغ وكبح الكثير من التيارات المستنيرة وعَ َقل
-وعلماني ليبرالي! -وهنا تب ّدت إشكالية أخرى
قيادات ثقافية هيمنت على المشهد بفكر
التصدي لشريحة بعينها من العلمانيين
أقالما وعقوال وانعكس الظل الكئيب على سياسي متأقلم يهدف إلى إرهاب معنوي خانق بدأ بتقليص دور المفكر الناهض
ويصل إلى تقديم تقارير تعاون في إصدار أحكام مثل حكم التفريق بين نصر حامد
أبو زيد وزوجته ،والظلم في مسائل الترقية
مفكر وإصالحي ليبرالي ،وانقسام العلمانيين
إلى علماني ثوري وعلماني نهوضي توافقي هي تبني فرقة بعينها من بين اإلسالميين
وانتقاد ملمح واحد فقط من أيديولوجياتهم وتنفيذ فلسفتهم المادية الخالصة ونزعتهم
اإللحادية الجريئة وطموحاتهم في اقتالع الدين
من
المجتمع
بالكامل،
فاعتبروا
بذلك العلمانية ما هي إال حملة تبشيرية
وال يختلفون عن اإلسالميين في األصول لكنها فقط تختلف معهم في شكل الدولة،
لدى اإلسالميين أو مجرد دولة مسلمة تدين
باإلسالم وتدافع عن شرائعه وشعائره.
دعك من تهمة الوصف بالعلمانية لكل من
ينادي بحرية الفكر والتعبير ،ومصطلح ً غربيا ليشير إلى هؤالء الذين علمانية نشأ
رفضوا تدخل الكنيسة وسيطرتها على الحياة العامة والشؤون السياسية ،ودس الالهوت المسيحي ومعاييره لقياس شؤون الحياة
اليومية
ّ والهم
الدنيوي.
وكان
غرضهم جعل الدنيا الواقعية هي محور
التفكير والمصدر األوحد للفكر والممارسات
ودراسات االقتصاد والسياسة واالجتماع
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
9
مقال
.
والعلم والتعليم واإلعالم وهذا في نظر
روحه؛ دعك من تبعية رأي الشارع لحركات
الكوني الروحاني الذي ينبغي أن يراعي
كبرى بحدة ليست غير مألوفة على طباع ً عموما ،أما حركة الوسطية الرجل الشرقي
لإلعجاب والخوف؛ اإلعجاب بما أنجز
اكتفت بالتنبيه من أخطار التغريب دون
كبير ،ويجعل اآلخر الديني القومي ممتلئا
رجال الدين تضييق للنظرة وبُعد عن الفكر مسائل حسابات يوم القيامة ،لكن العلمانيين يوسعون المجال فيفتحون رأوا أنهم بهذا إنما ّ
الباب لكل المذاهب والطوائف للجلوس على
مائدة مشاركة ّ هم واحد وقرار واحد.
كبرى ادعت تبنيها بعث صحوة إسالمية
اإلسالمية فمارست دور المشاهد ،فمن ناحية دراسة أو تنفيذ ،ومن ناحية أخرى لم تستطع
هذه الطالئع الغربية خلقت النهضة الحديثة
الوقوف أمام أطراف الغلو والتشدد في ظل
فاستخلصت المجتمع المدني والدولة من
عن االلتزام التنظيمي ألتباع هذه الحركات
بوضعها الكنيسة والهوتها في إطارها الالزم؛ براثن قدسية التصورات الكنسية التي
.
فرضت الرجعية والجمود لعدة قرون وعندما
ساد الفكر الغربي وظهرت آثار المد الحديث في الفلسفة وأنماط التفكير والتعبير ،برز مصطلح “العلمانيون” في المجتمع اإلسالمي
بعد شيوع هيمنة االستعمار الغربي على
البلدان العربية والشرقية؛ ولعل أول من
أدخل هذا المصطلح علينا هو إلياس بقطر المصري ،مترجم الحملة الفرنسية وكتبها “عالمانية” نسبة إلى العالم المضاد لله
.
وللكتاب المقدس ثم أشاع استخدام هذا
التعريف ليصف بقية المثقفين والكتاب الذين نهجوا نهج الحضارة الغربية الحديثة
ً مثيرا المعنوي الذي يجعل اآلخر الغربي واالندفاع لتبني منهجه وتقليده دون حرص
بالتأخر وسيطرة األنا والدور القضائي، وبين الهوى الجارف نحو األول واآلليات
إثارة سياسية عامة سممت جو الحوار ،فضالً
الدفاعية ضد الثاني تتولد ذبذبة مفاهيم
والذي قضى على أدنى فرصة لمرونة التفاهم
األيديولوجي ،وبين الرغبة في الهروب من
معقدة بين النفور السلبي في مخايلة التحرر
السجن الجغرافي والظرف التاريخي.
أو لخروج عناصر مستنيرة؛ ذات االلتزام ً قيدا على الطرف العلماني الحزبي الذي كان
وال تفارق هذه الخاصية طبيعة أخرى
وقبول اآلخر ،إضافة إلى وجود شعور محض
ومدى ارتباطه أو اعتراضه على مجتمعه
ً أيضا فلم يتسع أفق االجتهاد وتبادل اآلراء بالدونية لدى الطرف العلماني بالنسبة إلى اآلخر الغربي الذي يمارس دوره الالشعوري
في االستعالء على المدرسة اإلسالمية في ُّ التحضر؛ هذا التضارب الالموضوعي الذي انسحب بوعي أو دونه وبأشكال مباشرة
وغير مباشرة على أطر التعامل مع اآلخر والمنظار الذي يميز ثقافته واتجاهه وإنجازه
حيث صار اإلسالم في دولة ال تديرها
تقترن بالبعد األخالقي والنفسي للمبدع الكبير الذي يضم خصومة الفكر ،أو جماعته
الصغيرة التي تضم زمالء االتجاه ،أو حتى خليته الدقيقة التي تضم خالّن الحماس ّ ً وأخيرا في المماثل واألوفياء لذات الهوى،
حدود كيانه هو نفسه في محاوراته الذاتية الكاشفة مستبدالً الكوجيتو الديكارتي للمعرفة بالكوجيتو الضد الذي يهتف “أنا لست آخر؛ إذن أنا موجود!” في حالة نفور
سلبي ينطوي على نزعة توحيدية ،تجميعية، ً معتمدا على ذات طابع قهري يناقض نفسه
الشريعة؛ وهكذا يصير اإلسالم مجرد دين
كالمسيحية ،يعطي ما لقيصر لقيصر وما
مركزية النقيض التي ال يظهر فيها -بعد أي
لله لله؛ بينما يرى اإلسالميون أن المسيحية
صراع فكري -سوى تخيل أيديولوجي يدعم
يمكنها االكتفاء بدورها في جدران الكنائس،
أما حركة الوسطية
في النهاية التبعية المنطقية لفكرة واحدة قد
الحضاري ما يرفعه فوق مناهج االستشراق
اإلسالمية فمارست دور
وفي إطار هذه المستويات المتناحرة
المشاهد ،فمن ناحية اكتفت
يأخذها المتأمل الحقيقي في االعتبار عن
ّ وأعم وله من التاريخ لكن اإلسالم أشمل ومكونات الخيار الحضاري الغربي ،وأن
العلماني المسلم أخطأ في اجتهاده وحسبوا أن الخيار اإلسالمي في شكله المملوكي
العثماني هو االحتمال الحقيقي والوحيد ً حرصا على ضمان النهضة اإلسالمية ،لكنهم -اللهم إال مدرسة اإلحياء والتجديد على يد
جمال الدين األفغاني واإلمام محمد عبده -لم ً ً حضاريا أو رؤية بديلة ،بل نموذجا يق ّدموا
ال تكون هي األفضل في ظروف أخرى.
تتجلى شواهد وغوامض كثيرة يجب أن
بالتنبيه من أخطار التغريب
مناقشته الصراع بين الديني والدنيوي،
دون دراسة أو تنفيذ ،ومن
البعد ،ح ّدي االتجاه مفهوم التحزب أحادي ُ
وبين اإلسالمي والعلماني حتى ال يكون
ناحية أخرى لم تستطع
في ظل ممارسة مستمرة ألدلجة اآلخر
الوقوف أمام أطراف الغلو
خائن عميل أو هو رجعي بليد ،ثم وصفه
وتشويه سمعته إما بأنه منحرف دنيء أو
استخدموا لغة عنيفة خشنة وبرزت بينهم
والتشدد في ظل إثارة
عقيمة في المؤسسات اإلسالمية التقليدية،
سياسية عامة سممت جو
انتمائه الوطني وطرده من جنة االعتقاد
الحوار
مؤلفة “االستغراب” عندما تقمص شخصية
فصائل تميزت بالغلوّ
والجمود ،ودوائر
وحلقات الذكر والخرافة الصوفية ،وتجاهل
أكثرهم سنة الله في التغير والتطور والتنوع
متوهمين قدسية إلهية على تجارب السلف، وخنق الحاضر والمستقبل في صندوق صدئ
ملتزمين بحرفية النص دون التبصر في
10
الحضاري ،هذا الشعور المراوغ الذي يظل ً ً كامنا ،فاعالً ،قرين نوع من الفصام مندسا،
بالكفر واإللحاد ،أو بالغباء والتعالي ،وبالتالي
الحكم عليه بإعدام عمله الثقافي ونفيه من
السليم؛ كما فعل المفكر حسن حنفي في قائد استعراض ووضع كل فالسفة الغرب في
طابور عرض يحركهم كعرائس الماريونيت
كيفما شاء ،وكما حال له ،دون أدنى مراعاة
لظروف خلقت أفكارهم ،ودون أقل تميز بين
الوجود الموضوعي لفيلسوف وآخر ،فأقام محكمة تفتيش على صفحات كتابه واعتبر
أن طائفة المفكرين أمامه األعداء المالعين ال لسبب سوى أنهم من أهل الغرب ،وبعد أن دق بمطرقته على المنطق ورحابة الفكر السليم
أصدر حكمه بالعداء لكل فكر يأتي من الخارج ،وحشر الفالسفة العظام في زنازين
ضيقة بعد أن صنّفهم في مجموعات تناسب
.
األحوال النفسية للقارئ الواحد ،وحسب الفروق بين األفراد ،ويأخذ معاني مختلفة ً ً تابعا طبقا لمراحل عمر الفرد الواحد ،فيبدو
مشكالت كبيرة بال حل -اللهم إال الحلول
أن أعماق الشعور في هذا الحال المعرفي
وتعتمد في األساس على أن نترك لهم
.
لتطور الفرد في مراحل عمره ويعني ذلك أن ذلك ومن هذه النقطة ينشأ مبدأ االجتهاد
والتجديد ،الذي يظن اإلسالميون أنه حكر عليهم ،رغم أنهم ال يضعون ضمن أهدافهم
الفكرية األصلية كشف الوجه الحقيقي
جرائمهم الفكرية هذا الوضع المعرفي على مستوى أكثر رقياً
تصدم من عدم عثورهم على منابع طاقات
نضع المفكر الكبير مؤلف “االستغراب” في
ّ وهاجة ،ربما ألن مشرقة لحركة نهضوية
من مناخنا القسري القهري يفرض علينا أن
لإلسالم في مخاطبة اآلخر ،وبالكالم معهم مشروعه الحضاري وإمكانات تحقيق صورة
أي آلية موضع التقييم والتحليل لنعرف ّ قمع أجبرته على أن يستخدم هذا المنظور
بين العلمانية والعمالة والكفر واإللحاد،
مفهوم القراءة للنص المقروء ،حسب حكم
هؤالء من خبرة وعلم ومهارة ومستوى
.
التقليدي في اإلسقاط والتفسير ويرادف
المفكر الكبير جابر عصفور ،فيغدو مرآة للذات القارئة وذلك على النحو التطبيقي
الذي انتهت إليه قراءة نص اآلخر في ً مرادفا نظرية المعرفة كتاب “االستغراب”، ً في الفلسفة التقليدية ،خصوصا من حيث أشكال العالقة بين الذات العارفة وموضوعها
أغلب وقتهم أضاعوه في محاوالت الربط وبالطبع لم يلتفت أحدهم إلى إمكانات
فكري تحليلي؛ وهكذا تقف طاقات الدينيين عند الصفر ال تتعداه؛ بل األدهى واألمر
إضافة المزيد من الجهد لوضع إكسسوارات تجميلية لرجل الشارع حتى يزداد يقينه من
أن هؤالء هم أهل الحق ،والهدف..
دنيوي
المعروف ،فالقراءة تومئ إلى الذات الفاعلة
عند فتح أوراق هذا الملف سوف تجد
السريعة الحاسمة التي ال ترضي سواهم مائدة الحوار منذ بداية الجلسة! -من هذه
المشكالت ،ما هو موجود في التركيب الجيني لعقل األمة اإلسالمية ،ويتمثل
في ظاهرة انقسام الفرق والطوائف منذ
الغزو االستعماري دون إيجاد سبل تقارب ً أبدا؛ ثم المشكلة واضحة ،وربما لن توجد
األيديولوجية للقائمين على الدين من رجال فقه ودعوة الراسخة في عدم قدرتهم على تحديد موقفهم من العالقة بين الماضي
والحاضر والمستقبل ،ومن ثمة عدم مراعاة
الثوابت والمتغيرات ،وبالتالي ال يصل للعابد الفرق الحقيقي بين اإللهي الملزم والبشري
المرشد من الموروث اإلسالمي ،ثم تتسع الدائرة ليظهر الصدام مع القوانين الوضعية
ودساتير الدولة والموقف من الحضارات األخرى ودول الجوار ثم التعامل مع األقليات غير المسلمة ،والتفاعل الحضاري في زمن
العولمة؛ ثم -ومن جديد -مشكلة الحوار مع العلمانيين ،هذا الحوار الذي يعد أكبر معوقاته
في المعرفة ،والنص هو موضوع المعرفة،
هو عدم حدوثه من األصل بشكل حضاري
ّ يتم وفعل القراءة هو فعل التعرف الذي
ألسباب عدة لعلها أهمها هو االختالف على
في الزمان الوجودي والتاريخي من خالل
.
ً غالبا (؟!).
المفاهيم وعدم توحيد المصطلحات مما
الشعور وليس النص المقروء ،وثيقة مدوّ نة
الجانب األدبي من الكتب
يجلب المزيد من الخلط والبلبلة فيزداد
هو حقيقة موضوعية مستقلة أو حضور
المقدسة يتوجه إلى الناس
إن مصطلحي تيار إسالمي وآخر علماني
في فهم حسن حنفي لعملية القراءة ،وال
احتمال التقاء التيارين صعوبة.
تاريخي معين ،إنه صورة بال مضمون ،روح
ً جميعا ،في كل زمان
لهذا النص مضمونه وجسده ،وبعبارة أخرى: ً موضوعيا كأنه النص ال يحتوي معنى
ومكان ،وليس من الضروري،
يحب البدء بهذه المصطلحات على هذا
وال من المحتوم ،أن تكون
من البداية ،وكان من الممكن -إذا افترضنا
هائم بال جسد والقراءة هي التي تعطي
.
شيء ،إنه مجرد ورق ومداد والقراءة هي ً التي تحيله إلى معنى وتجعله قوالً معلنا، ً ً مسموعا ،وتوجيهات عملية ،ومعارك ونطقا
سياسية واجتماعية.
ً ً شيخا قسيسا ،أو َح ْب ًرا ،أو من شيوخ األزهر ،لتقرأ في
وليست الحقيقة في قراءة النص -والكالم
التوراة أو اإلنجيل أو القرآن،
تطابق المعنى مع الواقع بل تطابق المعنى
ً إنسانا وإنما يكفي أن تكون
لدكتور عصفور -من منظور هذا الفهم ،هي مع التجربة البشرية ،وتجسيد هذا التطابق
للشعور الفردي للقارئ ،فكل قراءة إعادة بناء
مثقف
يضعنا من البداية أمام ديني وال ديني (ال إسالمي) – ضد (اإلسالم)
نفسه.
البعض
النحو لتحفيز الحضور ضد الطرف اآلخر
حسن النوايا -أن يستبدلها بالتيار الديني ً متجنبا األحكام القيمة التي والتيار المدني خرجت من جذر تعريف العلمانية الذي نبت في الغرب أصالً؛ مع االنطباع السريع الذي يخطر على الذهن أن العلماني ليس بمسلم أوالً ويعتبر أن اإلسالم أحد الدعائم
ً معا هذه الرئيسية للمجتمع الذي يجمعنا ً ً استقطابا حادا ينبغي األلفاظ العامة تعكس
.
للمقروء ،وخلق جديد له في شعور القارئ.
تالفيه من البداية إن كنا نرغب في الوصول
مجموعة من المتغيرات ،وأنه يتحول حسب
هادئ يصل بنا إلى شكل للحياة يضمن األمن
ويعني ذلك أن النص ليس له ثواب ،فهو
إلى صيغة توافقية تجمعنا على طاولة حوار
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
11
مقال
.
.
واالستمرار وكما يقول د محمد عمارة، عندما يستخدم مصطلح إسالمي وكاتب
إسالمي وتيار إسالمي ،هل هذا يعني أن من ال يصنّف تحت هذا الشعار هو غير مسلم؟ ً شيئا من القلق المشروع ولعله هذا ما يثير من المفيد عن األحاديث األكاديمي على هذا المستوى أن يقول اإلنسان رأيه في
الذوق الفني لتقرأ في هذه الكتب المقدسة، ولتجد في هذه القراءة لذة ومتعة وجماالً،
بل ليس من الضروري ،وال من المحتوم ً مدفوعا إلى أن تقرأ هذه الكتب المقدسة، القراءة فيها بهذا الشعور الديني؛ بل تستطيع
أن تنظر في هذه الكتب نظرة خصبة منتجة، ً ً ديانا ،ففي هذه الكتب مؤمنا وال وإن لم تكن
هذه النقطة ،فمصطلح “إسالمي” ال يعني ً مسلما فنحن في أن غير المتصف به ليس
القلب اإلنساني ،أحاديث تالئم ما اكتنفنا
نجد أن كلمة “إسالمي” كأنها الرسالة ،بالمعنى
ال يتعلق األمر هاهنا بتذكر حالة الفقدان
تاريخ التراث والتاريخ اإلسالمي القديم الحركي ،سواء كان ذلك في القضايا الفكرية
.
جمال فني يتحدث إلى العقل اإلنساني ،وإلى
تتعاطف مع االشتراكية وتؤمن بها كأصحاب مصلحة فيها ولكنهم ليسوا هم بالذات
اشتراكيين أو شيوعيين بالمعنى التنظيمي، أي أصحاب الموقف الذي يحوّ ل هذا الفكر
إلى واقع تطبيقي.
والعارفة والمكلفة بالنصح واألحكام؛ األمر العالم الثالث التي ما إن حققت استقالالتها
والتي جاءت بشكل مؤسف ،في الكثير من نماذجها ،بدكتاتوريات مختلفة في كل شيء حتى في أشكالها القمعية فأجبرت هذه
المجتمعات الناشئة على نسيان موروثها الثوري والتفتح على آفاق المستقبل ،كما هو في فكر فرانز فانون ،إن المشكلة في ً تنظيما هو الذي قانون الثورات ،أن األكثر
مسلمون جيدون على مستوى الممارسات
المسلمين في مصر -بل وقد يدفع بها نحو
اإلسالمي
جهادية
كقضية
فعل المجلس العسكري وجماعة اإلخوان
ونضالية،
اإلحسان بدل االعتراف له باإلحسان! هذا
لروح الصفقة ،فمن وجهة نظر المحسن إليه يبدو اإلحسان وثيقة عهد ينال هو بموجبها هينة حتى لو كانت كنزا هبة دنيوية يراها ّ ّ غل عبودية إذا قيست أو تحريرا لرقبة من
بالمقابل الذي سيكسبه صاحب اإلنسان
“الثوري” وقد يكمن سر المفارقة اإلحسانية في تأويل هذا المقابل الملفوف بالستور، وعندما يفترض حكيم مثل “سيكا” وجود
عزاء لصاحب اإلحسان في االرتياح الغامض
الذي يشعره المحسن يغنيه عن اعتراف ً حكيما آخر هو المحسن إليه باإلحسان فإن
“إمرسون” يفترض العكس عندما يتحدث عن استحقاق صاحب اإلحسان للصفعة من يد
.
المحسن إليه مقابل إحسانه وهو جدل لن يجدي في إماطة اللثام عن المقابل الذي ال
فاإلسالمي هو الذي يريد أن يضع تصور
يستعير غموضه من بُعده الوجودي بقدر ما
هذا الخيار الفكري موضع التطبيق لذلك
يستعيره من طبيعتها الدينية.
فإن تعبير “إسالمي” ال ينفي إسالم التيارات
مضى على الدولة اإلسالمية
كتابه “مقاالت اإلسالميين” لم يكن يرى أن
الذين ال يقولون بهذه المقاالت وال يشتغلون
حوالي ألف وأربعمئة وثالثة ً عاما وباستثناء فترة وثالثون
اإلحسان – الثوري – الحامي – التنويري -يريد ّ تكفر عنه آالم السهر أن يدفع بإحسانه إتاوة
وبالتالي فإن استخدام مصطلح “إسالمي” هو
الخالفة الرشيدة كان حال
في البدن؛ والمحسن إليه -األقلية المقهورة
المسلمين كما هو ثابت في
بالحدس لكي يدرك محنة الشريك فيستنكر
يكون
من تحرّ ر! هذا الكالم ينطبق بحذافيره على
األخرى فأبوالحسن األشعري عندما وضع
بهذا اللون من ألوان الفكر ،هم غير مسلمين
استخدام سليم من الناحية العلمية لكنه ال
.
ينفي إسالم اآلخرين لذلك يقول طه حسين في كتابه “رحلة الربيع والصيف” إن الجانب
األدبي من الكتب المقدسة يتوجه إلى الناس ً جميعا ،في كل زمان ومكان ،وليس من
الضروري ،وال من المحتوم ،أن تكون َح ْب ً را، ً ً شيخا من شيوخ األزهر ،لتقرأ قسيسا ،أو أو في التوراة أو اإلنجيل أو القرآن ،وإنما يكفي ً ً مثقفا ،له خط من الفهم أو إنسانا أن تكون
12
ً وأنواعا من نكران اإلحسان السبب للتمرد
(الجموع الالهية من األقلية المضطهدة)
اإلسالميون هم أناس لهم موقف ،وإن جمهور
الشعائرية إذن المقصود هنا :قضية النظام
يتحول إلى قوة دافعة لألمام؟ لكن نكران اإلحسان أصبح دليالً على فساد طبيعة ً صنوفا مجهولة اإلنسان ،حتى أصبحنا نرى
الكوني يتأمل التجربة فيراها طبيعية أقرب
يحوّ لها نحو أو يغير مساراتها الجوهرية -كما
األمة هو مسلم ،والكثير من المفكرين هم
.
في الجمود فما قيمة التراكم إذن إذا لم
أو استرجاع ذكرى تقليدية ألن الشخصية ً حكرا على فرقة الثقافية والفكرية ليست
االشتراكي أو الشيوعي هو المنظم الذي
وأن وجود هذا الحزب ال ينفي وجود أناس
والخبرات في مهب ريح التخلف والرغبة
عجيب في البداية لكن الكاتب إبراهيم
من األطوار المختلفة والظروف
الذي دعمته االنكسارات الحاصلة في بلدان
كتيبة طليعية لمن يتوجه هذا التوجه الفكري
ويتهمش دورها ويتقزم وتتالشى التجارب
المتباينة.
أو في الجهاد التنظيمي نفسه ففي اإلطار الماركسي مثالً :الطبقة العالمة يمكن أن
يوجد في حزب ،وبالتالي يكون هذا الحزب
فرأينا كيف أن القوى الثورية تنزاح للخلف
ترتقي إلى مستوى االنتقام من صاحب
من الناس تزعم أنها الداعية والفاهمة
تكون صاحبة مصلحة في االشتراكية ولكن
المزيد من االنغالق والتآكل الداخليين،
التاريخ والتراث من أسوأ ما
قال نيتشة في “هكذا تكلم زرادشت” :من ً دوما مهدد بأن يفقد الحياء – صاحب يهب
والبحث التي تسري في الروح سريان الدم
واألغلبية الصامتة -ليس في حاجة لالستعانة االعتراف بإحسان صاحب اإلحسان ،ألنه ً أيضا على يقين بأنه هو من حرّ ر ،بأنه هو نظرة األوصياء على األديان في المجتمع
الحديث الذي تحرر على يد غيرهم ،وهم في الغالب من القوى اليسارية الليبرالية
-ويفترض المتأسلمون أن هذا نصر الله
فادي يازجي المبين! -ثم تأتي دعواهم بأن الحق والعدالة
الكبرى في األرض ،دينية أو مدنية ،ال يحسن
لن يأتيا إال بإحياء العصر الذهبي لإلسالم.
القيام عليها إال عباقرتها وفالسفتها ،ولذلك
لقد مضى على الدولة اإلسالمية حوالي ألف ً عاما وباستثناء وأربعمئة وثالثة وثالثون
األكفاء النابهين من أولي السبق والكفاية إلى ً حدثا أيدي نفر مغمورين في دينهم وعقلهم
كما هو ثابت في التاريخ والتراث من أسوأ
التي صحبت هذا االنهيار في األداة الحاكمة
ولكن ما هو العصر الذهبي هذا؟ ومتى كان؟
فترة الخالفة الرشيدة كان حال المسلمين
ما يكون ،حتى مسألة تطبيق الشريعة لم تحدث كما يجب إال في عهد الخلفاء
.
الراشدين بالنص والروح روى مسلم عن
كان انتقال الخالفة اإلسالمية من أيدي
ً جليا في تاريخ اإلسالم ،ولوال المالبسات
.
بعضهم على رقاب بعض” وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال :قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم “إذا مشت أمتي المُ طيطى (مشية التبختر) ،وخ َدمتها أبناء الملوك فارس
والروم ُسلط شرارها على خيارها” وهذا ما
تنبأ به الرسول الكريم فأفلت الزمام من أيدي ً عاما المؤمنين وضاعت الخالفة بعد ثالثين
.
من قيامها ثم صار الحال كما عرفنا وكتب
الشيخ الجليل محمد الغزالي في “اإلسالم
واالستبداد والسياسي” :وبعد أن كان ُحكام اإلسالم أعرف الناس به وأفقهم فيه وأحناهم على أهله أصبح أكثرهم حثالة تافهة ُ تضر وال تنفع ،وتفسد وال
تصلح.
والرساالت
ً ً مسيحيا مدح يزيد بن معاوية شاعرا حتى إن
ظله قدر ما تواتيهم الفرص ،فسلموا للوالة
بن عوف :نكون كما أمرنا الله تعالى،
تنطلقون إلى مساكين المهاجرين فتحملون
بعدما تولى رئاسة الدولة غلمان ماجنون، وبعدها ُلعن السابقون األولون على المنابر،
وحرياتهم على أيدي الوالة المناصرين للملك
يعترفوا باألمر الواقع ،وأن يخدموا الدين في
لقد تحولت الخالفة الراشدة إلى ملك
وتتحاسدون ،ثم تتدابرون وتتباغضون ،ثم
األخرى؛ حتى هانت قيم الخلق والتقوى
فقال :ذهبت قريش بالسماحة والندى/واللؤم
عبدالله بن عمرو قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا ُفتحت عليكم خزائن
فقال صلى الله عليه وسلم :بل تتنافسون
الحاكم المستبد يثير هذه النزعات الضالة، ً ً ومنتصرا بإحداها على ضاربا بعضها بالبعض
لوقف سير اإلسالم كرسالة عامة ومن هذه ً كثيرا من ذوي الفضل ،رأوا أن المالبسات أن
المتغيبين وتعهدوا للمجتمع بما يمكنهم من
أي قوم أنتم؟ قال عبدالرحمن فارس والرومّ ،
الضغائن بين العرب والفرس وغيرهم من األجناس التي دخلت اإلسالم قبالً ،وكان
اإلصالح.
عضوض ،واحتكرت زعامة المسلمين أسر
معينة ،في العهد األموي ،فضعف إحساس
األمة بأنها مصدر السلطة ،وأن أميرها نائب منها أو أجير لديها ،وأصبح الحاكم
الفرد هو السيد مطلق النفوذ ،والناس أتباع
تحت عمائم األنصار! وابتذلت حقوق األفراد
العضوض ،فاسترخص القتل والسجن! حتى
يروي الترمذي عن هشام بن حسان قال: ً صبرا فوجد مئة ألف أحصى ما قتل الحجاج ً ألفا!” وروى البخاري عن سعد بن وعشرين
.
المُ سيب :لما وقعت الفتنة األولى -أي مقتل ً أحدا ،ثم عثمان -لم تبق من أصحاب بدر وقعت الفتنة الثانية -أي الحرة -فلم تبق من ً ُ أحدا ،ثم وقعت الثالثة الحديبية أصحاب
إشارته؛ ترى الناس إن سرنا يسيرون حولنا/
فلم ترتفع وللناس َطباخ (أي فقدوا قوتهم).
الخالفة رجال مي ّتو الضمير وشباب سفهاء،
هذه الفتن المترادفة كانت من العنف بحيث
وإن نحن أومأنا إلى الناس ركضوا! وتولى جريئون على معصية الله واقتراف اإلثم،
.
وليس لثقافتهم اإلسالمية قيمة ثم اتساع
والواقع أن الهزة التي أصابت اإلسالم من لو أصابت دعوة أخرى لهدمتها ،ولكن معدن
الدين وتماسك العلماء والجماهير حوله
نطاق المصروفات الخاصة للحاكم وبطانته ّ ومتملقيه ،وتحمّ ل هذه المغارم بيت مال
سالم معافى ثم يستأنف سيره في العصور
حاجات الفقراء ومصالح األمة ،وعادت
ً لزاما للقبضة المتزمّ تة أن تعادي كل فكر وكان
ّ وأثر هذا السرّ ف الحرام على المسلمين عصبية الجاهلية التي هدمها اإلسالم،
فانقسم العرب قبائل متفاخرة ،ووقعت
أمكن من اجتياز هذه األزمات العصيبة وهو
من جديد.
ليبرالي تحرّ ري ،على الرغم من أن العلمانية ً ً عقيدا من الدين ،بل هي موقف موقفا ليست
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
13
مقال
من النظام السياسي في المجتمع ،وال عالقة ً له باإليمان ّ تماما، قل أو كثر أو حتى انتفى إنه موقف من نظام الحياة ووضع المجتمع
أو من تجلياتها المختلفة ،فهناك الحقيقة
هذا الفكر النائم -بتعبير نيتشة -أن نكتفي
األخالقية ،وال تذهب إلى الفن باعتباره
من الفلسفة ،فهذا يعني إقصاء غيرها من
تعيد النظر في األجسام ،ألن الفن لم يكن ً ً دائما أخالقا بالمعنى الديني السلفي ،فهو كان
الفلسفية والحقيقة االجتماعية والحقيقة
السياسية والحقيقة الثقافية.
وقوانين الدولة ،ومن عالقة الدين بالدولة، ً مؤمنا وأصوم وأصلي لهذا ال يمنع أن أكون
باختزال الحقيقة فيما يأتي من الدين ،أو
لدي موقف علماني من السياسة أو من نظام ّ
الحقائق ،واالكتفاء بالرؤية المغلقة العمياء،
وأراعي تأدية الفروض وأشجعها ،لكن يبقى
الدولة ،وعليه ال ينبغي أن يؤدي تعبير ديني ومدني ،وإسالمي وعلماني إلى تشويش
.
التي ال تغير نظرها إلى األمور وكما جاء
في نص صالح بو سريف “مرآة أفالطون”:
على صلب القضية ،فهي تعبيرات مجحفة ً كثيرا عن ال تخلو من عمومية تنحرف
من السلفية األصولية ،أو هي تكريس لفكر
فكلمة ديني تعني أن العلماني ال إيمان له،
حين لجأ أفالطون إلى أرسطوفان ،وهو
من قضية المجتمع وأركان الدولة وكالهما
تخيل الواقع، زمنه من ينتقد ،أو من يعيد ّ
التوصيف الرقيق للرجال وللمواقف.
وكلمة مدني تعني أن اإلسالم بال مواقف غير صحيح ،وماذا عن الفضائل اإلسالمية
والفرق العلمانية التي تختلف فيما بينها في الكثير من األيديولوجيات والمناهج
مصادرة الحقيقة باسم حقيقة أخرى هو نوع التحريم والمنع ،ورفض لالختالف
والنقد.
طريح الفراش ،فألنه لم يعد يجد ،ربما في بنفس السخرية التي كان أرسطوفان ،ينتقد
بها هذا الواقع ،أو يعيد تشكيله ،وفق منظور جديد ،ليس هو المنظور الذي كان الفكر
واألهداف رغم العناوين العامة والشعارات.
اليوناني غرق فيه فأرسطوفان ،بالنسبة إلى
الشارع وحديث المقهى والندوات العامة
كان أفالطون نسي في لحظة سابقة أن
وعندما نزلت هذه االصطالحات إلى رجل
صارت “إسالمي”! ما تعبر عن إلهي ال يخطئ
أو هو متزمت مثير للملل والجمود ،وكانت
“علماني” تشير إلى ملحد منحرف يدعو للضالل ،فصارت ُشبهة! وهكذا! فبدالً من التحاور والتالقي وتوحيد
.
أفالطون ،في هذا الوضع ،هو حقيقة أخرى، يُ سبغها على الشعر ،ما جعله في فخ التحريم
.
واإلقصاء كما حدث مع الشعر ،والفكر، يحدث اليوم مع الفن والرسم والنحت
والرقص والتمثيل ،ومع اآلثار التاريخية
القوى ولو اختلفت األفكار ،نجد أننا أضعنا
عن طريقة إلعادة التعهد بالموقف الثابت
الموحد ،والذي لم يكن في الحقيقة سوى
تكرار بديهية كان من المفروض أال تخضع
.
للجدال فالحق في المساواة بين الطرفين
المكمّ لين بالضرورة لبعضهما البعض هو حق طبيعي لكليهما وللمجتمع والفكر ،على الرغم من أن التاريخ يسرد لنا وقائع تقول بأن
افتئات حق طرف على طرف كان في مناطق ً معكوسا فال وجود بعينها وأزمنة أخرى
.
لحقيقة واحدة في دنيا الفكر وهذا مثالً ما وقع فيه أفالطون عندما طرد الشعراء من مدينته الفاضلة ،ألنه كما قال أحد المفكرين
المعاصرين ،ممن طالتهم يد التكفير؛ مشكلة
أفالطون أنه جعل من الحقيقة الفلسفية ً معيارا للحكم على الشعر فطرد الشعراء من
.
جمهوريته فهو لم يوسع من معنى الحقيقة
14
إال من زاوية األخالق أو من زاوية الحقيقة
حقيقة أخرى ،تعيد النظر إلى األشياء كما
ً أخالقا في سياق فني جمالي ،يعين ترتيب ً نوعا األوضاع وفق منظور يكون فيه العراء ً قهرا من النقد لهذا االحتجاب الذي صار
لمعنى الطبيعة ولمعنى اإلنسان ،الذي هو في حاجة إلى اختيار بدايته ،أعني بداية خلقه
.
التي كانت عراء في أصلها أليس العراء ً نقدا لفداحة هذا التخفي الذي يريد الفكر
الماضوي السلفي أن يفرضه علينا؟ أليست شدة االحتجاب هي دعوة إلى العراء أو هي باألحرى شدة عراء؟
.
يقول د سعدالدين إبراهيم أنه في أوائل
السبعينات أفرج الرئيس الراحل محمد أنور
السادات عن بقية المسجونين والمعتقلين من اإلخوان المسلمين ،وأعطاهم الضوء ً سياسيا ،وبصفة خاصة األخضر لكي ينشطوا في الجامعات المصرية التي كان يسيطر على العمل السياسي فيها حينئذ اليساريون
والناصريون المناوئون لنظام السادات ،ونمت ّ باطراد منذ التيارات اإلسالمية في مصر ذلك الحين ،وبدأت تشكل ظاهرة اجتماعية
.
نصف الوقت وأغلب الجهد وكل المرض في محاوالت عقيمة يثبت فيها كل واحد أنه ً إيمانا! فال بد من البحث ليس أقل من اآلخر
.
القديمة السلفية األصولية ال تنظر إلى العراء مثالً
سياسية واقتصادية وثقافية متصاعدة وقد
ً المتزمتة لزاما للقبضة كان ّ
أفلتت من قبضة أجهزة الدولة ورعايتها، ً خصوصا عندما انحرف مسار الدولة بنسبة
كبيرة عن المشروع اإلسالمي والوطني ،من
أن تعادي كل فكر ليبرالي
خالل توقيع معاهدة الصلح مع الصهاينة.
تحرري ،على الرغم من أن ّ
عندما قال في حديث لمجلة دير شبيجل
هذا الرأي الذي أكده الرئيس المخلوع مبارك
ً موقفا العلمانية ليست
األلمانية أن الرئيس السادات شجع تكوين
ً عقيدا من الدين ،بل هي
الشيوعي في مصر ،فرعى التطرف الديني
موقف من النظام السياسي في المجتمع ،وال عالقة له باإليمان ّ قل أو كثر
الجامعات اإلسالمية بهدف مقاومة التيار
.
وجعله ينمو في ظله وظلت فصائل اإلسالم
السياسي تتفرع منذ بداية السبعينات
لمواجهة النظام اليساري
الناصري.
لقد
قررت أن الدولة العليا في حيثيات حكمها
بقضية “الجهاد” المعروفة :ظلت سلطات
األمن غافلة عن نشاط التنظيم والذي بدأ في صيف 1980بدعوة الشباب االنضمام إليه
ووضع الخطط وجمع المعلومات وارتكاب حوادث النهب والسرقة وشراء األسلحة
وتخزينها ،وتدريب أعضائها على استعمال األسلحة ،ورغم أن التنظيم قد كثف نشاطه بعد 2سبتمبر 1981متمثالً في عقد اجتماعات بين قيادته ،وانتقالهم بين محافظات الوجه القبلي والقاهرة والجيزة وتكثيف نشاطهم
في التدريب على السالح ،فإن سلطات
األمن بما لها من سلطة الضبطية اإلدارية، وهي اتخاذ اإلجراءات المانعة من ارتكاب
الجريمة قبل وقوعها باتخاذ تدابير الوقاية
واحتياطات األمن العام ،لم تتخذ أي إجراء
.
جد ،أي كشف هذا التنظيم وتحركاته قبل
.
أن يبدأ في تحقيق أهدافه هذه الحسابات الحمقاء للموازنة بين اإلسالم السياسي
والتيار اليساري ،تحاول أن ترهب هذا بذاك ،واحتواء أحد التيارين باآلخر ،بل إن
السادات اقترح شعار “العلم واإليمان” ليغازل
اإلسالميين وليكتسب جماهيرية بين جموع الشعب الشغوف بمظاهر التدين
.
فأريحك من المرتبات التي تدفع لنا فكانت
لمعاداة اإلخوان ورفض مداهناتهم للدولة
الجماعة اإلسالمية إلى السعودية واليمن
جماعة الجهاد هذا األسلوب الذي دأبت
الهجرة على النحو التالي :هاجر بعض أعضاء وجبال المنيا بدعوى إقامة مجتمع إسالمي
اإلسالمية لدرجة أنه بدأ يستخدم هذه
الجماعات بعضها ضد بعضها اآلخر.
نقي في الهواء الطلق باستصالح األرض ً دائما والعيش على رعي الغنم هذه هي تحلم بها بينما كبارهم يرفلون في الحرير
ً ً وعنفا في طريقة التعامل مع النظام. تطرفا
.
اليوتوبيا التي يريدون لألجيال الجديدة أن وينعمون بالنساء وأسطول السيارات ،حتى العام 1977عندما بدأت جماعة اإلسالميين في اللجوء للعنف عندما اختطفت الشيخ
حسين الذهبي وزير األوقاف ،فانتبهت الحكومة إلى أن الجماعة صارت ذات أنياب،
وهو نفس أسلوب السادات الذي أثبت
.
فشله ومن جهة أخرى كانت الدولة تعمل
جاهدة على تشويه صورة الجماعات كافة على المستوى الجماهيري اإلعالمي؛ فكانت
الصحف الرسمية وقنوات التلفاز وموجات
أن طواغيت هذه األرض لن تزول إال بقوة ً إيذانا ببدء العنف بشكل السيف ،فكان هذا
للمعارضة بحرية الفكر والعمل ما داموا في نفس الصف ،عمالً بمبدأ عدوّ عدوي صديقي،
عام 1979لمؤلفه محمد عبدالسالم فرج ليعلن
وخرج منشور سري بعنوان “ميثاق العمل
اإلسالمي” كمعاهدة شرف ومنهج عمل
وخارطة طريق جاء فيه أن الجماعة
أبوالخير أنه بعد أحداث الكلية الفنية
والهجرة
ما سبقها من تجارب ،وذلك في إشارة
واضحة
من
جماعة
التكفير
ويسمح اإلعالم وجهاز الصحافة حتى
ً جدا ،نراها بشكل وكانت مواءمة ناجحة
واضح في حالة السيناريست الكبير وحيد ً مسموحا له نقد الحزب حامد الذي كان
الوطني والظلم االجتماعي والشخصيات ً بدءا من كبار موظفي الدولة العامة الكبيرة وحتى الوزراء ،وحتى رئيس الجمهورية ً أيضا يفضح الجانب الدموي في مقابل أنه
المادي للجماعات اإلسالمية؛ هذا المنهج الذي بدأ بدعم من كتاب ومفكرين محسوبين
والهجرة” وعرضت الحكومة رغبتها في
على التيار اليساري (لعبة السادات معكوسة) ً كثيرا بشن حملة شرسة ضدهم أضرها
التعاون معها على أساس أن الجماعة تصرف الشباب عن المناهج االنقالبية وتدعو إلى
.
الجماعات لتحجيم حركة الجماعات األكثر
وظهر في هذا الوقت كتاب “الفريضة الغائبة”
وفي كتابه “ذكرياتي مع جماعة اإلخوان
العسكرية عام 1974عقد اجتماع لقادة ً إعالميا “التكفير المسلمين أو ما يسمى
كبيرة بمبدأ فرق تسد واستخدام جماعة
اإلذاعة تعادي فكر الجماعات بشكل صريح،
المسلمة ترفض الرياء والركون وتستوعب
المسلمين” يروي قطب الجماعة عبدالرحمن
الدولة والنظام على إتباعه دون ملل وبثقة ضد أخرى ،وإطالق حرية الحركة إلحدى
الزائف .رسمي ومنهجي.
وفيما بعد راقته لعبة استخدام الجماعات
والمساومات التي تجري بينهم ،وكذا رفضت
التضخيم والمبالغة في شكليات معينة دون
الهجرة ألن الحكومة في حاجة إلى إسالمية
السلفية األصولية ال تنظر
معالجة فكرية للدوافع والجذور الحقيقية
تستوعب العامة من الناس ،وفي مقابل
ً مثال إال من إلى العراء
أصحاب الجماعات في دعوى أن النظام
زاوية األخالق أو من زاوية
هذه المبالغات كانت المقاربات المستمرة
تستوعب الخاصة من الشباب ،ثم إلى جماعة صرف الشباب عن االنقالبات يطلق الطاغوت
أيديهم في العمل لإلسالم بحرية غير منتهيين -أو يظنون أنه وضع مؤقت -أنهم
دمى في يده؛ فالحكومة قدمت هذا العرض ً تماما أن منهج الجماعة ال يصطدم وتعلم بمنهج الهجرة وخطتها الحالية ،ويصرف
الشباب عن التجمعات ذات المناهج االنقالبية
شأن تنظيم الفنية
العسكرية.
يقولون
للطاغوت إنهم ال يشكلون عقبة في طريقه، فحجبهم للنساء عن الجامعات والمدارس
يعني أنهم يقولون له ،ها نحن ذا نريحك
من مشاكل تعليمهن وانتقاالتهم ،وهجرتي ً ً انقالبيا عليك ،وأسهم بذلك خطرا ال تشكل في تخفيف مشاكل اإلسكان وأترك الوظائف
لغول الجماعات ،هذه المبالغات التي يستغلها
.
يصوّ رهم ببشاعة ويظهرهم كفزاعة ضمن
الحقيقة األخالقية ،وال
بتشبيه الحركات اإلسالمية السنية بالحركة
تذهب إلى الفن باعتباره
هذه الجماعات سوف تؤدي بنا إلى صورة
حقيقة أخرى ،تعيد النظر إلى األشياء كما تعيد النظر في األجسام
اإليرانية الشيعية ،وتخويف الجمهور من أن أخرى من إيران ،والواقع أن هذه الصورة
كان يخشاها النظام الذي يرتعب من فكرة
أن يلقى ذات مصير الشاه اإليراني ،ولكنهم ً –إعالميا -يحرّ كون كوامن الفزع بصورة
ّ تنفذ مستقبلية للحكم اإلسالمي في مصر فيه الحدود من قطع يد وجلد وتعذيب
.
وانتهاك حقوق اإلنسان مثال على ذلك مقال كتبه حسين أحمد أمين في مؤلفه “اإلسالم في عالم متغير” تحت عنوان “البيان العاشر
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
15
مقال
لقائد الثورة اإلسالمية” يتوقع فيه قيام ثورة
متكاملة في الخطاب والتفكير يمكن أن
ً ملصقا بها. اإلسالمية جعلت األمر يبدو
قليلة من قيامها يتحدث فيه عن تنفيذ حكم اإلعدام قائالً ” لقد أفلحنا بتوفيق من
التاريخ ،تقدم على عقيدة ثابتة مفادها أن
الكتاب بأنها من صنع اإلسالميين الذين
في مصر ،يلقي قائدها بهذا البيان بعد شهور
الله وفضله أن نستأصل في األسابيع األولى
شأفة العلمانيين والدنيويين ،ورؤساء أهل الذمة والفنانين والمالحدة والشيوعيين
واالشتراكيين
والوفديين
والناصريين
وغيرهم من أتباع المذاهب الضالة فاسترحنا
.
لذلك وأرحنا” ثم يتحدث عن وجود شقاق
في مجلس قيادة الثورة “أعلم علم اليقين ً أفرادا منكم قد شرعوا يتهامسون فيما أن ً تصدعا قد طرأ على قيادة الثورة بينهم بأن
اإلسالمية المباركة ،وبأن الخالف والشقاق قد دبّا بين أفرادها ،وذلك لمجرد أننا قمنا
خالل األسبوع الفائت بإعدام حفنة من
المارقين ،والعُ صاة في هذه القيادات ،في حين أن عددهم ال يتجاوز ألفين وثمانمئة ً ردا في جميع محافظات القطر ثم يقول
.
نطلق عليها مدرسة التفسير األصولي ألزمات
اإلسالميين هم أساس كل شرّ ومصدر كل ً جديدا، بالء وغم وكرب ،وهذا المنهج ليس ولكن تأسيس المدرسة وتجميع رموزها،
ونشر فروعها في الداخل والخارج هو اإلنجاز الذي تم بوضوح هذا العام ،ويتصل ً أيضا أن كفاءة العمل قد تحسنت بذلك
ً كثيرا بحيث بات الحدث يقع في الجزائر مثالً في الصباح ،فتسمع تفسيره ‘األصولي’
.
ألعضاء في الحركات اإلسالمية في عهد
وزير الداخلية السابق اللواء زكي بدر ،وأورد
تقرير المنظمة العربية لحقوق اإلنسان ()1991 ً مزيدا من أن المنظمة تلقت على مدى العام
ذلك :قضية الحل والحرمة في الغناء التي
رافقت أحداث أسيوط عام ،1988والتي
حاولت فيها بعض المجالت آنذاك وصفها بأنها اغتيال الوجدان المصري” ،وتم اغتيال
أحد القساوسة في أسيوط فتحدث راديو
الدين ومن أركانه ،فقد أفتى هذا الفاسق
ظاهر قدم المرأة ليس بعورة ،وبأن اقتناء
التي كان من أهم نتائجها عمليات االغتيال
اإلسالمية ،وفي حاالت كثيرة استمر احتجاز
ذات الموجة خالل أيام قليلة“ ،الشاهد على
رجل مسيحي ال هو متطرف وال هو مسلم
بأن صبغة اليود ال تنقض الوضوء ،وبأن
على تأكيد قوائم مدرسة اإلرهاب األصولي
العشوائي واالعتقال تركز معظمها في
وأنهم أربعة ملثمين ملتحين شوهدوا يفرون
المبتدع ،خالل األسابيع األخيرة من حياته،
يهدفون إلى تقويض النظام االقتصادي. والكل يذكر حلقات مسلسل الريان .وزيادة
بعد الظهر في إذاعتي مونت كارلو ولندن”، ً ويقرأ تحليالً موسعا له في القاهرة على
على خبر إعدام الرئيس نفسه “إن بيننا وبينه ً ً كبيرا ،وأن ذلك الخالف يرجع إلى خالفا
موضوعات حيوية شتى هي لصيقة بجوهر
ثم ظهور أزمة الدوالر ،التي وصفها أحد
لندن عن األصوليين الذين ارتكبوا الجريمة،
بعد الحادث ،ثم تبين من التحقيق أن القاتل
أصال ،والمشكلة أسرية بين القاتل وزوجته،
أيد فيها القسيس موقف الزوجة ،فانتقم منه الزوج ،لكن السمعة التي نالتها الجماعة
التقارير والشكاوى بشأن حمالت القبض
أوساط المشتبه في انتمائهم إلى الجماعات األشخاص الذين طالتهم هذه الحمالت رغم
صدور قرارات من النيابة بإخالء سبيلهم،
كما استمرت الشكاوى من رفض وزير
الداخلية اإلفراج عن أعداد من المعتقلين رغم حصولهم على أحكام نهائية باإلفراج عنهم ،وفي حاالت عديدة تحايلت وزارة
الداخلية على هذه األحكام بإصدار أوامر باعتقال جديدة ،كما شملت إجراءات القبض
واالعتقال أعدادا كبيرة من الفلسطينيين وبعض الجنسيات العربية األخرى ،وبصفة
خاصة في أعقاب أزمة الخليج ،وحادث
الصور الشمسية آلدميين ال غبار عليه” هذا ً كثيرا عن أن الشكل اإلرهابي العنيف ال يبعد
هذه اإلجراءات مئات من المواطنين الذين
ظل حكم الجماعات اإلسالمية هذا الكالم
مناطق عديدة في أعقاب إعالن نتائج
يكون هو المستقبل الحقيقي المنتظر في
.
ألقي القبض عليهم بعد اضطرابات شهدتها
.
موثق بشكل جيد في كتاب د أحمد جالل عز الدين “اإلرهاب والعنف السياسي” فقد
رصد 794عملية إرهابية دولية وقع ضحيتها ً شخصا ،وقع 43بالمئة منها في دول 954
وكل هذا يحتاج إلى ُصنع ملمة بالعصر ثقافة جديدة ّ
شعبي يقيم سلطته معتمدا على الجماهير، ّ ويشل إرادتهم ،يُ عيد بناء يُ حاصر األعداء
أوروبا الغربية ،ووقع في أميركا الالتينية 22 و 6بالمئة في الواليات المتحدة وشملت
عفا عليه الزمن في القيم
.
العمليات اإلرهابية في الشرق األوسط حرب العراق -إيران ،واالحتالل اإلسرائيلي
لفلسطين ،والحرب األهلية في لبنان ،وصار من الشائع أن تبدأ نشرة األخبار بخبر يقول
“قام ملتحون يرتدون مالبس قصيرة تشبه الزى الرسمي الباكستاني بتفجير كذا … الخ”،
فيما أشار إليه فيما بعد الكاتب الكبير فهمي
هويدي بمقال “التفسير األصولي لألزمات”
أورد فيه أن عام 1988شهد تأسيس مدرسة
مجلس الشعب.
في الختام تبقى شهادة ماركسي قديم هو
ّ وتغيره وتطرد ما تتعلم منه ّ
بالمئة منها ،و 15بالمئة في الشرق األوسط،
اغتيال الدكتور رفعت المحجوب ،كما طالت
شريف حتاتة “إننا في حاجة إلى تحالف
المجتمع ونظام الحكم بالنضال الديمقراطي الصبور الذي يدحض المصاعب ويبدد
.
والفكر .وتبني على ما هو
أصوات اليأس وكل هذا يحتاج إلى ُ صنع ّ وتغيره تتعلم منه ثقافة جديدة ملمّ ة بالعصر ّ
يغير صعبة تحتاج إلى أن ّ
يغير المثقفون من مهمة صعبة تحتاج إلى أن ّ
إيجابي في تراثنا .إنها مهمة وتطرد ما عفا عليه الزمن في القيم والفكر. وتبني على ما هو إيجابي في تراثنا .إنها المثقفون من أنفسهم
أنفسهم لكن كم هو جميل أن نسعى خطوة
بعد خطوة من أجل تحقيقها”
كاتب من مصر فادي يازجي
16
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
17
مقال
سلطة الخطاب فرس الرهان في ظاهرة الجماهير أشرف صالح محمد أساسيا لجهة األدوار التي لعبتها وال تزال على مسرح التغيرات السياسية واالجتماعية، تحتل الجماهير في التاريخ البشري موقعً ا ً وهي أدوار منها ما اتسم بالسلبية عبر الدعم الذي أعطته لقوى استبدادية أو أليديولوجيات فاشية وأوصلتها إلى س ّدة الحكم (صناعة الطاغية) ،أو عبر التضحيات العظيمة في سبيل قضايا وطنية واجتماعية (حروب التحرير والثورات) ،مما يجعلها تجمع
بين القدرة على التدمير والقدرة على التضحية الكبرى في آن واحد.
من
المعروف أن السفسطائية قد
بالمجتمعات العربية ،ومجتمعات الدول
اكتشفت اإلمكانيات التي تحملها اللغة الخصم في الخطأ ،ودور الخطابة في تغيير الرأي والموقف ،ومُ ْن ُذ ذلك التاريخ على
هذه المجتمعات ذات الثقافة التقليدية يُ عَ ّد عامالً فاعالً ومؤثرًا في بلورة وصياغة هذه
وبمعنى آخر ،استخدمت سالح البعد عن
الوعي الجماعي لهذه المجتمعات ،ومن هنا
من أجل الصمود والمقاومة ،وهنا اضطر
والسياسي في السيطرة على الشعب ،ألن
ألفراد هذه المجتمعات سهلة ج ًدا وذات
وقفت عند سلطة الخطاب عندما
كالمغالطة ،والقدرة على التمويه ،وإيقاع
األقل ،والسلطة تعي قدرة الخطاب الديني “هؤالء الذين يعرفون كيف يتكلمون ،وكيف
يقنعون الجمهور ،يتمكنون من تسخير
الجمهور لخدمتهم ،ويمكنهم بسهولة سلب
هذا الجمهور ما يمتلكه”.
الثقافة ،وبالتالي يصبح مساهمً ا في تشكيل تصبح عملية التحريك والحشد السياسي
ّ يتم االعتماد فعالية أثناء األزمات ،حيث على عناصر الثقافة التقليدية ويأتي الدين
.
في مقدمتها لذا لجأت الزعامات والقيادات في تاريخ مِ ْ ص َر على مر العصور إلى الباعث
الديني أثناء فترات األزمات.
الخطاب الديني
فعقب ثورة ،1952عاصر النظام السياسي
أسباب الهزيمة ببعد عبدالناصر عن الدين،
الدين ،إال أن عبدالناصر رفع سالح الدين للدفاع عن نفسه بالسالح نفسه ،وحاول أن
يثبت أن اشتراكيته تختلف عن الماركسية
وأنها مؤمنة بالله وبرساالت األنبياء وليست ملحدة ،وإنها ال تقوم على الصراع الطبقي،
بل ترتكز على تحالف قوى الشعب العاملة، اب الديني وسيلة ورأى في اإلسالم والخِ َط ِ لنيل رضا الجماهير وتعبئتها لمواجهة
االستعمار الخارجي ،وقرر تطوير اإلرسال
على الرغم من الدور الهام والتأثير العميق
الناصري خالل فترة حكمه ()1970 – 1956
اإلذاعي ،بحيث أصبح يشمل إذاعات كالقرآن
للشعوب ،إال أن هذا الدور يتم استحضاره
به في بعض األحيان ،لذلك لجأ الرئيس
االستسالم للمقادير والصبر على الشدائد،
للدين في المسيرة اإلنسانية والحضارية
وتوظيفه بشكل أكثر فعالية من قبل
أكثر من أزمة سياسية خارجية كادت تطيح عبدالناصر إلى استخدام الدين لدى الجماهير
وتشجيع الناس على االنغماس في مظاهر
الزعامة الشعبية أو القيادة السياسية خالل األزمات ،فمُ ْن ُذ َأ ْزمِ نَة َسحِ َ يقة واأليديولوجيا
إزاء قضاياه االجتماعية واالقتصادية ،لكنه
األزهر يخطب في الجماهير أثناء العدوان ً إدراكا منه لتاريخ األزهر الجهادي ودوره
الدينية التي امتطت موجة االحتجاجات
هزيمة 1967ضربة قاسية للرئيس عبدالناصر
بين مؤيدي التيارات الدينية المتطرفة أو
سريع االنفعال فيما يتعلق برموزه الدينية
المقدسة
ومعتقداته،
فتشير
الدراسات
االجتماعية والسياسية الحديثة المتعلقة
سياسيا ضد العدوان الثالثي في تعبئتهم ً
الكريم ،لتفسير الدين تفسيرًا يؤكد على
،1956وتعدى هذا االستخدام مجال الفكر إلى
وتجيشها، تهيج الجماهير ّ الدينية هي التي ّ سلبيا اب الديني يكون ً وجمهور هذا الخِ َط ِ
18
النامية عمومً ا ،إلى أن الدين بالنسبة إلى
أدت هذه الهزيمة إلى ارتفاع أصوات بعض ً معللة األنظمة العربية المعادية لعبدالناصر،
مجال السلوك السياسي ،فاتجه إلى الجامع
.
في عملية التعبئة السياسية وقد مّ ثلت ولنظامه السياسي ومشروعه النهضوي ،كما
التعبد عسى أن ينصرفوا عن التفكير في
أمور الحاضر.
وفي مجرى ما يسمّ ى بـ”الربيع العربي” كانت
ً سالحا ناجعً ا في يد التيارات فئة البروليتاريا الجماهيرية ،حيث كان القاسم المشترك المعتدلة على حد سواء ،هو أن الغالبية
بطرس املعري منهم ترزح تحت أشد الظروف االجتماعية
ّ تمكنت جماعة اإلخوان من تعبئة كيف
المادي أو الخدمات ،بمعنى أن قابلية هذه
الدولة،
المؤثرة في تحريك الجماهير ،إال أن ْ الخِ َطا ِبات الدينية مهما اختلفت ،فإنها
وكادت تنجح في ذلك المسعى ،فالمكون
بعيد مرتين عن طموح الجماهير المشروع
قسوة وال تؤدي دورًا في قاعدة اإلنتاج
الشريحة لالنخراط في المعسكر النقيض كجمهور
نفسي
للدين
تتناسب
طرديًا
وعكسيا مع مع وضعها الطبقي والمادي، ً
الوعي ،في الحين الذي لم تستطع قوى التحرر استقطابها به لضعف البرامج البديلة
والضمور الفكري الكبير الذي تعاني منه.
وفي سياق متصل؛ يمكننا أن نلحظ بسهولة
دينيا لتمرير برنامجها الجماهير الفقيرة ً أخونة
السياسي
في
األساسي
لقاعدة
مفاصل
اإلخوان
االجتماعية،
واإلسالم السياسي بصفة عامة ،هو فئة واسعة من الطبقات العاملة األقل تنظيمً ا وتعليمً ا ،والمهمّ شين ،الذين طالتهم سياسات
.
النيوليبرالية واإلفقار المُ منهج اب الديني من أقوى ْ الخِ َطا ِبات إذن الخِ َط ِ
تعبير عن مصالح طبقية بمظهر أيديولوجي بتحسين أحوالهم الحياتية واالجتماعية؛ مرة كونها أداة تجهيل للناس تعتمد
األسطورة والخرافة في منطقها ،ومرة
كونها ممثلة لنخبة تلفعت بجلباب الدين
وأضفت على نفسها المهابة والقدسية ،فلم ً روحيا للخطاب ضابطا اب الديني ً يكن الخِ َط ِ
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
19
مقال
اب السياسي بل وسيلة يستخدمها الخِ َط ِ السياسي لتحقيق أهداف معينة ،لذلك ُ زفرة قال كارل ماركس (“ )1883 – 1818الدين اإلنسان المسحوق ّ أفيون الشعب” إنه ُ
.
..
الخطاب السياسي
ُ الخطبة السياسية كالم شفاهي يُ لقيه
سياسيون أمام جمهور ،ويتناولون فيه أمور الحكم وقضاياه ،وهي وسيلة من وسائل
التواصل بين النخب السياسية والشعب، وبين النخب السياسية فيما بينها؛ وظلت
األداة المُ ثلى للتأثير في الجماهير وحشدهم في أوقات السلم والحرب على مدار آالف
.
السنين لكن تاريخ البشرية احتفى بقوة
السيف أكثر مما احتفى بقوة الكلمة؛ ويعلل هذا غياب الخطابة السياسية أو تدهورها في أنظمة الحكم التي تحصل على السلطة بحد
السيف ،وتستخدم البطش والقهر لالحتفاظ
.
بها الواقع أن الحكام ال يلجؤون بإلحاح إلى
الخطابة السياسة إال عندما تصبح الشعوب
قوة يُ حسب لها حساب ،ولعل هذا يفسر ألفي عام ،خضعت أنه على مدار أكثر من ْ مِ ْ صر فيها ألشكال مختلفة من االحتالل ،لم تكن َ الخ َطابة -بل غال ًبا السيف -هي وسيلة
(الراديو والتلفزيون) والتعليم في الخمسينات
والستينات من القرن العشرين.
فقد حرص النظام الناصري على أن يكون
الخطاب السياسي في متناول الفالحين
والعمال في البيئات الفقيرة أو البعيدة عن العاصمة في أطراف القرى والكفور
والنجوع ،وهكذا انتقلت الخطابة السياسية
المِ ْ صرية من عصر الجماهير المحدودة إلى
.
عصر الجماهير الحاشدة وانقطع الوصل
بين الحركات والتيارات السياسية المتباينة
وجماهير المِ ْ صريين ،ليحل عصر هيمنة الصوت الواحد على المشهد السياسي
المِ ْصري.
تيار الوعي القومي والوطني في االنتشار في العالم العربي ،وأصبحت األحزاب
سياسي استطاع أن يحرك األفراد بشكل كبير وعلى مساحة كبيرة مثلما فعل خطاب التنحي (يونيو ،)1967وبرغم عفويته التامة
إال أنه كان مؤثرًا ،واستطاع عبدالناصر أن
يجعل الناس تتعاطف معه ،فكان يلقيه وهو في غاية التأثر بل يكاد وفى أجزاء
.
منه يبكى وعلى الرغم من فداحة ما حدث
.
الخاصة بالذات” ومُ ْن ُذ سبعينات القرن التاسع عشر أصبحت ً ملمحا بار ًزا من مالمح الحياة الخطابة
السياسية
المِ ْ صرية،
وكانت
الصحف
والحضور المباشر هي وسائل نقل الخطب إلى الجماهير ،وقد أضيفت إليها في الثالثينات واألربعينات من القرن العشرين اإلذاعة المِ ْ صرية التي عُ نيت ببث خطب الملك بشكل خاص ،غير أن انتشار الخطب
السياسية كان محدو ًدا بالقياس لما أصبح عليه الحال في عصر ثورة االتصاالت
20
(فبراير )2011الذي استطاع فيه دفع شريحة
ضخمة من المِ ْ صريين للتعاطف معه ،بعد أن استخدم بالغة أبوية تقدم الرئيس بوصفه أبًا للمِ ْ صريين من غير المقبول مخالفته،
كذلك اللعب على بعض القيم االجتماعية
الوطن ،والتشبث بالموت على ترابها ،أضف
كانت على وشك إجهاض الثورة المِ ْصرية.
الحقيقة أن الخطاب السياسي ظل حكرًا على مؤسسة الرئاسة عبر منافذ اإلعالم
الجماهيري حتى أواخر القرن العشرين ،من خالل خطابات ذات بعد أيديولوجي واحد
تسعى لتجنيد الفرد والمجتمع ألهداف
سياسية ،تهمل الحقائق والمعارف فهي ال تهمها بقدر ما يهمها توظيف كل شيء في
مآربها.
استطاعت الحكومات المستبدة عبر رسائلها المرئية
حلت السياسة محل الدين ،ولكنها استعارت
الدين فقد أصبح البشر عبي ًدا لتصوراتهم
يجعلك تتعاطف معه.
وهذا ما حدث في خطاب مبارك الثاني
سبيل تعبئة الجماهير وحشدها لخدمة
صياغة عقول الجمهور
أصبحت السياسة دينًا معلمنًا ،وكما في
على نحو يجعلك تثور على الشخص بل
واألفكار ،فعلى سبيل المثال ال يوجد خطاب
بامتياز ،يؤدي إلى تغيير النفوس والعقول
تعبئ السياسية والنقابات العمالية هي التي ّ
منه الخصائص النفسية نفسها ،بمعنى آخر
الذي حدث ،حتى االعتراف بالخطأ لم يقدم
إلى ذلك؛ األداء البالغي الجيد للخطبة التي
والمقروءة والمسموعة
الجماهير وتجعلها تنزل إلى الشارع“ ،فقد
ّ يوضح الفساد الحقيقي هذا البيان ،والذي لم
وهنا أصبح الخطاب السياسي خطابًا إقناعيا
المِ ْصرَي.
السياسية محل األيديولوجيات الدينية ،وبدأ
أنه بسماع هذا الخطاب ال يملك المرء إال التعاطف معه ،بسبب البراعة التي ُكتب بها
المِ ْ صرية المحببة مثل مسألة التمسك بأرض
التواصل األساسية بين حكام مِ ْ صر والشعب في العصور الحديثة حلت األيديولوجيات
من هزيمة (النكسة) ،ومسؤوليته عنها ،إال
والتأثير في أفكاره وتوجيه
الخالصة؛
لقد
استطاعت
الحكومات
المستبدة عبر رسائلها المرئية والمقروءة
والمسموعة صياغة عقول الجمهور والتأثير في أفكاره وتوجيه أفعاله ،لكن العالم المعاصر شهد تحوالً حاسمً ا ببزوغ ما يعرف بـ”ظاهرة الجماهير الغفيرة” ،التي من الممكن
أن تثور فجأة بعد أن أمضت أوقاتا طويلة
تعاني من البؤس والمشقة ،يفعلون ذلك في اللحظة الحاسمة أي نقطة الذروة ،حينما
أفعاله ،لكن العالم المعاصر
يصبح من األرجح أن مواصلة العيش في
ً حاسما ببزوغ ما تحوال شهد ً
األكيدة للتمرد ومن تكلفته ،ومن المؤكد أن
ظل النظام الموجود أكثر سوءا من المخاطر
يعرف بـ”ظاهرة الجماهير
يسود االعتقاد آنذاك أن هناك فرصة معقولة
الغفيرة” ،التي من الممكن
ثار العبيد على األسياد ،والمستعمَ رون على
أن تثور فجأة
.
للنجاح ،وتحسين حياة عامة الناس هكذا
المستعمِ رين،
والمظلومون
والمقموعون
على السلط الظالمة والقامعة ،وهكذا ثار
المِ ْ صريون
كاتب من مصر
جامل الجراح
إدوار الخراط 2015-1926
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
21
سرد
أكاليل على األبواب نصوص حلمية عبده وازن
ظل
ً ّ صوتا ،ال أدري من كأنما هو صوت ال أحد لم أكن أسمعه ،لكنه كان
. أين يأتي .الساحة فارغة ،المحال مقفلة ،كانت هرّ ة تموء قرب باب. ً مظلما ،ضوء قمر ينفلش على أطرافه .األبنية هاجعة الليل لم يكن في نوم ساكنيها .إنها الثالثة بعد منتصف الليل .الهواء الذي يهب من البحر رطب وسميك .لم يكن يفاجئني سوى هذا الصوت الذي لم أكن أسمعه ،باألحرى الذي كنت أسمعه وكأنني ال أسمعه ،الصوت الذي ً ً كثيرا ما مشيت صوتا كنت أمشي على الرصيف الذي كأ ّنه لم يكن
.
ً غالبا خفاش عبر بسرعة من فوق رأسي واختفى بين عليه ،في الليل
.
.
. .
أوراق شجرة هل هو صوته ال ً ً وحينا يسبقني فأراه أمامي هل هو حينا كنت أمشي ،ظلي يتبعني صوت ّ ً ً وكأن أحدا يخفته؟ ربّما ،قلت لنفسي خافتا ظلي يهب ّ
.
.
ورحت أراقب ّ ً ً ً حينا ،بحسب وجهة حينا وورائي ناظرا أمامي ظلي
علي. الضوء المنعكس ّ
غابة االدميين نظرت أقصى ما أمكنني ،كانت األرض شاسعة ،تحتلها غابات،
.
أشجارها كثيرة الثمار سمعتهم يقولون :مَ ن سيقطن هذه األرض؟
.
.
اننا نحتاج الى اشباه لنا لنمألها أرض ال يملكها أحد ليس بوسعنا ً عاريا مثل نحن أن نأكل كل ثمارها نظرت الى نفسي فرأيتني
سيارته أمام نزل صغير ال عندما بلغنا مدينة "ياء" ،أوقف السائق ّ
.
تحمل واجهته لوحة كتب عليها إسمه طرقنا الباب الخشب وانتظرنا،
.
سيدة تناهز الخمسين ،بحسب ما تراءى لنا قالت فتحت الباب ّ ّ تفضلوا دخلنا بهو النزل ورحنا نلتفت يمنة ويسرة ،مذهولين بما
.
.
نرى كانت تحتل جدران البهو صور ألشخاص كأنهم راحلون ،بضع
منها باألسود واألبيض وبضع باأللوان ،نساء ورجال وأطفال ،عائالت، ً كثيرا منظر أكاليل الزهور رجل وامرأة كأنهما زوجان وما هالنا
...
الموضوعة أسفل الجدران ،وأدركنا للحين أنها زهور "اصطناعية"
.
تتوسط البهو فكانت أشبه فال رائحة تنبعث منها أما الطاولة التي ّ
.
بتابوت مغلق ،ووضعت عليها مزهريتان وجمجمة سألنا السيدة التي
...
كانت تقف الى جانبه ،وقد شعرت بحيرتنا :أهذا نزل أم ؟ ولم نكمل سؤالنا قالت المرأةّ : كل غريب يدخل النزل ،يسأل هذا السؤال نعم،
.
.
إنه نزل .ال تخافواّ . كل الفنادق في هذه المدينة تشبه هذا النزل. حتى المنازلّ ، كل المنازل .وعليكم أال تستغربوا عندما تصعدون الى غرفتكم في الطبقة األولى.
ّ حل قبل ساعتين وعلينا لم يكن أمامنا إالّ أن نرضخ لألمر ،الظالم ّ إال أن نقضي الليل هنا ونبيت فتحت لنا باب الغرفة ،وقد علق
.
عليه إكليل صغير من معدن يشبه األكاليل الصغيرة التي ّ تعلق على ّ حل علينا خوف وأخذتنا قشعريرة بوابات المقابر ،وعندما دخلنا
.
... اآلخرين الذين من حولي .لم أخجل ،قدماي مشققتان ،جلدي قاس، ركبتاي سوداوان .قال واحد :نحن آدم ،أنا آدم ،أنت آدم ،أنتم آدم...
السيدة بعيون تبرق أفرشة ومخدات أصبنا بذهول شديد ،ونظرنا ّ ً السيدة ثم قالتّ : كل األسرّ ة في مدينتنا ذعرا :كيف سننام؟ ضحكت ّ
بهن كنّا نصيح صوبهن ولم أدر ماذا فعلنا للحين ودعانا الى القفز ّ ّ ً فرحا ،وفي البعيد يتر ّدد صدى صياحنا
عليكم أن تغلقوا غطاء السرير وهو من خشب التابوت نفسه وإغالقه ً جدا ،وستجدون فيه فتحة بمقدار الوجه أو ألقل الرأس، سهل
إنهن حواء ،لقد أتين لم استغرب! ثم أشار الى كائنات أخرى قائالً: ّ
.
.
.
.
االجاصة الشجرة التي قطفت منها حواء تفاحة ،لم تكن شجرة تفاح ،هي
أخطأت .قطفت حواء اجاصة من شجرة اجاص وأغرت بها آدم. أشجار التفاح كانت أبعد قليالً ،كنت أراها ،ال أعلم كيف .الحديقة كانت بال أسيجة .كنّا نجلس نحن في ظل سنديانة عندما شاهدنا ً جميعا حواء تقرّ ب االجاصة الى فم آدم وسرعان ما راح يأكلها .كنّا نأكل ببهجة ولم يكن من حراس يراقبوننا.
22
مدينة الموت
لقد كانت األسرة الثالثة توابيت من خشب ،وقد وضعت في داخلها
.
ً الحقا هذا السرّ ولكن اآلن عندما تنامون هي توابيت سأشرح لكم
.
.
.
منها تتنفسون وتبصرون ما يمكن أن تبصروه في الظالم قال
لها احدنا بصوت يرتجف :لن أنام في هذا التابوت .سأقضي الليل ً جالسا على الكنبة .ولكن ،إشرحي لي هذا السرّ الذي ح ّدثتني عنه. ابتسمت وراحت تح ّدثنا :لعلكم لم تقرأوا ما كتب على اللوح المثبت ً مقصدا للزائرين الذين عند مدخل مدينتنا ،هذه المدينة التي باتت
.
ّ بالحجاج لقد كتب على اللوح :أهالً بكم في مدينة "ياء"، أصفهم الحي" إ ّنه الظالم الذي لم يدعكم تقرأون هذه الجملة مدينة "الموت ّ ً ّ مدينتنا باتت مشهورة جدا ،ويقصدها األشخاص الذين يودون
.
.
.
التمرّ ن على الموت يأتون الى هنا وينزلون في الفنادق ،وعندما
خلدون شيشاكيل ً أيضا هي تضيق هذه بالزائرين ،تفتح عائالت أبواب منازلها فالبيوت أشبه بالمقابر ،واألسرّ ة ّ كلها توابيت ،حتى أسرّ ة األطفال أهل هذه
.
.
.
بوصوله من دون أن يتوقف ولو مرّ ة واحدة لم يكن يهمّ ه أن يصل،
.
مثله مثل ركابه ،هؤالء المسافرين الى ال مكان كان يكفيهم أن يركبوا
المدينة اعتادوا فكرة الموت وأضحوا يعيشونها بال خوف وال خشية.
القطار ويجلسوا على المقاعد فال يغادروها ما كانوا ينهضون عنها
االعمدة وعلى االبواب اكاليل زهر انها مدينة "ياء" يقصدها الزوار
.
ّ معلقة على وإذا سرتم في األحياء ،تجدون هياكل من عظم وجماجم
. ليعتادوا فكرة الموت ويصبحوا أصدقاء معه.
قطار الالمكان
كان القطار يعبر قرى وحقوالً بسرعة فائقة ،ولم يكن يتوقف عند ً ركابا كانوا أن محطة من المحطات الموزعة على الجانبين ،مع ّ ً أفرادا وعائالت ،ولكن لم يكن يظهر على وجوههم ما يستقلونه،
.
.
.
وال يساورهم ّ هم .كأنهم لم يصعدوا القطار قاصدين بلدة أو جهة. ما كانوا يبالون متى تنتهي الرحلة وأين .كأنهم مسافرون من غير وجهة ،مثل القطار الذي ّ يقلهم .ينظرون أمامهم ،وال يكادون يحرّ كون ّ متجهمين. رؤوسهم ،وال يبتسمون وال يعبسون ،ليسوا فرحين وال ّ ّ اهتز القطار في أحيان... يهتزون إذا لكنهم كانوا ً منذرا المحطات التي يعبرها كان القطار يصفر ساعة تلو ساعة،
.
.
هائلة لم أسأل أحدا من الركاب إن كان أحد يقوده طوال تلك الرحلة ّ يطل أحد ،ال قاطع التذاكر وال المراقبون كان القطار التي لم تنته ،لم
.
.
وحده يشق القرى والسهول ،في وضح نهار ال يغيب ربما لم تكن من
.
.
سكة ال أحد أبصر سكة يسلكها القطار اما أنا فكنت اجلس بدوري
صامتا وبالقرب مني حقيبة يد.
يدل على أنهم مسافرون ،كأنهم ركاب صعدوا الحافالت مصادفة، وجلسوا على المقاعد ولم يكن يلوح في عيونهم قلق أو اضطراب
.
ليشربوا أو يقصدوا الحمام حتى األطفال كانوا جالسين في حال كن كأ ّنما من السهو لعلهم ما كانوا أطفاالً حتى النسوة ،أمهاتهمّ ، ً ّ عابرا بسرعة ظل القطار يصفر، في صورة التقطت باألسود واألبيض
.
كتب
إنني فقدت كتبي نظرت فرأيت مكتبتي فارغة وعلى األرض أوراق وقصاصات كأ ّنما رميت على عجلة صرخت :من استولى على
...
ً بعضا منها في بيت ال أعرف أين وال مَ ن كتبي؟ ثم تذكرت أنني رأيت
.
هم أصحابه ،وصرخت :هذه كتبي ،ولم يسمعني أحد إنها كتبي ،ولكن
مَ ن الذي أتى بها الى هنا ،هنا الذي ال أعرف أين.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
23
سرد
خلدون شيشاكيل
المخطوط ما إن فتحت درج الطاولة التي أخلد إليها ألكتب وأقرأ ،حتى
.
فوجئت بمخطوط علمت للحين أنني أنا مَ ن كتبه سألت نفسي :أأنا من ّ ً حائراّ ، ثم خامرني شك في أن أكون ألف هذا الكتاب؟ متى؟ كنت
أحدا ّ ً قلد ّ ّ خطي وكتبه ولكن لماذا؟ لعل أنا صاحب هذا المخطوط عندما ّ ّ أن النصوص التي يضمّ ها تشبه قلبت أوراق المخطوط تذكرت ّ
.
.
ً نصوصا لي هذا أسلوبي ،وهذه أفكار عبرت رأسي سألت نفسي :هل
.
.
هذا فخ نصبه لي أحد؟ ً فرحا قليالً اعتراني ،لم لكن أعدت المخطوط الى الدرج غير مطمئن، ّ ّ علي حل أعرف من أين ّ
.
ساعة دالي
ً غصن تتدلى منه ساعة نائما تحت عيني أبصرتني عندما فتحت ٍ ّ حائط متراخية كرغيف لم يخبز ومنها كانت تسقط األرقام على
.
وجهي ثم على األرض لم أتمكن من معرفة الوقت ،ميناء الساعة ّ تتكك ببطء ثم لم يبق فيه حتى عقرباه ،لكنني سمعت الساعة
...
ّ تذكرت.
البكالوريا
انتظار
ّ أتذكر إسمه :إنني نجحت في امتحان قلت ألستاذي الذي لم
.
.
البكالوريا ،فلماذا أتق ّدم الى االمتحان مرّ ة ثانية قال :إنك رسبت ال لم ارسب ،اسأل رفاقي ،لقد نجحنا جميعا ّ ثم تذكرت ا ّنه قال لي أكثر
.
ً دوما أسأل نفسي :لماذا أتقدم الى من مرّ ة أنني رسبت أما أنا فكنت ً امتحان البكالوريا ما دمت قد نجحت سابقا لكنني كنت أجهل ماذا
.
.
ً بـ"سابقا". أعني
امتحان الدموع أمام بوابة زرقاء ،نصف مفتوحة ،تحمل لوحة كتب عليها "امتحان الدموع" شاهدت رتال طويال من أناس عراة يقفون منتظرين نداء، ً ً ذكورا، إناثا كانوا وال ال يعلمون من أين يأتي كانوا عراة ولكن ال
.
أجسادهم ملساء ّ كلها كان أمام البوابة يقف مالك ال تظهر قدماه،
.
يحمل بين يديه إناء من زجاج ،وكلما نادى الصوت ،كان أحدهم يدرك أنه هو من يُ نادى فيتقدم نحو المالك ،ثم يحني وجهه أمام اإلناء فيسقط من عينيه ماء ،ولم يكن على المالك إال أن ينظر الى اإلناء وكأنه يسبر الماء في داخله ،ثم يشير الى اإلنسان الذي أمامه ً ً إمّ ا ليجتاز عتبة البوابة وإما أن يذهب شماالً طريقا تقود الى سالكا
ً بعيدا عندما كان اإلناء يمتلئ من ماء يهرقه غابة مظلمة كانت تلوح أحد هؤالء الناس من عينه ،كان المالك يرتفع قليالً عن األرض ،ف ِرحاً
.
...
ومهلالً وعندما ال يسقط من العين ولو قطرة صغيرة ،كان المالك ً ً مشيرا الى الطريق الوعرة وإذا لم يسقط من العين رافعا يده يرتعد
...
ّ كل اناس كأنهم بأعمار مختلفة ،ينتظرون أن يُ نادوا كي يتق ّدموا ً جميعا متشابهين بأجسادهم الملساء حتى وجوههم لم بمفرده كانوا
.
.
.
تكن تدل عليهم لم يكن من أطفال هناك الهدوء يمأل المكان ،الصوت ّ يشق الصمت السميك مثل طبقة ثلج السماء الغريب هو الذي كان
.
بيضاء ،األرض بيضاء ،كأنهما ممتزجتان واحدة باألخرى...
كان
الناس المنتظرون يتمتمون كلمات غير مسموعة ،بعضهم متجهمو
الوجوه ،بعضهم مشرقو االبتسامات ،بعضهم تلمع عيونهم ببصيص
أحمر...
مكتبة الدير
ً دربا من تراب وحصى عندما اجتزنا الغابة الصغيرة كنّا نصعد أبصرت الدير الذي كنّا نقصده بوابته كانت مغلقة قرعنا ناقوساً
.
.
.
ّ معل ً ً قا تحت القنطرة التي تعلو البوابة السوداء التي ّ تأكل صغيرا كان ً ً ّ عجوزا يتجه نحونا ،فتح البوابة كاهنا ثم أبصرنا الصدأ أطرافها
. دون أن يسأل مَ ن نحن .كان غير مبال ،لم يلق علينا إال نظرة سريعة. ً ً بياضا أيضا .لم أبصر شعره أبيض ،شديد البياض ،ولحيته الطويلة في هذا النقاء من قبل .أشار إلينا بيده لنتبعه ،كان يعرف أننا نقصد
مكتبة الدير ،وعندما وصلنا فتح بوابة من خشب عتيق لم تكن مقفلة
وقال بصوت يرتجف :هذه هي المكتبة التي جئتم تزورونها ،الكتب
إال دمع قليل كان على هذا االنسان أن ينتحي بقعة ظليلة الى جانب أمامكم ،ابحثوا عمّ ا تشاؤون .ثم أشار بيده الى صندوق وضع في البوابة ...كان على هذا االنسان أن ينتظر ال أحد يعلم كم من األيام .إحدى الزوايا وقال :هذا ال تفتحوه ،في داخله كتاب يجب أال تقرأوه.
24
.
النار
.
السحري ومضى وقال :حذار هذا الكتاب ّ المكتبة كأنمّ ا كنّا نعرفها ،جدرانها حافلة باألجنحة ،وفي األجنحة
.
تتوزع رفوف مملوءة كتبا قديمة ،ذات أغلفة سميكة كانت أسرجة ً عاليا ،واألجنحة تتعاقب الى مضاءة تتدلى من السقف الذي لم يكن ً مظلما رحنا نجوب الردهات المفتوحة الداخل الذي كان يبدو لنا
.
واحدة على أخرى ،نقترب من الرفوف ونح ّدق ،ال أذكر إن كانت
العناوين بالعربية ،لكننا كنا نقرأها... . خشب غريب الرائحة .وعلى كل طاولة مشكاة مضاءة بشمعة. كانت الشموع تشتعل ولم تكن تذوب .ولم تساورنا حيرة حيال النور المنبعث منها .اقترب أحدنا من الصندوق الذي نهانا الكاهن عن ً مذعورا :إياك أن تفتحه .راح هذا الشخص يضحك فتحه .صرخت ّ بصوت عال .ازداد خوفي وقلت له :إذا فتحته سيحل علينا سحر... ٍ لم نم ّد يدنا الى كتاب ،ال أدري
لماذا كانت تحتل وسط الردهات طاوالت ذات طراز قديم ،من
اآلخرون ظلوا صامتين ،كانوا في حال من الحيرة :هذا الصندوق يجب فتحه ،ولكن ماذا لو حصل مكروه؟ عندما اقترب هذا الشخص
من الصندوق وم ّد يده ليرفع غطاءه ،رحت أعدو بسرعة دون أن أعلم
نحو أي جهةّ .ثم...
.
أدار الرجل ظهره حتى خرجت من ظله امرأة أخبرتنا الحكاية نفسها. لكنها قالت ّإنها تشرب هناك كأس نبيذ وهي تنظر الى النار من بعيد. ً جدا. ور ّددت :النار بعيدة ،بعيدة ساعة البرج
.
نهضت الى النافذة ،أزحت الستار ونظرت الى الخارج لم أكن أعلم
كم من وقت مرّ على نومي في هذه الغرفة ،وعلى هذا السرير الذي
. .
لم يكن سريري الذي اعتدت النوم عليه عندما نظرت الى السماء في ّ ّ يحل يدل أن النهار الخارج لم يتب ّد لي إن كان نهار أم ليل ال ضوء
اآلن وال عتمة تشير الى ّأن الليل يرين على األفق.
ً ً ً ً غروبا فجرا وال صباحا وال مساء ،ال نهارا وال ليالً ،ال لم يكن الوقت
إن كان هو الليل أم النهار...
ً أشخاصا ينهضون من قدمي ،كنت أبصر كانت األرض تهتز تحت ّ
مقابر كانت تنهدم من تلقائها ،ثم تنفتح فيها توابيت وينهض أناس
...
ليسوا بأموات وال هياكل عظم ،أناس كأنهم دفنوا للتو ً أشخاصا أحياء ينهضون من شقوق بين هؤالء الناهضين من المقابر في األرض وكانوا كأ ّنما في حفلة صاخبة ،أحدهم بدت له عين ثالثة
لكنني أبصرت
ّ أتمكن من أن أسأله عن سرّ هذه في وسط جبينه ،تظهر وتختفي ،لم
.
بل في متوسط أعمارهم ،بضعة منهم يعتمرون قبعات وآخرون في
.
لم تظهر سمات الخوف على وجه أحد كانوا يرقصون
ويغنون ،األرض تهتز والمقابر تته ّدم وينهض أولئك الراقدون الذين
...
كانوا في عداد الموتى وهم اآلن في ملء حياتهم ً كنت أمشي وكأنني واقف بينهم ،ال أتق ّدم ولم لم أكن قادرا على مشاهدة ّ كل ما يجري
...
.
ً شماالً ،شماالً يمينا وفق إيقاع التكات المنتظمة رجعت الى السرير ّ لعل عطالً أصاب ساعة البرج ورحت أفكر ،وقبل أن أتم ّدد عليه قلت:
.
ّ يتم إصالحه. السماوي ،فألنم إلى أن
كنت ّ ً ً وسطرا تلو سطر كانت سطرا من الصفحة يمّ حي، كلما قرأت
الصفحة تمسي بيضاء ،وصفحة تلو صفحة كان الكتاب الذي بين يدي يمسى أبيض عندما قرأت الكتاب ّ كله لم تبق منه سوى صفحات ّ بيض حتى عنوانه ،حتى اسم مؤلفه لم يبق لهما أثر لكنني لم أكن ً عيني أيضا مع أن أعلم ماذا قرأت كانت األسطر تمحي من رأسي ّ كانتا تقرآن بنهم تلك الجمل التي كانت تتح ّدث عمّ ا ال أذكر
.
.
.
على الطاولة التي أجلس اليها ،كانت كدسة من كتب بيض ،كأنها ً أحرفا وجمالً تنتظر من يمألها
.
الغرفة الرقم 20 طرقت الباب طرقات خفيفة ،عندما لم ير ّد أحد ،فتحته بهدوء
.
ودخلت كنت أعلم انها ال تقفل باب غرفتها الرقم عشرين ،في هذا ً صباحا ،نظرت إليها تنام على السرير الفندق القديم كانت السادسة
. . تستيقظ .لم أوقظها ،وضعت وردة حمراء على مخ ّدتها وخرجت.
ذي األعمدة األربعة ،شبه عارية ،المالءة تلف نصف جسدها لم
عندما دقت ساعة الجدار في الممشى دقات سبعا خرجت من غرفتي وتوجهت الى الغرفة عشرين ،حامالً وردة حمراء ،فتحت الباب
ودخلت ،كانت ال تزال نائمة ،شبه مغطاة وكأ ّنها شعرت ببرد الصبح
الكتاب االبيض
.
لمّ ا أصابتني حيرة شديدة تركت النافذة
الي دقاتها :تك تك ونظرت الى ساعة الجدار التي كانت تتناهى ّ ً لكن ما فاجأني أن ميناء الساعة كان خلوا من األرقام تك تك تك ّ ّ ً يمينا المتدلي من علبة الساعة كان يتحرّ ك والعقارب ،وحده البندول
.
العين األشخاص الذين يطلعون من شقوق األرض عرفت ،ال أدري ً صغارا، كيف ،أنهم لم يولدوا بعد ،انهم سيولدون مع انهم لم يكونوا
.
.
وأنا على شرفة تطل على واد بعيد تشتعل فيه نار رهيبة وما إن
رحت أح ّدق الى السماء ثم نظرت الى األسفل فلم أبصر ما يفيدني
هزة
ثياب العيد...
.
ح ّدثنا الرجل العائد من هناكّ ، أنه سعيد في العالم اآلخر قال إنه عالم يشبه هذا العالم وال يشبهه في آن هناك مثالً ،قال ،أشرب كأساً
فتدثرت بالمالءة .وضعت الوردة على صدرها وخرجت.
في الساعة الثامنة دخلت ،وضعت الوردة على كتفها األيمن ،في
التاسعة على كتفها األيسر ،في العاشرة على بطنها ،في الحادية عشرة
على حوضها ،في الثانية عشرة بين فخذيها... السرير يمتلئ بورد أحمر .عندما ّ دقت ساعة الجدار الساعة الحادية ساعة تلو أخرى ،كاد
عشرة قبل منتصف الليل ،دخلت الغرفة ووضعت الوردة في مزهرية
.
كانت على طاولة صغيرة بجانب السرير ّ تدق دقتها كانت ساعة الجدار في ممشى الفندق في الطابق الثاني عيني وأبصرتها واقفة أمامي شبه الثانية عشرة األخيرة عندما فتحت ّ علي ثم خرجت عارية ،وفي يدها وردة حمراء ،راحت تنثر أوراقها ّ
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
25
سرد
.
من دون أن تنبس بكلمة وجهها كان أبيض ،عيناها كأنهما مرسومتان
بقلم رصاص ،شفتاها رقيقتان ،كانت تلف جسدها بشرشف رقيق يبين من ورائه عريها البارد نهضت من السرير مذهوالً وهرعت ً أثرا وراءها شبه عار في الممشى لم أجد لها
...
.
.
عدت و دخلت غرفتي ثم خرجت قليالً ،ونظرت الى الرقم عشرين
.
. ارتميت شبه مذهول.
على باب غرفتي دخلت ،ثم أغلقت الباب بالمفتاح وعلى السرير
العضو المقطوع رحت أصرخ وهم يمسكون بي ،عندما تمكنوا منّي نزعوا عني
سروالي وم ّد أحدهم يده الى عضوي وبشفرة يحملها بيده الثانية
انقض عليه وقطعه ،فانبجس الدم وارتفع صراخي... على التراب أمامي وكان ال يزال ينبض .ثم تركوني وحدي في طرف رمى عضوي
الغابة التي اقتادوني اليها وفرّ وا ،الدم ينزف مني وصوتي يدوّ ي دون ً ً أن يسمعني أحد ّ متخبطا في بقعة من الدم راحت أرضا، ثم سقطت
. تتسع وتتسع حتى أصبحت األرض حمراء والصخور واألشجار... خيمة الروح
ً خطا ،مع ّ أنها ما من برق التمع فوقه ،وال سجلت الشاشة االلكترونية
كانت مضاءة مثلها مثل األجهزة...
واقترب طبيب من الميت وراح يجس صدره بالسماعة ،ثم أشار الى ً مؤكدا موته وتالشي نبضه ودقات قلبه ثم اقترب طبيب آخر رفاقه
.
وراح يهز جسد الميت ،ورفع الغطاء عن ساقيه فإذا بالفراش مبلل
. نحو الشاشة ليتأكد من جهوزيّ تها وعدم حلول عطب بها... الجميع .قال أحدهمّ : ّ لعل روحه فارقته قبل أن يموت لعله بال روح .أو ّ لعل جسده كان على جسده .هذا شخص بجسد فقط .ثم قال آخر: خالف مع روحه فافترسها. ِ تمض لحظات حتى جاؤوا بمحتضر آخر .وعندما فاضت روحه لم ً ً ّ وسجلت الشاشة خطا متعرّ جا .صاح األطباء التمع برق أعلى الخيمة، ً فرحا ،وهدأوا بعد حال االضطراب الذي أصابهم .وأمر أحدهم
ببوله وهذا دليل قاطع على مفارقته الحياة ،واتجه أحد التقنيين ارتبك
ّ ً ً خوفا من أن سريعا من جثمان المحتضر الذي كان بال روح، بالتخلص
.
يفسد عليهم اختراعهم العظيم ً ً كنت أبصر هذا المشهد مندهشا ،خائفا ،وددت أن أضحك ،لكنني لم
أجرؤ.
الراقص
عندما أبصرت األسرّ ة تمأل الساحة الكبيرة ،ظننت أنني أشاهد
.
مستشفى في الهواء الطلق كانت نصبت خيمة صخمة وضعت األسرّ ة
.
تحتها لتر ّد عن المرضى أشعة الشمس خالل النهار ّ ثم لما اقتربت ُ من الخيمة علمت أن هؤالء المرضى هم من المحتضرين الذين فقد
األمل من شفائهم ،وهم وضعوا هناك على أسرّ تهم ليخضعوا الختبار عجزت عن فهمه بعدما شرحه لي طبيب كان يتنقل بين األسرّ ة، ً ً ً ّ حامالً يقطب حاجبيه عندما لطيفا ولم صغيرا عليه أوراق كان لوحا
.
استوضحته أمر هؤالء المرضى ،قال لي :أنظر الى هذه األجهزة ً جدا ،اخترعناها نحنّ ، كل األربعة خارج الخيمة ،إنها أجهزة حديثة ّ يسجل ،في لحظة موت المحتضر، مرئية ،ووظيفة هذا الحقل أن
.
صعود روحه من جسده عندما يشرف المريض على لحظة الموت، نضع سريره وهو مم ّدد عليه تحت الخيمة الكهرو-مغناطيسية ،فما إن
يلفظ نفسه األخير وتصعد روحه تهتز األشعّ ة ويُ ّ سجل اهتزازها على
.
الشاشة الصغيرة التي تراها قرب أحد األجهزة هذا االختراع أردنا به أن الروح تكمن في االنسان أن نثبت لكل من ال يؤمن بوجود الروح ّ ً صعودا نحو السماء والخيمة الالمرئية وعندما يموت تغادر الروح،
.
التي يوضع المحتضرون تحتها هي التي تؤكد أن الروح تصعد وال تنزل مثالً أو تتوه على وجه األرض ثم أشار لي أن أمكث هنا ألكون
.
ً ِ تمض دقائق حتى أتى الممرضون شاهدا على صعود الروح ولم
بأحد المحتضرين وجعلوا سريره تحت الخيمة ،وما إن شهق شهقته األخيرة حتى التمع برق فوقه وزال بسرعة ،وارتسم على الشاشة ّ خط متعرّ ج كمثل الخطوط التي ترتسم على شاشات األجهزة الطبية في
.
المستشفيات بُهرت بهذا المشهد وخفق قلبي وكأنني أشاهد أعجوبة، ً ً حقا مزيدا من الوقت هنا ألتأكد من أن ما يحصل هو وقلت سأمكث
.
يحصل بعد نحو عشر دقائق جاؤوا بمريض آخر كان على آخر رمق،
.
وضعوه تحت الخيمة الكهرو-مغناطيسية ثم زفر زفرته ومات ولكن
26
.
ّ تطل على بحر ساكن سكون مرآة يرقص كان يرقص على حافة ً عاريا بجسد شديد البياض ،وجهه صوب البحر لم رقصة باليه،
.
قبتين أبصر منه سوى ظهره وفخذين ناعمتين تنتهيان في ما يشبه ّ صغيرتين يقفز قليالً ،محرّ ً كا يديه وقدميه برشاقة ،الضوء يسقط
.
على رأسه حتى ليكاد يمحوه ،والزرقة كأ ّنها تغرقه في سرابها فيبدو
. .
كأنه يرقص في لوحة داخلها بحر عندما استدار وبان وجهه وصدره ّ ظل بدا كأ ّنه بال خصيتين وال إحليل حوضه أبيض وال شعر فيه يرقص ،محرّ ً كا ّ كل فاصلة من جسده حتى اختفى
جهاز يبث أشعة يجمعها حقل كهرو-مغناطيسي في شكل خيمة غير
.
اضطرب األطباء والتقنيون للفور،
.
.
ثدي العجوز
ً شاهدت امرأة عجوز تحتضن طفالً وليدا يشعّ بين زنديها كجوهرة ً ّ تغضن عندما راح يبكي شرّ عت عن صدرها وأخرجت ثديا مته ّدالً،
.
.
جلده ،وناولت الطفل حلمتها اليابسة فراح يرضع بنهم كان الطفل المحيا ،في حضن هذه المرأة العجوز التي فاض ثدياها جميالً ،مشرق ّ
بالحليب.
بال وجوه
.
كانوا بال وجوه ،يمشون كما لو أنهم يبصرون رحت أنظر إليهم ّ ً ّ محلها هذا الجلد الزهري الذي وحل مستغربا :كيف اختفت وجوههم
.
يشبه جلد األطفال عندما يولدون كانوا كأنهم يروننا ،نحن الذين كنّا
على الرصيف ،يمشون بال عصي ،ال أحد ّ يدلهم الى أين يذهبون بال ّ ً يدا خاطت وجوههم بخيوط من كأن عيون ،بال افواه ،بال أنوف ّ
...
.
ً شخصا لحم مبقية على آذانهم وشعرهم هل يبصرون بآذانهم؟ سألت
.
يقف الى جانبي ،لم يجب .لم اجرؤ على مناداة احد منهم.
خلدون شيشاكيل
المائدة
ً لكن السماء معتما، النافذة وانظر فتحت النافذة ونظرت ،كان الليل ّ
.
كنّا ننتظر المدعوّ ين ،جالسين في البهو الكبير والمائدة كانت قد
... .
امتألت باألطايب ولم يبق سوى أن نجلس اليها ّ ينسل إلينا نهض سيد الدار ساعة أعقبتها ساعة شعرنا بالجوع
.
تأخر المدعوون
ونادى خدامه :اخرجوا وادعوا الفقراء الذين على األرصفة ،جيئوا ّ أحق بها عاد الخ ّدام بالمتسولين والجائعين ،المائدة ستكون لهم ألنهم
.
بجمع من هؤالء الناس الفقراء والمعدمين بثيابهم الرثة والمتسخة ً جميعا إلى المائدة ،نأكل ونشرب ،متنعّ مين بما ق ّدم إلينا وما وجلسنا
.
. منهم انقض على ابريق الذهب الذي على الطاولة وحمله وفرّ به هاربا. نظر الجميع اليه نظرات استغراب ولكن لم يجر وراءه احد. لكن واحدا تبقى من طعام وفاكهة ،أبى السيد إالّ أن يحمّ لهم إياه ّ
عندما دخلت البيت أدركت للفور أ ّنه ليس بيتنا مع انني أبصرت أمي
.
في المطبخ تهيئ الطعام األثاث هو أثاث بيتنا ،أما البيت فال حتى
.
كتبي أبصرتها ولكن في غرفة ليست غرفتي الحديقة التي تجاور ّ البيت ّ محلها ساحة قلت ألمي :هذا ليس بيتنا قالت :بلى ،إفتح حلت
.
الضمادة كنت أبحث عن صديق في مستشفى نقل اليه في كينشاسا ،بعد
.
وقوعه من الطابق الخامس في المبنى الذي يقطنه عندما دخلت ً عددا هائالً إلي ممرّ ضة سوداء ،أبصرت بهو المرضى كما أشارت ّ من األسرّ ة يرقد عليها مرضى ،سود بمعظمهم ،نساء ورجال ،شباب
.
وعجائز رحت أجول بين األسرّ ة التي تتجاور وتمت ّد وكأن ال نهاية
.
.
لها بعد ساعتين ربما ،بلغت السرير األخير ولم أبصر صديقي كان ً رهيبا ،أكياس مصل تتدلى من أعمدة قرب األسرّ ة ،شراشف المنظر بيض ملطخة بالدم ،أخرى صفراء ،أسرّ ة من حديد صدئ ،مرضى ينامون وآخرون يجلسون أو يقفون قرب األسرّ ة ،بعضهم يئن ،بعضهم
بيتنا
.
كانت مزروعة بنجوم لم أبصر مرّ ة ما يماثلها.
.
يصرخ...
.
علي أن أرجع من حيث دخلت وجدت أمامي بوابة لم يكن ّ
ففتحتها وخرجت ،وإذا بي في حديقة كبيرة تتوزعها مقاعد يجلس ً يمينا وشماالً حتى أبصرت عليها مرضى بلباس أبيض رحت أح ّدق
.
...
.
صديقي ناديته وركضت نحوه عندما توقفت أمامه ألقى علي نظرة غريبة قلت له :كنت أبحث عنك خفض عينيهّ ، ثم رفعهما وتمالّني
.
.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
27
سرد
ولم ينبس بكلمة رحت ّ ً صامتا كانت أكلمه ،لم يبال نظر الى األعلى، ضمادة ّ تلف رأسه ،وكتب عليها إسمه بالفرنسية ،ورقم هو 22
.
.
.
شراهة
.
ّ يدخن عظمي يقف بجوار عمود الكهرباء على الرصيف، كان هيكل ّ يخبئها في بشراهة كلما أنهى سيكارة تناول أخرى من علبة كان ّ
.
حوضه ،يشعلها من نار السيكارة السابقة قبل ان يرمي عقبها ويدوسه ً حرصا بعظم قدمه لم يكن يستخدم ثقاب كبريت ليشعل سكائره،
. .
ً جميعا ،ولكن ما من أحد تجرأ على أن يسألهما عن هذا هو فوجئنا ً إن لديه عشيقا كان يعاشره قبل الزواج وقيل إنه امرأة الحمل قيل ّ
.
. . ّ ً إن امرأته وليس رجال إال ظاهرا .وقيل إنه رجل وامرأة في آن .وقيل ّ إن أباه كان مثله ...وورث لها عضو ذكر ،على رغم بروز نهديها .وقيل ّ هذا األمر عنه .رحت أنظر إليه ،كان يمشي مشية امرأة حبلى ،ولكن بساقين مشعرتين .ولم تكن تخلو مشيته من إثارة ممزوجة بطابع أمومي.
ّ يدخن من غير أن ينظر الى المارّ ة ،ابتسامته وحدها على الوقت كان
.
ترتسم على فمه الذي لم تبق فيه شفتان كان الدخان يتصاعد في
الهواء حول جمجمته وال ينزل في صدره النافر االضالع ،الفارغ ً تماما
.
ّ انقض عليه ثالثة شرطيين لم يكد ينهي آخر سيكارة في العلبة حتى
.
كانوا يهرولون صوبه وكأنه مجرم عندما قبضوا عليه أصرّ على أن ينهي السيكارة األخيرة ،لكنهم لم يأذنوا له ،سحب أحدهم السيكارة ً مشيا على وكبل يديه ساقه الثالثة من فمه ورماها ثم داسها، ّ
.
. اضحك ،تأسفت عليه ألنه سيقضي بقية ايامه في السجن.
الرصيف بين المارّ ة الذين راحوا يضحكون لمرآه مقهقهين أما أنا فلم
النصف
...
واحدة ،بنصف صدر ،بيد واحدة ،ساق واحدة ،قدم واحدة... الثياب كانت نصف ثياب.
حتى
عندما نظرت الى النافذة وجدتها نصف نافذة ،الجدار نصف جدار... في الخارج لم يبق من العالم إالّ نصفه. الناجون
ً واحدا تلو آخر ،يرتمون من شرفات ونوافذ تتصاعد كانوا يسقطون،
.
منها ألسنة لهب يقفزون كاألسماك ،يتسابقون في سقوطهم ملء ً ً بعضا خيطا بأجسادهم المتصلة الهواء ،وفي أحيان كانوا يرسمون
ببعض... الصفوف.
عندما يبلغون األرض يرتطمون بها ّ ثم يقفون في ما يشبه
نحن الذين كنا نشاهدهم لم نكن نتر ّدد عن القول :لقد نجوا من النار
بأعجوبة.
عقربان ساعة قديمة في بيت من خشب بنّي نحتت من حوله أزهار، ّ تذكرت أننا كنا نملك واحدة مثلها ظلت الساعة واجهته من زجاج
ً أقفاصا ال عصافير داخلها أقفاص كانوا يعرضون على طول الرصيف
.
.
بالمئات تنتظر مَ ن يأخذها اقتربت من احد الباعة وقبل ان اسأله قال
. . على قضبان القفص تسمع زقزقة وخفق اجنحة.
لي :لم يبق في العالم عصافير لقد انقرضت لكنك اذا وضعت اذك
قايين لم يكن من أحد هناك سوى هذين الرجلين ،ال ادري كيف كنت ً منحنيا على األرض يقطف بيديه نبتة عندما ابصرهما كان أحدهما
.
انهال عليه اآلخر بصخرة صغيرة التقطها عن األرض وراح يضرب بها ّ فحطمه انبثق الدم وسقط النخاع على التراب ومضى الجريح رأسه
.
ً مطلقا زفرات خافتة انقض القاتل على النخاع يتخبط على األرض ّ ً وراح يلتهمه متلذذا به ثم نظر الى السماء ،ضرب صدره بيديه
القاسيتين وصرخ...
.
.
ّ أطلت من بين لكنه سرعان ما سمع صوت امرأة
األشجار ،تقول :قايين أين أخوك؟ لم ينظر الرجل الى أمّ ه وسرعان ً ما ّ هاربا من نظراتها الحارقة اقتربت األم من شق طريقه في الغابة
.
جثة ابنها وراحت تولول ،وقالت :اللعنة عليك يا قايين ستصبح أنت ً أوالدا سيقتل بعضهم رجلي الوحيد ،أنت ابني القاتل ،سأنجب منك
الرجل الحامل
ً مرتديا تنورة تبلغ أسفل ركبتيه، كان الرجل يمشي في الشارع،
بطنه منتفخ والى جانبه امرأة كانت تم ّد يدها اليه متلمّ سة بطنه، ً حينا تلو حين راح الناس يلقون عليهما نظرات ملؤها الحيرة سألت
.
أحدهم عن هذا الرجل ،فابتسم قائالً :إنه الرجل الحامل وزوجته، ِ تمض على زواجهما أشهر حتى حمل الحي ولم إنهما يسكنان هنا في ّ
28
كانت ساعة الجدار تلفظ الثواني :تك ،تك ،تك... . . . ّ أذني .لم يكن من أحد هناك، تثقب كادت تكات ثانية، تتك ،ثانية تلو ّ الصالة فارغة ،ال طاولة ،ال كنبات ،ال كراس ...النافذة المفتوحة تطلّ ّ تدق دقات عالية كأنها تؤذن بحلول على زرقة السماء .راحت الساعة وقت منتظر .عندما بلغت الدقة الخامسة والعشرين توقفت .كانت الظلمة قد ّ ّ يحل .ثم عاودت أن الليل لم حلت من وراء النافذة ،مع ّ ساعة الجدار ّ تكاتها :تك ،تك ،تك... لم يكن في مينائها
اقفاص
كنت أنظر الى نفسي في مرآة كبيرة فإذا بي أرى وجهي نصف وجه، ً أيضا بعين واحدة وأذن أنفي نصف أنف ،وكذلك فمي وعنقي كنت
.
ساعة جدار
ً بعضا .وراحت تبكي.
كائنات ضارية
ّ كل ليلة ،في ضوء القمر ،عندما كنّا من خلف النافذة نبصرهم ً يخرجون من أوكارهم كانت فرائسنا ترتعد خوفا ،وكنا نح ّدق إليهم
.
خلدون شيشاكيل
.
ً مقطوعا بالنصف ،كان هكذا نصف رجل ،رجال نصف ظل لم يكن
.
بصمت ،مختبئين وراء الستائر رجال شبه عراة ،رؤوسهم رؤوس ً قفزا ،صرخاتهم أقرب الى العواء كانوا ما إن يبصروا ذئاب ،يقفزون
بنصف رجل عندما اقترب من الساحة التي كنا نلعب فيها :صرخنا
على بوابات البيوت ،عندما يشمون رائحة بشر في داخلها ،لكنهم ّ كل البوابات كانت من حديد صلب ما كانوا قادرين على تحطيمها ً أيضا والنوافذ
النيام المستيقظون
.
ً ً ّ ويمزقونه بأنيابهم كانوا يهجمون حيوانا ينقضون عليه إنسانا أو
.
.
كاألوالد عندما أبصرناه وهربنا خوفا.
.
...
في أول الفجر كانوا يعودون بهدوء ،كأنهم متعبون ،ثم يختفون قبل
أن تنقشع السماء ويشيع الضوء في الجهات. الفزاعة
ّ َ يخش الفزاعة التي يحلق فوق حقل القمح لم سرب الطيور الذي كان
.
كان الهواء يحرّ ك يديها وثيابها التي أشبه باألسمال راحت العصافر ّ ممزقة إياها بمناقيرها ،غير مبالية بالفزاعة التي تنقر سنابل القمح
.
لكن الفزاعة سرعان ما رفعت يديها وراحت غرسها الزارعون هناك ّ
.
تركض بين السنابل مطاردة اعداءها أما العصافير فحين سئمت
حركة الفزاعة انقضت عليها وحملتها بمناقيرها وطارت بها وهي
تخبط بيديها وقدميها.
عندما شاهدنا ،نحن أصحاب الحقل ،الطيور تحمل الفزاعة ،جلبنا
بنادق الصيد لنطلق النار عليها... وسط السماء.
لكن العصافير كانت ابتعدت في ّ
حطب
ً أشجارا عارية هل أشجار عارية في حقل ال تخوم له أنظر فال أرى إال ً ّ حل بها؟ هل التهمت نار أوراقها وتركتها جذوعا بأغصان هو الخريف
.
.
.
يابسة؟ أشجار كأنها أحطاب منتصبة في هذا الحقل حتى التراب له
.
لون الحطب اشجار وراء اشجار ،حتى منتهى النظر ،هياكل عظمية
ولكن من حطب.
.
رجل بعين واحدة ،بجفن واحد ويد واحدة وساق ورجل... أنف ونصف شفتين ،نصف عنق ،نصف صدر...
بنصف
كان يمشي وأمامه
.
.
كرسي أحبة كأنهم كانوا في جلسة عزاء جلست على أو أخوة أو ّ ّ ورحت أنظر إليهم بحيرة تامة انهم يبكون ّ كل على طريقته ،بصوت خافت أو عال ،تأوّ ً ّ بتنهد ما إن هدأ ها وولولة ،بحنجرة مجروحة، ٍ ً قليالً الرجل الذي الى جانبي حتى بادرته بسؤال :لماذا تبكون جميعا؟ ً ً ّ وهز رأسه قبل أن غاليا في قريتكم؟ تنحنح شخصا هل فقدتم
.
...
.
.
إلي ثم قال :المأساة كبيرة لقد متنا إنك يجيبني من غير أن ينظر ّ ً ميتين لم أفهم ما يقول سألته :كيف متم وأنتم تبكون؟ تبصر أناسا ّ ً أجابني متنهدا :مضت ثالثون ليلة ونحن نجلس هنا ونبكي ،وعلينا
.
.
ً شهرا آخر كي تعود أحالمنا إلينا إنها اللعنة أن نواظب على البكاء التي ّ حلت بنا ،نحن أهل هذه القرية فقدنا قدرتنا على الحلم لم يعد
.
.
.
ً قادرا على الحلم ومن دون األحالم نصبح في عداد الموتى أحد منّا ّ في آخر حلم أبصره أحد الرعاة وكان ينام على تلة ،زاره كائن غريب
.
.
.
وأبلغه باألمر ح ّدثه بلهجة قاسية قائالً له :إنكم يا أهل هذه القرية ً حلما كما اعتدتم ستصابون بجفاف األحالم بعد اليوم لن تبصروا
.
ً نذيرا أن تبصروا من قبل ،لدى إغماض عيونكم كانت رؤيا الراعي ً ّ حل بنا الجفاف وهجرتنا األحالم ومَ ن ال حقيقيا منذ تلك الليلة
.
.
.
يحلم ال يمكنه أن ينام .الحلم حارس النوم .إننا ننام وكأننا يقظون.
ّ أطل الكائن الغريب مرّ ة أخرى على الراعي في في إحدى الليالي ّ رؤيا خاطفة وقال له :على أهل القرية أن يلتقوا كل ليلة في ضوء ً حقا ،أن يبكوا القمر ويقضوا ثالث ساعات من البكاء يجب أن يبكوا
.
.
وينوحوا ّ ثم بعد شهر ربما أو سنة أو بعد سنتين ،ستعود أحالمهم
إليهم.
رجل
.
كانوا يجلسون على كراسي من ّ قش في ضوء القمر لم أنتبه كم ً كان عددهم رجال ونسوة ،كانوا يبكون جميعا وكأنهم فقدوا أبناء
هكذا بدأنا البكاء منذ شهر ،ثالثين ليلة ،وحتى اآلن لم تظهر أحالمنا. إننا سنظل نبكي حتى نستعيدها .حياتنا بال أحالم أرض خراب ّ ثم
صمت
شاعر من لبنان
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
29
مقال
الخارج الذي هو داخلنا عبد الوهاب الملوح
“ليس الشعر دائما شعرا َّ حقق نجاحاُّ ، كل نجاح هو بمثابة نهاية للشعر .فالشعر هو البحث والبدايات المتجددة للشعر ..انه إعادة
ابتكار تعالقات فيما بين عناصره” ينتهي الشعر بمجرد تحديده وتعريفه ذلك ما يؤكده هنري ميشونيك صاحب هذه اإلفادة
فالشعر بوصفه بحثا وبدايات متجددة وكل محاولة لتعريفه هي عملية تعليب تؤدي إلى فساد صلوحيته.
ال
ترتيبات
وليس من شأنه أن يتعالى بالمعنى الفلسفي
في قصيدته “أناباز" هذي القصيدة المطولة
كتابة
تحتاج
الشعر
إلى
أكاديمية ولم تكن (أبدا) مادة للتصنيع ُ ليت َّم
اللغة وليس من خالل القوانين واللغة
جاكوب غير ملتزمة بما حدده وقتها أنسي
غني إلى تنظيرات لوجيستية كما أنها في ً
تعليبها لقد جاء الخليل وأفسد الشعر وكلنا نعرف حكاية عبيد ابن األبرص الذي قال شعرا خارج القطيع وال فائدة من إعادة ترديد
. أجل البحث عن إيقاعاته المتجددة.
لن
لقد
سعى
متحولة عبر التاريخ فالشعر ينهب نفسه من
يختلف اثنان في أهمية ما قدمته مجلة شعر
كالم أبي العتاهية “أنا أكبر من العروض”
ومنجزها
الشاعر (الشاعر) باالستغراق كما هتف المعري
للشعر كتابة ورؤية وفعال كانت المساهمات
فعملية تقنين الشعر هي لحظة تدجين
الشعري
والنقدي
المشرفون عليها إلى تأسيس توجه جديد
.
في رسالة الغفران ليس الشاعر من يُ دجن
الشعرية مختلفة عن السائد وقتها وصار
دائما ضد المبني للمجهول ألنه كان حاضرا
مغايرة للمألوف في الكتابة الشعرية ،وكان
وليس الشعر مِ مَّ ا يُ فترض أن يُ قال كان الشعر
.
بالعفوية وهو ليس التعبير المجاني باعتبار أنه التحقيق األزلي في حقيقة هذا الكون
وهو أيضا هذي القدرة على التصدي بشكل
.
لغوي فالت لكارثة اللغة المقدسة لقد كان الشعر ومنذ األزل حاجة الكائن للتصدي
.
للميتافزيقيا الشعر كائن غير ميتافيزقي؛ كائن ال يتحقق إال بوجوده العيني وإنما
وجوده خارج صفاته القيمية ،هو كائن بوصفه لغة متمردة لذاتها ،لغة تحتاج إلى من يتقنها يبحث فيها ،يكونها من أجل أن
تكون فالشعر ومادته اللغة كائن بالكلمات تحتاج إلى أن تتكلم بذاتها وليس بقيمتها
المعنوية أوال فكما في السياسة هناك أولويات في الشعر أيضا أال وهي سياسة الكلمات “إن الكلمات ،في الشعر ،ال ينبغي أن ُتستخدم للداللة على شيء ،وال أن تجعل
بإمكان القارئ العربي أن يطلع على تجارب هناك جهد واضح في محاولة التغيير
وتحديث الكتابة الشعرية ،غير أن هذا الجهد انبنى في توجهاته الكبرى على ما قام به
الشاعر الكبير أنسي الحاج من محاوالت في مرحلته األولى التي اتسمت باالرتكاز أساسا
على أفكار سوزان برنار.
ورغم أن هذه األخيرة كانت في عملها
والتوهج والمجانية.
ورغم أن صاحبة “قصيدة النثر من بودلير إلى
أيامنا هذه” تؤكد أن هذه القصيدة هي “خلق حر ،ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجا عن كل تحديد وشيء مضطرب
.
إيحاءاته النهائية” فلقد أصر الكثيرون على محاصرة هذا النوع من الكتابة والسعي
إلى تعريفه تعريفا محددا وهم ال يدركون أنهم بهذا المسعى إنما ينسفون هذه الكتابة
.
ويعدمونها فقصيدة النثر هي هذا االنفالت
..
دستر ،مُ قوْ نن ،مشروط هي من كل ما هو مُ ْ هذي الشعرية التي ال تلتزم بأي شيء سوى
بما هو مبتكر في جمالياته وكما يقول باتاي ِّ ْ ْ “ َيت َ َّ ُ ِين” ي َخا ِر َج ال َقوَ ان ِ َحقق الشعْ رُ ال َحقِ يقِ ُّ ذلك أنه الدهشة ،والدهشة ليست ما يجيء
.
“قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا هذه” توصيفها لعمل قصيدة النثر من الداخل
غير المألوفة وفي أساليب القول الشعري
تقدم مجموعة من المقترحات من خالل
.
وكيفية تشكلها فلقد تحولت إلى مجموعة من القواعد الصارمة والقوانين المضبوطة،
حتى أن بعضهم أصبح يُ ع ِّرف قصيدة النثر انطالقا من هذه المقترحات التي لم تكن في حقيقتها إلزامية لكتابة القصيدة بالنثر،
والدليل على ذلك أن من يتابع قصيدة النثر
ّ ً يتكلم ،بل إن لها غاياتها في ذاتها” أحدا أن يعبر على مقدمات نظرية أو فلسفية
لم ينتهجوا هذا النهج من مثل رينيه شار
.
الحاج مترجما ما قالته سوزان برنار اإليجاز
وفق قواعد واشتراطات فهي البحث
في بلدان أخرى ال يراها ملتزمة بما قدمته
موريس بالنشو ولهذا ليس من شأن الشعر
30
هو يتعالى جماليا يحقق كينونته من خالل
جدا ،وكذلك أيضا جاءت كتابات ماكس
سوزان برنار ،بل إن بعض الشعراء الفرنسيين
المستمر في اللغة وفي صنوف اإليقاعات غير المعلب هي “هذا القفز في المجهول” كما
.
يراها بودلير غير أنه ولما يتملك الكثيرون من رغبة في التعريف والتحديد واالطمئنان
ظلوا يحاولون وضعها في أقفاص ال تتحرك وهي الكتابة المتحركة التي ال تتنفس إال في
الهواء.
فالشعر تجريب باألساس بل إنه التخريب
المتواصل ،لذلك ال يمكن الحديث عنه كأفق نضال بل هو كينونة ليس وفق رأي هايدغر
حسني جمعان
ولكن وفق ما يحاوله الشاعر من إقامة في
.
هذا الوجود ٍّ وما القصيدة إال تجل من تجليات هذه الكينونة التي إنما هي خطيئة ،لقد صدق
سيوران عندما قول ال يهمنّي القارئ بقدر ما أن المهم هو محارب اللغة واإلطاحة بكل
الباستيالت ،إنها كتابة الفراغ ،والفراغ ليس كبياض فالبياض كينونة هو أيضا؛ الفراغ بوصفه حالة فيزيائية متغيرة وبوصفه
انتظارا وبوصفه جرحا بالغ اإليحاء؛ صامت
دائما جارح أيضا غالبا ما يكون صادما كيف يمكن تحويل الفراغ إلى شيء وقح أليس
هذا من أسئلة الكتابة؟
البياض كون أيضا بل هو حقيقة ال تكشف عن أسرارها للعابرين حذوها بل لمن يحاول
اختراقها وهذا واحد من مهام الشعر أيضا؛ وسيبقى النقد نقد الفن عموما معوقا كمن
يركب حافلة في االتجاه الخاطئ طالما ال
المستلبة إلى التحرر من إلزامية وانضباطية
وتوهت رامبو الضليل وأخذت بيد بول
آفاق ابتداع تاريخها الشخصي وتمجيده؛
ليست هنا… بل إنها ملتبسة ألنها مزيج من
السير داخل حدود مسار التاريخ؛ تفتح لها
..
حالة ملتبسة بما أنها طارئة ولكنها متواترة
.
أيضا والحقيقة أن ما يجعل لبسها واضحا أنها تأتي في شكل قشعريرة تدهم الكيان
وتهز جميع مقوماته؛ ليست المسألة متعلقة بدرجة تواطؤ هذا الكيان مع هذه الحالة غير أن ثمة ما يشبه التعاقد السري بينهما؛
إذن ما الذي يجعل هذه الحالة طارئة؟ ربما ألنها متغيرة وال تضرب موعدا عندما تبدأ
.
في الهبوب عبارة هبوب مهمة جدا في هذا
تهب فعال لتزعزع فتستولي السياق؛ إنها ّ فتسطو فتتملك دواخل الذات وتسكنها
. أوسع من اللحظة.
لمدة المدة وحدة زمنية غير محدودة لكنها
.
بالغياب وإذ ينخرط صاحب الرؤيا في هذه االنخطافة يسوقه التردد وتدفعه الريبة وإذا به في مجاهل التيه وغيبوبة الرشد ،يذهب
بعيدا في استكشاف مدارات غير آهلة تأخذه في المغامرة؛ مغامرة لعل الحياء الديني
وحده هو الذي دفع الفرزدق إلى وصفها “أشد من آالم ضرسي” ولم يجرؤ على القول مثل
بيكيت إنها “جلسات تعذيب الروح” وألن من
شأن هذه الحالة أن تنعش الروح سيعمد
الكاتب/الشاعر إلى تقويتها بموتيفات تعمل على إطالتها وجعلها تتلبث في قاع الدواخل
حيث األفعى لكن يغويه عسل فينشغل به
ّ تفجرات إشرافية دفاقة هي عبارة على
ينش ّد إلى شجيرة كي ال يسقط في الهاوية
أعماق الكائن فتزلزل ثوابته.
الكتابة يتلذذ التماهي معها وقد تأخذه حيث
أليس النقد كتابة إبداعية أيضا؟
ويضج فيها الصمت ويمتلئ الحضور ّ
كصاحب ابن المقفع الذي وقع في الجب
ينكتب بلغة إبداعية تنسف أبراج النظريات ُ وتطيح بحيطان القواميس الصلبة ،ومحصلة
إنها حالة ملتبسة ُتتَرْ ُ جم توق الذات
الغبطة والكآبة يحضر فيها القلق المطمئن
وتمس أدق الخاليا كأن يلجأ إلى تغييب
غير عابئ بالجرذان تقرض أسفل الشجيرة
األمر أن تخلخل عقلية السكونية وتحفر في
تسيالن إلى أعماق نهر السين والمسألة
كذلك الكاتب/الشاعر وإذ هو في مهب
ال يدري كما أوقعت جويس في الجنون
وأوصلت ناظم حكمت إلى أقبية السجون
.
الوعي تماما عبر وسائل أخرى حالة ملتبسة ممتلئة بالحياة ال تشبهها غير حشرجة الموت
لالنوالد من جديد.
وأما القصيدة فهي في الخارج الذي هو
داخلنا.
كاتب من تونس
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
31
سرد
شجرة الكرز خلود شرف
رغم ًا
عن أنوفنا هربنا من الحرب ،تركنا بيوتنا ،أسرارنا ،أعمالنا،
واتجهنا إلى المناطق اآلمنة.
-شجرة كرز! ..أيتها الشقية.
مسافة الزمن تعود معك إلى الخلف إن عدت إلى مسقط رأسك،
-هنا أصابني أحد الفتية بحجر على رأسي بينما كنت أراقبه وهو
الذي تعود به ،المرآة تحتفظ بذاكرة الوجوه ،ستعرفك جيدا مرآتك
ً مؤلما بكيت بهدوء العارف أن األلم سينتهي نعم كانً ْ غادرت الشجرة المكان منذ رحلتي ،األشجار أحيانا تبكي -
تفصلك فجوة عن آخر مرة رأيت وجهك بالمرآة وبين الحاضر
وتقيسك بالسنتيمترات التي كبرتها ،وتساعدك يدك التي نسيت كيف ً بعيدا عن هدوء ضيعتك الهدوء هنا تتحسس بها تفاصيل نموك
.
يساعدك لترى الزمن.
جمال الضيع وهواؤها ينبت بك طفولتك التي نسيتها على ظهر التل،
أو في شقوق الجدران التي كنت تختبئ بها ،وبين الحصى التي كنت تخبئ بها قصاصات الورق في لعبة البحث عن الكنز وترسم خرائط ّ
بالطبشور على الطريق.
عندما تعود إلى مكان طفولتك تتلكأ بالمشي تشعر بأن قدمك كبرت فجأة على المكان ،وأن ّ كل شيء متوقف عند اللحظة التي غادرت
بها ،وبقيت كأنها بصورة فوتوغرافية تستعيدها اآلن بألبوم العائلة.
الطريق اإلسفلتي الطويل كان ال ينتهي بسنين طوال ،إال بحضن ماما تنزع حقيبتي المدرسية عن ظهري ،وتمسح شعري الجعد المنكوش
يسرق الكرز.
..
لقد عرفني ،نظرته التي كوت رأس قلبي بحزن شديد أخبرتني لقد ً مألوفا ،لكني عرفني ،ارتجف قلبي وأنا أرمي السالم ،لم يكن وجهه ً سالما بلغة ليست كلغة البشر التي اعتدتها في أشعر أنه يقول لي
بعد أن تجاوزته ،سألت الطفلة ،أأعرفه؟
..
-ال أبدا ،انتقل منذ يوم مجيئك إلى الضيعة ،ال أحد يعرف من أين
أتى وال من هو! كل ما نعرف عنه أنه أتى إلى هنا وطلب عمال في البستان ،وهو اآلن ّ يقلم الورود والحشائش
.
تغيرت بعض المالمح ربّما بعض الوجوه شاخت ،البيوت باتت أصغر
هنا.
وأخافتنا أصوات الباعة التي مرت بالوقت نفسه فهربنا مذعورين
بصراخ يشبه من وجد ضبعا ،لم يكن سوى مدخل عادي لبيت مهجور شاخ وأشفق على جهلي ،لكن الطريق ما زال كما تركتني ذاكرتي به،
األشجار كبرت مثلي لكنها لم تلحظ كبرها إال عندما رأتني ،طارت
العصافير منها ،عندما أجفلها الضحك ،كانت تضحك على جهلها.
كعادتي الطفولية مرّ رت السالم بأصابعي على كل ما المسته ،ومرّ رت
..
صوتي بسالم على كل من رآني ،شجر بيوت قطط وحتى األبقار، ّ التف حولي ،ودرت معه كيف عرفوني، والنسيم الذي مرّ عرفني جيدا ً جيدا من أنا! وكيف ترك هذا الجسد تلك الطفلة هنا ورحل، ال أعرف
كان من األفضل أن أترك هذه الطفلة هنا ،فلو لم أتركها ما استقبلني
أحد بحنان.
.
عالم السيارات ،والفوضى ،وال في عالم الحرب ،كانت فعالً كسالم
أعمالهم المنزلية بأنفسهم .غريب.
عندما كبرت ،وذاك البيت الذي أغلق فمه على طفل عندما كنّا صغار
.
نعم األشجار تبكي وتضحك ،وأخبرتها كيف سمعت الشجر يضحك. هذا البستاني يقف مكانها ،سأتركك قليال كي ال يظنك مجنونة. -ال بأس أفهم ما يقولون عمّ ن يحدث نفسه هنا صغيرتي.
يدي وقدمي ،أغسل وتنزع عنّي مالبسي تدخلني ألغسل جوربي، ّ ّ ً جيدا وتسقني من حفنة يدها ،ذاكرتي تتوقف عند حفنة يدها والماء
شهي ال يفارق عطشي. ّ
-غريب أن تجد في الضيع مثل هذه المهن ،بالعادة القرويون يعملون
كان يقف في ظل الكرزة وكأنه ظل كرزي ،الكرزة التي كانت حاضرة تكررت صباحاتي وذاكرتي أعيشها مرتين ،وهذه الشقية تتعفرت ً شيئا ّ كل ما قالته كنت أضحك لسماعه على ثنايا التفاصيل ،لم تنس أو أصفن أو أبكي أحيانا كنت أبكي كطفل يمسك بثوب أمّ ه تائها عن
نفسه ،وال يعلم من الحياة سوى أنها أمّ ه.
بات هاجسي أن أتفقد حال ذاكرتي على حواف الطريق ،كل يوم أمرّ أسقيها ،أرى من مات فيها ناسية ّ كل أوجاع العمر وفشله ،ناسية
تلبسته. الحرب كيف لم تخفق بعد وكبر جسدها على الروح التي ّ
وألقى البستاني ينتظر وبيده ورود على بوابة الدار ،أرمي السالم
وأناجي النجمة الصباحية عسى أن تكون الورود لي ،يتجه باتجاهي
.
.
يعطيني الورود دونما كالم آخذ الورود وأكمل صباحي ً يوما عن أضع الورود بالمزهرية وأب ّدلها عندما تذبل ،لم أتساءل
معرفته أنها ذبلت بمزهرية كونه بستاني.
منسياتي ،وكعادتي سألتها عن لون رافقتني هذه الطفلة تعرّ فني على ّ
لم يسألني اسمي وال سألته من أنت؟
بصوتي :أسود.
الورود محاولة خطفها من يدي لكنّي أحاول أن أبقى رصينة أمام
الشجر في المساء ،فأجابتني بخبث العارف ضاحكة ضحكة رافقتها
32
-نسي الطريق شجرة هنا هل انتبهت؟
أي سؤال ،وكانت معي يخفق قلبها عندما تأخذ ولم تسأل تلك الشقية ّ
عوة د
عدنان حميدة
تدعو الكتاب والمفكرين العرب إلى المشاركة في محاورها وملفاتها القادمة
حال الكتاب العربي كيف تنشر الكتب
في العالقة بين الكاتب والناشر والقارئ
االستبداد الشرقي
دور الحاكم المستبد في صناعة االستبداد الديني
الشعر والتجريب
هل وصل التجريب الشعري العربي إلى حائط مسدود
الكتابة النسائية العربية
الرجل الوحيد الذي أهداني الورد في حياتي ،غير أبي.
أتأمّ ل في المساء الورود التي ما رأيت أجمل منها في حياتي كانت ً جيدا كيف من النوع الجوري كثيرة النضارة وعزيزة الرائحة تعرف
تصيد القلب يسحرها وتأسره.
كررت صباحاتي وما عاد البستاني ينتظر وال الورود. -هل خدشت حياء الوردة؟
ال أظن ،لم أتفوّ ه بكلمة ،شعرت أن الكالم يَفسد بمثل هذه اللحظات. -إذن أين ذهب البستاني؟
-ال أعرف ربما هو اآلخر هرب من حالة الحرب التي تتوجسنا وذهب
ليو ّدع طفولته.
بعد مدة سمعت النسوة يحدثن الخيوط التي يغزلنها للحياكة ،أن
البستاني الرجل الغريب الذي مرّ من هنا وسقى الحياة ،قد أصابته
هل تكتب النساء العربيات بلغة الرجل أم أن اللغة بال جنس
الكتابة والجسد
الجسد والجنس في اإلبداع العربي المعاصر
الصحافة الثقافية العربية
أحوالها ،توجهاتها ،عالقتها بالكتاب والقراء
.
رصاصة قناص في رأسه بينما كان ذاهبا ليودع ذكرياته ً ورودا كرزية مألت الحافلة التي اصطاده الغريب أن دماغه فاض القناص منها ،وقالوا إنه عندما حاولوا أن يلموا جثته صار غبار طلع
ولم يعرف أحد أين دفنوه.
عدت إلى المزهرية في بيتي وجدت الوردة الجورية األخيرة التي
أعطاني إياها جفت على لونها ولم تمت
كاتبة من سوريا
فكر حر وإبداع جديد
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
33
شعر
ظل لشخصين مريم حيدري /لميس سعيدي
ُه َنا َخل َْف ال َك ِل َم ِ السا ِب َق ِة ات َّ تَ ْح َت ال ُب َقعِ َواآلث َا ِر ال ِتي كُ ْن ُت أَن َْسا َها السطُو ِر ك ُُّل َم َّر ٍة بَ ْي َن ُّ فَتَ ُدلُّ ُك ْم َعلَى ُح ْف َرتِي. *** ت َْستَ ِطي ُع أَ ْن تَضَ َع كُ ْر ِس َّي َك ال َخشَ ب َِّي أَ َما َم َه ِذ ِه الق َِصي َد ِة َوتظُ ُّن أَن ََّك أَن َْت َم ْن أَتَ ْي َت َم ِعي َخ َر ْج َت َو ِحي ًدا َو َع َّريْ َت ال َم ِدي َن َة ال َّنائِ َم َة بَ ْي َن أَفْ َخا ِذ ال َب ْح ِر َوال َج َبلِ َوأَ َّن َهذَا ال َما َء ِ الذي يُ َبل ُِّل اآل َن َه ِذه ال َك ِل َمات َما ُؤ َك. *** كُ ْن ُت أَكْتُ ُب الشِّ ْع َر كَ َم ْن يُ َرا ِه ُن َعلَى َح َيا ٍة َخ ِاس َر ٍة ث ُ َّم َم َّر ال ُح ُّب َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف َو َم َّر ال ُح ْز ُن َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف َو َم َّر األَلَ ُم َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف َو َم َّر ال َف َر ُح َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف َو َم َّر الشَّ غ َُف َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف َو َم َّر األَ َم ُل َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف َو َم َّر ال ُحلْ ُم َسرِي ًعا َوت َوق ََّف َو َم َّر ال َم ْوتُ َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف َو َم َّر ال َوق ُْت َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف 34
ث َ َّم َة ِظ ٌّل فَ َق ْط َو َم َّر الشِّ ْع ُر َسرِي ًعا َوتَ َوق ََّف ِيق نَ ْح َو ُح ْف َر ِة ال َملَكُوت: َو ْاستَ َم َّرت ال َح َياة… يُ َو ِاص ُل الطَّر َ بَ ِق َّي ُة أَ ْحالَ ِمي: *** ال ُو ُص ُ اب ول إِلَى ُذ ْر َو ِة ال ُح ِّب َو ِحي َد ًة لَ ْي َس لِألَل َِم بَ ٌ الس َج َنا ُء أَ ْو َم َع اث ْ َن ْينِ فَ َق ْط شَ َباب ُِيك ضَ ِّي َق ٌة يُ ِط ُّل ِم ْن َها ُّ ُعشَّ ٌاق ِبالَ َز ْو َج ٍ ات بَ ْعضُ ُه ْم َعلَى بَ ْع ٍض. وس يَتَ َم َّو ُج ِفي َها األَ ْح َم ُر َعلَى َر ِص ٍ يف *** كُ ُؤ ٌ ِحي َن أُ ْغ ِم ُض َع ْي ِن َّي ،أَق ِْذ ُف شَ ْم ًسا قَرِي َب ًة ِفي طَ ْه َرا َن الص ِغي َر َة ِفي َس َمائِك ال ُغ َبا ُر َو ْه َو يُ َغطِّي ِخ َيانَاتِي َّ َو ُص َر َ اخك. لِك َْي الَ تَ ْم ِشي َو ِحي ًدا ِفي الظَّالَم *** *** ِظلِّيَ ..غ ْي َر أَنَّ ُه يَ َّد ِعي أَنَّ ُه ِظ ُّل شَ ْخ ٍص لَ ْي َس لِلظُّ ُنونِ شَ َباب ُِيك ت ُِط ُّل َعلَى أَل ٍَم آ َخ َر َو ِاض ٍح أَ ْو فَ َر ٍح ُوب فَ َق ْط يقف قبالتي ،ينفخ دخان سيجارته في ث َ َّم َة ثُق ٌ تَ ْنظُ ُر ِم ْن َها بَ ْي َن ِحينٍ َوآ َخ َر وجهي ويرسل لي ابتسامات ضئيلة كما ِ يفعل األصدقاء في اجتماع رسمي وحي َن ت َُس ُّد َها ِبأَ َصا ِب ِع َك ال يكتفي بذلك ..أحيانا ي ّدعي أنه ت َْس ُق ُط الشَّ ْم ُس فَ ْو َق َرأْ ِس َك فَتَ ْكتَ ِش ُف أَ َّن ُه َن َاك َس ْقفًا فَا ِغ ًرا لَ ْم تَ ْنتَ ِب ْه شخص آخر لَ ُه يح ّرك شفاهه بلُغة تبدو أجنبية وفي الليل حين أدخل غرفة مظلمة وأختبئ أَ ْم ٌر الَ يُ َغ ِّي ُر أَ َّي شَ ْي ٍء ِفي َهذَا ال َّن ِّص. تحت الشراشف ،يشعل شمعة ثم يُقبل *** علي هائال كما األلم الَ ت َِص ُل الطُّ ُيو ُر الثَّالَث ُون َدائِ ًما إِلَى ّ ظلّي الطويل دائما ،الذي يتج ّول في ال ِم ْرآة الظهيرة بينما أكون مستغرقة في قَ ْد تَ ُعو ُدو َن كُلُّ ُك ْم أَ ْد َرا َج ُك ْم َوتُ َو ِاصلُو َن ال َح َيا َة ِفي ال َها ِم ِش ال َها ِدئِ قيلولة قصيرة وبعد الزوال ،لكي ال يالحظ أحد الفرق، ال َب ِع ِيد
حسني جمعان
أضط ّر الرتداء كعبي العالي ظلّي الذي ال عط َر ل ُه غير أنه يثير التراب كمطر آب ُربَّ َما لَيس ظلِّي ..ق ْد أكون ُمخطئ ًة ربّما هو ُصورتِي في مدين ٍة أ ْخرى (مدينتي هي المدينة التي ال أضط ّر فيها ألخذ صور للذكرى) تمثال لشاعر يقف السائح األجنبي أمامه طويال وهو يبحث عن اسمه المجهول في لوحة رخامية
وقد يتب ّول عند قدميه سكّير في آخر الليل صورتي التي تحمل اسما آخر ،ثقيال بالتاريخ واألساطير أما أنا ،فبالكاد أحمل اسمي الهش بالسين والياء صورتي التي توضع على هوية أخرى ويحلم بها رجل ال أعرفه رجل يمشي منذ زمن بعيد ،وحيدا، تحت شمس حارقة.
*** ُه َنا يَ ِص ُل يَ ِق ُف َعلَى ال َحافَّ ِة َويُ َغطِّي األَشْ َيا َء أَنْظُ ُر إِلَى األَ ْعلَى أُنَا ِدي :لَ ِميس! ِيق َه ْل كُ ْن ِت تَ ْع ِر ِفي َن الطَّر َ َدائِ ًما؟ شاعرة من إيران وشاعرة من الجزائر
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
35
أصوات
حين
تناسخ األصنام أحمد إسماعيل إسماعيل حطم أتباع الدين الجديد في بالد العرب األصنام في ً قرنا ،بقصد إلغاء الكعبة ومكة قبل أكثر من أربعة عشر
والمتمثلة في رجال الدين ،قابل للفهم ،ألسباب شتى ،منها ما يتعلق
الوحيد ،والشرعي ،لم يدرْ بخلد أحدهم أن ما نفخ الناس في هذه
حتى تسللت إلى كل مفاصل الحياة ،حتى بات من الصعب فرز ما
تجسيد األلوهية في األرض ،وإعادتها إلى السماء والله ،مالكها
األصنام من أرواح ستنتقل في عملية أشبه بالتناسخ إلى أجساد ً وتأثيرا من تلك أخرى ،بشرية هذه المرة ،لتمارس سلطة أكثر قوة
ببؤس تلك المجتمعات التي تسود فيها الخرافات وتزداد األوهام هو ديني عمّ ا هو خرافي ،فإن ظهورها وترسيخ وجودها في الحقل
الوطني والقومي ،يفتح باب األسئلة مُ شرّ عة على األسباب والمآالت،
األحجار التي كانت في داخلها ،وذلك عبر أتباع وأشياع يملكون من ً قديما .المفارقة هنا الوسائل ما لم تكن تملكه تلك الهياكل واألشكال
خاصة إذا علمنا أن القومية ،ال غيرها من نظريات وأيديولوجيات..
المجهول ،وبالبعد عن الحضارة وغياب الفكر ،بعكس العصور التالية،
الكبرى في حياة المجتمعات العربية ،وحتى المجتمعات الشرقية ،كما
ً قديما ارتبطت بحالة الجهل والرهبة من تكمن في أن عبادة األصنام التي أصبح للفكر فيها دور راح يتغلغل في كل مفاصل الحياة البشرية وينيرها ،وأخذ المفكرون والفالسفة المتكاثرون يعرضون كل شيء
للبحث والدرس والتأمل ،دون أن يؤثر ذلك على وجود األصنام الجديدة أو حتى مشروعيتها ،عدا بعض ما ذهب إليه ّ قلة منهم في ما كتبوه من أدب أو فكر ،بشكل مغلف بالرمز واإليهام كما فعل ابن المقفع حين ترجم كتاب كليلة ودمنة ،وفي مغامرته كتابة رسالة إلى
لما يشكله هذا الجانب من أهمية ومركزية في صياغة ثقافة الناس،
هي القطب الشريك للدين في صياغة ضمائر الناس وخياراتهم
يؤكد المفكر السعودي عبدالله الغذامي. ّ تجل لهذه الحالة في فترة الخمسينات ونهاية الستينات، نجد أفضل والتي تجسدت في شخصية الزعيم جمال عبدالناصر أكثر من غيره، وما أحيط بها من هاالت ال تختلف عن تلك التي كانت ُتحاط بأصحاب الطرق الصوفية من رجال الدين .وذلك من خالل تجسيده للمشروع القومي العربي .والذي لم يستمر طويالً ،إذ سرعان ما تحطم جزء
كبير منه ،المشروع وصاحبه ،إن لم يكن ّ كله ،في نكسة حزيران ،1967
الصحابة ،مما أثار غضب األصنام واالنتقام بأسلوب يدلل على طبيعة قلوبها التي ُقدت من صخر.
فانتقل هو ،بكامل عظمته ،إلى ذمة التاريخ وأرشيفه ،وبقيت الثقافة
واإليمان التي أصبح الفكر فيها زندقة ،والفكرة عورة ال يجوز لها
جاءت بعده ،تتص ّدرها شخصية الرئيس العراقي صدام حسين .البطل
فكان من الطبيعي ،والحال هذه ،أن تنتشر بعدها ثقافة النقل
أن تخرج مجردة من رداء العاطفة الفضفاض ،بل من حجاب ونقاب
ثقافة النقل ،لتكبر هذه الكرة في تدحرجها على دروب تحرسها عيون
العسس ،وسيوف أشباح مرعبة ،حتى أصبح الرداء في أزمان تالية ثقافة ،ثقافة فيها رداء الفكرة والمشروع يتقدم في أهميته الفكرة
ذاتها ،كما هو الحال بالنسبة إلى الزي الذي أصبح عالمة كبرى على
هوية صاحبه ،ومواقفه الفكرية والدينية والسياسية. ً عاريا فيها وال تتم معاقبته سوى ثقافة ال أحد يحق له أن يظل األصنام ،عري ال يشبه في شيء عري إمبراطور أندرسن الذي فضخه
طفل بريء ،بل يؤكد تميز أصحابها وتجاوزهم لشرطهم اإلنساني،
في تماثل لشخصيات أسطورية من طراز أخيل وهرقل وجلجامش وأبطال المالحم الشعبية في تجسيدهم لقيم البطولة والتسامح
والشهامة والوطنية والمعرفة ..وحتى الخلود.
القديمة الجديدة التي أنتجته تتجدد في شخصيات سياسية أخرى القومي والمحرر ورمز المقاومة لدى شرائح واسعة من أبناء الشعب العربي في أكثر من بلد عربي ،والذي تنادى الناس بعد موته ،المثير للجدل ،والمشاعر المذهبية والقومية ،لرؤية صورته مطبوعة على ً وجه القمر .والذي هوى بدوره في التاسع من نيسان ،تمثاالً وصنما،
لتتساقط بعده أصنام أخرى حاولت هذه الثقافة إضفاء هاالت مماثلة
عليها ،فلم تحقق ما تحقق لهذين القائدين ألسباب يطول شرحها.
من اإلنصاف القول إن هذه الثقافة لم يقتصر وجودها على المجتمع
العربي في أقطاره المختلفة ،بل تكاد تشمل غالبية شعوب شرقنا ً ُ والكرد ..وفي أصقاع أخرى منها كوريا حاليا والترك المتوسط ،الفرس
في الجزء الشمالي منها.
بل إنها كانت حتى األمس القريب منتشرة في أكثر من بلد أوروبي،
ومتجسدة في شخصيات وأصنام مألت الدنيا وشغلت الناس أمثال:
فهذا الزعيم منقذ وطنه وقاهر الوحش المتربص بالوطن ،وذاك
معبود ألمانيا النازية أدولف هتلر وأبو الشعوب السوفييتية جوزيف ً تاليا لهذه ستالين وبدرجة أقل موسوليني وفرانكو ،غير أن ما حدث
له ،وكاشف عن عريه أو حقيقة ما جبل عليه ،بمثابة خيانة وزندقة
في حياتها ،إيجابية ،تجعل أمر حدوث ذلك في شرقنا المتوسط،
القائد رسول الحرية والعدالة ،فارتبطت حياة األوطان وسالمتها واستقرارها بحياة ووجود هذا الصنم أو ذاك ،وسيكون كل معارض
وتخلف حضاري وكفر وانحطاط أخالقي ..في تكفير عصري مماثل،
من حيث الجوهر والهدف ،لمن كان يتقلب على دين آبائه في زمن ِّ بحد السيف. مضى ،والذي أحياه السلفيون المتشددون وانتهجوه
36
إذا كان وجود األصنام في تجلياتها األخيرة في المجتمعات المتخلفة،
المجتمعات بعد تحطم تلك األصنام من تغيرات وتحوالت هائلة بعد تحطم األصنام ،والجارية اليوم ،على قدم وساق ،وبأيادي دعاة ً ً واردا أمرا الحرية المضرجة بالدم،
كاتب مسرحي من سوريا
بطرس املعري
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
تهدف المقاالت المنشورة هنا إلى فتح ملف اللغة العربية في عالقتها بالزمن والناس ،بالعلم
واإلبداع ،بالفكر والمستقبل وباللغات األخرى .في محاولة أولى من «الجديد » لمعرفة حال اللغة العربية اليوم وطبيعة المشكالت التي تواجهها بالنسبة إلى اللغوي واألديب واإلعالمي والقارئ،
وفي محاولة إلدراك سبل حل هذه المشكالت على صعيد إنتاج المصطلح المالئم لما ينتجه الزمن ّ مقصرة عن التعامل من أفكار ومصطلحات في لغات أخري وتجد اللغة العربية نفسها عاجزة أو معها أكان ذلك من باب استيعاب المصطلحات الجديدة ،عبر استدخال المصطلح في القاموس
بعد أن شاع وجرى تداوله ،أو نحت مصطلح مواز له في اللغة العربية.
لكن مقاالت هذا الملف ال تقتصر على ما نشير إليه هنا ،فهي تتجاوزه لتنظر في وضع اللغة العربية في مجتمعات عربية تزخر بأقوام وإثنيات تملك لغاتها التي لم تحل إشكالية عالقتها بالعربية أو عالقة العربية بها كاألمازيغية في الشمال األفريقي ،أو الكردية والسريانية في المشرق العربي، فضال عن مسائل من قبيل مدى قدرة اللغة العربية علي إنتاج فكر وإبداع عربيين جديدين في ظل تحديات عصرية غير مسبوقة ،وفي ظل صراعات فكرية واقتصادية وسياسية ولغوية عالمية
بالغة التعقيد.
هذا الملف عتبة ودعوة في الوقت نفسه لتكريس عدد كامل من الجديد لحال اللغة العربية اليوم. قلم التحرير
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
37
ملف
معضلة المصطلح في الثقافة العربية اليامين بن تومي مما ال شك فيه أن اللغة العربية اليوم تعاني من وضع صعب في ظل العجز الرهيب الذي يمنعها من متابعة مختلف التطورات ً سقفا رمزيا عولميا خارج لغتنا العربية ،فهي لغة العلمية والمعرفية ،أو أن تكون لغة العصر ،سواء شئنا أم أبينا فنحن نعيش مُ شبعة ميتافيزيقيا ووجدانيا وتحتاج إلى ٍّ كم من التحييد لهذه الشحنة الالهوتية من أجل أن تكون لغة علم .بل إن األمر ال
يقتصر على عجز المستعملين لهذه اللغة على المضي بها قدما نحو أن تكون لغة علم ،بل وأن تساير على األقل العصر الحديث
حتى أن المرء يشعر كأن هناك موانع داخل اللغة ذاتها تمنعها من اإلبداع العلمي ،أو كأن هناك عوامل خارجية تشتغل بقوة لثني
اللغة العربية عن الدخول في التجارب الفعالة ما يعني أن لغتنا تعاني مأزقا حقيقيا على مستوى أفق الرؤية ،وكذلك على مستوى
المصطلح ،وهي إشكالية متعددة األبعاد لها ثالث مستويات وهي :مستوى الرؤية ،والمنهج والمصطلح.
لقد
عالجت دراسات وأبحاث كثيرة
قد شرحه جيدا الفيلسوف المغربي طه
جعل الفيلسوف األلماني هيدغر يقول بأن
هذه المسألة في ارتباطها ببنية
في تربة اللغة العربية ،ولعل هذا الوضع
ارتباطها بحالة المجتمع الجديد والرهانات
عبدالرحمن حين نظر في ترجمة أو تعريب
اللغة العربية ومرجعياتها األصلية ،وفي التي باتت تهدد اللغة ذاتها ،ذلك ألنه من
الصعوبة بمكان فصل الكلمة المترجمة إلى اللغة العربية عن حمولتها األيديولوجية
والالهوتية
واالجتماعية،
وبالتالي
فإن
انتقال المصطلحات إلى اللغة العربية تفتح
لها مجاال جديدا بفضل الحمولة الثقافية للغة
المنقول منها.
الكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر إذن أنا
موجود” بشكل أدى إلى هدم المعمار الفلسفي
لديكارت ،وذلك جراء عدم انسجام هذه العبارة االصطالحية في ترجمتها للعربية مع
العلمية ،ولكي يتم نحت المصطلحات في
أي لفظة تعبر عن معنى ،والمترجم يحوّ ل ّ عبر عنه الغزالي المعاني إلى ألفاظ ،وهذا ما ّ
محمد عابد الجابري في أبحاثه حيث طرح
صور تنطبع في األذهان ،وهو منطوقات
العربية واألسباب التي أدت بها إلى هذه
جديدة في جسدها ،ولكنه بقدر ما تثري
ذلك إلى صعوبة نحت وصياغة مصطلحاتها،
الحية المتطورة فهما عميقا لمصطلحاتها
يجب أن تتوفر فيها ،وهذا ما ناقشه الدكتور
على اللسان” ،وهذا يعكس أن العالم له
على اللغة المترجم منها ،ويعود السبب في
وإليها ألن كل لغة تعكس رؤية العالم الذي
ألن الترجمة ال تراعي الشروط اللغوية فقط
في هذا السياق يمكن القول بأن الترجمة
وتشن الحرب أيضا الخيانة لثقافة اآلخر ّ
أن نحترم خصوصيات اللغة المترجم منها
اللغة المترجم إليها يتوجب علينا استيعاب
في قوله “إن ما هو موجود في األعيان له
الترجمة اللغة العربية ،فإنها تحمل معها
بناء عليه؛ فإنه عندما نترجم ينبغي علينا
العربية في هذه الجملة التالية وهي “أنظر
وهكذا وجدنا الكوجيتو يختزل في الترجمة
ينطبق عليها المثل القائل “مكره أخوك ال
هي التي ستمكن اللغة العربية من ضخ دماء
الوجود.
ولكيفية اشتغالها وتطبيقها على الحقول
بل فإنها تراعي كذلك الشروط الفكرية ،ألن
أن تبقى على هامش الثقافة اإلنسانية.
اللغة أخطر النعم ،بل ويرى أن اللغة مثوى
المقصد الفلسفي العميق للفيلسوف ديكارت.
أمام هذا الوضع الصعب والمعقد تجد اللغة
بطال” ،حيث يستحيل على الثقافة العربية
التي يُ عتمد عليها في فهم العالم ،وهذا ما
نشأت فيه ،هذا وتتطلب الترجمة من اللغات
تجد” بحسب تعبير طه عبدالرحمن.
العربية نفسها في حالة عسيرة ،وهكذا
38
خصوصا تلك المصطلحات التي لم تنبت
الدراسات واألبحاث أصبحت اللغة الركيزة
وأي تحليل للذهن صورة تنطبع في الذهن، ّ سيجعلنا بصدد تحليل اللغة كما يقول علماء فلسفة اللغة من أمثال غتلوب فريجه
.
وبرتراند راسل وفيجنشتاين ومع تطور
وتمثل قوانين اللغة ذاتها وشروطها التي
مسألة مثيرة للجدل حين درس نظام اللغة الوضعية التي يصعب فيها أن تصبح لغة علم ،وفي هذا السياق نجده يتساءل :هل اللغة العربية لغة مفاهيم أم أنها َّ وقافة عند األلفاظ فقط؟
ينبغي التذكير هنا أن المجامع العربية قد
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
بطرس املعري حاولت كثيرا أن تتجاوز هذه المعضلة
بإرسائها الستراتيجية تتحكم في ضبط المصطلح ،لكن هذه الجهود قد اصطدمت
ال يزال عندنا خارج دائرة االستعمال ،ألن
العرب لم يشاركوا بشكل جدي وفعّ ال في بناء السقف الرمزي الحالي للعالم ،بل
العربية اآلن هي أنها تعاني خلال وظيفيا، حيث أن هناك هوة سحيقة بينها وبين لغة العالم الحديث ،أي أن المستعملين لهذه اللغة
بحواجز كثيرة وذلك نظرا لعدم االلتزام
فإنهم قد بقوا خارجه وصاروا يعيشون في
العربية لم يتجانسوا مع الوضعية المعرفية
السياسية بين الدول القطرية التي حالت
المصطلحي في شكل تجميع سخيف لعدد
المصطلحات فقط ،بل إنها توجد داخل اللغة
باستراتيجية موحدة ،أو بسبب المشكالت
دون تنسيق الجهود فيما بينها.
.
عزلة عنه وجراء كل هذا فقد كان بحثهم
من المصطلحات دون أن تكون لديهم
ويمكن لنا إعادة أسباب هذا العجز أساسا إلى
فعالية علمية في اختبار المصطلحات ،ولعل
أن الفارق ممّ ا جعلها تبقى منفصلة عنها ،أي ّ
المصطلحات وإحصائها كما هو الحال مع
عدم استخدام المصطلحات في الحياة العامة
بين اللغات الحية واللغة العربية ،يتمثل في
أن اللغات الحية لغات استعمالية وتداولية
يومية ،بينما اللغة العربية لغة جامدة في
هذا ما أدى بالعرب إلى وضع بنك لتجميع
البنك السعودي للمصطلحات العلمية ،وهذا
يجعل هذه البنوك أو المعاجم بعيدة عن ساحة
.
للعالم الجديد أي أن المشكلة ال تتمثل في
ذاتها التي تنتمي حضاريا إلى العالم القديم،
حيث لم يهتم مستعملوها بتخليصها من تلك الشحنات الوجدانية التي تطفو على السطح
كل مرة في صورة شوفينية بالغة في التضخم، بسبب التعامل معها كلغة الكتاب المقدس أو
.
لكونها تعتبر لغة أهل الجنة إن عدم االنتقال
التداول اليومي ،فضال عن غياب تجانس
باللغة العربية من وضع قديم إلى وضع جديد
من الداخل ،وهذا ما أدي إلى انشطار اللغة
إبداعه ألن الثقافة العربية لم تتجاوز في
الحديث هو الذي أدى إلى تلك العوائق وهي
يومية دارجة واستعمالية يصعب معها إيجاد
وهذه عملية تبحث عن إيجاد مقابل لأللفاظ
االنتماء إلى العصر الحديث.
قوالب قديمة ،حيث لم تتم معالجة اللغة
العربية بين نموذج فصيح قديم ،وبين لغات
اللغة التي يمكن أن تبني عليها الترجمة
رؤيتها الصحيحة للمصطلح.
ويالحظ كذلك أن المصطلح العلمي والفكري
فعلي بين وضع المصطلح وبين اختباره أو
تعاملها مع المصطلح حدود الجمع واإلحصاء
دون فهم ودون وعي.
إن اإلشكال الحقيقي -فيما يقول الشاعر اللبناني يوسف الخال -الذي تواجهه اللغة
تتجانس فيه مع قضايا وموضوعات العالم في جلها عوائق فقهية وبنيوية ترفض غالبا
ففي تقديري فإن اللغة العربية تعاني من
ثالث إشكاليات وهي 1- :إشكالية متعلقة
بنسق اللغة العربية وانتمائها للعالم القديم.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
39
ملف
لم يتأصل بشكل دقيق في الثقافة العربية،
تعرض إلشكالية الترجمة في الوطن العربي، َّ وشخص وعاين حالها في الثقافة العربية،
2-إشكالية تتعلق بالتحديات التي ترسمها
3-إشكالية تتعلق بالترجمة وكيف نترجم وما
للمصطلح يتناسب مع خصوصيات الحقلين
خلص إلى القول بأنه ليس هناك إجماع
بما أن الحال هو هكذا فإنه من الالزم علينا
ترجمته في اللغة المنقول إليها.
المصطلح في الثقافة العربية ،والتعامل مع
.
الثقافة الغربية على اعتبار أنها السقف
الرمزي للراهن.
هي حاجتنا للترجمة في راهننا؟
وضع عدة اعتبارات مبدئية لفهم إشكالية
الترجمة كسبيل يؤدي إلى إعادة انخراط اللغة العربية في عالم اليوم ،من خالل إيجاد سبل علمية تعمل على تحريك فاعلية هذه
اللغة ،وذلك من خالل ثالث توجهات أساسية
والهدف منها هو إغناء وإثراء الثقافة العربية: ً أول :تجديد وعينا بالمسار النظري الغربي،
ولذلك فإن الترجمة ال يجب أن تعتمد المعنى
الحرفي بقدر ما يجب أن تعتمد تأويال معينا العلمي والعملي للمصطلح ذاته ،ويتماشى مع
بين المترجمين العرب على طريقة واحدة
تجمعهم ،لعدم وجود هدف مشترك بينهم،
أما اإلشكالية الثانية فهي وليدة تراث اللغة
ولعدم التنسيق فيما بينهم أيضا حول
أن نستخرج من داخل التراث اللغوي العربي
عبدالرحمن بين ثالث مستويات من الترجمة،
الثقافة العربية تتبناه بشكل سلس ويحفظ
هذا يقول “وحتى نبين صحة أنموذجنا
العربية وقوامها وهنا نتساءل :كيف يمكننا
المعادل للمصطلح الغربي ،الذي يجعل لهذه اللغة بنيتها ويحفظ للمصطلح حدود
اشتغاله األصلية دون أن نقع في التناقض
وثانيا :تجديد طريقة التفاعل مع هذه ً
.
ميز طه موضوع الترجمة وبهذا الخصوص ّ ويشتغل كل مستوى في مجال محدد وعن النظري في الترجمة ذات المراتب النقلية
الثالث“ :التحصيل” و”التوصيل” و”التأصيل” نترك الخوض في عموم الترجمات التي
وضعت لجملة من نصوص ديكارت والتي
النظريات الغربية ،وثالثا بيان معوقات
قام بها ثلة من المتفلسفة البارزين منهم
ترجمة المصطلح للثقافة العربية ،وتح ّدي
محمد الخضيري ،وعثمان أمين ،ونجيب
الوضع البنيوي للغة ذاتها في حال عدم
.
بلدي ،وكمال الحاج وجميل صليبا ومفاد
قبولها لمصطلح معين ،خصوصا وأن العربية
من الالزم علينا وضع عدة
قول طه عبدالرحمن هو أن مشروع الترجمة
لذلك ،فإن فهم المصطلح ووعي حدود
اعتبارات مبدئية لفهم
أيديولوجية سابقة على الهدف المعرفي،
والفوضى الرهيبة في نقل المصطلحات كما
إشكالية المصطلح في
الدليل على رأيه قدم لنا نموذجا لترجمة
لها ميزانها الخاص في سك المصطلحات. اشتغاله
نتفادى
يجعلنا
حالة
الخلط
.
نشهد ذلك في ساحتنا العربية إن المصطلح
كائن يحتاج منا مقاربة عميقة له باعتباره مكو ًنا لكينونة الكائن ،وباعتباره كيفية
أساسية لوجوده ومقاربته للعالم ولذاته، لذلك تفرض علينا ترجمة المصطلح معوقات
جسيمة تلحق المصطلح ذاته كما تلحق بنية
.
اللغة المنقول إليها وبهذا فقد ترتبت على ترجمة المصطلح الغربي إلى اللغة العربية
إشكاليتان أساسيتان وهما:
1-اإلشكالية األولى وليدة المحمول الغربي.
2-اإلشكالية الثانية هي وليدة المأصول
بالنسبة إلى المترجم العربي يخضع لرؤية
مما يجعل ترجمته غير عميقة ،ولكي يقيم
الثقافة العربية ،والتعامل
المبدأ الديكارتي “أنا أفكر إذن أنا موجود”
مع الترجمة كسبيل يؤدي
اختلف المترجمون في فهم هذا المبدأ
وكيف تعامل معه المترجم العربي ،حيث
إلى إعادة انخراط اللغة
بسبب اختالف في المنطلق فأفرغوا المبدأ
العربية في عالم اليوم ،من
ثالثة أصناف بحسب النموذج الترجمي الذي
خالل إيجاد سبل علمية تعمل على تحريك فاعلية هذه اللغة
العربي.
من محتواه ،وصنّف هؤالء المترجمين إلى
اعتمدوه وهي كالتالي:
ترجمة تحصيلية؛ وهي ترجمة ال تحفظ أي خاصية من خصائص التجديد في قوله ّ للفلسفة
.
ترجمة توصيلية وهي ترجمة تحفظ بعض
خصائص التجديد في الفلسفة.
أما اإلشكالية األولى فهي تجسد صراع
ترجمة تأصيلية؛ وهي أرقى أنواع الترجمة
المصطلح يحمل بداخله حمولة أيديولوجية
ما يراعي فيه المترجم حال خصائص اللغة
الرؤية الغربية مع نظيرتها العربية ألن وثقافية عن اللغة المنقول منها إلى اللغة المنقول إليها ،والتي تتوفر هي األخرى على حمولتها األيديولوجية والثقافية ،وهنا
ريكور بصراع التأويالت ،حيث أنه في كثير من األحيان ال نجد مقابال دقيقا للمصطلح في اللغة العربية الختالف في طبيعة اللغة
أو النتيجة ألن الحقل الثقافي المدروس
ألنها تحفظ جميع خصائص التجديد ،وهي
.
بين الحقل المعرفي للمصطلح داخل ثقافته
مع روح المعني و تأتي العبارة المترجمة
لقد عالج النقاد والفالسفة العرب وضعية
القيمة الفلسفية للكوجيتو.
أو الترجمة ال يعنيان أبدا استبدال كلمة
سنن اللغة المترجم منها وسنن اللغة المترجم
األصلية ،وبين معادله في اللغة العربية؟
المصطلح وانتهوا إلى نتيجة وهي أن النقل
بأخرى ،بل يعني استبدال ثقافة بثقافة.
وفي هذا اإلطار نجد الفيلسوف المغربي
طه عبدالرحمن قد عالج هذه المسألة حين
على موازين لغة العرب مع المحافظة على
وعليه ،فإن المصطلح صناعة تشترط فهم
إليها
كاتب وأكاديمي من الجزائر
بطرس املعري
نلج حالة يسميها الفيلسوف الفرنسي بول
40
العراقيل المختلفة التي تعاني منها ،حيث
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
41
ملف
اللغة والمعرفة والقيد الصدئ للحرية جاد الكريم الجباعي ً ً وإبهاما عمن يتكلمونها ،ال من حيث كيفية نشوئها وتشكلها ،أي انبثاقها ،ونموها وتطورها، غموضا اللغة ،حتى يومنا ،لغز ال يقل ً فقط ،بل من حيث ماهيتها وطابع عالقاتها بالمعرفة والفكر واآلداب والفنون والعلوم والتقنيات ،والخرافات واألساطير أيضا.
ومن حيث اقترانها بأفعال اإلنسان وأحكامه ،وأحواله الفزيولوجية ،والذهنية – النفسية الواعية وغير الواعية ،وشروط حياته
االجتماعية -االقتصادية والثقافية والسياسية واألخالقية .فهي مالزمة للنشاط اإلنساني ،ومن أبرز وجوهه .وهي ما يمنح هذا
النشاط معانيه وقيمه.
تعنى
هذه المقاربة بإلقاء ما يمكن
إلقاؤه من ضوء على “طبيعة
اللغة” واشتمالها على اللسان ،أو الكالم والحكي والقول والخطاب والرسالة والكتابة
..
والقراءة أو التأويل إلخ ،على أنها ،أي اللغة،
يسوّ غ ،في نظرنا ،البحث في أحوال اللغة
.
بمعزل عن أحوال من يتكلمونها نشير هنا
إلى أن النقص الخطير في تحليل أوضاع مجتمعنا ناجم عن إهمال التأثير الحاسم
انفصاح الذات اإلنسانية ،ذات الفرد/الجماعة/
للبنى المعرفية-اللغوية في هذه األوضاع
وعلى أنها الشكل األعلى من أشكال تملك ُّ التملك فعل اإلنسان لعالمه ،على اعتبار أن
والتعليم والتلقين األيديولوجي وأنظمتها
المجتمع ،وانبساطها في العالم وفي التاريخ،
.
بتبين إرادة ،ال تكون إال حرة وتهتم ،من ثمة، ُّ
وإعادة إنتاجها ،من خالل مؤسسات التربية
المغلقة.
اللغة انبثاق[ ]1المعرفة من القوة إلى
وحدة المعرفة واللغة والحرية ،مقابل وحدة ً انطالقا من واقع المعرفة واللغة والسلطة،
ديناميكية
المقابلة بين وحدة المعرفة واللغة والحرية
طاقة حيوية ونشاط دماغي وقدرات نفسية
اللغة العربية وإمكانات نموها وتطورها في
أفق العصر.
وبين وحدة المعرفة واللغة والسلطة هي مقابلة بين الواقع والممكن ،في مكان وزمان محددين ،تكشف عن جذور االغتراب في
الطبيعة والدين والسلطة ،وعن جذور
التسلط واالستبداد الضاربة في األعماق ً مركبا المبهمة للمعرفة-اللغة ،وقد صارت تراثا ثقافياً ً ً رمزيا فائق التعقيد ،يسمى ً حضاريا ،يلقي بكل ثقله على الحياة أو
.
اإلنسانية إن كل ما يقيد اإلنسان يقيد
المعرفة ،يقيد اللغة ،سواء كانت القيود
42
.
داخلية أم خارجية ،ذاتية أم موضوعية فال
الفعل ،أو من اإلمكان إلى الوجود؛ وترجمة مستمرة
للمعلومات
الجينية
..
وأذواقها وقدرة كل منها على تأسيس ذاتها
وتحقيقها في الزمان والمكان ،يصعب فرز ما ّ السجل عمّ ا هو إنساني هو شخصي في هذا
واجتماعي.
ً أيضا ،فإن تأسيس فاللغة ذوق وتذوق
الذات والسعي إلى تحقيقها وتمكينها هما مما يستدعي سائر العالقات المشار إليها؛
فالتبادل والتواصل ،على سبيل المثال ً إنسانيا وسيلتان لتأسيس الذات وتحقيقها ً واجتماعيا ،ال العكس
.
ذهب تشومسكي والتوليديون إلى أن
“دراسة اللغة يجب أن تقوم على دراسة
الخاصة باإلدراك والنطق ونشاط الحواس، ً ذكرا وأنثى ،إلى في الشفرة الوراثية للفرد،
اللغة وإدراك رموزها وعالماتها واستعمالها
وذهنية وجسدية ،ال ينفصل هذا النشاط
وثيقة بين علم اللغة وعلم النفس المعرفي،
.
عن نشاط سائر الجسد ولكن هذه الترجمة
محكومة بالبيئة الطبيعية واالجتماعية ،ال
.
العقل اإلنساني”[ ،]2ألن عمليات اكتساب
يعين عالقة كلها عمليات عقلية-نفسية ،مما ّ تبين الطبيعة الفكرية للغة والطبيعة اللغوية ُّ تشكل الذات للفكر ،وتبين أثر اللغة في
العكس فلغة التعبير بوجه عام ،ولغة الكالم ّ يبين سيرورة والكتابة بوجه خاص سجل ّ
بمعناها الواسع ،الذي يشتمل على النطق أو
المتنوعة بمواضيع فاعليتها وعملها من جهة،
ولعل دراسة الحاالت الخاصة ،كحاالت
ً وفقا لعالقاتها تشكل الذوات اإلنسانية، وعالقاتها المتنوعة باألخريات واآلخرين وأشكال انفعالها واستجاباتها ،من الجهة ّ وسجل رغباتها وأحالمها وأشواقها المقابلة،
وتكوُّ ن الشخصية ،على أن تفهم اللغة هنا ً موضوعا للسانيات الحديثة. الكالم ،وقد غدا
المكفوفين والصم والبكم ومن يعانون من “عيوب الكالم” ،كالحبسة والتأتأة واللجلجة
واللعثمة..
تساعد في فهم اللغة بصفتها
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
بطرس املعري ً ً متعينا ،وأثر الصفات الفردية والعامة تفكيرا
لمن يتكلمونها أو يتكلمنها في إنتاج الرموز
واإلشارات والعالمات ،وفي عمليات تفسيرها
وتأويلها ،أو في ما يسمى “فك الترميز.″
الكالم عمل واللغة حدوده؛ الكالم سلوك
واللغة معاييره؛ الكالم نشاط واللغة قواعده؛ الكالم حركة واللغة نظامها؛ الكالم يُ حس،
ويُ درك ،ويُ فهم ،ويُ عقل؛ الكالم فردي ،ولكن
اللغة اجتماعية ،ألن المتكلم/ــة والسامع/ ـــة طرفا هذا النشاط اإلنساني[ ،]3وكذلك
الكاتب/ـة والقارئ/ــة.
.
األدبي والفني والجمالي ،أو اعتبارها آلة
االصطفاء االجتماعي-السياسي ،وال عن
وسائلها فهي من حيث مستوياتها الصوتية
والثقافة الشفوية ،أو ثقافة العامة والدهماء
للعقل والمنطق ،أو أداة للسلطة ووسيلة من
.
والتركيبية والداللية سلطة بذاتها ،هي سلطة المعرفة ،تتضمن رؤية للعالم ،ال “أداة سلطة وتسلط على النفوس والعقول ،أو أداة َسوْ س
.
وسياسة”[ ]4فإن اعتبار اللغة أداة أو وسيلة ال يستبعد اعتبار اإلنسان نفسه أداة ووسيلة، على نحو ما تنظر السلطات المستبدة إلى
رعاياها ،وعلى نحو ما تعاملهم.
هذا يقتضي التفريق بين سلطة المعرفة
جدلية الثقافة “الرفيعة” الموسومة بالكتابة
والرعاع..
أو بين الثقافة المكرسة والثقافة
غير المكرَّ سة واللغة المكرسة واللغة غير
المكرَّ سة.
نلفت النظر إلى أن ما يقال عن ذكورية اللغة
الفصحى وذكورية علوم اللغة ،القديمة ومنها ً أيضا ،وذكورية العلم عامة ،ليست والحديثة ً شيئا آخر غير ذكورية السلطة المركزية
وذكورية الثقافة المركزية .اللغة ليست ً ً محايدا للعلم ،بل هي ذات وحياة. موضوعا
االجتماعي ال يكون بغير الفردي وعلى
وبين معرفة السلطة ،أي المعرفة التي
ولكن الثقافة اجتماعية ،واالجتماعي ال
ً أيضا.
فمن العبث التفكير في لغة أنثوية مقابل لغة ذكورية ،أو لغة الهامش مقابل لغة المتن ،بدالً
والسياسة والتسلط ،ولها لغتها الخاصة في
الثقافة ،ونقد جميع أشكال المركزية ،في
المنوال نفسه :المعرفة فردية والعقل فردي،
.
يكون بغير الفردي العالقة بين الكالم اللغة وبين المعرفة والثقافة هي ذاتها العالقة بين الفردي واالجتماعي؛ االجتماعي حد ال بد من تجاوزه ،من أجل حد جديد ،وقيد
تتوسل بها السلطة للهيمنة على النفوس والعقول والضمائر وعلى األجساد
السوْ س “معرفة السلطة” هذه هي أداة َّ
.
كل زمان ومكان نستدل على ذلك بنشوء “اللغات القومية” ،في العصر الحديث،
ال بد من كسره ،من أجل قيد جديد ..تلكم هي نسبية المعرفة-اللغة ونسبية الحرية.
ُّ بتشكل اللغة العربية كما نستدل عليها
في المجتمع واالستبداد في السياسة.
السياسية والدينية ،وبالمركزية اإلثنية-
من التفكير في كسر احتكار السلطة واحتكار سبيل أنسنة اللغة وأنسنة الثقافة ،والخروج من ال َّدوْ ر أو الحلقة المفرغة في ما يسمى
واقترانها بالثورة الديمقراطية ،في “الغرب”.
تناقض الذكورة واألنوثة مسألة اللغة هنا
الفصحى ،لغة قريش ،واقترانها بالسلطتين:
تحوالت ديمقراطية يصعب الرجوع عنها.
لذلك ،نتحرز أشد التحرز من اعتبار اللغة أداة
الذكورية والمركزية السياسية ،وتشكل
الخصائص والسمات ،هي شكل المعرفة
أو للتعبير
لذلك ال تنفك جدلية المعرفة والسلطة وال
القطعية اليقينية في المعرفة مالزمة للركود
أو وسيلة ،سواء للتواصل والتعارف والتبادل
والتثاقف والتخاطب
والوصف
والتسجيل
والتبليغ..
والتقرير
واإلبداع
ثقافة مركزية تنبذ كل ما عداها إلى الهامش،
تنفصل عن جدلية المتن والهامش وآليات
.
هي مسألة اإلنسان ومسألة المجتمع ،ومسألة
اللغة نشاط إنساني وطاقة حيوية إنسانية
ومضمونها وعلة نسبيتها؛ المعرفة لغة واللغة معرفة ،كل منهما شرط إمكان األخرى وشرط
وجودها ،فال تكون إحداهما من غير األخرى.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
43
ملف
ومن ثمة ،يمكن النظر إلى اللغة والسلطة من
الزاوية نفسها التي ننظر منها إلى المعرفة
والسلطة.
فليس استقالل اللغة النسبي،
الظاهر[ ،]5عن المعرفة سوى استقالل السلطة
النسبي والظاهر عنها ،أي عن المعرفة؛ بل إن هذا االستقالل ال يزيد على كونه فاصالً بين المنطوق وغير المنطوق أو الملفوظ وغير
المبني ،وهو المبني وغير الملفوظ ،وبين ّ ّ فاصل يشبه الفاصل بين الوعي والالوعي،
وبين العقل والالعقل.
.
ممكنات أخرى وهذ األخيرة ال تنعدم ،هكذا
تنتج الضرورة) هو نصف الحقيقة ،نصفها
إذا صح أن الكالم فردي واللغة اجتماعية
وتفسيخها من داخلها ومن خارجها ،لكي ّ تولد تعيد إنتاجها من جديد؛ إذ كل سلطة
ببساطة ،بل تتحول إلى ح ّد على الكائن وح ّد
على الكون (مصدر الفعل كان).
وأن المعرفة فردية والثقافة اجتماعية، فاللغة ليست مستودع الحقيقة؛ والحقيقة
ليست غاية اللغة ،وليست ،من ثمة ،غاية
.
المعرفة وإذ ال مفر من االعتراف بأن اإلنسان
كائن غائي ،فإن غاية المعرفة وغاية اللغة ،بل غاية المعرفة-اللغة هي الحياة اإلنسانية في
.
مقاومة ابتداء من لحظة تحققها ،ألن
.
تحققها هو نفيها (قل الحرية تعمل على
تفكيك الضرورة وتفسيخها من داخلها ومن
خارجها ،لكي تعيد إنتاجها من جديد ،ألن
كل تحقق هو نفي وكل تعين هو
سلب).
هذه العملية التناقضية الجارية بال توقف
فال يمكن فصل ما يسميه ميشيل فوكو
حدود الوجود اإلنساني ،ليس غير المعرفة-
تتيسر مالحظتها على المستوي الميكروي،
األولية ،التي تنشأ من العالقات المتبادلة بين
األيديولوجيا فقط ،وهذه ،أي األيديولوجيا،
تتيسر على المستوى الماكروي ،الذي يبدي أو ً نوعا من االستقرار و”الثبات”، يمكن أن يبدي
“ميكروفيزياء السلطة” ،أي عالقات القوة
األفراد والجماعات ،ونقاطها المبثوثة في
اللغة ،التي تزعم أنها مستودع الحقيقة هي
ولكنه استقرار وهمي أو ثبات وهمي التغيير
أي المبادئ األولية التي تشكل أنماط التفكير
االجتماعي السياسي والثقافي الجذري ال
ومنظومات القيم ،بالتالزم الضروري بين هذه
يكون كذلك إذا لم ينطلق من هذا المستوى
.
السيطرة ،أو إرادة السلطة أو “إرادة القوة”،
وال فرق ،مكنونة في المعرفة-اللغة ،وتنبثق منها ،فتستقل عنها ،لكي تعيد إنتاجها وإنتاج
.
ذاتها فيها العالقة المركبة بين المعرفة والسلطة هي بالضبط العالقة المركبة بين الحرية والضرورة؛ الضرورة مكنونة في الحرية وتنبثق منها ،فتستقل عنها لكي
تعيد إنتاجها وإنتاج ذاتها فيها مرة تلو مرة.
.
المايكروي أو ّ الصغري من هنا تأتي ضرورة
وتلك؛ إذ السلطة معرفة مموضعة ،معرفة ال تتحدد بطبيعة موضوعها فقط ،بل بإرادة ً أيضا هذه اإلرادة ،إرادة السيطرة عليه
حيث تجري عملية “صناعة التاريخ” أكثر مما
.
الجسم االجتماعي ،عن جنيالوجيا المعرفة،
نلفت النظر إلى أن ما يقال عن ذكورية اللغة الفصحى وذكورية علوم اللغة، القديمة ومنها والحديثة ً أيضا ،وذكورية العلم عامة،
العناية بالنظام التربوي والتعليمي وأنسنته وعلمنته ودمقرطته مدخالً إلى التغيير
.
االجتماعي واللغة في صلب هذه العملية
التاريخية ،فال بد من أنسنتها وعلمنتها
ودمقرطتها.
المعرفة تنتج السلطة ،ثم تعيد السلطة
إنتاجها ،وتح ّدد حقولها ،وتتحكم في توزيع حصادها
ومحصولها
وثمارها.
“السلطة
ً شيئا آخر غير ذكورية ليست
والمعرفة تقتضي كل منهما األخرى ،فال
السلطة المركزية
لحقل معرفة ،وال توجد معرفة ال تفترض
نفترض هنا أن ثمّ ة عالقة شديدة التركيب
والتعقيد بين الحرية والمعرفة-اللغة.
توجد سلطة من دون تأسيس مناسب
وال تقيم عالقات سلطة”[ ،]6خطابية وغير
المعرفة-اللغة شرط إمكان الحرية اإلنسانية
تعينات أو خطابية ،كالمؤسسات ،التي هي ُّ
والتعين تحقق المعرفة هو لهذين اإلمكان ُّ
واشتباكهما وتحوالتهما التاريخية ،ورموز
تعينها أو تحققها؛ والحرية سلب وشرط ُّ
تموضعات للمعرفة-السلطة في تواشجهما
.
نفيها ،وتحقق الحرية هو نفيها ،ذلكم هو
جوهر التراجيديا اإلنسانية ،وما يضع نسبية
المعرفة ونسبية الحرية ،وما جعل اللغة ً تناوبا بين اإلثبات والنفي ،إذ كل إثبات هو
للواقع ،هي ذاتها عناصر الواقع متمفصلة
مالزمة للسلطة ،ولعلها شرط إمكانها ،بقدر ً قيما اجتماعية ما تسوّ غ التفاوت ،وتمنحه
على محاوره ونصوصه ووقائعه؛ تختزن في
بنيتها وأنظمتها دالالت اجتماعية-اقتصادية
وثقافية
وسياسية
وقانونية
وأخالقية
تعين هو سلب” ،حسب إسبينوزا .وأخالقية ،وتضفي عليه هالة من القداسة. نفي ،و”كل ُّ
تاريخية ،تتعدى آليات عملها وشروط
المقدس والمدنس ،وإلى المعرفة المقدسة
الدالالت.
فال تتبين عالقة المعرفة بالسلطة بتمامها إال بالنظر إليها على أنها عالقة إيجاب وعالقة
.
سلب في الوقت نفسه أشرنا إلى سلب
الوجود ،ولكن ماذا عن سلب اإلمكان؟ كل
نشير هنا إلى معرفة المقدس والمدنس ،ولغة
واللغة
المقدسة.
التقديس
والتدنيس
عنصران في الشعور ،ال يقتصران على
كائن ناتج وصائر ،ولكن ليس كل ممكن قابالً
الشعور الديني ،إذ ثمة مقدسات ومدنسات
إلى ما ال حصر له من ممكنات ،وبهذا فقط ً توقيعا لممكنات على حساب يكون التاريخ
المقدسات والمدنسات الدينية.
ألن يكون .كل ممكن هو سلب لممكن آخر..
44
اآلخر :المعرفة تعمل على تفكيك السلطة
..
مدنية ،كالوطنية والسيادة ال تقل دهاء عن
القول بأن المعرفة تنتج السلطة (قل الحرية
كفايتها وقدرتها على القيام بوظائفها ،وإن تكن هذه غير مستقلة عن تلك
المؤسسات عامة هي الحقول التي تتعين فيها وحدة الحياة الخاصة لألفراد وحياتهم (النوعية) العامة ،أو وحدة الفرد والنوع؛ ً وضوحا عن هذه واللغة هي التعبير األشد
الوحدة الجدلية.
فاللغة ،وهذه الحال ،خروج الذات من عتمة
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
التكوين داخل شرنقتها الذاتية ،إلى العالم، لكي تصير موضوعية ،أو لكي تتموضع
وتفض جميع خصائصها فيه ،وتعمل من ثمة
.
ينطبق على اللغة اللغة فردية واجتماعية
وإنسانية وتاريخية ،لذلك قد ال تفيدنا علوم ً كثيرا من دون فلسفة اللغة وتاريخها اللغة
.
على استكشافه وتعرفه وتعرف ذاتها فيه.
اللغة المنطوقة ،الكالم ،إنتاج للمعنى والقيمة،
والثقافي
أي جماعة تنطوي اللغة التي تتكلمها وتكتبها ّ
والعالم هنا ليس العالم الطبيعي ،بل العالم االجتماعي-االقتصادي-السياسي
.
واألخالقي ،عالم اإلنسان ومن أبرز هذه الخصائص التبادل؛ تبادل األشياء النافعة
.
بالتالزم ،والكتابة إعادة إنتاج ولمّ ا كانت
بذاتها على رؤية للكون (الكوسموس) ،ورؤية للعالم (اإليكوس) ،ورؤية لإلنسان ،وال سيما
(النافعة).
للمرأة ،فإن هذه الرؤية المركبة هي التي
ليس صفة خارجية من صفاتها لكن التبادل ً فيزيائيا ،إذا جاز التعبير ،ما يمكن أن يظل
الكوسمولوجية هي القيد األول للحرية ،ألنها
واألفكار والتصورات والمعارف
الطبيعة البشرية تبادلية بذاتها؛ التبادل
.
لم يتحول إلى تواصل ،أي إلى تذاوت ،هذا التحول هو أهم مظهر من مظاهر التمدن،
.
تحدد عملية إنتاج المعاني والقيم الرؤية
التموضع األول للمعرفة واالغتراب األول في
.
الطبيعة ،والبذرة األولى للدين فال يمكن
ونقيضه التفاصل والتجنب ،اللذان ال يزاالن
المثال ،تتمحور على التوحيد والوحدانية والطاعة
والجهاد،
والدعوة
والعبادة،
والبطولة
(التبشير)
والشهادة،
والبعث
والنشور والثواب والعقاب ،والجنة والنار.. والخير والشر والحسن والقبيح والمباح
والمحظور..
.
إلى آخر القائمة وتتمحور من
جهة أخرى على التبادل والعقود والمعامالت، وعلى الحياة الجنسية من جهة ثالثة ،حتى
ليمكن القول :إن الحرب والتجارة والجنس هي أعمدة اللغة ومحاور الرؤية ومادة
السلطة.
من أبرز األمثلة على القيود الداللية ،عالوة على القيود النحوية والصرفية ،القواميس
سائدين في المجتمعات ما قبل المدنية ،وفي
العربية من معجم العين إلى القاموس المحيط وما بني عليها مما يعيِّ ن بنية داللية
المجتمعات المدنية غير المتمدنة على نحو
كاف.
عمل وأنماط سلوك.
فالبنية الداللية للغة الفصحى ،على سبيل
مغلقة ،ازدهر إلى جانبها البحث في “األصيل
يمكن أن تكون اللغة تبادلية ،تقيم تبادالت
قد يستهجن بعضنا وجود
والدخيل” ،وبنى تركيبية (صرفية-نحوية-
تكون تواصلية؛ الحالة األولى ،التبادلية ،هي
عالقة وثيقة بين قواعد
مصطلحات ومفاهيم قابلة للتداول المعرفي
تقتضيها الحاجة والضرورة ،ويمكن أن القيد الصدئ للحرية ،ألن التبادل يكون بين ذوات مكوَّ نة ومنظومات مغلقة ،تقوم فيما
بينها عالقات شاقولية ،تعينها نسبة القوى،
في حين يكون التواصل بين ذوات تتشكل
باستمرار ومنظومات مفتوحة على الدوام،
وشبكية.
تقوم فيما بينها عالقات أفقية
من هنا يكتسب التواصل داللة أعمق من
داللته القاموسية ،فيشير إلى انفتاح الذات
.
الفردية والجمعية على أفق إنساني وهذا ً أيضا من ممكنات الطبيعة البشرية ذاتها،
السلطة ومبادئ الحكم وبين البنى المعرفية- أي اللغوية .ونكاد نجزم بأن ّ تحسن ذي شأن في األولى ً تحسنا ذا شأن في يستتبع الثانية وبالعكس
.
وهويته/ـا الجذرية هذا االنفتاح يقتضي ً ً جذريا في بنية المعرفة-اللغة ،أو تغييرا
.
بتغير البنى المجتمعية وتغير قواعد السلطة ً تغي ً جذريا را ومبادئ الحكم ُّ
.
ال شك في أن المعرفة فردية ،والعقل فردي،
..
والضمير فردي لكن هذا ربع الحقيقة ،الربع الثاني أن المعرفة تتحدد باألطر االجتماعية، وكذلك العقل والضمير ،والربع الثالث أن
المعرفة إنسانية والعقل إنساني والضمير إنساني ،والربع األخير أن المعرفة تاريخية
.
والعقل تاريخي والضمير تاريخي هذا كله
وعاجزة عن استقبال مثل هذه المصطلحات ً حسنا ،على مبدأ “أهالً والمفاهيم استقباالً وسهالً” ،أو مبدأ “السالم عليكم”
.
القواميس العربية عقبات معرفية وقيود على حرية التفكير والتعبير ،ومجامع اللغة
العربية تشدد هذه القيود وتحكم
إقفالها.
على أن العيب ليس في مجامع اللغة ،على الرغم من غلبة الطابع السلفي المحافظ ً جميعا ،بل على معظمها ،إن لم يكن عليها في النظم االجتماعية والسياسية أساساً فقد يستهجن بعضنا وجود عالقة وثيقة
بين قواعد السلطة ومبادئ الحكم وبين
.
اللغة-المعرفة ،بجميع مستوياتها الداللية الصدئة ،التي تقيد الحرية وال يتأتى ذلك إال
والثقافي العمومي على الصعيد العالمي،
.
ألن “النوع ″اإلنساني هو قوام الفرد اإلنساني
والنحوية والصرفية والجمالية ،وكسر القيود
بالغية) مغلقة ،وال تزال عاجزة عن إنتاج
فصل “نظرية التوقيف” في أصل اللغة ،عن أسطورة/أساطير الخلق ،وال يمكن فصلهما ً معا عن البنى المعجمية والداللية والنحوية
والصرفية والبالغية أو الجمالية ،وال يمكن ً جميعا عن نظام المجتمع وبنية فصل هذه
أي البنى المعرفية-اللغوية ونكاد نجزم بأن ّ ً تحسنا تحسن ذي شأن في األولى يستتبع
.
ذا شأن في الثانية وبالعكس وذلكم هو المعنى األعمق للثورة االجتماعية ،بما هي عمل تاريخي كلي ،يقتضي كسب منجزاته
كل يوم ،بخالف ما تسمى ثورات سياسية لم ً مسوخا تنتج إال
.
السلطة ونظام الحكم ،على اختالف تسمياته: ً ملكا خالفة أو إمامة أو سلطنة أو إمارة أو
اللغة كانت عملية/عمليات التقعيد والتأطير
ألنها تؤسس حقول معرفة-سلطة ،وتعين
ما سماه الجابري “عصر التدوين”( ،هكذا فعل
ً قيدا بذاتها ،بل أو “جمهورية” الرؤية ليست
.
ممارسات خطابية وغير خطابية ،وأشكال
وما من شك في أن أول عملية تقييد للمعرفة-
والتصنيف والتنويع والتفريع والتقسيم ،في أرسطو في الثقافة اليونانية) ،وكانت تهدف
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
45
ملف
في أساسها إلى تحقيق نوع من االنضباط
ً ً ثانيا. كليا، الميتة ،التي خرجت من التداول
واألخالقي.
ويدمج المفردات المتداولة في األوساط ً ثالثا ،ويتعامل مع المصطلحات الشعبية فيه
استتبع ذلك من علوم اللغة وعلوم الدين..
أنها من أهل البيت ،دونما تفريق بين أصيل ً رابعا وتعميمه على المؤسسات ودخيل،
االجتماعي-السياسي والثقافي
(الحظوا الرابطة الداللية بين تدوين اللغة
والمأثورات واألحاديث النبوية وغيرها وما وبين إنشاء الدواوين ،كديوان الجند وديوان الخراج والبريد وغيرها وتطورها التاريخي،
إذ التدوين ترجمة معرفية وثقافية للتنظيم
السياسي ،وإنشاء حقول معرفية مواتية
.
للدواوين) ولكن عملية التقييد تلك كانت
والمفاهيم المتداولة في العالم اليوم على
.
ً أخيرا التعليمية والثقافية وإتاحته لألفراد ً كثيرا من دون نزع وهذا كله ال يفيد
إلى الكتابة بحروف التينية أو إلغاء اإلعراب،
وجودهم العياني ،االجتماعي-االقتصادي-
السياسي والثقافي واألخالقي ،فما يعزى إلى اللغة من انغالق وجمود وعجز عن
المشاركة اإليجابية في الثقافة اإلنسانية
..
الحديثة ال يرجع إلى اللغة في ذاتها ،بل ً ً ونخبا وجماعات ومؤسسات أفرادا إلى أهلها
.
ودوالً أو أشباه دول ويعزى ،بصورة أساسية إلى بنى السلطات العربية ،وهي نسيج من عناصر خطابية وغير خطابية ،قوامه
“اللغة الفصحى” ،بما هي لغة السلطة ،منذ
.
2
–
قاموس
لغوي-تاريخي،
يعنى
باإليتمولوجيا( ،علم أصول الكلمات) ،ويبين
ثمة مساحة ،تتسع اليوم ِّ باطراد ،يتقاطع فيها العلم والشعر والفلسفة ،ترهص، في اعتقادنا ،بثورة في المعرفة-اللغة ،يمكن
ً عددا من القيود الصدئة
.
المختلفة.
– 3قواميس متخصصة في جميع فروع ً دوريا لمواكبة المعرفة ،يصار إلى تحديثها
ً ً بدءا من القيود القاموسية قيدا تلو اآلخر، ّ وصوالً إلى القيود البالغية لكن تخلف العلم
.
والفلسفة ال يزال يحد من انطالقة الشعر،
ويحتجز إمكانات الثورة المعرفية -اللغوية.
ويبدو
لنا
أن
تخلف
السلطة/السلطات
السلطة ،على نحو ما استقرت في ثقافتنا
وطأتها ،هي القيد الصدئ للحرية
مفكر من سوريا
إشارات
ً توقيفا ،وليست [ -]1نعني أن اللغة ليست ً ً أيضا ،على الرغم من قدرتها اصطالحا
االصطالحية والترميزية.
[ – ]2جمعة سيد يوسف ،سيكولوجية اللغة والمرض العقلي ،سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب، الكويت ،العدد ،145يناير ،1990 ،ص 17 [ -]3سيد يوسف ،ص ،47بتصرف [ – ]4محمد سبيال وعبدالسالم بنعبد العالي، اللغة ،سلسلة دفاتر فلسفية ،رقم ،5دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء ،2005 ،ص 5 [ -]5نقصد باستقالل اللغة النسبي صيرورتها ً موضوعا مستقالً لعلوم اللغة واللسانيات الحديثة ،ما يحصرها في نطاق الوضعية اإليجابية ،ويجفف نسغها الروحي أو اإلنساني ،وال فرق [ – ]6ميشيل فوكو ،المراقبة والمعاقبة ،والدة السجن ترجمة علي مقلد ،مركز اإلنماء القومي ،بيروت 1990 ،ص 65بتصرف
رؤية أسطورية للكون ،ورؤية دينية للعالم واإلنسان أوالً وتستَبعد منه المفردات
– 4توثيق الثقافة الشفوية للمجتمعات
المعرفة وفروعها.
الصغيرة والمجتمع الكبير ،وتدوينها ،والعمل
.
.
.
.
بطرس املعري
– 1قاموس لغوي يزيل ما تحمله مفردات
.
46
تطور داللة الكلمة واستعماالتها في المجاالت
التطور المتسارع ،في مختلف مجاالت
اللغة من شحنات أيديولوجية ،أنتجتها
.
اإلبداع األدبي عامة والشعر خاصة فقد ً عددا من القيود الصدئة، كسر الشعر العربي
.
بالفعل والحداثة الممكنة والمعاصرة( ،على
بوضع عدد من القواميس:
مالمحها ،في ثقافتنا المعاصرة ،من خالل
المعاصرة ،من خالل اإلبداع
.
متخصصون في جميع فروع المعرفة تقوم
تطور األخريات من جهة ثانية.
وتاريخنا ،وعلى نحو ما نعيشها ونعاني من
مسألة المعاصرة في أفق الحداثة المتحققة
الوجود ومشاركة في المصير.
جهة ،ويسهم في تطور كل منها وفق إيقاع
تبين مالمحها ،في ثقافتنا ُّ
وليست خالقة للسبب ذاته مسألة اللغة هي
لذلك ،ندعو إلى إنشاء مؤسسة عربية قوامها
تدفق المعارف والموارد الثقافية بحرية ،من
والإنسانيتها هو ما يحتجز هذه اإلمكانات.
ولكنها ،ككثير من اللغات ،ليست معاصرة لها،
وزن مفاعلة) تقتضي المشاركة ،مشاركة في
وشبكية متكافئة فيما بينها ،على نحو يتيح
تبين اعتقادنا ،بثورة في المعرفة-اللغة ،يمكن ُّ
بها إلى المعاصرة ،معاصرة ،اللغات اإلنسانية
.
بين الفئات االجتماعية والمناطق الجغرافية،
فيها العلم والشعر والفلسفة ،ترهص ،في
فقد كسر الشعر العربي
الحكم اللغة العربية مزامنة للغات الخالقة،
أفق إنساني وديمقراطي.
ِّ باطراد ،يتقاطع ثمة مساحة ،تتسع اليوم
تفصيحها إلى يومنا وساعتنا فال يمكن،
الخالقة ،إال بتغيير قواعد السلطة ومبادئ
ودمجها في الثقافة الوطنية المنفتحة على
ونصوصها التأسيسية ومدوناتها وعلومها
طابع القداسة عن اللغة العربية الفصحى
األدبي عامة والشعر خاصة.
وهذه الحال ،تحديث اللغة العربية والنهوض
من الهامش ،وإبراز محتواها اإلنساني،
في كل بلد على حدة ،وإقامة عالقات أفقية
التقيد به ،أو إلى إصالح النحو الذي دعا إليه ً شيئا أستاذنا سعيد األفغاني ،ولم ينجز منه
.
الثقافة فقط ،بل إلخراجها من الظل وإزاحتها
.
الذي دعا إليه هادي العلوي ولم يستطع
ال تكون اللغة إال كما يكون أهلها ،في
العلوم اإلنسانية ،وال سيما اجتماعيات
– 5العمل على إنتاج رؤية استراتيجية لتوزيع ً توزيعا عادالً المؤسسات والموارد الثقافية
ضرورية أملتها عملية تشكل مجتمع جديد .وعلمائها. وعملية تقييد جديدة وحديثة تبدو لنا ً أيضا ،بخالف الدعوات االنفعالية ضرورية
ً معينا للباحثين في على نشرها ،ال لتكون
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
47
ملف
اإلصالح التربوي والتردي اللغوي صالح بلعيد إن اإلصالح ال ّتربوي في ّ كل بالد العرب مطلب جماهيري حا ّد ،فكما ُتطالب الجماهير العربية بال ّتغيير السياسي ُتطالب بتغيير ّ ّ ّ سبب َ اله ْدر المنظومات التربوية بعدما عرفت المدارس العربية الرداءة والتأخر العلمي وانتكاسات في المستوى اللغوي ،ممّ ا ّ ّ َ نزيف السقوط الذي تعرفه المنظومات التربوية العربية ،واعملوا األمية ،األمر الذي جعل المهتمين يقولون :أوقفوا وتفشي ّ ّ ّ وصفات عالجيةٍ مستعجلة ،وهذا بإصالحات جادة ،بدل الترقيعات السطحية ،ودهن األورام لفترات مؤقتة ،ووضع على تقديم ٍ تؤت ُأ َ ّ ِ كلها بصورة دائمة .بالفعل حصلت إصالحات تربوية ،ولكن في المسكنة ،وهذا فعل اإلصالحات القديمة التي لم المساحيق ّ مجملها فوقية ،ومُ فتقدة للمعايير العلمية المبنية على القواعد الراشدة؛ األمر الذي يشكل ع ّدة اختالالت على مستوى نجاعة الدول العربية إلى اإلصالحات المرغوبة ،وال حافظت على تلك القواعد القديمة التي ّ ُ تلقن بها تصل األداء التربوي والعلمي ،فلم ِ ُ ّ ّ ّ ّ ّ الطالب الرصي َد المضمون ،وتعثرت التربية العربية في كل الفنون ،ومن هذا التعثر تحوّ ل الحديث إلى ضرورة المتون ،وال أمكنت َ إصالح ال ّت ّ عثر ،ومراجعة هفوات ال ّت ّأخر ،وتصحيح أخطاء ال ّتبعثر.
شهد
ّ المختصون األصدقاء واألعداء بتع ّثر مدارسنا العربية؛ وهذا
ولم تعمل المدارس العربية على صيغة ّ غذت في ال ّتواصل بين األجيال ،وال
استراتيجية ناجعة ،وال على مفهوم عملي
من روح ال ّتواصل مع اآلخرين باالستماع
عبر تلك اإلصالحات التي لم تقم على
وواقعي ،وال على نظريات مبنية على
الشمول ،وال على االمتداد في الزمان ،وال على االمتداد في المكان ،وال على االستناد للتكيف ،وال على نظرية علمية ،وال قبول ّ
َ إنتاج األفكار التي تق ّدم استطاع المُ ريدون ّ الحل والعقد استصدار القرار، لصاحب
إن للرأي المخالف… ولذلك يمكن أن نقولّ :
المدارس العربية تكون قد أعطت العلم إلى ّ تعطي/تعلم األدب ،وبذا ح ّد ما ،دون أن
ّ كل ومست تع ّثرت اإلصالحات ال ّتربوية، ّ ّ فشلت مفاصل الدول العربية في القطاعات، مناحي الحياة؛ فتراها تجري وراء ال ّتجارب
أن اإلصالحات التربوية في ويضاف إلى ذلك ّ معظمها لم تعتمد على ال ّثقافة الوطنية
الوصول إلى بناء منظومة تربوية معاصرة،
نظريات من واقع حال البالد العربية،
متوازنة تعطي العلم واألدب ،ولذا آن األوان
المبنية على سيادة ال ّثقافة العلمية ،وال على فاعتمدت نظريات مستوردة من واقع ال
يعاني أزمات ،إلى واقع مُ تهرئ موبوء بالصعوبات ،ولم تنظر اإلصالحات للمدرسة ً ً تحررية تجاه القيود مسؤولية أن لها على ّ
واإلصالح ،ولم تستطيع أكثر الدول العربية تجمع بين األصالة والحداثة في منظومة
لمراجعة تلك اإلصالحات ،والنظر في مست ّ كل ُ الهويات ،ومنها ال ّتفريطات ،التي ّ الهوية ّ ُ اللغوية التي هي أمن عام فال أمن
مائيا دون أمن لغوي ،وال أمن عسكريا دون
أمن لغوي.
واألمية ،باعتبار المدرسة والجهل والفقر ّ ُتعطي الح ّد األدنى من ال ّتفكير والنقد
تقول الدراسات الجادة بضرورة إعادة النظر
ال ّتواجد والمواطنة وقول (ال) في حال الخطأ،
من طغيان الفكر الغيبي ،ووهم ال ّتنظير،
واالختيار الحرّ ،وتربّي في المواطن روح
48
المتمدرسين قبول الرأي الناقد ،وما يتبع ذلك
رسخته المنظومات التربوية العربية في ما ّ
ّ يشل وعبادة الخطاب الماضوي ،واعتماد ما
..
الفكر وحصل هذا بفعل تلك اإلصالحات التي تنظر لل ّتربية وال ّتعليم على أ ّنه قطاع غير خدماتي وغير منتج وعقيم ،فال ترى الفائدة
من تغييره ،فهو خارج األطر
والمضامين.
بأن تق ّدم األمم يُ قاس بمقدار ونحن نجهل ّ ّ ما تنتجه المدرسة من معارف؛ وما تتسم به تلك المعارف من أصالة وج ّدة وابتكار ،وما
تحمله من فكر يعمل على انسجام تربوي ولغوي يعمل على لحمة مجتمعية َت ُسود فيها
المواطنة قبل المذهبية.
بأن المدرسة سفينة المجتمع يجب العلم ّ نحو برّ األمان ،فكيف حصلت فنلندا على
الرتبة األولى في التق ّدم؟ لم يكن ليحصل
ّ تهتم بالمدرسة ،وبالعدالة لها ذلك ،لو لم األمية االجتماعية ،وهو بلد امّ حت فيها ّ ُ المرض ،فلم يكن ذلك ليحصل وانعدم فيه في بلد الماء واألشجار ،وفي بلد ال يملك
البترول والغاز ،ولكنّه حصل بفضل االستثمار ً رقما في ال ّتنمية البشرية ،فأضحت فنلندا
ً راقيا ُتضرب به األمثال في ال ّترقية البشرية.
وما يقال عن فنلندا يقال عن أيسلندا ،ويمكن
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
بطرس املعري
ّ متعل ً ما الرأسمال البشري الذي يجب أن يكون ً وصحيا ويقبل الدخول في مجتمع المعرفة، وهذا ال يكون خارج المدرسة ،ولكنّها مدرسة ُ الدول العربية اآلن تعي معاصرة ،ولهذا بدأت الدور الجديد للمدرسة وهو إنتاج المعرفة،
وإعداد النشء للقرن الحادي والعشرين؛ قرن ال ّتفاعل الذاتي ،قرن ّ التعلم الذاتي وعلى ال ّتربوية العاملة على المقاربات
.
مدى الحياة ولكن مع رفع مطالب اإلصالح
التربوي ،والدعوة إلى مدرسة عربية حديثة،
هناك عقبات كثيرة في األخذ بأسباب نجاح ّ تتوزعها أطراف اإلصالحات التربوية ،التي ّ والتوجهات ،أطراف متنافرة في الرأي
مُ تخمة نائمة ال تريد اإلصالح ،وأطراف تابعة
تعتمد على استيراد المنظومات التربوية، ّ ظل هذا الوضع هل يمكن أن تنجح ففي اإلصالحات أو مطالب ال ّتغيير لدى شعوب
الدول العربية التي دبّت فيها الهزيمة من شحوم الرّ يع والخزينة ،وممّ ن هم في مراكز ّ توقفت عن اإلبداع الديمومة ،وسفينة العرب ً ّ نفعا في محطة اإلقالع ،ولم تعد تجدي في
تغيير السائد ،وفتح مغاليق الحاضر المارد، وآسف أن أقول :ال تنفع إصالحات تربوية تتناول وصفاتها بال ّتفسير ،دون أن يطرأ عليها ال ّتطوّ ير وال ّتغيير ،وال يرصد مسارها
يتتبع عوامل سيادتها ال ّتبرير، ال ّتقرير ،وال ّ أل ّنه ال يتلمّ س الواقع المرير ،ولذا قد يعدم
ال ّتغيير.
.
أن نعطي مثالً لبلد آخر وهي جزيرة منعزلة
المدرسة ،وحصل لها التق ّدم والرقي إذن يقع ً حاليا على االهتمام بال ّتربية وال ّتعليم، الرهان
ّ حصلت الرتبة في التنمية البشرية ،وبذا ً الطب ،فأصبحت عالميا في مجال األولى ّ
الجودة والفعالية لرجال القرن الحادي ٌ دول تعمل على صنع مدرسة والعشرين،
(كوبا)؛ كان الجهل والمرض والفقر يفتك ّ كل هذا باالستثمار بأهلها ،ولكنّها تجاوزت
رهان تتسابق األمم فيه بغية الوصول إلى
ّ المتخصصين كوبا اآلن تص ّدر األطباء
ٌ دول مواطنة تؤمن بالعلم ،وتعمل من أجله،
وكبار الجرّ احين إلى البالد الراقية ،ولم يكن يحصل ذلك لو لم تستثمر في ال ّتربية
وال ّتعليم ،دون الحديث عن العمالق ماليزيا وبلد اليابان والنّمر اآلسيوي كوريا الجنوبية؛ ّ ترتب تاسعة في االقتصاد وهذه األخيرة العالمي ،وتنافس اآلن الواليات الم ّتحدة في
.
صناعة النانوتكنولوجي دول قديمة وعريقة
في الحضارة ،استثمرت في البشر ،فلم ّ ّ متخلفة، التخلف وأخرى حديثة كانت تعرف ّ التخلف بفعل استثمارها في فخرجت من
ّ التعصب واألمراض تقيم مدرسة تقضي على ّ وكل ما يجعل البلد واالنحرافات والعنف تنهكه األزمات ،فهل يمكن أن يحصل في
واقعنا العربي؟ ّ أن الحراك العربي في اتجاه من المعلوم ّ إحداث ال ّتغيير في المنظومات ال ّتربوية مطلب جماهيري جديد يعمل على التثوير،
وعلى بناء مدرسة معاصرة تعمل على
أن صيرورة ال ّتغيير في الذهنيات؛ بحيث ّ ّ ّ كل تنمية قوية مُ ستدامة تتطلب تعبئة
إن القرن الحادي والعشرين يسعى للجودة ّ في ال ّتربية وال ّتعليم لنقل المجتمع من مجتمع القبيلة إلى مجتمع المعلومات؛
مجتمع تكون فيه المدرسة عاملة على مواطنة إيجابية تنحو في ّ اتجاه بناء التالحم
َ اللحظة الكونية التي اإلنساني وتستوعب ّ نعيشها ،واالعتراف بجميع الرموز اللغوية وال ّثقافية والتاريخية والوطنية والمساواة ً واالتجاه إلى مستقبل يُ ّ ّ مواطنة غذي بينها،
ً لغوية ُتؤمن باألبعاد المحلية ،وتنفتح على
.
والقيم العالمية ومن هنا فالشرعية المعارف َ
والديمومة والبقاء أن تكون لإلنسان بما هو إنسان من حيث ما يكتنزه من معارف ،ال إلى
اإلنسان باعتباره صاحب األصول والفضول وأصحاب النفوذ ،فهل يمكن أن نعي هذا قبل
وأن أهل خوض ميادين اإلصالح ال ّتربوي، ّ ّ الثقة ،وهل يمكن لمدارسنا الميدان قبل أهل أن تربّي مفاهيم ال ّتسابق لألفضل؟ وبذا تأتي
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
49
ملف
مهمّ ة مدرسة اإلصالح في الوقت المعاصر
ً 2004/2003م ،والخطرُ يكبرُ سنة بعد سنة،
االنفتاح ،وتحديث المجتمع بما يستجيب ّ لكل المرجعيات الرسمية فالمدرسة العربية
ِ عدم االهتمام بالتنمية البشرية التي عما ُدها
في نهاية أبريل من ّ كل سنة فإذا وقفنا في ً أسبوعا نستخلص ما يلي: رقم 18
المدرسة؛ فالمدرسة عندنا لم تع ْد جاذبة ،ولم ٌ عنف في المدارس، تفلح في تربية الطفل:
للتدريس.
للرفع من مستوى المعارف وربطها بقيم
.
اآلن بحاجة إلى تدبير جديد؛ يبدأ من إعادة النّظر في الرؤية التي تنظر بها إلى المعارف والقيم المحلية والوطنية والكلية ،والتف ّتح َ
على مكاسب ومنجزات الحضارة اإلنسانية،
حب المعرفة ،وطلب البحث وتكريس ّ والمساهمة في تطوير العلوم ،وتنمية الوعي بالواجبات والحقوق والتربية على المواطنة،
وممارسة
الديمقراطية،
والتشبع ّ
بروح
الحوار ،وقبول االختالف ،وترسيخ قيم
ويظهر الفسا ُد في شريان المجتمع بفعل
ٌ ٌّ غش في االمتحانات، عنف في المالعب، ّ ٌ فقدان االحترام للمعلمين واألولياء ،شلل في ُ
اإلرادات ،البحث عن الربح السريع ،فقدان المناعة في التأثير ،االنقياد لمن غلب ،وفي ّ ّ المعلم اإلضراب، تنفس شبابنا ال ّتعب ،حلم واختزال عمله في رفع األجور ب َْل َه الحديث
..
.
عن جودة التعليم التي ال وجو َد لها فالمدرسة تلقن التلميذ إالّ أصبحت ال ّ الكمية القليلة من ّ
ً ً أسبوعا = ثلث السنة أسبوعا = من أصل 51 18
ً أسبوعا = يساوي 3أشهر وزيادة زمن 18 ً التدريس = 16درسا في ّ كل حصة
.
ً ً ً درسا أسبوعا للراحة = 33 أسبوعا – 33 = 51 18 ً ضائعا
.
ً أسبوعا = 8أشهر راحة 33 ً 18أسبوعا ليست كاملة ،وينقص منها:
.
ال ّتخفيض في حصص رمضان +غيابات ّ المعلم +أيام االمتحانات +إضرابات فماذا
..
فإن يدرس التلميذ؟ ودون تعليق كبير، ّ
األصالة والحداثة ،والتف ّتح على ال ّتكوين المِ ْهني المستمرّ فهل ُت ّ مدارسنا حقق هذا ُ
من سبتمبر إلى نهاية جوان ،ومع هذه
إن مدارسنا بحاجة إلى إصالح جوهري ّ
فهل هذا هو المطلوب من اإلصالح؛ تكريس العُ َطل في العُ َطل؟ ويضاف إلى هذا الهزال،
..
تحقيق هذا في برامجها؟
يعمل على تطوير الرأسمال البشري ،وهذا
بؤر مدارسنا سوى هو الناقص فيها فلم تعد ُ ٍ ِ وتناسل حلقات اإلخفاق، إعاقات إلشاعة ِ وهذا ما جعل تقارير ال ّتنمية البشرية ُتشير على العرب بضرورة إعادة النظر في ات ً “إن ثمّ ة ّ فاقا واسع منظوماتها التربوية ّ
أن النظم التربوية في العالم النطاق على ّ العربي بحاجة إلى تحسين ،إذ يذكر تقرير أن هناك البنك الدولي الصادر في العام ّ 2008 فجوة بين ما تق ّدمه أنظمة ال ّتربية في
البلدان العربية وحاجات ال ّتنمية وأهدافها.
مدارسنا بحاجة إلى إصالح جوهري يعمل على تطوير الرأسمال البشري ،وهذا هو الناقص فيها فلم تعد
تقارير التّ نمية البشرية تُ شير
التربوية
.
الميزانية التي يعطيها للكرة؟
واالنحدار والهزال في المُ خرجات منذ اإلصالحات التي بدأت في أواخر ال ّتسعينات حتى تكريس اإلصالحات الجذرية في عامي
ترب األزمنة في هذه اإلصالحات التي لم ِ التلميذ على األدب ،وال على اغتنام الوقت
.
فأين الوقت من ذهب وإذا كانت المدرسة ّ ترخص هدر الوقت وتم ّدد العطل ،فأين ذلك ّ المسير الذي يكون أحرص على المعلم أو ّ
ّ معلم الوقت واستدراك ال ّتأخير وإ ّنه لم يع ّد ّ المعلم القنوع الذي يعمل اإلصالحات ذلك
.
الشأن العامّ على الخاص وكالمه ال سبق يُ ّ َ
الحال هكذا ،فهل من المأمول أن يحدث
ومنظومتنا ال ّتربوية في الجزائر واحدة من تلك المنظومات العربية التي عرفت ّ الشلل
في صورة عكسية ،إصالح تربوي مصدر ّ كل
ّ فمعلم اإلصالحات ال في الظالم دون كالم،
تغير ومُ تطوّ ر[ “]1فإذا كان اقتصاد عالمي مُ ّ ال ّتغيير وال ّتفعيل داخل هذه المنظومة ،وفي ّ ظل الوضع المجتمعي الذي ال يعطي ربع
..
الطلبيات.
اإلخفاق ،وهذا ما جعل
وتناسل حلقات إعاقات ِ ِ
بلدان العالم العربي على ال ّتفكير المعمّ ق في
التطوّ ر المستدام للقدرة على المنافسة في
أساسية وعدم وجود مدرّ سي اللغة الفرنسية ّ اللغات، في الجنوب إصالح في هدر
ألن ال ّتعليم في األساس هو ال ّتدبير الخسائر؛ ّ ّ الجيد في كل دواليب الدولة فاختلطت ّ
النظر في منظوماتها
كيفية تنظيم التعليم على نحو أفضل لضمان
اإلدارة ،وتلك اإلضرابات التي يقوم بها ّ المعلمون لنيل حقوقهم ،ونقص أستاذ مواد
بؤر إلشاعة ُ مدارسنا سوى ٍ
على العرب بضرورة إعادة
..
ُ الضغط الذي يمارسه التالميذ على ذلك
والتقليل من الواجبات ،وكثرة ّ إ ّنها فوضى حاصلة في إصالح مُ تعثر، ّ فتعطل الجه ُد إصالح أتى بالفشل الذريع،
فإن تقرير التنمية البشرية العربية كذلك ّ ّ الصادر عن برنامج األمم المتحدة اإلنمائي ّ أدلة على أن هناك للعام 2002يش ّدد على ّ ّ ويحث تدهور نوعية ال ّتعليم في المنطقة
منظومتنا القديمة يكون التلميذ في المدرسة
اإلصالحات ال ّتربوية دامت العطل فعاشت،
العربية ،أو تعمل اإلصالحات التربوية على
50
.
يخرج عن المطالبة بالحقوق قبل الواجبات،
المعلومات ،بفعل تزايد العطل والراحات؟ ً أسبوعا في السنة، فتلميذنا ال يقرأ إالّ 18 في الوقت الذي يقرأ التلميذ في العالم بين ً أسبوعا في السنة وعتبتهم البرنامج 34و36
الكامل ،ال عتبة الثالثي األول والثاني[ ]2كما ّ ويتوقف تالميذنا عن ال ّتدريس هو عندنا،
وتفكيره في الراتب والمردوديات ،فلم
الطالب ُ تحصل المواطنة للطرفين ،فضعف والمطلوب ،وتدهو َر المستوى ،وزاد الضعف َ واشتعل الفسا ُد ،والفساد في على الضعف،
ً فتكا. المنظومة التربوية أش ّد الفسا ُد
المدرسي؛
في الكتاب ويظهر ومدوّ نتي في هذا القول كتاب ّ اللغة العربية
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
ّ المتعلم شبه وكتاب ال ّتاريخ ،كتابان يجعالن
في ال ّتمهين دون الحديث عن تلك اآلالت
العيب على امتداد أربعة عقودّ ، تم اقتراح
بالشوائب؛
قبل االستعمال ،بل ترمى في مقبرة القصدير، ّ محل لها في ال ّتعليم العامّ وسوء فال
رغم ما فيها من مشاكل تربوية ،ونقص في
أي لغة ،وال يدرك تاريخ ببغاوي ال يفهم ّ بالده ،وال يستطيع أن يكون مثل الشامبانزي في
كتابان
التقليد،
مليئان
يق ّدمان مادة النّصوص األدبية والتاريخ بخيستين ،والحضارة العربية اإلسالمية والسكوت عن تاريخنا القديم، رخيصة، ّ
وفعل الحركات الوطنية ،ويقفان عند حدود وكأن الجزائر حديثة العهد في امتالك ضيقة، ّ ّ
أن العربية، وأن تاريخها ليس من الماضي ،أو ّ ّ الماضي من سقط المتاع ،وهذا بخس للثقافة
الوطنية ،ولتلك االنتفاضات النضالية ،وما عرفته الدول األمازيغية الثالث عشرة ( )13من
.
تطوّ ر وحضارة وأضيف إليهما كتاب ال ّتربية ّ ّ يجل يمجد الدين ،وال اإلسالمية الذي ال
.
المستوردة بالعملة الصعبة ،ويأكلها الصدأ
.
أن ّ كل التالميذ يذهبون التوجيه يظهر في ّ ّ كأننا نع ّد لمعركة ال ّتطبيب أو إلى العلوم،
أصعب البداية ،ولكن التهيئة والبداية ،فما َ
جيوش من الطلبة ،أليس هذا انتحارا مُ علنا
الثالثة التي نجد فيها إمكانات هائلة وأجهزة
لخوض البيولوجيا النّووية التي تحتاج إلى
.
لمنظومتنا وإذا تح ّدثنا عن المناهج التربوية ّ ً التخلف في تجسد عروشا مسندة؛ فنجدها ّ َ البرامج المدرسية بمفردات ال عالقة لها بالواقع ،وبنصوص مصطنعة منسوخة من
ّ ّ النص النص األصيل ،وحضر الشابكة ،فغاب
الوسائل المطلوبة ،وكان ذلك في ظروف في لحظات التق ّدم المعاصر ،وفي األلفية متطوّ رة ،نعود القهقرى بسرعة عجيبة،
ونتراجع عن المكتسبات القبلية ،فأين الخلل يا ُترى؟ ّ وإني لست بصدد تسويد وضعية اإلصالحات إن عدم ال ّتربوية في مجال الهدر العامّ ،بل ّ ال ّت ّ حكم اللغوي أسوأ ،فإذا نظرنا إلى الواقع
ّ ً مرا ،وأنقل للقارئ بعض اللغوي فنراه
الحديث الشريف ،ويُ سقط ّ كل مفردات يرى
ألن النّظرية المشاهد الحزينة ال من النظريات ّ ّ والشك ،بقدر ما في أصلها تحمل النقيض ً علميا ،وبعض ما أقول أعتمد الواقع والثابت
وكأن الدين اإلسالمي إرهاب، فيها اإلرهاب، ّ
.
إصالحات كانت في مجملها صالحة ،وعادت ِّ تؤد إلى الكارثة على أجيالنا بالفالح ،ولم
وهل نحن في دولة الئكية مِ تعاب كتاب سطحي بسيط ال يعمل على تحريك ال ّتفكير،
ضعف لغوي في ّ ٌ اللغات
كالم العامة وخطب الجمعة ،وبه أخطاء ُكتبنا المدرسية بها مجموعة ظاهرة
الطالب الثالث ،ال يستطيع ُ
من التبخيسات؛ نالت أعراض المنظومة ّ ّ ِ حقهم من أن المتعلمين تعط التربوية ،فلم
وَ وَ لِي تلميذ كذلك؛ فلم أشهد ذلك االنحدار ّ اللغوي إالّ مع دفعة اإلصالحات التي عتبت
الحديث عن الفرق بين العدد
األولى في مستوى النّجاح في الباكالوريا،
تاريخهم الحافل القديم ،فأين مستوى تقوية
والمعدود ،واألمر أدهى
وال يحمل قارئه على ال ّتدبير ،ومفرداته من
.
يعرفوا بأ ّنهم أمازيغيون عرب مسلمون ،ولهم الوعي بالذات الجزائرية؟ وأين المواطنة
فإن آليات في صورتها العامّ ة؟ ومن ذلك ّ اإلفساد تكبر بإتقان ،وتق ّدم آليات االنتصار التي ُتعمي صاحب القرار ُكتبنا التربوية
.
كسولة تعتمدها الدولة دون منافسة ،وليس لها ّ حق إبداء الرأي في صنّاع الكتب ،وال في
ّ عينتهم ،أو في لجان ّ وكل نصبتها، أشخاص ّ لجنة ال تسير وفق رغبات المسؤول ُتستبدل
َ كتابة جملة صحيحة ،دون
عندما تطالبه بكتابة عريضة ما ،فال يدري كيف يكتب
فيها ال ّتعليم التقني في المرحلة المتوسطة ّ ويوجه له أفضل التالميذ، وفي الثانوية،
ّ يوجهون أن الطلبة الذين واألدهى من هذا ّ إلى ال ّتكوين المهني عندنا من المطرودين،
ومن ضعاف التالميذ ،والذين ال مستقبل لهم أل ّنهم فاشلون في التعليم العام فهل يفلحون
أن واليات أخرى تسونامي لغوي ويعني ّ
.
حقيقي ّ ٌ ضعف لغوي في اللغات الثالث ،ال يستطيع َ الطالب كتابة جملة صحيحة ،دون الحديث ُ عن الفرق بين العدد والمعدود ،واألمر أدهى
حتى البداية ..كوارث لغوية ال يمكن تعدادها
إن نسبة ال يمكن تعدادها ،ونحن نقولّ :
كيف يكتب حتى
البداية..
كوارث لغوية
وأن عدد النجاح في الباكالوريا 70بالمئة ّ
الحاصلين على درجة امتياز تجاوز خمسة آالف ،أليس هذا تضليال وخرافة ،أو هذا هو
.
أن ال ّتقني الذي هو عماد ال ّتصنيع ،بدعوى ّ هناك وزارة ال ّتعليم والتكوين المِ هنيين، وهذا غرور في غرور ،أليس ّ كل دول العالم
الجامعة سنة 2011م ،وهذا في والية ُتع ّد
عندما تطالبه بكتابة عريضة ما ،فال يدري
بلجنة موالية ،فهذه هي الخرافة والسراب في أرض بقيعة ال تمطر إالّ األتعاب وإذا أتينا إلى ال ّتسيير فنجد حذف ال ّتعليم
مستخلص من دراسات ميدانية ،ومن خالل ً مدرسا للغة العربية منذ سنة ،1984 كوني
.
علي كباحث أن أقول نجاح اإلصالحات كان ّ
الهزيل ،نصوص ال تترك للتلميذ حرية القرار ْ أبعدته عن األصالة ،ولم أو التفكير ،فقد تائها وَ ْل َه ً ً ُ ّ انا ،ال التلميذ تمكنه المعاصرة؛ فبقي فأصبح َح ْيراناً يعرف مقامَ ه َ
.
إصالح لم َ َ يرق للمستوى الشكليَ ، الحديث بله َ عن مستوى المضمون ،ولمِ ْسنا ِبدامغ البرهان مدى المفارقات الكبيرة بيننا وبين جيراننا
في بناء المناهج وفي ما يحمله من مواد، ّ للمتعلم من معارف أليس من وما يعطيه
.
أن النقد الحقيقة التي هي مُ رّ ة ،ولكن عسى ّ وأن األمم التي تقبل البنّاء يعمل على ال ّتغيير، ّ
.
النّقد هي التي تنجح في اإلصالحات وفي
ذات الوقت ال يجب تعليق فشل اإلصالحات ال ّتربوية على مشجب وزارة ال ّتربية ،رغم أ ّنها تتحمّ ل النسبة الكبيرة من الفشل ،ولكن
إذا كانت وزارة التربية تمأل القربة من فوق ووزارات أخرى تثقبها من تحت ،فأ ّنى للقربة
أن ُتمأل! إذن كان يجب أن تكون اإلصالحات ّ ّ بكل كل الوزارات والمجتمع المدني شأن
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
51
ملف
َ المرض الذي سرى في المدرسة ألن فئاته، ّ كانت مصادرُ ه متع ّد ً دة ،دون الحديث عن ّ المتأسسة المتطلبات الشرسة للعولمة تلك ّ على تنافسية قوية إلغائية ،وهناك الرأسمال
ّ مؤهل وغير قادر على الخلق، البشري غير ّ مؤسساته في وضع غير بكل فالمجتمع ّ مريح ،وبذا كانت ال ّتربية في وضع متدهور،
بل في مرحلة تنذر بالخطر ،وال يمكن أن
أن ال ّتدهور الذي ينخر هذه المنظومة ننكر ّ ً شرسا منذ تع ّدد النقابات ،التي اختزلت بدا
ّ ّ توقف، المعلم في رفع األجور دون مطالب نقابات تشعل التمرّ د ،وال تطالب بتحسين
الفعل التربوي وال رفع المستوى العلمي، وال االهتمام بالتلميذ من الناحية الصحية
نطبل عنها في بالد المنشأ ،ونحن ال نزال ّ لها بالمزمار ،ونرقص على انهزامنا المُ نهار، ّ تمكننا بناء نظرية لإلصالح وفي عدم
.
ال ّتربوي المِ سوار ولهذا وقع التراجعُ عن ُ ُ َ وسكت العربية، مكتسبات قديمة فأعيبت ُ نفوذ الفرنسية فلم وقوي عن األمازيغية، َ ّ ُ اإلصالح من إعطاء الوضع المريح يتمكن
.
ُ أواله لتعليم للعربية وال لألمازيغية ،بل ً مساحات يومية على الفرنسية التي تنال ٍ
ّ كل ذلك حساب العربية واألمازيغية ،ومع ً َ مركزية ال تغادر مدارس الفرنسية بقيت فإن ّ ُ تالميذ الجبال والجنوب دون المدن ،وبقي ً معرفة الفرنسية التي هي قدرهم رغما عنهم
.
والعلمية والثقافية ،فنجد بعض النقابات ترهن أوالدنا لمستقبل مجهول ،باغتنام األوقات العصيبة لإلضرابُ ، وتساوم على
..
التربوي عندنا يعيش الخطر ،فما العمل؟
أو جديد؛ حيث نبدأ الحديث عن مهمّ ة اإلصالح التربوي التي هي مهمّ ة الجميع، ّ يتطلب تضافر جهود الجميع ،فاإلنسان وذلك
ال يكون إالّ بالتربية كما قال كانط Emmanuel ً إنسانا إالّ “إن اإلنسان ال يمكن أن يصبح ّ Kant بواسطة التربية ،إ ّنه ليس سوى ما تجعل منه التربية” فالوضع المعاصر يقتضي إصالح
اإلصالح La réforme de la réformeإن لم نقل
إصالح يقتضي عقلنة المدرسة Repenser l’écoleوإ ّنه ينبغي أالّ يكون اإلصالح من أجل
ُ الحديث عن مقام ال يمكن ّ اللغات الوطنية في مدرسة ً متالحقة في أزمات تُ عاني ٍ أدى إلى تدهو ِرها؛ تدهور ّ ُ ُ
اليأس داخل منظومة مريضة بعد ما يقرب من عقدين من التجارب الفاشلة
.
ّ اللغات، وسأقف وقفات نقدية في هذه االنتكاس اللغوي في إصالحات وكيف حصل ُ ُ ُ الحديث قلت فإ ّنه ال يمكن 2004/2003ومهما
َست َْبدِ ل الرابعة ابتدائي إلى السنة الثانية ،وي ْ ُ اإلصالح الرمو َز العربية بالالتينية ،ويعدمُ َ اإلشارة إلى تعريب العلوم في الجامعة، َ ّ متوحشة منهجية العمل “بلسانية ويق ّدم لنا
تنتج األمية[ ”]3فهل نطلق على هذا اإلصالح إصالحا ،وهو يفترس ّ ً اللغات الوطنية ً افتراسا إصالح يعمل على تمكين هيمنة
.
الفرنسية كلغة عمل وتواصل ويختزل ّ كأنها لغة إصالح العربية في ترقيتها؛ ّ ّ فالتخلف في عدم العمل فيها وبها، متخلفة،
.
مختلفين ،وهو يعتب أبواب سجلين لغويين ْ ْ
المدرسة ،وفيها منافسة غير شريفة؛ منافسة اللغة األجنبية على ّ تدعو إلى تفضيل ّ اللغات
.
ّ وتنص أكثر الدراسات والبحوث الوطنية
بأن التلميذ الميدانية القديمة والمعاصرة ّ عليه أن يحتكم إلى َّ الصوْ رَنة الشكلية للغته
في السنوات األربع من الدراسة بحيث :يقرأ ـ
يعبر ـ يحاور ـ يع ّد ،وهذا عبر إغماس يكتب ـ ّ ّ لغوي في لغته الرّ سميةّ ، ثم يمكن أن يتعلم
.
أكثر من لغة وإن لم يكن هذا ،فمثالنا على
ذلك الدول المتق ّدمة مثل مجموعة الدول تعلم ّ الثماني التي ّ اللغات األجنبية بعد أربع/
1ـ ّ اللغة العربية :هي ّ اللغة األمّ /لغة األمّ ة/ ُ ّ واللغة الرسمية لغة االنسجام المجتمعي، ٌ ً دستوريا ،لغة عملت الدولة على إقامة
ً ً ً أجنبية لغة َت ْف ِرض عليه واحدة أال يكفي ّ ّ حجة لتأخير تدريس اللغات األجنبية؛ هذا
.
حفظا لمتن ّ ً السعودية/ أن ّ اللغة العربية ،أم ّ األردن نماذج على هذا ال ّتقديم ،فنسأل هل السعودية/األردن من الدول المتق ّدمة؟ وما ّ
عن مقام ّ اللغات الوطنية في مدرسة ُتعاني ً أزمات متالحقة في تدهوُ ِرها؛ تدهوُ ر أ ّدى ٍ
المؤسسات التي تعمل على ترقيتها ،فهي ّ َ تأهيل لهم دون رأسمال الجزائريين ،فال
أي مجال؟ أال هو التق ّدم الذي أحرزتاه؟ وفي ّ
الوطنية واألجنبية وكان علينا العمل على
أميركا ـ بريطانيا ـ الفيتنام؟
يقرب من عقدين من التجارب الفاشلة،
والنهوض بمكوّ ناتها ،وتثمين الذات العاملة
.
إلى اليأس داخل منظومة مريضة بعد ما فطالتها ي ُّد العبث وال ّتجارب المستوردة،
وبعضها كانت قديمة ،وبعضها وقع التراجع
52
االعتبار إلى العربية ،والرفع من مردوديتها، َ وجعلها َ الكفاية اللغوية لغة الجودة ،لكن نرى ُ عادت للغة األجنبية التي أنزلت من السنة
الدول المتق ّد ُ ُ مة لِوَ لِي التلميذ بهذا ،بل تتيح قائمة من ّ ً اللغات األجنبية التي يختارها ،وال
ّ ينص بند ـ مواطن الخلل في اإلصالحات:
مستوى أداء الفرنسية /االهتمام باألمازيغية.
.
إن إصالح 2004/2003يقتضي ر ّد الجزائري ّ
خمس سنوات من دراسة ّ اللغة األمّ ،وبعضها ُت ّ ؤخرها إلى المرحلة اإلعدادية ،وال نكتفي
َ قطاع ال ّتربية وال ّتعليم أن اإلصالح وخاصة ّ ّ ُ كل المواطنين؛ يمتاح منه قطاع مركزي؛ ّ فنجاحه إصالح لكل المجتمع
اإلصالحات في ميدان لغات المدرسة الجزائرية على :ترقية ّ اللغة العربية /الرفع من
مناقشة في خصوص العربية في المجتمع
خلف ال يكمن في ّ وال ّت ّ اللغة بقدر ما يكمن ّ التحكم في في أهلها فكيف يمكن للتلميذ
رفع األجور؛ ّ باتخاذ التلميذ رهينة فالوضع
وإزاء الوضع الخطير ال ب ّد من منطق مغاير
ٌ ثابت وال ألن الدعمَ المجتمعي السياسي؛ ّ ّ
تأهيلها والنهوض بها وبمكانة ألسن ُ الهوية
.
تجديد متنها وتطوير أدوات البحث والتعليم على المتون اللغوية ،والعمل على الترجمة
منها وإليها ،والعمل على استصدار الدعم
يجوز أن نقيس على فرنسا ـ كوريا ـ اليابان ـ إصالح تربوي لم يحصل الجهر فيه باعتماد
الفرنسية التي هي لغة الخفاء والقرار، والعربية لغة المظهر والشكل ،فلم يحصل ُ الحسم في المسألة اللغوية
“..
والحسم
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
بطرس املعري التوجه في االختيار ّ ً ّ اللغوي ،إما جذريا في
ّ اللغات هي األولى أو الثانية ،وهذا ما تفعله
إرادة سياسية واضحة ـ تقصير المجتمع
والمؤسساتي األساس للتواصل الشكلي ّ وال ّتحصيل العلمي وهذا الخيار لم يعد وارداً
وإن الدولة الجزائرية مُ طالبة بحماية ّ اللغة ّ ّ ّ الوطنية من كل حملة عدائية أو كل ما
عليها ـ غياب القرار السياسي ـ ضعف الخطط
اعتماد لغة أجنبية-فرنسية ،وجعلها الوسيلة
ّ ظل ما تعانيه الفرنكفونية من تراجع، في
وعدم القدرة على رفع تح ّدي ال ّتنافس ّ اللغوي العالمي وإما تقويم العربية وتمكينها
.
من فرض نفسها كلغة رسمية فعلية وليست
فقط شكلية للبالد في اإلدارة والتعليم ،دون إهمال ّ ً طبعا ،وفي مق ّدمتها اللغات العالمية ً فصاعدا الصينية ّ ثم الهندية؛ اللتان من اآلن ً ّ من شأنهما أن تفتحا للمتلقين آفاقا واسعة
في المستقبل القريب”[.]4
ّ تضمن الدولة حق المواطن أن أليس من َ َ َ وحقوق لغته األمّ ؛ فتحميها حقوقه اللغوية ّ وتؤهلها ،وهي مسألة ديمقراطية تعمل اللغة الوطنيةُ ُ ّ الحية ،أليست كل األمم بها ّ
الحية. األمم ّ
ّ ّ يقلص وكل ما يؤ ّدي إلى إضعافها ونبذها، ّ من تواجدها أو ما يجعل اللغة األجنبية أفضل منها ،وعلينا الخروج من هذا الوضع ال ّتربوي السلبي غير المُ ريح؛ الذي ُت ّ فضل فيه الفرنسية على العربية ،كما ُت ّ فضل الفرنسية كل ّ ّ اللغات األجنبية مهما كان علمُ ها على ُ وتقدّمُ ها إصالح رغم ما أثير حوله من جدل
.
وقالقل واضطرابات واعتصامات ،فالدولة فطبقت عزمت على تطبيقه مهما كان، ّ
اإلصالح الفاشل ،فمن تضرّ ر؟ هل تضرّ َر ألن أوالدهم أوال ُد النّخبة والقبيلة؟ بالطبع ال؛ ّ
يدرسون في الخارج ،ومن بقي في الداخل
.
في حماية لغته ـ العداء للعربية وال ّتحامل
ال ّتربوية الناجعة ـ ضعف لغة اإلعالم وشيوع األخطاء ّ اللغوية وهذه النقاط التي كان
..
يجب أن يعالجها اإلصالح ،ويأخذها في ّ يركز باب ال ّتخطيط ،وفي هذه النّقاط الهامّ ة العالم الفاسي الفهري على مسألة ال ّتخطيط ّ اللغوي التي هي الدواء الناجع إذا ما وقع
ال ّتخطيط الفعّ ال في المسألة ّ اللغوية ،وبه ُ رونق العربية إلى مجده ،ويتزامن ذلك يعود
بالقضاء على جملة المتاعب التي أعاقت العربية عن ّ إن حصيلة المتاعب اللحاق قائالًّ : جرّ اء عدم التخطيط يعود إلى: ّ 1ـ ضعف إتقان ّ المتعلم، اللغة العربية لدى
وضعف نوعية تعليمها ،وضعف الوسائط ّ الموظفة في األنشطة ال ّتربوية المرتبطة
ً ً ً واعتزازا بالذات. نفسيا وطمأنينة استقرارا
يدرس منهاج فرنسا ،ويُ متحن في تونس وأمام هذا الوضع الذي لم يُ ْن ِزل العربيةَ منزلتَها؛ فإ ّنها في نزول وانحدار ،وينضاف
ّ أعم. والمعارف ،وضعف مردود التعليم بصفة
بغية الوصول إلى تنخيب المجتمع :نخبة
مثل :الحاجة إلى معاجم عصرية ومتنوّ عة
مختلف أسالك ال ّتعليم (بما فيها العالي
إ ّنه إصالح تربوي جزائري ال يتبنّى النّظرية
األفقية للمجتمع ،بل يتبنّى نظرة عمودية مركزية وجماعة الدهماء والغوغاء ،وهذا ما
يعود بنا إلى سياسة الكولون ،ولعهد مَ َضى. ٌ ً ّ مطالبة لكل هذا ،فالدولة الجزائرية واعتبارا ّ الوطنية المنزلةَ َ بوضع تخطيط يُ نزل الل ِ غات
األعلى ،وتكون ّ الل ُ غات األجنبية على الخيار، ٌ فال ُتفرض على المجتمع الجزائري لغة من
ّ المنغصات المتراكمة من إلى ذلك بعض
المواد واألهداف واألساليب ـ الحاجة إلى كتب قواعد عصرية ـ عالج مسألة غياب ّ ّ جذاب ـ وتعلم ال ّتشكيل ـ طريقة تعليم
نقص في ال ّترجمة والتأليف ـ اضطراب في المصطلح ـ ضعف إدارة المسألة ّ اللغوية المؤسسات ّ اللغوية ـ عدم وجود ـ ضعف ّ
ّ يترتب عنه ضعف اكتساب المهارات بها ،مما
ّ توفر لغة عربية شاملة ،تغطي 2ـ عدم
والتقني واألولي) وتوظف في مختلف المواد
واألنشطة.
ّ المتعلم في المراحل األولى من 3ـ تع ّثر
التمدرس ناجم عن صعوبة االنتقال من
لغة البيت (الدارجة المغربية أو األمازيغية) إلى لغة المدرسة (العربية الفصيحة) وعدم
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
53
ملف
ً تالفيا العناية بتطوير طرائق الدعم الالئقة
لسلبيات االزدواجية اللغوية.
ّ ّ الملم توفر المدرّ س الالئق للغة العربية 4ـ عدم ّ ّ الجذابة بالجديد من طرق التعلم والتعليم
.
ّ توفر الكتاب المدرسي والوسائط 5ـ عدم
التربوية المالئمة[.]5
المجتمعية.
ّ ّ الكم أن يكون في المرحلة االتكال على إن ّ االبتدائية فقط ،وهي ال ب ّد من دخول كلّ
طفل إلى المدرسة ليقرأ ويحسب ويحاور ّ ويلخص وأما في المراحل الالحقة أن ّ تحصل المنافسة ،وكلما واصلنا إلى المستوى
.
هذا برنامج تخطيطي ،وكان األجدر أن نعمل ّ يوفر للغات المدرسة من أجل إصالح متين
ّ يقل العدد ،وهذه هي القاعدة العلمية األعلى ّ الجيد ،وقائد التي تعطي النّخبة والمتعلم ّ
ّ ّ اللغات اللغوية بإيالء ـ تعزيز المواطنة
ً واحدا ،بل نجد أجياالً من الضحايا الذين
.
الضمان األمثل لالنتشار دون صعوبة وأرى اإلصالح في مجال ّ اللغات يعني:
الوطنية المكانة األولى في ال ّتدريس.
ّ المتعلم من القدر الكبير من الرصيد ـ تمكين المعرفي الذي يفهم ويع ّد ويتحاور ويكتب
.
فإن واقع اإلصالح يقول مسيرة الغد وهكذا ّ ً فردا الضحية ليس الضحية؟ العكس ،فمن ّ ّ
المتعلمين.
يصنّفون بين األميين وأشباه ورغم ّ كل هذا فال نعدم ال ّتغيير لألفضل في
.
بلغته ـ اإلفادة من ّ اللغات األجنبية على أساس أن تضيف إلى لغاتنا وال ُنضاف فيها األجنبي ،واستثمار ذلك في نقل المعارف
والكم أن هل يمكن للكثرة ّ
ولهذا رأينا تلك المغالطات في اإلصالح
يعمال على إنتاج النّ خبة التي تنتج وتصنّ ع وتدير البالد،
لغوية واضحة ،وال على تخطيط تربوي سريعا على متون ّ ً مَ ِرن ،فيمرّ اللغات الوطنية،
ال يمكن ذلك ً بد أبدا ،فال ّ
الميزان ،وما أصبح للغة العربية مكان، وفس َد ُ
من مراعاة النوع والتّ قليل
ّ ُ الكيل فطفح ويركز على لغة أجنبية واحدة، َ
أفال يمكن استدراك ما مرّ ؟ يمكن استدراك ما مرّ بالوقوف عند مكامن النّقص ،الذي يكون
الكم لتحصل الترقية من ّ المجتمعية.
بحسن ال ّتدبير ،ومراعاة آليات العصر ،والدفع
بالعربية نحو تحقيق حقول لم تصلها بعد،
.
من مثل ال ّتعريب الشامل وكان يجب على
والتواصل ..وهذه خطوات هامّ ة كفيلة بالحفاظ على هذا اإلرث المه ّدد باالنقراض. فإن اإلصالح التربوي لعام 2004/2003 ومع هذا ّ
م همّ شها؛ فلم يعمل على االنتقال بالمدرسة ّ بكل إلى بناء مدرسة مواطنة تعترف المكوّ نات ّ اللسانية والثقافية ،من مدرسة في
ُ أداء الجزائر إلى مدرسة جزائرية ،ولذلك كان ً ضعيفا وهزيالً؛ ّ كأنها لغة أجنبية األمازيغية
.
يمكن الرفع من مردوديتها وكان يجب أن ً منسجما مع الخطاب يكون اإلصالح ال ّتربوي
األمازيغي في إطار العمل الجمعوي الذي ينظر للمسألة ّ اللغوية من باب حقوق اإلنسان؛
أن ُ الهوية األمازيغية عنصرٌ من عناصر على ّ الحق في ّ ّ تلقي اللغة األمّ ،والبحث عن الذات وسط رياح الهيمنة الثقافية واأليديولوجية،
وإعادة االعتبار لتراثنا الذي يه ّدده االنقراض، ُ سؤال من نكون ّ كل مرّ ة كي ال يُ طرح
.
ولطي ملف األمازيغية ال ب ّد من مقاربة ّ عقالنية وتاريخية ،واإلقرار بتلك األخطاء ُ ّ حق األمازيغية :من منع ارتكبت في التي
.
ِ اإلصالحات أن بتدريسها وما يُ ؤسف له ّ َ التربوية تعاطت مع المسألة بصورة العدمية
المتوارثة ،ويغفل النظر في الجانب الشكلي، ّ المتعلمين بدخولهم وال يعمل على إسكات
ّ ّ الخط الذي تفك مسألة والطوباوية ،فلم تكتب به ،بل تركت المجال للخيار والمفاضلة،
طالب ال يتقنون كتابة طلب ال ّتوظيف ،وال ً أن عدد طالب فرنسا، ملء الصكوك، علما ّ
األداء ،بل يمكن أن يحصل االستدراك بتوفير إطار قانون وتنشيط مدارس تربوية فاعلة
أن اإلصالح في والنّتيجة واضحة ،فنرى ّ َّ الخط األخض َر للفرنسية مسألة الكتابة أعطى
مليونا ونصف مليون طالب من أصل ثمانين
وبرامج نوعية ،وإيجاد مراكز بحث تربوية
إلى تلك المزايدة التاريخية التي ي ّتخذها البعض على أ ّنها مجال لألخذ أو لالبتزاز،
ً ً واقتصادا ،يبلغ اآلن علما وهي أقوى منّا
مليون مواطن ،والجزائر في جامعاتها اآلن
مليون وستمئة طالب من أصل ستة وثالثين ً مليونا من السكان ،فكيف يمكن تفسير هذه ّ والكم أن يعمال الظاهرة؟ فهل يمكن للكثرة
على إنتاج النّخبة التي تنتج وتصنّع وتدير ً أبدا ،فال ب ّد من مراعاة البالد ،ال يمكن ذلك ّ الكم لتحصل الترقية النوع وال ّتقليل من
54
الشفاهية الزائلة إلى صورة البقاء والديمومة
استعمالها وتدريسها ،وقمع الحركات المنادية
ّ المنغصات اإلصالح التربوي أن يُ راعي تلك
ً ً فقرا في جميعا للجامعات ،ونحن نشكو
حدثت دينامية التدوين التي نقلت الصورة
َ ّ ومختصوها معدومون، استعمالها محدود، ّ يتحقق بن ُد االهتمام باألمازيغية وال فلذا لم
.
ال ّتربوي الذي لم يقم على تخطيط سياسة
إلى صلب التعليم ،وكان وجودها في ً ً عظيما ،كما فتحا اإلعالم السمعي والبصري
منبوذة ،وتعليمها عن طريق وسيط أجنبي، ّ وأن اللغات األجنبية، وبطرائق تدريس ّ
السجل ّ اللغوي ـ جعل التلميذ يتأقلم مع ّ
الجديدة.
المؤسساتي لألمازيغية ،بإقامة محافظة ّ سامية ،فقد ُنقلت األمازيغية من التهميش
ومعلمين أكفاء ،واعتماد وسائل حديثة، فاعلة؛ لتحقيق الجودة في إنتاج األبحاث ال ّتربوية
واألدوات
الضرورية
لل ّتسيير
ال ّتربوي ،وقيام تخطيط لغوي هادف يح ّد
.
من االختالالت اللغوية األساسية ً دستورية مكتسبات أن ٍ 2ـ األمازيغية :ال ننكر ّ ّ تحققت خالل العشرية األخيرة؛ من حيث ّ الشروط القمينة لتحقيق القانون توفير
.
الحتواء األمازيغية كما لم تشر اإلصالحات
ّ خاصة ومحدودة ،وهي ضمن كأن األمازيغية ّ حقوق مهضومة ألقلية محقورة فنعطي لهم
مطالبهم الثقافية ،وعليهم السكوت.
يحتو المسألة وإن اإلصالح ال ّتربوي لم ّ ِ في التعميم التدريجي ،بل كرّ س مبدأ التخصيص اللغوي والجهوية والتبسيط
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
للمسألة ،ولم ينظر للمسألة من بابها العريض؛
ّ ّ مؤقت، مسكن إلى حين ،أو هو تجميل
ال ّثقافية الجزئية ،وهو عمل ينطوي على ّ التفكك واالنغالق ،ولم مخاطر االنزالق نحو
وتظهر الحقيقة ،فماذا نحن فاعلون؟ ً تربويا إن األمازيغية كان يجب أن ُتعالج ّ ً وسياسيا ،وهذا هو البرنامج الكفيل بالعالج
ّ تهم المجتمع الجزائري في أن المسألة على ّ ليته ،فترك الفجوة الداعية بالخصوصية ُك ّ
يخرج اإلصالح من خطاب إحياء السلف
الصالح ،وإسقاط الماضي على الحاضر،
واجترار بقايا القبيلة ،والمغاالة في تمجيد ّ واللغوي خصوصية النموذج التاريخي
وسوف يأتي وقت تزول فيه المساحيق،
ً تربويا بتهيئة لغوية في معجمها الواقعي، ً وفي تعليمها وفي تعميمها ،وسياسيا أال تدخل في المعالجة ال ّتجزيئية الكفيلة
..
بتحويلها إلى بؤرة توتر اجتماعي ،فال نريد
الضيق؛ فال تستدعي إالّ ثقافية بالمنظور ّ ّ المنظور ال ّتراثي أو الثقافي أو الرّ قص ً ُ ّ وبعضا من الكسكسي، الشعبي وفتل
والوَ حدة والشفافية والديمقراطية ،كما
وعلى ضوء هذا واصلت اإلصالحات في ال ّتعاطي مع األمازيغية على ّ أنها مسألة
أن تحصل عندنا بلقنة وطنيةBulkanisation ّ َ أمثال هذه بأن فعلمتنا ال ّتجارب ،national ّ المسائل ُتعالج في إطار الحوار والحكمة
ّ التخلف ،وهذا التاريخ المعتمد على بقايا
.
يكمن في هذا الوصف؛ فالمسألة تستدعي
.
ّ تشكل اإلرث الكبير بمسألة األمازيغية أل ّنها للدول المغاربية ،واالهتمام بها اهتمام
بالتاريخ والوحدة والتراث:
“1ـ إ ّنها مُ عطى تاريخي تضرب جذوره في
.
أعماق التاريخ والحضارة المغاربيين ً ً ّ أساسيا في ال ّثقافة عنصرا تشكل 2ـ إ ّنها ّ واإلرث المشترك بين كل مكوّ نات الوحدة
إن االعتراف باألمازيغية هو ّ
وديمومتها”[.]6
ال ّتدريس لساعات قليالت وعن البحث في
حِ كايا الجدات ،وجمع المدوّ نات ،وإقامة ً معالجة المؤسسات ،فاإلصالح اعتبرها ّ ً ً جزئية كفيلة بتغيير النّظرة القديمة ،وهذا ً كثيرا ،أو هو عالج جزئي عالج قد ال يدوم
والسياسية واإلقرار بها والجغرافية والدينية ّ
لغة وطنية ،ولمَ ال تكون لغة رسمية ،يمكن أن نقول ّ إننا دخلنا مرحلة األمان ،وال يدخل البلد في حرب ّ اللغات ،وال في االقتتال بيننا في مجال ّ اللغات ،فكيف يقتتل الجزائريون
بمجرّ د أن يعترف بعضهم ببعض ،فكيف نقتتل بعد ترسيخ المساواة ّ اللغوية ،بل
للحرية والمساواة والكرامة ،واألمازيغية ّ مستقلة مُ تج ّددة منظومة ثقافية ُهويّ اتية في بالد تامزغا ،وهي المُ ح ّدد المركزي ُلهوية
مجرد لغة ،بل هي ليست ّ تتميز بنزعتها قيم ثقافية ّ اإلنسانية وبميلها للحرية والمساواة والكرامة
تفاعلت مع مكوّ نات العربية واإلسالم.
بأن ومن الشيء الذي ال يستقرّ عليه األوانّ ، األمازيغية من األفضل أن ُتعالج في إطار احتواء ذلك الخطاب التحاملي على ّ كل ما هو عربي ،ذلك الخطاب الذي يق ّدم صورة
مُ شوّ هة للفتح اإلسالمي؛ خطاب يسكت عن ّ ّ ويمجد الرمو َز القديمة كل ما هو فرنسي،
من مثل :ماسينيسا /يوغرطة /نوميديا /يوبا/ الكاهنة/
كسيلة..
والسكوت عن طارق بن
زياد /يوسف بن تاشفين /المهدي بن تومرت/
إن النهوض بها ركيزة في مشروع المجتمع 4ـ ّ ّ تتطلع إليه الدول الديمقراطي الحداثي الذي
ولذا فالمسألة األمازيغية كان يجب أن ُتعالج في إطار توافقي ننأى بها عن
الوطن؛
وباعتماد
الشرعية
التاريخية
َ ّ المسألة أل ّنها من الخطورة بمكان، أؤكد
والحضارية للشخصية الوطنية.
على العالم المعاصر لتحقيق شروط ازدهارها
القواسم المشتركة التي تجمع مكوّ نات
تغيير في الذهنيات؛ ألنّ ها
.
ً يتعين أن تنفتح األمازيغية وأخيرا فإ ّنه 6ـ ّ
األمازيغية في إطار شمولي؛ بال ّتركيز على
الجزائر ومظهر خصوصيتها الحضارية ،وقد
الوطنية بال استثناء ّ 3ـ إ ّنها تم ّثل إحدى الرموز اللغوية والثقافية
المغاربية. 5ـ ّإن العناية بها مسؤولية وطنية.
.
إن عُ ولجت مُ ناقض ُلهويتنا اإلسالمية ولهذا ْ
تتميز بنزعتها اإلنسانية وبميلها قيم ثقافية ّ
ّ والمتبصرة المعالجة السياسية الجريئة
وإكراهاتها ،وبين مستلزمات الحفاظ على الذات والهوية ال ّثقافية وكان يجب الوعي
طبق في إطار مغلق ال ّتراتبية ،وهذا في ما يُ ّ
إن االعتراف باألمازيغية هو تغيير في ّ الذهنيات؛ ّ ألنها ليست مجرّ د لغة ،بل هي
أن األمر ال هو إحياء األمازيغية ويؤسفني ّ
والمفتوحة على المستقبل ،والتوفيق بين ّ المتوحشة حاجيات الوطن الشاسع والعولمة
.
ّ وإني لشراء السكوت عن المطالبة بالحقوق تحفظ من تلك التّصرّ فات المُ ّ ّ مُ خلة بالوحدة
ّ أن مسألة اإللغاء أو الفرض علمتنا الحياة ّ وأن عدم نزول الملف ّ اللغوي مآلها اإلخفاق، ّ للعامّ ة مآله الفشل ،ويكفينا فشالً من ال ّتعريب النازل من األعلى ،والذي ّ تم في
ظروف مجهولة ،ووقع تجميده من أعلى.
المختار السويسي /األمير عبدالقادر /عبد الحميد بن باديس… نريد أن ُتعالج المسألة ّ خطها في إطار ر ّد االعتبار لألمازيغية في ّ الخط العربي التفيناغي ،وإن لم يكن فيكون هو البديل ،وتغيير ذهنية تلك الحركات
اإلقصائية التي تنظر إلى الحضارة المشرقية على أ ّنها عقيم والحضارة الغربية بديل، َ ُ مشروعية االحتواء، فتضفي على الغرب
ّ ّ ّ تحله إالّ اللغوي ال بأن الملف ونؤكد ّ ّ والشرعية ،فال لتوطيد الحكومات المنتخبة
الذي لم يق ّدم المناعة المطلوبة المتصاص
المسألة إلى غد مجهول ،أو إلى حاكم يأتي
وأبقى على تمجيد فِ عْ ل فرنسا اليعقوبية
سلطة بوليسية ،وال للقمع والكبت ،وتمييع بعدي ،أو السكوت عن قضايا عميقة إلى زمن الحق ،فال ّتسويف فتيل وحرب قادمة ،فال
وهو نوع من ال ّتقصير في اإلصالح ال ّتربوي
المفاعيل السلبية لزمن كان ذات مرّ ة، التي تعمل لصالح االحتواء ،وبقي المعرّ بون سلبيين ينظرون لألمازيغية على أ ّنها
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
55
ملف
العداء وال ّتجزئة ،أليست معرفة األمازيغية زيادة في معرفة ّ اللغات؟ وما دام األمرُ في
جيد؛ ّ ألنه ال يدخل في النّقصان. زيادة فهو ّ ّ بأن اللغة سلمنا ويقول أحمد بوكوس “إذا ّ األمازيغية لغة وطنيةّ ، تعبر عن مكوّ ن وأنها ّ ّ ّ أساسي ُ حق وأن تعلمها للهوية الوطنية ّ
.
.
ّ تفضل قواها لالنفصال عن األصالة نخبتنا ألن الغرب أغراها ،فتركب الهجرة واالهتجار؛ ّ
غير قابل للتّصرّ ف ،حينئذ يصبح إدماجها ً ً خاصا على أساس الوعي فرضا في التعليم
واآلخر يسحرها ،وتستأجر لغته وتترجاه أن
مختلفة ،والتصوّ ر الذي أقترحه يرتكز على
.
والمسؤولية ،وهذا اإلدماج قابل لتصوّ رات أربعة مبادئ :التعميم واإلجبارية والشمولية
.
والتوحيد[ “]7إذن فالمسألة األمازيغية ال يكفي أن يكون التعامل معها على ّ أنها مُ عطى مدرسي أو ثقافي ،بل هي أعمق، األغوار،
بعيدة
ممت ّدة
الجذور،
وأراها
تجيب عن تلك السياسة الفرنكفونية التي
تسعى الحتواء الدول المغاربية ،وخلق بؤر الهوية ّ بدعوى المحافظة على ُ اللغوية ،وخلق
معركة بين ُدعاة العربية و ُدعاة األمازيغية، اللغة الفرنسية نفسها البديل ّ لتجد ّ اللغوي ّ المفضل ولهذا ال يجب التعامل مع المسألة
.
بالحرمان ّ ألن الحرمان يولد التّطرّ ف، اللغوي؛ ّ وال بالتفاضل ّ اللغوي ،بل بالعدل بينهما في يتبين األفضل ،وكذا في إنزال العطاء ،حتى ّ
المقام بشرط العلمية واإلنتاج ،فال يجب أن يقع تحريم لغة من باب تفضيل لغة “عندما ً فإن محروما من سلطة الكلمة يجد نفسه ّ نظرته إلى العالم هي التي تصبح غير مكتملة،
أن السلطة التي يمكن أن يمارسها على كما ّ أبناء العالم تصبح ضعيفة ومح ّددة بشكل ّ اللغوية كبير[ “]8وهكذا فرغم الصحوة
.
بواخر الموت لتنقلها إلى الضفة األخرى،
يقبل ،فأصبح األجنبي يُ ملي ما يُ ريد ،ونقبل دون مناقشة ما يُ ريد ،وال نرى إالّ بعين اآلخر
ُ لساننا في المتجر والمقهى، افرنجج لقد َ ُ ُ نخبة النفوذ والقرار وأصحاب واستلبت ٌ أزمة في المواطنة رؤوس األموال فحصلت
..
ّ اللغوية فاألزمة أزمة ألسن ،وأزمة الفرنسية
ُت ّب ً عا فتلك هي المشكلة ،فنحن مغلوبون ّ ُ ِ فلغاتنا َت ْس ُقط لغات الغير، على أمرنا بتغلب بضعفنا وانهرامنا في نِحل األجنبي وتقليده في زيّ ه ومأكله ولباسه ،وأما لغته فنحن
لها من العابدين ،وبها نعمل على سقوط لغتنا؛ أل ّننا من التابعين ،وكما قال ابن حزم
األندلسي “إ ّنما يفيد للغة األمّ ة وعلومَ ها وإن ّ ُ اللغة ونشاط أهلها وأخبارها قوّ ة دولها ّ
.
يسقط أكثرها بسقوط أهلها ودخول غيرهم عليهم” وهكذا تضعف ّ اللغة جرّ اء وضعها
.
كتراث وطني ،والعربية كلغة حضارة وعلم؟
التبعية ،وتلك هي المصيبة التي ال نعلم بها.
يعشش في أذهان بعض فئات المجتمع َ َ ّ الناطقة بلغة ّخبة وبخاصة الن الجزائري،
ألن (النّخبة) واحدة ،وهي الفرنسية الساحرة؛ ّ مُ نغلقة على لغة واحدة ،وال تنظر للعالم إالّ
عن موت غير معلن للغات الوطنية ،ووضعية ناتجة عن استصغار ّ اللغات الوطنية بفعل
سكوت الدولة عن تصرّ فات مم ّثليها في
اإلدارة ،وعن تلك القرارات الرمزية باسم
الدولة ،وهذا ما يلمس في ممثلي دولتنا في الخارج من اشتراط إتقانهم الفرنسية ،دون
ّ التحكم في العربية ،بل واشتراط اشتراط على ممثلي الدول األجنبية إتقانهم الفرنسية،
وفي ال ّتعيينات المحلية والخارجية التي ُ وتي من قوّ ة ال ينظر إلى المعرّ ب مهما أ َ
استيعاب ثقافات أخرى خارج الفرنسية ،مع ّ نكون للتملك أو لل ّترك وال ّتهذيب ،فأن فرص َ
الحاكمة في بالد المغارب ،وتساعد على قمع ّ ُ َ ُ العمق التاريخ ينصف اللغات الوطنية ،فمتى
اإلقصائية؟ 3ـ ّ اللغة الفرنسية :سيكون حديثي في هذه ّ النّقطة عن االستعمار اللغوي الذي ما يزال
امتالك الفرنسية في التوظيف وذلك عبارة
بمسير جزائري وفي بلد فرض كفاية ،فكيف ّ كالجزائر ال يعرف من لغته إالّ السالم عليكم،
هو االستيعاب والترجمة ،وهو سبيل إلى
والمعجمية ،فلم نعمل بصيغة النّفعية كما ّ فتمل ُ ك اللغات عند الغربيين يعمل اآلخرون،
ومتى تستفيق تلك النّخبة من وحشيتها
التفضيلي للغات األجنبية ،بل واشتراط
الحية ،ونحن وهذا ما ال تقوم به األمم ّ
كلغة دونية في السوق ّ اللغوية ،وذلك ما
الثقافي الجزائري المبني على األمازيغية
التخلي عن ّ ّ اللغة األمّ /لغة األمّ ة ،وال ّتعامل إلى
المعبودة ،فكيف نتدبّر األمر؟ ٌ ٌ ك ّ ّ تمل َ ثقافية حتمية اللغات األجنبية إن ّ ُ ٌ ُّ وعالمية ،والوسيلة إلى ذلك هو تعلمها َ مجال للرفض وال ّترجمة منها وإليها ،فال في قبول ّ اللغات األجنبية ،وما هو مطروح
المؤسسات الوطنية لمّ ا فإن األمازيغية ّ ّ ّ صراعا لغوياً ً تدخلها هذه اللغة ،وبقينا نعيش بفعل لغة النّخبة (الفرنسية) التي تنتج النّخب
56
من زاوية هذه ّ فكأن العالم مختصر اللغة، ّ ُ نخبتنا فيها ،وال يبقى إالّ بها فلقد افتقدت الهوية ّ المفرنسة ُ لباس الغير اللغوية ،ولبست َ ّ ّ بكل علها تكون ،وهو بخس ذاتي فتسعى
ِ ِ عنف اإلدارة حاالت المجال ال ّتضييق من ً والمؤسسات والتي تخلق نوعا من الدعوة ّ
يُ سهم في تغيير بنياتها ِ الصواتية والصرفية
ّ وتمل ُ ك اللغات عندنا يعني يغني الترجمة، علينا أن نتدبّر أم َر لغاتنا بالبحث في بعث الن ََّفس في برامجنا ومشاريعنا ،وإدخال
َ بأن ي ّ الحماس إلى باحثينا وطالبنا ،وأن نعِ َ َ إقامة المعرفةِ تحتاج إلى االستفادة من ال ّتجارب المتراكمة ،وهذه سمة الحضارة،
ُ بأن العودة العلم وفي ذات الوقت يجب ّ ّ إلى األصل هي ّ الصواب ،بل ذلك ما يحقق االنسجام ،ولذا كان السبيل األوفى في هذا
لغوية في العربية ،بل التأشيرة هي امتالك الفرنسية دون غيرها من ّ اللغات األجنبية
.
وهذا عبارة عن َت َلف تدريجي للغات البلد، بأن إتقان لغة البلد فرض عين وليس نعلم ّ
ويتع ّثر لسانه في لغته ،أليست هذه هي الغربة ّ اللغوية أو المنفى في الوطن وقد يسأل
.
القارئ ما دخل هذا في اإلصالحات ال ّتربوية؟
بأن اإلصالحات ال ّتربوية لعام 2003م نجيبه ّ ّ لم ّ تعزز لغات البلد ،بل فضلت اللغة األجنبية، لما أعطتها من مقام وذلك ما جعل المسؤول عندنا يقع في أخطاء لغته دون اهتمام يُ ذكر؛ ّ يتحفظ ويتحرّ ز ذلك المسؤول من بينما
تشن الوقوع في أخطاء الفرنسية ،فسوف ّ عليه حرب قائمة ،وهذا ما يقرأه في دروس
بأن الخطأ عيب وشتيمة ،هذا من الفرنسيةّ ،
فإن اإلصالح لم ينفتح جهة ،ومن جهة ثانيةّ ، على التع ّدد ّ اللغوي األجنبي ،فحصر نفسه في االهتمام بالفرنسية فقط ،ونظ َر إليها على أ ّنها اللغة العلمية والعالمية التي يقطر منها
العلم دون غيرها من ّ اللغات ،ومن ال يعرف
الفرنسية فال يعرف
العالمَ .
وهذه نقطة
ّ الضعف في اإلصالح ال ّتربوي ،الذي تناسى أن الفرنسيين اآلن يتحوّ لون إلى اإلنكليزية، ّ َ ّ االتحاد األوروبي، الفرنسية مه ّددة في وأن ّ
وأن حدودها مستعمرات فرنسا القديمة، ّ وفي العالم العربي ال تتع ّدى بالد المغارب دون ليبيا ،وال ّتواصل بها شبه محدود ،وهي
لغة غير عولمية ،فلمَ ال نخرج من شرنقة
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
بطرس املعري
ً ٌ فيلق من اإلعالم الفرانكفوني الذي فرنسيا؛
تجاوزت عدد صحفه 60صحيفة وهو يمجد ّ كل ما هو غربي ،فكيف يمكن أن يقع إصالح تربوي أمام عنف فرانكفوني يريد إخضاع ّ كل الساكنة لمنطق لغته فقط ،وهذا نوع من ال ّتجريد من المواطنة ،يجرّ د الناس من
لغتهم ويهدم ثقافتهم ،فاستفحلت الفرنسية بعد استقالل الدول المغاربية ،بل أصبحت عندنا أيديولوجية تسعى لتحقيق مصالح
وتوسعية ثقافية واقتصادية استعمارية ّ بغرض اإللحاق والسيطرة ،والتمكين للفرنسية في غير موطنها ومحاربة ّ اللغات فكأن الفرنكفونية عائدة بقوّ ة المنافسة لها، ّ
.
لضرب جذورها عندنا أليس هذا نوعا من أسباب األزمة؛ أزمة في ّ اللغات الوطنية، أزمة في ال ّتعليم واإلدارة واالقتصاد؛ أزمة
طبق ،أزمة حقوق لغوية مغيبة ،ودستور ال يُ ّ ّ ّ مبطنة في خطاب معلن وسياسة مخالفة
..
فإلى أين المصير؟ بالفعل لم يحصل ما كان ً منتظرا من اإلصالح ال ّتربوي ،غياب الجودة والنّجاعة ،تالميذ يجهلون ّ كل اللغات ،فما هو
اإلصالح المنشود؟
الفرنسية إلى التف ّتح على لغات األقطاب؛
أو الفرض ،ولكن معرفتنا للغة األمّ (العربية)
ال أحادي ّ ً متعبا أن نجد أقسام اللغات أليس
وفي الجامعة ،وحصل تفضيل لغة أجنبية ّ وتقلصت وظائفها اإلدارية ومعرفتنا عليها
هيئة وطنية مشهود لها بالكفاءة العلمية،
معرفة سلبية بفعل عوامل نفسية في المقام
الجامعة ،ومن الباحثين الجادين الذين
وهي كثيرات ،ولغات لها من العلم الكثير ،ولمَ نخطط ألجيال متع ّددي ّ ّ اللغات األجنبية، ال
.
ال ّترجمة ال تخرج من لغتين أجنبيتين ،أليس
من العيب أال نجد في بالدنا من ال يعرف وال لغة شرقية؟ أليس من الهزيمة أالّ نتواصل مع أهل الحضارة المشرقية بسبب عدم إتقاننا
اإلنكليزية؟ َ أن اإلصالحات ّ أهمية أكدت ومن هنا لو ّ ال ّت ّ حكم في العربية ،وتكون اإلشارة إلى ال ّت ّ حكم في إحدى األمازيغيات باعتبارها من لغات البلد ،بل واستعمالهما من الضروري
وليس من الخيار ،واألجمل من هذا أن ّ كل المجاالت ،وبذلك تكونا حاضرتين في
ّ تتعزز صالبة الصرح ُ الهوياتي للوطن ،وهذا ّ ّ ما تمثل في تلك الثنائية القديمة دون مشكلة ُتذكر ،وهو تنوّ ع لغوي قديم ترك مزج اللغتين وتناوبها واقتراضها وتداخل أصواتها ،فكانت ظاهرة ّ اتصال حقيقي في
المشهد ّاللساني الجزائري ،واآلن ال مفرّ منها.
إن العربية واألمازيغية لغتان وطنيتان ّ ّ مُ تساكنتان ومُ تصاهرتان كل أخذت وظيفة بما تحمله من علم ودين ،فلم يحصل القهر
ضعيفة فنتدرّ ج لنكون دون لغة Nilingueإذ ّ ص حجمُ ها في االستعمال وفي اإلعالم تقل َ
.
بلغة أمّ (األمازيغية) كانت أضعف أو هي األول ،وبفعل التوجيه السلبي في عدم
اإلقرار بثقافتنا كمُ عطى احتشامي على أ ّنها لغة بربرية ال فائدة منهاّ ، ثم حصلت ُ هيمنة الفرنسية على وضعنا ّ اللغوي ،فذلك ما زاد ُ الغربة غربة فلم نكن مثل الشعوب
.
المتق ّدمة التي تمتلك اللغة الكونية للوصول ّ والتحكم في اللغات إلى المعارف الكونية،
الوطنية التداولية Lingua francaللتواصل البيني من حجم كبير؛ حجم ّ اللغة األمّ أو ّ يتعلق لغة المنشأ Mother tongueفأغفلنا ما
بأن بالسيادة والكرامة والمواطنة ،وتناسينا ّ توظيف اللغة الجامعة (العربية) عُ ملة صعبة؛ ّ فكلما وقع استعمالها وقع عليها الطلب ،وجنى أصحابها الفوائد المادية مثل اإلنكليزية التي
تجني ألصحابها ما يفوق الـ 12مليار دوالر ً سنويا ،وفوائد انتشار اإلنكليزية تدرّ على
.
معلميها أمواالً كبيرة وهكذا ما يزال ربيعُ نا
ـ ما هو اإلصالح المنشود؟
ال نعدم أن تعود المنظومة ال ّتربوية إلى
عصرها الذهبي ،وهذا ال يكون عن طريق تتأسس قرارات وزارية أو أمريات ،بل أن ّ
ومن الذين خدموا مراحل ال ّتعليم إلى لهم وزن علمي في الداخل والخارج ،هيئة
وطنية جزائرية االنتماء ،تجمع بين األصالة
.
والحداثة ،ولها بعد وطني تحتكم إليه ولهذه
الهيئة صالحية اقتراح تخطيط سياسة
لغوية ،وتخطيط تربوي عامّ ،ترفعه للقيادة السياسية التي تقترح النّصوص الكفيلة ّ
.
بال ّتطبيق ويكون من مهام هذه الهيئة ّ اللغات ،واالستدالل الحسم في وضعية
بوظائفها حسب مقامها ،وفيها يحصل: تحسين تدريس ّ اللغة العربية ّ التحكم في األمازيغية. ّ إتقان اللغات األجنبية.
.
وبهذه الخطوة األولى يمكن أن نقول :إ ّننا
نعمل على ترسيخ مدرسة جزائرية تعمل على تثبيت ُ الهوية الجزائرية الحضارية،
والوعي بتفاعل وتكامل روافدها ،ومن ثمّ ة يحصل نقل المعرفة والقيم لألجيال وإ ّنه
.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
57
ملف
ّ ّ ُ باللغة الوطنية ارتقى التعليم كلما تق ّدمَ ّ المجتمعُ إلى سلم المدنية وإلى مجتمع التعليم ّ ّ ُ باللغة الوطنية، المعرفة، وكلما تق ّدمَ ّ ً ً جي ً ّ دة ،وكلما وقعَ االهتمامُ حق َق تنمية بشرية ّ ً ً ً ديمقراطيا حداثيا مجتمعا بالمدرسة ُتعطينا متشب ً ثا بأصالته ،وهذه عهدتنا نحن الكبار، ّ ألن التعليم سياسة يمارسها الكبار تجاه ّ
عقول الصغار.
ودعوني أغادر الحديث عن دور الهيئة ّ خطة وطنية الوطنية ،ألمرّ إلى اقتراح شاملة لفعل اإلصالحات التي أراها في هذه
المقترحات: ّ ّ يمس التخطيط في أوالً :ال ّتخطيط اللغوي: ّ هذا المعطى ثالث مراحل:
ٌ يمس طرح إعادة الجاذبية لل ّتربية وال ّتعليم، ّ َ أطراف عمليةِ اإلصالح = المعلم +وَ لِي التلميذ+
.
المنهاج فهل نزل ُ ملف اإلصالح التربوي إلى
القاعدة؟ لم يحصل هذا ،وكان األمرُ من فوق ّ حل بتنصيب لجنة وطنية على المقاس ،بعد مجلس أعلى للتربية المنتخب في ثلثين
من أعضائه ،وقد عمل الكثير من مجاالت ّ محل اإلصالح كتنظير ،فلم توضع دراساته وح ّ ّ التطبيق؛ ُ ل قبل أن يستكمل ملف التعليم
العالي.
أن اللجنة اعتمدت أعمال المجلس والغريب ّ فما الداعي ّ ّ توصل لحله ،واعتماد النتائج التي
.
إليها مجلس استبدل بلجنة صاغت البرنامج
.
.
والمتوسط والبعيد وفيه تتدرّ ج القضايا ّ
حسب أهميتها بمراجعة عميقة في :تكوين ّ المعلم ــ وضع منهاج تربوي متين ــ بناء كتاب مدرسي يستجيب للمعاصر ــ وضع قواميس
لغوية حديثة.
مرحلة ال ّتخطيط البعيد ،وعلى مدى الجيل،
وفيها يحصل استدراك النقائص ،وتقويم األخطاء وتصحيحها ،بل ال ّتراجع عن مواطن
الضعف ،وتقوية مواطن القوّ ة ،وفيها أيضا يحصل الفصل بين لغات المدرسة بإنزالها ً تراتبيا وفق األبعاد العلمية والحضارية
المطلوب إصالح تربوي نسعى جميعنا لتحقيق الهدف المشترك منه ،وهو إنزال لغاتنا منزلتها الالئقة، وال يكون هذا ّ إال بإصالح يعمل على تنشئة مدرسة ّ تتحلى بقدرات معرفية؛ تُ نتج ً ً قادرا على االختيار فردا
.
بها أمم قبلنا ،ونجحت في تخطيط لغوي، وما عادت المشاكل ُتطرح إذا وقعَ احترامٌ
اإلصالحي دون أن تقوم بتجريبه الجزئي أو
ّ التخصص والوظيفة إطار ً ّ ثانيا :طرح ملف اإلصالح التربوي للمناقشة
طبخة غربية في بلد عربي إسالمي دون
فيه ما هو استعجالي ،وما هو على المدى
العمل في سرّ ية تامّ ة ،دون معرفة أعضاء ّ اللجنة لنوع اإلصالح (عيونهم مفتوحة
ٌ طرح المتوسط ،وما هو على المدى البعيد، ّ َ ّ تشكل توصيل المعرفة التي مسألة يتناول ِ َ الهدف المباشر والوظيفة األولى لعملية ٌ طرح يعمل على ال ّتفكير في كيفية ال ّتعليم،
58
.
ـ غلق المعاهد ال ّتكنولوجية ّ المؤطرين ـ نقص
.
ـ حرمان المتخرّ جين من ال ّتوظيف.
ـ ضآلة المناصب وال ّتباري عليها باآلالف. ـ هزالة المخرجات. ـ ضعف البحث ال ّتربوي.
المقام األوّ ل ،واألمازيغية في الرتبة الثانية ّ واللغات األجنبية بتع ّددها بتع ّدد لهجاتها، وحسب النفعية الحاضرة
والمستقبلية.
الفرنسية في الحقوق/اإلنكليزية في اإلعالم
اآللي/اإلسبانية والبرتغالية في علوم البحار/
اليابانية
في
صناعة
النانوتكنولوجي/
الكورية في صناعة المحرّ كات/األلمانية في ّ والديداكتيك/اللغات الشرقية في الفلسفة التراث/الروسية في الصناعات
الثقيلة..
وال يعني هذا وجود تعددية لغوية همجية، ّ لكل هذه مساقات في ال ّتعليم بل أن تكون الجامعي بخصوص االستفادة من لغات ّ وبخاصة في األقطاب ،وفي مراكز البحوث،
تدريس :الفرنسية +اإلنكليزية فقط ،وهذا وصوالً إلى رفع مجموعة من التح ّديات التي
النّقطة ال نعدم ال ّتجارب الناجحة التي قامت
العلنية :أليس من المواطنة أن يُ طرح ً ً ُ وظيفيا يُ ستحضر طرحا اإلصالح ال ّتربوي
ـ اكتظاظ في األقسام.
.
أقسام الترجمة التي نروم لها الخروج من
لغوي منسجم في إطار تكاملي وفي هذه
.
ـ هبوط المستوى ّ اللغوي إلى األسفل
يمنح ُ الراهنة ،فنحن بحاجة إلى إصالح تربوي ً ً َ تراتبية :العربية في لغوية سجالت التلميذ ٍ
ّ ّ يتعلق ببناء وكل ما والتاريخية والنفعية،
ٌ ٌ ومتكامل بين اللغات الوطنية في متبادل
.
الكيف ،يستنزف البترول دون مردود إصالح ً نظرا لـ: تلفيقي
العمل بإصالح جديد يستجيب للتح ّديات
نزيف االنحطاط ،بمراجعة عامّ ة للنقاط ً بدءا السود التي تنخر المنظومة ال ّتربوية،
مرحلة ال ّتخطيط على اآلماد ال ّثالث :اآلني
ّ خاصة، أضرّ بأجيال ،وبقطاع ال ّتعليم بصفة ّ بكل المجتمع، ويعني هذا اإلصالح ال ّتضحية ً ً ّ الكم ال تلفيقيا مُ رتجالً؛ يعتمد إصالحا فكان
ً ثالثا :إصالح اإلصالح :في هذه المرحلة يكون
مرحلة ال ّتخطيط االستعجالي وهذا لوقف
من إعادة االعتبار للباكالوريا ،وما يؤ ّدي إلى المستوى ّ اللغوي الرفيع
األطراف.
ّ اللجنة الوطنية لهذا فإصالح
إخضاعه للتقويم ،فحصل التطبيق بالقوّ ة طبگ) لجنة إصالحات طبخت (طب ْق أو َّ ّ
ّ فتم فتح نافذة لخروج رائحة الطبيخ،
دون مشاهدات واضحة) لجنة على المقاس
ّ توجهات عفوية من أجل مناقشة في إطار
قضية مفصلية في المجتمع ،وتقتضي الكثي َر من التعمّ ق وال ّتنسيق بين كثير من
أجملها في ما يلي: ُ َ المعرفة أم إ ّنها تعيد المدرسة تنتج ـ هل َ إنتاجها عبر تحويلها أو استقطابها لمضامين في ّ اللغات األخرى؟
ُ مدرستنا عبر إصالحاتها يمكن أن تثم َر ــ هل َ معارف العصر؟
أي معايير يمكن تقويم هذه المعارف؟ ـ وفق ّ ّ يتأتى لبالدنا من خالل مدارسها ـ كيف
وجامعاتها كسب رهان االنخراط الفاعل في مجتمع المعرفة؟ ُ العمل على جعل لغاتنا الوطنية ــ كيف لنا لغات العلم ،في الوقت الذي ته ّدد باالنقراض
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
خالل القرن الحالي[]9؟
نؤسس لجامعات وطنية ــ كيف لنا أن ّ
معيارية ذات ال ّتصنيف العالمي© ،ولها براءات اختراع ،وفيها أساتذة من ذوي
الكفاءات المُ برّ زة ،ومن الحائزين على
الجوائز العالمية؟
ــ كيف لنا إعداد مدارس عليا ،وثانويات
كفاءات،
تعمل
والمخترعين
المرجعيين؟
على
إنتاج
والمسيرين، ّ
وكبار
المبدعين العلماء
ــ كيف لنا أن نسترشد أمور ال ّتخطيط الذي
يعتمد المواطنة قبل االنتماء ،أهل العلم ّ الثقة ،ال ّتباري لخدمة واالختصاص قبل أهل ّ الشأن العام؟ ّ التحكم في آليات العصر ،وجعل كيف لنا ً ندا للغات العولمة ،واإلنتاج بها لغاتنا تقف وفيها؟ ً رابعا :المراجعة وال ّتقويم :ما أحوجنا إلى
سياسة الحقيقة ،وإلى الصدح والجهر بقول
(ال) لالعوجاج و(نعم) للمراجعة (ال) للتراجع، وإ ّنه ال يجوز تعميم اإلصالح ال ّتربوي إالّ ضيقة واإلبا َنة بعد تجربته على مساحة ّ
.
عن نجاحه وفي هذه النقطة يمكن أن يقعَ
الخالف بيننا في إنتاج األفكار وفق األرضية َ ّ لكل منا ،ولكن يجب أن نضعَ الهدف المعرفية ً واحدا ،وسنتبارى في تحقيقه عبر مسارب ّ فكل له طريقه ومنهجه ،وهذه سمة متنوّ عة،
االعتراف والتكامل البيني.
ال ب ّد من هدف مشترك نعمل جميعُ نا للوصول ّ اللغوية) والهدف إليه (تحقيق المواطنة
المشترك يُ ستقى من ال ّثوابت الوطنية ،ومن والفيصل ،وإالّ َ ال ّدستور الذي يكون الحكمَ المشي مرة أخرى ،وسنحتاج إلى سيتع ّثر ُ إصالح إصالح اإلصالح ّ كل هذه األشياء تتكامل وظائفها من خالل
.
تمفصلها الفعّ ال لضمان ّ الشعا ِر الوطني والذي ً مرفوعا نحو بناء مدرسة النّجاح أضحى
ً ً جزائرية تعمل على مدرسة والجودة؛ فنريد ّ يحس فيها تجسيد المواطنة اللغوية التي ّ َ المواطن أ ّنه في بلده ،ويُ خاطب بلغة بلده، ّ مدرسة تعمل على زرع الثقة في النفس،
ال ّتربوية يرتبط بإصالح المجتمع ،فال ِّرهان على ال ّتربية رهان وطني استراتيجي؛ تنطلق
ّ التوجهات الكبرى إلحداث نقلةٍ نوعيةٍ ، منه ُ المدرسة باإلجماع فكان يجب أن تحظى
ً ً الوطنيُ ، مجتمعيا يقتضي مشروعا صبح وت َ ً ً إصالحا حقيقياُ ، وتسهم في ذلك اإلصالح ُّ ُ إصالحها كل فعاليات المجتمع ،ويكون
ً ال ّتربوي مُ قدسا مثل الدستور إصالح ال يعبث به العابثون ،بل يحرص عليه كلُّ ً ً ّ منفتحا يُ ترجم إصالحا ويظل الفاعلين،
واقعَ المنظومة ال ّتربوية وسيرورة مستمرّ ة
لألجيال ،ويح ّدد قيمَ ّ ّ بكل اللغات الوطنية ،وبما واالنتماء الجمعي َ العيش المشترك
تحمله المواطنة من أبعاد ،باإلضافة إلى تلك
ّ التوجهات السياسية واالختالفات المنهجية،
وال تظهر فيه آثارُ الحاكم ،وال استراتيجية حزب سياسي أو ّ اتجاه ما ،وينأى اإلصالح عن االضطرابات والسلطة ،ويحظى بتأييد
ّ المختصين ،وتوضع له قواعده وال يحيد
عنها أحد.
فالمطلوب إصالح تربوي نسعى جميعنا
لتحقيق الهدف المشترك منه ،وهو إنزال لغاتنا منزلتها الالئقة ،وال يكون هذا إالّ ّ تتحلى بإصالح يعمل على تنشئة مدرسة
ً ً قادرا على فردا بقدرات معرفية؛ ُتنتج يتكيف مع الواقع ،ينشد الحريةَ االختيار، ّ َ َ والرأي اآلخر، والديمقراطية ،ويقبل النقد َ َ الكونية ويستوعب القيمَ
.
وأريد أن أختمَ دراستي هذه باإلشارة إلى
ِ سكوت النّخبة الوطنية عن هذا الوضع ّخبة المعرّ بةَ، َ ّ وبخاصةِ الن المتر ّدي والمُ ؤسف التي عليها العِ وَ ل وال ّتعويل في الكتابة ولكن يبدو أ ّنها نامت على الوعود وال ّتغيير، ّ
العرقوبية ،وال ّتطمينات ال ّتنويمية ،قبل أن ّ تتمكن من استئناف مشروعها ،وربّما دخلت
.
محراب الهرْ وَ لة ،وراء المنافع العابرة وإ ّني َ َ افتقدت سماع شخصيات مسكونة ِب ّ هم اللغة
العربية ،ويبدو لي أ ّنه دبّت فيها الهزيمة، وأفقدها الفسا ُد ّ اللغوي المَ بنى والمَ عنى ،وما ُ َ دخل في بيتها تطيق المَ أوى ،وبعضها عادت
ْ فسكتت لسان الرومان ،فأوقع بينها الشنآن، ُ ّ اللف وال عن الوضع بما كان ،ولم تستطع
الدوران ،وما حرّ كت إصبعها بأضعف اإليمان.
إن إصالح المنظومة خاتمة :في الحقيقة ّ
تغيرَ، فالزمان إحساس المعاينة اليومية، ُ َ ّ
.
.
فهل أغراكم الحال ،على ما وصلنا إليه من
المُ حال؟
.
ّ مستقلة في ال ّتفكير والممارسة؛ ُتعْ مِ ل العقل، وتثمّ ن االجتهادُ ، وتعتمِ د النقدُ ، َ ِ آليات وتقيم
التنافسَ ، وتعْ مَ ل على الوعي بآلية الزمن ّ والوقت كقيمة أساسية في اللحاق بالرَّ كب
والوضعُ تب ّد َ ل ،وما عاد يفيد الوعظ إذا لم َ ْ َ يصاحبه بياض الوعي أين أنتم يا من أفنَوا ُ ِ نهارهم في سوادِ الحرف المشكول ،أين ُ ُ األصالة من َّ والخ ُل ُق من االنحراف، الزيف
ويؤسفني ّ َ ُ بعض الحقائق لمست كل هذا ،فقد ُ َلمْ س الي ّد ،ورأيتها رأي العين ،وأحسستها
كاتب من الجزائر إشارات
( )1ـ أحمد أوزي “المدرسة والتّكوين ّ ومتطلبات بنا مجتمع المعرفة” مجلة المدرسة المغربية المغرب ،2012 :المجلس األعلى للتّعليم ،العدد 5/4ص 112
.
.
( )2ـ ينظر جريدة الخبر ليوم 20 :أبريل ،2013 ص ( 7مواضيع الباكالوريا من الفصلين األول والثاني) العدد 7050
.
.
(MoatassimeAhmed, dialogue de sourds et-)3 communication langagière en Méditerranée L’Harmatta: 2006، p 119
.
.
( )4ـ أحمد الحارثي “األمازيغية وحقوق اإلنسان” مجلة نوافذ المغرب ،2011 :العدد ،50-49ص 77 ( )5ـ أزمة ّ اللغة العربية في المغرب ،ط5
.
.
.
الرباط ،2010 :دار الكتاب الجديد المتحدة، ص 17 ( )6ـ أحمد بوكوس ،مسار ّ اللغة األمازيغية،
.
.
تعريب :فؤاد ساعة الرباط ،2012 :منشورات المعهد الملكي لل ّثقافة األمازيغية ص 3031
.
( )7ـ “األمازيغية والمنظومة التّربوية” مجلة نوافذ المغرب ،2002 :عدد مزدوج18-17 يتناول (المسألة األمازيغية في المغرب) ص 75
. .
( )8ـ مريم الدمناني “المسألة األمازيغية ،لماذا وكيف؟ مجلة نوافذ المغرب ،2002 :عدد مزدوج 18-17يتناول (المسألة األمازيغية في المغرب) ص 80
.
.
( )9ـ ينص تقرير اليونسكو الصادر في بأن 300لغة سوف تنقرض ديسمبر ّ 2012 خالل القرن الحادي والعشرين وأكثرها من ّ بأن العربية اللغات اإلفريقية ونعلم ّ +األمازيغية من تلك ّ اللغات التي يه ّددها هذا االنقراض فما هي الوصفة اإلصالحية والعالجية التي تفنّد هذه المقولة؟ أن الجامعات الجزائرية ©ـ ما يؤسف له ّ تتر ّنح في ذيل التّرتيب العالمي وهذا ما استقرّ عليه التّصنيف الذي أع ّدته مجلة تايمز للتّعليم العالي ،2013فأحسن الجامعات الجزائرية اعتلت الرتبة َ 2185 وأ ْدر َ َج ُ ّصنيف جامعة (منتوري) بقسنطينة التي الت ً عالميا ،في ما جاء ترتيبها في المرتبة 2185 جاءت جامعة (أبو بكر بلقايد) بتلمسان في ُ ً جامعة (العلوم عالميا ،واحتلت المرتبة 2273 َ المرتبة ،2935 والتّكنولوجيا هواري بومدين) ّ تحتل ثالث أحسن وهي الجامعة التي جامعة على التّراب الوطني ع /جريدة الخبر ،العدد ،7050بتاريخ 20 :أفريل ،2013 ص5
.
.
.
.
.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
59
ملف
اللغة المستعارة مفيد نجم تواجه اللغة العربية تحديات واسعة تفرضها التطورات المتسارعة إلنجازات العصر العلمية والتقنية والفكرية ،حتى أصبح
استيعاب لغة هذا العصر دليال على قدرة اللغة على الحياة والتطور ،خاصة عندما تكون األمة مستهلكة لمنتجات الحضارة
والعصر ،وغير فاعلة في هذا السياق.
كشف
تاريخ الحضارة العربية في
التي تعيشها الثقافة العربية عموما ،والتي ّ يتلخص ت ّتخذ بعدين متناقضين ،البعد األول
المصطلحات الثالثة تعاني في النظرية
العباسي عن وعي حقيقي بأهمية هذا الدور
التجديد بحجة مقاومة الغزو الثقافي الغربي
في داللة المفهوم.
عصر التعريب الواسع الذي
شهده زمن الخليفة المأمون في العصر
وضرورته على مستوى انتقال اللغة العربية من لغة األدب والشعر والدين ،إلى لغة العلم
والفلسفة والطب والبحث ،التي تثري هذه اللغة وتطوّ رها لكي تغني الفكر العربي وتعينه على اإلبداع في شتى مجاالت الحياة والعلوم ،وكان نجاح هذه التجربة على مختلف األصعدة دليال واضحا ،على حيوية
اللغة العربية وقدرتها على التطور واستيعاب
لغة العصر.
لنا والحفاظ على الهوية ،أما البعد الثاني
فيتمثل في االنبهار بثقافة الغرب ،ومحاولة التماهي معها ،بوصفها ثقافة العصر وطريقنا
لبلوغ الحداثة.
.
يقوم بها الباحث اليوم بين الواقع الذي
يعيشه النقد العربي المعاصر ،والتراث النقدي العربي القديم سوف تكشف عن االختالل
الواضح لصالح األخير ،الذي قدم مجموعة كبيرة من المفاهيم النقدية ،قبل أن تظهر النظريات النقدية الغربية المعاصرة التي
يعيش عليها النقد العربي المعاصر اليوم. اللغة والنقد
سوى االعتياش على المنجز النقدي الغربي بمدارسه واتجاهاته المختلفة ،لكن هذه
األولى في ترجمة المصطلح النقدي الغربي، النظرية ،في حين تحددت المشكلة الثانية
باإلشكالية التي يعاني منها المصطلح النقدي في الثقافة الغربية األمّ ،والناجمة عن تعدد
التيارات واختالفها وتبايناتها على مستوى النظرية والمفهوم في النظرية الواحدة ،ما
أدى إلى ظهور تعريفات متعددة للمصطلح النقدي الواحد ،تختلف حموالته الداللية
.
بين ناقد وآخر وبذلك كان ال بد أن تنتقل هذه اإلشكالية مع الترجمة ،إلى النقد العربي
وتخلق حالة من التداخل والبلبلة في اللغة
والممارسة النقدية العربية.
قبل الحديث عن اإلشكالية التي تعيشها اللغة
إشكالية المصدر
هذه اإلشكالية ترتبط بمعناها األوسع باألزمة
المكان الروائي ثالثة مصطلحات بمعنى
النقدية العربية المعاصرة ،ال بد من القول إن
األحداث والمواقف السردية التي تجري، بينما مفهوم الفضاء عند عدد آخر من النقاد
عليها في مقارباته للنص ،لم يكن أمامه
اإلنسانية والعلوم المختلفة أن تحافظ على
اللغة العربية وتطورها ولعل مقارنة بسيطة
هو المكان ،أو األماكن التي تقدم فيها
الشخصية فيه ،بينما اعتبره الشعريون
دون مرجعيات نقدية ناجزة ،يمكن أن يعتمد
ونقله إلى العربية بمعناه التام في مرجعياته
التخلف والضعف ،الذي انعكس على وضع
يعرّ ف جيرالد برنس الفضاء spaceبقوله
إن النقد العربي الحديث الذي وجد نفسه
لم تستطع هذه التجربة الرائدة التي تركت
استمرارها ،فكان ذلك إيذانا ببدء عصر
النقدية الغربية أصال ،من االختالف النسبي
الغربيين يحمل معنى أشمل من المكان الذي
العالقة اصطدمت بمشكلتين اثنتين ،تمثلت
لنا ميراثا واسعا وغنيا ،في مجاالت العلوم
60
في محاولة االنغالق على الذات ،ورفض
والحيز ،وهذه واحد ،هي المكان والفضاء ّ
يستخدم النقد العربي الحديث للداللة على
يمثل مكونا للفضاء ويرتبط بعالقة حضور
أحد العناصر الفاعلة في المغامرة السردية،
التي تتجاوز مفهوم المكان الذي تجري فيه
أحداث الرواية.
وال يختلف الحال بالنسبة إلى مفهوم الرؤية
السردية ،الذي أطلقت عليه في النقد األنكلو- سكسوني تسميات متعددة ،تجاوزت قضية
التسمية إلى النظرية وموقع هذا المفهوم ودالالته داخل هذه النظرية ،فهناك وجهة النظر والمنظور السردي والتبئير ،األمر
الذي يجعل هذه اإلشكالية على مستوى
اللغة النقدية تتجاوز موضوع التباين في
التسمية ،إلى مسألة مفهومية ومنهجية في آن معا ،ترتبط بالنظرية النقدية وتعدد
التيارات واالتجاهات داخلها.
ويعد مصطلح الكتابة النسوية مثاال آخر على هذه اإلشكالية ،بسبب تعدد الترجمات ،وتنوع
المرجعيات النقدية األنكلو-سكسونية ،التي
.
يتم نقل المصطلح عنها إن هذه اإلشكالية
تتضح من خالل تعدد المصطلحات التي تستخدم للداللة على ذلك ،فهناك مصطلح
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
بطرس املعري الكتابة النسوية والكتابة النسائية ،والكتابة
إلى الكتابة النقدية العربية واختياراتها،
التي تفرّ عت عنها.
بين هذه المصطلحات في الكثير من
المرجعيات النقدية الغربية ،ومدى اقتناع كل
والكتابة النقدية العربية ،وفي تكريس واقع
.
األنثوية ،أو األدب األنثوي ويظهر الخلط الترجمات أو الكتابات النقدية ،التي تتناول
موضوع األدب أو قضايا النسوية المختلفة. في الكتابة النقدية تتجاوز
هذه
اإلشكالية
لغة
في ضوء عالقة الناقدات العربيات مع
واحدة منهن بوجاهة ما يحمله كل مصطلح من دالالت ،في إطار السياق المعرفي
والمنهجي للنظرية النقدية عند هذه الناقدة
.
أو تلك وتزداد تعقيدات هذه المشكلة نظريا
المصطلح
وإجرائيا مع محدودية استيعاب المصطلح
منها الكثيرون من العاملين في حقل النقد
المفاهيم العامة التي تتكون منها هذه
وحموالته الداللية في الترجمة ،التي يتخذ مرجعيات لهم في استيعاب تلك النظريات،
ودالالته وموقعه ،الذي يشغله داخل شبكة النظرية أو تلك ،ال سيما مع تعدد التيارات
لقد ساهم هذا الوضع في تعميق مشكلة اللغة
الفوضى الذي ساهمت الصحافة الثقافية في
تعميقها ،لكن الدور األخطر هو الذي لعبته دور النشر الخاصة ،من خالل غياب المعايير
المعتمدة في اختياراتها لألعمال المترجمة ونشرها ،فقد ظل الهدف التجاري هو الغالب على عمل تلك الدور سعيا وراء التسويق
السريع للكتاب المترجم ،ال سيما كتب النقد
الحديث ،مستغلة الحاجة الماسة إليها من
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
61
ملف
قبل طلبة الجامعات والمشتغلين في هذا
عدد المترجمين أنفسهم.
باللغة األجنبية ويمكن القول هنا إن هناك
إنشاء اتحاد المترجمين العرب في بيروت،
الحقل ،ممّ ن ليست لديهم المعرفة الكافية
.
تواطؤا يتم بين تلك الدور والمترجمين، ممن ال يملك الكفاءة المطلوبة في معرفة
اللغتين ،اللغة األجنبية التي يقوم بالترجمة عنها ،أو العربية التي يقوم بالترجمة إليها،
.
ّ تم وفي محاولة لتجاوز هذه المشكلة
اللغة لكي يحافظ على معناه الحقيقي ولعل
كمؤسسة غير رسمية ،حاولت توحيد
ترجمه البعض إلى علم الداللة والبعض اآلخر
جهود مجموعة من المترجمين العرب ،من
ذوي المعرفة الجيدة في اللغتين األجنبية
استخدام
مصطلح
السيميوطيقيا
الذي
إلى إنتاج الداللة ،ومصطلح الميثولوجيا الذي تمت ترجمته إلى علم األساطير
ال بد أن ينعكس سلبا على لغة الترجمة ّ ودقتها في استيعاب المعنى ،خاصة إذا كان
والعربية وتكليفها بأعمال الترجمة ،لكن ذلك ّ يحل مشكلة ترجمة المصطلح الغربي لم
البلبلة والتشتت التي يواجهها تعريب هذه
تعتمد على اجتهاد المترجم ومدى استيعابه
لها في سياق النظرية النقدية ،ال سيما وأن
هذا المجال.
ناهيك عن غياب الدعم المادي الرسمي لها
أو بسبب ضعفه في إحداهما ،األمر الذي
المترجم ليس من أصحاب االختصاص في
واستيعابه في الترجمة العربية له ،ألنها ظلت للنظرية النقدية الغربية وسياقاتها المعرفية،
لتطوير وتوسيع عملها.
غياب العمل المؤسساتي
في الكتابات النقدية ،ما يكشف عن حالة المصطلحات ،واستيعاب المضمون المعرفي
هذا المصطلح يتفاوت في دالالته وحدوده بين ناقد غربي وآخر ،نظرا لتعدد التيارات
واالجتهادات داخل النظرية الواحدة ،وهو ما يجده الباحث في مصطلح “التناص”،
لقد ترافق هذا الوضع مع غياب الجهات
الذي صكته جوليا كريستيفا أواخر ستينات
الترجمة ،وفي مقدمتها مجامع اللغة العربية،
بمفهوم “التعالي النصي”.
الثقافية العربية التي تشرف على أعمال
.
القرن الماضي ،والذي استبدله جيرار جينيت
التي أقيمت من أجل هذه المهمة إن غياب دور هذه المجامع اللغوية واقتصاره على
المستوى األكاديمي ،قد ترك الساحة لدور النشر الخاصة والعامة للقيام بهذه المهمة،
دون مراعاة للشرطين السابقين المطلوب
.
توفرهما عند المترجم ففي حين اهتمت دور النشر الخاصة بتحقيق الربح المادي بغض النظر عن قيمة الترجمة ومؤهالت
المترجمين ،فإن دور النشر الرسمية قد خضعت في عملها للمحسوبية والعالقات
أي محاولة جادة الشخصية ،في حين لم تتم ّ وحقيقية لتفعيل دور مجامع اللغة العربية،
إن هذا الواقع اإلشكالي مرتبط في جانب
أي محاولة جادة لم تتم ّ
مهم منه بمسألتين اثنتين ،المسألة األولى
هي ترجمة المصطلح بمعزل عن معرفة
وحقيقية لتفعيل دور مجامع
سياقاته المعرفية من قبل المترجم ،ما خلق
اللغة العربية ،وتكليفها
الثانية تتعلق بغياب الجانب المعرفي باللغة
بالتعاون مع مجموعة من النقاد األكفاء ،الضالعين
مشكالت مفهومية ومنهجية ،بينما المسألة
النقدية ونظرياتها ،انعكس سلبا على قدرة
المترجم على استيعاب دالالته الكاملة في
إطار النظرية.
في اللغة المترجم عنها
وتبدو هذه اإلشكالية أوضح ما تكون في
باإلشراف على عمليات
المتابع في معاجم المصطلحات العربية،
تباين المفاهيم والتعريفات ،التي يجدها
وتكليفها بالتعاون مع مجموعة من النقاد
ترجمة المصطلحات والكتب
التي يفترض بها أن تكون معينا لكل دارس
باإلشراف على عمليات ترجمة المصطلحات
النقدية
تعاني هذه المعاجم من تباينات واضحة في
األكفاء ،الضالعين في اللغة المترجم عنها
والكتب النقدية ،لكي يكون المصطلح العربي
المقابل مكافئا للمصطلح النقدي الغربي في
معناه وداللته.
باللغة المترجم عنها ،أو اللغة العربية ،إضافة
ونحت المصطلح العربي المقابل له ،لم ّ تتوقف عند حدود الترجمة ،التي تقوم بها بالنقد ،بل هي تتجاوزها إلى اختالف النقاد
المواقف منه فهناك من يرى أن الترجمة
فيما بينهم ،على صعيد ترجمة المصطلح الغربي ،فقد لجأ كل ناقد منهم إلى ترجمة بذريعة أنها الترجمة األكثر استيعابا للمعنى الحقيقي للمصطلح النقدي ،حتى وجدنا عدد
الترجمات المنجزة للمصطلح الواحد ،توافق
إلى غياب المعرفة الكاملة بالنظرية النقدية
التي يقوم بنقل المصطلح عنها ،ما ينعكس
تتوسع حدود إشكالية المصطلح نظرا لتعدد
على معرفة القارئ والدارس بهذه المدارس
العربية للمصطلح النقدي ال يمكنها أن ّ تخلق في تستوعب معناه ألن هذا المصطلح
استخداماتها
ّ المشكلة سياق معرفي ولغوي تتعالق وحداته
لمضمون النظرية ،ما يجعل محاولة استيعاب معناه الداللي في اللغة العربية ناقصا ،األمر الذي يجعلهم يطالبون باستخدام المصطلح
والمصطلحات ويجعل اللغة النقدية تفتقد
إلى
الدقة
والعلمية
ووظيفتها اإلجرائية
في
كاتب من سوريا مقيم في ألمانيا
بطرس املعري
المصطلح
ترجمة
مختلفة
عن
اآلخر،
ترجمة المصطلحات ،وما تقدمه من تعريف أسلفنا في تباين معرفة المترجم الكبيرة
بين الترجمة والتوطين
في كثير من األحيان شخصيات ال عالقة لها
ال يجيد اللغات األجنبية.
بها أو بالنظريات النقدية ،والسبب يكمن كما
إن مشكلة ترجمة المصطلح النقدي الغربي
62
كما جاء في النظرية األمّ وتوطينه في هذه
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
63
ملف
اإلرجاء القاتل الجامعة الجزائرية وسؤال اللغة العربية البشير ربوح ليس من العسر أن نبحث في طبيعة العالقات التي تنشأ بين المساحات الفكرية التي تتواجد وتتحرك في مسطح التحليل الناتج
عن التقاء مفاهيم ،وتصادم تصورات ،وتقاطع أحكام ،واحتكاك نزعات معرفية تؤدي إلى بروز سوء فهم وانبثاق موقف غائم من ً ً ضجيجا الحدث الذي يتحدث عنه الجميع والذي مأل الفضاء وصخبا.
اللغة
العربية غدت ،بين حديث
وزاري انفلت من عقاله الالواعي
وردود أفعال لم تكن على دراية ودربة كافية بما تنتجه من رؤى وبما تتقول به من
ملفوظات ،وتستند إلى جهاز لساني اجتماعي
الجزائري ،إذ نستطيع أن نعرّ ج ناحية المسار ً واعتمادا على آلية السرد التاريخي التأريخي،
واالجتماعية
الجزائرية هي جزء أساسي من المشروع
المفارقة القائمة انتكست أعالم اللغة العربية
إنجازه في مستعمراتها بإرادة متعالية تنظر
علمية على اإلطالق.
إن الجامعة في صورته البسيطة نقولّ :
أي لحظة ناجز ومستعد لالشتغال في ّ يُ ستدعى لها ،حيث تعوّ د على ذات المفردات ً وكأن األمر في حاجة سابقا، التي استعملها ّ
إلى اآلخر المنحط أنطولوجيا بحسبانه كائنا
وأضحت قضية القضايا ،وتذكرنا فجأة أننا
هي امتداد طبيعي لما هو قائم في الواقع.
إلى الضغط على الزرّ وكفى به حضورا، ونعبر بها عن هويتنا، نملك لغة نتحدث بها، ّ
وتحمل في ذات الوقت جزءا كبيرا وخطيرا من تاريخنا ،ودخلنا مرة أخرى في معارك جديدة/تليدة،
بنفس
الرؤية
والمنهج
واألسلوب ،ومن الموقع نفسه تحت وقع
الشعور نفسه بالكراهية والعدائية المفرطة
.
اإلمبريالي الكبير الذي سعت فرنسا إلى
ما قبل مديني ،وبالتالي فالجامعة الجزائرية
أي ذكر في الزمن لم يكن للغة العربية ّ االستعماري على مستوى الجامعة والبحث العلمي ،وانسحبت اللغة العربية إلى المناطق
المطموسة من الفضاء العام الرسمي ،يعني جهة الكتاتيب والمدارس األهلية ،أي إلى مواقع ُدنيا من المعرفة العالمة ،ومنه بقيت
لآلخر ّ إن المعادل الرمزي لهذا الحديث هو أننا ّ
ممزوجة بلهجة شعبية متقاطعة مع بعض
الجندي الذي يتحرك دون أن يتقدم خطوة،
حضور قوي في نسيج الخطاب الشعبي ،مما
لم نبرح مكاننا فنحن أشبه ما نكون بذلك فإن الذهاب جهة الحديث عن عالقة وعليه، ّ
اللغة العربية حبيسة االستعمال اليومي المفردات الفرنسية التي أضحت تحوز على
..
والفلسفة والتاريخ وغيرها وعلى وقع هذه وانطفأ وهجها ،وسيقت إلى مواقع غير لكن بعد بزوغ عصر االستقالل وانحسار
االستعمار
الغربي،
مع
بقاء
الثقافة
الكولونيالية في أفق التفكير الغربي ،كما حدثنا المفكر العربي إدوارد سعيد ،دخلت
الجامعة الجزائرية مرحلة جديدة من
الحركية السياسية ،واالجتماعية ولم تشهد، إالّ في فترات متباعدة ،شحنات قليلة وبائسة من الحركية العلمية ،اتسمت بظهور نزعة قوية في إدخال التعريب بصورة قوية وبحرص شوفيني وغليظ على هذه اللغة، مما أدى إلى تبني سياسة مشوهة وعرجاء
أي تتحرك دون رؤية حصيفة ،وفي غياب ّ مشروع حقيقي للجامعة ،تمظهرت أوالً
متميزة وذات نتحدث عن منجزات ثقافية ّ
وعدم االنفتاح على األلسنة األخرى مثل
.
تكون سياسية ،ومن زاوية مح ّددة وقد
فرادة الزمت هذه الفترة من كتابات روائية،
ألن المسألة ترت ّد إلى حزمة من المجازفة، ّ
وحتى
ما
يتعلق
باألدب
داخلها ،ومن تقليص مكانة اللسان الفرنسي،
الجامعة الجزائرية باللغة العربية أو بتعبير ً توسعا موقع ومكانة اللغة العربية في أكثر
تكون علمية بحتة ،وهذا نوع مخصوص
باللسان الفرنسي ،بما فيها المواد اإلنسانية
ضاعف من مأساتها ،بحيث كرّ س منطق عام ّ وينزلها منازل وضيعة يحتقر هذه اللغة ليس ببعيد عن هذا التمشي ،يمكن أن
الجامعة الجزائرية ،هو من جهة ما ،وقد
64
كبيرة من المفاعيل المنغمسة في التاريخ
ّ فكل المواد تدرّ س الجامعة كان منعدما،
شعرية ،قصصية ،دينية ،وفكرية ،ارتبطت أن التواجد على مستوى بهذه اللغة ،غير ّ
في إقصاء اللسان األمازيغي من التواجد
والتعاطي معه باعتباره موروثا استعماريا، اللسان األلماني ،اإلنكليزي ،األسباني ،ليس من باب اكتساب هذه األلسنة والتعود عليها، وإ ّنما من أجل جعلها لغة البحث العلمي
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
بطرس املعري
خاصة ،دون أن نهمل األلسنة الصاعدة في
الضفاف األخرى.
إن هذا األمر يحتاج على إرادة قوية وإلى ّ مشروع كبير يسع الجميع ويذهب إلى أقصى مدى ،ويجمع في جوفه طموحات شباب
.
جزائري مزوّ د بإرث معرفي وقيمي ً ً وجودا وعدما حول إن أغلب حديثنا يدور ّ
الحية في خلق فضاء تواصلي بين القوى ّ
ألن هذا التواصل هو الذي يصنع الجامعة، ّ دروبا للتعارف بين الشخصيات المفهومية
القادرة على تقديم استشارات قوية وعامة لمستقبل الجامعة في المنظور الزمني القريب وفي المنظور التاريخي البعيد،
واالنفتاح على الشخصيات العلمية المُ عولمة
والتي هي اآلن تنتج المعرفة وتتحكم في
منطقها اإلبداعي.
ربّما بهذه الصورة المتواضعة نستطيع أن ّ ظل نتحدث عن مستقبل للغة العربية في
تسونامي لساني تقوده الشركات الكبرى
أن األمر يتعلق بإعادة العابرة للهويات ،أي ّ ترتيب البيت الداخلي للجامعة الجزائرية
وإبعادها عن الذهنية الشعبوية المُ ؤدلجة بصورة مشوّ هة ،وتقديم صورة صحية عن
اللغة العربية والتقليل من الكليشيهيات
الكرنفالية المنتشرة في خطابنا اليومي.
لم يعد لنا الوقت الكافي للدفاع عن اللغة ّ تبقى من الوقت يكفي فقط العربية فما لتنظيم أنفسنا الجديدة والتفكير جماعياً
والفلسفي واألدبي والفني ،لكي نبدأ على
أحقيتها في الكينونة العلمية ،ولم ندفع بها ّ
في كيفية إخراج هده اللغة من وضعها
عالم الحداثة الحقيقي.
فما هو منتشر بين ذواتنا الهشة خليط من
ومن تثوير الفضاء الجامعي الذي تعفن
األقل في هذه المرحلة التاريخية في ولوج
جهة الخطاب اليومي في مختلف تمظهراته، لهجات ممجوجة ،تمكنت من التسرب إلى
أن األزمة القائمة بين اللغة العربية تأكد لدينا ّ
فضاء الفن واإلعالم والسياسة وأغلب
معها فهم وتحليل ما يجري داخل هذه
المبتذل.
والجامعة هي أزمة مركبة إلى درجة يصعب
المؤسسة التي توكل إليها مهمة صناعة الوعي وبلورة شخصية وطنية حداثية
قادرة على ممارسة فكرة المواطنة دون عقدة نقص أو تفوق ،فنحن داخل الجامعة
ظلمنا اللغة العربية عندما نزلناها في مرتبة
الخادم األيديولوجي لمنظور شعبوي تافه ال
يستطيع أن يرى أبعد من أرنبة أنفه ،ودفعنا بها إلى الدخول في عالقة عدائية مع أخ
لساني هو اللسان األمازيغي ،ولم ندخلها مخابر البحث العلمي لكي تنخرط في مسار
تعبر فيه عن علمي وفي معترك معرفي ّ
المجاالت التي بدأت تخضع لمنطق الواقع
الكولونيالي ومن منزلتها ما بعد االستعمارية بسبب الشلل المتطاحنة ذات المصالح ّ وكل المظاهر التي غدت غير الشرعية،
بفعل تكرارها عادية في منظور
المجتمع.
إن اللغة هي عالمة فارقة على عبقرية ّ
لم يعد من المجدي أن نتباكى على لغتنا
األمة وفق التوصيف الطريف للفيلسوف
نتغزل بها كما تعودنا شعريا على تمجيد ما هو قابل للضياع أو في سبيله إلى التبدد ،وإ ّنما
في داخلها معنى الكينونة الحقيقي ،وقد
تأكدنا أن اللغة العربية قد حققت مكاسب
وغير مطروق يتمثل في تنشيط الخطاب
الفيزيقية.
الجميلة كما توصف ،ولم يعد من المفيد أن
من األجدى أن نجتهد في تعبيد درب جديد
اللساني العربي داخل الجامعة من خالل
تفعيل المعجمية العلمية الكامنة فيه ،وفي الدفع به صوب المخابر العلمية لكي نحدث
تناغما بينه ما هو علمي وما هو لساني عربي،
واالنفتاح على المنجزات اللسانية الغربية
األلماني “همبولدت” وهي الروح التي تحوي
ميتافيزيقية ولم يبق لها إال إدراك المكاسب ليس من صالح الجامعة الجزائرية أن تخلف موعدها التاريخي مع اللغة العربية ،وليس
من صالح اللغة العربية أن تبتعد كثيرا عن
الجامعة
كاتب من الجزائر
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
65
ملف
الصراع بين العربية والفرنسية في رواية “بان الصبح” لبن هدوقة إبراهيم سعدي رغم حساسية المسألة اللغوية ،وذلك ألسباب تاريخية تحيل إلى تجربة استعمارية استيطانية فرنسية دامت قرنا وربع قرن انتهت إلى جعل المجتمع الجزائري يعيش بعد االستقالل صراعا لغويا حادا بين العربية والفرنسية ،تفرع إلى صراع بين العربية
واألمازيغية وإلى جدال دام أحيانا حول الهوية الوطنية ،لم يتناول األدباء الجزائريون الذين يكتبون بالعربية هذه القضية إال خارج نصوصهم السردية ،حيث ذهبوا أحيانا إلى حد “التكفير” اللغوي لبني جلدتهم من ك ّتاب اللغة الفرنسية.
في
المقابل استمات األدباء الجزائريون
المسألة الكأداء ،أي أن المؤلف أوجدها فقط
وال ريب أيضا أن نية المؤلف في تسليط
قليلة ،دفاعا عن مشروعية الكتابة بالفرنسية
المجتمع حول اإلشكالية اللغوية ،ولذلك لم ّ يكلف المؤلف نفسه حتى مشقة إسناد أسماء
وثقافية وأيديولوجية معقدة في الجزائر،
الفرنكفونيون،
عدا
استثناءات
التي ارتقوا بها إلى مستويات أدبية لم يدركها الك ّتاب الفرنسيون أنفسهم أحيانا،
كما دافعوا أيضا عن مشروعية استعمالها
لها ،مكتفيا بتعريفها بكلمة “رجل” أو “امرأة”.
وال ريب أن تحديد الموقع االجتماعي
كانت أقوى من الدافع إلى التوظيف الجمالي لها داخل هذا النص السردي الواقعي ،ممّ ا أدى
إلى التركيز على فعل القول وإبداء الرأي ،أي
للمناقش كان سيسمح باستنتاجات سوسيو-
على فعل الحجاج ،أكثر منه على السرد.
وتعد رواية “بان الصبح” لعبدالحميد بن
اللغة العربية أو من اللغة الفرنسية والموقع
لعبدالحميد بن هدوقة الذي يرى بأن على
القليلة التي تصدت سرديا لموضوع “حرب
التحديد هذا يشير إلى غياب مثل هذه
خارج الكتابة اإلبداعية ،أي داخل مجتمعاتهم
كلغة عمل وتواصل بين الجزائريين.
هدوقة من الروايات الجزائرية العربية
اللغات” بين العربية والفرنسية التي كانت
البالد مسرحا لها بعد االستقالل ،يعني بعدما
وضعت الحرب الحقيقية أوزارها سنة ،1962
بين فرنسا والجزائر.
ال نلمس في “بان الصبح” -على األقل بصورة
أدبية فيما يخص العالقة بين الموقف من االجتماعي لصاحبه ،اللهم إال إذا كان عدم
.
العالقة إال أنه يمكن من الناحية الفنية تبرير الغياب النسبي للتحديد االجتماعي للشخوص ،إذا ما أخذنا بعين االعتبار السياق
الذي وظفهم فيه المؤلف ،والمتمثل في
وصف جلسة من الجلسات التي كانت تجري
ويرتبط هذا اإلجراء كذلك بالمنظور األدبي
األديب أن “يكون ذا تأثير في مجتمعه” وبأنه “لكي يكون ذا تأثير في مجتمعه -أي
لتجد أفكاره صداها في مجتمعه -يجب أن
..
يحسن طرح المشاكل التي يتعرض لها ”
كما ذهب سعيد علوش ،في كتابه "الرواية
واأليديولوجيا".
والواقع أن سمة الجدل طاغية في رواية
واضحة -رأي عبدالحميد بن هدوقة ،الذي
حول “الميثاق الوطني” لمناقشة الخالف
الحرف العربي ،إزاء هذه القضية ،فهو
ففي مثل هذه الجلسات المخصصة للجدل
وال عجب في ذلك ألن الرواية تعبر عن
على حساب “الشخصية” الروائية ،أي يصبح
المناقشات العامة ،حول “الميثاق الوطني”،
ينظر إليه كمؤسس للرواية الجزائرية ذات
يوظف شخوصا سردية ترافع كل واحدة
منها عن اللغة العربية أو عن الفرنسية.
اللغوي في الجزائر.
والنقاش يحتل الرأي والرأي المضاد األولوية
“بان الصبح” ذات الشخوص المتميزة بكثرة
الكالم الحامل طابع الحوار والنقاش والنقد، مرحلة اجتماعية وسياسية طبعتها أجواء
وهي شخوص نكرة في معظمها ،يعني أنها
“القول” هو الفعل أو الحدث األساس ،بحيث
التي جرت سنة ،1975أي مرحلة تميزت
رأيها حول هذه المعضلة اللغوية ،ولذلك ال
اآلراء ،ولهذا طغى فعل القول أو الحوار على
والمؤقت في ذات الوقت الذي وسمها بظهور
ال تعبر عن نفسها داخل النص إال من خالل يعرف عنها القارئ سوى موقفها من هذه
66
لكي تنطق بموقف من المواقف المتداولة في
الضوء على اللغة بوصفها إشكالية اجتماعية
يتشكل عنصر الصراع من تصادم األقوال أو
السرد في هذا الفصل.
بزخم أيديولوجي سمح للنقاش الحر والعام
كل التناقضات التي كانت تتجاذب المجتمع
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
بطرس املعري
الجزائري.
ويرتبط الفصل الخاص بالسجال بين أنصار ّ كل من اللغتين ،العربية والفرنسية ،بالمجرى
العام للرواية من خالل شخصيتي “رضا”
الشاب ذي النزعة التقدمية ،و”نعيمة” ابنة
عمه ،الطالبة الجامعية القادمة من
الريف.
وهما الشخصيتان اللتان يستمر وجودهما طوال النص ،ألن الشخصيات األخرى الحاضرة في هذا الفصل تختفي جميعها من النص بعد نهاية المناقشة المتعلقة بالمسألة
اللغوية ،أي أنها ال تعيش في النص أكثر من الصفحات التي استغرقتها المناقشة ،أعني
.
في الفصل السادس ال غير وال يشارك “رضا” في هذه المناقشة مشاركة مباشرة ،وإنما من
خالل بعض التعليقات التي يبديها البنة عمه
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
67
ملف
“نعيمة” بشأن تدخالت بعض الحاضرين أو
بشأن بعض استنتاجات “نعيمة” التي بدورها
ال تشارك في هذه المناقشة بصورة علنية.
هو من جهة فضح وشجب بعض المفارقات
الماليين؟”.
جهة أخرى التوضيح بأن الصراع الدائر في
الواجب تداولها في الجزائر ،تنحصر في لغة
الخاصة بتلك الفترة المسماة اشتراكية ،ومن
ولهذا فإن حضورهما في هذا الفصل يؤدي
المجتمع حول اللغة هو شأن يعني النخب
غايتها ربط المناقشة بالمجرى العام للرواية،
لذلك نالحظ بأنه عندما تتناول الكلمة امرأة
الكتابة ،يعني بين الكتابة بالعربية الفصحى
المثقفة وحدها ،وبأن الشعب ال دخل له فيه.
أو باللغة الفرنسية ،ومن ثمة تكون العامية،
من خالل إلحاقها بالمسار الشخصي لـ”رضا”
تنتمي بدورها إلى فئة العمال ،فهي عاملة في
وظيفة شفوية بحتة ،ليست معنية بهذا
بين مختلف اآلراء المتضاربة حول اللغة،
العربية والفرنسية في الجزائر ،إذ تقول “أنا
وظيفتين :إحداهما فنية إن جاز القول،
و”نعيمة”.
والثانية وظيفة الحكم الفصل
من خالل التعليق على بعضها بغرض
التصحيح ،ال سيما وأن الراوي قد منحه الكفاءة والمصداقية الالزمتين ألداء هذا
الدور عندما وصفه قائال “كان رضا بعيدا عن
.
كل تحمس أو تطرف هو رجل يزن األشياء
حمّ ام ،ال تتحدث هي أيضا عن مسألة اللغتين
جئت ألعرف متى تؤمّ م الحمّ امات”.
يقول فيها “نواصل أيها اإلخوة شرح الباب
الثالث وهو الثورة
الثقافية.
وفي هذا
المساء نتكلم عن اللغة الوطنية من جديد، ألن بعض اإلخوة باألمس لم يفهموا جيدا
الموضوع".
ويواصل رئيس الجلسة كالمه قائال “يقول المشروع :إن اللغة العربية عنصر أساسي
للهوية الثقافية للشعب الجزائري ،وال يمكن فصل شخصيتنا عن اللغة الوطنية التي
.
نعبر من خاللها ولهذا فإن تعميم استعمال
اللغة الوطنية وإتقانها كوسيلة عملية خالقة ،يشكل إحدى كبرى المهام للمجتمع الجزائري ،للتعبير عن كل مظاهر الثقافة
أنه في كل مرة يعلو صوت من القاعة يطلب
من المتدخلين المنتمين إلى الفئات الشعبية عدم الخروج عن الموضوع ،يعني حصر
ما يمكن تسميته باالضطهاد
تدخالتهم في الحديث عن مسألة اللغة في المجتمع ،وليس عن القضايا المعيشية
اللغوي أو بالهيمنة
المادية فهل حقا ،ال تهم الشعب غير األمور
اللغوية كان أحد أسباب
بطبعه ،ال يكترث بقضايا اللغة ،والثقافة
الهوياتي يقظة الشعور ّ لهذه “األقليات” ولحدوث
.
المادية المعيشية؟ هل الشعب بالفعل مادي والهوية المرتبطتين بها؟
الحقيقة أنه إذا ما احتكمنا إلى التجربة
الجزائرية وأيضا إلى تجارب مجتمعات
اضطرابات دموية وانقسامات
أخرى في العالم العربي ،نجد أن المسألة
مجتمعية وسياسية حادة
خصوصا لدى ما يسمى باألقليات في هذه
اللغوية
كانت
شغال
جماهيريا
أيضا،
هددت ،وتهدد ،وحدة هذه
المجتمعات ،فما يمكن تسميته باالضطهاد
المجتمعات
يقظة الشعور الهويّ اتي لهذه “األقليات”
اللغوي أو بالهيمنة اللغوية كان أحد أسباب ولحدوث اضطرابات دموية وانقسامات
مجتمعية وسياسية حادة هددت ،وتهدد، وحدة هذه المجتمعات ،مثلما كان الشأن في
يتكلم ليعلن بأنه لن يخوض في إشكالية
أريد أن أتكلم عن موضوع آخر..
أي إشكال. وهي العامية ،ال تطرح ّ
هذه النظرة ،فكل ما هناك بهذا الشأن هو
غير أن المتدخل األول ،بعد كلمة الرئيس،
اللغة قائال “أنا أترك اللغة للذين يعرفون ،أنا
وعليه يقف منها موقف الحياد ،على أساس
أيضا ،يكشف هو كذلك بأن الهموم اللغوية
وعن العقيدة االشتراكية.”..
أنا عامل
في هذه الحالة ،غير معني بالرهانات اللغوية،
ّ أي شخصية حاضرة في الراوي ال يكلف ّ جلسة المناقشة -بما فيها “رضا” -للرد على
كالمه بأنه ينتمي إلى الفئات الشعبية هو
الفكرة التي يعتنقها بكل الوسائل“.
الشعب ال تعنيه المسألة اللغوية
الصراع ،وبالتالي كأن موقف الشعب نفسه،
أن اللغة التي يستعملها في حياته اليومية،
األحداث ويحاول التدخل لجعلها في صالح
تبدأ الجلسة بكلمة للرئيس “سي الطيب”،
لغة الشعب والحياة اليومية ،التي تؤدي
كما أن تدخل رجل نكرة ،يُ ستنتج من
بميزاتها ،ال يتشاءم وال يتفاءل ،يراقب
الجزائر بسبب تهميش األمازيغية واعتبارها مجرد لهجة ال محل لها من اإلعراب ،أو في
علي في هذا العمل ثالثون بالمرسى ،مضى ّ سنة إال ثالثة أشهر ”
ليست الشغل الشاغل لهذه الفئات “الدنيا”
العراق وسوريا مع اللغة الكردية التي كان
يقرؤون وال يكتبون ،فهو يقول في كالمه
إنماء الشعور بالذات والرغبة في االنفصال
الموز واللوز والزبيب والجبن بمختلف
الشعب نتكلم العربية الدارجة كما هي
. ..
ثم يمضي هذا العامل متحدثا عن بواخر
أنواعه واللحوم التي ترسو في الميناء سرا،
من غير أن نشاهد أثرها في األسواق أو
.
يذوق الشعب طعمها حتى بالعين وال شك أن غرض المؤلف من توظيف هذا التدخل
68
يُ فهم من هذا بأن مسألة الصراع حول اللغة
من المجتمع ،وذلك ببساطة ألن أفرادها ال
“أنا ليس لي ما أقوله عن اللغة ،نحن أفراد ونتفاهم ،ليس لنا مشكلة في هذا الموضوع،
لكن أريد أن أسأل :لماذا ال تحاسب الدولة أولئك الذين كانوا عند االستقالل ال يملكون
شيئا وأصبحوا اليوم يبنون الفيالت بمئات
إقصاؤها عامال من العوامل التي أ ّدت إلى عن الدولة الوطنية التي تأسست من الناحية
اللغوية على األحادية ،مثلما كان األمر في السياسة ،الشيء الذي أدى إلى جعل
اللغة العربية تبدو رمزا للهيمنة واإلقصاء
.
لهذه األقليات وقد أدى ذلك ،في الجزائر،
إلى تغذية العداء لهذه اللغة ،وللحضارة
حال اللغة العربية استهالل ودعوة
العربية-اإلسالمية على العموم ،خصوصا في
الحقيقة لغة أبي جهل أيضا.
ذلك الطابع العلماني والنزعة المتوسطية
من الذين بلوروا هذا الرأي في النص شخص
استعمال العربية الفصحى في الحال ،يربط
بشأن
العمر ،يلبس قميصا بال أكمام ،يمسك نظارة
باإلنسان ،وهو رأي متداول في المجتمع،
الذين سيخوضون النقاش والجدل في
للشخصية الثقافية” ،12قبل أن يضيف في
المناطق الناطقة باألمازيغية ،كما يدل على
لألحزاب المتجذرة فيها. المهم
أننا
نستنتج
مما
سبق
المسألة اللغوية في “بان الصبح” بأن هذه اإلشكالية ،من غير أن نعرف دائما
وظائفهم االجتماعية على وجه التدقيق،
هم من المتعلمين ،أي من الذين يقرؤون
ويكتبون ،وإنما بلغتين مختلفتين إن لم نقل
متعارضتين ،الشيء الذي يشي مرة أخرى بارتباط الصراع اللغوي في الجزائر بالصراع من أجل السلطة ،لكن شرط أالّ نحصر هذه
-الدفاع عن العربية باسم الهوية:
ارتأى الراوي أن يوضح بأنه “… متوسط شمس" ،قال “إن اللغة هي المقوم األول
األخير قائال “… أقول هذا وأنا لست من أعداء
المعرفة
الفعالية والكفاءة باللغة في حد ذاتها وليس ينجم عنه االعتقاد بأن استعمال هذه اللغة
(الفرنسية على العموم) سوف يؤدي إلى
الرقي ،بينما استعمال لغة أخرى كالعربية،
أي لغة أخرى […] إنما أريد قبل الفرنسية وال ّ أن أكون غيري أن أكون أنا أوال” ومن بين ما تعني بالضرورة العداء للغات األجنبية ،وهو
-الدفاع عن العربية باسم التاريخ:
.
يعنيه بهذا القول أن المطالبة باللغة العربية ال خلط معمول به أحيانا في إطار الحجاج
مثال ،سوف يؤدي إلى التخلف والتقهقر،
الفرنكفوني في الجزائر.
وهو دفاع يجعل المطالبة باللغة العربية
يتأسس على الشرعية التاريخية ،وقد قال به المتدخل الذي تساءل “لماذا قامت ثورة
بتجلياتها األخرى ،في فضاءات اكتساب ونشرها
بأن هذا المتدخل الذي يدعو إلى تعميم
كما هو شائع في الفكر األيديولوجي اللغوي
األخيرة في حدودها السياسية الضيقة ،بل (المدرسة،
..
الدولة وقطاعاتها المختلفة ” ،لكننا نالحظ
نوفمبر إذن؟” ،قبل أن يضيف قائال “لقد
حيل بيننا وبين لغتنا مئة واثنتين وثالثين
الجامعة)،
سنة دون أن أع ّد سنوات االستقالل إلى
في اإلعالم (توجيه الرأي العام والتحكم
.
فيه) ،وكذا في مجال السلطة اإلدارية أو
الصراع اللغوي قد خفت
اآلن…” لكن من المعروف أيضا بأن الشرعية
يتدخل فيها امتالك اللغة المكتوبة كشرط
حدته بعض الشيء في ّ
بحجة أن قادة حرب التحرير كانوا كلهم من
البيروقراطية ،وغير ذلك من المجاالت التي ضروري من شروط امتالك السلطة بالمعنى
الذي نجده عند ميشال فوكو.
السنوات األخيرة .ومن بين
ويمكن تقسيم مواقف وآراء هذه النخب
ما يمكن أن نفسر به هذه
استعمال العربية وأنصار استعمال الفرنسية،
الهدنة ،ازدياد نسبة مزدوجي
المتعلمة إزاء اللغة إلى قسمين كبيرين :أنصار من غير أن نجد دائما تعارضا مطلقا بين
الطرفين ،وال انسجاما بين مختلف المواقف
المنضوية في هذا االتجاه أو ذاك. المرافعة عن اللغة العربية
يمكن إيجاز آراء المدافعين عن اللغة العربية
كما يلي:
اللغة العربية في الجزائر على أساس ديني، ّ “وصفق مع بعض من ذلك أن “رضا” ضحك
صفقوا خفيفا” بعدما ر َّد على هذا الرأي رجل ذكر في تدخله بأن ال أحد قال بأن العربية “هي لغة أبي جهل” ،مع أن العربية هي في
عبر عنه متدخل خشي أن يوافق الحاضرون ّ
بالقياس إلى ما كان عليه األمر في السابق ،حين
الفوري للتعريب وفي جميع المجاالت، بعد اعتماد الميثاق ،فما هو مصير أبنائنا
الذين ال يعرفون العربية؟” ،وهو تساؤل ال
كانت األحادية اللغوية هي
ّ ينم بالضرورة عن رفض للغة العربية بقدر
القاعدة
مرتبط باستخدام اللغة األجنبية في الحياة
يعبر عن الخوف من ضياع مصدر رزق ما ّ العامة للمجتمع الجزائري ،وهي ظاهرة كانت
عامة تقريبا في تلك الفترة.
-الدفاع عن الفرنسية باسم الفعالية:
أن العربية تستمد في الجزائر شرعيتها من
بنزعته اليسارية ،ال يريد تأسيس شرعية
-الدفاع عن الفرنسية باسم المصلحة:
فقال متسائال “إذا تقرر استعمال العربية
قوله بأن “العربية هي لغة القرآن” ،مما يعني
المؤلف عبدالحميد بن هدوقة المعروف
حجاج أتباع اللغة الفرنسية
اللغة (عربية وفرنسية)
يؤكده مدافع عن العربية ال نعرف عنه سوى
لكن يبدو أن الراوي ،ومن ورائه على األرجح
الفرنكفونيين ،كما ذكر أحدهم في القاعة”.
في القاعة على اقتراح يدعو إلى التطبيق
-الدفاع عن العربية باسم الدين:
كون الشعب الجزائري ينتمي إلى اإلسالم.
التاريخية استخدمها المتفرنسون أيضا
وقد قال صاحبه “من حسن حظ الجزائر أن
األيديولوجي بين اللغتين العربية والفرنسية.
تكون في متناولها لغة متطورة ” ،قاصدا
يبلور هذا الدفاع عن اللغة العربية أحد
واحد إلى “إنشاء بنيات التواصل والتفاعل
العربية غير قادرة على استيعاب الحضارة،
يعني اعتماد االزدواجية اللغوية (عربية
-الدفاع عن العربية باسم الفعالية:
المتدخلين ردا منه على مناهض لها يرى بأن فقال المُ رافع عن لغة المتنبي “… لو شئت ّ تكذب هذا لضربت عشرات األمثلة التي
.
الزعم إن العربية قادرة على تسيير شؤون
..
بذلك اللغة الفرنسية بالطبع ،داعيا في آن
بين اللغتين طوال هذه الفترة االنتقالية”،
وفرنسية) ،كما دعا إلى ذلك ،في نفس الفترة،
المفكر الجزائري والوزير األسبق للتربية
“مصطفى لشرف” ،وبنفس العبارات تقريبا.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
69
ملف
-الدفاع عن الفرنسية باسم التاريخ:
في نهاية المطاف بما يريده المؤلف الذي
بوا" ،مترجمه إلى اللغة الفرنسية ،أدلى به بن
قضية انتهى المطاف بالسلطة القائمة في
بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاة "رشيد
تقدم به نفس صاحب الرأي السابق الذي
يتحمل هكذا مسؤولية هذا الصمت إزاء
تاريخية معروفة" ،21وهو رأي متداول
البالد إلى االعتراف بشرعيتها واعتبارها لغة
يضيف بأن “وضعية الجزائر (…) شاذة لظروف
كثيرا ،كما نعرف في الساحة الثقافية في الجزائر ،يقوم على االعتقاد بأن مكانة
الفرنسية في بالدنا نتاج حتمي لقرن وربع قرن من االستعمار االستيطاني الفرنسي،
لكن من المعروف في ذات الوقت بأن انتشار الفرنسية بين الجزائريين وعلى نطاق واسع
قد تحقق أساسا بعد االستقالل.
والمالحظ في تدخالت المدافعين عن اللغة أن ال أحد منهم يرفض اللغة العربية الفرنسية ّ من الناحية المبدئية ،مما يوحي بعدم وجود
وطنية ،شأنها في ذلك شأن العربية ،ولكن
ذلك بعد تضحيات جسيمة وشرخ مجتمعي.
ميموني" ،الروائي الجزائري الفرنكفوني،
جاء فيه "قدرت دائما بأن الجزائر في حاجة
إلى هاتين الفئتين من الكتاب وقد دافعت
.
كما نالحظ أيضا ،في هذه المحاورة اللغوية،
عن هذا الموقف في مختلف الظروف ومع
غير اللغة الفرنسية ،ال سيما اللغة اإلنكليزية،
وطن الكاتب…] [ غير أن األحداث الدموية
غياب االنفتاح على اللغات العالمية األخرى
"لغة العالم" ،فالجزائر ظلت "وفية" ،وال
تزال ،للغة مستعمرها السابق ،تلك اللغة التي
اعتبرها كاتب ياسين "غنيمة حرب".
أما إذا عدنا مرة أخرى إلى مؤلف الرواية،
ذلك كنت أقول في قرارة نفسي إن اللغة هي
التي ضربت […]
الجزائر وكذلك الجرائم
واالغتياالت التي ]تعرض[ لها المثقفون الجزائريون ،جعلتني أعدل عن هذه الفكرة
الحميمية ،ال؛ ليست اللغة هي التي تميز أدبا عن آخر ،بل القضايا اإلنسانية التي
.
صراع لغوي في نهاية األمر بالجزائر ،وبأن
تتطرق إليها اآلالم التي تعاني منها الجزائر
الصراع الحقيقي الموجود في المجتمع ذو
[…] تستدعي وجوبا من مثقفي اللغتين أن
صبغة أيديولوجية كما أكد المتدخل الذي
يتحدوا مثلما وحدتنا اآلالم التي عشناها
دعا إلى االزدواجية اللغوية ،قبل أن يوضح
.
أثناء االستعمار إن ما يميز كاتبا عن آخر
بأن الصراع الحقيقي هو "بين الرجعية
المساس بمكاسب هذه
ليس اللغة التي يكتب بها ،بل القيم التي
ومن واالهم وبين االشتراكيين" لكن هنا
اللغة أو تلك ،العربية أو
يمكن القول بأن الصراع اللغوي قد خفت
الفرنسية ،في التعليم أو
ومن بين ما يمكن أن نفسر به هذه الهدنة،
والتقدمية ،بين اإلقطاعيين والبرجوازيين
.
يقول "رضا" لـ"نعيمة"" :ليس صحيحا قوله
إن ال وجود لمن يعادي العربية".
يحملها”.
ح ّدته بعض الشيء في السنوات األخيرة.
هذا يعني بأنه توجد في الجزائر مشكلة
اإلدارة أو غيرهما ،كان
ازدياد نسبة مزدوجي اللغة (عربية وفرنسية)
التقسيمات األيديولوجية ،مما يجعلها خارج
يحدث دائما توتر شديد بين
حين كانت األحادية اللغوية هي القاعدة ،إما
لغوية قائمة بحد ذاتها ،مشكلة تتجاوز حدود مقولتي "التقدمية" و"الرجعية" ،بمعنى أننا نجد "تقدميين" و"رجعيين" ولكن يجمع
“المعربين” و”المفرنسين
بينهم العداء للغة العربية ،وبالتالي ال يمكن
عربية فقط وإما فرنسية فقط.
يضاف إلى ذلك أن مشروع تعميم استخدام
السابق اليامين زروال قد وُ ضع في الدرج ّ وتم تشميعه في عهد الرئيس بوتفليقة الذي
الطبقي ،بل ضمن جدلية الصراع اللغوي
والثقافي.
بالقياس إلى ما كان عليه األمر في السابق،
اللغة العربية الذي كان قد أطلقه الرئيس
إدراج المسألة اللغوية ضمن جدلية الصراع
كانت الفرنسية لغة الخطب التي كان يلقيها
تلك هي اآلراء التي ظهرت أثناء هذه
عبدالحميد بن هدوقة ،الذي كانت زوجته
في الخارج ،بالرغم من تنصيص الدستور
أنصار العربية عاطفيا وأنصارها فكريا،
العربية الجزائرية من القالئل الذين وجدوا
للجزائر.
المناقشة التي دارت ،كما يقول الراوي "بين
.
وأعدائها" 24ورغم أن الراوي سعى إلى القيام
بمسح شامل لألطروحات المتداولة حول
اإلشكالية اللغوية في المجتمع الجزائري ،إال
.
أنه ال يمكن اعتبار هذا المسح وافيا ويمكن
بالخصوص مالحظة غياب اإلشارة إلى اللغة
األمازيغية في األطروحات التي ظهرت أثناء هذا التجمع ،رغم أنها كانت حاضرة خالل
المناقشات التي دارت في تلك األيام حول
مشروع الميثاق الوطني.
أي إشارة ولن نحمل الراوي مسؤولية غياب ّ إلى المطلب اللغوي األمازيغي ،فالراوي يتكلم
70
هدوقة في المركز الثقافي الجزائري بباريس
األولى فرنسية ،فهو بين كتاب الرواية قبوال لدى األوساط
الفرنكفونية.
ويمكن
القول بأن الرأي الذي استقر عليه في األخير
مؤلف "ريح الجنوب" هو رأي يقترب كثيرا من موقف رأي المتدخل الذي قال في الرواية
بأن "الصراع الحقيقي هو بين الرجعية
والتقدمية" وليس بين فئتين اجتماعيتين
تفصل بينهما اللغة ،إحداها معرّ بة وأخرى
متفرنسة.
على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية
هكذا بقي ميزان القوة بين العربية والفرنسية على حاله ،مما ساهم في إحداث نوع من
االستقرار في هذا المجال ،ذلك أن المساس بمكاسب هذه اللغة أو تلك ،العربية أو
الفرنسية ،في التعليم أو اإلدارة أو غيرهما،
كان يحدث دائما توتر شديد بين “المعربين”
.
و”المفرنسين” ويمكن القول بأن السياسة
اللغوية المعتمدة قد أفرزت أجياال من
ومن ثمة فإن الصراع الجوهري في النهاية
الجزائريين ما عادوا يحسنون في األخير ال
ذلك من التصريح الذي نقله عنه "مارسيل
كاتب من الجزائر
.
هو صراع أيديولوجي وليس لغويا نستنتج
اللغة العربية وال اللغة الفرنسية وال غيرها
ملف
الدروب الضيقة للكتابة خروج اللغة العربية من الموت سالم سرحان
ال
يمكن مقارنة حيوية اللغة العربية اليوم بما كانت عليه قبل ثالثة
عقود فقط ،تمكنت خاللها من الخروج من كهوف كثيرة لتخمد
جميع األصوات التي كانت تقول إنها لغة ميتة تسكن المعاجم التي يزيد
عمرها على ألف عام.
لكن الكتابة بها ال تزال تعاني من الدروب الضيقة ،التي يفرضها اإلرث الثقيل للمقدس واالبتعاد الطويل عن الحياة وعمّ ا يقوله الناس في حياتهم
اليومية.
.
يغير استقامة أجسادهم وحركة رقابهم وأصواتهم وكانت الحياة تعود ّ
إليهم بمجرد تحولهم إلى اللهجة العامية.
.
كل ذلك تغير اآلن بعد ثورتين رئيسيتين أصبح كثيرون يتحدثون اليوم بلغة فصحى ،لكنها لغة شخصية ومرنة وغير متشددة ،تروّ ض الفصحى
لتكون قريبة من الكالم الشخصي والمباشر.
لو تحدثت باللغة الفصحى قبل ثالثين عاما العتبرني الجميع مجنونا، لكنني اليوم أستطيع أن أتحدث بها مع الناس البسطاء في جميع البلدان
حتى سبعينات القرن الماضي ،كان هناك متحمسون ،وخاصة في لبنان
العربية ،دون أن يثير ذلك استغرابهم ،بل ودون أن ينتبهوا إلى أنني
على مدى قرون طويلة كان الناس يعيشون بلهجات تتأقلم وتتطور مع
تلك هي المسافة الفلكية الشاسعة التي قطعتها اللغة العربية خالل ثالثة
.
ّ نتفهم دوافعهم! ومصر لتحويل اللهجات الى لغات رسمية وكنا
. بلهجات غنية حياتيا ،لكنها فقيرة ثقافيا.
ويعبرون عن جميع مشاعرهم إيقاع حياتهم كانوا يحبون ويكرهون ّ
أتحدث اللغة الفصحى.
عقود ،من لغة بعيدة عن الحياة ،إن لم نقل ميتة ،إلى لغة حية تماما.
لكن ذلك ال ينطبق على ما يكتب وما أكتبه اآلن ،والذي ال يستطيع اإلفالت
في المقابل كان جميع ما يكتب يجري في جزيرة أخرى وبلغة قاموسية،
من وطأة ألف عام من العزلة الثقيلة.
وكان يمكن أن تصبح تلك اللهجات لغات ،لو ّ تم اعتمادها رسميا ،لتكتب بها
فهما أوال؛ ضيوف القنوات التلفزيونية الفضائية ،وليس األخبار المكتوبة
تكمن مراجعها في ما كانت تقوله العرب قبل ألف عام أو أكثر. منجزات الثقافة والتاريخ والمخاطبات الرسمية.
حينها كان حنابلة اللغة العربية ومجمعات اللغة العربية يحتقرون ما
.
يقوله الناس ،وما يحتضن حياتهم ومشاعرهم وكانوا يؤججون نار األزمة بثباتهم وإصرارهم على عدم التزحزح عن مواقهم المطمئنة في
المرجعيات القديمة.
كانت الحياة تجري بلهجات أو “لغات” تنبض بالحياة ،لكن جميع ما يكتب
كان يحدث في كوكب لغوي آخر.
أما الثورتان الرئيسيتان اللتان أنقذتا اللغة العربية من “موتها الطويل”
للمذيعين بموجب دروب الكتابة ،التي ال تزال ضيقة وتدور في بعض
كهوف التاريخ.
الضيوف تعلموا تدريجيا أن يتحدثوا بلغة فصحى ،لكنها مرنة ومفتوحة
على كافة االحتماالت والكلمات دون االلتزام بسياقات تعبير متحجرة. وقد اعتاد الناس على هذه اللغة فأصبحت مألوفة للجميع. تلك الثورة حررت الكالم ،وقربت اللغة الفصحى مما يقوله الناس.
الثورة الثانية هي الكتابة في مواقع التواصل االجتماعي ،التي بدأت
.
كل ذلك الجدل انتهى اليوم بعد أن مرّت اللغة العربية بعدة ثورات منذ
تحرر ما يكتب من دروب الكتابة الضيقة فاألشخاص الذين يكتبون في
نعم استيقظت اللغة العربية في العقدين الماضيين وأصبحت لغة حية، ّ متخشبا وبعيدا عن إيقاع الكالم الرشيق لكن معظم ما يكتب بها ال يزال
ّ وتبث فيها الحياة ،لتقترب يوما أصبحت تلك الكتابة تحرّر اللغة العربية
بالسياقات القاسية.
ذلك ينطبق على ما أكتبه اآلن ،رغم أ ّني أحاول جاهدا أن أقترب من
تدريجيا من تحرير الكتابة من دروبها الضيقة.
عام .1991
والمباشر ،الذي تقترب منه جميع اللغات الحية. .
إيقاع الكالم أحاول استخدام الجمل القصيرة وإنهاء الجملة متى أشاء
.
بأي طريقة واالستجابة لما يفرضه طول النفس كما أحاول أن أبدأ الجملة ّ
أستطيع استخدامها عندما أتحدث!
تلك الواقع يريدون التعبير عن أفكارهم بأقصر الطرق دون التزام متشدد
.
بعد يوم ممّ ا يقوله الناس ،دون كسر فادح لقواعد اللغة وسوف تتمكن
لكن ما يكتب للصحف والمجالت “الرصينة” ال يزال خاضعا لقيود
.
السياقات المتحجرة ولو نظرنا لما يكتبه كاتب محدد في مواقع التواصل االجتماعي ،وما يكتبه لصحيفة مطبوعة فسوف نالحظ الفارق الشاسع!
قبل 30عاما ،كان بعض األشخاص المتحمسين أو المتطرفين ،مثل بعض
هل يعلم الك ّتاب أن القارئ والمشاهد يمكن أن ينقطع َنفسه إذا كانت جملة
في حياتهم اليومية ،أو في بعضها.
قدرة الذاكرة القصيرة على اإلمساك بالمضمون؟
معلمي اللغة العربية ورجال الدين ،يصرون على استخدام اللغة الفصحى
.
كانوا يبدون وكأنهم خارجون من كهوف التاريخ كان كالمهم بالفصحى
المذيع والكاتب أطول مما تحتمله عملية التنفس؟ وأنها ينبغي أن تراعي
شاعر من العراق مقيم في لندن
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
71
مقال
قتل الرقيب الذاتي جريمة الكاتب المباحة جالل برجس ً ً أي قيد وهو في لحظة الكتابة أنفق الكاتب العربي وقتا طويالً يحلم بذلك الفضاء من الحرية والذي له أن أيجعله منعتقا من ّ ً وفي غمرتها االستثنائية ،وعاني ردحا من الزمن كل أشكال الرقابة التي ذهبت به إلى اعتناق جهة من جهات الرمزية ،واستلهام ً س َق َ اجتنابا لويالت ط على اآلني المترع بأزمات عديدة ،وإلى شكل غير مكتمل العناصر من األدب الساخر ،كل ذلك لي ْ التاريخي ُ يؤسس على وعي نقدي ينسحب على كل تفاصيل السلطات السياسية والدينية واالجتماعية التي ال تقبل النقد ،في مجتمع لم َّ
عيشه اليومي .فحظيت المكتبة العربية -رغم جرأة البعض الذين أخلصوا لرؤاهم -بالعديد من اإلصدارات التي جاء جزء منها ً مبتعدا عمّ ا يشغل ويوجع البال العربي المأزوم ،والذي يقف قبالة آالت إعالمية على أهبة مواربة ال تفي بالغرض ،وجاء آخر منها ً سرا تنقل له ،وكأنها تناكفه ،زمن التحرر األوروبي بكل عناصر الحرية فيه ،وبكل سمات التطور ،إضافة إلى ما يصل هذا الكاتب ً كاتبها مكبالً بما يعيقه عن قول رأيه دون مواربة أو تلميح عن بعد. علنا ،من كتب لم يكن أو ُ
ومما
ال شك فيه أن الربيع العربي،
قد زاد في اتساع فضاء الحرية الذي كان ضئيالً قبل تلك األحداث،
وبغض النظر ،هل هو فضاء حرية كاف ،أو
يه ّدد رغبة الكاتب وقدرته على التعبير الحر
المسكوت عنه ،ولهذا يعهدون بكتاباتهم إلى ً ألي شكل من أشكال مواضيع ال تثير إزعاجا ّ السلطات المتعددة في حياتنا أما الجزء
آخر أكثر خطورة من أشكال الرقابة األخرى،
المنعتق ،أال وهو الرقيب الذاتي ،الذي ال يمكن
يمتلك شروط الحرية الحقيقية ،إال أنه يمكننا ً إرهاصا أول لتطور ملحوظ على اعتباره
لبيئة إيجابية ،أسست على عناصر حرية
تعتبر أهم شروط الكتابة لكن التب ّدالت
وقد تشكل هذا الرقيب من جملة من
صعيد الحريات ،وخاصة حرية التعبير التي
.
المتسارعة في المكون العام لذلك الربيع ولما
أرادته الشعوب من فضاء حرية جديد، واختراق هذا الفعل الذي بدأ شعبيا ،ونشوء منظمات إرهابية عديدة ،حد من مستوى
أن يكون إيجابيا إال إذ جاء كنتيجة طبيعية
حقيقية.
العناصر القمعية على مدار التاريخ العربي، ً كثيرا من مظاهر قمع الحريات الذي شهد بمختلف أشكالها ،إلى أن أ ّدت تلك السلسة من
اإلجراءات إلى أن أخذ اإلنسان العربي يتعامل
التعاطي مع هذا الفضاء الحر ،بل تراجع إلى
مع هذا الرقيب الداخلي بسهولة خادعة ،بل ً موهوما -أنه في حالة تصالح فريديشعر
اإلبداعي ،بل علينا التنبه إلى أن الوعي
ً حقا إال أشياء تستوجب المنع وعدم الخوض
األبوي الفردي الذي ح ّد من امتالك الفرد
مستوياتها وتعقيداتها النفسية ،بالعربي الذي
من مؤسسة البيت وأبويته الفردية ،وانتهاء
دائرة في التراب ،ويخبره أنه عائد ليقتله،
مستوى خطير.
لكن ذلك ليس السبب الوحيد في ترهل
وتعرقل مُ بتغيات الحرية ،وأهما حرية التعبير العربي في األصل قد بني على ذلك النمط العربي حريته وحيويته في عيشه ،ابتداء
بالدولة كمؤسسة تدير شؤونه برؤية تضرب ً شكوكا بعدم استعداده ليكون حول هذا الفرد وطنيا بمفهوم هجين عن الوطنية
الحقة.
ولهذا ولد إلى جانب الرقيب السياسي،
72
والرقيب الديني ،والرقيب االجتماعي ،شكل
هذا ،وذلك يأتي من باب عدم ذهابهم في
األصل إلى الفكرة المغايرة والجريئة في قول
.
اآلخر منهم فيقعون عادة في صراع مع هذا الرقيب ،ابتداء من تأمّ ل فكرة ما سيكتبون ً ومرورا بتجسيد الفكرة ،وانتهاء بإطالق عنه،
.
كتبهم هنالك منهم من حسم الصراع وتجاوز
طروحات وأوامر هذا الرقيب ،وتحمّ لوا نتائج ذهابهم إلى حريتهم ،فحظوا إمّ ا بالنفي ،أو
.
االغتيال بش ّتى أشكاله واآلخر منهم من
اتخذ الحل الوسط والذي يرضي من جانب ما ،ما يريده هذا الرقيب ،ويرضى نزعتهم
أي عائق ،وأن ما يقوم معه ،وأنه ال يشكل له ّ ً رضوخا لصوت ذلك الداخلي ،ما هي بمنعه
أن نتائجهم اإلبداعي هذا أصبح ككائن أعرج
بها إذ أراني هنا أشبه هذه الحالة بكل
بالذي امتلك جرأته وقال ما عليه أن يقال.
.
كان الجندي في زمن “هوالكو” يخط حوله
وهذا ما كان يحدث آنذاك ،ويحدث اآلن ولكن
بشكل آخر.
وتتجلى خطورة الرقيب الذاتي في أن بعض الكتاب العرب ال يقعون في صراع مع رقيبهم
نحو الحرية من جانب آخر ،غافلين بذلك عن
لن تستقيم خطاه ،فال هو بالذي صمت وال هو
لهذه األسباب سالفة الذكر ،وأمام تنامي سلطة بعض المنظمات اإلرهابية وصعود تيار تهديداتها ،وقبالة بعض السلطات
السياسية التي ال تقبل النقد المباشر ،وتجذير ّ فضل كثير السلطات االجتماعية والدينية، من الكتاب المكوث على مبعدة من الخطوط
الحمر ،واختيار إما المساحات المحايدة فيما
عوة د
إبراهيم الصلحي
تدعو الكتاب والمفكرين العرب إلى المشاركة في محاورها وملفاتها القادمة
حال الكتاب العربي كيف تنشر الكتب
في العالقة بين الكاتب والناشر والقارئ
االستبداد الشرقي
دور الحاكم المستبد في صناعة االستبداد الديني .
يكتبون ،أو المساحات الصامتة وهذا بالطبع عائد للممارسات السلطوية الدموية من قبل بعض من امتلكوا تلك السلطة،
ّ أهم بكثير من فعل وبات خوف أولئك الك ّتاب على حياتهم ً ألي الكتابة الحر ،والذي يفترض أن يكون ناقدا الذعا ال يرتهن ّ شكل من أشكال السلطة
.
لذا ال مناص من القول من أن الكتابة -بما أنها أداة لتحرير
وعي الجماهير ،حتى لو انطلقت من الذاتي معتمدة
إسقاطاتها على الموضوعي -فعل إنساني عليه أن ال يخضع
.
الشعر والتجريب
هل وصل التجريب الشعري العربي إلى حائط مسدود
الكتابة النسائية العربية
هل تكتب النساء العربيات بلغة الرجل أم أن اللغة بال جنس
ألي شكل من أشكال الرقابة فكيف للكتابة أن تطرح أسئلتها ّ
اإلنسانية قبالة الركون ألوامر الرقيب ،وال بد قبل الشروع أي فعل كتابي من قتل الرقيب الداخلي ،بوعي راديكالي في ّ
يؤدي إلى إنهاء فكرة المواربة ،والرمزية الوهمية ،والتلميح عن بعد ،بما يستوجب التطرق إليه ،وهنا ال أدعو إلى كتابة
ألي أدب جيد ،إنما أشير إلى مباشرة تفتقر للعناصر الفنية ّ حرية مباشرة ،وليست مواربة إن أنهى الكاتب قيد الرقيب
.
.
الداخلي ،سينهي حتما قيود أشكال الرقابة األخرى بخالف ذلك ستبقى أفعالنا الكتابية محض خطوات عرجاء ،في
الكتابة والجسد
الجسد والجنس في اإلبداع العربي المعاصر
الصحافة الثقافية العربية
أحوالها ،توجهاتها ،عالقتها بالكتاب والقراء
زمن على الخطوات فيه أن تستقيم ،لتستقيم إنسانيتنا التي تختنق بفعل أدخنة الحروب ،وصدى عويل القتلى ،وكل مقاصل الطائفية ،ونحر اإلنسان لإلنسان
شاعر وروائي من األردن
فكر حر وإبداع جديد
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
73
74
حوار
فاضل الجعايبي
قتل األب
والتناكر بين األجيال من تجربة المسرح الملحمي لرائدها برتولد بريشت ،والمسرح الفقير لجيرزي غروتوفسكي ،ومسرح الالمعقول عند بكيت ويونيسكو ،ثم مسرح المواقف عند سارتر ،خلق المسرحيون تجربة إبداعية تستوحي نموذجا فكريا فلسفيا ،يشكل بالنسبة
إلى اإلبداع المسرحي ،ذلك الوعي الذي يسنده ويوجهه نحو اختيارات جمالية معينة ،ويفتح له آفاق التأمل الذاتي والكشف أن السمة المميزة لهذا الوعي هي كونه وعيا جماليا مفتوحا على أبعاد سياسية عن مظاهر التحول والتطور .والجدير بالذكر ّ وثقافية واجتماعية مالزمة لزمان ومكان المبدع ،ولعل هذه الخاصية هي التي جعلت الدراما الحديثة تتحول إلى حقل لصراع األفكار المسرحية في آن واحد ،ومجال لتنازع التصوّ رات الجمالية حول المسرح في عالقته بالمبدع والمجتمع الذي يعيش ضمنه
وداخله.
ويبدو أن المبدع المسرحي اليوم قد استفاد كثيرا من التجارب المسرحية الحديثة ،ألنه اقتنع بضرورة الخروج من بوتقة المسرح الجامد ،إلى مسرح حافل باألحداث ،والجهر بمواقفه الخاصة إزاء ما يكتبه ،وتوضيح بعض خلفياته السياسية والجمالية
واأليديولوجية.
وفي ضوء تطور الفكر اإلنساني ،واتساع آفاق المعرفة في البحث عن ماهية الوجود والذات وسبر أغوارها في مدى ارتباطها
بأحداث عصرها وظواهر واقعها المتغير برزت عدة تجارب مسرحية في العالم العربي أيضا ،رغم حداثة عهدها ،تحاول الربط بين التجربة اإلبداعية وفلسفتها وأثر المجتمع واألحداث فيها ،ومن بين هذه التجارب تجربة المخرج التونسي الفاضل الجعايبي، والتي انبنت وتأسست وتواصلت انطالقا من ثقافته كمخرج وفلسفته ووعيه كفنان ومبدع ،وهي في الواقع حصيلة دراسة
وتكوين وتجريب متواتر طامح دائما إلى التجدد واالرتقاء ،وال بد في مثل هذه الحالة من وجود منهج فكري يؤطر التجربة اإلخراجية واإلبداعية ،ألن نسق العمل الفني وصيرورته وتواصله هو في الواقع نسيج التجربة الفردية والذاتية من الناحية
الفنية ،وهذا النسيج هو جزء من خبرة المبدع التي تفرز بدورها وعيا جماعيا ومشروعا مسرحيا تكون فيه الذات الحاملة له مشعة ومؤثرة في اآلخرين ولنا في هذا اإلطار لقاء مع المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي حول مساره المسرحي المتواصل
من أكثر من خمسة وأربعين سنة ،وعن عمله الجديد الذي يعرض هذه األيام “العنف”.
يتخيل ويتنفس مسرحا ،يدير مسرحا ويخلق فرجة مسرحية .يقضي أغلب وقته في تهيئة وتوفير وتطوير رجل يفكر ويبدع، ّ
األرضية المناسبة والضرورية والناجعة لالرتقاء بالفن المسرحي وضمان استمراريته داخل نسق فكري وجمالي ومنهج واضح
دقيق ومنظم.
يعتبر الجعايبي أن العمل الجماعي مبدأ في مساره المسرحي ،وهو أساس التوليد والتوليف والتأليف التشاركي الجدلي ،الذي ينطلق من الوعي الفردي الذي يفرز ويحقق بدوره وعيا جماعيا يعطي دفعا حقيقيا لإلبداع المسرحي في مختلف تمفصالته
ولغاته التقنية والفنية والجمالية .لذلك فالمسرح عنده جماعي تشاركي جدلي أو ال يكون. كيف كانت بداياتك المسرحية ، ،حدثنا عن تجاربك المبكرة
وبداياتك المؤثرة في المسرح؟
الجعايبي :بداياتي المسرحية كانت سنة 1970في فرنسا ،وأنا شاب في سن الخامسة والعشرين ،من خالل مسرحية “ثلج في الصيف” للكاتب
.
المسرحي الصيني” قوان هان تشينغ” ثم بدأت تجربتي بمسرح الجنوب
بقفصة من 1972إلى ،1976والتي أخرجت خاللها ثالث مسرحيات وهي
“جحا والشرق الحائر” و”محمد علي الحامي” و”البرني والعطراء” وهي
نصوص أعدها واقتبسها محمد رجاء فرحات.
بداياتي عبارة عن مرحلة تجريب ومخاض أولي سابق للبداية الحقيقية
األكثر وعيا ونضجا فنيا وجماليا سنة ،1976مع تأسيس فرقة المسرح الجديد مع مجموعة من المبدعين المسرحيين من بينهم الحبيب
المسروقي ومحمد إدريس وجليلة بكار ،فكانت مسرحية “العرس" هي البداية الحقيقية والفعلية في مساري المسرحي ،إضافة إلى ذلك كانت مسرحية “العرس" عمال تأسيسيا لجميع مؤسسي المسرح الجديد الذي
تواصل من خالل مسرحية “الورثة” سنة 1976و”التحقيق” سنة 1977 و”غسالة النوادر” سنة 1980و”الم” سنة 1983و”عرب” سنة ،1987وتميزت
.
األعمال الست األولى للمسرح الجديد باإلخراج الجماعي لتكون
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
75
76
مسرحية “العوادة” سنة 1989نصا وإخراجا مشتركا مع الفاضل الجزيري.
الجماعي ،المخرج والكاتب والممثل.
وقد اختتمت تجربة المسرح الجديد سنة 1991بمسرحية “كوميديا” ،وهي
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى انطلقت تجربتنا في اإلدارة مع فرقة
“فاميليا” رفقة المبدعة والفنانة المسرحية جليلة بكار وقد أنجزت في
الجديد وشركة “فاميليا” ،وكان العمل خاللها جماعيا وهذا ما عملنا عليه
نص وإخراج وسينوغرافيا لي ،ألتجه بعدها إلى تأسيس شركته الخاصة
.
“فاميليا” عدة أعمال مسرحية أذكر من بينها مسرحيات “فاميليا” و”سهرة
قفصة ،ولكنها كانت بطريقة متواضعة ،وتطورت المسؤولية مع المسرح
اليوم داخل المؤسسة وطورناه ،فمثال لوال عمار مطاوع وأسامة الجامعي
خاصة” و”عشاق المقهى المهجور” و”جنون” وثالثيته المتكونة من
وخليل ومحمد بن يوسف وكامل الفريق اإلداري والتقني والفني العامل
ونبهت لما يمكن أن يحدث من صراع وعنف وتدمير التطرف الديني ّ
الفن الرابع ،ولما تحصلنا على فضاء دار المستيري الذي سنحوله إلى
سقوط الحاكم المستبد والطاغية الظالم في مسرحية “يحي يعيش”.
إنتاج وتسويق ساهمت بدورها في إنتاج خمسة أعمال مسرحية خالل
“خمسون” و”يحي يعيش” و”تسونامي” ،التي طرحت من خاللها قضية
.
لإلنسان الحديث والمثقف المستنير في مسرحية “خمسون” ،مستشرفا
بالمؤسسة لما استطعنا تحسين البنية التحتية للمسرح الوطني وقاعة
إقامة فنية ومتحف للذاكرة المسرحية ،ولما استطعنا إحداث خلية
وقد تطرقت في ذلك للرجعية والظالمية ودعاة الخراب تحت غطاء
سنة واحدة ،ولما كنا قادرين على إعداد استراتيجية إلنتاج أربعة أعمال
واإلنسانية المحبة والمسالمة في مسرحية “تسونامي”.
فنحن نسعى من خالل رهاننا على المجهود الجماعي إلى فتح المجال
وفهم ديني رافض للحرية واإلنسان المبدع ولكل أشكال الحياة الحيوية
للمسرحيين التونسيين والذين لهم مشاريع واضحة وجديّ ة لإلبداع في
ظروف مميزة وذات جدوى .وهذا كله يعود بالنفع على المسرح التونسي.
الوطنية فعل دائم هل ساعدتكم كل تجاربكم السابقة على إدارة المسرح الوطني
اليوم؟
الجعايبي:
جديدة للموسم القادم .2016
هذا مؤكد ألن عملنا متواصل ومستمر ونشقه بثبات
ووعي كبيرين ونقد ذاتي دائم حتى نستمر في التقدم والتطور والرقي، ألنه ال خيار لنا إما االرتقاء أو الهالك ،ونحن نعمل ونشقى من أجل
والتميز. االرتقاء المتواصل ،وال ندخر جهدنا سعيا منا إلى اإلضافة ّ
كما أننا نحرص على حسن التصرف في المال العام والحفاظ على مال الشعب التونسي الذي له الحق في التمتع بفن مسرحي يليق به ويحترم
.
ذائقته الفنية فالوطنية فعل دائم وحقيقي وليست شعارا وتشدقا
وتخليا وتهاونا في المسؤولية ،كما أنها ليست وليدة وقتية أو هي دافع
سريع الزوال يعيش غالبا بعد زوال التهديد المجتمعي الذي بعثه.
االرتقاء ممكن
وقد كانت لنا تجارب في اإلدارة ،ولكنها كانت تأسيسية ومتباعدة نسبيا ومختلفة ،فمثال إدارتنا
ومزاج اإلنسان التونسي اليوم وما هو موقع
لمركز الفن المسرحي كانت تنحصر في إصالح
المسرحي في المجتمع والوطن؟
مؤسسة تكوينية نسعى من خاللها إلى الدفاع عن مشروع مسرحي مهني جامع وحاضن للممثل
والكاتب والمخرج ،ولم تكن للمركز صبغة أكاديمية نظرية على شاكلة المدرسة الحديثة اليوم ،بل
كان يرتكز على الجانب التطبيقي أكثر ،حيث أنه كان بإمكان من لم يحصلوا على البكالوريا التمتع بالتكوين المقدم من قبل المركز ،لكن للمؤسسة
اليوم مقاييس أخرى ومهام متعددة ال بد أن تكون
منسجمة ومتناغمة فيما بينها حتى تحقق النجاح.
التكوين جزء مهم في العمل المسرحي ،لذلك
أسسنا مدرسة للممثل منذ قدومنا إلى المسرح
الوطني ،محاولة منا في المساهمة في إعداد ممثلين حرفيين وتكوينهم ،على أن يكونوا من
الشبان الجامعيين حتى يستفيد المسرح الوطني من خدماتهم بعد تكوينهم ،سعيا منا إلى إرساء
ركائز مسرح شاب وخلق تواصل بين األجيال
داخل المؤسسة ،وسنسعى في السنوات القادمة إلى فتح اختصاص يعنى بالكتابة والدراماتورجيا وكذلك فن اإلخراج ،ليكتمل العمل على تكوين
الثالوث األساسي الذي يقوم عليه العمل المسرحي
كيف يرى المسرحي فاضل الجعايبي حال
”التلفزة” ال تهتم بالمسرح
الجعايبي:
اإلنسان التونسي لألسف يكره
البلد ،وليس له اعتراف ال باآلخر وال بالذاكرة ،وهذا
ولكنها تستنزفه وتفرغه
يمكن أن يكون ناتجا عن الحركات االستعمارية،
من الممثلين ،وتساهم
العقد ،وجعلته دائم الخوف ،يحس بانعدام الحرية
في إنتاج صور وخياالت وهمية ألشباح وأشباه ممثلين بوسائل تسويقية
والتي خلقت في اإلنسان التونسي مجموعة من
وال يسعى الفتكاكها والتمتع بها .هذا إضافة إلى قتل األب وتغييب جيل آلخر فهي ظاهرة مرضية.
ولكن هذا ال يجب أن يثنينا عن التواصل مع اآلخر والبحث ،ونحن كمجموعة شعارنا مسرح آخر
.
ممكن وارتقاء بالذوق العام ممكن ويجب أن تكون
انتهازية وتافهة قائمة
هنالك رجات متتالية وأجيال متتالية قابلة لهزائمها
على االبتذال
الخاصة ال تقوم باالحتفاء باألب واالحتماء به ،ثم
ونقائصها وتصنع ركائز لتوجهاتها لتؤسس ذاتيتها
تدعو إلى قتله.
يعتبر البعض من المسرحيين التونسيين
أن فاضل الجعايبي وهو في سن السبعين قد أشرف مسرحه على التهاوي والنهاية ،ما تعليقك على هذا؟
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
77
78
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
79
ولد فاضل الجعايبي سنة 1945بمدينة أريانة التونسية،
درس المسرح في جامعة السوربون الفرنسية وتحصل
فيها على الماجستير في العلوم المسرحية ،كما درس
بالجامعة الدولية للمسرح ومدرسة شارل دوالن للتمثيل واإلخراج .ساهم في تأسيس فرقة الجنوب للمسرح
بقفصة سنة 1972والمسرح الجديد بتونس سنة ،1976كما
ساهم في تأسيس شركة الفيلم الجديد .وقد أدار ودرس
وشارك في إعادة هيكلة مركز الفن المسرحي بتونس بين سنتي 1974و ،1978ليستقر سنة 1993على تأسيس فرقته
الخاصة “فاميليا”.
وبعد تجربة ثرية ومميزة في العمل المسرحي إخراجا
وكتابة وتكوينا وإدارة ،يشرف الجعايبي اآلن ومنذ 2014 على إدارة المسرح الوطني التونسي.
إذا ما اعتبرنا بداية فاضل الجعايبي سنة 1970في
الفرقة الجهوية بالكاف في مسرحية “فصل دون كالم”، فإن للمخرج 45سنة من التجربة المتواصلة في الفن المسرحي.
الجعايبي:
اليتم اللغوي والفكري والمعرفي يجعل من هؤالء
احترام عقل المواطن التونسي ،وإلهائه عن مشاغله وهمومه الحقيقية،
الحقيقي لألثر الفني ،فهم ينشغلون بالشخص وبعد كل مسرحية يقع
ساهمت في تخريب المسرح في لبنان وفي مصر وفي سوريا ،ففي
زاعمين بهذا القول مرتكزين على عامل السن ،ألنهم ال يقدرون على النقد
.
.
قتلك ودفنك وأنت مثل طائر الفينيق هناك مجانية واعتباطية مرعبة
هذه البلدان المسرح يعاني من المسلسالت التي همشته إلى أبعد الحدود
وكأن وجودك يرمي الظالل عليهم ،وفي حقيقة األمر هذا يكشف عن
وتبقى المعضلة مسؤولية كل المسرحيين المؤمنين بهذا الفن المسرحي
بروك مازال يبدع وهو في سن التسعين وأريان منوشكين تبدع وهي
إنسانيةمميزة.
بمثابة شعوذة كبيرة والحقيقة نحن نقدم اليوم عملنا الجديد “العنف” بكل
“العنف” عمل استثنائي
.
يقيد بالسن فالكبار مثل “النبيذ المعتق” ،بيتر كبتهم وقسرهم فالفن ال ّ
.
في سن السادسة والسبعين لذلك فالحديث عن السن المتقدم في الفن
وعي ودقة وثبات.
كفن نبيل وحي وقادر على تغيير المجتمعات واالرتقاء بها إلى درجة
قدمت المسرح الفني الجديد “العنف” في سلسلة من العروض
التلفزة خطر
الجديد :ما الذي يهدد الفن المسرحي في العالم العربي ما أسباب
تراجع المسرح؟
الجعايبي :أوال المسرحيون أنفسهم ،فهم مطالبون بالعمل الجدي
وتطوير وعيهم الخاص والذاتي بمشاكل اإلنسان الحقيقية ،وال بد أن يكون ذلك داخل مشروع فكري وفني واضح وعليهم التخلي عن فكرة “الله غالب” وتوجيه إصبع االتهام ألنفسهم ال لغيرهم ،وعلى كل مسرحي أن ينظر إلى نفسه في المرآة ليرى حقيقته ويواجه أخطاءه حتى يتقدم
.
بثبات وصفاء ويكون حامال لمشروع إبداعي مسرحي حقيقي ثانيا
التهديد الذي يسلط على المسرح من قبل “التلفزة” وهو خطر حقيقي يدمر الفعل المسرحي فـ”التلفزة” ال تهتم بالمسرح ولكنها تستنزفه وتفرغه
من الممثلين ،وتساهم في إنتاج صور وخياالت وهمية ألشباح وأشباه ممثلين بوسائل تسويقية انتهازية وتافهة قائمة على االبتذال وعدم
80
.
فهي تنظر إلى المواطن على أنه كائن مكبوت وال يفهم التلفزة أيضا
المتتالية منذ شهر نوفمبر بقاعة الفن الرابع بتونس العاصمة وكان
.
اإلقبال الجماهيري غفيرا ما هو “العنف”؟
الجعايبي“ :العنف” مسرحية من إخراجي وكانت صياغة السيناريو
مشتركة بيني وبين رفيقتي في مساري اإلبداعي الفنانة جليلة بكار. والتي ّألفت بدورها نص المسرحية بشكل حرفي راق. وكانت السينوغرافيا تشاركية متكاملة بيني وبين قيس رستم الذي صاغ ّ ّ وشخص أدوار المسرحية كل من جليلة حية للعرض، ووقع موسيقى ّ بكار وفاطمة بن سعيدان ونعمان حمدة ولبنى مليكة وهي مجموعة من
الممثلين اشتغلت معها ،إضافة إلى ممثلين شبان من خريجي مدرسة الممثل بالمسرح الوطني وهم أيمن الماجري وأحمد طه الحمروني ومعين مومني ونسرين المولهي إضافة إلى فريق تقني متكامل وكل حسب
تخصصه.
كيف كان تطرقك للعنف مسرحيا اآلن وهنا في حاضرنا المليء
بالعنف على الرغم من أزلية العنف؟
الجعايبي :موضوع العنف معروف ومفضوح منذ اإلنسان األول
وليس لدينا ما نخفيه ،وليس لدينا ما نعرّيه ،فالعنف في الممثل وفي المتفرج وفي عالمنا بأسره ،لذلك نسرد بعض الحاالت منه ونقوم
بمسرحتها ولكم أن تتساءلوا عنها وفيها أيها المشاهدين.
لذلك فعملنا يقدم لآلخر حاالت كما هي ،في قالب فني طبعا ،ما يجعل
هذا اآلخر ،الجمهور ،يتساءل بذاته عن ذاته ،وينتج بمفرده أفكاره أو
نقده لذاته أوال ،ثم ينطلق منها إلى اآلخر ممثال كان أو غيره.
مسرحية “العنف” تسرد خمسة حاالت للعنف فالزوجة التي تقتل زوجها
وهو يقرأ كتابا بدافع صراعها مع سائق تاكسي هو قتل اعتباطي على
.
وجه الخطأ واألم التي تقتل ابنها بحرق نصفه األعلى اعتباطي هو والمثلي الذي يقتل عشيقه ألنه أحبه ،والطلبة الذين قتلوا أستاذة اآلخر، ّ
العنف فعل إنساني يمكن االمتناع عنه ومساءلته مهما كانت دوافعه.
أي سبب ،هي حاالت من العنف كلها تشترك في كونها الفلسفة دون ّ اعتباطية وغير منطقية لنتحول من القتل إلى دافع القتل ،وكأننا أمام
الذي ينتجه اإلنسان بشكل اعتباطي ويكون دافعا للتحول إلى وحشية
فعال أن يمتنع عن إخراج الوحش الذي بداخله ذاك الذي يتحين أن تأتي
ّ تهم درجتها مادام خالق األسباب ومنتج األفعال فأسباب العنف ال
.
العنيفة هو اإلنسان ذاته لذلك فالطرح المسرحي ينطلق من فعل العنف
إنسانية مدمّ رة ومخربة لإلنسان ذاته.
بطل الغريب أللبير كامو الذي كان يقول “اإلنسان يمتنع ،″وعلى اإلنسان الظروف الخصبة ليخرج ،لذلك ندعو الجميع إلى
مقسمة إلى ذوات متنافرة ومتباعدة ثم إن الذات ّ
التساؤل حول العنف واالمتناع عنه ،ونؤكد في
الواضح لمسألة الشخص والشخصية ،فالممثلون،
من الكراهية المؤدية للعنف.
ومتصادمة ،وهذا ما يظهر من خالل الطرح في العرض ،هم أشخاص باألساس يحملون أسماءهم الدنيوية ،ويمنحونها لشخصياتهم
الوهمية التي يلعبونها مسرحيا ليقع التساؤل حول
األنا المنقسم إلى جزأين ،مثل لبنى ولبنى األخرى،
وفاطمة وفاطمة األخرى.
أي قضية وإن دور الفنان ال أن يجد حلوال للعنف أو ّ يطرحها ،بل منوط بالفنان والمبدع أن يقدم قضاياه
كما هي ،دون تكلف أو مواربة ،لكن دون طرح مباشر سطحي أيضا ،والمسرحي يظهر ويخفي ما
يراه ناجعا وذا جدوى في العرض.
المقابل على الحب كميزة إنسانية تحمي اإلنسان
الفرد هو المسؤول أمام ذاته وأمام اآلخر،
فنحن جميعا مسؤولون عن العنف وال بد لنا أن
نحاكم ونحاسب ذواتنا المنتجة للعنف قبل أن
نحاسب اآلخر السياسي واالقتصادي واالجتماعي
وكل فرد ال بد أن يتحمل والثقافي. مسؤولية في ما نحن عليه اليوم من دمار وخراب لإلنسان
فالفرد هو المسؤول أمام ذاته وأمام اآلخر ،وكل فرد ال بد أن يتحمل مسؤولية في ما نحن عليه
اليوم من دمار وخراب لإلنسان
حاوره في تونس :عماد المي
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
81
مسرح
أكاذيب صغيرة مسرحية من فصل واحد درويش األسيوطي
الشخصيات:
( )1الشيخ :قصير ـ هادئ ـ فوق الستين ـ يلبس نظارة طبية.
( )2رجل :1شاب في العشرين ـ حاد المالمح والطباع ـ يلبس
مالبس عادية.
( )3رجل :2في األربعين ـ متوسط الذكاء ـ تبدو عليه آثار العلة. ( )4رجل :3ضخم الجثة ـ فوق األربعين ـ يبدو مسالما. ( )5رجل :4ضئيل الجسم ـ حركي. ( )6المرأة :متوسطة الجمال ـ في األربعين من العمر. ( )7العالم :في الخمسين ـ يلبس مالبس مختلفة عن السائد ـ
يمسك حقيبة أنيقة بيده.
( )8العامل :يلبس نفس طراز مالبس العالم ـ في العشرين ـ ضخم
الجثة.
( )9العامل :2يلبس نفس مالبس العالم ـ في الثالثين ـ ضخم
الجثة.
المنظر:
[الساحة الرئيسية بالمدينة ،نحن أمام ساحة تاريخية ،شيخ على
كرسي متحرك في وسط المكان تحت بقعة إضاءة يقرأ في صحيفة
.
قديمة في وقار وصمت واستغراق تدخل مجموعة أهل المدينة
.
من الرجال وبينهم امرأة الجميع يتقدمون في خطوات رتيبة شبه
.
موقعة وقد رفعـوا في أيديهم وأمام وجوههم تماما أوراقا أشبه
بالمنشورات ،يقتربون بهدوء والشيخ مستغرق في القراءة ال يبدو
رجل[ :مقاطعا] أريد أن أعرف ..الجميع :نريد أن نعرف ..كلنا.. الشيخ[ :مغنيا بسخرية] كلنا ..نحب القمر.. [ضاحكا] ماذا تريدون ؟
..
..
رجل :2هل ما جاء في هذه األوراق صحيح أم ال ؟
الجميع :نريد أن نعرف
رجل : 1نريد.. الشيخ : ال ..ال تنزعجوا ..إنها مجرد أكاذيب ..واألكاذيب يا أحبتي ..كالعالم ..ال تتغير ..ستظل برغم كل شيء ..مجرد أكاذيب صغيرة.. المرأة : زوجي يا شيخ ..لم يعد من يومين إلى البيت.. الشيخ : مخطئ ..زوجك مخطئ يا سيدتي الجميلة.. من له امرأة مثلك ..ال ينبغي أن يتأخر عنها إلى هذا الحد.. المرأة : أخشى عليه.. الشيخ : وأنا موجود ؟!! ..ال ال.. رجل : 1هل سنظل هنا إلى األبد؟
رجل : 2نريد أن ننام.. الشيخ : ناموا!.. رجل : 1أين؟
الشيخ : أرض الله واسعة.. رجل : 3أرضنا ضاقت بنا..
أنه يشعر بهم إال عندما تضيق الدائرة حوله ،يلقى الجميع بأوراقهم
المرأة : بناتنا تشكو العنوسة أيها الشيخ.. رجل : 4ال أجد مسكنا ألعيش فيه ..أريد أن أتزوج.. الشيخ : ولماذا الزواج ..؟ أتريد أن ّ تعقد المشكلة أكثر؟ الناس ال تجد المأوى ..هل تريد أن تضيف مشاكل جديدة ؟!! رجل : 1أنت المسئول عنا.. الشيخ[ : يقرأ في الجريدة] ارتفاع حقيقي في األجور..
[ملوحا بالصحيفة القديمة في وجوههم [
الشيخ : هذا ..من األخبار الخارجية.. الجميع[ : بامتعاض] ..يووه..
الشيخ[ : هاربا إلى وسط الدائرة] أتظن أن العالم تغير منذ
متابعة شؤون الدنيا في صحفنا..
عند قدميه ويجلسون حوله في شبه دائرة كاملة]. الشيخ[ :ضاحكا] ما هذا؟
يقدم إليه أحد الحضور واحدا من المنشورات في صمت ،ينظر
إلى المنشور من تحت نظارته ويعاود الضحك] أتصدقون هذه األكاذيب الصغيرة؟!!
علينا أن نثق في صحفنا! رجل :1ولكنها قديمة؟
صدورها؟!! ال شيء جديد[ ..مغن] مع اإلنسان..
82
منذ وجود اإلنسان.. وجد الخير.. كما وجد الشر ..سيان..
الجميع : ماذا؟
..
الشيخ[ : عائدا بكرسيه للخلف] نحن حريصون كما ترون على رجل : 3لكن ماذا عنّي أنا؟!!
إبراهيم الصلحي رجل : 2ماذا عنك؟
الشيخ : أتظن أنك حققت إنجازا بتوقفك عن التدخين؟!!
..
[ضحك من الجميع] اضحكوا !! أزيحوا ما تضعونه على قلوبكم من غم !! نحن رغم ما نحن فيه نعيش على ّ تل من ذهب!!
..
..
رجل[ : 4يخرج نصف سيجارة ويعيد إشعالها في عصبية] قل
الجميعّ : تل من الذهب؟!!
رجل : 2أستطيع أن أشتري اللحم كل أسبوع !!
رجل : 1وما دخل التاريخ والجغرافيا في الذهب؟!!
..
له هذا األحمق !! وما الفائدة؟!!
..
الشيخ : نعم ..هكذا قال الخبراء ..التاريخ..التاريخ يا أحبتي..
رجل[ : 4متفلسفا] هناك ماليين ال تدخن ..وال تأكل اللحم.. وماليين أخرى تأكل الحم وال تدخن!!..
عظمى عمرها مئات السنين بل عشرات السنين !!
المراة : التروي ماذا ؟أهي نوع جديد من العطور؟
الشيخ : أنت..
الشيخ[ : يقرأ] الترويكا تزور المنطقة…
..
..
رجل : 4أظنها من أدوية األمراض المتوطنة وإال ما الذي جاء
بها إلى المنطقة؟!!
المرأة : أنا أبحث عن زوجي
الشيخ : إن لم يعد ..تزوجتك أنا..
..
الشيخ : إن كان عمرك 4000عام أليس هذا إعجازا؟ هناك دول
..
..
..
المرأة : ومن هذا الذي يعيش 4000عام؟
..
..
المرأة : بعد الشر أنا بنت كذا وعشرين لكنه الحزن
يغير اإلنسان..
..
الشيخ : هذا التاريخ القديم الذي يقف في هذه الساحة يكفينا
ألن نعيش بال مشاكل ..ما بقي لنا من عمر..
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
83
مسرح إبراهيم الصلحي
الجميع : كيف؟
الشيخ : بالتخطييييييط.. رجل : 1طيط ؟!!
..
..
..
الشيخ : نعم ال أقصد طبعا التخطيط أي التخطيط ولكن
أقصد التخطيط التخطيط..
..
رجل[ : 2مندهشا] ال أفهم !!
..
..
الشيخ : أحبتي ال بد أن نعترف أن هناك مشكلة هل
تعترفون؟
الجميع : نعترف
رجل : 2قلت لك ال أفهم.. الشيخ : أعلم ..أعلم ..ولهذا أحدثكم باستفاضة مملة ..نحن في ضائقة ..أتعلمون ؟ الجميع : نعلم.. الشيخ : لكنكم ال تعلمون أننا لسنا وحدنا.. رجل : 3هل هناك من هو مثلنا في الدنيا
رجل : 2ال أظن.. الشيخ : بل تأكد ..واحمدوا الله.. المرأة : السلع عندنا غالية
الجميع : نعم..
..
..
الشيخ : لكنها موجودة هناك من ال يجد القوت !!
الجميع : يا ستار.. الشيخ : وال الماء.. الجميع : يا حفيظ الشيخ : مجاعات
الجميع : يا لطيف
الشيخ : جفاف وقحط..
الجميع : يا رحمن
..
الشيخ : الحمد لله كدنا نخرج من عنق الزجاجة
رجل : 1لثالثين سنة أسمعه يقول ما يقول.. الشيخ : أنا ال أملك عصا موسى ..وال بساط عالء الدين.. رجل : 3أتعني أنك ال تجد حال لمشكلتنا؟!!
الشيخ : من قال هذا ..سألنا أهل العلم.. رجل : 4أهل العلم من؟
بعد أربعين دقيقة وربع ..يمكن أن أعاود التدخين.. الجميع : يا سالم.. الشبخ : دقة.. العالم : هل أنتم مندهشون؟
[ يدخل من الخلفية رجل في مالبس غريبة مخططة بالعرض]
المرأة : بل أنا معجبة..
حقيقي..
أكن أتوقع أن أجد بين هذه الخرائب من لها هذه العيون أو هذا
..
..
..
الشيخ : أقدم لكم نابغة التخطيط وبحوث العمليات عالم
..
الجميع : عالم؟!!
[يعلق حقيبته التي يحمل على كتفه ويفرك يديه]
الشيخ : اسمح لي يا سيدي بتقديمك. لدي ..ال وقت العالم : ال وقت ّ رجل : 1اشرب شايا!!.. العالم : في الخامسة تماما
..
المرأة : لقمة على ما قسم !!
العالم : في السادسة تماما. رجل : 4نصف سيجارة.
..
..
العالم[ : في مراهقة مفاجئة ] بل أنا المعجب !! تصوري لم
..
..
..
القوام أو هذه الـ [ مشيرا إلى األرداف] الجميع : والمشكلة؟
العالم : عفوا ..أنا جاهز.
84
العالم[ : يخرج من جيبه ساعة غريبة ويقربها من أذنه]
..
العالم : المشكلة أنكم تعقدون األمور [للمرأة] طبعا تعرفين ما أعنيه؟
المرأة : أعرف ..وأعرف أنكم تسهلونها.. الشيخ : يا مسهل ..هل ندخل في الموضوع..؟ الجميع : ندخل.. الشيخ : نحن نعرف أن وقتكم ثمين ..ونحن سعداء برأيكم في المرأة عندنا ..ماذا نفعل العالم[ : هارشا رأسه ثم بعد لحظات] األمر بسيط ..يلزمكم مشروع قومي لإلسكان.
رجل : 2إسكان؟ رجل : 1أين؟
..
رجل : 3ال يوجد شبر في المدينة من األرض الفضاء ؟!!
العالم : ال بد من إخالء هذه الساحة.. الجميع : ماذا؟
رجل : 2وبيوتنا؟
رجل : 3مقابر أجدادنا. رجل : 4كل ما نملك هنا.. الشيخ : صبرا ..صبرا ..ال تقلقوا ..نحن أصحاب القرار.. العالم : ال تقلقوا ..كله في الخطة.. رجل : 2بيوتنا. رجل : 3مقابر أجدادنا. المرأة : أطفالنا. العالم : هناك خطة للحل على مراحل ..خطة مرحلية.. برنامجنا له قلب ..وعيون.. المرحلة األولى قلب.. الشيخ : قلب.. العالم : إخالء المباني العامة فقط ..ال مساس بغير ذلك
الشيخ : ال مساس [جانبا] في هذه المرحلة.. العالم : المدارس ..المالجئ ..دور الحضانة ..المسارح.. المسارح يجب إزالتها أوال. رجل : 2والموظفون.. العالم : كله في الخطة. رجل : 2ماذا عن الموظف. العالم : سيتحمل المشروع راتبه.. رجل : 3دون عمل؟
..
..
العالم : يكفي أن نعمل نحن نيابة عنكم ويمكن لمن يريد
..
..
أن يعمل في الفنادق في المطاعم في دور النقاهة واالستشفاء
والمالهي..
..
..
رجل : 3أال يوجد في خطتكم مصانع مثال ؟
..
..
العالم[ : منزعجا] أووه ال بالتأكيد !! هل تريد أن نلوث
..
..
..
البيئة ؟!! نحن نريدكم كما أنتم مدينة خضراء مزارات
.. التاريخ..
..
..
..
تاريخية فنادق حدائق مالهي ال ينبغي أن نلوث جالل
رجل : 1ومن يرفض.. العالم : يمكنه أن يهاجر..
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
85
مسرح
..
..
..
الشيخ : لم ال نحن بلد حر ال نمنع أحدا من السفر ليس
رجل : 4هل يزول هذا الحبر؟
رجل : 1ويترك بلده.. العالم : يا عزيزي ..الهجرة سلوك حضاري ..طبيعي.. الحشرات تهاجر ..األسماك تهاجر ..الطيور..
رجل : 3ال أذكر.. رجل : 1لن يزول هذا الحبر..
لدينا قائمة منع..
رجل : 2والمرحلة الثانية؟
المرأة : ومتى كان آخر حذاء اشتريته؟
رجل : 4ومن يحتاج إزالته؟
العالم : ماذا قلتم؟
العالم : سنكون مستعدين الستيعابكم في شقق
الشيخ[ : يخلع حذاءه] موافقون.. الجميع : موافقون..
العالم : بالطاقة الشمسية.
العالم : هذا جميل ..هذا حسن ..هذه وثيقة حسن النوايا..
..
مفروشة مضاءة…
المرأة : شقق مفروشة؟ مضاءة؟ رجل : 4بالطاقة الشمسية؟
[يتقدم الشيخ ويضع بصمة قدمه على الورقة فيتبعه الجميع]
[يطوي الورقة ويعيدها والختامة إلى الحقيبة في حرص ثم يعطي
العالم : وأطباق التقاط البث المباشر..
إشارة بيده للخارج]
الشيخ : نحن نفوضك في حل المشكلة بالطريقة الهندسية
أصوات : هنا خالصكم
اآلن ..نبدأ العمل.. رجل : 3البث المباشر؟ الجميع : اآلن.. العالم : ستشاهدون ما يحدث في العالم لحظة بلحظة.. العالم : نعم اآلن ..ال وقت لدينا نضيعه ..علينا أن نفعل شيئا منوعات رائعة 24 ..ساعة. لإلنسانية.. رجل : 4هذا جميل. رجل : 3إنسان والله. الشيخ : ألم أقل لكم ..ال تقلقوا.. رجل : 4مخلص. العالم : تبقى لدينا مشكلة بسيطة.. المرأة : ورقيق.. الجميع : يووه ..مشكلة مرة أخرى؟ الشيخ : يقول بسيطة ..بسيطة إن شاء الله ..ال تعقدوا األمور ..الشيخ : ودقيق.. رجل : 3عالم.. رجل : 2وما هي؟ [يدخل رجالن يدفعان أمامهما آلة تقترب في شكلها الخارجي من العالم : مشكلة ..هندسية.. آلة درس القمح ،لكنها تأخذ الشكل البشري .ولها فتحتان أحدهمـا رجل : 3هندسية؟ الفم ،وقد رسمت عليه ابتسامة عريضة وينبغي أن نالحظ الشبه العالم : بحتة.. بين اآللة وتمثال الحرية] العالم : اقتربوا.. رجل : 1ومالنا ومال الهندسة البحتة؟ [الشيخ والعامالن يرددان خلف العالم] أصوات : اقتربوا. رجل : 2عندنا مهندسون.. العالم : اصطفوا.. الشيخ : المشكلة تحتاج لرأي الخبراء.. أصوات : اصطفوا العالم : فعال.. العالم : األطول فاألطول.. الشيخ : ونحن نحب أن نترك العيش لخبازه.. أصوات : فاألطول. العالم : ال أفهم العالم : هنا خالصكم.. رجل : 1ال تفهم ..وتحل مشكلتنا ؟ المناسبة..
..
العالم : أنا ديمقراطي هل توافق األغلبية على رأيك هذا ؟
.. أصوات : موافقون.. العالم : هذا جميل ..هذا حسن.. الشيخ : طبعا أتوافقون؟
[يخرج من الحقيبة ورقة مطوية بشكل معين يبسطها على األرض
ويخرج بعدها ختامة كبيرة يضعها إلى جوار الورقة] عليكم توثيق
هذا الرأي بالتوقيع عليه بأقدامكم..
الجميع : بأقدامنا؟
العالم : نعم ..بأقدامكم اليمنى ..هذا مهم ..إخلعوا أحذيتكم.. رجل : 2كنا نبصم بأصابعنا. الشيخ : هنا المفاجأة ..حذاء لكل مواطن.. [يبدأ الحضور في خلع األحذية]
رجل : 3يذكرني هذا بأول حذاء اشتريته.
86
العالم : أدخلوا إلى فردوسنا الحضاري.. اصوات : أدخلوا ادخلوا..
..
العالم : تخلصوا من كل ما يثقل نفوسكم من عنصرية من
..
..
..
الشك والقلق والخوف والضغينة نحن أبناء أمّ واحدة هي
األرض[ ..مشيرا لفم اآللة] هذا مدخلكم للحل العلمي لمشاكلكم.. أبشروا..
أصوات : أبشروا
..
..
..
العالم : األمر ليس صعبا وليس معقدا بهذه اآللة سنحل مشاكلكم الهندسية
[يضع العالم في اآللة مفتاحا فتصدر عنها نغمات مختلطة لنشيد
بالدي بالدي والماسليز وحفظ الله الملك ودينج دونج في لحن
عبثي] ّ ّ [الشيخ يصف الناس صفا واحدا أمام فم اآللة ] رجل : 1ما هذا
يا مجانين؟
.. .. يومها جئتم أنتم لكي تمارسوا الفعل الحضاري بشروطكم.. من فوق ظهور خيولكم ..واآلن ..جاء دورنا نحن لنعبر إليكم فوق آالتنا !!..ونمارس نحن الفعل الحضاري الذي توقفتم أنتم عن ممارسته !!..وبإتقان..
..
فاعل ومفعول به لقد كنا في يوم من األيام في الدائرة الثانية !
إبراهيم الصلحي
العامل[ : 1يحضر مكعبا آخر] هل هذا الحجم مناسب يا سيدي؟
.. ..
..
العالم : أعتقد وأعتقد أيضا أن مترا مربعا واحدا يكفي
..
الستيعاب كل هؤالء بعد أن وضعناهم في الحجم األمثل أما
..
..
.. ..
بقية هذه األرض كل األرض فهي لنا… !! دورنا الحضاري هو
االستغالل األمثل لكل الموارد أليس هذا هو التعريف العلمي
لإلدارة؟ االستغالل األمثل لكل الموارد المتاحة..
العامل : 2إنهم يتصرفون في مكعباتهم وكأنهم ما زالوا بحجمهم القديم؟
..
..
العالم : دعهم في وهمهم يظنون أن العالم ال يتغير هذا في
مصلحتنا ..دائما.
[يضحك بشيطانية] العامل : 1أستطيع أن أحضر أسرتي؟
المرأة : لعلها آلة تبخير ..لن تضر. رجل : 4أمراض الصيف زادت. رجل : 3لن نخسر شيئا.. المرأة : سنوفر الصابون.
العالم : أدخلوا … أدخلوا في صمت.. أصوات : أدخلوا أدخلوا.. العالم : رددوا اللحن اإلنساني ..لحن الخالص من مشاكلكم المزمنة ..من عقدكم القديمة ..أمامهم أيها الشيخ..
[ينهض الشيخ من على كرسيه المتحرك نشيطا ،يبدأ في الدخول
وخلفه الجميع واحدا واحدا إلى داخل اآللة ،وعندما يختفي الجميع
داخل اآللة أو هكذا يبدو ،تبدأ اآللة في إصدار أصوات مزعجة وتتحول إلى ثعبان ضخم بعد لحظات
يسقط من الجانب اآلخر من ناحية الذنب مكعب صغير في حجم
علبة السجائر أزرق اللون يسرع العالم ويلتقط المكعب في حرص ويتجه للصالة]
..
لقد كانت مشكلتنا في حجمكم أنتم تشغلون مساحات أكبر
..
.. المناسب ..أيها األصدقاء ..لن نحتاج إلى كل هذه األرض لتسكنوا فيها ..لن نحتاج إلى كل هذا التاريخ ..نحن نريدكم بهذا الحجم.. من الالزم وهكذا يكون الحل العلمي أن تكونوا بهذا الحجم
[يفتح المكعب ويخرج دمية للشيخ]
الحجم المثالي ..التاريخ اإلنساني أيها األصدقاء ..دائرتان..
العالم : طبعا. العامل : 2كلبي سيجد مساحة واسعة ليجري.. العالم : ذكرتني ..كيف حاله اآلن ..أما زالت تنتابه المخاوف النفسية. العامل : 2ال ..عالجه األخصائي النفسي ..وهو اآلن بخير.. العامل : 1كلما تذكرت حالته ..صوته الضعيف ..بكيت.. العالم : نعم ..نعم ..أنا كذلك..وكلما تذكرت النظرة الحائرة في علي النوم.. عينيه ..استعصى ّ العامل : 1رقة مشاعر إنسانية.. العالم : نحن البشر ..نملك الحس اإلنساني ..ولهذا نحن أفضل المخلوقات ..ولكن هذه األفضلية ال تعطي لنا الحق أن نتجاهل حيواناتنا البائسة ..علينا أن نعاملها بلطف ..ورقة وحنان ..علينا أن
نعطي لها من الحرية ما يمكنها من العيش
..
..
دون مشاكل نفسية تذكروا إننا رسل حضارة وأن علينا أن نقيم
مجتمع الحرية ..واإلخاء ..والمساواة ..لكل البشر.. العامل[ : 1منزعجا] كل اليشر يا سيدي؟!!
..
العالم[ : يضحك] ال أظنك تقصد [يلقي بالمكعب على األرض
..
..
وبدمية الشيخ في يده] إشش بدأ الشيخ يفيق [مخاطبا الدمية]
..
..
..
ماذا تقول يا سيدي ارفع صوتك تريد أن تنام ؟! ال تقلق عندي
بيت جميل.
[يخرج من الحقيبة نموذجا لبيت خشبي ملون] ال تقلق ..عندي ري ..انظر يا سيدي.. بيت جميل ..بحديقة صناعية ..ال تحتاج إلى ّ حجرات واسعة ..بالنسبة إليك طبعا ..حمامات ..مالعب ..كل شيء مناسب لحجمكم الجديد[ ..ينصت] ماذا ؟ ال ال ال تصدق ..تكلفة المشروع
مناسبة ..ال تصدق ..إنهامجرد أكاذيب صغيرة..
[يضحكون والثعبان يعود مرة أخرى إلى شكل تمثال الحرية] [إظالم]
كاتب من مصر
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
87
أصوات
مثقفون ولكن أصوليون حميد زناز
لم
تعرف الحداثة نسخة أش َد حزنا وال أكثر مسخا مما عرفته في بالد العرب والمسلمين ،فهل يمكن أن يتمدن الجسد ويبقى
العقل في معزل عن التمدن والحضارة ،كيف يمكن أن يعيش اإلنسان في عصرين متباعدين في آن؟ ما هي النتائج المترتبة عن هذا التمزق
ُ نحت أسئلة جديدة ،لقد بات ضروريا تهديم كل لم يعد كافيا اليوم
.
األجوبة القديمة تعاني النخب في ديار اإلسالم من عسر نظري مزمن
.
ّ توهم الوصول إلى الحداثة على قارب الدين فكأن الدين يدفعها إلى
.
الحاصل في الذات العربية التي تعيش ماديا في القرن الحادي
يتكلم فيها حينما تتكلم فهي ال تملك الشجاعة األدبية وال تشعر
يكفي وصول المالحظ إلى بلد من البلدان العربية أو اإلسالمية ليقف
للمساهمة في تغيير الذهنيات ودفعها نحو األفضل ،نحو الفصل بين
وهذه الفوضى الذهنية تنعكس على الواقع فترى الناس هائمين على
وما ينشر من كتب في العالم العربي يقف على نكتة لم تعد تضحك
والعشرين وذهنيا في القرون الخوالي؟
على الفوضى المفهومية التي تعتري البشر وتغرقهم في اغتراب شديد،
وجوههم كأنهم لم يجدوا رأس الخيط.
بواجب إعادة النظر في الموروث الديني ذاته وهو شرط ضروري
.
الحياة وما بعد الحياة ومن يتابع عن كثب ما يكتب في الصحف أحدا هي موضة إمساك العصا من الوسط :حداثة إسالموية وإسالم
حداثوي.
ويعود السبب بالدرجة األولى إلى أزمة المثقفين إذ تعاني شعوب العالم العربي واإلسالمي من مرض عضال هو ُ “نخبها” السياسية
لقد أوضح صاحب جائزة نوبل لآلداب سنة 1980البولوني ميلوش
العربي اإلسالمي يشبه حال المثقفين اليساريين في فرنسا الستينات
وعرافين وكهنة في الدول الشيوعية مبينا كيف كانوا مجندين من
.
عموما والثقافية على وجه الخصوص فحال “المثقفين” في العالم
والسبعينات من القرن الماضي أولئك الذين كانوا يبرهنون على عدم
وجود الغوالك بترديد بعض مواد من الدستور السوفييتي.
شيزالو في كتابه “الفكر األسير” ،كيف تحول المثقفون إلى سحرة قبل الحزب لتبرير
الخطايا..
يفعل المثقفون-العرّافون في الدول
.
العربية اإلسالمية أحسن بكثير من زمالئهم الستالينيين فهم يجهدون
كذلك تفعل غالب النخب المتأسلمة اليوم :تنتخب بعض آيات من
أنفسهم في محاولة عقلنة الالمعقول مرتكبين ممارسة مدح أعمى
وأحيانا دون وعي الطريق للدولة اإلسالمية القادمة أو لذلك الشيء
دون وعي إلى سند ثقافي وإعالمي للظالمية ،فيبدو حالهم أقرب َّ مؤلفه إلى حال الكاردينال روشيليو ،ذلك الذي كان يكتب مرتاح البال
القرآن ومن األحاديث النبوية “لِتؤمثِل” عهد الخلفاء ول ُِت ّ مهد بوعي
الذي يسمّ ى كذلك.
تستغل الميليشيات الثقافية الوضع الديني لتزرع اليوتوبيا عن طريق
الشارع والمدرسة ووسائل اإلعالم وهكذا تؤبد ،في غفلة من العقل النقدي ،هيمنة اإلسالم السياسي أو ما يسمى اليوم باألصولية وبتسمية
.
للتراث الديني اإلسالمي وبذلك االنبطاح الفكري يتحوّ لون بوعي أو
“كتاب المسيحي الفاضل” في الوقت الذي كانت فيه مدينة باريس
.
محاصرة وعلى وشك السقوط يغمض كثير من “المثقفين” أعينهم حتى ال يروا االنحطاط الحاصل ،فيتخذ بعضهم من األدب الثرثار ملجأ
.
أخرى أكثر دقة هو أوهام اإلخوان المسلمين ،وهكذا تقطع هذه
له ويغرق من تبقى في شبه بحوث جامعية تدخل في إطار المعرفة
والح ِ َ رْف الفهم الديني للوجود سقط الذين يشتغلون في دنيا الفكر
ّ يغضون الطرف عن الخرافات واألساطير التي تعشش في مجتمعاتهم
مقابالت لمنتجات الحداثة ،يسقطون المفاهيم القديمة على الواقع
ما أطرف أن تجد من يكتب ويحاضر في “ما بعد الحداثة األدبية-
الميليشيات الطريق أمام كل األصوات الداعية إلى التخلص من قبضة
.
في فخ الدين وثقافة التعليب فراحوا انطالقا من حمّ ى البحث عن
الجديد المتجدد والمفاهيم الحديثة على الوقائع العتيقة ،بل ساهموا
.
في تحويل كثير من األفكار المسبقة إلى بديهيات حرّفوا وأسلموا كل
شيء بغية إشباع بعض رغبات مكبوتة أو للتمويه عن إفالس الذات
البين. ّ
جعلوا األموات يحكمون األحياء إذ في كل بقاع األرض تمرّ األجوبة مرّ
الكرام وتبقى األسئلة قائمة ،أمّ ا هنا فيحدث العكس ،يُ حتفظ بالجواب
88
ُ وتطرد األسئلة.
.
الزائدة ينتقد كثير منهم الحداثة -وهي فعل نقدي أساسا -لكنهم
وتراثهم الديني على وجه الخصوص.
الفلسفية” وهو يتخبط في بنى اجتماعية وإبيستمولوجية ما قبل ُّ وتعقلها قبل أن نتمكن من صنع حداثية! كيف يمكن نقد الحداثة
مسمار؟ ال يعدو أن يكون الحديث عن “ما بعد الحداثة” في الوقت
الراهن سوى محاولة لتهيئة الرأي العام لقبول ما قبل الحداثة الحالية.. يشير هادم األصنام ،الفيلسوف نيتشة ،إلى هذه العوائق البسيكو- ثقافية التي تكبل عقل اإلنسان قائال “ما مقدار الحقيقة التي يمكن
عوة د تدعو الكتاب والمفكرين العرب إلى المشاركة في محاورها وملفاتها القادمة
حال الكتاب العربي إبراهيم الصلحي
كيف تنشر الكتب
في العالقة بين الكاتب والناشر والقارئ
لعقل أن يتحملها بل يجرؤ على تحملها؟ ذلك كان المعيار
.
إلي في تحديد القيم ليس الضالل هو الخطأ الحقيقي بالنسبة ّ
...
وإنما الخطأ هو الجبن [ ] كانت الشجاعة مصدر كل نصر وكل
خطوة نحو المعرفة”.
ال مهمة مستعجلة للنهوض بالفكر العربي غير فلسفة المطرقة،
ألن القلم لم يكن في معظم الفترات وإلى حد الساعة سوى امتداد للسبحة ،وذلك ألسباب ذكرها نيتشة وأخرى ثانوية كثيرة ،تجنب “المثقفون” كل احتكاك مباشر مع الدوغما التي
.
االستبداد الشرقي
دور الحاكم المستبد في صناعة االستبداد الديني
الشعر والتجريب
هل وصل التجريب الشعري العربي إلى حائط مسدود
تخنق مجتمعاتهم فمنذ مدة طويلة ،لم تضرب المطرقة
ضربات جدية في العقل المُ كوَّ ن وهو األمر الذي ّ عطل حركة الفكر في الوطن العربي وجعله ال يجرؤ على تعقل الواقع ،وهو
ما مدد نزهة العرب في التاريخ.
إنني أتساءل عن جدوى بعض المثقفين أو من يزعمون أنهم
الكتابة النسائية العربية
هل تكتب النساء العربيات بلغة الرجل أم أن اللغة بال جنس
كذلك مثلما تساءل ديوجان محقا بخصوص سقراط :ما نفع
امرئ أمضى حياته كلها يتفلسف دون أن يزعج أحدا؟ ما زال المثقف العربي المسلم يتخبط في أزمة أخالقية خانقة ،وينبغي على هذا المخلوق إن رغب أن يتحول من حالة الهيولى الفكرية
إلى مثقف بالفعل مواجهة غولين اثنين :استبداد السلطة وجهل
.
الجماهير ويتم هذا بالكف عن بلورة جشع األولى وانتهازيتها
وتحويل أحكام الثانية المسبقة إلى رأي عام أو ثقافة ،فكثيرا ما تراجعت قوى الحرية والالئكية أمام قوى التخلف عندما
تخرج هذه األخيرة قميص عثمانها المتمثل في المقدسات
الكتابة والجسد
الجسد والجنس في اإلبداع العربي المعاصر
الصحافة الثقافية العربية
أحوالها ،توجهاتها ،عالقتها بالكتاب والقراء
.
وغيرها من المُ رهبات وهو ما جعل المجتمعات العربية تدور حول نفسها وتبقى عاجزة عن تكوين نخب حقيقية قادرة على
إحداث قطيعة معرفية كفيلة بدفع اإلنسان العربي إلى التصالح
.
مع عصره “أتبتغي حياة سهلة؟ ابق قريبا من القطيع وادفن
نفسك فيه” ،هكذا تكلم نيتشة على لسان زرادتشت ،وهذا هو
في األغلب األعم حال المثقفين العرب اليوم
كاتب من الجزائر مقيم في باريس
فكر حر وإبداع جديد
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
89
90
سجال
حوار عل حوار أقالم تحاور عزيز العظمة ي مطلع عامها الثاني تواصل "الجديد" مع هذا الملف ما بدأته مع عددها األول من محاورات
فكرية وسجال بين كتاب ومفكرين عربا ومفكر ضيف تحاوره وتضعه في مقعد المساءلة الفكرية واألدبية واألخالقية حول طبيعة تشاكله مع قضايا عصره وطبيعة انشغاله
بالمجريات الكبرى التي يشهدها العرب ثقافة واجتماعا.
هنا 5مقاالت تتحاور وتنتقد وتالحظ وتستخلص انطالقا من األفكار التي طرحها المفكر
عزيز العظمة في العدد الماضي من "الجديد" بصدد موضوعتي األصولية والحداثة وما
اصطلح عليه بـ"الصعود األصولي" في العالم العربي. و"الجديد" تترك الباب مفتوحا لمزيد من المساجلين ،وللمفكر العظمة للرد على منتقديه.
قلم التحرير
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
91
سجال
حوار مع أفكار عزيز العظمة
في األصولية وشروط صعودها
ال نعتقد أن األصوليين بلهاء يعتقدون
جاد الكريم الجياعي
بإمكان العودة بالزمن
أو دحرجته إلى
الوراء .يتعلق األمر
في اعتقادنا بالمثل
األعلى األخالقي ،الذي تتّخذه هذه الجماعة
األصولية أو تلك
أوالً ،وباأليديولوجية ً ثانيا، التي تتبناها
ً ثالثا. وبإرادة السلطة
والطابع السلفي لجميع
األصوليات ،في أيامنا، يعني النكوص عن
التمدن واالنتقام من الحداثة ،القترانهما بتفاوت اجتماعي
صارخ ،وآليات ظالمة
لالصطفاء االجتماعي
والتهميش الثقافي
والسياسي ،وسيطرة
شبه تامة على الجسد
االجتماعي ،هنا وهناك، ً منضبطا أشد ما لجعله
يكون االنضباط ،وقد بلغت هذه السيطرة
ذروتها في النظم
النازية والفاشية
والستالينية وفي
التسلطية عندنا وعند
غيرنا ،ما يستوجب نقد التمدن المبتور
والحداثة الناقصة ،ال
نقد ضحاياهما ،فالنجاح
والتقدم يستحقان النقد ً أيضا.
األصولية ظاهرة تاريخية وعالمية ،تكمن جذورها المعرفية في تماهي األصل والهوية ،لدى األفراد والجماعات.
ً بعضا ،هي العرق واألسطورة والوهم ،وال سيما وهم ولفكرة األصل ثالثة مصادر رئيسة متواشجة ،ويغذي بعضها مركزية اإلنسان في الكون ،ومركزية الجماعة النسلية على كوكب األرض ،فما من جماعة نسلية ،عشيرة أو قبيلة، إال ولديها اعتقاد راسخ في وعيها وال وعيها بأنها تحتل مركز األرض (المنبسطة) ،وتمتاز وحدها بصلتها المباشرة ً شأنا ،فال يبلغون بالسماء ،وكل من يعيشون خارج حدودها وخلف أفقها المعرفي واإلدراكي دونها منزلة ،وأقل منها
شأوها ،وال يتمتعون بمزاياها ،فهي نسيج وحدها وفريدة عصرها.
ال تزال
البشرية كلها أو بعضها تضمر أصولها العرقية،
وتعيد إنتاج أساطيرها وأوهامها ،وتنتج ً وأوهاما جديدة و”حديثة” ومن أحدث هذه األساطير أساطير
.
واألوهام األساطير القومية وأوهام السيادة والشرعية ،التي
رصد الظواهر األصولية ،وتساعد في تعريف األصولية ،مثل “الحق في حكم الناس وتسيير حاضرهم ومستقبلهم” ،نوافقه ً جميعا وعرّ ف األصولية بقوله “لقد اكتسبت هذه اللفظة عليها
.
من الالوعي الجمعي ،الذي يختزن معطيات ماضيها “الطبيعي”.
ً اصطالحيا يشير إلى أشخاص أو جماعات أو أمزجة معنى ً ّ ُ وأهواء تنطوي على مفارقات تاريخية وتستند إليها ،وتسلم
الكبيرة أو الكلية والمجتمعات الصغيرة ( ،)communitiesالتي لم
على نحو خيالي) لجماعية معينة ،أي األمة في كال المعنيين:
تنطوي خطاباتها على أصولية قد تبلغ حد العنصرية ،وتتغذى ً دوما في المجتمعات بهده المعاني تكون األصولية ممكنة،
تحقق ما يُ رمز إليه بالثورة الكوبرنيكية ،على صعيد المعرفة
والفكر والثقافة ،أي المجتمعات والجماعات التي لم تتغير
زاوية نظرها إلى الكون والعالم ،وإلى اإلنسان عامة والمرأة خاصة ،ولم ينتقل مركز ثقل المعرفة لديها من السماء إلى
األرض ،وال تزال أسطورة الخلق التوراتية وما قبل التوراتية حية في نماذج تفكيرها وإدراكها وتم ُّثلها وعملها وعالقاتها بتجليات ماهيتها اإلنسانية ،أي بمن يتشاركن ويتشاركون معها في الطبيعة اإلنسانية ،سواء كانت هذه المجتمعات
تقليدية أم “حديثة” ،تدين باإلسالم أم بالمسيحية أم بالبوذية
أم بالكونفوشية ..أم غيرها.
ببدايات وتفترض بدايات كاملة وناجزة (في معظم األحيان
األمة الوطنية والجماعة الدينية (اشتراك في المعنى يقود إلى
غموض عام وتشوش أو ازدواجية في العربية) أو الطائفة أو
.
أي شيء يُ تخذ على أنه جماعة طبيعية ما قبل سياسية تتم ّ
مناقضة صورة هذا العصر الذهبي بصورة حاضر فاسد منحط ً وأخيرا ،إن القيام بمحاولة إلعادة تكوين الحاضر على جاهلي
.
صورة العصر الذهبي واستئناف البدء هو السمة المميزة لهذه
األصولية”.
وال نوافقه في قوله “تكمن المفارقة التاريخية في افتراض التغير الذي حدث وأن أ ّنه يمكن الرجوع بالزمان إلى الوراء، ّ ّ على امتداد أكثر من ألف سنة هو وهم أو على األقل قابل
ومن ثمة ،فإن األصولية ال تقتصر على األصولية الدينية،
للرد وللدحرجة إلى الوراء” ،إذ ال نعتقد أن األصوليين بلهاء
األصولية ،واألصولية اإلسالمية ،السنية أو الشيعية ،ليست
األمر في اعتقادنا بالمثل األعلى األخالقي ،الذي ت ّتخذه هذه الجماعة األصولية أو تلك أوالً ،وباأليديولوجية التي تتبناها
وهذه األخيرة على سوئها ووحشيتها ،ليست أسوأ مظاهر
.
يعتقدون بإمكان العودة بالزمن أو دحرجته إلى الوراء يتعلق
أسوأ مظاهر األصولية الدينية ،إال إذا سلمنا رؤوسنا لإلعالم ً َّ دوما ،بغاياته أو “رسالته” ،على الموجه ،واإلعالم موجه
ً ً ثالثا والطابع السلفي لجميع األصوليات، ثانيا ،وبإرادة السلطة
فكرة مثالية ومقولة أيديولوجية ،بخالف الالمباالة ،وبخالف
القترانهما بتفاوت اجتماعي صارخ ،وآليات ظالمة لالصطفاء
.
األقل ،عالوة على مصادر تمويله وأهداف مموّ ليه الحياد
االستقالل الذاتي ،بالمعنى الكانتي. 92
لقد اقترح الدكتور العظمة بعض المعايير التي تساعد على
.
في أيامنا ،يعني النكوص عن التمدن واالنتقام من الحداثة،
االجتماعي والتهميش الثقافي والسياسي ،وسيطرة شبه تامة
حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة
.
صفوان داحول
من الالمكان وحازت على المكان كله صحيح أنها احتلت، ً ً أساسا ،ذلك ألن أصولية “المركز″ هامشا ولكنها احتلت ما كان
.
أمرُّ وأدهى وما دام الحديث يدور حول سوريا ،فاألصولية َّ المركبة للسلطة وأيديولوجيتها القومية وسياساتها الوحشية،
كانت وال تزال من أبرز شروط إمكان األصولية اإلسالمية، وشروط اندفاعها على النحو الذي نرى فقد َّ وثقت الشبكة
.
السورية لحقوق اإلنسان معظم الجرائم التي ارتكبتها السلطة
وبينت والجماعات المقاتلة األخرى في خالل الحرب الدائرةّ ،
أن نسبة الجرائم التي ارتكبتها السلطة والميليشيات التابعة
لها والمقاتلة إلى جانبها تراوح بين 91و 98بالمئة من مجموع ً لماما الجرائم الموثقة ،وهذا ما لم يلتفت إليه العظمة إال
.
ونسب وإلى ذلك نستهجن اعتبار اإلسالم مشكلة عالمية ْ
اإلرهاب إليه ،ال إلى جماعات اإلسالم السياسي ،بعضها أو ً نابعا من نس َبه إلى أي دين آخر ،واعتباره كلها كما نستهجن ْ
.
النصوص التأسيسية لهذا الدين أو ذاك ،،وتحميل الدين وزر
ً منضبطا أشد ما على الجسد االجتماعي ،هنا وهناك ،لجعله
الجرائم التي يقترفها مسلمون أو مسيحيون أو يهود أو غير ذلك ،ونستغرب قوله “بدالً من أن يكون اإلسالم ،كما يحلو
غيرنا ،ما يستوجب نقد التمدن المبتور والحداثة الناقصة ،ال ً أيضا نقد ضحاياهما ،فالنجاح والتقدم يستحقان النقد
أنفسنا اليوم وبعد عقدين من الغلوّ والتمدد العالميين في
يكون االنضباط ،وقد بلغت هذه السيطرة ذروتها في النظم النازية والفاشية والستالينية وفي التسلطية عندنا وعند
.
يقول العظمة نفسه :تقتصر مالحظاتي على التطورات
التي جرت في القرن المنصرم ،وهي ترتبط بشكل ملموس باتجاهات الحداثة ،وخاصة صعود طبقة جديدة من
ً ً جمعيا ،نجد بلسما للعالم ،وحالً لمشاكله للبعض أن يتصور،
وضع أضحت فيه الكثير من ممارسات وتصورات هذا الدين مشاكل في كل مكان ،إنه مشكلة للمسلمين ولآلخرين ،وبالفعل
خطر في كل مكان ،وهو األمر الذي يتطلب ،بشكل واضح ً جدا ،وفيما يتجاوز الخطابية والكالم العاطفي وواضح
ً والحماسي االعتذاري والتبريري ،تدخالً جماعيا” وال ندري ما
.
األنتلجنسيا الحضرية ،التي استم ّدت بعض مادتها البشرية من ً ً تاريخيا ،وهذا التطوّ ر أيضا على صورة غير مسبوقة األرياف
نوع التدخل الجماعي المطلوب لدرء هذا “الخطر” الذي يتهدد
الهوامش ،فهي مرتبطة بالعقدين أو الثالثة الماضية ،حيث
ونجادل في قوله “ليس هناك مسلمون قبل عصر الحداثة
.
األخير ّ تم في ستينات القرن العشرين أما مالحظتي حول عملت فيها الهوامش وكأنها مجرّ دة عن المكان :إنها موجودة ً فيزيائيا على أطراف المدن ،بيد أنها غير منخرطة في المدن ً جدا؛ تتظاهر الضواحي التي تغيرت معالمها على نحو سريع
والعشوائية بإعادة إنتاج العالقات االجتماعية الهامشية ّ لمناطق المنشأ ،ولكن في ظل ظروف مختلفة ،وبالتالي
.
فإن قطاع منطقة الطبالة خارج بأساليب وطرق جديدة هكذاّ ،
.
دمشق ليس مجرد استنساخ للقرى المسيحية في حوران كما أن تلة عليا في المزة [مزة-جبل] ليست مجرد قرية تم نقلها ّ
.
من جبل العلويين فيشير بذلك إلى “العوامل المادية ،سياسيا
واقتصاديا واجتماعيا ،فضال عن الشروط المحلية والتغيرات
السياسية الدولية ،وأثره هذه العوامل مجتمعة في تحويل
«الهامشي» إلى فضاء «المركز» ،الفضاء األصولية من شرطها ّ الذي تعيش األصولية في كنفه اليوم؟ ويتساءل كيف يمكن
أن عدمية لمخلوقات أصولية نبتت في جغرافية الالمكان ْ ّ ّ تحوز على المكان كله؟ ّ ّ تتعلق بالعدالة ومدخلها االعتراف المتبادل لعل المسألة بالكرامة اإلنسانية والجدارة واالستحقاق ،قبل الديمقراطية
.
ومن أجلها فال نعتقد أن األصولية التي قصدها العظمة (األصولية اإلسالمية عامة والداعشية منها خاصة) قد تحوّ لت بالفعل من شرطها الهامشي إلى فضاء “المركز ،″أو أنها نبتت
المسلمين أنفسهم وبقية العالم.
أو اإلصالح اإلسالمي (الذي يماثل البروتستانتية في نقاطها
األساسية) قد سعوا إلى استمداد نظام سياسي من القرآن”. ً “نصوصا من القرآن قد استخدمت ونرى أن استدراكه بأن ً دوما للجدال في كل أنواع المسائل ،وإلضفاء الشرعية على هذه الحجة أو تلك في السياسة وفي غير السياسة” ال ينفي حكمه القطعي السابق ،ويثير إشكالية الفرق بين النظام
السياسي ونظام الحكم ،إذ األول هو صورة الحياة العامة أو
النوعية للمجتمع المعني ،صورة سياسية وقانونية وأخالقية، أما الثاني ،أي نظام الحكم فهو الطريقة التي تدار بها الشؤون العامة والمبادئ النظرية والعملية التي تقوم عليها هذه ً أيضا في أن “أول من قام بذلك ،أي باستالل اإلدارة ونجادل
.
نظرية سياسية ونموذج سياسي من القرآن بشكل منهجي
كان سيد قطب” ،إذ يرى بعضهم أن سيد قطب تأثر بكل من ً وجها للمقارنة بين سيد قطب المودودي ،والندوي ،وال نرى ّ (المتوفى عام “ ،)1704واعظ الملك واألسقف بوسويه Bossuet ً انطالقا لويس الرابع عشر ،وباني نظرية الحق اإللهي للملوك من األناجيل في عصر اإلصالح الكاثوليكي” ،ألن سيد قطب ً مناهضا للويس الرابع عشر المصري ،جمال عبدالناصر، كان
وقد كان عبدالناصر في نظر أغلبية المصريين وأغلبية العرب، ً “شعبا في رجل” ،على نحو ما وُ صف بمن فيهم المثقفون،
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
93
سجال
.
لويس الرابع عشر ،ومن وصفه هو بوسيه ،على ما أظن وإلى ّ منظر ما سماه “الدولة المدنية” ،إذ رأى ذلك كان سيد قطب
أن دولة الرسول ،ثم الخالفة اإلسالمية لم تكن دولة دينية،
ولم يتجاوز مفهوم الشورى ،الذي يعتبره كثيرون أساس
“الديمقراطية في اإلسالم”.
واألكثر مدعاة لالستهجان قول العظمة بصيغة تقريرية
“إن العديد من هذه الجماعات ،أي المافيات وعصابات قطعية ّ
التهريب واالتجار بالمخدرات (وربّما كلها) ،بما في ذلك الجماعات اإلسالمية ،لها أو كان لها اتصال مع الـ “سي آي إيه”، أو على األقل بعض األجهزة السرية األخرى التي عملت بمثابة
.
داعم أساسي ولوجيستي لها لكل فاعليات هذه الجماعات
.
أسس اقتصاديّ ة واضحة وأساسية” وينم استدراكه (وربما
..
كلها) و(أو على األقل بعض اإلجهزة السرية ) على الظن والتخمين ،وهما ظن وتخمين شائعان ،يرقيان لدى كثيرين
.
إلى اليقين ،ويتصالن بما يسمى “نظرية المؤامرة” وهذا
المركزية مقترنة
باألصولية الدينية
ال ينفي تقاطع المصالح ،وال ينفي احتمال أن يكون ما ً ً وواقعيا ،ولكن االحتمال صحيحا ذهب إليه العظمة ً يظل احتماالً والظن يظل ظنا حتى يُ قطع باليقين
واألصولية العلمانية
الشاملة ،إن لم نقل
اإلسالم السياسي وبين الجماعات غير الرسمية
منه ولكن الفروق الجوهرية بين جماعات
وغير القانونية التي وصفها العظمة تجعل
باالستبداد ،وتتصل بأكثر
ذكورية خالصة
.
ومستوحشة ،على نحو جمعي” نفهم من التعددية الثقافية ألي ثقافة أن تعتبر نفسها وأن يعتبرها أهلها ثقافة أنه ال يحق ّ معياريةُ ،تفرض على الجماعات الثقافية المختلفة ،وهذا مما
ً كثيرا من التوترات اإلثنية والدينية والمذهبية يولد ،وقد ولد ّ واأليديولوجية ،ويولد الطائفية حينما يقترن بسياسات
.
حصرية وإقصائية وفي مجال العقائد الدينية ،تضفي
األكثرية الدينية أو المذهبية على عقيدتها قيمة معيارية،
.
إذ الكسر أدنى قيمة من العدد الصحيح ،الكامل هنا يحسن واإلسالم روحها ،أو مقولة “ال تنهض األمة إال بجناحيها،
.
العروبة واإلسالم” تندرج هاتان المقولتان في ما سميناه
.
“األصولية المركبة” ،التي أنتجت أصوليات مضادة بيد أن
األهم من هذا كله أن المركزية مقترنة باألصولية الدينية ً اقترانا ال فكاك له ،ومقترنة بالسيطرة واألصولية العلمانية
المقارنة تعسفية ،وال تساعد في فهم الجماعات اإلسالمية فضالً عن تفهمها
مركزية الذات الفردية والجمعية ،عالوة على كونها ذكورية
العظمة هوية الجماعات الجهادية ،ومنها داعش،
ال ندري لمَ أرجأ العظمة الحديث عن األيديولوجيا ،ثم أحجم
.
وال تتسق أطروحة الالمكان التي حدد بها
الشاملة ،إن لم نقل باالستبداد ،وتتصل بأكثر من سبب بوهم
خالصة.
مع الزوجين المفهوميين المتقابلين :الرسمي/
عنه ،إذ األصولية منظومة أو نظيمة أيديولوجية أو ال تكون.
ً أيضا ،بل أمكنة ،ونفضل مجاالت، مكانان أو زمكانان
على حشد الريفيين المحتاجين إلى خالص وتعبئتهم،
الالرسمي
والمركز/الهامش.
الالرسمي
والهامش
لها بناها المعمارية (الهندسية) وخصائصها االجتماعية
والثقافية ،ولعل وصف بعض هذه األمكنة بالعشوائيات
بالغ الحصافة ،فهي مرايا الرسمي ومرايا المركز ،وتحمل
وهذا سر من أسرار نشوئها في المدن والحواضر ،وقدرتها
وسرّ من أسرار انبثاقها من أوساط “البورجوازية الوسطى” ً ً علمانيا ،وتحالفها مع فئات جيدا ،دينيا و/أو المتعلمة تعليما من “البورجوازية العليا” وال سيما التجارية منها ،وهذه
تقويضهما.
أقل حداثة من البورجوازية الصناعية ،إذا كان ال بد من
والديمقراطية تنتمي إلى مجال الالرسمي ومجال الهامشي، ّ المرخص له وغير إذا فهمنا من الالرسمي ،الالقانوني أو غير ً رسميا ال نتعامل مع هذه األطروحة المُ شهر والمعترف به
التاريخ والتراث وأدلجة المأثور الديني وإنتاج خطابات
تاريخية-سياسية منها وحشد الريفيين وفقراء المدن
متخيل يراد للوطن المفارقة ،نعني تحويل العقيدة إلى وطن َّ
المسيسة بعضهم ببعض ،ومن أهم أفراد الجماعات األصولية َّ
إمكان خلخلة الرسمي والمركز وتغييرهما أو
نشير إلى أن المعارضة السورية ،التي تصف نفسها بالعلمانية
.
ً سجاليا ،بل نريد أن نشير إلى واقعة عيانية ،هي أقرب إلى
.
الواقعي أن يكون مثله ،بل أن يكون هو هو لقد استوطن
.
استعمال هذه المصطلحات “النخبة” المدينية أو الحضرية ً ً ً علمانيا وحدها تستطيع أدلجة دينيا أو تعليما المتعلمة
.
حولها األيديولوجيا وإرادة السلطة هما من أهم ما يربط
ما يميزهم من غيرهم ،وفق مبدأ الوالء والبراء ،ومن أهم
شروط انبثاق الطائفية.
فلسطينيو الشتات عقيدة التحرير والنضال أو الجهاد في ً مكانا ذا مدى عالمي ،تتصادى فيه سبيله ،فغدت العقيدة
الالفت أن العظمة ال يوافق على مشاركة “األحزاب” اإلسالمية
المؤسسات مثلما استوطن األمميون البروليتاريون العقيدة
صندوق االقتراع هو الذي يحكم بين األحزاب المختلفة،
أصوات القادة والمناضلين والمثقفين والسياسيين وأنشطة
.
94
في الخطاب والتعبئة إلى نتائج ‘التعددية الثقافية األوروبية’، ً تصورا عن الذات باعتبارها متفرّ دة ومتوحدة وهي تمثل
سلك المافيات والعصابات التي تتاجر بالمخدرات
ومقترنة بالسيطرة
عالوة على كونها
يرى أن “الجيوش الخاصة التي قدمت من الالمكان ،في العالم ً أيضا في الوس أو الكونغو أو كولومبيا ،تستند العربي كما
التأمل في مقولة القوميين من العرب :العروبة مادة اإلسالم
اإلسالمية يمكن أن تقوم بذلك وبما هو أسوأ
الذات الفردية والجمعية،
بالمركزية ،على اختالف صفاتها ،ومنها المركزية الثقافية ،إذ
.
أو األلماس أو غيرها ،مع أن بعض الجماعات
من سبب بوهم مركزية
يخيل للقارئ أن العظمة مولع في سياق المركز والهامش ّ
يوصف بموجبها أتباع الديانات والمذاهب األخرى بأنهم “أقليات” أو بأنهم ُ “كسور األمة” ،بالمعنيين الرياضي والمجازي،
ولعله من التعسف سلك الجماعات اإلسالمية في
ً اقترانا ال فكاك له،
الماركسية – اللينينية أو الماوية ،ومثلما تستوطن الجماعات
اإلسالمية “اإلسالم” على اعتباره رسالة إلى البشر كافة. ً أيضا ،خرائط ديمغرافية وجيوسياسية. العقائد ترسم خرائط
في الحياة السياسية والمباريات االنتخابية ،وأن يكون
حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة
.
الجماعات اإلسالمية ،على اختالفها ،على أنها أشخاص
أمّ ا عن دعوة العظمة إلى لغة جديدة للقبض على الظاهرات ً بعيدا عن الغموض والتبسيط ،فهي دعوة حميدة، الجديدة،
وسياسية مساوية لغيرها من األحزاب السياسية ،ما لم تكن
األصولية اإلسالمية :اتجاه محمد عبده و”حلقته المباشرة”،
ومنها “األحزاب” الدينية هذا يعني بالضبط أنه ال ينظر إلى
وقوى اجتماعية سياسية قانونية لها وألفرادها حقوق مدنية محظورة بموجب دستور هو عقد اجتماعي سياسي وأخالقي،
ال شبه دستور ،كالدستور السوري ،بل ينظر إليها على أنها بنى
لكننا لم نر أثرها في الحديث عن االتجاهين الرئيسين في
ثم مؤسسة األزهر ،وال سيما في العهد النصري ،وهو اتجاه وصف باإلصالحي ُ وشبِّه باإلصالح اللوثري ،واالتجاه الذي
العالم.
أسسه رشيد رضا وأكمله سيد قطب ،وقد يمتد إلى بن الدن ّ
الحكومات الغربية واألميركية ودول الخليج أو عدم رغبتها
المثقفين العرب إن لم نقل كلهم ،من دون اإلشارة إلى أن هذين
جوهرانية وشيطانية خطرة على المسلمين وبقية
والمعيار الذي يعتمده في هذا الحكم هو ،بكل أسف ،رغبة
.
في ذلك فالحكومات الغربية ،كما
..
والظواهري والزرقاوي والبغدادي فهذا مما درج عليه معظم االتجاهين كليهما انبثقا من إصالحية
.
يقول ،باتت “تشعر (كما هو حال بعض الدول الخليجية) أنها قد ُلدغت من المخلوقات السياسية التي جعلوها ً ممكنة وقاموا برعايتها” وهو معيار
.
فاسد من جميع الوجوه ،ويتصل
بشبهة ارتباط الجماعات اإلسالمية بالمخابرات األميركية أو غيرها ،وهذا
مما يحتاج إلى البرهنة عليه.
محمد عبده وسلفيته ولعل جدال
محمد عبده مع رينان يكشف عن
حدود إصالحية عبده ،التي يتطلع
لم أرجأ العظمة ال ندري َ
الجهادية المتطرفة إلى جماعات
أيديولوجية أو ال تكون.
سياسية
تقبل
معتدلة،
الديمقراطية ،وتشارك فيها ،من دون أن تنتفي إمكانية االنقضاض على
السلطة واالستئثار بها ،كما حدث في مصر ،وهذه اإلمكانية ليست مقصورة على اإلسالميين ،والقرائن على ذلك
.
أكثر من أن تحصى المشاركة غير
المحاصصة
والتقاسم
والتناهب؛
“الدولة القومية”.
ً أخيرا ،يبدو أن تحليل ما يحدث في
ثم أحجم عنه ،إذ األصولية
في ظروف محلية وإقليمية ودولية
باللعبة
إلى إعادة إنتاجها ،بعد أن تبين إخفاق
الحديث عن األيديولوجيا، منظومة أو نظيمة
مناسبة يمكن أن تتحول الجماعات
بعض كبار المفكرين العرب العلمانيين
سوريا يقتصر أو يكاد يقتصر على
إرهاب “تنظيم “الدولة اإلسالمية في
العراق والشام” (داعش) وممارساته
الوحشية،
وصعود
األصولية
اإلسالمية السنية ومخاطرها الراهنة
وهذا سر من أسرار نشوئها
والمستقبلية ،وال سيما التربية على
في المدن والحواضر،
التوحش ،و”إدارة التوحش” ،حسب
وقدرتها على حشد
شبهه جهاد الزين بكتاب لينين “ما
كتيب منسوب ألبي بكر ناجي،
.
الريفيين المحتاجين إلى
العمل” فما حدث في سوريا ،في نظر
وسر من خالص وتعبئتهم، ّ
أهلية” ،وهذا ما ينقضه إلى حروب ّ
العظمة ،ال يعدو كونه “تحول الحراك
األولى تنتج من عقد اجتماعي بين
أسرار انبثاقها من أوساط
هي الدستور ،الذي تضعه جمعية ً ً صحيحا، انتخابا تأسيسية منتخبة
“البورجوازية الوسطى”
والواعدين من المجموعات الشبابية،
ً جيدا ،دينيا المتعلمة تعليما
ممن كانت لديهم المقدرة على القيادة
ً علمانيا و/أو
والعمل على إنتاج تماسك سياسي
ومعنوي وطني شامل ومنظور واسع للحراك ،قد تم التخلص منهم قتالً أو اعتقاال أو هجرة :أوالً ،من قبل
أفراد حرائر وأحرار ،صيغته القانونية
وصيغته العملية أو اإلجرائية هي االنتخابات،
والثانية
بين
تواطؤ
جماعات مغلقة على سلم مؤقت َّ وملغم هو هدنة بين حربين إن
.
قول العظمة نفسه إن “الكثير من
العناصر الشبابية المتعلمة ،المستقلين
وتحسين قواعدها ،وإطالق تنافسية حرة ال بديل منها
ً والحقا ،من قبل قوات أمن النظام، ّ القوى الجهادية التي حلت محل هذه المجموعات الشبابية وفتكت بما ّ تبقى منها أو امتصت
سوريا بعد توقف القتال ،بحكم األوضاع المعقدة التي أنتجتها
ومن شاركوا فيه هذا المصير ،وهم مئات اآلالف ،بل آالفها،
ّ واطرادها كفيالن دورية االنتخابات بتحسين شروط اللعبة السياسية
.
لتحوالت ديمقراطية راسخة ال ننفي إمكانية المحاصصة في الحرب والمداخالت اإلقليمية والدولية وتضارب المصالح
واألهداف ،كما هي الحال في لبنان والعراق ،ولكننا ال ننفي ً أيضا ،ووضع البالد على سكة إعادة اإلعمار، إمكانية المشاركة بجميع منطوياتها واستحقاقاتها ،وفي مقدمها المصالحة
الوطنية والعدالة االنتقالية.
.
القليل من بقاياها” فإذا كان مصير قادة الحراك ونشطائه
.
فإن الحراك لم يتحول إلى “حروب أهلية” تحتاج المسألة إلى
مزيد من الدرس والبحث والنقاش
مفكر من سوريا
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
95
سجال
عزيز العظمة وأطروحته األصولية
اضطراب الواقع وتشوش التفكير ما لفت انتباهي في
قاسم المحبشي
أطروحات السيد عزيز العظمة هو خلوها من
األدوات المنهجية
الجديدة التي طورها
علماء السوسيولوجيا واإلنسانيات في
السنوات القليلة
الماضية في الدراسات
بداية أشكر “الجديد” وأسرة تحريرها على هذه الفرصة للحوار مع المفكر السوري المخضرم عزيز العظمة الذي
استضافته المجلة في ملفها المكرس للبحث في إشكالية “تحرير العقل” والذي استهلته بالحوار معه في مشكلة
الثقافية والنقد الثقافي
“األصولية والحداثة وانفجار المجتمعات” وقد استهلته المجلة بمقدمة تعريفية بالعظمة وانشغاالته الفكرية
والحضارة والمدنية
الصحيح القول إن أهمية مسألة من المسائل تكمن في ذلك الوقيد االنفعالي المستعر بشأنها فمن المؤكد أن سؤال
ومنها مفاهيم :التاريخ
والهيمنة وعالقات
القوة والتقليد والحداثة
والبطريركية والهوية
واستراتيجيات الهيمنة والعدالة واإلنصاف
واالعتراف والسياق
والعولمة وما بعد
الكولنيالية والهابتوس .وغير ذلك من مفاهيم
مفتاحية أثبتت
جدارتها المنهجية في
فهم وتفسير كثير من
المشكالت االجتماعية
كتلك التي يعالجها هذا الحوار.
“بقراءة الحركات اإلسالمية ونقدها” .وهي معضلة بالغة األهمية والخطورة باتت تشغلنا جميعا ،وإذا كان من تحرير العقل العربي لم يعد من قبيل الترف الفكري والتأمل الفلسفي؛ بل بات ينطوي على أهمية حيوية وضرورة
وجودية لحياة مجتمعاتنا العربية في مأساتها الكارثية الراهنة.
ربما
كان هذا الحوار الخصيب قد المس الجرح النازف ً أفاقا مغايرة للرؤية المتبصرة لما آل إليه وف ّتح
المجتمع العربي اإلسالمي يتحول إلى شر مستطير ،بينما هو
واهتمام ووجدت في نفسي الرغبة للتداخل مع ما طرحه
كما هو الحال في الهند والصين وروسيا وأميركا وأثيوبيا
.
وضعنا هنا واآلن وهذا ما حفزني لقراءة الحوار بحماسة
األستاذ عزيز العظمة من قضايا إشكالية بالغة الحساسية تحفز إلى المزيد من القراءة والنقاش والنقد والتقييم الذي
.
تستحقه فما الذي قاله األستاذ عزيز في حواره؟
المشكلة المحورية التي استدعت هذا الحوار هي:
كيف يمكن قراءة وتفسير المشهد العربي الراهن بما يعيشه من أحداث دامية وحروب مستعرة وما الذي يفسر انبعاث هذه
الموجة الكاسحة من خطابات الهويات األصولية التي أخذت
تشيع في المجتمعات العربية اإلسالمية اليوم على نحو خطير ومثير للحيرة والفزع؟ حروب دينية طائفية عشائرية جهوية
سياسية مستعرة في كل مكان (مسيحية ،قبطية ،إسالمية
.
في مصر وشيعية ،سنيه مسيحية ،عربية كردية ،في العراق
.
.
وسوريا ومسيحية ،شيعية ،سنية ،درزية ،في لبنان وزيديه، حوثية ،اثنا عشرية ،سنية ،سلفية ،عشائرية ،جهوية في
اليمن ،ولغوية أثنية عربية ،أمازيغية بربرية إسالمية في الجزائر ،ومسيحية إسالمية ،جهوية في السودان ،وعشائرية
..
طائفية مناطقية في ليبيا الخ) يحتدم كل هذا في فضاء ثقافي نفسي مشحون بعنف مادي ورمزي ،وهستيريا عصابية
جماعية عدائية شديدة التحريض واالنفجار( دواعش روافض، نواصب خوارج ،مجوسية ،صفوية ،قاعدة ،أنصار الشريعة،
..
.
شيعية ،حزب الله ،أنصار الله ،داعش والنصرة إلخ) والسؤال
96
الملح هنا واآلن هو ما الذي جعل هذا التنوع الهوياتي في في مجتمعات كثيرة أخرى مصدر قوة ودليل صحة وعافية
وغيرها من الدول التي تضم طيفا واسعا من الهويات (ديانات، أقليات ،أعراق ،إثنيات ،لغات ،طوائف ،ملل ،نحل ،ومذاهب
.
وما ال يعد وال يحصى من الجماعات الثقافية المتنوعة) ً مبتدئا بسؤال عن “الصعود األصولي” تضمّ ن الحوار ( )15سؤاال ً ومنتهيا بسؤال عن “اليمين الديني األميركي” ولمقتضيات هذه المقاربة سوف نحاول النظر إلى الحوار في بعديه
النظري المنهجي والوصفي الواقعي.
أوال :على الصعيد النظري المنهجي:
ربما كانت المشكلة المنهجية في صميم العلوم االجتماعية
واإلنسانية تكمن في ذلك االلتباس القائم بين الرائي وما يراه ،بين الذات التي ترى وموضوع الرؤية ،إذ أنه من الصعب
.
الفصل بين الذات الراصدة والهابتوس الخاص بها والسؤال هو “كيف يمكننا إنجاز خطاب إبستيمولوجي في موضوع
سيوسولوجي دائم الحركة والتحول والتغير والتبدل ،شأن
جميع الظواهر االجتماعية؟” إذ أن الباحث في هذا الحال
يكون جزءا من الظاهرة المراد بحثها ،بما تمارسه من تأثير مباشر أو غير مباشر في حياته وحياة جميع أفراد مجتمعه، “تلك الحياة التي نمنحها تسعة أعشار من وقتنا الذي نعيشه
في عالمنا الواقعي المعيشي الفوري ،بال ماض وال مستقبل، والتي تشكل فعالً عصب الجسد االجتماعي برمته أي “الحياة
حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة
صفوان داحول بال مزايا” التي يسميها عالم االجتماع جلبر دوران “بالجو
الخانق”.
مصطلح (الالمكان) الذي حاول استعماله أداة منهجية في
في هذا السياق يمكن النظر إلى مقاربة األستاذ عزيز العظمة
تفسير ظاهرة الحركات األصولية بقوله “ليست هذه الحركة ُ ً غالبا بالعنوة ،بل هي مجرد جيوب م ّتصلة فحسب ،أخذت
المشتعلة في سوريا والعراق ولم يستطع التحرر من آثارها
تقوم ببناء عالقات محلية ،وهي عالقات ،بحكم طبيعة
إذ جاءت إجاباته على أسئلة المجلة تحت ضغط األحداث الحسية وآثارها االنفعالية ،وبقدر ما يتعاظم الجزع الذي تحدثه ظاهرة من الظواهر يبدو معها المرء أقل قدرة على
مالحظتها بشكل صحيح والتفكير فيها بشكل موضوعي
وإعداد الطرق المالئمة لوصفها ومراقبتها وتفسيرها وفهمها
وتوقع مآالتها بقدر من التجرد والموضوعية بما يؤمّ ن ح ّدا أدنى من الصدق واألمانة والنزاهة واإلنصاف في معرفة
.
تنشأ من الالمكان وتصدر عنه ،هذا رغم أنها حينما تتشكل
األشياء ،هشة وغير مستقرة؛ وهذا يعود ،ليس أقله ،بسبب أن هؤالء الدواعش آتون من الالمكان” غير أنه لم يقل لنا ماذا ّ يعني بهذا (الالمكان) وعلى األغلب أنه يقصد به من خارج
التاريخ كما أظن! أو من خارج الحياة بمعنى أن الفكرة اآلتية من خارج الحياة ال تستطيع أن تنتج حتى فكرة موتها وفي
هذا تكمن
خطورتها .بحسب روجيس دوبريه.
الحقيقة وفهمها ً واضحا من تفسيره لظاهرة صعود األصولية وهذا ما بدا
“وجود المنظمات ذات البنى التحتية الكبيرة التي تساعدها
جملة من المصطلحات واألفكار التي تعمي وال تضيء منها
الفاعلة ،المحلية والعربية والدولية” وفي هذا تأكيد قاطع
الدينية والتنظيمات اإلرهابية مثل داعش وأخواتها مستخدما
لكنه ما يلبث أن يتناقض مع نفسه حينما يذهب إلى القول
وتقويها وتش ّد من أزرها مجموعات متنوعة من الجهات
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
97
سجال
لتجذر المنظمات األصولية في البني التقليدية للمجتمعات
العربية اإلسالمية أليس هذا هو المعنى المقصود بـ(البنى ً ً صارخا مع فكرة تناقضا التحتية الكبيرة)؟ وهذا يتناقض ً الالمكان التي يرددها األستاذ عزيز كثيرا حتى وهو في
العقل السياسي”
وكتابات الفرنسي
“الدولة والمجتمع في
الغرب واإلسالم والدولة المستوردة” وروجيه كايوا “اإلنسان والمقدس ،″وداريو ششايغان “أوهام الهوية” ،بارت آالن “الهوية
والتمثيل” ،وفريد بارت “بناء الهوية” ،وجان فرانسو بايار
السياق المقارن من ذلك زعمه اآلنف “بالرغم من قدوم هذه ً أيضا الجيوش الخاصة من الالمكان ،في العالم العربي كما
“الهوية التواصلية” ،وأمارتيا صن “الهوية والعنف” ،ورينيه
متفاوتة في االستمرار والدفاع عن الجيوب والمناطق التي
وجون إهنبرغ “المجتمع المدني ،التاريخ النقدي للفكرة”،
في الوس أو الكونغو أو كولومبيا ،فإنها قد نجحت بدرجات استقطعتها” أليست هذه اإلحداثيات التي يذكرها أماكن تحمل
أسماء محددة ؟ فضال عن أن المقارنة التي عقدها هنا بين الحركات اإلرهابية اإلسالمية وغيرها في بلدان أخرى ليست ممكنة البتة بسبب اختالف السياقات التاريخية التي لم يعرها
اهتماما لألسف الشديد.
وهو إذ يخلط بين كلمات (األصولية والتطرف والجهاد
“أوهام الهوية” ،وجون جوزيف “اللغة والهوية” ،وهابرمانس
جيرار “العنف المقدس ،″وتيد روبرت غير “لماذا يتمرد البشر؟”،
ودانيال هيرفيه ليجية وجان بول ويالم “سوسيولوجيا الدين”،
.
هاوارد ج وياردا “المجتمع المدني “النموذج األميركي والتنمية في العالم الثالث” ،ودنيس كوش “مفهوم الثقافة في العلوم
االجتماعية” ،وبينديكت أندرسون “الجماعات المتخيلة”، وجون هيلز واخرون “االستبعاد االجتماعي :محاولة للفهم”،
وكلود دوبار “أزمة الهويات” ،وجيل دولوز “االختالف والتكرار”،
واإلرهاب والحركات اإلسالمية أو ما أسماه بـ(اإلسالمية)
وآدم كوبر “الثقافة :التفسير األنثروبولوجي” ،ومحمد عابد
في مكان آخر بقوله “ارتبطت اإلسالمية بشكل عام
الطائي “نحن واآلخر والهوية” ،وكتابات أحمد نسيم برقاوي
القادمة من الالمكان سرعان ما يتناقض مع هذا القول
لم يلتفت إلى
الجابري “مسألة الهوية :العروبة واإلسالم والغرب” ،وصالح
الفروق التاريخية في
مع أشكال معينة من العمليات التربوية وهذه ،كما ً سابقا ،من منتجات التحديث” وال أعلم عن أي قلت
طرابيشي “هرطقات” ،وتوفيق مديني “المجتمع المدني والدولة
الجهادية في األقطار
ويمكن تتبع الكم الهائل من التناقضات المنهجية
ثقافية” ،وفتحي التريكي “استراتيجيات الهوية” ،وأدونيس
من ذلك قوله “تعتزل الجماعات الجهادية البشر ً ً كبيرا من ‘المهاجرين خليطا وتعزل نفسها ،حاوية
“سلسلة األستراليون العرب” ،وشريف يونس “سؤال الهوي:
الهوية العربية في ظل العولمة” ،وحسن الصفار “الطائفية
إلى جنب مع المال من الخارج” ص 10كيف
االنتقالية” ،وفالح عبد الجبار”في المشكلة الطائفية” ،ومايكل
نشأة الحركات اإلسالمية العربية المختلفة ،فضال عن أنه أغفل الحديث وعالقات قوى الهيمنة العالم المعولم ودورها في تأجيج المشكلة
والشكلية التي حفلت بها إجابات األستاذ عزيز
ً جنبا والغرباء’ ،من القفقاس وبريطانيا وماليزيا
عن العوامل الخارجية العالمية في هذا
تحديث يتحدث األستاذ هنا؟!
.
يكن أن يستقيم هذا القول المتناقض في ذاته
الذي يقول (تعتزل الجماعات الجهادية البشر
وتعزل نفسها) وينتهي بأن هذه الجماعات تحوي ً ً كبيرا من ‘المهاجرين والغرباء’ ،من القفقاس (خليطا
..
وبريطانيا وماليزيا ) أليس هذا (الخليط الكبير) الذي
تحويه الجماعات هم من البشر أيضا يا أستاذنا الجليل ً منطقيا؟! وهذا ينفي القول بالعزلة واالعتزال
السياسية في الوطن العربي” ،وحسن حنفي “الهوية :مفاهيم “الهوية غير المكتملة” ،وعلي حمدان “إشكالية الهوية واالنتماء”،
بين الدين والسياسة” ،وكتاب “الطائفية والتسامح والعدالة
أنجلوياكوبوتشي “أعداء الحوار أسباب الالتسامح ومظاهره”،
وسكوت هيبارد في كتاب “السياسة الدينية والدول العلمانية: مصر والهند والواليات المتحدة األميركية”،وغير ذلك من
سلسلة الدراسات واإلصدارات المتصلة بقضايا الهوية المجتمع
والسياسة.
غير أن ما لفت انتباهي في أطروحات السيد عزيز العظمة
هو خلوها من األدوات المنهجية الجديدة التي طورها علماء
وفي سبيل تأصيل وتبرير الرؤية المنهجية واألفق النظري الذي
السوسيولوجيا واإلنسانيات في السنوات القليلة الماضية
إلى أنه ينتهج لغة جديدة بقوله “إننا بحاجة إلى لغة جديدة
والحضارة والمدنية والهيمنة وعالقات القوة والتقليد والحداثة
اعتمده السيد عزيز العظمة في تفسير موضوعات الحوار ذهب طالما أننا نتعامل اآلن مع ظواهر جديدة ،ظواهر اعتبرت
وكأنها ال تستحق النظر ،وكأنها مجرّ د انحرافات عن السويّ ة، مثل فشل الدولة ،والفاعلين السياسيين واالجتماعيين خارج
..
التحليلية نطاق الدولة وبالتالي استعصاؤها على المسارات ّ
في الدراسات الثقافية والنقد الثقافي ومنها مفاهيم :التاريخ
والبطريركية
والهوية
واستراتيجيات
الهيمنة
والعدالة
واإلنصاف واالعتراف والسياق والعولمة وما بعد الكولنيالية
.
والهابتوس وغير ذلك من مفاهيم مفتاحية أثبتت جدارتها
المنهجية في فهم وتفسير كثير من المشكالت االجتماعية
الرسميين: المعتادة والمبتناة على افتراض التنظيم والتمأسس ّ
كتلك التي يعالجها هذا الحوار.
الميليشياويّ ة في وسط أفريقيا” وهذا قول ال ي ّتسق مع
ربما يفسر عدم قدرته تفسير الشروط والعوامل التاريخية
ظواهر مثل عصابات المخدرات في كولومبيا أو الجيوش حقائق المعرفة والخبرة المتراكمة في الدراسات االجتماعية
واإلنسانية التي دأبت على معالجة تلك المشكالت منذ زمن طويل وأنتجت سلسلة غنية من الكتب والبحوث والدراسات
منها على سبيل المثال ال الحصر كتابات روجيس دوبريه “نقد
98
في “الدولة وفي العرب واأليديولوجيا والتاريخ” ،وجورج
إن غياب المنهج النقدي العقالني في رؤية السيد عزيز والثقافية والسياسية التي كمنت وراء هذا النتائج الفاجعة في لحظة المجتمعات العربية الراهنة إذ جهد إلى ردها إلى
ما يسمى بـ(ثورات الربيع العربي) 2011م ،وفسر بروز ظاهرة التطرف واإلرهاب في سوريا على نحو خاصة بتعثر ثورة
حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة
التغيير السورية.
والوس ،الذهب والماس والمعادن النادرة الثمينة (التي تعتمد
كما أنه لم يلتفت إلى الفروق التاريخية في نشأة الحركات
عليها الهواتف المحمولة) في الكونغو ورواندا ،هذا إضافة إلى
عن أنه أغفل الحديث عن العوامل الخارجية وعالقات قوى
الدوافع السياسية”.
اإلسالمية الجهادية في األقطار العربية المختلفة ،فضال الهيمنة العالمية في هذا العالم المعولم ودورها في تأجيج المشكلة وأقصد الواليات المتحدة وإسرائيل وروسيا ودول أوروبا الغربية وغيرها ،وأنه ألمر مثير للعجب أن يخلو هذا
الحوار الطويل من ذكر أو إشارة إلسرائيل! وال كيف يمكن تفسير اختفاء إسرائيل من هذا النص المثير في حين أن
حضورها الفاحش في الواقع والمشهد يفقأ العين؟! وهكذا هو الحال دائما حينما يكون الواقع شديد االضطراب والتشوش
تكون األفكار مشوشة!
ثانيا :في تشخيص وتوصيف الواقع في
تشخيصه
مستهل
الخوّ ة والغنيمة والفدية ،وبالطبع الدعم المالي الخارجي ذا
وهذا يناقض القول السابق الذي أكد فيه أنها من صناعة
الدوائر االستخبارية الغربية ،وبدال من بحث دور وأثر ثورة الفقيه اإليرانية في استنفار وبعث وتفعيل وتأجيج الهويات
الطائفية القاتلة في األقطار العربية من منطق جدلية النقيض الذي يخلق نقيضه اكتفى األستاذ عزيز العظمة بإشارة
وصفية تقريرية للعالقة بين إيران واألسد إذ قال “لعل اإليرانيين راغبون في استكمال ما بدأه حافظ األسد عندما
التمس موسى الصدر العتبار العلويين شيعة اثنا عشرية، وتعميم ذلك على قطاعات أوسع من الشعب السوري باسم تصدير الثورة
لصعود
اإلسالمية ،وربما رغبوا أن يشهدوا ً يوما ما زوجة الرئيس األسد مرتدية
الجماعات األصولية يقول المفكر “إن العربي السوري عزيز العظمة ّ
العديد من هذه الجماعات (وربما كلها)، بما في ذلك الجماعات اإلسالمية ،لها
أو كان لها اتصال مع الـ”سي آي إيه”، أو على األقل بعض األجهزة السرية األخرى التي عملت بمثابة داعم
.
اكتفى األستاذ عزيز
التشادور”.
على كل حال إنني إذ أعرب عن وجهة
العظمة بإشارة وصفية
نظري في بعض ما تضمنه هذا الحوار
تقريرية للعالقة بين إيران
الرغبة في المزيد من المعرفة والفهم
من قضايا إشكالية إنما انطلق من
أساسي ولوجيستي لها لكل فاعليات
واألسد إذ قال “لعل
واضحة وأساسية” ويضيف بعبارة
اإليرانيين راغبون في
وقد تكون أنت على صواب ،ولكن
استكمال ما بدأه حافظ
أوجه الحقيقة المحتملة على الدوام،
الجماعات
هذه
أسس
اقتصاديّ ة
أخرى ،لدينا ظواهر نتجت عن
وضع حيث «الالرسمي» (االقتصاد غير الرسمي أو “األسود” ،من خالل
شبكات المافيات ،أو السياسات الال-
دستورية ذات الوزن الغالب لألجهزة
.
األمنية) بهذه اللغة شديدة التبسيط
يوصف ويشخص الظاهرة شديدة
التعقيد وجوهر المشكلة عنده هو ظهور جماعات خارج األطر (الرسمية
القانونية للدولة) وهو بذلك يقر منذ ً كيانا البدء بوجود الدولة بوصفها ً ً للسوي والشاذ ولم رسميا ومعيارا ّ أي دولة يتكلم هنا ال سيما افهم عن ّ ويقارن
بين
حاالت
للود قضية فقد أكون أنا على خطأ والنقاش
بالحوار
سوف
تنكشف
األسد عندما التمس موسى
إذ أن الحقيقة مستقلة دائما في آخر
الصدر العتبار العلويين
أن أعارض بقدر ما يهمّ ني أن أكون
.
المطاف وفي طلب الحقيقة ال يهمّ ني
شيعة اثنا عشرية ،وتعميم
على صواب ولو نسبيا.
ذلك على قطاعات أوسع
في معضلة الهويات القاتلة
من الشعب السوري باسم
وفي الختام أود اإلسهام بوجهة نظري
تصدير الثورة اإلسالمية
التي تستعر اليوم في مجتمعاتنا
وهو يخلط بين الشرق والغرب منتقاة
والخالف في الرأي يجب أن ال يفسد
من
.
مجتمعات ال رابط وال شبه بينها أبدا وهو إذ حاول الجمع بين
الخاصة في معضلة الهويات القاتلة العربية بضراوة مروّ عة إذ شهدت
بنفسي
تجربة
انزياحات
الهوية
واستراتيجياتها الصراعية المدمّ رة في اليمن والعراق ،فعلى مدى نصف
غير الناس هوياتهم في اليمن شماال وجنوبا مرات قرن فقط ّ عدة ،وها نحن اليوم نشهد جدال صاخبا وصراعا م ّتقدا بشأن
الحركات األصولية وغير األصولية في العالم أكد أن جميعها ً أيضا على أن كل هذه مبعثها اقتصادي في قوله “دعنا نؤكد
الهوية اليمنية ،وهوية الجنوب :أهي جغرافية أم سياسية؟
واسع كل أولئك ،من حركات خالصية وغيرها ممن نتكلم عنه،
والحوثية والسلفية وغير ذلك من خطابات الهويات التقليدية
الحركات هي كذلك مشاريع اقتصادية وأرباب عمل على نطاق
.
يعملون على السيطرة على الموارد االقتصادية الضخمة :النفط واآلثار والصوافي والغنائم والرسوم على البضائع واألفراد (ما
يسمّ ى بالجزية والزكاة) في سوريا ،والمخدرات في كولومبيا
فضال عن احتدام أوار الهويات الطائفية ،الزيدية والشافعية
الفرعية الكثيرة وهي خطابات أخذت تستقطب جموع
واسعة ومتزايدة من الناس في الجنوب والشمال وذلك بعد مرور أكثر من نصف قرن على قيام (الجمهورية الثورية) في
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
99
سجال
الشمال وإحراز االستقالل الوطني من االستعمار البريطاني
كالتسامح ،وعندما يصبح العنف ظاهرا ،يوجد أناس ينساقون
الممارسات السياسية التي دفعتهم إليه وقد أذهلني ما شهدته
ولكنهم أنفسهم ،غالبا الذين يتيحون له النصر” وفي ظل غياب
.
في الجنوب ليس ألن الناس يرغبون في ذلك بل بسبب
.
في بغداد من تب ّدل سريع وعنيف في صراع الهويات الطائفية قبل االجتياح األميركي وبعده ،إذ سنحت لي فرصة الدراسة
العليا في جامعة بغداد في تلك المدة الفاصلة ،التعرف على حقيقة المعضلة الطائفية في العراق التي نشهد اليوم أهوالها، ففي عام 2004وجدت العراق بصورة مختلفة كليا عن تلك التي
عرفتها في الثالث السنوات السابقة ،وكانت حمى الطائفية هي
أبرز مالمح العهد الجديد ،على الرغم من أنها مازالت حينذاك في طور التفقيس البريمري (نسبة إلى األميركي بريمر) الذي
.
حكم العراق بعد احتاللها وكما دفعت حرب صيف 1994م التي شنتها القوى التقليدية المهيمنة في الشمال اليمني ضد الجنوب المدني ،تحت رايات دينية وأيديولوجية وسياسية مختلقة وما تالها من ممارسات تعسفية تدميرية لكل مؤسسات دولة مواطني الجنوب (السياسية والعسكرية
ال بديل من إعادة
واالقتصادية والثقافية
والقانونية..
الخ) نقول كما
التفكير بالعلمانية
دفعت تلك الغزوة التكفيرية الظالمة الجنوبيين إلى
بعيدا عن المنظور
يتشبثون ويضحون بحياتهم في سبيلها ،على نحو
األيديولوجي الذي
أميركا للعراق في إيقاد نار الهويات الطائفية
التعرف على ذاتهم الجنوبية المهزومة ،وجعلتهم لم يشهد له التاريخ مثيل ،فكذلك فعلت غزوة
يشوش معناه التقني ّ
التي كانت هامدة تحت رماد الطغيان السياسي
الحقيقي ،بوصفها تقنية
الجمهوري البعثي ،وزادتها اشتعاال بمنحها المزيد من الزيت األميركي شديد االشتعال ،في سبيل
إليه بحرية وحماس ،ويوجد آخرون منهم يعارضون نجاحاته
مؤسسة محايدة للعدالة ،أقصد الدولة الحديثة القائمة على
الفصل بين السلطات الثالث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)
واستقالل المجاالت( ،السياسي والديني والمدني واالقتصادي والثقافي
والعلمي..
الخ) فيستحيل إيجاد وسيلة ناجعة
يمكنها السيطرة على ظاهرة الحروب الطائفية المشتعلة ،وكل
المحاوالت الراهنة المعتمدة على المدخل األمني في ضبط
ظاهرة العنف في المجتمعات العربية بالقوة العسكرية العارية المحلية أو الخارجية ،من المؤكد أنها تزيده اشتعاالً مثل (اللهب
الذي يلتهم كل ما يمكن أن يلقى عليه بقصد إطفائه). ختاما
ال بديل من إعادة التفكير بالعلمانية بعيدا عن المنظور األيديولوجي الذي يشوّ ش معناه التقني الحقيقي ،بوصفها
تقنية سياسية ناجعة مجربة ومختبرة عبر ثالثة قرون من
التاريخ السياسي للدولة الحديثة ليس في أوروبا وأميركا فحسب بل في كثير من دول أسيا وأفريقيا وفي مجتمعات إسالمية مماثلة لمجتمعاتنا العربية اإلسالمية ،ومنها ماليزيا
.
وأندونيسيا وتركيا وباكستان وغيرها إذ أن الفصل بين المجال السياسي والمجال المدني يستلزم بالنتيجة استقالل
المجال الديني عن هيمنة السياسي ،وبهذا تكون العلمانية ليس كما جرى ويجرى تصويرها بوصفها ضد الدين والتدين بل هي في حقيقة األمر تحرير المقدس من تبعيته للمد ّنس واستعادت
سياسية ناجعة مجربة
تحقيق إستراتيجية (الشرق األوسط الجديد)
ً ومتتما روح الدين اإلسالمي الحقة الذي جاء رحمة للعالمين
ومختبرة عبر ثالثة قرون
أنطاكيا الجديدة( ،جنة الله في بالد العرب الخراب)
قال سبحانه وتعالى “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ً شعوبا وقبائل لتعارفوا” (الحجرات اآلية )13أو “أدع وجعلناكم
من التاريخ السياسي للدولة الحديثة
التي ستكون فيها دولة االحتالل اإلسرائيلي
(الشرق األوسط الجديد)! أال تالحظون اليوم كيف
تبدو صورة دولة إسرائيل بالمقارنة مع دول الجوار العربي؟!
فما الذي يدفع الناس إلى تبديل هوياتهم وإنشاب
مخالبهم في بعضهم بعضا تحت راياتها وبتحفيز منها
كسراطين البحر حتى الموت؟! وهنا يلزمنا النظر إلى العنف حينما يكون مقدسا ،إذ أن الصراع حينما يكسب صفة مقدسة، (دينية أو أيديولوجية)
يتحول إلى ثأر مزدوج جاهلي
وعصبوي ديني ،وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف هو أخطرها على اإلطالق ،ذلك ألن (الثار الحر) يشكل حلقة مفرغة وعملية المتناهية وال محدودة ،ففي كل مرة ينبثق
.
الجسد االجتماعي ،ويهدد وجوده بالخطر وهذا ما نراه ماثال
اليوم في العراق ،حيث يصف (المالكي حربه مع داعش بثارات الحسين) ومن المعروف في مثل هذه الحاالت كيف أن أقل عنف يمكن أن يدفع إلى تصاعد كإرثي ،ومشهد العنف له شيء
من (العدوى) ويكاد يستحيل أحيانا الهروب من هذه العدوى،
“فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا
100
إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي
أحسن” (سورة النحل اآلية “ ،)125وال تجادلوا أهل الكتب إال بالتي هي أحسن” (العنكبوت اآلية ،)46أو ما جاء في السنة الشريفة
“ال يرحم الله من ال يرحم الناس“ ،″ال يحل لمسلم أن يروّ ع ً مسلما” وغير ذلك مما احتواه الدين اإلسالمي الحنيف من قيم
تحث على الرحمة واللطف والصفح والرفق واإلنصاف والعدل
واالعتراف والتسامح والتصالح والعفو واإليثار والتعاون
والتضامن والشفقة والمودة والعطف والمحبة والصبر والحلم
والحكمة والتفكير والتبصر والتواضع والبشر وإفشاء السالم وعدم الغضب ونهى عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والكذب والخداع والسب والتنابز باأللقاب والكبر والغرور والتطرف
والتعصب والجهل والعنف والغدر والتعذيب والتمثيل ..الخ.
فإن المرأة التي (في ص 10يقول في سياق القرية أو القبيلة ّ ً ً جنسيا في كثير من أرجاء سوريا ُتعتبر مصدرا للعيب تخطئ والعار باعتبار اجتماعي وليس قانونيا)ً
كاتب من اليمن
صفوان داحول
أي نقطة ما من الجماعة مهما تكن صغيرة ،يميل منها من ّ إلى االتساع واالنتشار (كالنار في الهشيم) إلى أن يعم مجمل
مكارم األخالق بما حمله من تعاليم وقيم إنسانية سامية كما
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
101
سجال
رداً على عزيز العظمة
تفكيك أهوال اإلرهاب وتحرير االسئلة
الرؤية التي ينطلق منها
البروفيسور عزيز تنطلق
خالد حسين
من وقائع مرتبطة
بالزمان والمكان،
هذه الرؤية الواقعية ــ التاريخية تكتسب تجليها من قراءة
مستقبل سوريا ،هذا
المستقبل الغامض الذي يتناسب مع ما يقول
به العظمة في توصيف
“ولكن ثمّ ة عميق الداللة ّ
سلوى قابعة في أمل
غير واضح المعالم”،
فاختراع هذه الفضاء
ثانية ـ الفضاء السوري
فعلي ــ يرتبط على نحو ٍّ بلوحة القوى الفاعلة
والمتصارعة ،مع األخذ
بعين االعتبار القوى
اإلقليمية والعالمية التي ً ّ خلفية لصراع تشكل القوى الداخلية .وبناء
ليس من السهولةِ أن القراءة بمكان مواجهة حوار البروفيسور ُّ السوري عزيز العظمة (مجلة الجديد ،ع ،)11ذلك ّ ٍ ُّ وتتأسس بموجبها خرائط القراءة وتمت ُّد ،ال تكتفي بمالحقةِ توحش اإلرهاب اإلسالموي التاريخية التي ينتهجها ّ ّ مكث ٍف من تحليالت سوسيو ــ ثقافية سياق وإنما ،وفي الوقت ذاته ،تطارد نظائره في المجتمعات األخرى؛ وذلك في ٍ برشقات من المعلومات االقتصادية وحزمة العالئق العائمة والمضمرة التي تربط هذه الجماعات بمراكز مسنودة ٍ
المال الرسمي والالرسمي؛ لتغدو معها ظاهرة الجماعات اإلرهابية ،وتحت وطأة استراتيجيات المقاربة التاريخية ً ً ً ّ عام وأحداث عموما بشكل يتنزل في سياق أحداث العالم تاريخيا حدثا جديدة، ٍ الصارمة برؤيةٍ واضحةٍ ولغةٍ ٍ
بشكل العالم العربي خاص. ٍ ٍ
تقتنص
بداهة البروفيسور عزيز األسئلة المغلقة
ليوسعها عبر ربط أهوال اإلرهاب للمحاور ّ
باألهوال التي ارتكبها النظام السوري ،فالمحاور ـوكما يظهر
للقارئ من أسئلته ـ يب ّئر الحوار في ثيمةِ إرهاب الجماعات ً مسؤولة وحدها عن الجحيم الذي األصولية فحسب وجعلها
على ذلك يمكننا تضييق
ابتلع وما يزال يبتلع الفضاء السوري بتغييب المسؤولية
حول مستقبل سوريا
مشهد الجحيم وإشعاله ومن ثمَّ ة المشاركة الفعّ الة فيه؛ ٌ ٌ ُّ علمانية أصولية والحق يقال ــ تقابلها فاألصولية الجهادية ـ مشوّ ٌ هة ي ّدعيها النظام ،كشفت أحداث سوريا أنها أش ُّد هوالً
مساحة االختالف بين ما يقول به العظمة
الغامض وقولة هايدغر
التي انتقدها في البداية “إله فقط قادر على
إنقاذنا” ،فاألمل الغامض
لدى عزيز العظمة ليس إال إله هايدغر الغ\
ائب .وهكذا يعود بنا
عزيز العظمة من حيث ال يدري إلى حلول ما
قبل حداثية أو ما بعد
حداثية كان قد اعتبرها نذير شؤم.
المباشرة ــ ربما عن غير قصد منه ــ إلجرام النظام بترتيب
في جرائمها وتدميرها من األصولية الجهادية عبر تعاضدٍ بين
ظاهري وبنية طائفيةٍ (تتجاوز الفضاء كاذب ا ّدعاء علماني ٍ ٍ السوري إلى لبنان والعراق وإيران وأفغانستان) ،بنية ما قبل تاريخية لم تخرج من ماضيها أصالً ومن هنا يكتشف القارئ
.
أن ثمة مساحة مسكوت عنها في أسئلة المحاور ذاتها
بخصوص أهوال النظام السوري!
يقطع عزيز العظمة مع توجهات ما بعد الحداثة النكوصية، ً ّ جانبا سؤال المحاور الذي يستدعي ينحي كما يصفها ،عندما
حيز الحوار قولتي هايدغر “إله فقط بإمكانه إنقاذنا اآلن” إلى ّ
“الرب قد عاد إلى الشرق األوسط” ،وإذ ي ِ َص ُم وبول دانهار ُّ حضور هايدغر بالشؤم في بداية الحضور؛ فإنه يرفض تماماً قولة دانهار بعودة الدين إلى الفضاء السوسيو ــ ثقافي للشرق
األوسط؛ ومن هنا يموضع ظاهرة األصولية في سياق تاريخي
تتعالق فيه هذه الجماعات األصولية مع المصالح المادية
102
.
في سياق عالمي ولكن ما يسترعي االنتباه هنا هو َ الهيكلة ِّ ُّ التوحش اإلرهابي يقدمها في توصيف انفجار الجديدة التي من خالل استقدام مصطلح “الالمكان” ،وبهذا الصدد يقول
“الالمكان بمعنى نبذ المنشأ وإعادة تشكيل الذات ثم الالمكان، أي المكان الخيالي واالفتراضي (دابق ،الشام ،القسطنطينية،
رومية في خطاب داعش) ،على نحو يضارع هذه الذات
.
الجديدة والالمكان بمعنى الخروج عن كل األزمنة التاريخية والخروج عليها” وربما يم ّثل تشكيل داعش اإلرهابي مثاالً
.
ً ساطعا على اشتغال مفهوم ” الالمكان” في تأسيس كينونة
هذا التنظيم وانتشاره السرطاني األفقي ،ليس في سوريا
والعراق فحسب ،وإنما تفخيخ الفضاء العالمي على شساعته
بهذه الكينونة ــ الكابوس/الرعب (األحداث األخيرة في فرنسا ُّ تدفق اإلرهابيين من أمكنة مختلفة ــ وقد وأميركا) ،وذلك عبر باتت (ال ـ أمكنة) إلى مكان مستقر(سوريا ،العراق) وقد غدا في
أن الكينونة اإلرهابية ـ وهي كذلك حوزة “الالمكان” ،كما لو َّ ً فعالً وواقعا ـ ال عمل لديها سوى إخراج المكان إلى الالمكان ومن ّ ثم إخراجه من التاريخ ذاته ،أقصد المكان ــ التاريخ أي
.
العمران من حيث العالقات والثقافة والكينونة ولكن السؤال: ماذا بشأن نجاعة أفهوم “الالمكان” في هيكلة إرهاب “الدولة” وتوصيفه؟ ألم يعتمد النَّظام األسدي على قوى بهيمية (الشبيحة) وميليشيات شيعية (لبنانية وعراقية) والحرس
ِّ المدمرة الثوري اإليراني ثم التقنية الروسية في أعتى أشكالها وتاريخا وكائناً، ً ً ً ذاكرة مؤخرا؛ ليجري تدمير المكان بوصفه أي بمعنى الدفع باألمكنة الحضارية ذاتها إلى الالمكان وخارج
حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة
صفوان داحول أن عزيز وفي حمأة االحتفاء بالمصطلح الجديد التاريخ؟ بيد ّ ً يدع هذه المساحة نهبا للمسكوت عنه!
إن استمرار و/أو تفريخ الجماعات الجهادية في”مكان ـ
الالمكان” الذي تقطنه وتشغله يتعلق بالحاضنة الشعبية، ُّ بتوفر هذا الحضن الذي يسمح باستمرارها فوجودها يرتهن
واتساعها وممارسة توحشها وتغوّ لها ،هذه النقطة المهمة تقود ً مساحة من االختالف البروفيسور عزيز إلى نتيجة تفتح إن داعش معه ،يقول في حواره ” إنني أذكر كل هذا ألقول ّ ليس لديها على نحو كبير بيئة حاضنة بقدر ما لديها بيئة غير
.
ممانعة وفي بعض األحيان متواطئة” ورغم إيراده أسباب
اقتصادية وعنفية مقنعة سادت الفضاءات الريفية في سوريا للخروج بهذا المآل من القول؛ فإن الحقل ال َّداللي تتضاءل
فيه االختالفات بين المفهومات المذكورة من حيث المعنى: حاضنة ،غير ممانعة ،متواطئة ،فالعوامل االقتصادية والعنفية
ً ً بدايات كاملةٍ وناجزةٍ (عصر النبي وغالبا ما عادة) يَحِ ُّن إلى ٍ
يجري “مناقضة صورة هذا العصر الذهبي بصورةِ حاضر فاسدٍ ٍ ِّ يمثل العودة بالمجتمعات نحو منحط”؛ وهذا النكوص الذي ٍ ُّ ماض أو الخروج من سياق التاريخ والتلذذ باإلقامة تاريخ ٍ ٍ في “الالـ تاريخ” ولكن تحت طائلة العنف ،هذا التجلي للفكر النكوصي واألصولي بنشوئه وانفجار عنفه يجد مرجعيته األساسية في القراءة الحرفية للقرآن التي ّ دشنها رشيد رضا، حيث تقوم هذه القراءة على إزاحة التآويل المحتملة للخطاب القرآني لحساب الفهم الحرفي وتجفيف الممكنات الداللية
للسياق النصي ثم انسداد اآلفاق بين النص والتاريخ.
هذا االتجاه ــ وعكس ما مضت فيه إصالحية محمد عبده ــ هو الذي أتاح تفريخ األصولية وسمح لها بأن ترفع من نفير
.
صعودها في العالم العربي وهنا يكشف عزيز العظمة الجذور ٌ أصل والجذامير التي تبيح للعنف أن يرتبط بالخطاب؛ فالعنف
ال تفي بتأويل القبول الشعبي من عدمه لداعش وأخواتها، ُّ يطل الرأسمال الرمزي للمجتمعات (قضايا الهوية، ومن هنا
إلى تأسيسه هذه الجماعات “إن قرآن العنف والحق والتقويم
ّ يرحله العظمة من مجال التفسير السوسيولوجي وهنا الذي
.
..
الموقف من اآلخر ،البنية الثقافية ،إلخ) بقوةٍ في هذا السياق
.
تمكن اإلشارة إلى أن الموقف المتأرجح للكتلة البشرية العربية
(أو الشوايا بلغة عزيز العظمة) في الجزيرة (شمال شرق سوريا)
من النظام والحراك الثوري والدواعش ،فقد ظلت هذه الكتلة ً ً ً جزءا ضئيالً من ذوي جانبا نهبا لقلق االختيار ،وإذا نحينا
االتجاه الديني من أفرادها الذين شاركوا في الحراك؛ فإن هذه الكتلة لم تحسم اختيارها وظلت في النهار مع النظام وفي
.
الليل مع داعش ً ً يق ّدم عزيز العظمة مقاربة عميقة لألصولية الدينية في العالم األهوائي الذي بنوع من النُّكوصي العربي من خالل تحديدها ِّ ٍ
في الخطاب الديني الذي يالزم أي كيانات يمكن أن تسعى
شأن قديم قِ َدم األديان التوحيدية ،وفي رسائل وعِ ظات الق ّديس أوغسطين بيانات بالغة الفصاحة على ذلك وحوله”
وإذا تجاوزنا َح َّد االتفاق مع العظمة في هذا الشأن؛ فإنه في
أساسي في تفسير “الصعود الوقت ذاته يتغاضى عن بعدٍ ٍّ األصولى” وتفريخ الجماعات الجهادية (في سوريا) من خالل
القفز على الممارسات اإلرهابية للدولة وتغييبها من السياق
التفسيري؛ فالمرء ال يحتاج إلى جهد كبير لمالحظة الصعود األصولي في مناطق األكثرية السنية بعد أن ُتركت هذه حقوالً مكشوفة للموت المجاني الذي مارسته قوى السلطة مدعومة ّ تتغذى على ثارات الحسين وزينب واالستغراق بميليشيات ٍ
.
ِّ علو تاريخي ال مبرر له وهذا يعني أن الكثير من في حقدٍ ٍّ
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
103
سجال
ً ً طارئا وبفعل سياسات أمرا نفير الصعود األصولي لم يكن إال
ً سياسات جمة تشير إلى اتباع النظام عالمات الحراك” إن ٍ ٍ
وهنا ينبغي أن نتذكر أن توصيم الباحث لما بعد الحداثة
ّ عجل بانهيار قيم السياسات بعد استالم االبن للسلطة مما
تمس ٌ ك بنجاعة مشروع هايدغر بالحضور الشؤم هو في الواقع ُّ
ِّ ويقدم األستاذ العظمة ما يفاجئ القارئ بخصوص المسار
التطييف التي أجادها نظام بشار األسد.
بالنكوصية والتبشير بما قبل الحداثة عبر توصيف حضور الحداثة للمجتمعات ونفي تهمة الفشل عن مشروع الحداثة؛
المواطنة والكرامة الشخصية والتعليم إلى الحدود القصوى.
السوسيولوجي لمجتمعات الشرق األوسط نحو الديمقراطية ً لبرنامج سرديٍّ تتق َّدم به نحوها قوى هذه تحقيقا بوصفها ٍ المجتمعات ،لكن ما يقول به يستند إلى أرضية سوسيولوجية ملموسة ـ وال سيما ما حدث ويحدث في مصر وليبيا واليمن
يلجأ عزيز العظمة إلى لغةٍ جديدةٍ في َب ْن َينَةِ مفهوماته في
بشار األسد ــ أي من حيث طارئية األنظمة الديمقراطية
ِّ والصراع الذي والجماعات من الفتك بالقوى الوطنية من جهةٍ )
الديمقراطية ،واندفاع اليوتوبيا المنجزة ونهاية التاريخ التي ً ً ورسوخا تمأسسا أتت مع نهاية الحربالباردة ما أصبح أكثر
ّ والصراع سياق توصيف الجحيم الذي يبتلع الفضاء السوري ّ الدائر بين النَّظام والجماعات األصولية (بعد أن تمكن النظام يطحن هذه الجماعات ضد بعضها البعض من جهة أخرى؛ ً ً جديدا يعضد تعبيرا ولذلك ينبثق مفهوم “الهوامش”
.
تأويله للصعود األصولي ويعكس موضوعه بصورة
مفهوم ” الهوامش” في ّ ظل سياسات السلطة السورية ذات النهج الطائفي لم يعد ُيقصر على الريف ذاته
يمتد ليستغرق وإنما بات ُّ
(وحتى تونس) ومحاوالت روسيا وإيران الحثيثة لتعويم “فإن فكرة االستبداد ،أو على األقل ورسوخ االستبداد ،يقول ّ ً السلطوية ،تصبح أفضل تمأسسا من رؤى الحركة الحتمية نحو
. ً تاريخيا”. أن األنظمة الديمقراطية ربما كانت شاذة هو فكرة ّ
ُّ ً عادة وتعصف التوقع المأمول وال شك أن هذه القولة تعاكس
أدق ،وهو بذلك يصوّ ب سؤال المحاور “أرياف تقاتل ً أريافا” إلى “هوامش تقاتل هوامش” ،يقول بهذا
والالتوقع؛ ليغدو برنامج المسار السوسيولوجي للمجتمعات
ضد أرياف بقدر ما هي هوامش ضد هوامش،
بقوة ليبتلع مصر ،وتونس غدت على مسار االستبداد أما بقية
ُ ً ً ً أريافا المسألة وتصحيحا “ليست توضيحا الصدد وذلك في رقصات الموت في ظل تشبيح متبادل من قبل العديد من العناصر المنتمية إلى الفئات المهمّ شة إلى درجة الرثاثة” ،وفي واقع الحال؛
فإن النظام السوري الذي أحدث منعطفات من
مهب التمني الميتافيزيقي وتقذفه إلى مسار الهامش به في ّ
رؤية معيارية ال تصدم أمام الوقائع الفعلية ،هكذا عاد االستبداد
الدول األخرى فح ّدث وال حرج.
ً تاريخيا في مقابل رسوخ إن كون “األنظمة الديمقراطية” شاذة
واع نحو أرسطيةٍ تتسلل على االستبداد إنما يشي بجذامير ّ ٍ ٍ إلى تفكير عزيز العظمة حول عبوديةٍ ثاويةٍ بل قارّ ة في البنية
التشويه في كينونة السوريين ،لم يكن له من شاغل خالل األربعين سنة سوى ّ اتباع استراتيجية ٍ تهميش جهنمية متعمّ دة “للمكان” وال سيما الريف
ّ تتحكم ببنية التفكير التي تقود مقاربته :الغرب/الشرق/ ثنائيات
االجتماعية واالقتصادية واالستيالء على األراضي، ّ ً لتدفق األفكار األصولية مناسبا فضاء ً أسس األمر الذي ّ
إن الرؤية التي ينطلق منها البروفيسور عزيز تنطلق من وقائع
الضواحي واألحياز المكانية الشعبية وحتى
عبر التدخل السافر ألجهزة األمن بتخريب العالقات
والنمو السرطاني لهذه األفكار التي باتت اآلن تجتاح
الريف وتمضي به إلى رقصة الموت المأساوية.
الذهنية للمجتمعات الشرقية واستحباذها لالستبداد ،األمر
الذي يجعلنا أن نموضع مالحظته هذه في استمرار تناسل
. حتى هذه اللحظة تدعم قراءة البروفيسور العظمة.
الديمقراطية /االستبداد…،إلخ مع االعتراف بأن هذه الثنائية
مرتبطة بالزمان والمكان ،هذه الرؤية الواقعية ــ التاريخية
تكتسب تجليها من قراءة مستقبل سوريا ،هذا المستقبل
ّ ظل سياسات السلطة السورية ذات إن مفهوم ” الهوامش” في
الغامض الذي يتناسب مع ما يقول به العظمة في توصيف
ليستغرق الضواحي واألحياز المكانية الشعبية وحتى البلدات؛ ً سمة سيميائية للمكان السوري في زمن هذه فـ”الهامش” كان
المعالم” ،فاختراع هذه الفضاء ثانية ـ الفضاء السوري ــ يرتبط
النهج الطائفي لم يعد يُ قصر على الريف ذاته وإنما بات يمت ُّد
السلطة الطائفية بلبوسها القوموي؛ ولذلك ال يستغرب عزيز
“ولكن ثمّ ة سلوى قابعة في أمل غير واضح عميق الداللة ّ
فعلي بلوحة القوى الفاعلة والمتصارعة ،مع األخذ على نحو ٍّ ً ّ خلفية تشكل بعين االعتبار القوى اإلقليمية والعالمية التي
.
سنة الماضية في التاريخ السوري الذي تدهور فيه الشعور
قادر على إنقاذنا” ،فاألمل الغامض لدى عزيز العظمة ليس إال
القومي والكرامة الشخصية والشعور الطبيعي بالتضامن بين
الناس إلى مستويات بدائية أسفرت عن الرغبة في االنتقام بين للقيم ومنها قيم المواطنة الخالص واألعمى ،مع ته ّتك ّ
والوطنية والتكافل االجتماعي المدعوّ ة والمصلحة العامة ّ ّ أحيانا بالنخوة (عادت األخيرة للبروز والفعل المتقطعين أيّ ام
لصراع القوى الداخلية وبناء على ذلك يمكننا تضييق مساحة
الغامض وقولة هايدغر التي انتقدها في البداية “إله فقط
.
إله هايدغر الغ\ائب وهكذا يعود بنا عزيز العظمة من حيث
ال يدري إلى حلول ما قبل حداثية أو ما بعد حداثية كان قد
اعتبرها نذير شؤم
كاتب من سوريا مقيم في ألمانيا
صفوان داحول
العظمة االنتقام الخالص واألعمى للسكان من هذه السلطة التي “لم تترك للسكان (ومن ّ تبقى من السكان) سوى االستياء
االختالف بين ما يقول به العظمة حول مستقبل سوريا
واإلذالل واإلهانة والفاقة؛ وهذا ،بشكل ما يختصر األربعين
104
طائفية ٍ خالل األربعين سنة الماضية ،بل وتفاقمت هذه
لكن الواقع على ضديد من ذلك؛ فتجربة الدولة الوطنية المزعومة التي اتخذت من الحداثة سبيالً لها قد فشلت ّ وشكلت أرضية خصبة للصعود األصولي وهذا ما ال وانهارت
يقترب منه عزيز العظمة.
البلدات
.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
105
سجال
انطالقا من أفكار عزيز العظمة
الجماعات النصية أحمد برقاوي يبدو مراد وهبة مفكرا
ثائرا على األصولية،
متشبعا بالفكر العلماني،
معليا قيم العقل ،ولكنه يفاجئنا برأي صادم
حول دور المؤسسة
العسكرية في الحياة
السياسية ،بل إنه يدعو
المثقفين إلى تأييدها، بدعوى أن البالد أمام
قدم العزيز عزيز العظمة بعقل تاريخي حصيف في حوار مع الجديد تحليالً للظاهرة األصولية بوصفها ظاهرة ذات
أساس اقتصادي عالمي تماثل الحركات غير األصولية في عالم غير إسالمي في سلوكها الهادف إلى الثروة.
لقد أعاد لي الحوار السؤال عن الحركات األصولية اإلسالمية مرة أخرى ولكن في صيغة جديدة :لماذا يكون ً ً ً أيديولوجيا لحركات عنفية غاضبة على الواقع المعيش؟ أساسا دائما اإلسالم
فالتفسير االقتصادوي ،والبحث عن األساس المادي ،والوقوف عن هامشية القوى التي أنتجتها الرأسمالية
المتعولمة ،كل هذا ال يجيب عن السؤال الذي طرحنا.
ثنائية الجيش أو
اإلخوان ،وكأنه يستجير من الرمضاء بالنار.
وهذا غريب من مفكر
في مثل تجربته ،عاش
تحت حكم مؤسسة عسكرية فشلت في
إنشاء دولة ديمقراطية منذ ،1952وأباحت
لنفسها االستئثار بما يفوق ربع االقتصاد المصري.
ما عنفية؟
هذه السرعة العجيبة في انتقال اإلسالم من دين
شعبي – ثقافي إلى أيديولوجيا سياسية ،وحركات
حالة المأزق فظهرت الحركات الجهادية التي قتلت السادات
والتي ظل نظام مبارك يقاومها بعنف مطلق إلى أن استقر له
ولماذا لم تأخذ االحتجاجات العنفية التي ترتد إلى أسبابها
األمر بعد قبضة حديدية استمرت حتى خلعه ،ولكن ما إن
وعندي أنه دون النظر إلى البنية الثقافية – الجهادية والذاكرة
الساحات حتى عادت األصولية الجهادية مرة أخرى.
المادية صورة غير إسالموية؟
التاريخية التي يتوارثها جمهور ما قبل الحداثة بهذه السرعة في اغتراب عن روح العصر الرأسمالي وبسببه ال يكون فهم
لألصولية اإلسالمية في صورتها الراهنة أو السابقة عليها.
عادت مصر إلى المأزق التاريخي بعد االنقالب على ثورة
وقس على ذلك ما جرى ويجري في سوريا ،فمن قلب اإلخوان ً طبيعيا ،نشأت المسلمين ،الحزب السياسي الذي كان ظهوره الحركة العنفية الجهادية ،الطليعة المقاتلة ،كنتيجة للمأزق
أجل كيف استطاع رجل دين شيعي قدم من إيران إلى لبنان
التاريخي السوري الذي صنعه حكم حافظ األسد الدكتاتوري،
القومية والشيوعية وينتهي بها األمر ألن يصبح حزب الله هو
األصولية العنفية ،التي سرعان ما ظهرت على نحو أشد
أن يجر وراءه الطائفة الشيعية حاضنة األيديولوجيات
الحزب الذي يقود وعيها وسلوكها؟
كيف ّ تأتى أن تحطم األحزاب الشيعية في العراق التعايش
وكما فعل نظام مبارك فعل نظام األسد وقضى على الحركة كلية هيمنة السلطة على مجتمع قاده الوارث إلى أعقد بانهيار ّ
المآزق التاريخية التي مرت بها سوريا منذ استقاللها.
باستعارات دينية سرعان ما تحولت إلى مصدر لسلوك عنفي؟
وحين وصل المأزق الجزائري إلى الحد األقصى بعد إلغاء
المفقود بواسطة داعش وما شابهها في بالد العرب وبعض
تحولت الجبهة إلى حركة مسلحة عنفية.
كيف انتقل جزء من السنة إلى عالم استعادة فردوس الخالفة
بالد اإلسالم اآلسيوية واألفريقية؟
هذه الجماعات األصولية هي جماعات نصية قبل كل شيء،
كان يكفي للخطاب في ظل أزمة أو مأزق تاريخي أن يتحول
إلى سلطة وسلطة آمرة.
تقول فرضيتي :إن اإلسالم السياسي في صورته الجهادية –
العنفية هو األيديولوجيا المطابقة للمأزق التاريخي الذي تشعر فيه نخبة هي باألساس أيديولوجية وتعبر عنه بالخطاب ً ً مأزوما جمهورا فتجر وراءها
.
ً جدا ،ففي لن أعود إلى التاريخ البعيد ،بل إلى التاريخ القريب
مصر السادات الذي راح يحطم دولة الرعاية عبر ما سمّ ي باالنفتاح ،وانحدار جزء مهم من الفئات الوسطى إلى الفئات
106
الفقيرة ،مع معاهدة سالم مع عدو ،وصل المجتمع المصري إلى
نتائج االنتخابات التشريعية التي فازت بها الجبهة اإلسالمية
وليس تدمير بوش للعراق وتسليم األحزاب الطائفية الشيعية الحكم بكل ما تنطوي عليه من فساد وثأر بدائي عنفي إال
المأزق الذي أنتج داعش.
واآلن لماذا يتحول اإلسالم إلى أيديولوجيا عنفية كتعبير عن
المأزق التاريخي؟ إن األمر مرتبط بثالثة عناصر حاضرة في
.
اإلسالم كإمكانيات :الجهاد ،التشريع ،الذاكرة الجمعية وهذه
.
أي خطاب آخر ثم إنها عناصر العناصر ليست حاضرة في ّ ثان ،وفي ترابط ال مجتمعة دون النظر إلى ما هو أول وما هو ٍ
ينفصم كما سنرى.
الجهاد في اإلسالم ،بمعزل عن تنوع الفهم له ،هو القتال في سبيل الله ،كيف صار القتال في سبيل السلطة والخالص
حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة
صفوان داحول األرضي قتاالً في سبيل الله؟
والجمهور ،وبالعكس حين انهزم الخالص األرضي ووصل
إن الثقافة المتكونة على فكرة شرع الله الموجودة في النص
المجتمع إلى المأزق التاريخي استيقظ الخالص اإللهي
السعيدة سرعان ما تستيقظ في شروط المأزق التاريخي بوصفها أيديولوجيا خالصية ّ تعززها ذاكرة ال تني تتراكم في
وعندي إن إهمال الثقافة المتكونة عبر قرون في فهم ً فقيرا ،فالهوية الدينية األصولية الراهنة يجعل من وعينا بها
القرآني والنبوي والفقهي والمنسية في معمعان الحياة العادية
المدرسة والجامع واألسرة على نحو مستمر ،وعندها يصير
الجهاد وسيلة األيديولوجيا الدينية الخالصية ويضفي معنى ً كبيرا عليها مما يسمح باستعادة الموت في سبيل تحقيق شرع الله ،فالموت في سبيل شرع الله هو حياة أخرى سعيدة،
.
إن األموات “أحياء عند ربهم يرزقون” وبسيطا جداً ً خطابا مألوفاً ً تقدم الطليعة الدينية الخالصية ً وحاضرا في وعي العامة ،فتكون االستجابة له بال جهد وبال
. أسماء تحمل المضامين ذاتها أسماء سريعة اإلغراء.
عناء تفكير فجند الله وحزب الله وأنصار الله وما يشابهها من
لم يعد الخالص األرضي قائما في األرض ،األرض التي دللت ّ المخلصين الدنيويين ،بل في خطاب يحمل معنى على فشل
الخلود لمن يُ قتل في سبيل الله ،ليحقق حاكمية الله على
.
األرض ّ ّ حين كان المخلص عبدالناصر في ذروة حضوره كمخلص أرضي وكانت الناس مازالت تنطوي على آمال كبيرة في تحقيق شعاراتها العظيمة لم يكن للخالص اإللهي اإلخواني
والتحريري حتى في أساليبه السلمية مكانة لدى العامة
اإلسالمي في صورته العنفية.
النائمة التي استيقظت على أصوات قذائف األميركي على بغداد وقذائف النظام على المدن والقرى السورية وهكذا ،في
أماكن أخرى من بلدان العرب ،ما كان لها أن تظهر إال بوصفها
هوية مقاتلة مسلحة بمعنى مقدس.
والحق يجب أن نميز بين األهداف الخفية للنخبة المؤسسة للجهاد العنفي والمصالح األرضية التي تتكون عبر الممارسة ً مضحيا من جهة والجمهور العام الذي يمشي وراء هذه النخبة ً أوهاما من جهة من أجل أهداف هو مقتنع بها حتى ولو كانت
ثانية.
ً ً ميكانيكيا للواقع األرضي انعكاسا وهنا يبرز الوعي ال بوصفه ً وإنما بوصفه فاعالً خطيرا في إعادة تشكيل األرض في عملية
ّ نكوص تاريخي يشكل بديالً ألحط أشكال الحكم الدكتاتوري
.
في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اآلن لتكتمل
دائرة المأزق التاريخي الذي يحتاج إلى استعادة حيوية
الفئات الوسطى ذات الوعي التاريخي المتجاوز
كاتب من فلسطين مقيم في اإلمارات
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
107
سجال
نظرة علي بعض أفكار عزيز العظمة
يبدو مراد وهبة مفكرا
الالمكان ليس إال مكانا تواطأوا على إخفائه
ثائرا على األصولية،
جابر بكر
متشبعا بالفكر العلماني،
معليا قيم العقل ،ولكنه يفاجئنا برأي صادم
حول دور المؤسسة
العسكرية في الحياة
السياسية ،بل إنه يدعو
المثقفين إلى تأييدها، بدعوى أن البالد أمام
ثنائية الجيش أو
اإلخوان ،وكأنه يستجير من الرمضاء بالنار.
وهذا غريب من مفكر
في مثل تجربته ،عاش
تحت حكم مؤسسة عسكرية فشلت في
إنشاء دولة ديمقراطية منذ ،1952وأباحت
لنفسها االستئثار بما يفوق ربع االقتصاد المصري.
ً وسحرا ،ما خلص إليه المفكر عزيز العظمة ،في حواره مع أكثر التحليالت بشأن المتطرف “الداعشي” إثارة مجلة “الجديد” ،بأنه كائن قادم من الالمكان ،ربما من حيث فكرة االنتماء “الجغرافي – السياسي” ،أقصد الحدود
السياسية ،فإن المتطرف بكل العالم قادم من الالمكان ،وإن كانت الفكرة بأنه كمتطرف إسالمي جاء من الالمكان وربما يسير إلى الالمكان ،فهنا يتوجب علينا التريث قليالً ،فمن خاض تجربة االعتقال مع اإلسالميين في سجون النظام السوري ،يعرف حق المعرفة بأنهم ولدوا بيننا جسدا وروحا ولكن المجتمع المرهق تخلص منهم بأن همشهم ً حقدا شحن الخطط ألجل االنتقام ،انتقام لم وتركهم على حواف االهتمام ،فخلقوا لهم مظلوميتهم التي استحالت يوفر أبناء جلدتهم في مرحلة من المراحل ونموذج الرقة ودير الزور السوريتين يشهد على هذا الحال ،فليس كل
األمراء في التنظيم من المهاجرين.
الالمكان
الذي فهمته من التجربة ومن التلميحات
التي خاض بها العظمة في إشاراته ً ً ً جيدا لنا ومدرك معروفا مكانا السياسية القصيرة جدا ،ليس إال
معلمي عن الخلق فهما لسبب وجودي ،فخرجت من عالمهم
وبالعودة قليال إلى الواقعين االقتصادي واالجتماعي في
بحثت فيه عن أمثالي ورفاق دربي ووجدت القليل منهم
المعالم ولكن التواطؤ العام أراد له أن يبقى طي الكتمان، المناطق التي تسيطر عليها اليوم التنظيمات المتطرفة، وبالذات الجزيرة السورية ،أي الرقة ودير الزور ،فسنجد
باألرقام أن هاتين المحافظتين األغنى في سوريا لكونهما السلة الغذائية والنفطية والموارد البشرية وفي األخيرة تكمن
الكارثة ،فبيئة أكثر من 70بالمئة من أبنائها شباب ويتركون بال
تعليم ،والمؤشرات تظهر 114نقطة سكانية في دير الزور
تتراوح األمية فيها بين 25و 99بالمئة ،من أصل 131نقطة
سكانية هي كل المحافظة.
والدهشة تكتمل بمعدالت األمية في الرقة وبالذات في الفئة
إلى مكان ال أدركه كليا وإلى اليوم لم تكتمل معالمه ،مكان ومازالت قرون استشعاري فعالة وتبحث عن المزيد من الرفقة الممكنة ،الالمكان لشاب من جيل الثمانينات هو كل شيء
وكل الخالص ،كيف له وهو الالديني أن ينادي من شرفات سجن صيدنايا “الله موالنا وال مولى لكم” ليستفز عناصر
الجيش السوري والمخابرات التي كانت تسعى عام 2008لحل أزمة االستعصاء في تلك البقعة الجغرافية من الالمكان ،ذاك
السجن الذي نسيه السوريون بغالبهم كما نسوا يوما تدمر والمزة وغيرها الكثير من الفروع ،ربما خوفا وربما تواطؤا مع السفاح ،كيف لمن دخل تلك الدهاليز أن يخرج اليوم
العمرية فوق 15سنة ،فنجد أن 394نقطة سكانية من أصل 422
ليقول بأنه ينتمي إلى هذا المكان أو ذاك؟ إلى هذا المجتمع
الرقة ست نقاط سكانية كان الفقر فيها 100بالمئة والنسبة
استحالوا متطرفين ال يمكن لنا لومهم فقط ورمي كل الخطايا
نقطة تتراوح نسبة األمية فيها ما بين 25و 100بالمئة ،وفي
العامة للفقر تصل إلى أكثر من 60بالمئة وهذا الحال قريب جدا إلى دير الزور ،وهذه األرقام من دراسة أشرفت عليها
مؤسسات دولية بالتعاون مع القصر الرئاسي السوري.
أو ذاك؟ فنحن ال نشبههم وال نعرف كنههم وال ندرك ألمهم ،فإن
على أكتافهم.
لكم أو ّد يا سيدي الكريم أن أخبرك وكل من حمل معك ثقل
عالمنا وبحث عن حلول نظرية وفكرية لما نحن فيه ،لكم
وهذه الدراسة نفسها تؤكد ترك تلك الجغرافية بال تنمية وال
أو ّد أن أقول ،بأنكم تشاركون بالخطيئة يا سيدي ،نحن لسنا
فكيف لهم أن يستقبلوا تنظيم الدولة أو غيره من التنظيمات
نقبل فكرة بأن الطفل الصغير في بالد تبعد عنا أربع ساعات
حتى فرصة التعبير عن الرأي وبهذه كغيرهم من أبناء سوريا،
108
التي جاءت من الالمكان المشترك بينهم؟ الالمكان هنا ما ً يافعا ،ولم أجد ال برواية أبي وال أمي وال أفهمه يوم كنت
إال أبناء فترات مشوهة من تاريخ هذا المكان ،كيف لنا أن
حوار على خوار أقالم تحاور عزيز العظمة
صفوان داحول
.
بالطائرة ،يحظى بكل االهتمام والعناية والتعليم الالزم وأن
وت ّ ُ نظرون عنها وحولها اليوم يا سادة نحتاج إلى مفكر يدخل
ٌ ومعلم يدرك بأنه مستقبل بالده لذا يعطيه من روحه، حياتهم،
كل هذا؟ فاليقين اليوم يؤكد أن اإلنسان كائن يحب الحياة،
له أبوين طيبين يعطونه كل الوقت الالزم ليكون جزءا من
كيف لنا أن نراه اليوم عبر العالم الصغير الذي خلقته ثورة
االتصاالت ونبقى بعالمنا المكاني هذا؟ كيف لنا أال ننتفض
أقلها على المستوى النفسي والداخلي ونرمي بكل ما يقال من فكر وفلسفة تحاول أن تعالج ما تظنون أنه مصابنا؟
وأنتم بكثير من األحيان تقفون بعيدا عن جغرافيا أنفسنا
عقولنا وعقول أولئك الالمكانيين ويفهم لماذا وكيف حصل
كيف استحال إلى انتحاري يقتل ُليقتل؟ وتسأله لماذا فيقول لك هي الشهادة؟ هذا طريق الله ،والسبيل األقرب إليه ،كيف
استحال هكذا وكيف نسترده؟
الحقيقة أني ربما أجد فرصة طيبة ألقول كل ما يخطر بذهني
وأذهان العشرات من جيلي ،بعض الشبان الذين يبذلون إلى
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
109
سجال
اليوم جهدا كبيرا وأنا معهم ،لنحافظ على القليل من العقل
ال بد من ربطه بالمكان األصيل ،وهنا أخالف قليال فكرة بأن
وفي بعض األحيان متواطئة مع داعش على سبيل المثال
متوقع ومن غير المرجح على اإلطالق :هكذا ،فقد أصبح غير ً أمرا عصي ًا على التصور ،من يوم إلى آخر، المحتمل وما كان ّ
في عالم الالعقل الذي نحياه ،كي ال نكون بيئة غير ممانعة ال الحصر ،وأن نبقى قادرين على العمل والكتابة وتحليل وتفنيد شعار “اإلسالم هو الحل” والوقوف أمام جماعات
اإلخوان المسلمين قبل غيرهم ،لكونهم بيئة حاضنة للتطرف من خالل سعيهم وشغلهم الدائم على عملية تسييس اإلسالم
وخلق حالة من األحقية في الحكم والسلطة للمسلم لكونه
مسلما فقط ،ومن ثم أحقية الحكم لإلخواني فقط ،وهكذا
حتى وصلنا إلى الداعشي صاحب الحق في الموت والحياة
وليس الحكم السياسي فقط ،وباتت كلمة مسلم بل بات اسمي ذو الطبيعة اإلسالمية يمثل رعبا للغرب وبات هو هويتي قبلت أم رفضت فأنا اليوم أصنّف مسلما وربما متطرفا حتى أثبت العكس ،حالة االتهام هذه ال يمكن أن تبقى إلى األبد ،فإما أن أقبل التهمة وأتماها فيها وأخوض في المكان مشترك مع من أنسب إليهم خطأ ،أو أحافظ
فكرة الالمكان بمثابة
على مقاومتي وصبري ،وهذا األخير يستمد طاقته من الفكر النظيف ومقدرة أمثال العظمة وغيره من
البوابة لفهم الهبوط
المفكرين والكتاب على تحليل المواقف وشرحها
وخلق البدائل.
الكابوسي للتنظيم
“ما حدث في شرق سوريا في األشهر األخيرة كان تماما غير
ً واقعا”
.
بالطبع تصور داعش على حالها اليوم كان غير وارد حتى بذهن أكثر مخرجي أفالم الرعب خياالً ،ولكن عدم التنبؤ
بها أي عدم المقدرة على استشراف فكرة نمو التطرف بهذه ً عموما ،فهنا يمكن القول بأن هذه الفكرة المنطقة وبكل الشرق قاصرة قليالً وغير ملمّ ة بالحقائق بشكل كامل ،واإلشارة إلى
أن داعش مجرد عمل مخابراتي حيك في الالمكان ومن ثمة ً كليا ،وأن المجتمع بيئة ال تمانع سقط بالمظالت غير دقيق فيه ظلم للمجتمع نفسه ،فالمجتمع قاوم قليال ولكنه هو ابن
ذاك الالمكان ومستعد للتماهي معه في حال توافق مع بعض التفاصيل الصغيرة بنفسه ،بأن يعطيه بعض السلطة وبعض
المقدرة على إثبات الذات ،وهذا ما أشار له العظمة في
الحديث عن العشائر العائدة إلى الحياة.
ونبقى في الواقع قليال ،مع تحليل تجربة الجنود األطفال،
فخالل عملي على فيلم وثائقي بهذا السياق ،أخبرني أحد
الخبراء النفسيين بأن فكرة التجنيد لليافعين سهلة لدرجة أن
البدائل هنا ،ال أقصد بها طبعا دينا جديدا أو
التنظيمات هذه ال تحتاج لمن يستقطب هؤالء األطفال بشكل
بالماركسية الدينية ،ولكن البديل هنا أن
فيها لحد الهوس ،وهذا الحال ال يتعلق بالعقيدة التي تتبناها
العالمي اليوم والذي
فكرا أيديولوجيا يصل بنا إلى تجربة شبيهة
أحال أحالم الكوكب
نملك أو نطرح بوابات الحل ال أن نقف أمامها
دموية كارثية ،ولكن
المشكلة فقط دون طرح الحلول غير الحلول ً يوما بحق اإلقصائية التي وافقت عليها أنت
االمتالء كهؤالء األطفال ،فمن يقدر على خلق المادة القادرة
مثال نعاني كارثة داخل المجتمع السوري الالجئ
“الحاصل أن أي تفكير في مستقبل سوريا ينبغي أن ينطلق
عاجزين فإن أنتم يا سيدي كنتم تشيرون إلى
مجازر متتالية وصورا الالمكان ال بد من ربطه بالمكان األصيل
اإلسالميين ولو بطريقة غير مباشرة ،فاليوم
في تركيا حيث تنتشر المدارس الدينية بنسبة
99بالمئة والتي تديرها جماعات اإلخوان والمقرّ بة
منها ،ولكن الحقيقة أن ال بديل حقيقيا لهذه المدارس،
كيف للحركة المدنية السورية التي ما زالت ترفض العمل
الميداني بشكل مباشر وتحافظ على مقعدها التنظيري في ذاك القصر العاجي البعيد ،أن تأتي بعد أعوام وتقول “تبا
لإلسالميين” فقد خربوا المجتمع السوري من خالل التربية
اإلسالمية المتطرفة وخلقوا من األطفال السوريين بيئة
خصبة للتنظيمات المتطرفة.
تلك التنظيمات بقدر ما هي مسألة نفسية بحتة ،أي الرغبة ً ظالما ولكن ببعض الجزئيات فالمجتمع باالمتالء ،وربما أكون
اإلسالمي اليوم يعاني من عقدة الضآلة والتقزم ويبحث عن
على التسرب إلى النفوس وغمرها يملك المجتمع.
من هذه المعطيات وليس من وهم االستمرار في عمليات
سياسية فقدت أسسها البنيوية والديمغرافية” وهذا ال يعني قبول التصنيف غير المباشر بأن كل الفصائل المسلحة بسوريا
اليوم هي فصائل متطرفة وجهادية مدعومة من قبل تركيا والخليج ،وبأن النظام ومن معه يعملون وفق منظومة غير جهادية على أقل تقدير ،والحقيقية أن النظام ومن معه
جهاديون أكثر من داعش نفسه وهم اليوم يمثلون الطرف ً عقائديا وإن لم يقتتلوا بشكل مباشر إلى اليوم الخصم المباشر إال ما ندر ،ويتفرّ غ بل يتعاون النظام مع داعش لقصف مواقع
أحاول ككل مرة ّ أطلع فيها على حزمة أفكار تعجبني وتثير
ونقاط تلك الفصائل التي أطلق عليها العظمة اسم الجهادية
الحزمة أو تركها لعدم قدرتها على إدراك الواقع بصورة كلية،
المجتمع الدمشقي ومحيطه إلى مجتمع اإلمام الفقيه واألول
خيالي ،على حكها بالواقع واألرض ومنها أعيد فهم تلك
الحقا ،ومن هنا كانت فكرة الالمكان بمثابة البوابة لفهم الهبوط الكابوسي للتنظيم العالمي اليوم والذي أحال أحالم الكوكب مجازر متتالية وصورا دموية كارثية ،ولكن الالمكان
فهل يتفق داعش والنظام على مدنية الدولة ،واألخير يحيل أي داعش يحيل الرقة ودير الزور وغيرها من أراضي العراق إلى أرض اإلرهاب السني بحجة مجابهة اإلرهاب الشيعي
المقابل
كاتب من سوريا مقيم في ستراسبورغ
صفوان داحول
أو استخدام أجزاء منها ومن غيرها إلعادة بناء صورة كاملة لبنية الواقع ومتعلقاته ُتعين على هضمه بهدف تفكيكه
110
منظم ،بل هم من ينجذبون لهذه التنظيمات ،بل ويتماهون
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
111
سجال
األسئلة المرايا وإطالقية اإلجابات مستهل حوار مع المفكر مراد وهبة
ال يُ مكن اختزال تفسير
محنة العقل ،في عالمنا
عبد الرحمن بسيسو
العربي المتردي منذ ألف عام ،بالعامل الفقهي ،أو
الفكري ،الذي ال يالمس
إال حيِّ ً وإن كان زا ضئيالً، ْ ِّ مؤث ً را ،من أحياز البنىية
الفوقية للمجتمعات العربية ،ناهيك عن
إغفاله بُناها التَّحتية ً جميعا ،فالتفسير العميق
إنما يكمن في تحليل
األوضاع االقتصادية
واالجتماعية والسياسية والثقافية إلدراك
مُ سبِّبات الت ُّ َّخلف
المُ زمن ،واالستبداد
ِّ المُ تشعب والمتشابك والمتمدد ،داخالً ِّ ً وخارجا ،وفي أطواء
َّ الضمائر وثنايا العقول،
ُّ نشك وهو األمر الذي ال ِّ المفكر مراد أن في َّ وهبة يدركه تماماً، ُ نتساءل ،عن ولكننا دوافع إغفاله وعدم
األخذ به من قبله في
َّ َّ تتشكل مجلة "الجديد" ،على مِ حور تتحرَّ ك المُ قابلة مع المُ فكِر المصري مراد وهبة ،والمنشورة في العدد السابق من مص َ ِّ ِ حلقات دوائره المتشابكة من ْ ومتنوعة، محموالت ثقافية ومفاهيم فكرية عديدة وألفاظ وعبارات ذات لحات ط ٍ ٍ ٍّ غير َّ تأسست في الوعي العربي، أنها تعو ُد ،في خاتمة المطاف ،إلى ثنائية فقهية -فكرية ،وربما فلسفيةٍ إلى حد ماَّ ،
ْ منذ ما يربو على األلف عام. وفي الواقع المجتمعي لبالد العرب ،وتابعت الحضور في كليهما،
ُ ُ واإلرث الهامشي اإلرث المهيمن
ُ إرث ابن تيمية ،المُ هيمن على نحو أح ُد طرفي هذه ال ُّثنائية هو ُ إرث ابن رُ شد ،المقموع والمُ حتجزة طاغ ،وثانيهما هو قطعي ٍّ ٍ ً َّ ُ إمكانيات تطوره وممكناته على نحو أبقاه هامشيا وبالطبع، فإن كال اإلرثين يمت ُّد عبر َّ زمن قديم ي ِ َص ُل ُه الزمن وصوالً إلى َّ ٍ
.
واقع بمرجعياته ال َّثقافية األولى التي تبلورت في سياق ٍ بمعطيات ،ومُ ْن َحك ٍِم إلى متسم اجتماعي وسياسي وثقافي ٍ ٍ َّ بالضرورة وفي واقع الحال ،المعطيات شروط ،ليست هي، ٍ ُّ ُ أحقاب تحكم الواقع اآلخر ،المتوالي عبر والشروط التي ٍ َّ زمنية ومراحل تاريخية متغايرة وممتدة في الزمن لما يزيد ُ َ أن يُ تابعَ َحمْ َ اإلرث ل على األلف عام ،وهو الواقع الذي أري َد له ْ
تشخيص الواقع الذي ً أمراضا نعيشه ونعانيه، ً وسموما ،كي يُ حسن
الماضوي المهيمن على تلك الثنائية ،أي إرث ابن تيمية ،بكل ما
جراثيمه ومُ سبِّبات
ُ ِّ متفتح، إنساني لعقل اإلرث الذي ال يُ مكن ممكن! والذي هو ٍّ ٍ أو إلنسان يُ عمِ ُ بثقل أن تنوء أن يقبل لنفسه العاقلة ْ ل عقله ْ ِ ٍ َ العقل عن تأمُّ ل قي َد بأغالله الكابحه قيوده ،أو أن تستمرئ ال َّت ُّ
تشخيصه وتحليل أمراضة
خام يُ غلق إمكانية االنفتاح على ثقل تراكم عليه من ٍ وس ٍ باهظ ُ ٍ َّ ُ صيرورة الحياة فيحتجز إمكانية الذهاب إلى أي مستقبل
العالم ،والمً ِّ معتم يُ غلق العين عن قبو سمرة األقدام في قاع ٍ ٍ ال َّت ُّ ضوء ويكبح الخطو عن َّ ٍ الذهاب نحو أفق قبة طلع صوب َّ إنساني أبعدَ! ٍّ
وإلى ذلك ،وفي سياق األعم األغلب من إجاباته عن أسئلة ُ نستخلصه مما تنطوي عليه هذه الجديد ،وبحسب ما
اإلجابات من إحاالت فكرية وسياسية مُ باشرة أو ضمنية ،نجد فكرُ مُ راد وهبة يُ ِّ أن المُ َّ كث ُف تشخيصه ِّ للصراع المُ تشعِ ب الذي َّ ُ درجات استعارها في استعر وال يزال يستعرُ ،بوتائر تتباين المجال العربي ،في اإلحالة إلى مكونات ِّ الصراع ما بين هذين ُ ُ الهامشي، إرث ابن تيمية المُ هيمن، اإلرثين: وإرث ابن رشدٍ ِّ
112
وذلك من ُد اللحظة التي فيها "أعلن ابن تيمية ُك ْف َر ابن رشد، ابتداء من قرب ً مما جعله على هامش ال َّتاريخ العربي" ،أي
نهاية القرن الثاني عشر الميالدي ح َّتى اآلن.
إغراق في المصطلحات الفقهية فما هي ،بإيجاز ومن غير ٍ والفلسفية أو َت َق ٍّ ص للخلفيات السياسية والمذهبية التي باتت ُ ً ً المالمح العامة لكال اإلرثين ،على نحو ُ تماما ومتداولة، معروفة
ما تتب َّدى في إجابات المُ ِّ فكر مراد وهبة على أسئلة الجديد، وبحسب ما يُ مكننا قراءته مضمَّ ً نا في الخالصات والرُّ ؤى التي تب ُّثها تلك اإلجابات المنطوية على إحاالت مُ باشرة ،أو ضمنية،
لما تناولته ،أو خلصت إليه ،مؤلفات وكتابات ودراسات عديدة أنجزها المُ ِّ فكر الفيلسوف؟
ثنائية تناقضية ال تنتهي وال تتناهى
نستطيعُ ،قبل َّ توضيحات ،ومن الذهاب إلى عرض ما يلزم من ٍ تعس ٍف أو مبالغة ،أن ُنوج َز هذه المالمح قدر من دون أدنى ُّ ٍ
َ ُ اإلرث المهيمن في إن عبر صوغها في عبارة واحدة تقول َّ لح على تعطيل العقل وإعمال النَّقل في عالم العرب إنما يُ ُّ ُ الهامشي األعم األغلب من األمور الجوهرية ،فيما يدعو اإلرث ُّ ِّ أمر ،ووفق طبائع فطرية ومُ ِّ دات إلى إعمال حد ٍ العقل في ُكل ٍ ِ ُ العقل َن ْف ُسهُ يُ منهجيةٍ واضحةٍ مْ لِيها ٌ نائية تناقضية ال تنتهي وال تتناهى ،فحين يُ عَ َّط ُ ل إذنُ ،ث إ َّنها، ْ
.
ُ ل ،الذي هو ِس ُ ْ العَ ْق ُ تميزه عن وعالمة ان الفارقة مة ُّ اإلن َس ِ الحية والنباتات والحيوانات والمخلوقات غيره من الكائنات َّ والموجودات واألشياء ،بجميع أنواعها وأصنافها ومُ َسمَّ ياتها، ُ ُ ُ يأخ ُذ َن ْف َس ُه بنفسهِ ،إلى ُكنْهِ يُ يُ ناقض اإلنسان ،أو هو ؤخذ ُ
.
ُ فارق ما ُج ِب َ ل ،أصالً ،عليه فِ ْطرته ،وإلى طبيعة ُت ِّ تنفتح هذه ال ُّثنائية ال َّتناقضية المُ تشعبة على الالتناهي، ُ هكذا
عمران يونس َّ َّ كل الثنائيات المتناقضة ،والتي تبدو ،في فكر مراد لتضم انغالقا تاماً ً ُ ينغلق ُّ كل طرف منها وهبة ،وكأ َّنما هي ثنائيات على نفسه على نحو ال يتيح إمكانية العثور على وسيط يفتح
واحدهما على نقيضة ،بأي درجة ووفق أي معيار ومن أي جهة :المُ ْغ ُ ُ والمفتوح؛ الجام ُد والمتح ِّرك؛ المُ عْ ت ِْم والمُ ضيئ؛ لق
العبودية والحرية؛ الظالمية واالستنارة؛ الجهل والعلم؛ ال َّت ُّ خلف وال َّتق ُّدم ،المنقول والمعقول؛ الماضي والمستقبل؛ ُ ُ المرونة وال َّت ُّ حجر؛ ال َّثبات والق َّبة؛ السلفية والمستقبلية؛ القبو َّ ِّ ِّ ُ َّ ُ والعماء، واألصالة؛ اإلبصار والتحول؛ االتباع واإلبداع؛ الزيف َ ُ ُ السقوط الخ السكون والحركة؛ ال َّتدني والرُّ قي؛ ُّ رافة والحقيقة؛ ُّ
والصعود؛ الغفلة واليقظة؛ ُ ُّ القعُ ود والنُّهوض ،المُ طلق وال ِّنسبي، ُ ُّ ُ نائيات متقابلةٍ َت َق َ ُ ابل تكتنزه ألفاظ اللغة من ث وذلك إلى آخر ما ٍ
ِّ ً ُ تصل أبدا ،وليس من واسطة الضدين اللذين ال يجتمعان بينهما ،وال يُ مكن ،ببديهة العقل ،إزاحة أو رفع ما بينهما من ُ
السلب واإليجاب ،والعدم تناقض وجوديٍّ قاطع ،من حيث َّ ٍ ُ حيث والوجود ،واالفتقار إلى الملكة وال َّتوافر عليها ،أو من ً ً غيابا ُ ُ آن انعدام إمكانية االلتقاء أو ال َّتضايف، وحضورا ،في ٍ ً معا ،إال في سياق صراع تتع َّدد أنواعه ،وتتنوَّ ُ ع مجاالته، واحدٍ ٍ َ استِعَ ا ِرهِ وضرَاوَ تِه وتتباين درجات ْ
.
الساللة الرَّ شدية المُ ِّ تنورة ُّ
ً وتأسيسا على ُخالصةٍ مُ عْ َتمَ َدةٍ من قِ َبلهِ وفق تحليله ورؤيته إن "ال َّت ُّ ِّ ُ يكون باستدعاء المتردي ب على الواقع غل َ ُ تقول َّ
فلسفة ابن رشد التي ساهمت في تطور الحضارة الغربية"، يذهب المُ ِّ فكر مُ راد وهبة إلى تأكيد انتمائه إلى الساللة ُ الرُّ شدية المً ِّ تنورة ،إي إلى اإلرث الهامشي في ال َّثقافة العربية
ُ ُ اإلرث َ ص ْلب ُ وعالم العرب ،وفي ُ ِ العقلية سفة الف ْل ص ْلب هذا ً المستنيرة التي تبلورت ،عربيا ،على يد الفيلسوف ابن رشد، مُ ْس َتل َِه ً ُ شارحه كان هو ما الفيلسوف اإلغريقي "أرسطو" الذي َ ً األكبر ،وبانيا على مُ نجزه الفلسفي العقلي الشامل ،المتماسك
.
والرَّ صين َّ المؤكدِ َ ذلك التأكيد، وكأَ ِّني بمراد وهبة ال يعدو في إعالنه ُ أن يُ ِ عطاء، نفسه من ضيء على ما ق َّدمه هو َ أصالً ،إال ْ طوال ما يربو على سبعة عُ قود من العطاء الفكري الفلسفي
ِّ والسياسي وال َّتعليمي والتربوي ،ومن إسهامات واالجتماعي َّ تتوخى ،ضمن مقاصد وغايات نبيلة رصينة ،جريئةٍ ومُ ق َّدرة،
أخرى" ،إحياء فلسفة ابن رشد في مُ واجهة فكر ابن تيمية"، َّ يتجلى ،بوضوح ساطع ،في حياته العلمية نحو وذلك على ٍ َّ وسلوكه العملي وتجاربه الفكرية والمجتمعية ،ومؤلفاته
وكتاباته الفكرية والفلسفية واإلبداعية ومقاالته السياسية َّ توخت ،وال العديدة ،المتنوَّ عة الموضوعات والقضايا ،والتي ً ً ُ َّ تتوخى ،مُ عربي مستنير وعي ضمنا ،إنهاض باشرة أو تزال ٍّ ٍّ ِّ يُ ُ تؤسس لنهضة سهم في إطالق حركة تنويرية عميقة شاملة ً عربية عميقة وشاملة أيضا؛ نهضة تنقل العرب من "الواقع فضل المُ ِّ القائم" إلى "الواقع الممكن"؛ هذا الذي يُ ِّ فكرُ مُ راد وهبة ٍ
أن يستبدل به مصطلح "الواقع القادم" ،وهو االستبدال الذي ْ
تبين دوافعه ،ومسوغات اعتماده من وجهة نظر سنحاول ُّ المُ ِّ فكر ،وذلك في إطار مناقشةٍ أوَّ لية سنذهب إلى إثارتها في
.
فقرات الحقةٍ وضمن سياق يتصل بموضوع حواري مالئم ٍ ُ مؤلفات المُ ِّ َّ فكر مراد وهبة ولية على عناوين إن إطاللة أ َّ َّ ِّ المتنوعة الحقول والمجاالت على مدى ستة عقودٍ ، وكتاباته ِّ ِ وأوضاع لم تكن أحوال ظل في أو ، نشر ظروف وفي صعبةٍ ٍ ٍ ٍ
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
113
سجال
ً بأن تكشف ال ِّنطاق الواسع والمُ تشابك مواتية تماما ،لكفيلة ْ
من الموضوعات المُ لحة والقضايا الشائكة والمشاكل المُ زمنة واإلشكاليات المُ َّ ُ تتصل بالواقع العربي (وال سيما عقدة التي ً ً وفكريا فلسفيا المصري) القائم ،والتي َسعى إلى تغطيتها ِّ تقصي جذور السعي إلى عبر مُ ساءلتها ،وربما كذلك عبر َّ
مُ س ِّب َباتها ،وتشخيصها ،وإثارة حوار خالق حول معالجات سابقة لها ،وصوالً إلى استخالصات وخالصات وتوصيات َّ ومؤصلة تتساوق مع منهجه الفلسفي العقالني عميقةٍ ،
المنطقي ،ويسهم إدراكها واألخذ بها في إدراك الواقع المُ تردي وعي نهضويٍّ جديد ،واستنباط القائم والشروع في تأسيس ٍّ ِّ ً ُ عمل تمكن مستقبلية ،وامتالك وسائل وأدوات وطرائق رؤى ً ٍ النَّاس من تجاوز واقعهم االستبدادي الالإنساني َّ الضاري عبر
ِ االنخراط في حراكٍ مجتمعي واسع ودؤوب يدركون ،وهم ً أن مستقبالً ِّ ممكنا يتساوق مع يعبرون مساراته المتشعبةَّ ،
الحوار مع األفكار
رؤى فالسفتهم ومفكريهم وصنَّاع الرأي عندهم وقادتهم
َّ يتوخى، والرؤى ال
المخلصين األوفياء ،فيما هو يستجيب إلزاحة آالمهم، وتحقيق تطلعاتهم ،وتلبية آمالهم ،قد أوشك على
ً قطعا وال ُيمكن له
ً َّ قبضا على يتوخى، أن ْ طبيعة أي ٍ حقيقة من ِّ درجة أو نوع ،وإنَّ ما أو ٍ
دؤوب إلثارة سعي هو ٌ ٌ
وتلمس اإلجابات األسئلة ُّ التي تُ فضي الفهم وتعزيز
القدوم.
ِّ يخصصها فال نكا ُد نجاوز قراءة فقرة من الفقرات التي ِّ المُ ِّ ِّ ُ بقلم مسك أصابعُ الكف حتى ُت فكر لإلجابة عن سؤال، ٍ
ِّ العقل المُ َّ ُ حف ُز بما تنطقه أو بما ال لخط أسئلةٍ يُ مليها يتهيأ َّ ً ً ُ ُ مباشرة أو تنطوي ضمنا عليه من تبثه اإلجابات ،وبما تنطقه ٌ ُّ ميزة ُتحسب للسائل أحسب، ُ رات وخالصات وتلك ،فيما تبص ٍ
.
إن َّ تم تقديمها في سياق والمجيب ،وال تحسب على أيٍّ منهما ْ جدالي ،وبوصفها مقترحات قابلة للجدل؛ فما الفكرُ إال أسئلةٌ
تبحث عن إجابات ما أن يجدها المُ ِّ ُ فكرُ ح َّتى يحولها عَ ْق ُل ُه ْ ِّ َّ ُ ُ المُ حف ِز والمُ َحفز ،كما عقل المتلقي المتفاعل النّاقد ،إلى أسئلة ً ً ً َ واستيعابا أعلى، أعمق، وإدراكا فهما أوسعَ ، جديدة تتوخى ً ٍّ شك أقلَّ ظالل ويقينا ذا ِ
.
العنوان الرئيس :تحييد الداللة وتحفيز العقل
ُ أن نبدأ ،أي وفق تسلسل عملية إذن من فلنبدأ حيث ينبغي ْ ْ ً ً القراءة ،رأسيا وأفقيا ،أي أننا سنبدأ من العنوان الرئيس
ٍّ واالستهاللَّ ، نحو ثم ننتقل إلى األسئلة واإلجابات ،وذلك على ُّ يُ مكننا ،عبر توالي القراءات ،من إدراك هيكلية المُ قابلة وتوزع
ً وسيرا على نهج الساللة الرُّ شدية، وإلى ذلك، ً أن " ال أح َد يملك الحقيقة وتأسيسا على حقيقة ْ
أقسامها ،ومن تعرُّ ف بُني األسئلة واإلجابات عبر تلقي رسائلها
سؤال تفضي اإلجابة عنه إلى كل جواب إلى ٍ تأصيل إجابة سابقة عبر تعديلها أو تقليصها
تفتح بدورها ُ الخالصات من أسئلة تتوق للعثور على إجابات
َّ والشك وتحويل المُ طلقة" ،ومتابعة لنهج ال َّتساؤل
أو اإلضافة عليها لضبطها وتطويرها ،أو إبدالها ً تماما لثبوت الحاجة العقلية والمنطقية إلى
مفتوح ُ ذلك ،فإننا وار فكريٍّ نذهب إلى إثارة حِ ٍ ٍ ِّ مع ما طرحه المُ فكر الفيلسوف مُ راد وهبة ،في
ُّ رات ورؤى أفكار المُ قابلةِ المُ شار إليها ،من وتبص ٍ ٍ إلى ترقية فإن الحوار مع األفكار وخالصات وبطبيعة الحال، ٍ َّ ً َّ َّ يتوخى، أن يتوخى ،وال يُ مكن له االستيعابوالرؤى ال قطعا ْ ً أي طبيعةٍ أو درجةٍ أو نوع، قبضا على حقيقة من ِّ
.
وتعميق اإلدراك
دؤوب إلثارة األسئلة وتلمُّ س اإلجابات ٌ سعي وإ َّنما هو ٌ التي ُتفضي إلى ترقية الفهم وتعزيز االستيعاب وتعميق عتم ُّ اإلدراك لتفتح أفق التماس يقين ال يُ ِّ َّ بالشك ظله المسكون ٍ ُ على يقينيته الرَّ اهنة التي يُ ِّ سوغها العقل بوصفه ملكة إدراك ً ً عقلي من جهة ،وباعتباره حيِّ ً ُ يكتنز معرفة مُ َّ تحصلة زا معرفيا ٍّ َّ رسخ حقيقتها تم تأصيلها عبر ملكة اإلدارك العقلي على نحو َّ ٍ
اليقينية الرَّ اهنة ،من جهة أخرى.
هيكلية المُ قابلة وبنى األسئلة واإلجابات
فإن قراءة المُ قابلة ،وال نقول المُ حاورة ،من وفي واقع األمر، َّ ً وإجابات تبثُّ تتأسس على مُ دركات سابقة حيث كونها أسئلة ٍ ٍ َّ
ُّ ات ومرَّ ات، خالصات رات جديدة ،ومُ عاودة قراءتها مرَّ ٍ وتبص ٍ ٍ والسعي إلضاءة اإلجابات وتدقيقها وإدراك مُ ِّ سوغاتها عبر َّ متابعة َّ الذهاب إلى استشارة المظانِّ القريبة ِّ الصلة بها في ِّ َّ الخاصة المتنوعة ،ومن ضمنها مؤلفاته كتابات مراد وهبة ودراساته المنشورة ضمن كتب مشتركة ،ومقاالته المتواترة
114
ً ُّ واسعا أمام انهمار تفتح المجال ٌ والصحف ،إنما في المجالت أسئلة تتنوَّ ُ ُ وغايات انبثاقها ومقاصدها، ع أشكالها وأنماطها
وتبين كيفيات صوغها إلدراك منطوياتها وتحليل عباراتها ُّ ُّ والشروع في مناقشة خالصاتها استجابة لما تثيره هذه
ُ أن يتوخاه أي الحوار مع المقابلة على م َّت َسع فكر يريد لنفسه ْ ٍ ً يكون مُ ستنيرا
.
ِّ الموز ُ ُ َّ يحمل ع على سطرين مترابطين العنوان يحضىرنا ُ مضاف ومُ ضاف إليه هي عبارة أولهما عبارة تأتي في صيغة ٍ مصدر واسم مفرد مُ عرَّ ف، "تحرير العقل" التي تتكون من ٍ ً ً والتي تبدو ،لعدم اكتمالها في صيغة جملة ،عبارة مُ حايدة ال
ً ً َّ ُ الحقا سيقرأه أن ما تتوخى شيئا سوى لفت انتباه القارئ إلى َّ َّ ُ َّ إنما يتعلق بموضوع "تحرير العقل" ،فيما يحمل السطر الثاني
ُ ً تعطف صيغة اإلضافة "سجون الماضي" ،المكونة عبارة أخرى َ جمع أضيف إليه اسم مُ فردٍ مُ عَ رَّ ف ،على صيغة النَّعت من اسم ٍ "المحرَّ مات الثقافية" المكوَّ نة من اسم جمع مُ عرَّ ف وصفة هي ِّ ُ أن المحرمات الموصوفة اسم جمع مُ عرَّ ف بدورها توضح َّ ٌ صيغ ثقافية فحسب ،لتضعَ القارئ أمام ثالث هي محرَّ مات ٍ ضافة ومنعوتةً ً ُ األسماء ،مُ لغوية نحوية تعتمد ،كما الحظنا، َ ً نحو يُ غيِّ ب حضو َر الفعل والخبر ومعطوفة ،وذلك على ٍ أن فيحول دون اكتمال المعنى في تركيبة العنوان الذي يبدو َّ ً َّ توخى أال يكون إال مُ حايدا في داللته المباشرة التي واضعه قد سعى ،عبر استدراج دالالت ضمنية غير محايدة ،إلى وسمها
بالمُ راوغة ،وذلك من خالل وسم المُ حرَّ مات بصفة "ال َّثقافية" بالزمن "الماضي" ُ ُ وت ِّ وت ِّ َّ ُّ حديدها جون الس حديدها بها، وخص ُّ َ ُّ يخص إال به عبر إضافتها إليه ،وكأ َّنما تحرير العقل أمرٌ ال ْ شيدت في تحرير هذا العقل من المحرمات ال َّثقافية التي َّ
َّ ُ األصل والمُ سبِّب العلة "سجون الماضي" ،والتي هي الماضي َ
السجون المعلولة برسوخ وجودها في الماضي ُ األساس لتلك ُّ الذي مضي ،أو في الماضي الذي يتم َّدد في األزمنة ْ إذ ال يزال ً حاضرا في الحاضر بوصفه الغطاء ال َّثقافي المهيمن على هذا ً الحاضر على نحو يجعله مُ َّ رشحا للهيمنة على المستقبل الذي
ماض بعيد! نبئ بمجيئه من أغوار ٍ يُ ُ ِّ ُّ العنوان ،المُ ٍ بذكاء ستل من فحوى المقابلة هكذا يُ حضر ُ
ُ يحرص على تفادي الوقوع في شرااك ما اتسمت به أقوال المُ ِّ فكر ُ وخالصاته الواردة فيها من يقينية قاطعة وحاسمة كان هذا َّ َّ الش ُ ٌ ظل يقين، ك شك ح َّتى لو ومُ عمَّ مة ال يعتورها َ يُ َح ِّ ُّ ضرُ القارئ لتلقي المُ قابلة بعقل مُ ِّ يكف عن تفتح ناقد ال ٍ تفحص األسئلة وإدراك اإلجابات بوصفها َّ ُّ ولدة أسئلةٍ أخرى تفتح ،بدورهاَ ، ُ السؤال ُ تقترح إجابات مُ غايرة ال تني أفق ُّ
.
االستهالل :إثارة وتشويق وتلميع مرايا
َّ ويتخلى أن االستهالل يُ غادرُ منطقة المُ َحايدة ومنطقها، غير َّ أسسه العنوان لدى القارئ من عن ما َّ ِّ تحفيز لالطالع على المقابلة ومقاربتها
ِّ بعقل مُ ائل وناقد ،فما تحف ٍز ،مُ ت َ َس ٍ أن تقعُ عين القارئ على مُ ستهلِّ ْ االستهالل ح َّتى تقرأ عبارة خبرية ،أو ٌ محذوف خبر، جملة اسمية في محل ٍ مبتدأها ،لتنتمي إلى صحافة اإلثارة
والتشويق "أخطر أستاذ جامعي في
..
العامة باعتبارهم “نخبة” " ً ُ َّ مقرونة االستهالل يتوخاها ويزدا ُد اشتعال اإلثارة التي باألحكام القاطعة ،وذلك في تعارض مع مقاصد العنوان
وعبارات من قبيل الرئيس ،مع توالي وقوع العين على جمل ٍ أن أستاذ الفلسفة قد "سعى على مدار سنواته التسعين، َّ
أن يكون سقراط في القرن العشرين ،أن يتنازل عن “عرش الفالسفة” إلى حيث يوجد الجماهير ،يحاورهم ويغيِّ ر من
معتقداتهم السائدة المتوارثة عن غير تفكير ،وتحمَّ ل في
سبيل ذلك الكثير من الهجوم والحمالت الشعواء التي خطرا على المجتمع " ،أو من قبيل أن المُ ِّ ً فكر مراد اعتبرته َّ
.
وهبة يمتلك "العديد من األفكار التي تعد صادمة للكثيرين" وأنه "ضد الجماعات الدينية واإلسالمية بكافة تفرعاتها"َّ ، َّ وأنه ً تباينا بين هذه الجماعات وفروعها يُ وجب الفصل بينها، ُ ال يرى
أن تكون "فروعا كثيرة من أصل واحد هو وإنما هي ال تعدو ْ
“األصولية الدينية” ...
الم ُّ ستل من فحوى ُ العنوانُ ، يحرص على بذكاء المقابلة ٍ ُ تفادي الوقوع في شرااك الم ِّ فكر ما اتسمت به أقوال ُ
الخبر الواصفة هو " المفكر واألكاديمي
ُ وخالصاته الواردة فيها من
وأن نعته بالـ "أخطر" ،إنما مراد وهبة"، َّ ورد في " التقارير األمنية" ،وذلك َّ ألنهُ ِّ السياسات االقتصادية عارض"بعض
.
يقينية قاطعة وحاسمة عممة ال يعتورها ٌ شك ُ وم َّ
ولكن في عصر الرئيس السادات" َّ
كان هذا َّ الش ُك َّ ظل حتَّ ى لو َ
َّ األعم األغلب من أن جرَّ اء معرفتنا َّ
يقينُ ،ي َح ِّض ُر القارئ لتلقي
خفوت اإلثارة سرعان ما يختفي المفكرين واألكاديميين والمثقفين
المصرين،
على
تع ُّدد
توجهاتهم
وحرمانه من التفكير الناقد الذي َّ وأنه يجعله ينظر إلى المستقبل"،
"يقبل بالعلمانية التي تدفع نحو تطور
أن هذه الجامعات المصرية" ،غير َّ ُ تخفت حين تكشف اإلثارة سرعان ما المعني بعبارة أن التوضيحات الالحقة َّ َّ
التي ساهمت في تخريب العقل العربي،
بعقل ُمتفتِّ ح ناقد المقابلة ُ ٍ
َ عارض ،ليس الفكرية والسياسية ،قد
المجتمعات والتي تعد البديل الوحيد
.
للدوغماطيقية الفكرية " ،وما إلى ذلك أقوال حاسمة وقاطعة وغيره من ٍ تنطوي على إثارة ُتجافي طبيعة ُ الحر ومقتضيات الفكر التنويري
التفكير الفلسفي الرَّ صين ،ومغالطات ال تؤيدها الوقائع المشهودة والحقائق
ِّ الصلة ،وال سيما التاريخية ذات ِّ َّ تلك المتعلِقة بما قدمه المفكرون ال َّتنويريون
توجهاتهم،
العرب،
وعلى
على
مدار
تع ُّدد
القرنين
األخيرين من َّ الزمان على األقل ،من رفض ألنطمة "أفكار صادمة"؛ ومن ٍ ِّ المتعددة والمتشابكة مع أنظمة ال َّتابو
االستبداد، ً أيضا؛
ومن
ِّ المتعددة كشف
والمُ تشابكة
عن
مخاطر
األصولية وال َّتطرف والتفكير الظالمي ً أيا كانت مصادرها ومقاصدها ِّ المتنوعة والمتشابكة والمتضافرة مع
"بعض السياسات االقتصادية في
قوى االستعمار واالستبداد وأنظمة
السادات نفسه عصر السادات" بل َّ وج َّ ُ السوية على ل سياساته غير َّ
امتداد مرحلة حكمه مصرَ ،أي طوال ما يسميه االستهالل ُ السادات" بأكملهَّ ، ليشتعل من جديدٍ ،وعلى ثم يعود "عصر َّ الفورْ ، ُ أن صفة ُ الخطورة تلك لم إذ تخبرنا جملة االستهالل َّ ِّ ُتبارح المُ فكر واألكاديمي مراد وهبة ،فـ "ذلك الخطر ال زال
...
ال َّتابو؛ ومن قبول بالعلمانية (وفق ً ِّ ِّ متحوالً وحمَّ ال أوجه) ،ومن مصطلحا متبدل لكونها مفهوم
إطالق للفكر التنويري النَّاهض على اإلعالء من شأن العقل ُ الح ِّر إلنهاض وعي قادر على تمكين النَّاس من إطالق مسيرة ِّ ُ ِّ نهضوية شاملة تمكنهم من مغادرة الماضي المتمدد في
ّ والذهاب إلى مستقبل يستدعيه وعيهم من مستقبل حاضرهم
[كذا في األصل] يالزمه حتى اآلن" ،ولكن ألسباب أخرى مؤداها َّ أنه "رافض على طول الخط أن يقمع عقله أو يساير الواقع أو
َّ مؤصل ال يُ فارق إدراك شروط نقل الواقع بوعي يتصوَّ رونه ٍّ
يسكنه غيره من المفكرين القانعين بضرورة انفصالهم عن
ُ وتتسم بالواقعية وفق رؤية مستقبلية ،شاملة ومتماسكة،
أن يقبع في برج عاجي بعي َدا عن المجتمع الجماهيري ،والذي
ممكن منشود ،ومقتضيات فعل ذلك واقع القائم المرفوض إلى ٍ ٍ
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
115
سجال
العملية وإمكان التطبيق! ُ ُ فإن ما يُ نقول ؤخذ على استهالل المُ قابلة ،وال وعلى ما يبدو ، َّ تعكس إال المُ حاورة ،من إثارة وتشويق ،أو من تلميع مرايا ال ُ مقوالت المُ ِّ ُ ملمح يلتقط سطحها فكر وخالصات تفكيره ،وال َ ٍّ مناقض ،يُ حاوره ،إنما يعو ُد فكر آخر ،مُ غاير أو ظل يعو ُد إلى ٍ ٍ في األصل ،وعلى األغلب ،إلى وقوعه في شراك اإلجابات
عبر تعمُّ ده تصعيد ما انطوت عليه هذه اإلجابات من إثارة ً قدرا هائالً ،وغير وتشويق ينبعان بدورهما من اكتسابها مسبوق في مجال الفكر والفلسفة على األقل ،من الوثوقية ٍ المؤسس والحسم القاطع! اليقينية وال َّتعميم غير َّ
جرثومة ال َّت ُّ خلف ومُ ضا ُّدها الحيوي
عصرنا ووسمت حاضرنا؟ وهل نحو تسعة القرون التي ً ِّ زمنا َجمُ د تكن إال الصراع لم تفصلنا عن زمن اندالع ذلك ْ َ َ وانتفت صيرورته ْ فيه َّ إذ امتنعَ وجو ُد النَّاس ،ف َخل ْ ْ ت من الز ُ نوع ،ولم مراحله وأحقابه من أي صراع ،من أي طبيعة أو ٍ
معرفي حقل مكاني أو أي َحيِّ ٍز تغير في ِّ يعتورها تحوُّ ل أو ُّ ٍّ ٍّ ٍ أو مجال؟!
ومقوالت مفعمة باإلثارة والتشويق وغيرهما من ِّ السمات التي أشرنا إلى اقترانها بها ،ومن ذلك ،مثالً ،حرصه
أن ينطبق ،بدرجة أو بأخرى ،على أغلب األسئلة التي من إليهْ ، ً ً َّ َّ اطالع على اعتمادا تم قد جميعا إعدادها يكون أن بيعي الط َّ ٍ ِّ ِّ المعني ومفكرين واف من قبل مُ عدها على كتابات المُ فكر ٍ ِّ ِّ آخرين ذوي ِ المتعلقة بموضوعات المُ قابلة صلة ،وال سيما تلك
ً جرثومة أن يكون إال ْ ً طريقة في تُ ْم ِلي
التَّ فكير ُيمكن التَّ ُّ خلص منها بتعاطي العلمانية التي هي "مضاد َّ يتكف ُل بالقضاء حيوي" ُ العقل عليها ،فيتعافي
المك َّثف على تشبيه األصولية ،أو التيار الالعقالني المُ حافظ ممثالً بابن تيمية وأتباعه ،بـ "جرثومة ال َّت ُّ خلف" ،واعتباره فلسفة ابن رشد بمثابة "المضاد ُّ الحيوي لل َّتخلص من هذه الجرثومة" [مراد وهبة (مُ ح ِّرر) :حوار حول ابن رشد ،مقدمة الكتاب، المجلس األعلى للثقافة ،القاهرة ،الطبعة األولى،
،1995ص ،]10وذلك في اقتران مع تأكيد خالصة ُ إن "تطبيق العلمانية حاسمة وقاطعة تقول َّ
...
[هو] المخرج الوحيد من هيمنة التيارات َّ مجلة الجديد ،العدد األصولية" [تحرير العقل،
.
،11ص ]66 ً وكأنما ال َّت ُّ جرثومة ُتمْ لِي أن يكون إال خلف ال يعدو ْ طريقة في ال َّتفكير يُ مكن ال َّت ُّ ً خلص منها بتعاطي
َّ يتكف ُ ل بالقضاء وجميع العلمانية التي هي "مضاد حيوي" ُ َّ صحته وجميع ملكاته العقل ويستعيد عليها ،فيتعافي
ليشرع في نقل النَّاس من حال ال َّت ُّ َ خلف إلى وطاقات وطاقاته نحن ،في هذا العصر ،غير مُ طالبين ،كي نقيضه! وكأ َّنما ُ ُنقضي على ال َّت ُّ خلف ونغادر أزمنته ،إال بخوض صراع فكري
قديم نستعيده كي ننتصرُ فيه لـ"ابن رشد" على "الغزالي"، َّ ثم على وريثه الذي صار رأس ساللته "ابن تيمية" ،وكأ َّنما ً كان علمانيا من القرن الحادي والعشرين يعيش في ابن رشد َ
"غزالي" القرن الثاني عشر ،أو كان القرن الثاني عشر ،فيما َ ُّ َ القرن الثالث عشر ،محض فقيهين ظالميين، "ابن تيمية" َ
ويكا ُد أمرُ الوقوع في ِّ الشراك الذي أخذ االستهالل إلى ما أخذه
ً سلفا ،أو تلك التي نجمت عن ومحاورها األساسية المُ قرَّ رة
.
عقب تقرير زمن إجراء المُ قابلة ومع تحديث ذلك االطالع َ ِّ ُ تتسم أن لعبة الوقوع في الشراك قد صارت تبادلية ذلك ،يبدو َّ ُ بال َّتواطؤ ما بين السائل والمجيبْ ، األسئلة مقوالت فإذ ت َبنَّت وأقواالً بدا أ َّنها "مُ َّ و"خالصات مُ َّ ؤصلة"، سلمات" و"بديهيات" ٍ
تداولة بكثافةٍ وإسراف ،أو ألن المُ ِّ ً ً متواترة ،أو مُ فكر لكونها َّ قد اعتب َر ها خالصات يقينية وحقائق راسخة ال يعتورها ظلُّ شك ،نج ُد أن المُ ِّ ً ٍّ ُ تأسيسا على ما أضاءه يشرع في اإلجابة فكر َّ ُ السؤال من بداهةٍ أو حقيقةٍ راسخةٍ أو مقولةٍ يقينيةٍ موسومةٍ بإطالقيةٍ
تؤهلها لل َّتعميم.
أن تكون وكأ َّنما األسئلة ال تعدو ْ
صفحات من مؤلفاته السابقة إال مرايا ال يرى فيها المفكر إال ٍ مالمح ُّ تدل ُه ،من جديد ،على ما كان قد ُ َّ توصل إليه رآه أو أو َ ُ خالصات ورؤى وأفكار! قبل ،من وصاغه ،من ٍ
َ غفل أهميتها، وكي ال نطيل الوقوف عند هذه المالحظة أو ُن نلفت انتباه القارئ ،بإيحاز ،إلى بعض األسئلة ومستهل
اإلجابات التي تندرج ،للوهلة األولى ،في هذا اإلطار :السؤال األول (تر ُّنح الفكر العربي بين الجمود األصولي وال َّتمرد ُّ (تجذر المُ حرَّ مات في المجتمعات العاجز)؛ السؤال الثاني
العربية)؛ السؤال الثالث (هامشية فلسفة ابن رشد واستبعادها عن التطبيق)؛ السؤال الرَّ ابع (اإلبداع وال َّتعليم ،وانحطاط ال َّتعليم في ش َّتى بالد العرب)؛ السؤال السابع (المصير المُ خزي
مسكون بمحمد بن عبد الوهاب، سياسي إسالم أو داعيتي ٍ ٍّ ٍ الخفي المدعو أبا بكر وحسن البنا ،وسيد قطب ،وبالكائن ِّ ِّ مؤلف كتاب "إدارة ال َّت ُّ وحش" ،أو ناجي الذي يُ ْزعَ ُم أ َّنه
إيجابي الرَّ بيع العربي" ،وعجز المثقف العربي عن أداء أي دور ٍّ إبَّان هذه ال َّثورات)؛ السؤال الثاني عشر (ال َّتطور يقف مع
السوداء "خليفة للمسلمين" في دولتهم الكرتونية والعنصرية َّ
السؤال التاسع عشر (الهوَّ ة القائمة بين العقل األوروبي والعقل
ح َّتى البلطجي المُ َّ نصب من قبل قوى االستعمار واالستبداد
أن المُ صطنعة المُ سمَّ اة بـ"ال َّدولة اإلسالمية" التي يُ راد لها ْ ً َ تعرض أمام البشرية بأسرها صورة مُ صطنعة لإلسالم ُتجافي
116
عصورهم ومسبِّبات صراعاتهم التي أسهمت في تأسيس
وفي حقيقة األمر ،فإن كتب المُ ِّ فكر الفيلسوف مراد وهبة َّ
كأنما التَّ ُّ خلف ال يعدو
ملكاته
كثب وأولينا مؤلفاتهم ،وسيرهم، والغزالي وابن تيمية عن ٍ وسالالتهم ،وامتداداتهم السابقة والالحقة ،عناية العقل َّ َّ حق اإلدراك ،شروط حق الفهم وأدركنا، النَّاقد ففهمناهما
ُ شراك ال َّتواطؤ :األسئلة المرايا وإطالقية اإلجابات
وعبارات عناوين وأقوال ودراساته ومقاالته ال تفتقر وجود ٍ َ
صحته ويستعيد َّ
نحن قد قرأنا ابن رشد حقيقته ،أو غيره وغيرهم ،فهل ُ
الذي وصلت إليه الدول العربية إبَّان ما أطلق عليه "ثورات
لكن المجتمع يُ ساند الدوغماطيقية واألصولية)؛ العلمانية َّ
نواح عديدة)؛ السؤال العشرون (الفكر العربي في العربي في ٍ غيبوبة وجميع تياراته يُ عاني من سيطرة المُ حرَّ مات الثقافية)؛
إبراهيم الصلحي
ً ً وحاكما جميع تجلياتها، منبثقا عنها لفلسفته،
وضمن هؤالء الفالسفة ،بل في مقدمتهم ً جميعا ،ابن تيمية وابن رشدٍ ،وساللتيهما، وذلك بوصفهما الفيلسوفين ،أو الفقيهين، أو الفقيه والفيلسوف ،اللذين هما ،ح َّتى اللحظة ،طرفا الثنائية التناقضية الخالدة في أزمنتنا؟! وهل يُ مكن إدراك الفكر بمعزل عن
سياقاته وارتباطاته وأنماط تجليه وأحوال ٌ شروط موضوعية المجتمعات التي حكمتها وكانت هي الحاضنات ،أو المستنبتات، أو المجاالت الحيوية أو الكهوف المعتمة، النبثاق هذا النوع أو ذاك من الفكر ،وتنميته
والسعي إلى تحقيق وجوده في وتمديده، َّ أحياز الحياة العملية ،أأقبية كانت أم قبابا، عبر آليات تطبيق تنبع منه ،أو ُت ُ فرض عليه؟! إن "المُ حرَّ مات وهل يكفي ْ أن ُنك ِّرر القول َّ ِّ الثقافية مُ تجذرة في المجتمعات العربية"، مُ كتفين بإرجاع ذلك ال َّت ُّ جذر إلى "ماضوية
أن العقل العربي" الذي "يستمتع ويشتهي ْ يحيا في الماضي" ،أو إلى "الخوف من تلقي
صدمات في المعتقدات الرَّ اسخة"؟ َّ أكسب العقل العلة وأين المعلول هنا؟ ما الذي َ فإين
السؤال الثالث والعشرون (ال َّتساؤل َّ عم إذا كانت "الرأسمالية ً ً حاسما في ال َّتاسيس لـ"األصولية دورا الطفيلية" قد لعبت
ِّ الدينية" وذلك في صيغة يحيل فيها السؤال على إجابة ِّ معلومة تؤكد أنها قد فعلت)؛ السؤال الرَّ ابع والعشرون (إخضاع ال ُّتراث للرؤية المُ ستقبلية وتجريده من القداسة)؛ السؤال
الخامس والعشرون (تخليص الثقافات العربية من العنف
المُ ق َّدس الذي اجتاحها)؛ السؤال التاسع والعشرون (المأزق ِّ أن يُ سمَّ ى المتمثل في عدم وجود "فالسفة عرب" أو ما يمكن ْ "فلسفة عربية" وكيفية الخروج منه)؛ السؤال الثالثون (من ِّ المفكر والفيلسوف)؛ هم الفالسفة العرب وما هو الفرق بين
.
السؤال الواحد والثالثون (ارتفاع نسب اإللحاد في العالم
.
العربي وتوتر العالقة بين اإليمان وإعمال العقل) ِّ ْ وإذ يبدو أن اغلب األسئلة الواردة أعاله ،وإجابات المفكر ُ َّ مؤصلة عنها ،تتضمَّ نان مقوالت ق ِّدمت في هيئة بديهيات ً فكريا ،أو راسخة في ال َّتاريخ ،أو ذات صدقية تستجيب فإن مجرد تقديمها على هذا النَّحو إ َّنما لمعايير قائلها، َّ يستدعي مُ ْ سالتها ليفتحها على الجدل؛ فهل يُ مكن تشخيص الفكر العربي وتلخيص حاله من جميع األوجه بـ"ال َّتر ُّنح" بين ُ جمودٍ أصولي وتمرًّ دٍ عاجز؟ وما معنى "الـ َّتر ُّنح" في سياق ً ً حقيقيا، إدراكا نحن قد أدركنا يتص َّدى لتشخيص الفكر؟ وهل ُ ً ً ً ً ومكانيا" ،األنساق" التي حكمت الفكر زمانيا وأفقيا، عمقيا ً العربي عموما ،والنَّسق الفلسفي الشامل والمتكامل الذي
أسفرت عنه فلسفة ُك ِّ مؤس ً ِّ سا ل فيلسوف فيما كان هذا النَّسق
العربي ماضويته؟ وما الذي أوقف العقل أسس ،أصالً، النَّاقد عن العمل؟ أو ما الذي َّ
إللغاء العقل؟ وهل الخوف من تلقي صدمات في المعتقدات الرَّ اسخة هو الذي َّ جذرها فق َّدسها وأحاطها بنظام تحريم؟ أو ُ تفعيل عقل، ليس في إدراك الخوف واالستجابة لمقتضياته
بدرجة أو بأخرى؟ وهل االستجابة للخوف ال تكون إال بإلغاء
العقل أو باإلمعان في الخضوع ألنظمة ال َّتحريم؟ أليس ثمة
أن اإلنسان ال يقدر على من استجابات ممكنة أخرى طالما َّ العيش طويالً مع الخوف في دهاليز الخوف؟! وهل األمر مقتصرٌ برمَّ ته على ذلك الدوان في مجال الفكر بمعزل عن تطبيقاته العملية وآلياتها ،وعن ُّ الشروط الموضوعية المتباينة
والمتغايرة التي حكمت المجتمعات وتحكمها وستحكمها؟ َّ تتجلى في الواقع العملي على نحو أن وهل يمكن ِّ ألي فكرة ْ ِّ مُ طابق لصورتها المرتسمة في العقل أو لظلها المرسوم في أن يغيِّ ر األفكار ويُ ِّ عدلها خيلة؟ وهل كان للتطبيق العملي ْ المً َّ أو يأتي بأفكار جديدة ُت ِّ عززها أو تناقضها ،أم أنه لم يفعل؟ تشخيصي تحليلي ودقة ألن نعرف ،بعمق إننا لفي حاجة ْ ٍّ علمية ُتجافي االنطباعات األولية واألقوال االنفعالية واألحكام الموروثة والمتداولة ،األسباب الجذرية ،الحقيقية ال المتخيلة ،التي أفضت بمجتمعاتنا العربية ،على تباين أوضاعها َّ
ومساراتها والشروط الموضوعية التي تحكمها أحيازها ،ألن ِّ ً وتخل ٍف تتباين تبقي موسومة ،على مدار ألف عام ،بجمودٍ
أنماط متباينة من السكون والجمود والعجز درجاتهما بين ٍ
المهيض والموت؟!
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
117
سجال
عزل ِّ الصراع عن مسبِّباته الجذرية
َّ ولعل الكالمَ عن تكفير ابن رشدٍ ،وتهميش فِ ْكره (العقالني ً المُ ستنير) استنادا إلى تكفيره من قبل الفقيه ابن تيمية
يُ درك المسبِّبات والشروط الموضوعية الحاكمة والضرورات والعلل ،وال نعتم َد ال َّتفسير نفسه في مقاربة ِّ الشق الثاني ،أي ُ ِّ َّ المثمثل في كون ابن رشدٍ "موضع اضطهاد في أمَّ ته"، الشق
السلفي) ،مع استمرار هيمنة فكر األخير وبقاء فكر (النَّقلي َّ ً األول مُ همَّ شا طوال تلك القرون وفي جميع المجتمعات
بقصد تفسيره وإدراك مُ سبِّباته؟!
على االرتجال أو التَوظيف اإليديولوجي والسياسي أو في
مُ فارقة ابن رُ شد ومحنة العقل
أن يُ ْحمَ َ ل ،من جوانب عديدة ،إال والثقافات العربية ،ال يُ مكن ْ أحسن األحوال ،على استسهال إطالق األحكام واستنباط
الخالصات من خالصات سابقة ،أو من معلومات وردت في كتب تراثية ،لم ُت ْخ َ ضع ألي نوع من المراجعة أو ال َّت ُّ فحص
.
مستهل تفسيره ِّ ِّ الشق الثاني من المُ فارقة ،يتساءل مراد في وهبة َّ عم إذا كان "ثمَّ ة عالقة بين ترجمة مؤلفات ابن رشد
والتغير االجتماعي [في أوروبا ع ب] في القرن الثاني عشر ِّ [كذا]؟ َّ ليؤكد وجود تلك ثم يشرع في توصيف ذلك ال َّتغير،
فإن المسألة المُ عمَّ ق والتدقيق الرَّ صين وفي حقيقة األمر، َّ َّ معزول بين مذهبين فلسفيين ،أو بين فقيه بصراع تتعلق ال ٍ ٍ وفيلسوف ،أو بوشاية رفعها إلى "الخليفة" أو إلى "ولي األمر"
أن "سلطان الطبقة الثالثة" قد بدأ في النُّمو، العالقة ،وليبيِّ ن َّ ُ وأن ذلك ُك ِّله قد تواكب مع "بزوغ الرُّ وح العلمانية التي ترفض َّ
في النَّاس ض َّد الثاني ،أو كيد كاده نفرٌ من المقربين من ُ نتيجة رأس السلطة السياسية ض َّد هذا أو ذاك ،فكانت
َّ الذاتية المتصلة بالمكونات والخصائص التي بالعوامل
ُّ يخص ابن تيمية ومناصريه وابن رشد ومناصرية،
الفعلية إلقدام هذا الحاكم ،أي فريدريك الثاني ،على األخذ
أو إلى "الحاكم" أحدهما ض َّد اآلخر ،أو فتوى أطلقها أولهما
َ محض أمر واحدٍ منه ،فيما ذلك ُك ِّله ،أو بعضه ،أو ربما
وهكذا ينهي مراد
أن "أصدر المنصور [األمير المُ وحدي المنصور بن وهبة ْ ً أمرا بنفيه [أي ابن رشد] أبي يعقوب يوسف ،ع ب]
المكرس لتفسير مقالة َّ
.
إلى إليسانة" ،وإحراق كتبه ولكن ،وبحسب ما ٌ تذكرُ مرجعية أخرى ذات ِ ص َلة ،ما هما إال كتب ٌ
مفارقة ابن رشد بتفسير
رأس السلطة تبين األميرُ ؛ الذي هو ُ عامان ح َّتى َّ
ً تفسيرا شقها األول ُ ً يختزل موضوعيا ،فيما هو
السياسية ،حقيقة الوشاية الكيدية أو ال ُّتهمة ً سياسية ،فاستدعاه واسترضاه التي لم تكن إال
تفسير َّ الشق الثاني
يُ مكن عزو تهميش فكر ابن رشد وفلسفته إلى
بالعامل الفكري
وأكرمه كواحد من كبار رجاالت دولته! فهل
أي من تلك األسباب أو ح َّتى إليها مجتمعة في ِّ ظل عدم استمرار محنته َّ الشخصية إال لعامين؟
ِّ مستهل جواب عن هذا ربما نستطيع العثور على
السؤال األخير ،في المفارقة التي تقيمها الجملة ً مباشرة للجملة التي اقتبسناها أعاله من إجابة التالية
المُ ِّ فكر عن سؤال "الجديد" حول "السبيل إلى إخراج
.
فلسفة ابن رشد من الهامش إلى ال َّتطبيق" ومن المفيد ،هنا،
ُ تقيم المفارقة وفق ما وردت في نقتبس كامل الفقرة التي أن ُ ْ ُ سياق اإلجابة يقول مراد وهبة" :وأجهضت فلسفة ابن رشد ً أمرا بنفيه إلى إليسانة، في العالم العربي حين أصد َر المنصور
.
في حين أمر اإلمبراطور فريدريك الثاني بترجمة كتبه في الصراع مع رجال ِّ مواجهة ِّ الدين المسيحي"
.
ُ مستهل الجواب الذي تمليه هذه المُ فارقة إال سؤال آخر ليس ِّ ُّ نستله من دراسة ،أو ربما هي مقالة فحسب ،للمفكر مراد وهبة بعنوان "مفارقة ابن رشد" [ابن رشد مُ ِّ ً ً فك ً ورائدا عربيا را
لالتجاه العقلي (كتاب مُ شترك) ،المجلس األعلى للثقافة، القاهرة ،الطبعة األولى ،1993 ،الصفحات ،]38 – 31والسؤال ً ً ومنطقيا وبحسب أي منهج تحليلي عقليا هو :هل من الجائز،
الش َّق الثاني من المُ فارقة ،أي ِّ فسر ِّ أن ُن ِّ الشق المتم َّثل في كانْ ،
118
ً ً ممه ً ِّ موضوعيا تفسيرا دا للتنوير في أوروبا، كون ابن رشد
ُ ويربط مراد حكومات ثيوقراطية يكون مركزها روما" وجود ٍ ً وهبة العوامل الموضوعية التي اعتمدها أساسا لتفسيره
.
وَ سمت ُهوية الحاكم فأملت توجهاته وأوامره ،وبال ّدوافع بمشورة مستشاريه وإصدار األمر بترجمة مؤلفات ابن رشد،
تستجيب لمناهضة الثيوقراطية كنظام ُ ألن "فلسفته وذلك َّ ُ ُ اجتماعي تسانده الكنيسة الرُّ ومانية"
.
مُ فارقة في تفسير المُ فارقة
أن المفارقة التي تنبع عن منهج تفسير المُ فارقة ،إنما غير َّ ِّ تكمن في اكتفاء مراد وهبة ،في تفسيره للشق الثاني من
المفارقة التي أضاءها أمام عقولنا ،بإعادة إثارة السؤال" :ماذا حدث البن رشد في العالم اإلسالمي؟ وفي اختزال الجواب
بعبارة" :ال رشدية" ،وفي تقليص تجليات تهميش الفلسفة
الرُّ شدية بعدم ورود اسم ابن رشد ،أو أيٍّ من مؤلفاته ،في ً عرضا وفي مناسبات ال المراجع التراثية ذات الصلة ،إال ِّ الكف ،وذلك على نحو جعل هنري كوربان يُ ق ِّرر تتجاوز أصابع أن "الرُّ شدية في َّ أن يشعر بها أحد" [مراد الشرق مرَّ ت من غير ْ َّ وهبة :مفارقة ابن رشد ،مقال ضمن كتاب :ابن رشد مُ ِّ فكراً ً ً ورائدا لالتجاه العقلي (كتاب مُ شترك) ،المجلس األعلى عربيا
للثقافة ،القاهرة ،الطبعة األولى ،1993 ،ص َّ ،]37 ثم في الخلوص، بعد هذا العرض الموجز ،إلى تفسير أسباب اضطهاد ابن رشد (في العالم اإلسالمي بحسب مراد وهبة وفي الشرق بحسب هنري كوربان) بـ "اضطهاد الفلسفة والفالسفة" ،وكأ َّنما المُ ِّ فكر
ً جوابا ال ينطوي يجيب عن السؤال بتعديل صيغته ليصبح على إضافة ذات مغزى ،بالرغم من كونه مُ عادلة منطقية :لماذا
كان الفيلسوف ابن رشد موضع اضطهاد في أمَّ ته؟ الجواب:
ألن أمَّ ة ابن رشد اضطهدت الفلسفة والفالسفة، وألن ابن رُ شدٍ َّ َّ ُ ُّ َّ فيلسوف ،فقد اضطهد في أمَّ ته! هكذا يتبدى االضطهاد الذي
يتوخى السؤال معرفة أسبابه َّ َّ علة نفسه؟ فسبب االضطهاد هو االضطهاد! وسبب تهميش الفلسفة والفالسفة وإقصائهما
هو تهميش الفلسفة والفالسفة وإقصائهما! وسبب اضطهاد
ُ ً َّ وتضطهدهم فيلسوفا في أمَّ ة تكره الفالسفة ابن رشد هو كونه تكره الفلسفة ُ ُ وتنكر حاجتها إليها! ألنها ٍّ َّ َّ وفي خالصةٍ مُ كثفة ومُ ركزة تتسم بتعميم مُ خل ،يفصح
المُ ِّ فكر عن تقديره ألسباب االضطهاد فيقول" :وفي تقديري أن من أسباب اضطهاد ابن رشد اضطهاد الفلسفة والفالسفة"، َّ
إلدراك
االقتصادية واالجتماعية والسياسية والثقافية مُ سبِّبات ال َّت ُّ ِّ خلف المُ زمن ،واالستبداد المُ تشعب والمتشابك
ً والمتمدد ،داخالً ِّ وخارجا ،وفي أطواء َّ الضمائر وثنايا العقول، ِّ المفكر مراد وهبة يدركه تماماً، ُّ أن وهو األمر الذي ال نشك في َّ ُ نتساءل ،عن دوافع إغفاله وعدم األخذ به من قبله في ولكننا ً ً تشخيص الواقع الذي نعيشه ونعانيه ،أمراضا وسموما ،كي
َّ "إن ثم يذهب إلى توضيح هذه الخالصة بخالصة ثانية تقول َّ ِّ ً اضطهاد الفلسفة كان مستحبا لدى الجماهير" ،وثالثة توضح
َّ ليتمكن يُ حسن تشخيصه وتحليل جراثيمه ومُ سبِّبات أمراضة
وإن علماء الكالم هم َّ
التي تعافينا من أوجاع هذا الواقع وآالمه ،فتعفينا من مكابدة
"إن الجماهير في حاجة لمن يحرضها ألنها األمر فتقول َّ
عاجزة عن قراءة الفلسفة وفهمها ...
المُ ح ِّرضون" ،وإلى غير ذلك من أقوال مماثلة تختزل أسباب
االضطهاد بالصراع بين علم الكالم
من تزويدنا بالمضا َّدات الحيوية والترياقات ووصفات العالج
آالم السقوط المُ ِّ روع في مهاوي مآالته المأساوية المُ هلكة!
إغفاالت منهجية وأجوبة جدالية
والفلسفة ،ذاك الذي تبلور في الخالف مؤس ً سا على، بين الغزالي وابن رشد، َّ أو مُ ْسفِ ً َ الفالسفة را عن ،تكفير الغزالي
بسبب تأثرهم بالفلسفة اليونانية.
وهكذا ينهي مراد وهبة مقالة المكرَّ س لتفسير مفارقة ابن رشد بتفسير شقها ً ً موضوعيا ،فيما هو تفسيرا األول َّ ُ الشق الثاني بالعامل يختزل تفسير
الفكري ،أي بهيمنة الفقه والفقهاء ِّ والمتكلمين من أصحاب علم الكالم، َّ ثم يعو ُد في الفقرة األخيرة لينسب
الغزالي إلى الفلسفة ،ال إلى الفقه َّ ثم أو علم الكالم ،وليخلص من إلى القول "وإذا ُكنَّا قد انتهينا إلى أن فلسفة ابن رشد هي في جذور َّ
فإن فلسفة التنوير ،في أوروبا، َّ الغزالي ض َّد التنوير وإذا كان ابن ً غائبا في كل من المشرق رشد ما زال
.
العربي والمغرب العربي ،فمعنى ذلك
َّأن التنوير غائب.".
وينتهي
األمر
باجتزاء
منهجي
وتعميمية قاصرة ال يحققان سوى موضوعي العجز عن تقديم أي تفسير ٍّ
لسيادة
االضطهاد
في
عالمنا
يتأس ُس اإللحاح على نقد هذا ال َّ
الم ِّ فكر ُمراد ما الذي دفع ُ ألن يستبدل مصطلح وهبة ْ "الوضع القادم" بالمصطلح "الوضع الممكن" الذي ُ وراسخ مؤص ٌل هو مصطلح َّ الحضور في الفلسفة
اإلغفال غير المُ سوَّ غ ،مع الحرص
وتبين متضمَّ ناته على تبيان مثالبه ُّ
ودالالته ،على افتقار النَّهج الذي اتبعه مراد وهبة ،في تفسيره مفارقة ِّ والدقة ابن رشد ،إلى الموضوعية
العلمية والرَّ صانة الفكرية ،فحسب، يترس ُخ بسبب من تواتر تكرار وإنما َّ ً مقترنا بإغفاالت منهجية تجلياته
َّ يتطلبها العقل النَّاقد والتفكير أخرى ُ وعي الح ِّر مع النَّاس بغية إنهاض ٍّ
والعلوم اإلنسانية ،وفي
نهضوي يحملهم إلى مستقبل أفضل
نظرية األدب النَّ قد األدبي،
على تكوين رؤية واضحة ومتماسكة
يتوقون إليه وال يمتلكون القدرة
الم َف ِّك ُر الفرنسي، ُم ْذ َص َّكة ُ
بشأنه ،في إجاباته عن أسئلة المقابلة َّ ولعل هذا التي نتحاور معهاُ ،هنا
التكويني ،لوسيان غولدمان،
مُ عاودة اإلطالل على بعض مؤلفات ِّ المفكر وكتاباته ومقاالته ذات ِّ الصلة،
الم ِّ نظر والنَّ اقد البنيوي ُ
الم ِّ فكر المجري ُمستلهما ُ جورج لوكاتش
العربي ،وذلك لتفاديهما ح َّتى مُ جرَّ د
اإلشارة ،وال نقول التناول المنهجي االستقصائي ،إلى االستبداد المزمن،
واالستعمار الخارجي المتعاقب، اللذين حكما َّ كل أحياز هذا العالم طوال ما يربو على ألفية ُ َّ َّ َّ ّ الموحدية حتى اآلن ،نعم حتى منذ أواخر الدولة كاملة ،أي اآلن! َّ يُ َّ شك في أنه ال مكن اختزال تفسير محنة العقل ،في عالمنا وال العربي المتردي منذ ألف عام ،بالعامل الفقهي ،أو الفكري ،الذي ِّ مؤث ً ال يالمس إال حيِّ ً را ،من أحياز البنىية وإن كان زا ضئيالً، ْ الفوقية للمجتمعات العربية ،ناهيك عن إغفاله بُناها ال َّتحتية ً جميعا ،فالتفسير العميق إنما يكمن في تحليل األوضاع
.
ال َّترسخ قد عمق لدينا ْ إذ أدركنا ،عقب
أن تكون أن المسألة تقترب من ْ َّ ً ً ً نهجا مُ عتمدا من ظاهرة ،أو
قبله.
أن يُ ِّ فسر ،فيما نحسب، ولهذا اإلدراك ْ األعم األغلب من المقوالت واألقوال
والخالصات التي وردت في إجابات المُ ِّ فكر ،وآليات التحليل واالستنباط المجتزأة التي َّ ات َبعَ َها ،والتي يأبى
يلح على ضرورة أن نأخذ بها فيما هو ُّ علينا العقل النَّاقد ْ إخضاعها لل َّت ُّ فحض والتدقيق والنَّقد ،وذلك على نحو يستجيب لتعريف ابن رشد للحكمة بوصفها "الن ََّظرُ في األشياء بحسب
ما تقتضيه طبيعة البرهان" وهو التعريف الذي يضعه مراد
أن يُ لبِّي وهبة في رأس مقالته ،أو على نحو يُ مكن واحدنا من ْ ٍ ً ُ دعوة إيمانويل كانط للكائن البشري" :ك ْن جريئا في إعمال ُ العقل" ،فيما هو يأخذ نفسه بمقولة رينيه ديكارت التي ألزمَ
ومتميزة" وهما بها نفسه":ال أومن بفكرة إال إذا كانت واضحة َّ
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
119
سجال
َّ يكف مراد وهبة عن اإلشارة إليهما ال َّدعوة والمقولة اللتان ال مُ َح ِّف ً َ عقول النَّاس على إدراك مقتضياتهما ومقاصدهما، زا
ً داعيا إلى تلبية األولى ،واالقتداء بالثانية! ً نذهب إليه ،وبقصد فتح األسئلة ُ وتدليالً أوَّ ليا على ما موضوعيا وخالَّ ً ً قا ،نور ُد أقواالً وإجاباتها على حوار ُنريده َّ ُ التفحص والنَّقد بغية فتحها ب اإلخضاع إلى تتطل ُ وخالصات ٍ ً ً ومنهجيا ،على فكريا لمناقشة مُ عمَّ قة قد ُتفضي إلى تأصيلها، نحو يتيح األخذ بها وفق مُ ِّ غات وآليات تحليل وإدراكٍ سو ٍ ً يقبلها العقل النَّاقد ،أو يملي ضرورة رفضها تماما الفتقارها
تلك المُ ِّ سوغات أو لتجرُّ د عملية الوصول إليها وإقرارها عن إعمال تلك اآلليات ،أو لكال األمرين معاً
.
ً بعضا من هذه األقوال نور ُد ُهنا ،على سبيل التمثيل ال الحصر،
ُ تندرج في نطاق مسألة واحدة هي مسألة والخالصات ،التي ُّ ترنح الفكر العربي وغياب الرؤية المستقبلية التي أثارها سؤال المقابلة األوَّ ل ،وسنعم ُد في هذا السياق إلى تثبيت ُ قراءة هاته الخالصات األسئلة األوَّ لية التي تستدعيها
ما حاجة المقهورين
ً من قبل عقل يُ ري ُد لنفسه أن يكون عقالً يتوس ُ ل ناقدا َّ ٍ ُ ُ نفسه بتف ُّتح وجرأةٍ ، فيعمل البرهان سبيالً لإلدراك،
من النَّ اس إلى ثورة فكرية شاملة تسقط عتادها من ٍّ عل عليهم واقع يعانون وعلى ٍ
تتأسس على ضراوته وال َّ ُمشاركتهم العملية في سبر أغواره ممكناته
جلي ًا ،متميِّ ً وال يُ دْخِ ُ َّ ومؤصالً، زا ل رحابه إال ما كان َّ من األفكار أو من خالصات القول: ُّ يستهل مراد وهبة إجابته عن السؤال األوَّ ل ِّ المتعلق بقصور الفكر العربي وعجزه عن إنهاض ِّ إن "تر ُّنح الفكر العربي ثورة فكرية، بالقول َّ وعجزه عن القيام بثورة فكرية شاملة يرجعُ إلى
عجزه عن تكوين رؤية مستقبلية" ،ويُ ضيف إلى ً أقرب إلى خالصة أخرى تقول ُ توضيحا هو ذلك
إنه "بغياب الوضع القادم أو الرؤية المستقبلية يظل الوضعُ القائم في حالة أزمة"ُ ،ث َّم يُ ردف قائالً ُّ
ً مأزوما وال يُ وجد رؤية وإدراك "عندما يكون الوضع القائم ُّ مستقبلية لتغييره ،هنا يحدث التراجع والتخلف"
.
ُ تشرع األسئلة في االنهمار: أن نقرأ ما قرأنا ح َّتى ما ْ َّ وكأن المسألة برمَّ تها تتعلق بصراع أال يبدو األمر ،هنا، َّ
فكري مُ فارق للواقع ،أو كأ َّنما الوضعين "القائم" و"القادم"
يسبحان في فضاء بال ُهويَّ ة سواء أكان هذا الفضاء هو عاجز لفكر مساحات المجتمع أو مدارات العقل؟ ُث َّم كيف ٍ ٍ أن يتر َّنح؟ وما هو معنى تر ُّنح العجز أو تر ُّنح الفكر العاجز؟ ْ ِّ أليس الفكرُ الحرُّ ،المتفت ُح المُ ستنير ،الملتصق بالواقع على ِّ يمكنه من سبر أغواره لتشخيصه وتعيين أمراضه نحو وإدراك ممكناته الفعلية وتحديد موارده وطاقاته ،هو وحده القادرُ على بلورة رؤية مستقبلية؟ وح َّتى لو أمكن الحصول
على رؤية مستقبلية ،واضحة ومتماسكة ،أو مهوَّ شة ومُ َّ َّ ولعل فكككة ،أو غائمةٍ عائمة ،أو غير غائمة وغير عائمة - ً أن يكون متوفرا ،على مستوى الفكر المُ طابق مثل هاته الرؤى ْ
للواقع أو المُ فارق للواقع ،في كتب األولين والمعاصرين من ِّ المفكرين االصالحيين والتنويرين على تباين اتجاهاتهم لتوفر الرُّ ؤية المستقبلية أن يُ ِّ ُّ شكل ،وحده، ومشاربهم -فهل
ً ً راسخة وصلبة ُت ُ نهض ثورة فكرية شاملة؟ وما هي رافعة وأن هيئ للتغيير ْ معايير الرؤية المستقبلية التي يُ مكن ْ أن ُت َ تسهم في إنجازه؟
َّ ثم ما حاجة المقهورين من النَّاس إلى ثورة فكرية شاملة ٍّ واقع يعانون ضراوته تسقط عتادها من عل عليهم وعلى ٍ تتأسس على مُ شاركتهم العملية في سبر أغواره وإدراك وال َّ ُ ممكناته فيما هم يسبرون أغوار أنفسهم ويدركون ممكناتها،
ويهيئون أنفسهم إلطالق ثورة يتواكب فيها الفكر مع حراك ّ ويعززه ويُ ِّ رسخ النَّاس في تضافر وتفاعل يثري كليهما حضوره في العقل وفي الواقع اللذين هما المجال الحيوي
المُ شترك للتغيير المفضي إلى االنتقال من "الواقع القائم" إلى "الواقع الممكن"؟
ثم ما الذي دفع المُ ِّ َّ ألن يستبدل مصطلح فكر مُ راد وهبة ْ
"الوضع القادم" بالمصطلح "الوضع الممكن" الذي هو مصطلح مؤص ٌ ُ َّ وراسخ الحضور في الفلسفة والعلوم اإلنسانية ،وفي ل ِّ ِّ ص َّكة المُ َفكرُ الفرنسي ،المُ نظر نظرية األدب النَّقد األدبي ،مُ ْذ َ والنَّاقد البنيوي التكويني ،لوسيان غولدمان ،مُ ستلهما المُ ِّ فكر المجري جورج لوكاتش؟ وكذلك ما المُ ِّ سوغ العقلي ،المنطقي
والفعلي ،الستبدال مصطلح الرؤية المستقبيلة" بمصطلح ً َّ أيضا، صكه غولدمان، "رؤية العالم" أو "الرؤية للعالم" الذي في سياق نسق فلسفي مُ تكامل مع المصطلحين األوَّ لين؟ َّ ثم
ِّ المسوغ الفلسفي أو العملي أو المنطقي لجعل "الرؤية ما هو ً المستقبلية" رديفا لـ "الواقع القادم"؟ الحيز المتاحُ ،هنا واآلن ،على صفحات ليس ثمَّ ة من م َّتسع في ّ
"الجديد" لكتابة أيٍّ من اإلجابات التي يقترحها العقل بوصفه ً ملكة تفكير واستقصاء وتحليل ،وحيِّ ً معرفيا يكتنز معرفة زا
تتأسس على معلومات مُ َّ دققة ومعطيات مُ َّ رجحة وأفكار َّ َّ مؤصلة ،فما غاية األسئلة التي طرحناها ،هنا ،إال إثارة ال َّتفكير َّ في إطالق حوار ثريٍّ وخالق وليس لكاتب هذه السطور إال
.
ً ً خافتا لعقل يتوق لتلقي عطاء عقول أخرى صوتا أن يكون ِّ ْ أن تسكن عقله ،ليفكر فيكتزه في عقله إذ يتيح لتلك العقول ْ
فيها وبها ومعها الستجالء صدقية حقيقةٍ ،أو جوهر فكرة ،أو
رصانة تشخيص أو تحليل .
ِّ كان لهذه األسئلة أن تنبثق على النَّحو الحق أ َّنه ما ومن َ ِّ َّ َّ الذي تقدم لوال ثراء اإلجابات الجدالية التي قدمها المُ فكر مراد وهبة على أسئلة "الجديد" ،وهو ال َّثراء الذي يكمن
جوهره في َّ الطاقة الهائلة التي تملكها تلك اإلجابات على توليد األسئلة ،وعلى تحفيز العقل على إمعان التفكير ،وحثِّ ِّ ً وتوسيعا الكف على مواصلة الكتابة ،متابعة للحوار، أصابع ً له بما يستجيب ِّ للسعة ،الهائلة أيضا ،من الموضوعات التي
َّ توخت إتاحة المجال تطرقت إليها المُ قابلة التي يبدو أ َّنها قد أمام المُ ِّ ِّ ً شيئا عن ُكل شيء ،وليالمس فكر مراد وهبة ليقول بأقواله وخالصاتة ُك َّ ل مسألة وموضوع ذي صلة بتوق العرب
إلى فتح نافذه في جدران سجونهم لعلهم ينفذون منها إلى
واقع جديدٍ ممكن
كاتب من فلسطين مقيم في براتشسالفا فادي يازجي
120
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
121
شعر
غرقى جبليون محمد ناصر المولهي
صغِ ير ٌ َزوْ بَعَ ٌة َ َة
ٍ سنوات ِم َن اله ِْس ِتيريَا حتاج إلى أَ ُ وضج ٍر يكون ف ّحاما ألنْفَاسي يهرسها عل ُّو التِّالل أجنح ٌة كثير ٌة ُ ويدف ُنها في َه ْيكَلي ال ُمح َّمل بـ 60كلغ من األَعضَ اء. أصبحت َمقبر ًة ث َقيل ًة من حتّى أنٍّي ُ يش وال َخالَيَا الف ِ ال ِّر ِ َاسدة ال ُسو َر لي وال أَ ْسما َء ال تَوارِي َخ أ ْهذي ثم أ ْهذي صاصة وأستل ِقي طَ ِّي ًبا كري ٍح ُمصاب ٍة ب َر َ أصبح ما ضَ ا َع م ِّني هو األَ ْج َم ُل ها قد َ واألكث ُر ُحضُ و ًرا وأل ًما وبدأتْ أش ُّد مناطقي بعدا وخطورة في تمزيقي ما سيحدثَ :ز ْوبَ َع ٌة م ْن بقايَا أ ْج ِن َحة جلَ َبة ُدخان ثقل يَ ْم ُحو ُه ال َخ َواء. ٌ ض ْح َ ألجل ِ كةٍ
ال َج ْدوى من األَ ْمر لك َّن ِني أَفْ َعلُه هكذا تَع َّو ْدت 122
أن أُلْقي قَ ْم ًحا لعصافي َر سي ْق ُن ُصها ال َّر َصاص ٍ بكلمات يت ُركُونها أن أح ِّدثَ ما ِّري َن َوراء ُهم لست أ ْعرِف تع َّودْتُ أن أق َُول ما ُ بأصا ِب ِعي وأن أص ُر َخ كات ًما َصوتِي َ أفعل ما ال َج ْدوى م ْنه أنا ُ أفعلُ ُه وأنا أضْ َحك كل َذلِ َك أل ْجلِ ِض ْحكَة. ُّ ال مفرَّ
رأيت الغ َد ُ ق ْر َب ميناء العاصم ٍة الق َِديم يحمل شيئًا في يَ ِده ل ْم يَ ُك ْن ُ كا َن ُم َح ِاصرا بم ْن ي ْنتَ ِظ ُرونَه أصا ِب ِعهِم بدخانٍ ب ْي َن َ وتوارِي ُخ ُجو ِعى على أكْتا ِفهِم ي ْجرِي بع ْي َن ْين ُم ْغ َمضتَ ْين ي ْجرِي هاربًا اصر. ي ْجرِي وهو ُم َح َ
ال ُت ْ شعِ ُلوا ال َّنا َر
ص ِّدقُونا إ ْن قُلْنا إنَّنا نَ َقلْنا ِج َباالً وبُ َح ْيرات في َعربَ ٍ ات من ُعل َِب الطَّ َم ِاطم إ ْن تَح َّدثَ أح ُدنَا
ع ْن نسا ٍء يَ ْخ ُر ْج َن من ِث َمار عن أبديِّ ٍة عريَانَة على ض َّف ِة نَ ْهر ص ِّدقُوا ما نقولُ ُه ل ُك ْم تحتنا مالئ َك ٌة بأبنائِ َها وزيَاتي َن ص ِّدقُونا بينما تُشْ علُون ب َنا ال َّنار. أنا اب ُنك أيضا
لقد آذونِي كثي ًرا هشَّ ُموا أن ِفي ببندق َّي ٍة أذني ب ُعوائ ِه ْم الحا ِّد قط ُعوا َّ الصغي َر ب ُد ُموعهم م ّزقُوا قلبِي َّ وأظفار ِه ْم الم ْد ُسوس ِة في أصاب ِع ِه ْم قدمي في َمتا َه ٍة من الطُّ ُرقات أذابوا ّ حادفُوا ظهرِي بألس َن ِت ِه ْم وأع ُي ِن ِه ْم ِ ذات الشَّ َف َرات طع ُنوا ِ شمسي خلف التِّالل الهاربَ َة َ يت َب ُع َها خ ْي ُط ِد َماء دف ُعونِي إلى ُركْنٍ ُمظْ ِلم سرقُوا لُقْم ِتي و ِث َيابي وج َّع ُدوا ِجلْدتي من ال َع َراء فلماذا لم تَ ْم َن ْع ُهم عن ذلك؟ نقصان
بري الغ ُّص ُة تنط َُح ُح ْنجرتِي كَثَ ْو ٍر ّ
حسني جمعان
تستَ ِع ُّد لل َّزوال ثم إنك لم تُ َغ ِّير شيئًا حتى تلك الجوار ُِب التي ت ْحب ُِس البر َد في ِر ْجل ْيك. ه َذا المَ َ َ طر
تنتفض في ِ رأسي إنّها غابة ه ّي َجتْها ريح. وقف هذا البكاء؟ كيف أُ ُ وخ ّداي آثار عجالت في الطِّين ِ غادرت اآل َن ها قد واكتمل المشه ُد بال ُّنق َْصانِ ركبتي على علي اآلن أن ألطِّخ ّ هل ّ األ ْرض؟ علي أن أطلق ال َّنار على ِ رأسي ؟ هل ّ سأظل أسأل دائ ًما ِ كلمات ال ُح ِّب تتح َّو ُل ما الذي يج َع ُل إلى َسكَاكِي َن بَار َد ٍة؟ كل هذا ألجل أ ْن يكت ِم َل ال َمشْ َهد؟
رصاصا ُمذابًا قد يكو ُن ً ٍ أشواك يقف ُز أو س ْر َب قد يبدو هذا المطَ ُر ُخيو َط َما ٍء أثواب بار َد ٍة تتح َّو ُل إلى ٍ لك َّن ُه َمط ٌر في ال ِّن َهايَة َمطَ ٌر لوالَ ُح ْزنُك. َ شاعِ ٌر
كتبت ما استطَ ْع َت ها أنت َ حركات ِ ِ الح ْبر ألصقت أ ْخيلَ ًة على ال ُمتْرفة وها هي كلماتُك عاري ًة أمام ُغ َرباء ك ِر َه َك ال َب ْع ُض وأح َّب َك آخ ُرون (وحقيقة ال أجد سببا ُمقْنعا لهذا) إمكانات للمطر ها قد غ َد ْوتَ شا ِع ًرا قد يبدو هذا المط ُر أسالكًا وسياطًا أو ُح َق ًنا ت ُّ ُدق دفع ًة واحد ًة في عضالتك بجرا ٍح الئِقَة وشفتَ ْين خبيرتين بال ِم ْك ُروفُونات ال َّز ْرقَاء يح من كُتلِ يعرف َُك ال َب ْع ُض قد يكُو ُن برا ٍغ ف َّك َكتْها ال ِّر ُ ويجهل َُك آخ ُرون ال َغ َمام من الغبا ِء أ ْن تَ ْحلُم بال ُخلُود في ٍ أرض أو ثقوبًا ال عد َد ل َها
نصا عن خيب ِتي كنت سأكتب ً ُ ِ بتنظيف ُمفرداتِي والتهيت ُ الس َن ِ وات و َماليينِ األفْ َواه من أث ِر َّ أخذتُ أو ِقفُها بجانب ِ بعض َها أدف ُع بعضَ َها إلى ِعناقٍ حا ٍّر وأنخ ُز أخرى لتن َّز ربطتُها ج ّي ًدا أجول بين ُخ ِ وأخذتُ ُ طوطها كآم ِر ِس ْجن ُ كيف لتلك ال َّرخويَّات ال ُمس ّنة وأتساءل َ أن تقُول خيبتي وتحملُها على أ ْذ ُرعها ال َجافّة إلى قارئٍ يُ َفلّي ال ّد َم في الكل َم ِ ات.. خيبتي تهيج كعاصفة من الحجا َرة كلماتي تركُل بعضها وتهرب إلى ال َه َباء إنّها ت ُخونُني هي األُ ْخرى م َّزق ُْت ال َو َرقة و ُر ْح ُت أُ ْص ِغي إلى ُهطُو ِل ال َمطَر. َّ لس ُت ْم َق َت َل ًة ألن ُك ْم ْ
أغل ُبكُم لن يبني غُرفَة ولن يظف َر ِ بوظيفَة أغل ُبكُم ل ْن ي ِج َد ال ُح َّب ويربّي طمأنين ًة وديع ًة في أيّامه أغل ُبكُم لن يُفْلح في بح ِث ِه ع ْن ذَاتِه ولو ش ّرح ُح َب ِ يبات الغُبار بمشط وعوانس وع َّزابًا نس ِّمي بعضكُم عاطلي َن َ وفشلَ ًة نس ّمي أغلَ َبكُم “طبق ًة مسحوق ًة ”
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
123
وكأنَّكُم حنطة في ر َحى لكي تنتصروا. أنتُ ْم لستُ ْم قتل ًة ْ ما سيحدث
124
الَ ُت ْخ ِب ُرو َ ها ِب َذل َ ِك
ال تُخب ُروها أنني لن أكو َن هنا غ ًدا صبا َحا ال تد ُعوها تعرف أنني لن أعود أب ًدا مازالت تُمسكني من أذني وتد ِّر ُسني الرياضيات واللغة في المط َبخ مازالت تح ِّم ُمني ،تدلُكُني بزيت الزيتون بالخل وتك ِّم ُد رأسي الساخن ِّ تغ ِّني لي وت ْغ ِلفُني بال ُّدعاء تشتُ ُمني وتلفّني بال ُّدعاء بكت حين ب َك ْي ُت وحدها ْ وك ُبرتْ حين ك ُبرتُ وحدها من ستسقُط حين أسقُط اكتبوا وأومئوا لها باس ِمي ِ السنوات دعوها تنتظ ُرنِي بصمت َّ وال تتركوها تعلم أنَّني لم أع ْد ُهنا.
العودة إليها
ُ ان عَ ْ ون س ٌ فرْ َ ص ِر ُّي َ
ب ُ ون َال ٌ
قالُوا إنَّهم ذاه ُبون بعي ًدا حيث لم يذهب أحد بع ُد وإن أسما َء ُهم أكب ُر من أن يحملُوها بمفر ِد ِهم رفعوا ر ُؤوس ُهم وأنوفَ ُهم قالوا إن ل ُهم معارك لي ْن ِ تصروا كل شيء وإنَّهم وحد ُهم ير ْون َّ
أحاو ُِل ال َعو َدة ال تسألُوني إلى أيْ َن أنا ال ُ أعرف **** رأيتها من ف ْجو ٍة أجل رأيتُها ال تسألوني م ْن هي أنا ال أذك ُرها **** كل شيء فقاقيع حتى الموانئ والغيماتُ ُ حتى ُصرا ُخها فقاقي ُع **** أريد أن أعود إليها ألعيدها إلى ما كان وما لم يُكُن.
دون أن أع ِرفَها من بعيد أنظُ ُر إليها حياتي الذاه َب ُة دون و ْجه ِة أفلت من ِيد طفْلٍ كبالونٍ َ
محمد عتيبي
بحزنٍ عابرٍ ،ودمع ٍة طارئ ٍة يمكنك أن تكتب لي نعيا الئقا بخسارتي وال تنس أن تض ِّمنه مقط ًعا من قصيدة لي عن الموت عليه أن يُعجب فتيات كثير ٍ ات ويق ُر َص قلوب ُه ّن الطريّ َة الصحف ذلك ستنشر إحدى ّ سيقرأ بعضهم العنوا َن دون انت َباه وقد يهت ّم أستاذ متقاعد بال َّن ْعي لينسى اسمي بعد عشر دقائق.. َ حبيبتك بعد شه ٍر ستالقي أعرض من و ْجهك بابتسامة َ وسيكو ُن ال َّنعي ممسحة للنوافذ. أنا وحي ٌد دون ِذكرى. حِ وَ ٌ س ار مَ عَ َحا ِر ٍ بماذا تش ُعر؟ مثقاب تتوغَّل في كل سنتمتر م ِّني مائة ٍ ما ثقلُك هذا؟ ال شي َء في ماذا تفكِّر؟ في الفرا ِر أنت؟ أين َ أنظر إلى ِ نفسي إلى أين ٍ تمضي؟ قلبي ملعق ُة مل ٍح بإصبعي أح ِّركها في الماء ْ من أنت؟ أنا ماذا تريد؟
أحلم بستين دقيقة وعلبة سجائر وزجاجة ٍ نبيذ أريد ليل ًة واحد ًة عقاب أعوم في امرأة كريش ِة ِ أريد غدا واح ًدا كي أضحك أكثر وخمس دقائق ألحز َم نفسي وأر َحل.
ثم ركبوا على كراسي المقا ِهي والحانَات َص ِهلُوا عال ًيا وتدل َّْت سيقانُهم اإلسفلت دون أن تت ُرك أثرا على ْ كنت أنظُ ُرهم ُ وأخفي في كُ ّم ُسترتي ِضحك ًة واسعةً.
شاعر من تونس
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
125
مقال
خرافة الضرورات الشعرية صالح حسن رشيد
وحساسية اإلبداع الخالّق إلى ضرائر الشعر اثنان فقط من النحويين؛ هما اللذان نظرا بعين الفن البليغ ،وعبقرية األداء العالي ّ ٌ ٌ وإضافة ،وحِ ٌ ٌ على أنها مِ ٌ ٌ طبيعية لثقافة الشاعر الواسعة ،واستطالته اللغوية المتمكنة ،وأنها ونتيجة وأصل معتم ٌد، لية، يزة، ً ً خروجا على قواعد اللغة ومسموعها .هذان العَ لمان النحويان؛ هما :سيبويه ،وابن مالك؛ صاحب ألفية النحو عيبا أو ليست ُ ً ً ِّ الشهيرة .ولو قد َر لهذا الرأي الفني األدبي اللغوي؛ أن يذيع ،ويسود ،وينتشر بين النحويين قديما وحديثا؛ لكانت لدراسة اللغة
العربية ،والنحو ،والشعر ،وضرائر الشعر طريقة أخرى ،وفتوحات أخرى غير ما نرى ،ونقرأ ،ونشمئز منه ،ونستعيذ بالله من
شروره وخرافاته.
لقد
وقعت مجافاة رأي كل من
الشعري
العربية،
سيبويه وإبن مالك ،ووئد فهمهما
المستقيم
مع
طبيعة
ومجازاتها ،وطرائقها العجيبة في الصوغ، واالبتكار الفني؛ المستجيب لهذا الخروج ٌ مندوحة في لغات العرب اللغوي؛ الذي له ولهجاتها؛ وفي حس العربية المسبوك بالنبوغ والتوالد ،المطواع لكل مج ّدد يمتلك
األدوات؛ وفي الطليعة الشعراء؛ وحصل هذا الوأد لصالح تقزيم األدب ،وقتل الشعر، وإضاعة بالغة العربية وملكاتها الفنية الرائعة ،ووضع الشعراء في سجن النحو األبدي؛ لتكبيل الشعراء وتعذيبهم؛ باسم
التعليل والتخريج والضرورات والمحافظة على القاعدة النحوية التي ما أنزل الله بها
من سلطان وال كهان وال فرمان.
يتعين على علماء اللغة والنحاة ومن هنا؛ كان َّ والنقاد درس لغة الشعر وضرائره على حدةٍ ؛
بمعزل عن نحو النحاة ،ولغة النثر؛ أي من ٍ خالل ما ُأ ِّ سميه بـ(اإلعراب الفني الكلي) ،أو نظرية (قرآن اللغة) التي وفقني الله لالهتداء
ونظر ،ومعايشةٍ للقرآن بحث، إليها؛ بعد طول ٍ ٍ والفصحى فلوال الشعر؛ َلما كان إثراء اللغة؛ ولوال
.
تهويمات وشطحات وتجديدات وابتكارات تطور وتحليقات الشعراء؛ َلما كان للغة من ٍ انبجاس وال ِّ انخراق في الكيف ساع وال ات وال ٍ ٍ ٍ واإلجادة والكفاءة والمقدرة؛ ممّ ا أ ّدى إلى
126
ً ً وأساسا. مرجعية النحو
ُّ تفجر بحار بالغتها وظهور ف ِّنياتها وضرورة ً ً ً ً وبالغيا في ولغويا وصرفيا نحويا دراستها
لذا؛ فقد ورد في بحث “الضرورة الشعرية
النحاة في عالم التنظير والدرس.
على ألفية ابن مالك” للدكتور السعودي
ضوء خروجات الشعراء على ما تعارفه
قال سيبويـه(ت180هـ) في (الكتاب) “وليس ٌ شيء يضطرون إليـه؛ إالّ وهم يحاولون به وجها”ً
.
أي؛ أنه يريد أن يقول :إن الضرورة الشعرية؛
ومفهومها لدى النحويين دراسة تطبيقية إبراهيم بن صالح الحندود؛ الذي قال فيه “وقد حاول بعض المحدثين (الدكتور حماسة
عبداللطيف في كتابه الضرورة الشعرية)
االعتذار البن مالك بأنه كان يعمل ثقافته،
وفكره حين َّبين رأيه في الضرورة الشعرية.
لون من اإلبداع ،وخرق لنظام اللغة؛ هي ٌ ٌ وجه محمو ٌد لبناء نظام لغوي جديد آخر؛ له
فكان يضع في اعتباره لهجات العرب
الحركة المتتابعة من المحافظة والخرق،
النبوي الشريف بحيث إذا ورد فيها شيء
في لهجات العرب ،وذائقتها ،وتفننها! وبهذه
والخرق والمحافظة تنمو اللغة ،وتتعاظم
على مر األيام.
والمالحظ أن هذا الخروج الفني قد ورد ً خرقا لقواعد النحاة الصلدة؛ في آيات الكتاب
العزيز؛ فمن ذلك قوله تعالى “وتظنون بالله الظنونا” بمد وإطالق مَ ِّدة النون الثانية؛ لتناسب المعنى؛ وهي من ضرائر الشعر
المتباينة ،والقراءات القرآنية ،والحديث قال النحاة عن نظيره في الشعر إنه ضرورة
لم يع ّده هو كذلك ،بل يرجع كل ظاهرة إلى ً ّ ينص على أنه لهجة قبيلة وأحيانا أصلها،
.
معينة وضرورة عند غيرهم فنراه -مثالً-
يقول عن تسكين هاء الغائب واختالس حركتها “وقد ُت َّ سكن أو ُتختلس الحركة بعد
ً اختيارا، متحركٍ عند بني عُ َقيل ،وبني كالب ً اضطرارا” وبرغم موافقة وعند غيرهم
.
المستحبة الفنية حسب مصطلحات النحاة َّ ً ً التي ال أوافق عليها أبدا أبدا؛ من منطلق
حماسة عبداللطيف لرأي ابن مالك من طرف
سبحانه “فأضلونا السبيال”! فللقرآن لغته
وكأن ابن مالك ارتكب كبيرة الكبائر النحوية
عالم الفن ،والجمال ،والبالغة! وكذلك قوله
الخاصة ،ونحوه الخاص ،وتراكيبه الخاصة، وفواصله
الخاصة،
وبالغته
الخاصة،
وخروجاته على نحو النحاة الخاصة،
..
وقواعده الخاصة فمتى يلتفت إليها النحاة ً بعيدا عن وضع واللغويون بدراسةٍ خاصة
خفي؛ فإنه يقدم األعذار الواهية نيابة عنه؛
والعروبية؛ التي يستحق عليها اإلعدام خيانة لعربية النحاة؛ ال عربية الشعراء المقدمين على النحاة واللغويين في فهم العربية،
ومعرفة دقائقها ،والتأطير لها.
يقول الدكتور الحندود في بحثه القيم “وقد
إبراهيم الصلحي ذكر ابن مالك مثالً في كتاب ‘التسهيل’ جملة
وإمكان إدراكه مع الضرورة؛ ولذلك أجرى
إمساكٌ للعصا من المنتصف؛ لعدم إغضاب
هو كذلك؛ كحذف نون الوقاية من ‘ليس’ ،و
المشهورة
أخلص هؤالء النقاد لقضيتهم هذه؛ لقالوا
من المسائل يع ّدها بعضهم ضرورة ،وال يراها
‘ليت’ ،و’عن’ ،و ‘قد’ ،و’قط’ ،وزيادة ‘ال’ في
العلم ،والتمييز ،والحال ،وإسكان عين ‘مع’،
بعض العلماء عليها (السيوطي في األشباه والنظائر)
القاعدة
األصولية
(الضرورة ُتق َّدر َ لغوي من بق َدرها) فالشاعر ٌ الطراز األول؛ فهو من َّ ثم خبيرٌ بالحد الذي
خفي المعنى أو التبس.″ إذا تجاوزه َ
والفصل بينها وبين تمييزها ،وتأكيد المضارع ً مضارعا ،والجواب المثبت ،ومجيء الشرط
إحاالت من النقد الحديث ويورد جمال صقر ٍ
ويرى الدكتور الحندود؛ أن ابن مالك َّ بث رأيه
أبو ديب ،وعز الدين إسماعيل ،وحماسة
ثنايا مؤلفاته؛ فقال “وفي بعض كتبه األخرى
فكرة التجاذب بين العَ روض وبين القواعد
ً ماضيا ،وإجراء الوصل مجرى الوقف”.
الطريف هذا حول الضرورة الشعرية في
يشير إلى أن بعض الظواهر تكثر في الشعر
دون النثر”.
ال؛ بل ذهب إلى أنه متأثرٌ في هذا التخريج الفني للضرائر بسيبويه؛ فقال “ولعله في هذا
.
متأثرٌ بسيبويه وهذا يُ شعِ ر؛ بأنهما يُ د ِركان ً ً خاصا به في صرفه ،ونحوه نظاما أن للشعر ينبغي أن يدرس وحده منفصالً عن النثر، ولكن النظرة السائدة إلى وحدة اللغة جعلت هذه المالحظة تقف عند ح ّد اإلدراك الذي لم يؤيده التنفيذ العملي” نقالً عن الباحث
حماسة عبداللطيف.
ويقول الباحث محمد جمال صقر في كتابه “عالقة عروض الشعر ببنائه النحوي” وهو
أطروحته للدكتوراه في كلية دار العلوم جامعة القاهرة “وال بد من ظهور المعنى،
لـ(يوري لوتمان ،وشبلنر ،وفتوح أحمد ،وكمال عبد
اللطيف)..
ترى أن الشعر يعتمد على
النحوية والصرفية في بناء لغة الشعر؛ فيقول “إذا تح َّدث النقاد عن أن لعروض الشعر وبنائه النحوي كليهما قواعد ضابطة، نظاما مُ َّت ً ً وأن الزحاف والعلة في بعا، أو َّ
جانب العروض ،والضرورة في جانب البناء ٌ صدع النحوي كليهما؛ كسرٌ للقواعد ،أو
ٌ مزاج للنظام ،وأن بنيان الشعر أو القصيدة ً معا؛ أي من القواعد الضابطة، من ذلك كله ومن كسرها ،ومن النظام المُ َّتبع ،ومن صدعه؛
فكالهما في الحقيقة نظام؛ وإن كان أحد ً ً ً معا سلبيا؛ وبهما إيجابيا ،واآلخر النظامين حياة الشعر ،أو القصيدة ،وإبداعها”! فإلى ما قبل نهاية النص السابق؛ كان كالم هؤالء ً صحيحا؛ إال أن قولهم :بصفة السلبية النقاد في جانب من جوانب الشعر؛ هو في الحقيقة
النحاة؛ أو إزعاجهم ،أو تأليبهم عليهم! ولو
بحق :إن نظام الشعر؛ هو إحياء للغة ،وثراء للفن ،وإيجابية ال حد لها ،وال طاقة؛ بدالً من عبارات النحاة الفضفاضة؛ التي ال ترتبط
بعالم الخيال والشعر.
ويأتي جمال صقر برأي للدكتور نجيب ٍ البهبيتي في كتابه “تاريخ الشعر العربي”
ذهب فيه إلى أن “مراجعة أقدم نصوص ّ توضح أن ذلك الشاعر الجاهلي كان الشعر ً جريئا على تغيير البناء النحوي؛ لتسلم ً مفهوما” إذن؛ عروض شعره؛ مادام المعنى فالشعر هو الخرق المتواصل الجميل؛ طلباً
.
للفن والعبقرية اللغوية ً نصا البن جني وأورد الباحث جمال صقر ً مدافعا عن شجاعة في “الخصائص” قال فيه الشاعر ،وجرأته في إحداث التغيير اللغوي الفني؛ بمهارته اللغوية ،وحدسه ،وعبقريته؛
التي لوالها لما عارض القرآن هذا الشعر
َ رأيت الشعر المتفجر بالبيان والمجاز“ :متى قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها،
وانخراق األصول عنها؛ فاعلم أن ذلك منه، وإن َّ دل من وجهٍ على جوره وتعسفه؛ فإنه ْ
.
من وجهٍ آخر مُ ْؤذِ ٌن ِ بصياله وتخمُّ طه وليس دليل على ضعف لغته ،وال قصوره عن بقاطع ٍ
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
127
مقال
اختيار الوجه الناطق بفصاحته؛ بل مثله
“ضرائر الشعر ،والضرورة الشعرية وما إلى ذلك من خرافات” َلهو ممّ ا يناقض شعر
ً ملوما في عنفه وتهالكه؛ فإنه فهو وإن كان
وتحطيم ألقوال لنظام اللغة العربية المنثور، ٍ
عندي مثل مجرى َ الجموح بال لِجام ،ووارد ً الحرب الضروس حاسرا من غير احتشام؛
..
مشهو ٌد له بشجاعته وفيض منته ” ،إذن؛ فلوال هذه الجسارة اللغوية ،وتلك الشجاعة
النحوية من الشعراء؛ ما كان هناك شعرٌ ،وال ٌ ٌ ٌ ٌ فارق بين عباقرة عالية ،وال لغة إبداع ،وال
الشعر ،وال صغاره.
فني كسر الشعراء الكبار ،وما ُج ِبلوا عليه من ٍّ ٍ
سقطة نازك
بحتمية التجديد الشعري في ميعة شبابها؛ نكصت عن عقبها في فوران نضجها
وألقها؛ فهاجمت ابتكارات الشعراء اللغوية
وتجديداتهم الفنية؛ فقالت في كتابها “قضايا الشعر المعاصر” :إنه لسخف عظيم
أي حرية لغوية ،ال أن يمنح الشاعر نفسه ّ يملكها الناثر! إن كل خروج على القواعد المعتبرة ينقص من تعبيرية الشعر ،ويبعده عن روحية العصر”! وأرى؛ أن كالمها هذا ال ً ً ً فنيا! وأن موسيقيا ،وال شعريا ،وال يستقيم
..
ذلك منها ردة شعرية إلى أجواء الظالمية
الذي يساير اللغة البليغة مع فنها الرحيب،
والنحوي ،واإلتيان بما صدم النحويين
الممنهج ،النحو الحقيقي ،النحو الفني ،النحو وليس مع القواعد المنخرقة بكالم الشعراء مع عالمها المدهش الساحر؛ الذي رفعها إلى ُ أن تصبح أم اللغات؛ يوم كان الشعراء أرباب
العربية؛ ال النحاة. جوهر الشعر
إذن؛ فقد آن األوان لهدم مصطلح الضرورة
الشعرية ،وردمه لصالح مصطلح “جوهر
الشعر” الذي ألهمني الله إلى سبكه ووضعه؛ ً أي اعتبار هذه الخروجات أصالً مهما فني ًا ّ في عالم اإلبداع ،واصطياد لحظات اإللهام،
.
واإلشراق ،والتجلي الفني وآن للنحاة أن
يعرفوا؛ أن الشاعر مفطورٌ على كسر قاعدة
مطارحتها،
الفتان الخالب العجاب ٌ إذن؛ فعملية اإلبداع الشعري خلق آخرُ للغةٍ
التي نادت بحتمية التجديد
جديدة ،تظهر فيها مهارة الشاعر كلغويٍّ
يصنع لغته الساحرة؛ تلك اللغة التي؛ تخالف ومصطلحات النحاة في زحافاتها ،وعللها؛
نضجها وألقها؛ فهاجمت
ومعاني بالغية ،ومضامين ألغراض فنية، ٍ َ ّ قشيبة؛ ال تتحقق إال بهذا الخروج الفني المطلوب ،وهذا التحطيم النحوي المرغوب؛
إلحداث النغم ،والموسيقى ،واأللق ،واإلبهار.
زاولها؛ يتلمَّ سها ،ويشعر بها ،ويفطن إليها ،ويُ ِ إالّ مَ ن لديه جيشان الشعور ،ويمتلك جرأة التوليد اللغوي ،والنحت ،واالشتقاق،
واالختراع ،واإلتيان بما يناقض القواعد، ويضرب النظام النحوي اآللي للترويج
لنظام لغويٍّ شعري آخر؛ لحساب عالم ٍ ٍ الجمال ،والتذوق ،والمهارة ،والتوكيد على
أن العربية مِ ٌ لك ألهلها الشعراء ،واألدباء،
.
والمجددين فقط أمّ ا المتاجرون باسمها،
ابتكارات الشعراء اللغوية وتجديداتهم الفنية
المتواصل؛ الكاشف عن قدرة هذه اللغة على متكرر؛ عدم التموضع في نظام لغوي واحدٍ ٍ ٍ ٍ بل هي مَ ن تصنع نظامها المتجدد؛ بفضل
شعرائها الميامين في كل العصور.
فرحمة الله على هؤالء الشعراء المهرة، ّ ونجانا الله من غير المهرة؛ الكرام البررة؛ مِ ن البخالء َ الق َترَة على العربية؛ بما لها من
فضل وبالغةٍ وأريحيةٍ واسعة؛ فال يُ خرجونه ٍ
للناس؛ ألنهم أعدى أعدائها.
وعصمنا الله من نحو النحاة المتزمتين شيب العربية في شبابها، المتح ِّنطين؛ الذي َّ وأثكلها في كالمها ،وألفاظها ،وتراكيبها،
وبعد كل ما تق ّدم؛ فقد اتضح بالدليل ،وتأكد
وتعابيرها ،وشعرها ،ونثرها! ومن ثمة؛
األصل هو قريض الشعراء ،وكالم البلغاء
وقومها يفرّ ون منها ،وهي اآلن منزوية ذليلة
بالبرهان والذائقة ،واإلخالص للقضية؛ أن عند التعرض للتقعيد اللغوي بعد األصل
القرآني الجامع المانع ،وأن ما أزعجنا النحاة بصوغه ولوكه ومضغه وعجنه وخبزه
وإجبارنا على السجود له ،تحت عنوان
128
الشعري في ميعة شبابها نكصت عن عقبها في فوران
لغة العرب النثرية في نحوها ،وقواعدها،
والحساسية اللغوية؛ والموهبة ،واإلضافة، ّ
في جوهر هذا الشعر ،وهو الخروج الفني
من أسف أن نازك المالئكة
.
ونظام نحوي يُ خالف عجفاء ،وقواعد خنفاء، ٍ ٍ جوهر الشعر والشعراء في صميم الفن،
أن شرف العربية في شعرها ،وأن عبقريتها
إليها ،ويستولدها ،ويعرف أماكن بكارتها،
ومواقعتها؛ لإلتيان بالجنى الطيب الشهي
في محفوظهم الناقص ،وما خدشهم في
دروس تقليديتهم الجافة ،وما توارثونه من ٍ
والمُ ِّ لوثون لمجدها ،والمتالعبون بشرفها؛ ٌ ُ فهم عالة عليها ،وليسوا سوى كهنة؛ لم تدرك
وزوجها ،وأفضل من يتصرف فيها ،ويضيف
ومواقيت
وحذلقاتهم؛ هو تجديد الشعراء اللغوي،
التي تن ُّد عن النحاة الجامدين ،وال يكاد
الشعراء! فالشاعر هو أبو اللغة ،وربها ،وابنها،
إنجابها،
النحاة منذ أيام سيبويه في عالم المجاهيل أن والمتروكين والمشعوذين والضعفاء؛ إالّ َّ ما ّ نجاها من تعقيدات النحاة ،وتهويماتهم،
األدبية ،وسيطرة الجهل والخرافة على عالم
وكيفية
غير المطروق ،وال المعروف ،وال المدروس من قبل؛ ولوال ذلك؛ لتحنَّطت العربيةَ ، وق َبرَها
وخرق لقواعدها الرتيبة البالية! وال نحاتها، ٍ ظان؛ أنني ضد النحو! ال؛ فأنا مع النحو يظنن ٌّ َّ
الكبار ،والتي ال تستقيم مع بالغة العربية ،وال
ومن أسف؛ أن نازك المالئكة التي نادت
ٌ مجبول على الجديد اللغوي الكالم النثري؛
جعلوها اآلن؛ كالمعلقة؛ فأبناؤها يكرهونها، جب النحاة المجحف في ّ
ناقد من مصر
قص
خمس أقاصيص خالد خميس السحاتي
أقـنعة َ ص ْد َف ًة فِ ي َحدِ َ يقةٍ عَ امَّ ةٍ َ ،ت َحوَّ َ َذ َ اللق ُ التقيا ُ اء العَ ا ِبرُ إلى ل ص ْي ٍف ات َ َ ُ َ ات مَ عْ ُسولةٍَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ صداقةٍ ،تطوَّ ر ِ َت العِ القة ِب ُسرْ عَ ةٍ مُ ـذهِ لةٍ ،بَاع لها كلِمَ ٍ َ انَ ،توَ ّ غـَل في قلبها َ َ أن يَمْ نَعَ ُه س بأبخ فاشترت األثمَ ِ الخالِي ُدون ْ ِ
أح ٌدَّ ، ات ُ َّ فكر في مَ اضيهِ المُ ؤل ِِم ،عَ ا َدت لذا ِك َرتِهِ َس َنوَ ُ الغربَةِ َ ياع والض ِ َّ ِ ولحظات عُ مْ ِر َها التي مضت وتذكرت هي والدها المَ ريض، والحِ رْ مَ ان، ً له ُخ ً َس ِر ً حكمة ،وَ مَ َ يعا ،رسمت ُ ض ْ طة مُ ت فِ ي تنفيذ مَ رَاحِ ل َِها حتى
ُ النهايةَّ ، ينتشلها من مُ ستنقع الرَّ تابة القاتل ،وفي اليوم التالي عل ُه ً ُ ل مرَّ ةٍ ،لكن َُّه ْ لم انتظرته طويال في ذات المكان الذي التقيا فيه ألوَّ ِ ً ُ ً ِ يـأت ،عادت إلى ُشقتها فوجدتها خالية تماما ،وزهرة الياسمين التي ً لقاة على األرض ،دخلت ُ غرفة والدها مُ ْس ِرعَ ًة ،فأدركتهُ ُ أهدتها له مُ يلفظ أنفـاس ُه َ ُ بكلمات لم تفهمها َخ َلعَ ْ ت قِ نَاعَ َها األخِ ير ََة ،ويُ تَمْ ت ُِم ٍ َ َجـل يُ َ قابلها في َّ رت َأ ْن تفترس أوَّ َ يص ،وَ َقرَّ ْ الطــريق! الرَّ خِ َ لر ُ ٍ
.
ال َّنوْ ِم ،وَ َّ َّ َ انتظا ِر ال ِّر ْح َلةِ َ الل ْي ُ لي ْ َجل ُِس عَ َلى َن ِ القادِ مَ ةِ ، يق فِ ي اص َيةِ الط ِر ِ ُ والحدِ َ الجمِ يعُ َ ، ُ والغ ُيومُ القمَ رُ يقة َ َ سيفرح َ وح َّتى ات قليلةٍ بَعْ َد َل َح َظ ٍ َ ل أن ُتخبر َ الحدِ َ ُ يقة نامت ق ْب َ ألن َ القمَ ـ َر ِبقِ َّ الليل صةِ انتظا ِر الليل؛ َّ ِ ِب َشــوْ ق َل ْن يَأتِي َأبَـداً لمَ ـوْ ك ِ ٍ َ
.
َنـ َد ٌم الزعْ َت ِر َش َجر ََة َ الك َر ِز ِبعَ َف ِويَّ ةٍ َ :ه ْ لت َن ْبت َُة َّ ل يُ ِري ُد َه ُؤالَ ِء َلنَا َ َسأَ ْ الخ ْي َر أو َت َش َجر َُة َ أجاب ْ وء يُ ْزعِ ُج ُه ْم؟ َ السالَمَ ؟ َأمْ َأ َّن َنوْ مَ نَا فِ ي ُه ُد ٍ ت صوْ ٍ الك َر ِز ِب َ َّ َ َ القا ِبعَ ة ُهنَاكَ عِ ْن َد َس ْ اسأَلِي تلك ال َّدبَّاب ََة َ افِ ل َحمْ ل َق ِ َ ب الج ح ف ت َخ ت : ٍ ْ َ ِ ِ َ ُ ُ َ ْ يفت ََها المُ َثرْ ِثرَةَ َ ت َقذِ َ َ َ َ َ َّ ح ،ث َّم أطلق ْ الدبَّابَة فِ ي ش َجرَةِ الك َر ِز ِبشز ٍر وَ ِ اض ٍ الس َؤال ِب َط ِر َ الح ْق ُ تحوَّ َ يقت َِها ّ َ اصةِ َ ، الخ َّ أشالء ل إلى ل يب عَ ِن َ ج َ ُّ ل ُِت ِ ِ َ َ َ ُ ْ َّ ُّ ان المَ ْحرُ ومَ ةِ مِ َن َ َاب، وع وَ األغ َ ل وَ التر ِ مُ مَ زقةٍ مِ َن الفرُ ِ ص ِ الح َياةِ وَ األمَ ِ عَ ر َ الزعْ َت ِر اإل َِجاب ََة َل ِكن ََّها َح ْت ً ت عَ َلى َ الس َ َ ت َن ْبت َُة َّ ْ َف ْ اللعِ دِ اكَ ين! ال ؤ ذ ن ما مَ ُّ ِ ِ
..
ُح ُل ٌ ـم َ الليلةِ َحال َِكةِ َّ ب المُ ْن َه ُ َح ِّجرَةٍ ،بَـ َدا ُ الظالَم َكقِ ْطعَ ةِ َف ْح ٍم مُ ت َ ك فِ ي تلك الح ُّ َ ً مُ ْنتَحِ ً َ ْ َّ َ َّ َ َست ْ َجدِ ي عَ طفا مِ ْن رُ وَّ ادِ الزيْ ِف المُ زرْ ك ِش با عَ لى قا ِرعَ ةِ الط ِريق ،ي ْ َ َ َ اء َّ الذا ِكرَةِ ،ي ْ او ُ َ بخوَ ِ َش َتكِي العُ ْزلة القاتِلة ب َْي َن َج َن َب ِ ل ان ،يُ َح ِ ات ال ِّن ْس َي ِ ُ ُ ُ ِّ َّ َ َ ُ ْ ْ َ َ اإلب َ وب السر ُ لى الضفةِ األخرَىَ ،ح ْيث ال يَخت ِبئ َّ َاب فِ ي قل ٍ ْحا َر ِبال زادٍ ِإ َ ب َف ِز ً مَ يِّ تَةٍ ،وَ الَ َي َت َد َّثرُ َ ب ال َّن َزاهَةِ َف ْجأَ ًة ،استيقظ ُ عا، الح ُّ اله َذي ُ َان ِب َثوْ ِ مِ ن َه َذا المَ ْش َهدِ المُ ْزعِ جَ ،ح َ َ جـ َز مـ َ َك ً ـانا فِ ي ِ وَ اوَ ْ ل أ ْن ي َْغ ُـفـو َقـلِيالً ،ل َِي ْح ِ ُحلـُ ٍم َجـدِ يدٍ
.
.
انتظـار َ الكـوْ ن ،ويَمْ نَعُ ُ شعُّ ِب ُنو ِرهِ عَ َلى َ َ القمَ رُ يُ ِ ب السوَ ادِ أ ْن َت ْح ُج َ الغ ُيومَ َقاتِمَ َة َّ ِ ُ ُ َ الحدِ َ َ ين والعَ ِ ين وال َبائ ِ ينَ ، ون َ يقة َت ْخل ُد ِإلى اشقِ َ ِس َ الحالِمِ َ ضوْ َء ُه عَ ْن عُ ُي ِ
نهاية الحكاية ين َأ ْخر َ َج ُ فِ ي َدا ِر المُ ِ صوَ َر َأوْ الَدِ هِ َ ،تأمَّ َل َها ِبعِ نَايَةٍ وَ َلمَ َس َها ِب َيدِ هِ ، س ِّن َ َ ً َ َ َ انهمَ ر ْ َ َت ُدمُ وعُ ُه ِب َغ َزارَةٍ ،اختل َط ْ ت مَ َشاعِ ـرُ ُه ،ل ْم يَعُ ْد قادِ را عَ لى ال َّت َح ُّك ِم
اء وَ ُ َات وَ ُدمُ ٌ يها ،ذِ ْك َري ٌ فِ َ غــرْ ب ٌَة ،وَ َق َـف ِب ُ وع وَ ِو ْح َد ٌة مَ َح َّب ٌة وَ َش َق ٌ صعُ ـوبَةٍ ً ـذةِ َ ،ن َ ب النافِ َ َ ـظـ َر إلى ُّ ـس َس الصـوَ ِر للمَ ــرَّ ةِ األخِ يرَةِ ، مُ تـَوَ ِّجها َ صــوْ َ (تح َّ
..
ً يـح ال َبـاقِ يَ ،س َق َ ـط عُ َّك ُ ِ قـل َب ُه) َّ از ُه أكمـلت ال ِّر ُ بعيـدا، ثم مَ َّـز َق َـها ورمَ ى ِب َها َّ ْ َ َ َ َ ي َ ضَ ،خــرَّ عَ لى وَ ْج ِـهـهِ ب عَ ِن النَّبـْ ِ الهـــ ِرمُ َ ،توَ ق َـف قـل ُب ُه المُ ْتعـ َ ُ الخش ِب ُّ ُ ُ ً َ َ ّ َ َ ُ ُ صـ ِريـعا انتَهـ َ ِ ت الحِ كـايَة ،أ ْسـدِ ل صفـَق الجمْ هـورُ ِب َحـرَارَةٍ السـ ِتـارُ َ ، َ ّ ب ُك ُّ ــل فِ ي َطــ ِريـقِ ـهِ بَـا ِر َدةٍ ُ ،ث َّم َذهـ َ َ
.
كاتب من ليبيا
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
129
قص
إرهابية في تل كلخ شفان خليل
كم
كانت دهشته كبيرة حين قال له الضابط المسؤول عنه
“ستكون من أوائل الهاربين عندما نذهب لتحرير الجوالن”. ً ً ّ كثيرا .لماذا يقول له ذلك؟ ّ قلبا كالحجر؟ ألنه ال يملك فكر في كالمه ألنه ال يستطيع سرقة أحالم الفقراء..؟ ّ ّ ألنه لم يتحوّ ل إلى وحش بشري بعد ّ ينفذ ما يقال له من دون تفكير؛ كألة حرب وقودها المزيد ّ
من دماء األبرياء؟ ّ كل ذلك أل ّنه قال له عندما سأله زميله الضابط ،المسؤول عن السرّ ية األخرى ،عن الغنائم التي جلبها له عناصره في األيام التي قضوها في ً شيئا ذا قيمة ،على عكس تل كلخ ،وكان جوابه بأ ّنهم لم يجلبوا له
ً ذهبية. قطعا صديقه الذي جلب له جنوده ّ
ً وكأن ذاك الذهب كان ملكهما في بعضا كانا يتكلمان مع بعضهما ّ
.
أي إحساس بالذنب السابق ،وهما استرجعاه من دون ّ ّ أي شيء ،ردّ عندما قال له بعد أن ّ وجه إليه التهمة بأنه لم يجلب له ّ عليه بأ ّنه ال يستطيع سرقة ذكريات أولئك الناس كي ال يلوّ ث ذاكرته
.
فكانت تهمة الخيانة العظمى جاهزة له. ً منفيا في عوالمك الخاصة. إمّ ا أن تمتهن العبودية للقائد أو أن تكون ***
.
يهجس لنفسه قائالً :هي لعبة المظلوم الذي يتحوّ ل إلى ظالم خدعة ّ تظل متدحرجة الحرب ،لعبة الموت ،كرة النار التي
.
.
استيقظ مرة أخرى على كابوسه الدائم ذلك المشهد المؤلم للطفلتين،
.
وهو يراقبهما تركضان ،وفجأة تقفز إحداهما إلى األعلى تطمئن نفسها بأنها قد تنجو بنفسها بعد تلك القفزة ،لكنها كانت قفزتها
األخيرة وصرختها المدوّ ية التي وصلت إلى أذن أختها ،برغم أزيز
الرصاص ،فعادت لتسحبها ،لكن الرصاصة ال تعرف الرحمة ،فأردتها
شهيدة.
التاريخي في تل كلخ، رجع الجنود إلى حمص ليحتفلوا بنصرهم ّ ّ وليمجدوا من جديد قائدهم الخالد
. كانت تلك المرة األولى واألخيرة التي يخرج فيها معهم إلى غزواتهم.
ّ إداري ،لكن في كل يوم، ليتم تعيينه في مركز استطاع أن يدفع رشوة ّ وبعد كل مداهمة ،كان يرى المزيد والمزيد من المسروقات في القطعة ً أحيانا لتبقى العسكرية ،حتى أ ّنهم كانوا يجلبون معهم بعض األغنام
ً ّ الحقا. يتم بيعها مع الجنود أليام حتى
بعد انشقاقه بخمسة أشهر ّ تلقى نبأ أسر جميع عناصر سريته في
كمين نصب لهم في حمص.
130
ً جاهدا نسيان تلك الجريمة المؤلمة أن يقتل الجنود وردتين يحاول ً لم تبلغا من العمر أربعة عشر ربيعا كيف له أن ينسى كانتا تهربان من
.
.
.
موتهما المحتوم في أرض زراعية مفتوحة ،من غير سواتر ،وفوّ هات ّ موجهة بنادق المئات من الجنود ورشاشات عربات الدوشكا كلها ّ حضرت لهما أمهما مالبس إليهما ،وكأنهما كانتا تعرفان مصيرهما فقد
.
بيضاء ،كانتا ترتديانها وهما تهربان إلى جنتهما خائفتين.
كم تمنّى في تلك اللحظات ّ أل تكون أمهما تراقبهما ،كما يفعل هو ،هما ً ً ذاهبتان إلى فردوسهما لكنه لم يكن فردوسا اختياريا !
..
.
ً ً يوما من األيام ،لكن القدر قد اختار له الخدمة جنديا لم يختر أن يكون
اإللزامية في ذاك التوقيت ،وشاءت األقدار أن تكون نهاية خدمته مع
.
بداية الثورة وبعد صدور مرسوم االحتفاظ بالجنود الذين انتهت م ّدة خدمتهم ،انتقل من دمشق إلى حمص حيث كانت خدمته في
أحد أفواج القوات الخاصة.
بعد الوصول إلى حمص بدأت حملة التجييش للجنود بأنهم يقاتلون
.
اإلرهابيين والمتطرفين والخونة وعمالء الخارج وبعد كل جملة أو
أي خطاب كان يبدأ القطيع بالتصفيق الحاد ،والهتاف جملتين من ّ بحياة القائد الخالد
.
.
كانت البداية ببعض المداهمات على أحياء حمص الداخلية كان يتجنبها بداعي المرض تارة ،أو بدفع بعض من المال كرشوة تارة
أن الجنود كانوا متحمّ سين للخروج أكثر أخرى ،لكن الطامة الكبرى ّ من القادة أنفسهم وهو يع ّد الدقائق والساعات واأليام بانتظار قرار
. التسريح ،قبل أن تتلوّ ث يده بدماء أحدهم ،أو العكس.
ً ألن غالبية هذه يوما من األيام حالً بالنسبة إليه، لم تكن الحرب ّ ّ يتم استخدامهم الحروب ال تكون من اختيار المشاركين فيها ،فقط
ّ مؤججيها. كوقود لجشع
***
ً ناقوس الخطر ّ أخيرا صدرت األوامر بخروج مجموعتهم كاملة دق
.
إلى تل كلخ القريبة من حمص ،حيث كان أغلب الجنود متحمّ سين،
يقومون بتنظيف أسلحتهم الصدئة كأدمغتهم وقلوبهم
السوداء.
ّ تم تسيير سبعمِ ئة مقاتل إلى تلك البلدة مع ش ّتى صنوف األسلحة
الثقيلة.
بعد الوصول إلى مشارف المدينة ،وقبل الدخول إليها بدأ القصف
. .
.
دوي المدافع والهاون من طرف واحد المدينة العشوائي المنظم ّ ّ خالية من الرجال جميعهم خرجوا بعد وصول تسريبات مقصودة
عمرو وهيبية
بأن الجيش قادم خشية أن يلقوا حتفهم. إليهم ّ
عقب يومين من القصف ستبدأ الوحدات المقاتلة بالدخول لحصد ما
تبقى من األرواح ،التي ظنت بأنها ستنجو من براثن تلك الوحوش
البشرية .بدأت عمليات االقتحام للبيوت التي كانت خالية بمعظمها. ً تقريبا في بيت من مكثت كل مجموعة مؤلفة من عشرة عناصر
.
البيوت لالختباء واالحتماء لكن ممّ ن؟
كانت األولوية هي البحث عن المجوهرات الثمينة في البيوت قبل
.
اإلرهابيين المزعومين ،وسرقتها وبيعها جاءت األوامر من السلطات العليا بعد مكوثهم يومين في أحد المنازل بتهديم البيت من الداخل
.
قبل الخروج منه لكنهم لم يستطيعوا االنتظار حتى الخروج من المنزل ،وبدأوا بتحطيم وتكسير ّ كل شيء
.
حاول أن يعيد بعض األثاث إلى مكانه ،لكن العيون كانت متوّ جهة بأن عليهم أن يراعوا صوبه ،أل ّنه سبق أن تكلم مع الجنود قائالً لهم ّ ً يوما من األيام لنفس حرمة هذه البيوت ،فقد يتعرض بيت أحدهم
.
الشيء لكن ح ّتى أسالك الكهرباء وأنابيب الماء في الحمامات لم ً خارجا بقية المدة التي تسلم من أذاهم ،وبذلك باتوا يقضون حاجتهم
قضوها في المنزل.
***
أحب أن يترك رسالة لصاحب البيت ،بأ ّنه كان أضعف من أن يقف لكم ّ
في وجه هؤالء القتلة.
.
أعجبته أيقونة كتب عليها “الكفر يدوم لكن الظلم ال يدوم” احتفظ
. تكون بارقة أمل فوق كل ذاك الدمار.
بها وعند صدور األوامر بالخروج من المنزل أرجعها إلى مكانها ،لعلها
ً أخيرا كسر حاجز الصمت الذي كان يفتك به ببطء سأل الضابط:
-لماذا أعطيت األوامر بتهديم البيت؟”.
.
أجابه دون تر ّدد “ليكون هذا اإلرهابي عبرة لمن لم يعتبر”.
إلرهابي؟ بأن المنزل وكيف عرفت ّّ أي إجابة مقنعة ،أنهى الحديث معه بتوجيه الشتائم أل ّنه لم يكن لديه ّ ّ إليه ،وتذكيره بالمقولة العسكرية الشهيرة في الجيش “نفذ ثم
اعترض”.
بعد مضي خمسة أيام كانت هي األطول واألقسى في حياته، ّ يدخن على الشرفة ،جاءت عجوز في الستين من عمرها وبينما ً تقريبا ،واقتربت من الجنود الذين يقفون أمام بوابة المنزل السفلية،
وسألتهم بعد السالم عليهم:
يا أوالدي أنا صاحبة هذا البيت أعيش هنا مع حفيدي الصغير ،فقط أو ّد أن أخبركم بأن هناك الكثير من الطعام والمؤونة في البيت ،كلوا ما شئتم ،تعاملوا مع البيت كما لو أ ّنه بيتكم ،فقط تركت بعض الزهور
على الدرج ،وهي بحاجة إلى السقاية. أن الجنود في األسفل أدركوا هنا لم يتمالك نفسه .أجهش بالبكاء .كما ّ بأن هناك خلالً ما ،لكن الطمع والجشع ككرة النار تكبر كلما تدحرجت ّ
أكثر فأكثر ،وبحركة ال إرادية كادت تكلفه حياته ،قال لضابطه “سيدي
.
اإلرهابيين في الخارج ينتظرونك” إن أصحاب البيت ّ ّ ً بحركة متفاجئة سريعة ،انتفض الضابط من مكانه باحثا عن سالحه
.
خرج إلى الشرفة ليرى تلك المرأة العجوز ،ونزل إليها لتخبره بما ً سابقا أخبرته للجنود
.
.
العلوي لم يستطع النظر في عيونه يبدو أ ّنه بعد صعوده إلى الطابق ّ أيضا لديهم بعض الرحمة ،لكن كرة النار ال ترحم أحداً، ً حتى القتلة
ً تماما فقد ابتلعتهم
كاتب ومترجم من سوريا مقيم في غالسكو
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
131
132
حوار
محمود شقير
خبز اآلخرين
وعربيا بالكتابة بأسلوب السهل فلسطينيا محمود شقير كاتب وقاص وروائي فلسطيني ذو نتاج غزير في هذا المجال ،وقد تميز ً ً محسنات لفظية أو استفاضات أو زوائد ،وكذلك باشتغاله المتفاني على أعماله لجهة الفنية الممتنع ،ذاه ًبا الى اللغة من دون ّ ّ خاصة لكتاباته السردية على تنوّ عها .وفي كل كتاباته الصحفية واألدبية كانت العالية .كل هذا وأكثر أسهم في تكوين سمات ً عاما قضاها بالمنفى جراء إبعاد سلطات االحتالل القدس دائمً ا حاضرة بقوة ،فمنذ عودته إلى الوطن عام - 1993بعد ثمانية عشر االسرائيلي له -كتب كتابًا عن القدس هو “ظل آخر للمدينة” وأتبعه بثالثة كتب أخرى عن المدينة المُ قدسة ،هي “القدس وحدها
هناك”“ ،قالت لنا القدس ،″و”مدينة الخسارات والرغبة”.
وتكريما لمسيرته الحافلة بالعطاء األدبي والفكري ،منحته مؤسسة محمود درويش “جائزة محمود درويش للحرية واإلبداع ″في العام ،2011فكان أول فلسطيني يحظى بها .وفي العام 1991منحته رابطة الكتاب األردنيين “جائزة محمود سيف الدين اإليراني للقصة القصيرة” .ومؤخرًا منحته “لجنة القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية” جائزة “القدس للثقافة واإلبداع ،″تقديرًا لجهوده
المثابرة في الكتابة من القدس عن القدس وللقدس. “الجديد” التقته وكان لها معه هذا الحوار..
بداية ،ماهي نقطة التحوّ ل التي أسست فعال لبدء مسيرتك
األدبية؟
شقير:
شقير:
كان كتابي األول “خبز اآلخرين” هو أبرز إنجاز ،على اعتبار
أنه الكتاب الذي ق ّدمني إلى القراء ،وكان هو فاتحة ما يزيد عن
.
خمسة وأربعين كتابًا أنجزتها حتى اآلن للكبار ولألطفال لعل “طقوس
.
ربما كان ظهور مجلة “األفق الجديد” في القدس نقطة
للمرأة الشقية” وهي قصص قصيرة ج ًّدا من أبرز إنجازاتي كذلك وال
ابتدأت المجلة في الصدور كل نصف شهر ،ثم تحولت إلى مجلة
العائلة” ومسلسل “عبدالرحمن الكواكبي” الذي أخرجه الفنان صالح
.
التحول التي أسست لهذه المسيرة كان ذلك في العام 1961حين
.
شهرية كنت قبل ظهورها أحاول نشر مقاالت وقصص في الصحف
.
اليومية الصادرة في القدس حاولت كذلك إرسال بعض القصص إلى
مجالت في الخارج ،ولم أحظ بفرصة واحدة لنشر قصة لي أو مقالة
أي مجلة من هذه المجالت. في ّ
.
وقد تكرر األمر نفسه مع مجلة “األفق الجديد” ذهبت إلى رئيس
تحريرها المرحوم الشاعر أمين شنار ،قابلته في مكتبه الكائن في مقر
.
صحيفة “المنار” بشارع الزهراء في القدس ق ّدمت إليه أربع قصص، وبعد أن قام بقراءة هذه القصص لم يوافق على نشرها ،لكنه أبدى
.
مالحظة ربما كانت هي حبل النجاة للكاتب المنتظر قال :لديك قدرة
.
على كتابة قصة ناجحة بعد أشهر من ذلك اللقاء عدت إليه بقصة
مستوحاة من واقعة التشريد التي عانينا منها أنا وأسرتي وأهل قريتي حين اعتدت العصابات الصهيونية في العام 1948على جبل المكبر ُنشرت القصة في أحد أعداد المجلة في العام ،1962وبعد ذلك
.
توالى نشر قصصي في “األفق” وفي غيرها من المجالت والصحف
الفلسطينية والعربية.
أكثر من خمسين عاما من الكتابة ،هل تحدثنا بإيجاز عن أهم
وأبرز اإلنجازات خالل مسيرتك األدبية؟
أنسى مجموعتي القصصية الساخرة “صورة شاكيرا” وروايتي “فرس
أبو هنود ،وقام بدور البطولة فيه الفنان نبيل المشيني وآخرون.
ومع أنني كتبت عد ًدا غير قليل من القصص والروايات لألطفال
وللفتيات والفتيان فما زالت روايتي “أنا وجمانة” تشكل واحدة من
أبرز إنجازاتي ،كما أ ّدعي للفتيات والفتيان.
ما الذي تختزنه الذاكرة من ذكريات عن كتابك األول “خبز
اآلخرين” الذي قدمك ككاتب قصة قصيرة في الوطن المحتل وفي
الشتات؟
شقير :مما تختزنه الذاكرة حول هذا الكتاب أن قصصه جمعت وأعدت للنشر حينما كنت معتقالً في السجون اإلسرائيلية جراء
.
نشاطي السياسي ضد االحتالل قامت “دار صالح الدين” في القدس
بجمع الغالبية العظمى من القصص التي كنت نشرتها في مجلة “األفق
الجديد” واقترحت على القائد السياسي الشاعر توفيق زياد أن يكتب ّ متأخرًا تسع سنوات عن مقدمة للكتاب الذي صدر في العام 1975
موعد صدوره األول ألسباب عديدة.
وقد ُطبع هذا الكتاب مرات عدة في األرض المحتلة وتم تداوله على نطاق واسع ،وبخاصة لدى طلبة الجامعات الذين ما زالوا كلما
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
133
حوار
ً بعضا منهم يتحدثون معي عن التأثير اإليجابي الذي تركه التقيت
شقير:
وحين تم إبعادي من السجن إلى لبنان ،استقبلت في بيروت بصفة
فيه حتى وهو غير مؤهل لذلك ثمة وفرة من الكتابات التي تنتسب
“خبز اآلخرين” قد نشرت مرارًا في صحف ومجالت عربية والقت
التواصل االجتماعي وغيرها من المواقع اإللكترونية ،حيث تختلط
في نفوسهم هذا الكتاب.
.
كوني كات ًبا وليس رجل سياسة كانت بعض قصصي وبخاصة قصة
ترحي ًبا واسعً ا آنذاك ،ولذلك تم االحتفاء بي على هذا األساس.
أبعدت خارج فلسطين من العام 1975وحتى العام ،1993فكيف ّ أثر
اإلبعاد في تجربتك األدبية؟
شقير:
.
.
ً وغامضا ذلك أن هذا اللون ملتبسا ما زال هذا المستقبل ً
من الكتابة اإلبداعية يغري كل راغب في الكتابة أن يجرّ ب حظه
.
عن حق وعن غير حق إلى فن القصة القصيرة ج ًّدا على صفحات القصة القصيرة ج ًّدا مع الخاطرة والمقالة الموجزة واألمثولة
.
واألهجية السياسية وقصيدة النثر وفي ظني أن التماهي مع قصيدة النثر ال يعيب القصة القصيرة ج ًّدا ،إذ لطالما اعتمدت قصيدة النثر على السرد القصصي المكثف ،وال ضير من اعتماد القصة القصيرة ج ًّدا على بعض سمات قصيدة النثر على أال تغرق في لغة الشعر،
ّ تمكنت من إثراء كان له تأثير متع ّدد األبعاد من جهة،
فتصبح غير محددة المالمح ،أو تصبح أقرب إلى الشعر منها إلى
العالم ،ولم تصل إلى األرض المحتلة بسبب الحصار وأتيحت لي
يضاف إلى ذلك إهمال النقاد للقصة القصيرة عمومً ا وليس للقصة
ثقافتي بما كان ينقصني من كتب ظهرت في الوطن العربي وفي
.
فن القصة على الصعيد العربي من فرص لالطالع على ما وصل إليه ّ
.
تجديد اقتضته متطلبات العصر واختالف الظروف واألحوال ومن
جهة أخرى أتاح لي النظرُ إلى الوطن من بعيد عدم االكتفاء بمشاعر حبي للوطن ،وإنما ً أيضا القدرة على رؤية األخطاء الحنين للتعبير عن ّ
والسلبيات إلى جانب التسليم بما هو إيجابي في مسيرة النضال
.
الوطني ضد االحتالل وقد انعكس هذا األمر على كتاباتي القصصية
عصيا على حيث لم أعد أنظر إلى الفلسطيني باعتباره كائنًا مقاومً ا ًّ
النقد ،وإنما بوصفه كائنًا بشريًّ ا له مظاهر ضعفه مثلما له مظاهر قوته. كذلك ،أسهم المنفى في التدخل في خياراتي الفنية واإلبداعية. إذ لم أعد وأنا في المنفى قادرًا على استحضار المكان األول الذي
تشكلت من خالله قصصي األولى ،بما اتسمت به من سرد مطوّ ل نسبيا ،فاستعضت عن ذلك باللجوء إلى كتابة القصة القصيرة ج ًّدا ًّ ّ المفصل محدد األبعاد ،وذلك التي يمكنها االستغناء عن المكان الحيز باالكتفاء بمكان جزئي أو بجزئية من مكان تكفي ألن تكون ّ
القصة القصيرة ج ًّدا.
.
القصيرة ج ًّدا وحسب هذا اإلهمال وضعف االهتمام والعزوف عن
وضع األسس والقواعد الخاصة بكتابة القصة القصيرة ج ًّدا ،يجعل مستقبل هذا اللون من الكتابة اإلبداعية عرضة للدخول في متاهة
أو للمراوحة في المكان ،رغم أن اإليقاع السريع لعصرنا يشجع على
التعاطي مع الكتابة المتقشفة التي باإلمكان قراءتها بسرعة قياسية. أما زلت تتهيب الدخول إلى عالم الكتابة الروائية -كما تقول-
بسبب قناعتك أن الرواية فن يتطلب الكثير من االستعدادات
الثقافية والفنية ،عالوة على التجربة الواسعة في الحياة؟ وكيف هي
عالقتك مع األجناس األدبية األخرى؟
شقير:
أعتقد أنني استطعت كسر هذا التهيب بعد أن أنجزت
روايتين للكبار هما “فرس العائلة” و”مديح لنساء العائلة” اللتين
تطرقتا لسيرة عشيرة بدوية فلسطينية منذ بدايات القرن العشرين
الذي يحتضن مادة السرد المتقشف الذي ال يزيد عن أسطر معدودات.
إلى ما قبل نهاية هذا القرن بعشرين سنة ،أي إلى فترة حصار بيروت
إلى أي مدى أسهم المراس الطويل في كتابة القصة القصيرة
إلى سيرة الشعب الفلسطيني الذي عانى وما زال يعاني من الغزوة
ّ خاصة لكتاباتك السردية على تنوّ عها؟ ج ًّدا في تكوين سمات
شقير:
في العام ،1982ولعل في سيرة هذه العشيرة البدوية إشارة مؤكدة
الصهيونية التي شردت الشعب واستولت على األرض.
لكن التهيب ما زال يساورني كلما هممت بكتابة
.
ربما أسهم هذا المراس الطويل في
نص روائي للكبار أقول للكبار ألنني أنجزت
وفي االبتعاد ما أمكن عن المحسنات البديعية
بتدوين المالحظات للشروع باستكمال ما بدأت
تجنب االسترسال غير الضروري في السرد،
التي ال لزوم لها ،وفي الميل إلى استخدام اللغة المتخففة من النعوت قدر المستطاع ،والميل
كذلك إلى الجملة القصيرة المكثفة.
وبالطبع ،فإن للسرد المطوّ ل سواء أكان ذلك في ً شروطا أخرى القصة القصيرة أم في الرواية تتجاوز حدود القصة القصيرة ج ًّدا وأساليب
كتابتها.
كيف ترى مستقبل القصة القصيرة ج ًدا في
وطننا العربي؟
134
.
عد ًدا من الروايات للفتيات والفتيان اآلن ،أقوم
أتأمل بعض شخوص الرواية القادمة ،وأواصل التهيب إلى أن تحين ّ لحظة الشروع في الكتابة
به في “فرس العائلة” وما تابعته في “مديح لنساء
العائلة” لعلني أغطي الفترة الزمنية من سيرة
العشيرة التي بعثرتها الظروف وتقلبات الحياة
وتغيرات الزمن التي تمتد من ثمانينات القرن
العشرين إلى أيامنا هذه على وجه
التقريب.
أدوّ ن المالحظات وأتأمل بعض شخوص الرواية التهيب إلى أن تحين لحظة القادمة ،وأواصل ّ
الشروع في الكتابة ،وبعد ذلك ،ينكسر التهيب
وتتقدم الكتابة نحو األفق المأمول.
وأما بخصوص عالقتي مع األجناس األدبية
األخرى فقد جرّ بت كتابة النص المسرحي،
والسيناريو والحوار للمسلسل التلفزيوني ،والقصة لألطفال ،والرواية
للفتيات والفتيان ،والمقالة األدبية والسياسية ،ولم أكتب الشعر.
لديك اهتمام خاص بأدب األطفال ،وفي بعض قصصك محاولة
الستعادة مأثورات (كليلة ودمنة) عبر رؤية معاصرة ،ماذا تقول عن تجربتك الخاصة في أدب األطفال؟ وما هي اآلفاق التي يمكن أن
تنفتح أمام هذا األدب في ظل استعادة مأثورات أخرى؟
شقير :هذه التجربة ابتدأت أواسط سبعينات القرن العشرين وقد
.
.
تضافرت عوامل عدة لتحفيزي على الكتابة لألطفال قبل ذلك كنت تجد في قصصي المكتوبة للكبار اهتمامً ا بالطفولة من خالل إسناد
.
البطولة في بعض قصصي ألطفال أو فتيان ووجدت في المجالت المكرسة لألطفال حي ًزا لنشر قصصي وبخاصة مجلة أسامة السورية
أثناء رئاسة زكريا تامر لتحريرها ومن ثمة رئاسة ناديا خوست
للتحرير.
“تامر”“ ،أوغاريت”“ ،الزيزفونة”“ ،البحيرة” وغيرها ،غير أن
هذا األدب بحاجة إلى مزيد من التطوير ،وذلك ألن نزعة
التوجيه واإلرشاد والمباشرة ما زالت تتبدى في بعض نصوص
هذا األدب.
وما زلنا بحاجة إلى إطالق العنان للخيال من دون تحفظات ،وإلى
التحرر من بعض التعاليم التربوية التي ترى في الطفل كائنًا مطيعً ا ّ نلقنه ما نرغب فيه ونرضاه ،من دون االنتباه إلى رغباته ونزعاته وميوله ،في حين أن المطلوب تمكين الطفل من التعبير عن نفسه
بشكل حر ،وتمكينه من إطالق قدراته الذهنية إلى أبعد الحدود.
أي وطن يحلم به تقول“ :الوطن الحلم أجمل من الوطن الواقعّ ″
محمود شقير؟
شقير :الوطن الواقع هو الذي نعيش همومه كل يوم ونصطلي معه في أتون المعاناة ،ونظل متشبثين به رغم عسف المحتلين وطغيانهم،
.
معنيا وأنا أكتب أولى قصصي المكرسة لألطفال أن أستوحي وكنت ًّ
ألنه ال وطن لنا سواه أما الوطن الذي أحلم به فهو فلسطين المبرّ أة
التي كانت ترتكبها قوات العدو ضد أطفال فلسطين ،وأن أجعل حب
ً أيضا بفلسطين ال مكان فيها للتخلف االجتماعي واالقتصادي، أحلم ّ مدني قادر على تمثل وللتعصب والتزمت واإلقصاء فيها مجتمع ّ كل جديد في الحياة ،وعلى تحقيق المساواة الفعلية بين الرجل
وقائع النضال اليومي في فلسطين ضد االحتالل ،ورصد الجرائم
الوطن واألرض على رأس القيم الوطنية واإلنسانية التي تضمنتها
.
قصصي وإلى جانب القصص التي يُ سند دور البطولة فيها إلى
معنيا بكتابة قصص لألطفال أبطالها بشر ،وبخاصة الحيوانات كنت ًّ
من األطفال.
من القيود ،المتحررة من سطوة الغزو ومن همجية االحتالل. .
.
والمرأة وفيها نظام سياسي ديمقراطي بعيد من احتكار السلطة على نحو شمولي ،قادر على تلبية مطالب الناس في العدل االجتماعي
ومع مرور الزمن ،تنوعت تجربتي في الكتابة لألطفال وللفتيات
. تجعلهم يعيشون في أمن ورفاهية وسالم.
المكرّ سة لألطفال.
أي أثر تركه حصولك على “جائزة محمود درويش للحرية ّ واإلبداع ″في العام ،2011ال سيما وأنك أول فلسطيني حظي بها وما
.
والفتيان استوحيت التراث في بعض قصصي كما ورد في سؤالك، وأفسحت في المجال لعنصر الخيال باعتباره من أهم عناصر القصص
أي متعة تجدها في هذا النوع من األدب؟ وكيف يمكن الوصول
إلى الطفل؟
شقير:
تتب ّدى المتعة حين أنجح في كتابة نص قادر على التعبير
عن اهتمامات الطفل ،قادر في الوقت نفسه على
والمساواة فيها اعتناء أكيد باألطفال وتلبية لكل الشروط التي
.
معنى أن يكون هناك جائزة فلسطينية عالمية باسم محمود درويش؟
شقير:
تشرّ فت بحصولي على هذه الجائزة الرفيعة ،واعتبرتها
االستجابة لرغباته ،وعلى إثراء خياله.
تعبير عن سنوات العمل الثقافي المشترك التي
.
خضناها معً ا :محمود درويش وأنا فقد عملنا
عبر المراس الطويل في هذه الكتابة ،وعبر
والمراكز الثقافية والمؤسسات التي تعنى بالطفولة ،لمناقشة القصص معهم والتعرف إلى
مدى استجابتهم لها ،ومدى تعبيرها عنهم.
تقيم حال أدب الطفل في فلسطين كيف ّ
اليوم؟
شقير:
ثمة حضور الفت ألدب الطفل خالل
السنوات األربعين الماضية في فلسطين ،من خالل مؤسسات معنية بأدب الطفل ،مثل
فخرًا أن اسمي ارتبط باسم محمود درويش
من خالل هذه الجائزة ،وهي في الوقت نفسه
ّ يتم وأما الوصول إلى الطفل عبر الكتابة فإنه اللقاءات مع األطفال في المدارس وفي األندية
.
أحسن تكريم لي وإلنجازاتي في حقل الكتابة اإلبداعية ويكفيني
حب الوطن واألرض كانا
معً ا لسنوات في األمانة العامة التحاد الكتاب
والصحافيين الفلسطينيين حين كان درويش
على رأس القيم الوطنية
رئيسا لالتحاد وكنت عضوً ا في األمانة العامة ً
واإلنسانية التي تضمنتها
لخمس سنوات ،وكذلك في “لجنة مسارات”
قصصي المكرسة لألطفال
.
لالتحاد وعملنا معً ا في “لجنة جوائز فلسطين” التي أشرفت على المهرجان الثقافي الفلسطيني
.
قصصا ً في بلجيكا في العام 2008وكنت أنشر
ونصوصا في مجلة “الكرمل” التي كانت برئاسة ً
محمود درويش.
ولعل وجود جائزة عالمية باسم محمود درويش أن يجد تفسيره في حضور اسم درويش،
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
135
حوار
صادق توما
كونيا حمل فلسطين من خالل شعره اإلنساني الفذ بوصفه شاعرًا ًّ
إلى العالم.
لكل مبدع طقوس خاصة بالكتابة ،ما هي الطقوس الخاصة التي
تمارسها عند الكتابة؟
شقير:
قبل اعتمادي على الحاسوب ،كانت لي طقوس تتمحور
حول الدفاتر ،والورق المسطر ،وأقالم الحبر الناشف ،وكذلك أقالم
136
.
الرصاص ،والكربون على الدفاتر كنت أكتب مسودات قصصي، وعلى الورق كنت أقوم بعملية تبييض القصص ،والكربون أضعه
تحت الورق لكي أحتفظ بنسخة مبيضة من كل قصة أكتبها وأقوم
.
بإرسالها إلى مجلة أو صحيفة وحين شرعت في كتابة المسلسالت للتلفزيون نصحني أحد األصدقاء باستخدام قلم الرصاص والممحاة
.
لكتابة السيناريو والحوار من دون تبييض بمعنى أنني أمحو الجملة التي ال تروقني وأواصل الكتابة على الورقة فال أمزقها وال أستبدل
بها ورقة أخرى.
وكنت أكتب في الصباح حينًا وفي المساء حينًا آخر.
.
بعد اعتمادي على الحاسوب ،تغيرت األمور بشكل جذري أكتب
مباشرة على شاشة الحاسوب ،وأجري ما أريد من تغييرات وتعديالت ّ أي وقت متاح على النص المكتوب ،وأوفر وق ًتا كثيرًا ،وأكتب في ّ
.
هل نالت تجربتك في الكتابة حظها من المتابعة النقدية؟ وإلى
أي حد أسهم النقد في تطوير مشروعك السردي؟ ّ
شقير:
على الصعيد اإلبداعي؟ أم أنه أفقدك ميزات ما؟ أي ميزات شقير :بالعكس ،لم يفقدني وجودي في المدينة ّ علي ،فهي المدينة األولى ويمكنني القول إن للقدس فضالً كبيرًا ّ
.
. من اهتماماتي واختياراتي في السياسة وفي األدب سواء بسواء.
التي تف ّتحت عيناي عليها منذ الطفولة وهي التي ألهمتني الكثير
وحين اتجهت إلى كتابة القصة القصيرة كانت القدس هي الحاضنة التي احتضنت العديد من قصصي ولم يكن ذلك أمرًا مفتعالً أو
.
أعتقد ذلك ،فقد ُكتبت عن قصصي ورواياتي المكرسة
الحي بين عالقتي انصياعً ا لواجب أو تقليعة ما ،بل هو التفاعل ّ بالمدينة ومادة قصصي التي استوحيتها من أجواء المدينة وما ج ّد
دراسات عليا وقد كانت ذروة هذه الدراسات الكتاب الذي ألفه
حيا من أحياء المدينة ،حيث ال أنقطع عنها ال في الليل وال قريتي ًّ
للكبار وللفتيات والفتيان ،وعن مجموعاتي القصصية دراسات
ومقاالت كثيرة ،من نقاد متخصصين وغير متخصصين ومن طلبة
.
االستاذ الدكتور محمد عبيدالله الموسوم بـ”تحوالت القصة القصيرة ّ متبصر في تجربة محمود شقير” الصادر في العام ،2014وفيه تحليل
لمجموعاتي القصصية ،واستخالصات عميقة حول تجربتي في
كتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة ج ًّدا.
ومما ال شك فيه أن النقد أسهم إسهامً ا أكي ًدا في تطوير مشروعي السردي ،ما يجعلني أشعر بامتنان تجاه كل من قال كلمة حق في حق
.
عليها من ظروف وتقلبات وقد تعززت هذه العالقة بعد أن أصبحت
في النهار.
وبالطبع ،لم تقتصر كتابتي عن المدينة على القصص القصيرة ،فقد
وردت القدس في كثير من كتبي المنشورة ،ومن أهم هذه الكتب “ظل
آخر للمدينة” الذي أعتبره سيرة للمدينة.
ويكفيني فخرًا أن “لجنة القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية” منحتني مؤخرًا جائزة “القدس للثقافة واإلبداع ″تقديرًا لجهودي
نتاجاتي القصصية ،سواء أكان ذلك لجهة السلب أم لجهة اإليجاب .المثابرة في الكتابة من القدس عن القدس وللقدس. فمن أشاد بجوانب من كتابتي ّ حفزني على مزيد من اإلجادة في ما ً نبهني إلى نواقص وسلبيات في كتابتي أرشدني كتبت الحقا ،ومن ّ
إلى مواقع الخلل في هذه الكتابة ،ما أسهم في تجنب مثل هذا الخلل
في كتابات الحقة.
إذا عدنا معً ا إلى مرحلة البدايات وسألنا عن األدباء والكتاب
الذين تأثرت بهم والذين كانوا مصدر اإللهام لك فماذا تقول؟ وأيّ هم أقرب إليك؟
شقير:
العربي رغم ما تعانيه القدس من حصار ،ومن محاوالت لتبديد طابعها ّ ّ معنية بالمحافظة على تظل المسيحي الفلسطيني، اإلسالمي ببعده ّ ّ ّ ّ معنية بأن تكون مدينة وتظل في الوقت نفسه، مشهدها األصيل، ّ
.
التع ّددية واالنفتاح فكيف يتبدى ذلك من خالل تجربتكم الشخصية؟ أعتقد أن أهم درس تعلمته من القدس هو احترام التعددية وتعايش
الديانات واألفكار والمذاهب والتجارب السياسية والحزبية على نحو
.
حضاري مرموق ولم أكن بعي ًدا عن هذه الحالة الفريدة من التعددية
.
والتعايش شهدت وأنا فتى وما زلت أشهد تعايش المسيحيين الفلسطينيين المقدسيين مع المسلمين الفلسطينيين المقدسيين في
.
تأثرت بقصص يوسف إدريس ،وأعجبت بأسلوبه النابض
شخصيا ،فقد كنت أزور المسجد تآلف وانسجام وفي ما يتعلق بي ًّ
أعماق الشخصية القصصية ويعطيها الحق في التصرف بما تمليه
وكنت في الوقت نفسه أزور كنيسة القيامة وأتعلم منها كيف يكون
بالحيوية وعمق التصوير في قصصه القصيرة ،حيث يذهب إلى عليها نوازعها النفسية ،وكذلك بروايات نجيب محفوظ
اهتمامً ا
وإيالئه
ًّ خاصا.
الموضوعات
وتأثرت
األقصى وأتعلم منه كيف تتماهى االستنارة الفكرية مع تعاليم الدين،
كانت القدس وما زالت مه ًدا للتعددية رغم
االجتماعية
بقصص
أنطوان
محاوالت المحتلين اإلسرائيليين هذه األيام
قصصيا تشيخوف وبخاصة حين يرسم مشه ًدا ًّ
محكمً ا وقادرًا على التغلغل في وجدان المتلقي.
كما تأثرت بأسلوب أرنست هيمنغواي الذي ينحو نحو السهل الممتنع ،سواء أكان ذلك في قصصه
أم في رواياته.
إلي وإلى يظل يوسف إدريس هو األقرب ّ تجربتي في كتابة القصة القصيرة
.
تأثير القدس ،أو وجودك في المدينة،
واضح في الكثير من قصصك ،هل توثق أدبيا لصراع المدينة ،وتخصها باهتمامك أكثر من
سواها؟ وهل تعتبر وجودك في المدينة ميزة
التسامح نابعً ا من جوهر العقيدة الدينية.
لتهويدها ولفرض وجهة نظر واحدة متعصبة
القدس هي المدينة التي ألهمتني الكثير من اهتماماتي واختياراتي في السياسة وفي األدب سواء بسواء
إقصائية عنصرية عليها ،بما يخالف طبيعة
المدينة وال يتواءم مع تراثها وثقافتها وتاريخها. رغم كثرة ما كتب عن فلسطين ،أال تتفق
معي أن ثمة الكثير الذي لم يُ كتب بعد عن
جوانب ع ّدة في حياة الشعب الفلسطيني
ومعاناته وآالمه وآماله وفي بعض تجليات
التجربة الفلسطينية؟
شقير :صحيح ثمّ ة الكثير الذي لم يكتب بعد
.
بسبب عمق المأساة الفلسطينية التي ابتدأت
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
137
حوار
صادق توما
.
قبل مئة عام وما زالت فصولها المؤلمة تتوالى حتى اآلن صحيح
العمق والوضوح في السنوات القليلة القادمة ،بسبب ما تتعرض له
الفلسطيني ،إال أن الحاجة إلى مزيد من الكتابة عن القضية ،وعما عاناه
المستوطنات عليها حتى اآلن.
أن ثمة نتاجات أدبية فلسطينية متنوعة في الوطن وفي الشتات، ّ تغطي مئات السنوات من تاريخ الشعب من بينها مشروعات روائية
الفلسطينيون من عسف وتعذيب وتشريد واعتقال وسجن وقتل
وحرمان من الحياة الطبيعية على أيدي الغزاة الصهاينة ،تستحق بذل الكثير من الجهود التي تليق بما قدمه الشعب الفلسطيني من
تضحيات.
وأعتقد أن مثل هذا األمر يتحقق اآلن ،وسوف يتحقق بمزيد من
138
القضية الفلسطينية من محاوالت حثيثة لتبديدها عبر كسب الوقت لتهويد القدس ،ولمصادرة ما ّ تبقى من أرض لم تجر مصادرتها وبناء
برأيك هل استطاعت النتاجات القصصية والروائية وحتى
الشعرية ،من تقديم الرواية الفلسطينية الحقيقية عن النكبة للعالم، وتسليط الضوء على ما تعرض له الفلسطيني على أيدي الصهاينة
الذين احتلوا األرض وعاثوا فيها فسا ًدا؟
شقير:
إلى ح ّد ما نعم ،وال أريد أن أدخل في طقس جلد الذات،
كما ال أريد في الوقت نفسه إعالن الرضا عن النفس والقول إن كل
.
شيء في هذا الصدد على ما يرام فالمأساة التي تعرّ ض لها الشعب
الفلسطيني ،المتمثلة في أبشع عملية غزو استعماري متس ّتر بأردية
الدين تتطلب ليس فقط تصوير المعاناة واأللم ومضاعفات التشريد والعيش في خيام ،وإنما كذلك فضح طبيعة الحركة الصهيونية وتفنيد حججها الكاذبة التي تحاول تقديم نفسها للعالم على اعتبار
أنها حركة تحرر قومي للشعب اليهودي ،وإعادة موضعتها في مكانها الصحيح على اعتبار أنها واحدة من إفرازات النظام الرأسمالي
شقير:
رغم التزام الغالبية العظمى من المثقفين
الفلسطينيين بالتعبير عن الهم الوطني الفلسطيني في
كتاباتهم ،إال أن اضطالعهم بمواقف فعلية ناقدة للسلطة
ومؤثرة في مسار األحداث ليس في المستوى المطلوب ،بل إن
هناك نوعً ا من العزلة ومن التخلي عن هذا الدور بالنظر إلى التبعات
المترتبة على القيام به ،وبالنظر إلى تهميش السلطة السياسية لدور المثقف وإبقائه في الظل ،ألن السلطة نفسها ال تحتمل النقد إال في تمس جوهر سلطتها ،وألنها ال تدرك بشكل فعلي حدود ضئيلة ال ّ
أهمية الثقافة في بناء اإلنسان وفي تعزيز هويته وإغنائها ،وفي
العالمي ،وهي غزوة استعمارية استهدفت وتستهدف تشريد أهل ّ محل البالد األصليين ،وإحالل مهاجرين يهود من كل أنحاء العالم
الصهاينة والتصدي لمخططاتهم التهويدية التوسعية لذلك ،تكتفي
هل ترى أن المؤسسة الثقافية الرسمية الفلسطينية تقوم بدورها
المحل الالئق به ،مع التنويه بأن من واجب المثقف أال ينتظر أن
المواطنين الفلسطينيين ،أهل البالد الشرعيين.
الحقيقي تجاه حماية وصون الثقافة والهوية الفلسطينية في داخل
الوطن المحتل وخارجه ،وبالتالي التأسيس لحالة ثقافية دائمة وذات
تأثير على وعي الناس؟
شقير:
ال أعتقد ذلك ،وذلك بالنظر إلى ضخامة الجهد المطلوب
.
والتطلعات التي يجب إنجازها فرغم ما قدمته المؤسسة الثقافية الرسمية من إنجازات هنا وهناك إال أن المطلوب هو أكثر من ذلك
بكثير.
تصليب إرادته وتمكينه من الصمود في وجه ممارسات المحتلين
.
السلطة بثقافة المشهد واالستعراض من دون الغوص إلى جوهر ّ المحل الالئق بها ،ومن ثمة وضع المثقف في المسألة ووضعها في تحمله السلطة وتضعه في المحل الالئق به ،إذ عليه هو نفسه أن
ينتزع هذا الدور المنتظر منه.
إن ما يدفعني إلى التذكير بضرورة اهتمام السلطة بالثقافة نابع من حقيقة أن للسلطة مصلحة في تفعيل دور الثقافة في مواجهة
االحتالل ،ألنها وبحسب برنامجها الخاص بإقامة الدولة المستقلة
يجب أن تكون معنية بذلك ،أي بتفعيل دور الثقافة.
ما هو مفهوم الثقافة الوطنية في ظل ما نشهده من عولمة
حين نتذكر ضآلة الموارد المالية المرصودة للثقافة في موازنة
ومتغيرات؟
الرسمية حتى وإن كان في إطارها أشخاص راغبون في تعزيز دور
شقير :نحن الفلسطينيين ما زلنا نعيش مرحلة التحرر الوطني بالنظر إلى أن بالدنا ما زالت ترزح تحت االحتالل ،وهذا ّ يرتب علينا
أي مدى تستصغر السلطة قيمة السلطة الفلسطينية ندرك إلى ّ الثقافة ،وبالطبع ،فإن هذا األمر ينعكس على نشاط المؤسسة الثقافية
الثقافة داخل الوطن المحتل وخارجه.
ولو أجرينا مقارنة سريعة بين ما تفعله سلطات االحتالل اإلسرائيلي
تجاه النتاجات األدبية اإلسرائيلية وبين ما تفعله السلطة الفلسطينية تجاه النتاجات األدبية الفلسطينية ،ألدركنا
مفهومً ا محد ًدا للثقافة الوطنية يعلي من شأن القيم التي تحض على
حب األرض والوطن ،وعلى التضحية في سبيلهما ،ويستنفر ،أي هذا المفهوم ،كل مخزونات الذاكرة الجمعية للشعب من تراث شعبي
.
حجم التقصير في الحالة اإلسرائيلية ،ثمة
مؤسسة متخصصة في ترجمة النتاجات األدبية
وتطويرها ضمن هذا السياق ،ويحافظ في
اإلسرائيلية إلى لغات عدة وتوزيعها في العالم، وذلك لحشد التأييد إلسرائيل ولعدوانها المستمر على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية،
ألي فعليا بينما في الحالة الفلسطينية ال وجود ًّ ّ جهد من هذا القبيل وفي هذه الحالة ،يبقى ً وقفا على بعض دور النشر العالمية التي األمر
.
ّ تتولى ترجمة بعض اإلصدارات األدبية ألدباء فلسطينيين معروفين ،وهذا وحده ال يكفي
بطبيعة الحال.
ما هي أهمية الدور الذي يقع على عاتق
المثقف في واقعنا الفلسطيني؟ وهل ترى أنه
استطاع أن يقدم قضيته بالشكل المطلوب؟
وأغان وحكايات وخصائص قومية ووطنية ٍ لزجها في معركتنا ضد االحتالل ،وإلحيائها
الوقت نفسه على وحدة الشعب على أسس
أهم درس تعلمته من
وطنية جامعة ،وفي أولها الموقف المبدئي من
االحتالل لجهة رفضه وضرورة مقاومته.
القدس هو احترام
ثمة عنصر جديد في الحالة الفلسطينية ،ناتج
التعددية وتعايش
ما زال فيه هذا االحتالل موجو ًدا فوق أرض
الديانات واألفكار والمذاهب والتجارب السياسية والحزبية
عن تشكيل السلطة الفلسطينية في الوقت الذي
.
الوطن هنا يتداخل الوطني مع االجتماعي،
وتكتسب الثقافة الوطنية بع ًدا جدي ًدا يضع في االعتبار نقد السلطة والدفاع عن مصالح الناس ضد ما في السلطة من بيروقراطية وفساد، جن ًبا إلى جنب التحريض من خالل أدوات الفن
واألدب ضد االحتالل وممارساته العنصرية
االستيطانية.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
139
حوار
هل يمكن الحديث عن مشروع ثقافي صهيوني وما هي مالمحه
إن وجد؟
شقير:
تأسست ونهضت على يمكن القول إن الحركة الصهيونية ّ
.
سياسيا ،كانت جذر الثقافة واألدب إذ قبل أن تتبلور هذه الحركة ً ّ تبشر هناك كتابات أدبية كتبها يهود وغير يهود ،راحت كتاباتهم
على الناحية الجمالية أو الفنية للعمل اإلبداعي ،خاصة وأن هناك نقا ًدا
يتهمون “النص الفلسطيني” بأنه مباشر وانفعالي؟
شقير :ربما وقع هذا في بعض فترات التاريخ الفلسطيني المعاصر، ً مثل في فترة صعود الكفاح المسلح ضد االحتالل وتمجيد الفدائي
بعودة اليهود إلى أرض الميعاد ،فلسطين ،ومارست هذه الكتابات من أجل ذلك تضليالً وتزويرًا للحقائق من أجل غسل أدمغة العالم حول
االنتفاضة األولى حيث أقدم شعراء كثيرون على تمجيد أطفال
وحين تشكلت المفاهيم السياسية لهذه الحركة ،واصلت تسخير
معه “إن شعر االنتفاضة بحاجة إلى عشرة آالف عامل لتنظيفه من
بتسييس الدين واستخدامه في التغطية على جوهرها العنصري
لكن مما ال شك فيه أن ساحة األدب الفلسطيني ّ ظلت طوال الوقت
الحقائق الخاصة بفلسطين وبتاريخها القديم والحديث.
األدب لخدمة أهدافها االستعمارية اإلحاللية اإلقصائية ،وقامت الذي يعني أوّ ل ما يعني :تجاهل وجود الشعب الفلسطيني على أرض
وطنه ،واإلنكار التام لهذا الوجود.
برأيك ما هو سبب عدم قدرة المثقف الفلسطيني خاصة والعربي
عموما على تفكيك المشروع الصهيوني ثقافيا؟
شقير:
أعتقد أن جهو ًدا ال يستهان بها بذلت في هذا الميدان ،من
أبرزها ما قام به غسان كنفاني في دراسته لألدب الصهيوني في العام ،1967فقد عرّ ى األسس التي قام عليها هذا المشروع ،وقام بدراسة
عشرات المؤلفات األدبية التي كتبها يهود وغير يهود ،وهي التي بشرت بهذا المشروع قبل أن تتضح معالمه السياسية في شكل حركة
.
منظمة ثم إن جهو ًدا أخرى قام بها دارسون فلسطينيون ضمن هذا
السياق الذي يفضح حقيقة المشروع الصهيوني ويعرّ يه ،من بينهم
صالح حزين ،وليد أبو بكر ،حسن خضر ،والدكتور عادل األسطة.
من جهة أخرى ،ثمة جهود بذلت من جانب مثقفين إسرائيليين
“الذي خلقا من جزمة أفقا” على رأي محمود درويش ،وفي فترة الحجارة ،ما حدا بمحمود درويش أن يقول ذات مرة في حوار أجري
الحجارة”.
ّ تضحي بالجمالي من أجل وإلى اآلن تحفل بنماذج أدبية راقية ال
ّ تضحي بالمضمون المضمون المباشر ،وهي في الوقت نفسه ال النضالي اإلنساني للمقاومة الفلسطينية بكل أشكالها من أجل جمالية
شكلية فارغة.
يالحظ ازدياد ابتعاد الكثير من األدباء الفلسطينيين بشكل
خاص عن الموضوع الفلسطيني في اآلونة األخيرة ،وتقوقعهم أكثر
حقيقيا خارج الغوص في حول ذاتهم استنا ًدا لفكرة أنه “ال أدب ً الذات”؟
شقير:
في كل األحوال ،ال ب ّد من دخول األدب الجيد إلى مصهر
.
الذات وإال لكان فاق ًدا للروح وللقدرة على اإلقناع ثم إن حصر األدب الفلسطيني في دائرة الموضوع الفلسطيني ،بمعنى النضال ضد
االحتالل ،قد يُ بقي هذا األدب في دائرة ضيقة ليس من اإلنصاف إبقاؤه فيها وحسب ،وهذا بدوره يطرح سؤاالً مشروعً ا عن ماهية
معادين للصهيونية ،مثل إيالن بابيه الذي فضح في كتابه “التطهير ُ العرقي في فلسطين” خطة بن غوريون التي أطلق عليها اسم “الخطة
الصهيونية لفلسطين ،أم هو واقع فلسطين وشعبها بكل ما لهذا
إبان نكبة العام ،1948وثمة ما كتبه عوز شيالح الكاتب الرافض
من أجل الحرية والعدالة ،ومن أجل العيش الطبيعي مثل باقي
ّ وتم بموجبها تنظيم مجازر إبادة ضد قرى وبلدات فلسطينية داليت”، للصهيونية وإلسرائيل في “أراض للتنزه” وهي كما وصفها مؤلفها “رواية في شذرات ،تتحدث عن وجود لليهود فوق أرض فلسطين
فعليا لشعب آخر ما زالت يحاول بشتى الطرق أن يخفي تحته وجو ًدا ًّ
آثار قراه المدمرة بادية للعيان”.
في هذا السياق كيف ترى تناول األدباء الفلسطينيين ،وخاصة
..
داخل األرض المحتلة ،لآلخر (اليهودي) وما سبب ابتعاد الكثيرين
منهم عن تناوله بشكل مباشر وعميق؟
.
.
.
ّ وأذكر حبيبي ورواية “الصورة األخيرة في األلبوم” لسميح القاسم
بروايات “مدينة الله” لحسن حميد“ ،هوان النعيم” لجميل السلحوت،
“زغرودة الفنجان” لألسير في سجون االحتالل حسام زهدي شاهين. وغيرها من روايات وقصص وقصائد.
المشروع الفلسطيني :هل هو فقط ما له عالقة باالحتالل وبالغزوة
الواقع من تشعبات ،وبكل ما لهذا الشعب من طموحات وتطلعات ً واضحا ،وأنا أفهم تقوقع شعوب األرض؟ أظن أن ما أقصده بات
بعض الكتاب الفلسطينيين حول ذاتهم على اعتبار أن ذلك بوجه من
الوجوه تعبير غير مباشر عن صلف الواقع الذي نحياه ،وعن تأثير هذا
.
الواقع على داخل النفس البشرية ولعل هذا األمر يقودنا على نحو ما ّ وأذكر في إلى أدب المقاومة وإلى ما يمكن إدراجه ضمن هذا األدب، هذا الصدد بما ورد في كتاب محمود درويش “أثر الفراشة” حين قال
“كل شعر جميل مقاومة”.
أعتقد أن اقتصار الموضوع الفلسطيني على مقاومة االحتالل إنما
.
هو إفقار لألدب وللحياة ذلك أن الفلسطيني كائن بشري مثل بقية
البشر ،له تطلعاته الوطنية وله همومه الشخصية ،وال ضير من تناول هذه الهموم ما دامت تقدم الفلسطيني إلى العالم على اعتبار أنه كائن
بشري يستحق الحياة الحرة الكريمة المشتهاة
حاوره :أوس داوود يعقوب
عيل رضا سعيد
شقير :هنالك أعمال أدبية فلسطينية غير قليلة تناولت هذا اآلخر ّ أذكر في هذا الصدد برواية “المتشائل” إلميل من زوايا مختلفة
140
إلى أي مدى يمكن أن يساهم االلتزام السياسي بفكر أو قضية ما
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
141
مقال
احتمال النفاق في التشكيل عاصم الباشا ّ النحات جنوبيها .دعاني حدث ذلك في خريف ،2003وربما في السنة التالية ،في مدينة إيشيون القريبة من عاصمة كوريا الجنوبية، ّ المتمير كانغ للمشاركة في ملتقى للنحت ُن ّ تبين أن المدعوّ ين كنا اثنا عشر ،قدموا من تايوان الكوري واإلنسان ظم هناك ،فوافقتّ . ّ ّ وبالد «الشيت» وإيطاليا وسلوفاكيا وألمانيا وكوريا الجنوبية وإسبانيا وهولندا وأستراليا وفرنسا و ..إسرائيل .
شارك
من ال يعرف الحقيقة قد يص ّدق الزيف.
اثنان من فرنسا ،ذلك ألنهم
ع ّدوني كذلك بسبب جواز سفري الذي ّ علي خالل ربع قرن كل وفر ّ ّ المنغصات التي يتعرّ ض لها حامل الجواز
لكن كل هذا استرسال لتقديم ما يهمّ ني من ّ التذكر هذا
كان األلماني الشاب (مقارب لألربعين) ممّ ن
يمارسون ما يسمّ ى "مينيماليزم" ،وكان يزهو
السوري (بما في ذلك الدخول في والخروج
.
..
باستخدامه التقنيات واألدوات الحديثة ،وأنا
من سوريا!) ولكن سرعان ما أدرك الجميع ّ متخف بلبوس فرنساوي أنني سوري
ال أرى أي ضير في هذا. أنجز ،مثلي ،عملين .األول
.
من النافل ذكر تجاهلي لإلسرائيلي والحقيقة
.
أنه تجنّبني طوال العشرين يومً ا كان يبدي
أفقي يدور حول صخرة طبيعية وذلك
.
ما يشبه الذعر من مجرّ د مروري بقربه،
الماسي المعتاد استخدم باستخدام القرص ّ جهاز الليزر لرسم أفقية الخط ،وهو جهاز ّ متوفر بكثرة في األسواق طبعه المتعالي
.
فينزاح لم نتبادل كلمة واحدة طوال اللقاء، ّ يتكلم سوى الروسية ألنه علمً ا أنه ما كان
.
ّ كان يقولّ : المتخلفون! تعلموا أيها
كان قد هاجر حدي ًثا من أوكرانيا إلى مجمّ ع
النازيين الجدد.
(شكل تقريبي)
قبلت الدعوة عالمً ا أن الحجر الذي سنتعامل
أما موضوع الحمق والنفاق فكان في عمله
لكنني اعتدت الميل للتح ّديات وقلت لنفسي: ّ تتعلم وتحاول وذلك ما كان تراقب قليالً،
طلب قطعة غرانيت مستطيلة أبعادها حوالي
الثاني.
به هو الغرانيت ،ولم يسبق لي معالجته،
.
.
.
ّ يقصوا له 0,60 × 1,5 × 3م تقري ًبا وطلب أن ّ ّ مختص وليس (شق العمل األول أنجزه عامل
ً طريفا :صنع مقاعد موضوع الملتقى كان
لألماكن العامة.
ّ القصة) هو بنفسه! وفي العمل الثاني تكرّ رت
.
مربّعً ا أبعاده 30 × 80 × 80سم في زاوية منه
أنجزت اثنين ،أولهما أسميته "بالد الرافدين" ّ ألذكر بجرائم المغول الجدد في العراق
.
أمّ ا الثاني ،على عادتي عندما أجد موا ًدا
بهدف إزاحة الكتلة المقتطعة لمسافة 1سم.
أعتبره جهالً منها بمجمل القضية ،وأن على
ويتسنى لي الوقت فقد صنعته من فضالت الملتقى ،ولم أضع له عنوا ًنا
الجهلة أن يصمتوا.
حصل بعد أشهر ،وجاء من طرف زوج
بمدى النذالة التي تقف عليها ،إذ قامت
.
ّ ولعل أحقر ما تعرّ ضت له في ذلك الملتقى
.
ّ النحات السلوفاكي شديدة التديّ ن حاولت
هذه مرارًا (كانا يعرفان الروسية) أن تجمعني
.
باإلسرائيلي الجديد كنت أسعد بتجاهلها
وإفهامها أنني أحتقر ما تسعى إليه وأنني
142
ّ شق عبارة عن
انتقمت منّي (لش ّدة تديّ نها) بصورة تنبيء باستخدام الفوتوشوب لتلصق صورتي بجانب اإلسرائيلي على المقعد الذي نحته
زوجها (في الصورة األصلية كنت مع زوجها)
وأرسلتها لي في أعياد الميالد!
عن الكتلة األمّ ،بالشكل التقريبي المرفق: ّ ّ ّ القص بالليزر أو ما يتطلب آالت قص كهذا ّ ّ ّ يتأتى من حبيبات والقص بضخ الماء، يعرف
. .
رملية دقيقة تدفعها المياه بشدة وبكال ّ ّ القص التحكم بعمق التقنيتين يمكن ً إزعاجا ومطالبة جلي أنه كان أكثر المشاركين ّ ّ للمنظمين ،لكنهم رضخوا لنزواته بفلسفة
الشرق األقصى تلك.
ّ مختص وسهى العمّ ال نقلوا الكتلة إلى معمل
عاصم الباشا
.
قص
عن حشو فراغ القص قبل أن ينتهوا منه فكسر وزن الكتلة المقطوعة الزاوية الداخلية
انقراض
.
العميقة ،تلك التي من المحال رؤيتها فطار عقل "الفنان" األلماني وطالب بحجر آخر
وتكرار العملية!
ّ توترت، من الطبيعي أن أجواء الملتقى
سعيد موفقي
وحاول بعض المشاركين التلطيف مع احتقار ّ "نحات" يطالب أن يُ عمل له وال ضمني ل
يعمل.
قلت له :ال عليك ،حتى الهواء غير قادر على
النفاذ إلى الزاوية المكسورة (الكسر ال يتجاوز أنافق في الفن!
.
ال أخفيكم أن جوابه أزعجني تماسكت وقلت له :ما أردته من "فكرة" تصل إلى
إبراهيم الصلحي
.
السنتمتر الواحد!) رمقني شزرًا وأجاب :أنا ال
..
الناس بوضعه الحالي هذا إن كان في العمل "فكرة"! وإن كان نح ًتا!
أن نتجاهل بعضنا في األيام التالية كان
منطقيا. ً
الغريب أن التعبير الذي استخدمه "النفاق في
الفن" استوقفني منذ أيام ،أي بعد سنوات. ًّ مرتجا صادرًا عن نفس غير وجدته تعبيرًا
قويمة ،أو ،في أحسن الحاالت ،نفس لم
تتلمّ س ماهية العمل الفنّي.
ذلك ألن حالة إبداع حقيقية ال يمكن أن
.
تقارب حقارة كالنفاق ثم أن من الحماقة البحث عن الكمال ،فالمدرك بحق موقن بأن
ال كمال في عمل إبداعي ،أيًّ ا كان ،وأن في
ذلك ضمان ديمومته.
ّ وتتملك ما من لوحة أو منحوتة تحيط
ّ يتصفحها بشوق وقلقّ ، ثم يم ّدد رجليه الطويلتين ينزوي بجريدته في مقهى المدينة،
الكمال من غاياته ّ ً ثم يتساءل المرء :أال يتطلب الكمال شيئا من النقص ليصبح كامالً؟!
ّ يمص سيجارته بغضب ،لثالث مرّ ة يحاول رفسها في المطفأة ،لكن ال زال بها وهو ّ المصات الجميلة كما كان يتح ّدث في وصفها عندما يجتمع بأصدقائه ويروي لهم بعض مغامراته في المقهى ،فيتركها بين أصابعه الثالثة تلهو بها ،يمسكها كما لو أ ّنه يخشى
سينيكا" :الرياح ال تساعد من ال يعرف
الضيق ،وحركة ووهجها يغيب في زحمة األبخرة المكوّ مة على الرّ ؤوس في بهو المقهى ّ
الكمال ،بل هي دومً ا تفاصيل لجهد ليس
.
ّ أتذكر هنا قوالً لفيلسوف قرطبة الرومانية
وجهته". التشكيل ..وفي كل المجاالت.
وهذا سبب كثرة الحمقى في
أما النفاق ( لوفهمناه على أنه إ ّدعاء) فهو ّ متوفر بكثرة كذلك ُ يوميا باح ًثا عن الوجهة ،ثم لذا أمَ رْ مر حياتي ً
.
بين قوائم الطاولة التي لم تكن مناسبة لهيكله ،أزعجه عدم االنسجام ،يشعر بمضايقة،
يعذبها بأصابعه فتزيد من عذابه ،كانت ّ ّ لذتها تتضاءل فرارها وال يريدها أن تنتهي، الوافدين مستمرة ،من حين آلخر تلطمه أيدٍ عابثة وتدافع األجساد المكتظة الباحثة عن
كراس بجواره أو قريبة منه ،لكنّها تبتعد عنه كالفارّ ة من رائحة بالوعة صرف المياه، فتزيد من غضبه ،توقفت الحركة وواصل قراءة خبر اليوم الذي لم يكن مناسبا هذا الصباح أيضا ،يعود ّ ّ الضجيج بعد هدوء نسبي ويتراكم شيئا فشيئا ،لحظتها شيء ما
قرض نفسه من الجريدة ،يسحب رجليه بسرعة ّ ثم يطوي جريدته في حنق ،يطفئ
أعمل ما استطعت عسى الرياح تساعدني. ً مدركا بالطبع أن الرياح هي العمل ..وإن لم
مصة ،ربّت النادل على كتفه حينما ّ آخر ّ هم بالمغادرة :ادفع ثمن ما قلت ،عفوا ما شربت،
نحات وكاتب من سوريا مقيم في غرناطة
قاص من الجزائر
يقلها سينيكا
بش ّدة ما بقي من سيجارته حتى كوته ،صرخ ّ ثم لعنها وهو ينفث ما بقي في صدره من
وضع كلتا يديه في جيبي سرواله مفتعال البحث عن النقود وهو يدرك أنهما مثقوبان منذ طردته ّ الشركة
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
143
مقال
شيء عن دوما الشهوة حينما تضج على رأس طاغية مثقف نوار جابر ً ً جيدا للحياة مثلنا نحن من نحيا في الخارج أو في محافظات ومناطق سورية شبه آمنة .نحن العاديون مقوما ال يملك أبناء دوما ُ َ ً في الحياة داخل سوريا مثال ن ُ ملك ألطفالنا متاجر أللعاب األطفال ،وشوارع كلها بضائع صينية ،ألعاب من كافة األصناف ويكون ً ً نظريا سعرها مقبوالً ومن السهل التعامل به وعمليا .إن قطعة صينية رخيصة تكفي لرغبة طفلنا في اللعب.
مُقوم
الرغبات مفتوح أمامنا،
وعلماء االجتماع إن اللعب هو أحد أهم
األرض السورية.
ُ ونكبته ،وقد َن ُ حلم به نمتلك صورة الرغبة
يكتشف فيها اإلنسان أدوات عيشه ويُ نشئ
أخرى لتأمين النجاة األطفال ها هنا حينما
نراه
أقله
.
ونشتهيه
وآلياتها واشتهاءها وممارسة االستمناء عليها إن لزم األمر في اختزال الشهوات
.
ومحاولة تفريغها إننا نتمكن من اكتشاف
ٌ شيء الممكن المرغوب وهذا شيء جيد إنه ً قاسيا نستطيع كي ال نقع من الحياة ولو كان
.
.
عن اللعب الكثير من معارفه ال فرق كبير بين
األسد ُ وحكام دوما الحاليين فهم يعرفون أن األطفال غير مهمين إال على مستوى النضج
الذكوري المُ سلح ،مرحلة السلوك القضيبي ُ السالح ُكل شيء، المعمم الذي يكون فيه
ً أيضا ،نملك في في خطيئة الشهوة أن نصلي المحافظات اآلمنة -وهي قليلة جداً-
. الغربية المائعة الحديثة.
ّ تحصن األبواب، تتسع لنا ،ودوريات األمن وفي الغالب ُت ّ حصن السماء فالصواريخ قليلة
في دوما أمام األطفال مُ حاكاة لوصية
كالالذقية أماكن الصالة ،الجوامع والكنائس
في
على محافظة الالذقية ومعدومة ً طرطوس (المحافظتان األكثر أمانا في ً سوريا)
.
الرب والشيطانُ ،كل نملك الصالة والشهوة، ّ ً نحن العاديون مهجورون تقريبا ،إنما شيء ُ
من كل شيء ،يكفينا َش ُ رف الرؤية لمحركات
.
الرغبة في دوما ال يملكون حتى المتاجر
.
إذن ،وال حتى ذاكرة الرغبة هذه مشكلة يعرفها الطاغية صاحب البراميل ،هو يعرف أن رغبات أطفال دوما صفرية لم تنشأ ألنه يحاصرها لما يقارب الخمس سنين،
وال تتجاوز الرغبة عندهم حدود الغريزة
كالتنفس ،والرغبة في إسكات بعض المطالب
الغريزية كاألكل بوصفهِ فِ عال فمويا محضا
.
أي شرط من شروط االستذواق وحتى بال ّ اللعب بقذف البول في حمام مُ عتم يبدو ً صعبا داخل البيت فال كهرباء هناك البتة وكمالحظة
144
طرق المعرفة فاللعب من أهم الوسائل التي
مجدية
يقول
.
النفسانيون
ً داع آلليات اللعب أي شيء وال وتعويضا عن ّ ٍ
ً فرسا زهران علوش حاكم دوما يمتطي
النبي مُ حمد بتعليم األطفال ركوب الخيل ،واألسد يمتطي البرميل كما يُ تيح له هذا
.
العالم الحديث من تقانة وسماح ويقدس ُ موالوه األحذية كشيء من اغتراب اإلنسان عن أصالته في فهم الشيء بذاته بجعل ً الحذاء في ذاتهِ معلما لماهية اإلنسان فبدل
.
التحدث بالفهم عن الشيء بذاته كالحذاء ً ً يصبح الحذاء بذاتهِ معرفيا ،ويتداركنا شيئا
هو ،ويتحول الموالون إلى عبيدٍ غرباء ِ وشبه األحذية
العسكرية
منفصمين ،فمشاهد في كل مكان َتليق بما يقدسه البشر ال بما يلبسونه! في أثناء تقبيل الموالين ألحذية
العسكر يُ خفي المُ صور ويكتفي بوجوه متملقي النظام ،في الغالب وجه العسكري
الذي ال يُ صدق رغم أنه صاحب القدم ما
يحصل لهذا الحذاء ،فالمعدة الجائعة ال تعرق قيمة هذا األيقون المُ ستحدث ومن سيصدق ً بشرا تترامى لتقبيل حذاء فشل ممثلوه
باألصل عن حماية وجودهم في ثالثة أرباع
أقله على الموالين البحث عن ممثلي أحذية
.
يمرون بقرب تماثيل الحذاء في الالذقية أو طرطوس يخطئون في قول تميمة المرور، ُ يخص ويظنون أن كل هذا الورد الموضوع ً ً إلهيا هذا مرض شائع يُ صاب به الدماغ شانا
.
(منطق تصديق الشكل
المُ درك).
أطفال
ً كثيرا في فك هذا الرمز المواالة سيخطئون
.
المستحدث عن القداسة الدينية الصالة في
دوما أمر استشهادي.
نظام البراميل يكره الصالة ،فهو يكره أن يُ ّ عكر أهالي ضحايا مجازر اإلبادة التي يقوم
بها ُكل يوم صفوة الله ،فيضرب لهم المساجد، ّ ّ ويصلوا في الشوارع العامة يضجوا لكي
المفتوحة ،وليصرخوا كمجانين الشوارع
.
فهذا أفضل من تنظيم الصالة للرب ولكي ال يُ ذعر الله من دعائهم المُ شترك ،ونحيبهم
المقيت ،فيضرب شوارعهم وبيوتهم ويُ بيد صوتهم كامالً في البدء لم يكن الكلمة ،بل
.
الصمت والدم الذي يخترق بساتين عامرة. هذا هو إلهنا الحديث األرضي ،هذا ما ال
.
يُ مكن إنكاره ما تبقى من أماكن صالة
جماعية ال يقف بوجهها مسلحون على
األبواب ليراقبوا صرخات الناس ومطالبهم كما في المناطق اآلمنة ،بل يدخل المسلح
إلى الداخل ليخطب بهم وهو يحمل بارودته.
زهران علوش يدخل ببساطة ومرافقته ُتسكت مطالب الناس بإيماءة ُترعب من يشاهدها على اليوتيوب فما بالك إن كانوا ً ً حكيما حينما عموما كان مُ حمد أمامك
.
جواد
.
العجائب في أحوال دوما المُ ستجدة أن قصفها الدكتاتور بوسط سوقها التجاري ،أو
سوقها الغذائي ،هذا ما روته صور المجزرة، صورٌ لعربات الفاكهة والخضار ،شيئيات
الغريزة الفطرية ،مكنونات الرغبة البشرية
.
البسيطة والساذجة الفاكهة إحدى أكثر ما يستهدفه الدكتاتور في صواريخه و التي نستطيع نحن العاديون التقاطها من أي سوق ً صديقا على الموبايل دون أن ونحن ُنكلم
.
ننظر إلى وجه البائع حتى إال أن الدكتاتور ُ ً تماما أن البهجة الوحيدة ألبناء دوما يعرف
.
هي ما تبقى على عرباتها المتنقلة فاكهة
مقتصرة على ما توفر ،وما يُ مكن تهريبه أو
زرعه ،أو حتى خطفه.
نعم لقد ضرب الدكتاتور سوق الفاكهة ألنه ُ ً متخلفا هذا يعرف جدواها البشرية ،ليس
المجنون الذي يحكمنا ،ي ُ َعلم أن اإلبادة تحتاج قتل ُكل رغبة ،وكل مطلب دماغي
.
ملح للبهجة ( )fruitالفاكهة بمعناها اآلني
تأتي من جذر التيني ( )fructoseأي البهجة، هذا ما يعلمه االستبداد عن دوما ،أن ألطفالها بهجة في أكل بعض الفاكهة ،مما يجعلهم
يشعرون ببهجة ما ،وهو له واجب استئصال مباهجهم ،ال يكفيهم شحهم بكل شيء،
عليهم أن يحرموا من شيء يخص جسدهم، ذهنهم ،كيميائية جسدهم ،قد غفل الدكتاتور
.
لبعض الوقت عن تذكره ما يعرفه طاغيتنا
.
ُ يتوقعه أطفال دوما نحن عن الفاكهة ال
العاديون لسنا دومانيين البتة ،ما يصعب
تصديقه عِ لم الطاغية في اإلبادة.
األدب الغرائبي ها هنا هو قصتنا الدائمة،
قال ألتباعه “ال ُتدخلوا السالح إلى مكان
َمسك الموت. لطالما ال ي ّ
واستوحاش حامله ال أستطيع حفظ عدد
األخيرة ،استنطاق المُ جرم للمعرفة في عمله.
الصالة” فالنبي كان يشعر ُ بجرمية السالح
.
البراميل والصواريخ التي تضرب ظهر مدينة دوما ،هنالك أح ٌد ما يعرف العدد ،ال بد أنه ً جدا فاإلحصاء عملية جيدة للدماغ هذا ذكي ّ ما يجهله أمناء األمم المتحدة الذين توقفوا
.
عن إحصاء قتالنا وضحايا طاغيتنا الطبيب.
ً جيدا، نحن العاديون نستطيع أن نرى المأساة في داخل ُكتابنا بُع ٌد خفي للتنافس على أفضل ما يُ كتب عن هذه المأساة المريعة، التي ال نشعر فيها إال بالمرارة التي اعتدنا عليها وكأنها تكرار يومي ،حِ س المفاجأة
يختفي في يومياتنا وهذا شيء سيئ أن ً تحيا هكذا بروتين يومي دموي بات مُ حببا،
األكثر غرابة في كل هذا وفي جريمة دوما ً تماما أن اإلبادة شيء أصيل في فهو يعي
طيات القرن الحادي والعشرين ،وعليه أن
يُ درك ماهية الكائن البشري ،ومنشأ غرائزه ً ٌ ٌ جدا، حديث قاتل ليقتل فيه بشريته ،إنه يُ شبه شخصيات كرتونية شريرة يُ بالغ في صنعها لفصل القيم وتعليم األطفال
والناشئة.
وقلما
تجسدت
في
الواقع،
فاستجرار كل مخيلة ممكنة إلبادة الناس
وترويعهم وإخافتهم وتشويههم هو شيء ً أسدي بامتياز وليس مُ بواقع آخر ناطا ٍ هذه اللذة األسدية ال تبدو واقعية في
.
أي كتابةٍ عنها بل تنتمي ألدب الغرائب ال ّ
عمّ ا يكتشفه الدكتاتور من مباهجنا ،وما
سنتحول إليه قبل
زواله.
المباهج التي
سيرثها الدومانيون من فشلنا في حمايتهم، ً أيضا المزروع في هو اكتشاف ألم اآلخر عينيه كفكرة الكتشاف ألم الناس الذين
.
يفرحون لمقتلهم على أمل أن يكونوا أحياء ً وحوشا ،ماذا تبقى لهم من الحياة حتى ال
ال يتوحشوا؟ نحن العاديون ال نعرف من ّ توقف فيها الزمن لبرهة الوحش سوى صو ِر وهي كافية لنعتاد على ما يحصل لهم نحن
.
لتقبل ما العاديون زمننا بليد ويُ سارع دماغنا ّ
.
يحصل لكم أنتم وألنكم تحت نار اإلبادة ً بطيئا في تقبل ُكل هذا سيكون دماغكم
.
الموت إنها الفطرة ال المقصد
كاتبة من سوريا
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
145
قص
لفافة من حرير فكري عمر
أوقفني
.
بنظرة وإشارة كان يقف أعلى سلم منزله
.
.
.
أنه أكثر وضوحا من شمس ساطعة رجل خائف استأمنني على كنز
ليقعد.
حياته وحياة قبيلته وأنا قبلت بمحض إرادتي في وقت لم أكن أدرك
-سيدى ،طمأنني سمتك ،وقلت لنفسي إنك الشخص الوحيد الذي
بواقع حالي جاء متأخرا ،لذا فأنا لست مسؤوال عن أي شيء يحدث
الخارجي تقدمت ناحيته ثنى ساقيه
.
صارت رأسه في مستوى رأسي قال لي:
يمكنني الوثوق فيه من كل الذين مروا من أمامي ،فهل خانني حدسي؟
قلت مدفوعا بالحياء ،وبالرغبة في المساعدة:
لي أو حولي؟
قلت لنفسي لو تركتك نهبا لالحتماالت سأتالشى وسأجدني في
موقف شبيهة وقد فقدت الثقة بقدرتي على التحمل أو اإليفاء
-ال .لم يخنك حدسك وإراداتى رهن أمرك.
. اخترته.
بالوعود ساعتها سأؤنب نفسى على عدم بذلي أي مجهود لفعل ما
إلي لفافة من حرير قائال: دفع َّ
ها هنا كنز حياتي وحياة قبيلتي ،فال تضيعنا..
تناولتها تحسست نعومة الحرير في يدى ،وبشيء كالكرة ،أو البلورة
.
داخلها ،شيء صغير لكنه ثقيل ثقل حجر كبير من الجرانيت وضعت
يدى اليسرى كي تؤازر اليمنى في حملها ،وقلت له بينما ألهث: -وما المطلوب منى بالضبط؟
-ال شيء سوى الوقوف هنا لدقيقة ،أو أقل حتى أخرج لك مرة أخرى.
قلت مطمئنا إياه:
-األمانة كنز ال يفنى.
فيه أنني ال أستطيع التحمل ،فهل أخون األمانة مدعيا أن معرفتي
.
قلت أيضا :ما يضيرني لو فعلت أقصى ما يمكن أن أفعله أن أقف
.
.
مصلوبا هكذا أمام الباب الفخم الملون ممسكا باللفافة بيدي منتظرا
صاحبها الذي قد يخرج في أي لحظة منقذا إياي من ورطة بطلها
.
ضميري الذى ال يكف عن تأنيبي كنت أقف ككلب الحراسة على وعد ُ لن أسأل عن تضييعه في نفس الوقت ال أستطيع المغادرة هنا شيء
.
.
.
حقيقي وأكثر قسوة من مشهد جثة ملقاة في الشارع لقد قال الرجل قبيلتي ولم يقل أسرتي ،أال يدفعك هذا للتفكير في مصائر عدد من
فرد..
.
كان قد دفع الباب واختفى من أمامي اللفافة الثقيلة جدا دفعتني
البشر يتجاوز المئة وأحالم قد ُتقصف في لحظة حين تمضي أنت غير عابئ باآلخرين
ألعلى فإذا السماء غائبة تحت سيل من ظالم دامس ال يطرقه هالل
أعطيه اللفافة وأمضى كما ُتقدر لي المصادفات الغريبة ،أو أضعها
.
.
للنظر حولي كي أخفف عن نفسى هذا اإلحساس بالضعف نظرت
.
صغير ،أو نجمة تومض في البعيد ،أو شبح سحابة عابرة في الوقت
رجال ونساء وأطفال أمان وخطوات
. قلت بعد قليل :فألصعد ألطرق الباب حتى يفتح لي أحدهم الباب. .
.
بجانب الباب وشيء ما منعني الغريب أنني ظللت لوقت طويل
نفسه كان الشارع يحيا تحت إضاءة قوية من ألوان مختلطة عجيبة .أراقب كل ما يتبدل أمامي وأعاود النظر إلى باب الدار فأجده كما هو. أنا شحيح البكاء وجدتني أنهنه فجأة ،ثم تنفرط دموعي مدرارا كأنها عدت للباب الغريب الذى تتألأل ألوانه فتخطف انتباهي. عاودت النظر إلى الشارع متمنيا أن ينظر لي أحدهم ويصمني
تنثال من مخزن ال ينضب ،وأتكئ على الساللم العنا الدار وصاحبها
فعلها مع الكثيرين .حينها سألقى ما بيدي وأمضى غير مبتئس ،أو عابئ بشيء ،لكن أحدا لم ينظر في وجهى وهو يمضى أو يحدثني.
ال تخصني مباشرة بل تخص آخرين تورطت فيها بمصادفة بحتة،
وفى واقع غريب لن يحاكمني أحد بسبب المضي منه لما ضبطت
كانت تمضى مسرعة دون أن تلتفت نحوى ،وأحيانا كانت تتالشى من
حمل الوعد وال يستطيع أن يتحمل حتى النهاية.
بالمجنون ،وأن ما وقعت فيه اآلن هو مقلب من صاحب الدار الذى
ومرة واحدة ضربني يقين قاتل بأنني في فخ؛ ألن كائنات الشارع
أمامي .في لحظة ..عدت ببصرى بسرعة للشيء الوحيد الذى أعرفه.. إلى باب الدار الفخم الملون ،ألمسكه بعيني فال يفلت .كان قلقي قد بدأ يتزايد ..وطوَّ ح بي قلق هائل حين فكرت في كل االحتماالت التي ال تسيطر عليها إرادتي الهشة .لكن لمَ أنا مرتبك وخائف هكذا في أمر
لو تركته لن أموت فورا؟ ُ هل أ َلم على ما ال أقدر على السيطرة عليه؟ هنا شيء حقيقي أحس
146
.
وبابها الملون لم يأت أحدا ليطبطب على أو ليشاركني همومي التي
.
نفسي في موقف ضعفها ذاك قلت :وما ذنب الرجل؟ الذنب ذنب من
.
فكرت في الهرب ،وشيء ما أمسك بي وقال :قف حتى النهاية ورغما
عني التزمت مكاني مختزال كل أمنياتي في باب الدار الذى سيفتح
حتما ذات لحظة عن وجه الرجل الغريب الذى يمد يده؛ ليسترد
لفافته ،ويعتقني
كاتب من مصر
قصة قصيرة
بيدق في لعبة الشطرنج نهار حسب اهلل
والخوف على صبغ وجوهنا بلون باهت مُ تعب. ْ
.
قفز أو ُدفعَ جندي أبيض من مكانه في الجهة المقابلة تحرك خطوة ً معلنا بداية اللعبة مرتجفة واحدة،
.
الخوف إحساس عدمي ،غير مرئي.. زمالئي ويقطر من مساماتهم في تلك اللحظة.
ولكنه كان يختلط مع عرق
اشتعل فتيل الحرب وسرعان ما تحوّ لت المربعات داخل رقعة
الشطرنج إلى فخاخ تتصيد الضحايا وتبعث بهم إلى الهالك..
ً مرئيا ،يتحرك ببطء ما بين الخطوط ،يتصيد الضحايا شبح الموت بدا
ويسلب حياة من دفعته تعاسة قدره للمرور بجواره. سقط جندي هنا وآخر هناك .محاصر هنا ،ومقيد هناك.
لم ُتفرز دماء البيض والسود عن بعضهما ،ولم تعزل الجثث حسب ً ّ وشكلت رُ كاما اللون والفريق ،وإنما تعانقت على األرض رغم خصامها ً بشريا وأبعدت عن لعبة الموت إلى الهامش خارج البالط ،واعتلى منها
رائحة بخور المقابر.
.
الزمن داخل رقعة لعبة شطرنج المربعة احترت في نفسي واختلفت
.
معالم الكون في رأسي ً ُ حاولت استرجاع قواي ،لملمت نفسي ووقفت مرغما على واحد من
.
المربعات األربعة والستين المميزة عن بعضها باألبيض واألسود صراعا كبيراً ً ْ ركت البيادق المبعثرة من حولي ،وأحدثت أيادٍ خفية َح ً ً غريبا بين البيادق قبل بدء المعركة وتدافعا
.
.
اصطف الجيشان ،األبيض واألسود ،على نحو متقابل وقف كل في ً متأهبا ألوامر الحرب مكانه
.
.
وكأي حرب طائشة زج الجنود الشبان في وكعادة لعبة الشطرنج ّ صفوف الموت األمامية فيما اختفى الملكان وحاشيتيهما خلف السواتر التي ُش ْ كلت بالجنود الثمانية لكل طرف
..
.
وجهي األسمر وقصر قامتي ،نسباني إلى الجيش األسود ،وسرعان ما
كان الخوف يغتالني آالف المرات ،يجرّ د الروح ويبعدها عن الجسد
كلما لمست رأسي تلك اليد الخفية وغيرت موقعي. . . . . تغيرت وجهة اللعب إلى الزاوية األخرى .ابتعدت األنظار عنّي. يبدو أن القدر أمهلني فرصة الخالص ..لم أنتظر طويالً .رميت نفسي ً مراقبا مجريات المعركة بين الهالكين على الهامش .حبست أنفاسي تخيلت أساليب حاولت الخالص من مأزقي ولو بالموت العاجل ّ ّ بأقلها وجعاً الموت كلها شاهدت أبشع الجثث حلمت
بصمت ثقيل ،متحمّ الً قساوة الجثث التي ترمى على جسدي بين
لحظة وأخرى.
أفرغت ساحة المعركة من الجنود البسطاء وسيطر الملكان
وحاشيتهما على األرض.
ً وجها لوجه بمواجهة تاريخية لم أشهدها من قبل مواجهة تقابال
حاسمة دامية لمحاصرة أحدهما واإلطاحة به.
..
تحولت إلى بيدق مستعد للموت. تنبهت لنفسي ومن معي من الجنود في الصف األول المواجه للموت.
بصوت مسموع (كش يا شعب) وتعانقا عناق األحبة ،وشربا نخب
الحكايات التي يخفيها الصمت بداخل كل واحد منهم ،ربما يكون لكل
لها مثيال
ً مسحورا بتلك الوجوه الصامتة من حولي ،ال أحتاج لتخمين كنت
واحد منهم حكاية تشابه حكايتي.
اختلفت مالمحي والجنود من حولي على الرغم من تعاون القلق
.
انتظرت لحظة نطق (كش ملك) من أحد الطرفين غير أنهما قاال
النصر من بقايا الدم المنهمر على البالط ،واختنقا بضحكة لم أسمع
كاتب من العراق
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
147
مقال
نصوص أوغاريت هنا يبدأ التاريخ تيسير خلف ثمة أسئلة معلقة بانتظار اإلجابة عليها منذ عام 1929م ،وهو عام اكتشاف مدينة أوغاريت في رأس شمرا قرب مدينة الالذقية السورية .هذه األسئلة تتعلق بالهوية الحضارية لكنعان القديمة وبجغرافية المالحم التي عثر على نصوصها في هذه المدينة
التي أعطت للبشرية األبجدية األولى ،وعالقة األساطير والمالحم والنصوص األدبية المكتشفة بما يسمى المالحم واألساطير
اإلغريقية وكذلك بما يسمى بالكتاب المقدس لدى اليهود.
لقد
بأي شكل من يمكن التغافل ّ األشكال عن الهوية الكنعانية-
لمعتقداتهم.
العمورية لحضارة أوغاريت ،فهذا األمر بات ّ المسلمة التاريخية ،لقد بدأ الكنعانيون بحكم
مالحمهم وآدابهم التي طوروها في أرض
أرض كنعان (فلسطين القديمة) منذ مطالع
الذي تحركت فيه هذه المالحم هو فضاء
باالستقرار في أوغاريت قادمين من جنوب
لقد نقل الكنعانيون معهم إلى أوغاريت؛
كنعان القديمة ،ولذلك كان الفضاء الجغرافي
األلفية الثانية قبل الميالد وحتى عام 1250
جنوبي أرض كنعان (فلسطين القديمة)،
أنهم منحوا المدينة بشكل تدريجي الهوية
الحلم أبو اآللهة إيل أن يذهب إلى النقب
قبل الميالد ،أي عام خراب أوغاريت ،بحيث
الثقافية الكنعانية -العمورية ،على الرغم من الطبيعة الدولية لها بحكم موقعها التجاري
المتميز ،ووجود جاليات متعددة فيها،
حورية ،وحثية ،وغير ذلك.
فالملك كرت ملك بيت خبر الذي أمره في
ويتزوّ ج من ابنة ملك أدوم حورية ،اقتضى تحرك جيشه من مملكته بيت خبر إلى أدوم
وبأي حال من األحوال فإن حركة سبعة أيام، ّ
جيش كبير كما هو الوصف في الملحمة لمدة
الالفت للنظر هو أن مجمع اآللهة األوغاريتي
سبعة أيام ال يمكن أن تتجاوز مئة إلى مئة ً كيلومترا ولذلك فبيت خبر ال وخمسين
إيل ومعه داجون وبعل وعناة وعشيرة
محاوالت البعض جعلها في جنوبي لبنان أو
.
البدايات والنهايات ،وهي التي كان من
المفترض أن تربط الملحمة مع تسلسل الحق ،يرى بعض الدارسين أنه يكمل بعضه ً بعضا ولذلك فإن ملحمتا كرت وأقهات ربما
.
يكونان فصلين متتابعين لملحمة واحدة ّ تلخص تاريخ كنعان األسطوري فالملك
.
دانيل يوصف في بعض الكسر بأنه ابن الملك صح ذلك فملحمتا كرت وأقهات كرت ،وإن ّ
هما فصلين كبيرين من فصول ملحمة
الكنعانيين الكبرى.
ثمة مالحظة ال بد من التنويه لها في هذه
هو نفسه مجمع آلهة الكنعانيين المعروف ً أيضا كبير اآللهة في فلسطين القديمة فهنا
يمكن أن تكون خارج فلسطين الحالية ،وأما
ورد ذكرها بوصفها اإللهة الرئيسة لدى شعب
وعشتاروت ويم وموت وكوثر ورشف وغير
قرب أوغاريت نفسها ،فهي محاوالت غير
ذكرها في ملحمة أقهات باسم فجت أو بجت
.
.
ذلك باإلضافة إلى أنصاف اآللهة الذين
يسمون الرفائيين الذين نقرأ أسماءهم في المالحم األوغاريتية وهم الملك كرت (الذي أصبح عند الفينيقيين ملقرت) ،وزوجته
حورية وابنه يصب والملك دانيل وابنه
أقهات وابنته فجت [فتجاية] وغيرهم.
منطقية وال تنسجم مع سياق الملحمة ،الذي
ركز على التعامل مع المواقيت بدقة الفتة.
واألمر نفسه يقال عن ملحمة أقهات بن
دانيل فمسرحها في النقب جنوبي فلسطين
بوصفها ستعيد الحياة لشقيقها بعد موته، ولذلك فإن معنى اسمها باللغة اآلرامية فجة ً تماما مع دورها في هذه الملحمة، ينسجم
فهو يعني المنعشة أو المحيية ،وثمة أكثر
في جنوب لبنان ،كما حاول أتباع المدرسة
وتنعش المخلوقات.
.
بموطن
التوراتية أن يبرهنوا ،وعلى رأسهم األب
لتدوين هذه المالحم) مرتبطين
التجكر ،الشعب الشقيق للفلستيين ،ورد
الحالية كما يذهب أغلب العلماء الذين ً ً وأيضا استنادا إلى النصوص نفسها، درسوها،
ولذلك يبدو كنعانيو أوغاريت في القرن
أسالفهم القديم ،أي أرض جنوبي كنعان
العجالة؛ وهي اإللهة فتجاية أو بتجاية التي
أطلق عليه هذا االسم مثل :نبع الفيجة ونبع
إلى البيئة الجغرافية والغطاء النباتي وليس
الرابع عشر قبل الميالد (وهو الوقت التقريبي
148
(فلسطين القديمة) برابط الجغرافيا المكانية
(القدس).
إن تلف الكثير من مقاطع هاتين الملحمتين ّ أضاع بعض التفاصيل المفيدة ،وخصوصاً
ديفو مدير المدرسة التوراتية في أورشليم
من معبد أقيم على نبع ماء في سوريا اليوم
البجة على اعتبار أن المياه هي التي تحيي
ً أيضا حول موقع الجبل سؤال يطرح نفسه المقدس لدى الكنعانيين القدماء ،والذي
اآللهة السورية القدمية عنات هذا السؤال يقودنا إلى نقطة على غاية من
األهمية وهي سعي أتباع المدرسة التوراتية في التاريخ ألن يعقدوا المقارنات بين ما
يسمّ ى الكتاب المقدس اليهودي ،وبين نصوص مالحم وآداب أوغاريت ،وكأن
التوراة هي الوريث الشرعي والوحيد لهذا التراث ،على اعتبار أن نصوص أوغاريت هي النصوص الوحيدة المكتشفة حتى اليوم
.
تعبر عن ثقافة الكنعانيين القدماء إن التي ّ هذه المحاوالت المحمومة ،والتي استندت
إلى بعض التعبيرات األدبية وتشابه بعض
الحوادث والشخصيات ،قد ساهمت في
التشويش على هوية أوغاريت الكنعانية وعالقتها بكنعان القديمة (أي فلسطين فيما بعد) ،وقصرتها على المقارنات غير العادلة
مع نصوص الكتاب المقدس لدى اليهود ،هذه المقارنات التي انجرف وراءها الكثيرون،
.
ومنهم بعض الباحثين والنقلة العرب بحيث ً كتابا حول أوغاريت في اللغة أنك لن تجد
موسعة عن عالقة العربية إال وفيه فصول ّ نصوص أوغاريت بما يسمّ ى الكتاب المقدس
اليهودي. وبعد ..فإن ملحمة كنعان األسطورية التي نجد بعض فصولها في نصوص أوغاريت،
هي السلف المباشر لملحمتي اإلغريق اإللياذة
.
واألوديسة فهناك جبل مقدس يقطنه كبير اآللهة وفيه مجمع اآللهة وهناك مخلوقات ملكية نصف إلهية ،وتفاصيل كثيرة مشتركة،
ّ يرجح التأثير األسطوري الكنعاني مما والفينيقي فيما بعد على الذهنية األسطورية
لإلغريق ،فالرابط بين مالحم وأساطير الخلق
السومرية والبابلية مع المالحم اإلغريقية كان بحاجة إلى حلقة وسيطة ضائعة ،ال شك
في أنها الحلقة الكنعانية – الفينيقية.
موضوع أوغاريت وعالقتها بكنعان القديمة
أي فلسطين فيما بعد ،موضوع كبير لم يأخذ حظه من العناية والدرس بسبب هيمنة
يسمى جبل بعل ،وهو جبل صفون ،لقد
عليها أي نبات ،ولذلك فجبل صفون يجب أن
أتباع المدرسة التوراتية على معظم مراكز
الالذقية ،ولكن الجبل األقرع سمّ ي بذلك
القدس ،ومن المرجح أنه هو نفسه جبل
بحاجة إلى الكثير من الباحثين والبحوث،
قيل إن هذا الجبل هو الجبل األقرع قرب
ألن قمته جرداء من األشجار فيما تحيط
.
الغابة به من كل جانب فصفون تعني األجرد وهي صفة مطلقة لخلو الجبل من األشجار والنباتات ،وليس قمته فقط ،فالصفاة في
اآلرامية ووريثتيها السريانية والعربية ،هي الصخرة الجرداء التي ال يمكن أن ينبت
يكون في كنعان القديمة ،وربما هو أحد جبال صهيون بعد أن سادت الثقافة اآلرامية في عموم سوريا القديمة في األلفية األولى قبل
.
الميالد ألن صهيون باللغة اآلرامية تعني
.
العطشان أو القاحل فقداسة هذا الجبل سابقة على اليهود ،بل هي قداسة كنعانية
األبحاث التاريخية واآلثارية ،وهو موضوع
والدارسين والدراسات ،ألن تاريخ فلسطين
المغيب يبدأ من هنا القديمة َّ
كاتب من سوريا مقيم في اإلمارات
دون ريب.
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
149
كتب
أوضاع اللغات السودانية والتخطيط اللغوي
األوهام ،وتدبيج األساطير عن ماضيها التليد ومنجزها
باسم فرات
فمن أجل تفادي هذه المشاكل في أبعادها السياسية
يقود
الجهل بتنوعنا وعدم االعتراف واالحتفاء
بخصوصية كل فئة إلى صعود وتضخم األنا
عند األقليات؛ مما يُ دخل عقلها الجمعي في متاهة
الكتابي. الحضاري العظيم ،مهما كانت حداثة تاريخها ّ
والعرقية ،ومن أجل استقرار البالد وخدمتها؛ يجب االعتزاز بتنوعنا واالعتراف أن اللغات جميعها هي لغات
وطنية مع جعل لغة واحدة أو أكثر رسمية ال بمفهوم
بل في تسهيل التواصل بين أبناء األمة.
إقصائي ّ إن دراسة هذا التنوع وتثقيف الجماهير بأهميته بل كون معرفته أول مفاتيح الثقافة والعلم ،وتخصيص مساحة زمنية في المدارس لهذا األمر سبب في نشأة األطفال على التعايش واالعتزاز باآلخر المختلف ،فالجهل يخلق
الخوف والعداء ،واإلنسان عدوّ ما يجهل كما قيل في
األثر.
يتناول الدكتور بهاء الدين الهادي خير السيد في كتابه “أوضاع اللغات السودانية والتخطيط اللغوي” ما أشرنا ً مزيجا أنتج أكثر من إليه أعاله ،إذ إن السودان يحوي
مائة لغة باتت مهددة بسبب انتشار العربية والتمازج
واالنصهار والهجرة الداخلية وضعف هذه اللغات أمام متطلبات الحياة المعقدة ،وعدم االهتمام الجاد من قبل
الجميع ،ومنهم أفراد المجموعات العرقية نفسها حسب
قول الباحث.
تهدف الدراسة (الكتاب) إلى معرفة واقع التخطيط
اللغوي ودوره في انتشار اللغات السودانية أو أنحسارها،
والتعرف على التخطيط اللغوي ودوره وواقعه والتعريف
.
به وفي 196صفحة ،بمقدمة وثالثة فصول وخاتمة،
نمضي بسياحة معرفية عن بلد طالما عُ ّد سلة الغذاء
.
العربي ،وأهله رم ًزا للطيبة والوفاء لكن ما نجهله هو
حسب كتاب بهاء الدين الهادي خير السيد”أوضاع اللغات السودانية والتخطيط اللغوي” الصادر في الخرطوم َ وعرقيا ذات ثراء مؤخراُ ،تعد البلدان المتنوعة لغويًّ ا ًّ
ثقافي ينعكس على دقائق حياتها كلها .لكن من الممكن
تنوعه ،تمامً ا كما نجهل تنوعنا الباذخ في أرجاء المنطقة
العربية.
العرقية والقومية
يناقش مصطلح العرقية (اإلثنية) ويورد ما جاء في
أن يتحول هذا الثراء إلى نقمة وبالء؛ يؤديان إلى تدمير
الموسوعة البريطانية “جماعة أو مجموعة من السكان
بدكتاتوريتها ،أو سمحت بنجاح مشاريع دول قريبة أو بعيدة تريد ال َّن ْيل من الوحدة الوطنية .والجهل بتنوعنا
مشتركة من العرق واللغة والقومية الوطنية أو الثقافة”،
البالد لو كانت السياسات خاطئة واألغلبية تمادت
تميزها عن المجتمع األوسع ،وتربط بين أفرادها روابط
ويوضح خلط هذا التعريف ،لكنه ال يبدي وجهة نظر في
اللغوي والعرقي والقومي والديني والمذهبي -أعني جهل النخب الثقافية والسياسية -العسكرية على ح ّد سواء،
إال أنه يرى أن أقرب تعريف لها“ :هي اللغة التي يكتسبها
تلك المشاريع المشار إليها أعاله ،كما هو نجاح إلى تمادي
دائمً ا في البيت”.
وعدم االحتفاء بالتعددية ،هو في جوهره سماح لنجاح
دكتاتورية األكثرية أو الحكومة.
المسألة ،وكذا الحال فيما يخص اللغة األم واللغة األولى، الطفل في مراحل تعلمه اللغة األولى المبكرة ،ويتحدثها
استعمل مفهوم الجماعة اإلثنية ألول مرة عام 1909 ميالدية ،وصار أحد أكثر المفاهيم إثارة للخالف ،وفي عام 1952م ،أصدر مجموعة من علماء االجتماع كتابًا
عن منظمة اليونسكو ،بعنوان “بيان حول الساللة The
150
”Statement on Raceوركز في وجوب إسقاط
مصطلح عرق واستبدال مصطلح إثنية به.
في حين عالم االجتماع األلماني ماكس ويبر عَ رّ َفه كما يلي "تلك المجموعات البشرية التي تتمتع باعتقاد موضوعي في أصلها الموحد الذي انحدرت منه؛ نسبة للتشابه الجسماني، أو تتشابه في العادات أو بسبب ذكريات
االستعمار والهجرة ،وهذا االعتقاد يجب أن يكون مهمًّ ا لتكوين المجموعة نفسها،
منفصلة ،فهي إحدى األدلة على قوة وتأثير
.
اللغة العربية المالحظة التي لمستها وأنا أتتبع خارطة اللغات وانتشارها ،هي أنه ليس وفي اإلثنية واألعراق في السودان ،نتعرف
يشير واقع التخطيط اللغوي للغات القومية
خمسين مجموعة عرقية ،مما جعل الهوية
2009م ،إلى ارتباطه بالسلطة الحاكمة أيًّ ا كانت توجهاتها نحو اللغات وأمرها ،إالّ من بعض
على التنوع الغزير الذي يعج بأكثر من
السودانية أمرًا معق ًدا ،وفي الوقت نفسه يندر
.
ً شبيها له في إفريقية والعالم العربي أن نجد
1500سنة ق م وكان المعينيون يتحكمون
القومية في نهاية المطاف ،إذ يقول“ :تصير
السكان.
.
المجموعة قومية عندما يكون لديها تصور
لتاريخها الجماعي ،وعندما يعي أفرادها هذا
التصور ويتجاوبون معه ،وهو تصور يفترض
فيما يخص العرب فإن وجودهم يعود إلى
..
في تجارة البحر األحمر ،وهم يشكلون غالبية
والعربي الوافد” هذه الجملة التي أشاعها
كتبوا بعد سقوط األمويين ،فحصروا العرب رفضوا حتى إيصال حدودها لموانع طبيعية
أن األولى جماعة تملك لغتها الخاصة ولكنها لغة شفاهية ،أو ُدوّ َنت مؤخرًا (القرن التاسع
حين شبه الجزيرة العربية هي امتداد للعربية
شفاهية فقط أما القومية فهي مجموعة
أراس في أذربيجان والبحر المتوسط بينما
.
ذاكرة جمعية كتابية تمتد لما قبل القرن التاسع عشر إن لم يكن السابع عشر ،أي أنها أنجزت منظومتها الثقافية المدونة قبل هذا
التاريخ بفترة ،والمنظومة هي إنجاز تصور لتاريخها الجماعي ورموزها وقيمها المعبرة
عنها وتدوين ذلك.
اللغة األم واللغة األولى الرسمية
مثل نهر الفرات ،فحصروها في الصحراء ،في
التي جعلها المؤرخون اإلغريق تمتد إلى جبل البحر األحمر عندهم هو البحر العربي ألن
العرب ينتشرون على ضفتيه ،كما ذكروا أن
النيل من جنوب مصر وحتى العمق السوداني
اليوم يسكنه العرب ،وثمة مناطق واسعة من منطقة الهالل الخصيب الكبرى وشمال
شرق وشرق إفريقية كانت أماكن سكنى
.
العرب قبل اإلسالم ودلتا النيل هي إحدى
الواليات الثالث مع العراق الشمالي وسورية التي في وثائق الرومان يطلق عليها العربية،
ال يفرق الكاتب بين اللغة األم واللغة األولى،
وفي تركيا كانت ممالك عربية قبل الميالد،
معها ،ربما انطلق من
هذا على العرب؛ ينظرون للشعوب واألعراق
لكني أميل إلى أن األولى هي اللغة التي
يكتب بها ويتعامل
منطلق الكتابة؛ إذ ثمة شعراء وأدباء كتبوا
بلغة تختلف عن لغتهم األم ،حتى حين غادروا بلدانهم إلى بلدان تختلف لغويًّ ا لم يجربوا
الكتابة باللغة األم ،وبقيت اللغة األولى هي ً عادة هي لغة لغة إبداعهم ،لكن اللغة األولى
كما أن المستشرقين أنفسهم حين يدعون التي تعيش في منطقة ما ،قبل أكثر من ألف سنة على أنها أصيلة وهو ما نراه فيما يخص الماوْ ريين في نيوزلندا والعديد من األقوام
في بريطانيا وسواها.
يذكر المؤلف عن الرحالة الفاطمي بن سليم
رسمية ،وإن كان ثمة خروج عن هذه القاعدة-
األسواني؛ حين زار بالد النوبة عام 975
التطرف العنصري التركي نهاية القرن التاسع
المحليين ،لدرجة أن كثيرين منهم نسوا اللغة
كما نرى عند شعراء وأدباء نشأوا في فترة عشر -ومع ذلك كتبوا بالعربية وهم من أرومة
غير عربية ،وهذه النقطة تحتاج إلى دارسة
ً علميا بالمعنى العلمي تطبيقا مخرجاتهما ًّ ً وفقا لعلم اللغة االجتماعي، للتخطيط اللغوي
لكن نصوص اتفاقية السالم الشامل 2005م،
والجملة هي “ما بين السوداني العريق
جملة كثيرا ما ترددت من دون وجه حق،
ذاته ،وفي الترويج لهذه القيم والرموز".
سكانية عادة تخلو من النقاء العرقي ،ولديها
.
اللغات السودانية غير العربية ،وأبدت اهتمامً ا واضحا بها ولم تستثن ً ً لغة دون أخرى
قبل اإلسالم في شبه الجزيرة العربية التي
عشر وما بعده) فهي مجموعة تملك ذاكرة
الشذرات التي وردت في مؤتمر الرجاف طبق 1928م ،واتفاقية أديس أبابا 1972م ولم ُت ّ
وفي أثناء استعراضه لهذا التنوع ذكر
بالتأكيد وجود مجموعة أفراد متخصصة كلي ًة في إيجاد رموز وقيم عامة ،وتصدر عن ّ
ً إذا الفرق بين اإلثنية والقومية كما أعتقد،
السودانية في الفترة الزمنية من 1898م وحتى
ً واضحا ال لبس أوردت ألول مرة ورو ًدا
األعاجم من مستشرقين ومَ ن سبقهم ممن
هذا الماضي الجماعيُ ، وتعَ ّبر عنه في الوقت
أن االختالط والتزاوج ُسنّة الحياة منذ القدم،
ً بإمكان لغة كتابية أن تزيح ً كتابية أخرى .والنقاء العرقي أسطورة أكثر منه حقيقة. لغة
وليس من الضروري أن تشترك في رابطة ً ووفقا لعالم االجتماع اللغوي الدم الحقيقي فيشمان فإن اإلثنية تنتقل وتتحول إلى
العرب قبل اإلسالم” ،عن توغل العرب بين اآلراميين حتى ذابوا فيهم ،وهي ّ أدلة على
ميالدية؛ وجد أن العرب قد اختلطوا بالسكان
.
العربية وهذه الشهادة التاريخية ذكرتني بما أورده جواد علي في “المفصل في تاريخ
تصب في مصلحة نصوصا ً فيه وال غموض ّ
وأخيرًا
أورد
الباحث
سبعة
.
مقترحات
وتوصيات ،نوجزها بما يلي :قيام مسوح
.
لغوية اجتماعية علمية جادة وشاملة إيالء أمر التخطيط اللغوي والسياسة اللغوية إلى جهات ومراكز ومؤسسات بحثية وأفراد
.
ذوي صلة اإلسراع في إنشاء مراكز بحثية ُتعنى باللغات السودانية ،ودعم القائم منها ،لتمنح درجات علمية في هذه اللغات
.
وأوضاعها تشجيع الدولة للدراسات التي ُتعنى باللغات السودانية ،وتشجيع المبادرات
.
الفردية والمؤسساتية الداعمة لها تحييد
األيديولوجيات والسياسة عمومً ا .المساواة ً وفقا للتشريعات الدولية. بين اللغات قاطبة، رفع الوعي اللغوي لتقليل اللغات المهددة
باالنقراض ،ونفي الشعور بضعة مكانة هذه
اللغات.
أعتقد أن المكتبة العربية بحاجة ماسة ،لكتب
تتناول التنوع اللغوي والعرقي والقومي
واإلناسي والديني والمذهبي واالجتماعي ّ (األنثروبولوجي) في العالم العربي ،على أن
يتم توزيع هذه الكتب بشكل جيد ،بحيث ال تخلو مكتبات الجامعات والمعاهد والكليات
والمكتبات العامة منها ،وتتبناها جامعة الدول العربية ،فثمة كتب كثيرة تتناول هكذا
مواضيع طبعت طبعات محدودة أو على نفقة المؤلف ،ولم يُ ّ سلط عليها الضوء ،وهو ما حدث مع مؤلف هذا الكتاب
شاعر من العراق مقيم في الخرطوم
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
151
كتب
«أنا وأنت» ألحمد الخميسي واإلنسانية المهدورة
واقع كابوسي وخيال فانتازي ممدوح فرّاج النابي
يميل
نتاج أحمد الخميسي القصصي إلى الترميز ً وأيضا النزوع إلى اإلنسانية بمعناها الرحب،
واالنحياز لمهمّ شيها والغضب على حقوقهم المسلوبة
والضائعة أينما وجدوا ،وإن كان يُ عبِّر عن هذا في إطار السياسية سخرية مريرة من الواقع بكل إحباطاته ّ
العالمية وما كنوع من اإلدانة الكاملة للسياسة واالجتماعية، ّ ّ ٍ اقترفته من أخطاء عانى ويالتها األطفال والفقراء والضعفاء في كل أصقاع العالم ،فتساوت الطفولة المشردة بين
الجنسيات المختلفة ،البوسنة والهرسك والسودان ،مع أطفال
مصر.
الرمزي والواقعي
ِّ قصة متقاسمة بين تتكوّ ن المجموعة من خمس عشرة القصة القصيرة التي ال تتجاوز الصفحة الواحدة كقصص (النور ،وجه ،مرآة ،طرح القلب) ،والقصة الطويلة التي تنتصر
للحكي والسرد والشخصيات كما في قصص (سأفتح الباب ً وأيضا بيت جدي التي تنزع الختراق حدود وأراك وآليونا) َّ الموزعة القصة إلى أنواع أرحب وتحتمل لكثير من التفاصيل داخلها إلى جانب التقاطعات مع الجوانب السيرية الذاتية
ً وأيضا الثقافية في تقديمها لمحة عن حركة اليسار المصري. الجامع بين هذه القصص إلى جانب السخرية المريرة من ّ المتهكم األوضاع بأسلوب يمزج فيه بين الفصيح والعامي
.
السرد الكالسيكي، في الحوارات كما يزاوج في قصصه بين ّ
السرد الذي يعمد إلى التقنيات الحداثية حيث النصوص وبين ّ
تميل إلى التكثيف واالنفتاح على أنواع أخرى ال صلة لها بما هي مكتوبة تحت إهابه سوى في نقلها للواقع بقسوته إلى المتن الحكائي دون بالغة زائدة أو حتى فائض لغوي ،فتتغير
وظيفة القصة لتأخذ شكل التقرير اإلخباري ،حيث يزودها
بالمعلومات الحقيقية التي تخدم غرض القصة نفسه ،على نحو ما نجده في تقرير الجهاز المركزي لإلحصاء عن أطفال
ِّ المصور الصحفي والنهاية الشوارع ،وبالمثل تقرير عن حكاية التي انتهى إليها بعد حصوله على جائزة الصورة التي التقطها
للطفل في إحدى قرى السودان النائية.
يفارق العنوان في «أنا وأنت» داللته المباشرة التي يقصدها،
أدبية أحمد الخميسي كاتب مصري ينتمي إلى عائلة ّ فوالده ّ الشاعر الرَّ احل عبدالرحمن الخميسي ،يكتب
فيتجاوز العالقة الشخصية بين السارد وزوجته الراحلة في
مراوحة بين الحضور والغياب ،إلى اآلخر المهمّ ش والمقموع مكان مُ ِّ سجالً حالة من التعاطف والتماهي معه أينما في كل ٍ
.
القصة القصيرة ،نشر أعماله في مجالت “صباح الخير”
كان ومع هذا ال يُ فارق العنوان داللته البسيطة في عالقته
المصطلحات األدبية عن الروسية”“ ،المسألة اليهودية
يسري عبيرها في داخله حتى يتحوّ ل إلى شجرة كما في
و”القصة” و”الكاتب” وغيرها ،له في الترجمات “معجم
لألديب الروسي دوستويفسكي” ،و”نجيب محفوظ في
مرايا االستشراق” ،ومن أعماله القصصية“ :قطعة ليل
كناري” ،و”رأس الديك األحمر” .صدر له مؤخرًا «أنا وأنت»
عن دار نشر كيان .2015
بزوجته الفقيدة ،التي يتردد طيفها في أكثر من قصة ،بل
.
قصة «طرح القلب» ثمّ ة مراوحة في النصوص بين الرمزي والواقعي ،فيتقاطعان معً ا كنوع من ِّ رد الدال إلى المدلول دون الحاجة إلى فك شفرات وتأويالت تذهب بالنص إلى
غير ما هدف وابتغى السارد.
الرمزية موغلة في قصة «روح الضباب» رغم الواقعية التي تحيل إليها فالقصة تلخص حالة الضباب التي اعترتنا بعد الرئيسيتين الهاربتين من الشخصيتين الثورة ،في صورة ْ ْ
152
ً أيضا إلى مجهول «لمح مجهول والذاهبتين ٍ بصيص نور في آخر زقاق عن يمينه انطلق
فالسارد يسرد عن الحرية الضائعة ضائعة» ّ
مختلفان ،وال ينتميان لبعض لكن يربطهما
يطير العصفور يسير على األرض ،وعندما
.
نحوه وقبل أن يصل إليه تفجر النور أمامه ً حريقا هائالً» هما على مستوى الحدث
الفنتازيا الممزوجة باأللم في قصة «سماء
الزمن وتسرسبه في غفلة منا له حضوره
التي فقدت األمل في أن ترفرف في ظل عدم وجود المناخ المناسب ،فبدالً من أن
أشبه بمرثية لحالة التالهي التي نعيشها
الخوف والمصير المجهول وحالة الضبابية ّ كل التي أفقدتهما التمييز «في الحرب
عدم طيرانه يأتي جواب العصفور فانتازيا
أي حرب نخوض» هي صورة وال نعرف ّ ّ ملخصة لوضعية األحداث بعد الثورة وكأنها
ورغم مرور أعوام كثيرة وتب ّدل ملوك وقيام
األشباح فعلى ح ّد قول البطل حاتم «لم يمر
السلبية) حيث ال بارقة أمل ،وجرى الزمن قمّ ة ّ
ٍ مفهوم ،أما اآلن فإننا ال نرى العدوّ ، شيء ٍ
.
أشبه بمرثية لهذه الثورة التي سيطرت عليها
يدور الحوار بين العصفور والطفل عن سبب
حروب وغيرها إال أن الحالة واحدة (وهي
يكون نتائجها األمان كان الخوف وانعدام
معتمة ،حتى الجو لم يعد يعبره طير وال نحل
.
كأنه مرسوم في لوحة» ومع حالة الرمزية
ّ القصة حيث األصوات التي تشير إليها المرعبة ،إال أن الواقع ومآسيه حاضران في تلك المشاهد التي ينقلها أبطال الرواية عن مآسي المعذبين في البوسنة والهرسك
وضحايا الحروب وأطماع السلطة كما في
حكاية كيفين كارتر الذي التقط صورة الطفل السوداني عام ،1993وانتحاره بسبب مطاردة ذكريات القتل والجثث والغضب واأللم
واألطفال الجائعين والجرحى ،ومن ثمة تأتي هذه القصة لتكون حاف ًزا لبطلي القصة حاتم وهدى للخروج من المخبأ ومواجهة العزلة
والموت التي يفرضها النظام ،وهو األمل الذي السارد رغم حالة الضباب ،والذي يتكرّ ر سرَّ بَه ّ
مرة ثانية في قصة «سماء ضائعة».
العصافير إلى أذرع ،والسيقان الدقيقة إلى
كما تميل بعض القصص إلى الفنتازيا سواء
.
في المتن كما في قصة «روح الضباب» أو في العنوان كما في قصة «الصبي الذي يأكل
الماء» فالعنوان يميل إلى الفنتازيا ،على الرغم من واقعية القصة المؤلمة ،كأن يعمد السارد
إلى كسر حدة الواقع المؤلم بهذه الفنتازيا، وهناك نوع ثالث من الفنتازيا رغم واقعية
الصورة ،ولكن في حدوثه تجاو َز تأثير الفنتازيا كما في صورة الطفل في إحدى قرى
السودان والمطاردة المثيرة بينه وبين النسر
.
الذي ينتظر سقوطه لالنقباض عليه تتكرر
لهذا الشهر من أعمال ،ما بين أعمال منزلية عجوز منهك ،تجاعيد عميقة حول عينيه»،
.
صاحب الوجه في لحظة المرآة وهي اللحظة
الصادقة يُ درك أنه في أثناء صراعه مع الدنيا لم يبق من العمر إال تلك المالمح المنعكسة
.
على المرآة تكرر سرقة العمر ولعبة الزمن
العصافير للواقع المفروض عليها ،حتى غدت ّ تحقق لها تنفخ الهواء بضجر ،فشلت في أن
يصوّ ر مشاعر األب المتضاربة بين الفرح
الحصار والفشل في أن يعمل مثلما يعمل
ِّ يجسده في صورة ابنته بفستان العمر وهو ما
وجودها في الطبيعة الجديدة ،ومع حالة البشر ،يقاوم وهي النافذة الوحيدة لألمل السارد بعد حالة من اليأس التي تركها َّ
«فشب على أصابع قدميه ورفرف والتشاؤم ّ ً بذراعيه ألعلى بحثا عن السماء الضائعة»
في قصتي «مرآة» و«خطوبة» ،وفي خطوبة لخطوبة ابنته لتبدأ حياة جديدة ،وبين مرور
الزفاف األبيض وصورة زوجته بلون الغياب.
ً أيضا كما في قصة المعاني الفلسفية حاضرة «النور» وهي أقصر القصص تقري ًبا ،يأخذنا
.
السارد في معنى فلسفي حول ماهية النور، ّ
الكاتب في قصة «ليلة بال قمر» فأثناء حكيه
العشق ،فمع أن العشق صار يسري في ِّ كل مكان ومصدره القمر ،لكن الغريب أن
كما ال تفارق الفنتازيا التاريخ الذي يعود إليه عن المُ وكل لهم باإلعدام وعندما ينقص منهم
واحدا في مشهد فنتازي ،يكون البديل الذي ينقذهم من مصير الذين أعدموهم في أقرب
شخص يلوح لهم.
السارد هو قصص فمصدر النور كما يرى ّ
السماء لم تعد تلهم البشر دروب العشق، نفس المعاني الفلسفية العميقة حاضرة في ِّ يؤكد قصة «قرب البحر» ،حيث المعنى الذي
حالة الحنين بمعناه الواسع سواء الحنين إلى
وغير السارد أن اإلنسان مهما ب ّدل اللغة عليه َّ ّ
ِ “أنا وأنت” و”طرح القلب” فيستحضرها تارة
وهو المعنى الذي يشعر به مَ ن يحمل ُهويات ِّ متعددة
الحبيبة الغائبة بفعل الموت كما في قصتي كشخص له وجود فيزيقي ملموس حاضر،
يتبادالن الطعام في مشهد رومانسي يغلف القصة برومانسية شفيفة هي األخرى مفتقدة
الزمن المنسرب
السارد في انهماك يراجع خططه فبينما ّ
وعندما يبحث عن صاحبه يكتشف أنه هو
أرجل غليظة» ومع حالة المعايشة لهذه
محطات المترو ،األسواق ،نوافذ البيوت
ّ قصة «وجه» العمر في غفلة منه كما في
وكتابية ،حتى يفاجأ في المرآة بـ«وجه رجل
علينا زمن كهذا ،ال ندري فيم نحن غارقون.
الرؤية والمصير المجهول «كل شيء على حاله ،الشوارع مهجورة ،المحالّت مغلقة،
عن االستمتاع بهذه القيمة التي منحها هللا لإلنسان فصار غافالً عنها ،حتى يفاجأ بسرقة
«ليس ثمّ ة سماء» وعندما يريد أن يختبر ً فراغا غائمً ا”، الطفل صدق العصفور “فشاهد
حتى اختفى نهر الزمن ،فتحولت «أجنحة
ال ندري من أين أو إلى أين نمضي» وبدال ما
الطاغي داخل القصص ،وإن كان حضورًا
في الكتابة القصصية ،وتارة أخرى عبر
االستيقاظات المتوالية على روائحها النفاذة،
ِّ يعوض به حالة والتي يعقبها حِ وارٌ مُ تبادل
.
الغياب المادي والحقيقي أو بافتقاد القيم
وأخالقيات الماضي ،كما في قصة «بالميرو» حيث الحنين إلى زمن ومشاعر غائبة ،فما ّ ارد/الصحفي إلى المكان الخطأ الس أن يدخل َّ
ليرسل رسالته عن واقع االحتفال للجريدة التي أرسلته إلى هنا ،فمن خالل تعامله مع
تحسر لهذه أصحاب المكان نراه في حالة ُّ
األولية الغائبة ،والتي ما أن تتجسد العالقات َّ
له في أصحاب المكان حتى يشعر بالغربة.
األوطان ،لكنه ال بد أن يعيش في وطن واحد،
.
ٍّ بترو على الجملة نحن مع قصص مغزولة
وأناةٍ ،ال فائض لغويا في لغتها ،جعلت من
اإلنسان ومأساته تيمتها ،مراوحة بين الواقع حينًا إلى الفنتازيا حينًا آخر لتهرب منه ،حتى
الرمزية التي غلبت على كثير من القصص فمع األسف تتجاور وتتماس مع واقعنا في
كابوسيته ،وكل هذا جاء عبر لغة طيعة
جذلة في فصاحتها ،صارمة وحادة في ً إحالتها ال تحتمل تأويالً ّ يخل بالمعنى مفرطا ً وأيضا الحاملة له ،في واقعيتها وسخريتها في عذوبتها ورقتها في التعبير عن الحب
واالفتقاد والحنين
كاتب من مصر العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
153
كتب
المختصر كمال البستاني
التعصب أو الجنون الجماعي
كيف نفهم أن أفرادا يمكن أن يهجموا في شكل جماعات لقتل آخرين ؟ عادة ما يعزى ذلك إلى التعصب ،كمرض ذهني عابر لألزمنة ،ال يمكن القضاء عليه إال بالعنف،
.
ليجتث كما يجتث الورم الخبيث ولكن جيرار حداد،
أستاذ التحليل النفسي المطلع على مختلف الكتب
السماوية ،يذهب مذهبا آخر إذ يقترح في كتابه “في يد الرب اليمنى” تحليل مختلف العوامل ،التي شجعت
.
التعصب في الماضي والحاضر ويغوص في أعماق النفس ليعرف كيف يصبح المرء متعصبا ،والمنابع
السيكولوجية التي تروي متعة الذي يتصور أنه يملك وحده الحقيقة ،ويصف هوس المؤامرة واإليمان بأن
اللحظة الحاسمة التي ستكشف له العالم قد أزفت،
ليقترح قراءة أنتروبولوجية ونفسية لجنون جماعي ،ال
. العدو هي خير وسيلة لمحاربته على قدم المساواة.
تخلو منه مختلف األديان والحضارات ويرى أن معرفة
من أجل تاريخ آخر
جديد المؤرخ مارك فيرّ و كتاب بعنوان “العمى – تاريخ آخر لعالمنا” يتساءل فيه عن العمى الذي ضرب على أبصار
العالم منذ الحرب العالمية األولى حتى صعود اإلسالم
الراديكالي مرورا بالفاشية والنازية وسقوط الشيوعية وأحداث 11سبتمبر واألزمات االقتصادية التي فاجأتنا،
وال تزال ،برغم تطور اإلعالم ،حيث تصل المعلومة اآلن
.
في التو واللحظة إلى أقصى بقعة في األرض فترات
حرجة لم تستطع ،أو لم تشأ ،بلدان وساسة ونخب
وشعوب مواجهتها إال بعد فوات األوان ،بسبب جملة من العوامل كغياب الشجاعة أو سوء التقدير أو التحليل
الخاطئ أو اإلنكار أو نتيجة وطأة األوهام والنظريات.
ويتساءل الكاتب في خضم هذه الهزات العنيفة التي ال نزال نشهدها حتى اليوم هل يمكن توقع كل شيء ،وهل نكتفي بالفهم أم نمر إلى المواجهة ؟ وهل يمكن تصور
مخرج لما يج ّد عبر العالم من أزمات ونزاعات ؟ كتاب
ال يكتفي بطرح تلك األسئلة بل يستكشف أسباب عمى
العالم رغم وجود زعماء ومفكرين يملكون رؤية نافذة. داعش وخطر التقسيم
“داعش ،التهديد األكبر” عنوان كتاب جديد للمؤرخ
والمحلل السياسي ألكسندر أدلر ،صاحب أسبوعية “البريد العالمي” يؤكد فيه أن كل المؤشرات تفيد بأن الشرق
األوسط دخل في منطقة زوابع غير مسبوقة ،حيث يتوقع أن يعاد توزيع كل األوراق على غرار ما حصل
إثر تفكك اإلمبراطورية العثمانية .فقد بدأ يتحلل بظهور داعش الذي شكل صدمة بنيوية تهز أسس عدة دول.
ويتساءل الكاتب عن هذا التنظيم القوي الذي يتشكل في دولة تطمح أن تكون عابرة للقارات ،وما دوافعه ؟
هل هو الحقد على الغرب ،أم الوجه الراديكالي لإلسالم،
154
أم هو سمة من سمات منطقة مختلة التوازن
إلى إيديولوجيا تعاملهن كاإلماء ،وكيف
في القرن الثالث الميالدي.
متوافرة في مصنع التاريخ :تردد أمريكا،
أن تقترح شكال توتاليتاريا لـ “الكل الديني”.
زاوجت بين الفن الغريكو روماني والمؤثرات
من زمن بعيد ؟ وفي رأيه أن كل العناصر
قوة الهالل الشيعي ،إيران الجديدة ومصر الجديدة ،رهان األقطار المجاورة كتركيا
والسعودية واألردن ،الحرب بال رجال…
كسر الطوق الجهادي
استطاعت هذه الصيغة المتطرفة لإلسالم
أما الثالث فيعالج القضية من زاوية قضائية،
ويحلل هوامش المناورة المتاحة للغرب وللعالم اإلسالمي والوسائل التي يمكن
توفيرها لمقاومة هذا الوباء المعاصر.
للمقالة التحليلية لهذا العام ،تحلل دنيا
اإلسالم السياسي جيل كيبل كتاب بعنوان
التي يلجأ إليها الجهاديون في داعش وجبهة النصرة الستقطاب الشباب الفرنسي، مستفيدة في ذلك من تجربتها الميدانية في وصف التحوالت التي تطرأ على وقع تجنيده للجهاد ،حيث يبدأ المجند بشطب عائلته وااللتحاق بعائلة جديدة تعوضها هي
الجماعات الراديكالية اإلسالمية ،وينوب
التقليد والتكرار استعمال العقل ،وتصبح الجماعة هي التي تفكر بدال عنه وينعدم
إحساسه بالناس وبالوجود فال يفكر إال في
.
القتل والموت فهل يستطيع الشباب المغرر به إيديولوجيا أن يكسر الطوق ويفك القيد
ليستعيد حياة طبيعية كسائر الشبان ؟ تقول
جديد الباحث المتخصص في جماعات
“رعب في فرنسا” ،ينطلق فيه من السنوات
العشر التي تمتد من أحداث الشغب في ضواحي بعض المدن الفرنسية التي اندلعت في خريف 2005إلى غاية عملية شارلي هبدو ثم اعتداءات الباتاكالن ،ليبين كيف
أن فشل السياسات االقتصادية وتهميش شباب الهجرة ما بعد الكولونيالية اجتماعيا
وسياسيا دفعا ببضعهم إلى التوسل بنموذج “إسالم
شامل”
مستوحى
من
السلفية
لاللتحاق بالقطب الجهادي الذي يريد تدمير
.
الغرب “الكافر” وكان لظهور جيل جديد من مسلمي فرنسا والتحوالت اإليديولوجية
للجهادية دور في انبهار عدد من الشبان
الفرنسيين بالمعارك في سوريا والعراق،
الكاتبة إن ذلك ممكن ولكنه عمل يستوجب إمكانات َ ونفسا طويال ،حتى يستعيد اإلنسان
ينقلوا عملياتهم داخل فرنسا في الوقت
وأصحابه وباله ،وحب الحياة ومباهجها.
حزب الجبهة القومية يهدد بتصدع المجتمع
ذاته ويستعيد إحساسه بالحب ،حب أهله
الجهادية وسبل مقاومتها
ثم انضمامهم إلى جبهات القتال ،قبل أن
.
نفسه صار صعود اليمين المتطرف وخاصة
الفرنسي الذي يواجه اليوم خطر أطراف متطرفة من الجهتين تريد أن تفرض مناخ
“الجهادية” كتاب يجمع مساهمات ثالثة
رعب وربما حربا أهلية.
الباحث الفرنسي فيليب ميغو والباحث
مؤرخ فرنسي يرثي تدمر
متخصصين في اإلرهاب اإلسالموي هم
اإليراني فرهاد خسروخاور وقاض لمكافحة اإلرهاب دفيد بنيشو ،يطرحون األخطار
.
المحدقة وسبل التصدي لها يقدم األول بسطة عن مختلف الجهاديين وبنيتهم
اإليديولوجية
وقدرتهم
على
التعامل
االستراتيجي ،طرقهم في الضغط ،وسائل إعالمهم،
شبكات
تواصلهم
وتكوينهم،
أهدافهم وتشظيهم إلى مجموعات صغيرة
.
مزروعة في كل مكان أما الثاني فيتناول الظاهرة من زاوية اجتماعية ليبين كيف
يستقطب الجهاديون في العالم اإلسالمي وكذلك الغربي شبانا من األقلية المسلمة
ومن معتنقي اإلسالم وكيف تنجذب اإلناث
المحلية ،ليبين في حسرة مرة أي كنز فقدت
.
اإلنسانية بتدميرها في عرضه لهذا الكتاب كتب ماتياس إينار المتوج بغونكور هذا العام “ :ال رثاء أصدق وأنبل من الرثاء الذي يخص
.
في كتابها “كيف الخروج من القبضة
بوزار عالمة أنتروبولوجيا األديان الوسائل
الباهرة ،التي قامت على هندسة معمارية
به بول فيان مدينة تدمر ”
تصدع المجتمع الفرنسي
الجهادية” الفائز بجائزة مجلة لكسيبريس
ويصف معالمها
الثقافة لمقاومة الظالمية
“فولتير أو الجهاد” عنوان كتاب جديد لجان ّ بريغلي ،عن دور الثقافة في مقاومة بول
.
الظالمية يبين فيه كيف انغرست “ثقافة
التعويض” ( وهو مصطلح عادة ما يستعمل في مجال تعاطي المخدرات ) كثقافة
الضواحي وثقافة الشباب في أدمغة أفرغت بعناية وصارت سهلة االختراق أمام هجمة
اإلسالم السياسي ،معتبرا أن الوسائل التقنية
.
الحديثة هي سبب ذلك التعويض والكاتب يدين كافة األطراف من ساسة ومربين
وإعالميين ،آثروا في رأيه االستسالم دون مقاومة أمام الجهل الزاحف الذي مثل
ذورته موقف ساركوزي من رواية أميرة
.
كليف لمدام الفاييت وفي رأيه أن الثقافة الفرنسية ،كوريثة لعصر األنوار ،مدعوة إلى
.
مواجهة الثقافة الظالمية يقول :هل نحن حقا ورثة فولتير أم أننا ننحدر إلى البربرية
دون أن نعي ذلك ؟ وهو السؤال الجوهري الذي يطرحه الكتاب على المسؤولين كافة،
والمتواطئين مع تلك االستقالة.
الهجرة كسبب للقلق الفرنسي
كتاب آخر عن تردي األوضاع في فرنسا عنوانه “التحلل الفرنسي :كيف وصلنا
بعد مؤلفاته عن السوسيولوجيا الرومانية
إلى هذا ؟” ومؤلفته مليكة صوريل وهي
لإلنيادة ،صدر لبول فاين األستاذ الشرفي
بالمجلس األعلى لالندماج.
واألساطير
اإلغريقية
وترجمته
الرائعة
بالكوالج دو فرانس وواحد من أكبر
المؤرخين الفرنسيين المتخصصين في العصر الروماني القديم كتاب جديد بعنوان “تدمر ،الكنز الذي ال يعوّ ض” ،بعد أن استولى عليها برابرة داعش وعاثوا في كنوزها تدميرا
وتقويضا ،ليذكر بظروف تأسيسها على يد سليمان كما جاء في التوراة ،ومكانتها كقوة مشرقية عظمى ومركز اقتصادي وتجاري
مزدهر ودور الزباء في توسيع نفوذها في المنطقة وصراعها ضد اإلمبراطور أوريليان
باحثة فرنسية من أصل جزائري ،وعضو تنطلق الكاتبة
من المنظومة اإلدارية والسياسية لتبين مقدار اإلفالس الذي أصاب نخبة فرنسية
تنهشها عيوب ال حصر لها كالتذلل والتهاون
والعجز وعدم الكفاءة والالمباالة ،إلى جانب الجبن وما يتبعه من احتقار للحرية ،حرية
.
الفكر خاصة وترى أن المنحدر الذي سارت فيه تلك النخبة التي تكاد ال تتغير بدأ منذ مدة طويلة ،فهي نفسها التي بيدها السلطة
والنفوذ من زمن طويل ،منحدر من سماته التخلي عن تحليل المشاكل بعمق واالعتراف
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
155
كتب
المختصر
إبراهيم الصلحي
باألخطاء واستحضار األسئلة المؤلمة التي
وهي ابنة مهاجرين ،تدين الماسكين بالسلطة،
رسمية وبيانات ورسائل ونصوص نظرية
.
تكون خواتيمها في الغالب ال تسر فالكاتبة، الذين يدركون في رأيها الصعوبات المتعلقة بالهجرة واالندماج والتي تطرح اليوم بحدة،
فهي المصدر األكبر للقلق الجماعي الذي ما
انفك يسيطر على الفرنسيين. موسوعة اإلرهاب
نعيش اليوم عصرا عجيبا يجمع بين نقيضين، ثورة تكنولوجية وعلمية مذهلة تريد أن
تسمو باإلنسان ،وثورة تدميرية تنتهك حرمة اإلنسان وتقوض منجزاته ،قديمها
وحديثها ،بأعمال إرهابية ما انفكت تتطور
.
لتأخذ أشكال إبادة جماعية أحيانا حتى
صار اإلرهاب حديث الساعة دون أن يكون
المتدخلون في الميديا وسواها على اطالع شامل بهذه الظاهرة
وجذورها.
“تاريخ
اإلرهاب ،من العصر القديم إلى داعش” كتاب ضخم أراده مؤلفاه جيرار شاليان وأرنو
بالن موسوعة شاملة عن اإلرهاب في شتى أوجهه ،ال تستعرض نشوءه وتطوره في مختلف الحضارات منذ القدم حتى أشكالها
الحالية بقدر ما تحلل األسباب التي هيأت لهذه الظاهرة عبر التاريخ ،باالستعانة بخبراء
الباحثان على جملة من الوثائق من خطب ألهم اإلرهابيين في العالم من باكونين إلى
بن الدن والبغدادي.
العالم.
التاريخ المشترك
جديد جان بيير فيليو ،أستاذ تاريخ الشرق
األوسط المعاصر في معهد العلوم السياسية
القضية الفلسطينية في عيون مستشرق
بباريس كتاب بعنوان “العرب ،مصيرهم ومصيرنا” يعود فيه صاحبه إلى الحملة
“مسألة فلسطين” هو الجزء الرابع للكتاب
الفرنسية على مصر عام 1798ليقدم للقارئ
العالم
الصلة بتاريخ الغرب ،وأوروبا ،وفرنسا
الضخم الذي وضعه المؤرخ هنري لورانس
أحد
البارزين
المتخصصين
.
في
العربي وقضاياه ويغطي المرحلة الحساسة
الممتدة من 5حزيران 1967تاريخ الهزيمة
العسكرية النكراء لجيوش العرب أمام
الكيان الصهيوني ،إلى 4حزيران 1982تاريخ االجتياح اإلسرائيلي
للبنان.
وفي رأيه
أنها مرحلة مهمة بلغ فيها الصراع العربي اإلسرائيلي أوجه قبل أن يتحول إلى صراع
.
فلسطيني إسرائيلي هذا الجزء يستعيد
الطابع الفريد للمراحل التاريخية لتلك الفترة
المضطربة ،التي صار فيها الصراع األساس بين قوة غاصبة وشعب مقاوم يطرح ألول
تاريخا مغايرا عن العرب ،وهو تاريخ وثيق تحديدا،
من
واالستعمارية
جهة
العنيفة
الحمالت
والوعود
العسكرية الكاذبة
والمناورات الدبلوماسية ومن جهة مساندة
الدكتاتوريات المجرمة أو األنظمة الرجعية
المستبدة.
هذا “التاريخ المشترك” سبب
مأساة العرب ،ال ينبغي أن ينسينا تاريخا
آخر ،مهمال وغير متداول ،أال وهو تاريخ
االنفتاح الثقافي ،الذي بدأ مع “أنوار العرب” في القرن التاسع عشر ،وكذلك تاريخ الغليان
الديمقراطي والثورات االجتماعية التي عادة
.
ما تسحق سحقا قاتال وكالهما تعبير عن
مرة في شتى المحافل الدولية واإلقليمية.
رغبة في التحرر من الهيمنة الغربية ومن
في الكوالج دو فرانس ،وفضله أنه يصف
رأي الكاتب أن العالم العربي ،برغم تراجيديا
والكتاب هو خالصة عدة سنين من التدريس
عالميين ،أكدوا أن إدراكنا لها تطور بدوره.
ما جرى في تلك الحقبة ليساعد على فهم
إطارها التاريخي ،لحصر الرهانات الحالية
المعاصر وتطور مجتمعاته ،والقواعد التي
فالراديكالية اإلسالمية مثال توضع هنا في
156
.
لهذه الظاهرة لم تستنفد مفعولها واعتمد
تنظم العالقات الدولية في هذه المنطقة من
اآلليات السياسية في الشرق األوسط
.
االستبداد لكي يكتب العرب تاريخهم وفي الحاضر ،بصدد كتابة تاريخ يولد اآلن على
مرأى من الغرب ،ولو بأحرف من دم
كاتب من لبنان مقيم في ليدز/بريطانيا
رسالة باريس
أسلمة الراديكالية أبو بكر العيادي
في
رأي بعض المحللين العارفين بشؤون اإلسالم والمسلمين مثل أوليفي روا وجيل كيبل وبيار جان لويزار فإن التفسيرات األكثر
ً رواجا لما جرى في فرنسا تصطدم بالسؤال التالي :إذا كانت أسباب
الراديكالية بنيوية فلماذا ال تمس إال شريحة ضئيلة ممن نسميهم مسلمي
فرنسا؟ أي الذين ينعتون اليوم بالشباب المتطرف.
قلة قليلة توقفت عند هذا الشباب المتطرف ،الذي يوصف مرة بالطابور
الخامس ،ومرة أخرى بالعدو الداخلي ،لتحلل َ كنهه والعوامل التي أدت
إلى تطرفه ثم جنوحه إلى العنف ض ّد بلد يفترض أنه واحد من مواطنيه.
هذا الشباب من يكون؟ وما هي دوافعه؟ وما هي المراحل التي مرّ بها كي
يصبح متطرفا ،ألن اإلنسان ال يولد إرهابيا بل يغدو كذلك؟
ينتمي السواد األعظم من المتطرفين في فرنسا إلى شريحة عمرية
واحدة ،تتراوح بين مرحلة ما قبل المراهقة ( 15سنة) وما بعدها بقليل (25
.
سنة) ومن النادر أن تتجاوز أعمار بعضهم الثالثين عاما هذه السن هي مرحلة تحوّ ل تمس أكثر جوانب الوجود حساسية ،فجميع ُ مثل الطفولة،
التي لها صلة بإدراك الطفل للحياة والعالم والخير بشكل ساذج ،تسقط في طور المراهقة ،ويكتشف المراهق أن المجتمع تغلب عليه المظاهر،
وأن رؤية العالم كما يقترحها اآلباء كاذبة ،عندئذ يشرع في استبدال مثله
الضائعة بمثل جديدة ،وقد يقوده السعي إلى البحث عن النقاء والعدل.
هذا التحول ،كما يقول فتحي بن سالمة أستاذ علم النفس المرضي بجامعة ديدرو بباريس ،يصعب تحقيقه لدى الشبان الذين يعانون من اضطرابات هووية هامة ،إمّ ا ألنهم تعرضوا لحوادث في حياتهم ،وإما
أثارت أحداث باريس األخيرة ردود أفعال كثيرة
بسبب قصور وسطهم العائلي أو االجتماعي. ّ حل للخروج من الفراغ وحتى الضياع. فهم عادة ما يكونون في انتظار
هما التفسير الثقافي والتفسير العالم ثالثي .األول
الراديكالية القصوى تمنح هؤالء الشبان الذين يعيشون مشاكل عويصة
في األوساط الثقافية والفكرية والسياسية ،ولم تخرج قراءة األحداث في عمومها عن منحيين
يضع في المقدمة صدام الحضارات :ثورة الشبان أي درجة ال يمكن لإلسالم أن المسلمين ّ تبين إلى ّ
يندمج ،ما لم يوجد إصالح فقهي يقصي الدعوة
وفي رأيه أن الخطاب الراديكالي ينفذ من هذه الثغرة ،وأن األيديولوجيا
حال شافيا من سبل أخرى ،وبذلك يفقدون ما يسميه تفردهم ،أي ما يكون به اإلنسان إنسانا ،ليصبحوا مشابهين لكل المجموعة أو الفرقة أو ال ِّنحلة
التي ينتمون إليها ،وينعدم تعاطفهم مع بقية البشر ،فيقتلون ويذبحون
إلى الجهاد من القرآن .والثاني يستحضر المعاناة
ّ أي إحساس بالذنب. ويفجرون دون ّ
القضية الفلسطينية ورفضهم التدخل العسكري
الفرنسيين الذين اعتنقوا اإلسالم ،فهم أيضا ينطلقون من تيه ومن
ما بعد الكولونيالية ،وتماهي أولئك الشبان مع
الغربي في الشرق األوسط ،وإقصائهم من المجتمع
الفرنسي العنصري والمعادي لإلسالم.
ينطبق هذا على الشباب ذي األصول العربية مثلما ينطبق على الشبان
وضع مأزوم ال مخرج منه ،فيجدون في هذه األيديولوجيا ما يشبه
الديانة ،ليس من جهة اليقين بالسلوى فحسب ،بل من جهة انتسابهم إلى مجموعة فيها من يزر وزرهم ويفكر بدال عنهم ويخرجهم من عزلتهم
وينوب عن عجزهم على التكيف مع عالم اليوم.
فالتطرّ ف ،كما يقول جيرالد بونر ،أستاذ علم االجتماع بالجامعة نفسها، ّ صحة فكرة وجدارتها ،أي أ ّنه التزام ال يكون إالّ نتيجة اعتقاد جازم في يقسم األفكار المتطرّ فة إلى ثالثة راديكالية ،ولو أن بونر راديكالي بفكرة ّ ّ
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
157
أنواع :أفكار ضعيفة االنتقال بين الذوات، أي ال تنتشر إالّ في صفوف عدد محدود من
طال الزمان أم قصر مثل سراب تحول إلى
األيديولوجيا تجتذب المنحرفين في الغالب،
ليست خالفة البوادي السورية ،التي ستتبخر
الناسّ ، ألنهم يرونها إما غير مقنعة وإما غير ّ اجتماعيا ،وهي مناسبة للواقع وأفكار معتلة ّ
كابوس ،بل ثورة هؤالء الشبان ،التي بدأت
إذا ما ّ تم االلتزام بها كليا إلى عجز فئة ما
ثورة إسالم أو مسلمين بل هي مشكلة
.
صراعية ،تؤ ّدي قيم ومعتقدات ذات شحنة ّ عن العيش مع اآلخرين ،لكونها ال تقبل رؤية
.
للعالم تخالف رؤيتها والثالثة ،وهي أكثر
أشكال التطرف خطورة ،تلك التي تجمع بين
كال النوعين السابقين.
والشائع أن بؤر التطرف موجودة في المساجد ،أو في بعضها على األقل ،تلك التي يتزعّ مها إمام كما يتزعم المنحرف عصابة ،ولكن جيل كيبل ،أستاذ العلوم
السياسية المتخصص في اإلسالم والعالم العربي المعاصر ،يعتقد أن دور المساجد في استقطاب الجهاديين ضعيف ،برغم وجود
أئمة سلفيين متعصبين على رأسها أحيانا ،أوال
ألن أغلب شبان الجالية العربية المتشددين ال
يرتادونها ،فهم منحرفون وأصحاب سوابق وال عالقة لهم بالدين ،وألن أغلب معتنقي
اإلسالم من الفرنسيين ،وإن كانوا ال يعانون على المستوين االجتماعي واالقتصادي،
يعيشون في فضاءات جغرافية ال هي بالضواحي وال باألرياف وال بالمدن ،فضاءات
الزمن والتسميةِ يسود سكانها السأم خارج ِ َ والملل ومن ثمّ ة ،وهذا هو التفسير الثاني،
في الواقع منذ ،1996وفي رأيه أنها ليست محددة تخص فئتين من الشباب ،الجيل
الثاني من أبناء العرب المهاجرين المغاربيين
تحديدا ،ومعتنقي اإلسالم من شباب أهل
.
البالد والجامع بينهما ثورة جيل :كالهما يقطع مع أهله ،أو ما يمثله األهل من جهة
الدين والثقافة ،ويمارس الطقوس الثقافية
.
الشبابية نفسها فالجيل الثاني المغاربي ال ينخرط في إسالم اآلباء ،ألنهم في تصوره يمثلون تقاليد ال يعرفها ،فقد نشأ هذا الجيل في الغرب وحذق لغته ،وعاش عيشة أبنائه،
من حيث المأكل والمشرب وارتياد المالهي
والخمارات وتعاطي الحشيش ومراودة
.
الفتيات وما سهل انجذاب هذا الجيل إلى
اإلسالم السلفي ،أي إسالم معياري دغمائي ُ رفضه ثقافة اآلباء ينبذ مفهوم الثقافة،
.
الفرنسي ،فثورتهم ناجمة عن قطع مع كل ما
يمثل المؤسسة :األسرة والدولة والثقافة،
.
ألن الراديكالية هي التي تجذبهم وبالتالي
ما تعيش أسلمة الراديكالية.
هذا الشباب بوجهيه العربي والفرنسي ال يلوذ
الرقمية ،وخاصة تطور المواقع االجتماعية َ سلطة الذي يعطي البروباغندا الجهادية،
صراحة ،على صفحات التواصل االجتماعي،
العالم ،ال يملكون معالم يهتدون بها ،تغويهم
تمنحه إياها رغبة الثأر من حرمان مكبوت،
.
ِ إسالم ماض مؤسطر -ماضي فكرة البحث في ٍ
األصول كما أعاد صنعه وتزويره وتسويقه سلفيون راديكاليون -عن نظام سوف يقدم
بالتقية على غرار اإلخوان ،بل يعلن انتماءه
ويستعرض قناعاته وأناه الجديدة التي
.
ورغبة القتل واالنبهار بموته نفسه والعنف
الذي يمارسه هو عنف حديث ،يقتل كما
يقتل غيره في أميركا أو النرويج بدم بارد،
دون تمييز ضحاياه ،في نوع من النيهيلية
وفي رأي كيبل أن الحلم بالجهاد معناه أن
الساحقة.
رجولية ،بطولية ؛ ومعناه أيضا أن االنخراط
في برودة دم بأن مقترفيه يحقدون على
نفسه في حياة ملحمية، يرى المتطرف َ
في مشروع جماعي -أي بناء الخالفة ،الذي يق ّدم كطوباوية أرضية خالية من الفقر
والبطالة -هو توطئة لعالم فردوسي في
اآلخرة.
والنزعة الذاتية التي يتحدث عنها بن
سالمة تجد جذورها في عزلة هؤالء الشبان المتطرفين عن الجاليات المسلمة ،فقليل منهم يرتاد المساجد ،وأئمتهم هم في العادة
نصبوا أنفسهم بأنفسهم ،وراديكاليتهم تتم
حول مخيال عن البطل والعنف والموت،
وليس حول الشريعة
والطوباوية.
وإذا
كان بعضهم قد مر بجماعة التبليغ أو خالط
اإلخوان في اتحاد المنظمات اإلسالمية في فرنسا ،فما من أحد منهم تابع دروسا
دينية أو اهتم بالفقه اإلسالمي أو حاول فهم طبيعة الجهاد وحتى نشأة الدولة
اإلسالمية داعش ،وما من أحد منهم ناضل ضمن حركة سياسية بدءا بالحركات الداعمة
.
للقضية الفلسطينية فراديكاليتهم تتم حول
ويفسر فتحي بن سالمة هذا القتل الجماعي العالم الذي يعتبرونه صنوا للفساد والرذيلة، أي أنهم اختاروا العالم اآلخر ،واختيار
العالم اآلخر معناه المرور إليه عبر الموت. بالنسبة إلى أناس يائسين من الحياة ومن
مجموعة صغيرة من األصحاب ،ومن اإلخوة
رياضيا أو السجن ،ليخلقوا فيما بينهم عائلة. الجالية المسلمة بقدر ما هم تعبير عن ثورة
جيلية تمس فئة محددة من الشباب.
وليس أمام هؤالء غير خيارين :راديكالية
اليسار المتطرف ،وتتطلب مرجعية فكرية ال يملكونها ،وراديكالية متأسلمة هي المتوافرة في السوق اآلن ،واعتناقها ال يكلف فائض
جهد وال معرفة ،والمعلوم أن عالقة اإلنسان مع العالم ال تتم إالّ بطريقتين :المعرفة أو
االعتقاد ،كما يقول جيرالد برونر في كتابه
.
“الفكر المتطرّ ف كيف يصبح الناس العاديّ ون
.
ّ متعصبين” فاتتهم المعرفة إذن فسعوا إلى
االعتقاد ،ولو في أيديولوجيا توتاليتارية
متسترة بالدين.
والخالصة كما يقول أوليفيي روا أن داعش تنهل من خزان شباب فرنسيين راديكاليين أعلنوا انشقاقهم ،وراحوا يبحثون عن سردية
كبرى يضعون عليها بصماتهم الملتاثة بالدم.
وسحق داعش لن يغير من ذلك شيئا
كاتب من تونس مقيم في باريس
محمد خياطة
لهم المعايير والقيم الواجب التمسك بها.
القانون.
وموضوعية أما معتنقو اإلسالم من الشباب
المسيحية” دورا هاما في نشر النزوعات
إبهار قوية وإذا شبان تائهون أمام فوضى
إذ يصبحون باسم قانون أسمى خارجين عن
أي أن اإلرهابيين ليسوا تعبيرا عن راديكالية
متجذرة ثقافيا إلى أبنائهم ألسباب ذاتية
فإن فرنسا ال تشهد راديكالية إسالمية بقدر
والبروتستانت ،يقول كيبل ،تمثل الثورة
فألنها تضفي على جرائمهم نوعا من “النبل”،
أيضا ،في مكان محدد قد يكون الحي أو ناديا
. فإن كليهما يبحث عن ضالته في اإلنترنت.
األخروية وتغذية الحروب بين الكاثوليك
.
عالم يعتبرونه ال يحتمل وإذا كانت هذه
والثقافة الغربية اللتين صارتا بمثابة رمز ُ وعجز اآلباء عن نقل ديانة كرهه لنفسه،
يلبي أسباب تلك الثورة، واإلسالم المعتدل ال ّ
وكما لعبت المطبعة إبان “حركة اإلصالح
158
أما أوليفيي روا فيعتقد أن مشكلة فرنسا
أنفسهم ،يغدو الموت وسيلة للخروج من
رسالة باريس
العدد - 12يناير /كانون الثاين 2016
159
غيتو إسالمي
160
المهاجرون من الفجوة الثقافية إلى الهوة النفسية هيثم الزبيدي
تكشف
الصدام بين الغرب والمهاجرين العرب والمسلمين
عقلية االنعزال والتميز والتفكير بالجالية كغيتو إسالمي .ما عاد
السنوات السابقة من احتكاكات هنا وهناك .مرة عن النقاب ومرة عن
اآلباء واألمهات من جيل المهاجرين المنفتحين استسلموا بمرور
أخيرا .كان هذا الصدام متوقعا بما حفلت به
بناء جامع ومرة عن تسلسل األفكار المتشددة إلى المدارس .هذه
المرة صار اللعب على المكشوف.
الوقت لتأثيرات القادمين الجدد أو لضغوط ابنائهم الذي صاروا
يتماهون أكثر وأكثر مع ثقافة إسالمية مجتزئة تعيش نموذجا
واقع الهجرة للعرب والمسلمين هو واقع منوع .موجات أولى من
مصطنعا في الغرب المسيحي.
موجات أخرى من المثقفين ممن فضلوا الغربة على مواجهة قسوة
العربية واإلسالمية .الحق في العبادة والحق في اللباس والحق في
األثرياء الذين ضايقتهم االجراءات االشتراكية االعتباطية ،ثم التفسيرات الضيقة للثقافة في انظمة منغلقة فكريا ،ثم موجة من السياسيين المعارضين الذين لم يكونوا مخيرين باألصل بين السجن وحبل المشنقة من جهة واالغتراب من جهة ثانية ،تبعهم عدد كبير من المبتعثين الذين قدموا إلى الغرب ليدرسوا ثم قرروا االستقرار، وأخيرا موجات الهجرة االنسانية التي بدأت مع الحروب التي عصفت بالمنطقة منذ عام 1990وحتى اآلن .هذا الكالم ال يشمل المهاجرين
الذين ارتحلوا مع االرث االستعماري من شمال افريقيا.
لم يعر الغربيون الكثير من االهتمام لتطور ظاهرة عزلة الجالية
اختيار نمط الحياة يضمنها القانون .أوروبا تعلمت من دروس التمييز ودفعت اثمان باهظة منذ عصر “حروب االسترجاع ″القشتالية
االراغونية في األندلس ونفي اليهود والمسلمين كنتيجة لها ولمحاكم
التفتيش ،وصوال الى الهولوكوست في عصر النازية.
لكن حروب الشرق غيرت كل هذا .غزو العراق وتدميره وانفالت عقال الحروب الطائفية في الشرق األوسط وتأسيس الجهاد السلفي
واإلسالم الخميني لقواعد على االرض ،في العراق وسوريا ولبنان
ما كان يجمع الموجات األولى ،أي قبل موجات النازحين ،أن القادمين
واليمن ،وبتواطؤ من الغرب أو مشاركة مباشرة ،جعل مسار الجاليات
واالندماج النسبي في المجتمعات الغربية .ال أزياء مختلفة وال اكل
يمكن القول أن الغالبية العظمى من الجالية تريد ان تنأى بنفسها عن
جاءوا بتطلعات منفتحة تريد االستقرار وضمان التعليم لألبناء يميز إال في حالة ما ذكر في النص المقدس صريحا بالتحريم .كان المهاجرون انفسهم صورة عن بقايا العصر المنفتح في البالد العربية
في مرحلة االربعينات والخمسينات والستينات وبدايات السبعينات.
يأخذ وجهة تصادمية فيما بينها ومع المجتمعات الغربية الحاضنة.
المشاكل حتى وان حافظت على الفجوة الثقافية مع المجتمعات المضيفة .كانت تحتمي بالخصوصية الثقافية ونجحت في هذا إلى حد كبير إلى أن قامت القلة القليلة ممن ذهبت بعيدا في تطرفها،
لكن شيئا ما تغير .صار ما يجمع المهاجرين هو الحلقات الدينية
بالتحرش بأمن المجتمعات.
المغتربين .تحول دكان التسوق العربي الذي كان يربط المغتربين
الغربي كان ينظر إلى المسلمة المحجبة قبل عشرة أعوام على انها
التي انشأتها جماعات االسالم السياسي أكثر مما تجمعهم نوادي بتراث موائدهم وما اعتادوا عليه من أكالت ،إلى دكان لبيع المنتجات
“الحالل” .بعض المنتجات الحالل وصلت إلى درجة الطرافة :جاكيت
من جلد بقرة مذبوحة حالل أو حمص مسلوق حالل .ومع الحالل،
انتشرت كتيبات الدعوة ،ثم مراكز “ثقافية” إسالمية.
تقوقع المهاجرون أكثر مع هجوم الفضائيات ومن ثم االنترنت ،ثم
هنا توقف التعامل الغربي مع ما يحدث على انه تباين ثقافي ال أكثر. تلتزم بثقافة مختلفة.
نفس الغربي ،مع زيادة وعيه باالسالم ،صار ينظر إلى المحجبة قبل
خمسة أعوام على انها تلتزم بالشريعة ،أو هكذا يعتقد على األقل.
الغربي ،مع احساسه بالقلق من خطر االرهاب قبل عام او عامين ،بدأ ينظر إلى المحجبة بأنها انسانة ال تقول أنا مسلمة ملتزمة بل هي
وصول الموجات الجديدة من مهاجري الحروب ما بعد التسعينات.
إمرأة ال تثق بالمجتمع وتحتجب منه بغطاء للشعر أو بنقاب كامل.
والتجمعات التسوقية وحلقات الدعوة.
اليوم الغربي ،ومع الهجمات االرهابية ،ما عاد يسكت على انعدام
تغير شكل الجاليات وصار أبناؤها يميزون انفسهم باللباس واألكل
لكنه كان يسكت ويقول انها حرية شخصية.
كل هذا ال مشكلة فيه .سبق العرب المهاجرين اليه الصينيون واالفارقة
الثقة هذا ويرد ويقول :أنا أيضا ال اثق بك وال بما تخفين.
واألفارقة على األزياء المزركشة بالوانها الفاقعة التي يرتدونها يوم
اتساعا .هنا دخلنا حقا مرحلة الخطر
والهنود مثال .الصينيون حافظوا على اكلهم والهنود على عمائمهم االحد عند الذهاب للكنيسة.
الخلل الثقافي كان عند المهاجرين العرب والمسلمين .استهوتهم
160
اللقاء في صالة الجمعة كافيا.
هنا ما عاد الحديث يدور عن فجوة ثقافية ،بل عن هوة نفسية تزداد
كاتب من العراق مقيم في لندن