10 مقاهي بغداد الأدبية يف ع�صر الواي فاي
االثنني املوافق 20من �أيار 2019العدد 4334ـ ال�سنة ال�ساد�سة ع�شرة
ثقافية
Monday ,20 May. 2019 No. 4334 Year 16
جان بول �سارتر و�سيمون دي بوفوار .ويف �سوريا مقاهي وارد بدر السالم مرة قال ماركيز � ّإن تبلو َر ثقافته ال�شخ�صية يعود جز ٌء منه الرو�ضة وهافانا والربازيل واللونا بارك ،ويف اجلزائر �إىل مقهى “القطط الثالث” وهو من املقاهي الأدبية يف مقاهي الرمانة وجمعية اجلاحظية الثقافية يف اجلزائر. بوين�س �آير�س ،وهذه الإ�شارة �إىل القطط الثالث اعرتاف ب��ال��دور ال��ذي تلعبه املقاهي الأدب��ي��ة يف تب�صري و�إع���داد املقاهي كانت مكانا حلملة الفكر وف�ضاء �أكرث رحابة للمعار�ضة الأجيال الثقافية عرب احتكاكها اليومي وتبادل خرباتها امل��ت��ع��ددة ونقل امل��ع��ارف املختلفة يف م��ا بينها .والقليل وهكذا �سنجد القدمي واجلديد من ه��ذه الف�ضاءات التي يعرتفون بدور املقاهي يف �صياغة �أفكارهم وتوجهاتهم حتكمها العوامل ال�سيا�سية يف �أغلب الأحيان عندما خرجت وتن�ش�آتهم الفكرية والثقافية ،ال�سيما يف بالدنا العربية من الأج��واء االجتماعية �إىل منافذ �أخ��رى؛ غري �أن املدن التي تكتظ �أ�سواقها و�أر�صفتها باملقاهي ال�شعبية التي الأوروبية ا�شتهرت مبقاهيها الأدبية يف ع�صر النه�ضة وما �أن�ش�أت �أجياال ظهر منها �أدباء كبار وتيارات �شعرية مهمة .تاله ،وت�ش ّكلت فيها ثورات فنية و�شعرية كبرية ،وتك ّر�س فيها �أعالم بارزون و�شاءت املقاهي �أن تتوزع يف البلدان املقاهي الأدبية قبل ماركيز بوقت غري ق�صري ا�ستطاع ال�شاعر حممد مهدي الأوروب��ي��ة كلها وذاع �صيت معظمها يف �أرج���اء العامل اجلواهري عام � 1948أن يجمع ح�شودا ب�شرية انطلقت كمقهى نيويورك يف بوداب�ست ومقهى �سنرتال يف فيينا معه م��ن مقهى “ح�سن عجمي” امل��ع��روف ،الباقي حتى ومقهى دي البيه يف باري�س ومقهى جرييكو يف روما. اليوم� ،ضد معاهدة بورت�سموث بق�صيدته املعروفة “�أخي وم��ع التاريخ القدمي والبعيد �سنقول �إن��ه تف�صلنا �أكرث جعفر” .ومن هذا املقهى وغريه يف بواكري الدولة العراقية من �أربعة قرون مت�صلة عن مقهى “خان جغان” ()1590 بقي تاريخ احلركات الوطنية احلقيقية وال�شعرية على ك����أول مقهى �شعبي يف ب��غ��داد العثمانية �أواخ����ر القرن وجه اخل�صو�ص نظيفا حتى اليوم .وميكن �أن نو ّثق الكثري اخلام�س ع�شر .ومنذ ذلك التاريخ الأبعد و�إىل اليوم بقيت من هذه املواقف والأفكار الإن�سانية والتقدمية يف �سجالت املقاهي ت�شكل ف�ضاءات �شعبية و�سيا�سية و�أدبية وثقافية املقاهي العاملية والعربية والعراقية التي اغتنى وجودها يف املجتمع ال��ب��غ��دادي ،م��ع ت��غ�يرات طبيعية يف ال�صيغ بوجود الآخرين ممن وجدوا يف املقهى ف�ضاء �أكرث �سعة املكانية والإ�شهارية والعمرانية واخلدماتية ،وم��ع كل للحرية واملواجهات الفكرية والأدبية وال�سيا�سية �أي�ضا .الوقت الطويل ال��ذي م�� ّر بظروفه الكبرية تكون املقاهي ومن ال�صيغة االجتماعية بخ�صو�صيتها الوطنية ميكن �أن قد ا�ستقرت على �أنها �أمكنة اجتماعية و�أدب��ي��ة وثقافية نقول �إن املقاهي هي �إنتاج �شرقي حم�ض ،ومل تكن �أوروبا عامة بعالقات متباينة حتت خمتلف الظروف والأحداث تعرفه �إال يف ع�صر النه�ضة .ويف البالد العربية العديد ال�سيا�سية ،كحا�ضنة جماعية ملختلف التيارات الفكرية من املقاهي ذات العمق التاريخي البعيد؛ ففي م�صر يعد والأدبية وال�سيا�سية .فانتقلت الوظيفة الرتفيهية للمقهى مقهى الفي�شاوي واحدا من �أقدم املقاهي الأدبية (� )1797إىل وظائف فنية و�شعرية و�سيا�سية وجتمعات فكرية وكان يرتاده جمال الدين الأفغاين وجنيب حمفوظ وزاره متعددة االجتاهات .وعندما نتتبع �سرية املقهى البغدادي
مالك املقربة.. جمموعة ق�ص�صية ���ص��درت للكاتب ك���رمي �صبح جمموعة ق�ص�صية حملت عنوان " مالك املقربو" . ت��ن��اول��ت الق�ص�ص م�شاهد م��ن احلياة ال��ي��وم��ي��ة ال��ت��ي ب��ه��ا ح��اج��ة اىل مراقب ح�����ص��ي��ف واع ي��ل��ت��ق��ط م���ن تفا�صيلها اليومية ما ي�ستحق االلتقاط والوقوف عنده وقفة ذكية واعية .
يطلبونني فاراك نادية المحمداوي
ب�أع�شابها .. �إبتد�أت روحي هياجها العايل �أطلقت لالفق جوارحها و�إذا كنت �أنت تقدم ال�صباح وتك�سر الليل على مذبح الذكرى تتبدد املخاوف . فتعلن روحي خوفا مهيئا للحديث يتك�سر العامل ...خذ ُه ينحني الوقت فابدد عنك وح�شة احلروب �أيها احلزن �إبتعد فانا مازلت �..أريد البوح للملكوت �أيها احللم : �أنتخب �صحبتي ف�أنا مازلت �..أ�شد �أهدابي ل�شعاع ال�شم�س يف ظل ..هذا الليل الكافر بالأقا�صي �أدرك �أن القلب ..بيت الأمنيات
طيلة �أربعة قرون �سنجد �أن املقاهي البغدادية ب�صيغتها العثمانية كانت مم��را للوقت والت�سلية طيلة عقود من ال�سنوات حتى نهاية الأربعينات من القرن املا�ضي ،عندما �أ�صبحت املقاهي ظاهرة وعالمة من عالمات التحوالت ال�سيا�سية والأدبية كمنرب اجتماعي ،خرج من هذه العباءة �إىل الكثري من التجمعات ال�سيا�سية والأدبية التي انتظمت بناظم املقهى ،ليكون مكانا حلملة الفكر وف�ضاء �أكرث رحابة للمعار�ضة والت�صدي �أو ف�ضاء لت�شكالت �شعرية و�سردية مت فيها �إع��داد البيانات وتوقيعها ،ومن خاللها �أن�شد ال�شعراء ق�صائدهم �ضد االحتالالت املتعددة و�ضد احل��ك��وم��ات املتخلفة ،ومل تكن الو�سيلة املتاحة �آن���ذاك �سوى املذياع وال�صحف اليومية ومن ثم املقاهي اليومية للت�صعيد وجتيي�ش ال�شارع ،كما فعلها اجلواهري وحممد الأدبي ب�أ�صوات وحماوالت مبدعني ملأوا امل�شهد الثقايف مهدي الب�صري يف منا�سبات خمتلفة. ال��ع��رب��ي الح��ق��ا مب��م��ي��زات �شعرية ع�بر امل��ق��اه��ي كو�سيلة وحا�ضنة نف�سية واجتماعية ،ف�إن بغداد اليوم مل َ يبق من اختالف جذري مل يبق من القدمي البغدادي �إال امل�سميات والتواريخ الكثرية مقاهيها التحري�ضية �إال �شواهد �أ�سمائها ،ومل يكن اجلديد التي ت�سجّ ل �أبعادا وطنية و�سيا�سية و�إعالنات وبيانات امتدادا لتلك الروح احلية التي كانتها تلك املقاهي ،فال تزال �أدبية ال تزال حمفوظة يف ذاك��رة الأجيال املتناوبة ،وما مقاهي “الزهاوي” و”ال�شابندر” و”ح�سن عجمي” قائمة اجلديد �إال امتداد لذلك القدمي ،لكن مبوا�صفات �أكرث حداثة حتى الآن ،لكن ق�� ّل رواده��ا وبقي املتقاعدون و�أ�صحاب ومعمارا وبطريقة افتقدت نكهة املا�ضي ،ان�سجاما مع املحال القريبة يرتادونها ،ويف الوقت ال��ذي يحافظ فيه متطلبات احلا�ضر وراهنه املتقدم ح�ضاريا وتكنولوجيا ،مقهى “الزهاوي” على منطه املعماري الرتاثي ،ف�إن مقهى ف�إذا كان املقهى يبلور تظاهرة �سيا�سية �أو ثقافية ما�ضيا“ ،ح�سن عجمي” بقي على حاله ،مهمال وتعي�سا ،وقد هجره ف�إن املقهى البغدادي حاليا اختلفت �صيغته كليا يف ع�صر الأدب��اء منذ وقت طويل ،متجهني �إىل مقهى “ال�شابندر” تكنولوجيا االت�صاالت والإنرتنت وال��واي فاي ،فلم تعد ال��ذي �أخ��ذ موقعه اال�سرتاتيجي يف ���ش��ارع املتنبي .يف الق�صيدة احلما�سية ممكنة لتثوّ ر اجل��م��اه�ير ،ومل تعد املقهى البغدادي القدمي� ،أو العراقي �أو العربي عموما، هذه اجلماهري مروّ �ضة �إزاء بند �أدب��ي �شعري �أو �سردي جتد ال�صحيفة اليومية هي النتاج اليومي الأول الذي �أو فني .و�إذا كان القدمي ثقافة �شعبية عامة من �صحف ي�شغل اجلماهري ،والآن اختفت ال�صحيفة بفعل الف�ضائيات وكتب و�إذاع���ات وق�صائد وحداثات �أولية ملجمل العطاء وعواجلها والإن�ترن��ت و�سرعته يف ن�شر املعلومة عرب
�صفحات الفي�سبوك والإن�ستغرام وتغريدات التويرت، �إ�ضافة �إىل املتغريات النف�سية الكبرية يف ع�صر العوملة والقرية ال�صغرية التي ي�صل �شرقها بغربها بلحظة �سريعة كافية لأن ترى الآخرين و�أجواءهم اليومية مهما ابتعدت امل�سافات ون����أتْ .وبالتايل ف��� ّإن مفاهي َم كثرية دخلت يف الف�ضاء املكاين و�صارت هي اجلوهر الذي يقيّد الآخرين بدخولهم وخ��روج��ه��م �إىل املقهى تبعا حل��رك��ة الف�ضاء الرقمي وا�ستلهاماته املتعددة .العزوف عن املقاهي الهرمة يف الع�صر الإلكرتوين حت�صيل حا�صل وطبيعي مادامت اجل��ري��دة اليومية ق��د اختفت م��ن ال��ت��داول ،وح�� ّل حملها الهاتف الإل��ك�تروين مب��زاي��اه امل��ت��ع��ددة .ومل تعد احلالة ال�شعرية ت�ستهوي الأغلبية ال�ساحقة من رواد املقاهي ال�شباب الذين وجدوا يف ع�صرهم ما ي�ستوجب العزوف عنها ،وهذا ما نلم�سه يوميا يف املقاهي البغدادية اجلديدة “ر�ضا علوان” و“قهوة وكتاب” وغريها حيث ُتل�صق عالمة “الواي فاي” على واجهاتها كبطاقة دخول �آمنة.
احل�سا�سية الإنكليزية يف روايات القرن الواحد ولع�شرين باتريك باريندر ـ ترجمة صالح الرزوق
مع �أن ما بعد احلداثة تقوم على الإحالة للذات، وه��و ج��ان��ب دائ���م م��ن ج��وان��ب الأ���ش��ك��ال الفنية، فقد ت�أثرت الرواية الإنكليزية بالظروف املحلية اخل��ا���ص��ة ،وب��الأخ�����ص كلما تعر�ضت ال�سيا�سة الوطنية واالقت�صاد الوطني با�ستمرار للتبدل العميق .فالزراعة وال�صناعة ينحدران ،وتزداد �أهمية ال�تراث و�صناعة ال�سياحة ،وغالبا يبدو �أن الرواية تفر�ض جوهريا �صورة وطنية تنظر للما�ضي (�أو للخلف)� .إن رواي��ة ،مثل «الكفارة» لإيان ماك �إي��وان تقاوم البيت الإنكليزي الريفي و�أح��داث مايو�/أيار ،1949وهي لدرجة معينة، جم��رد ت��واط���ؤ ،بلغة ب��ات��ري��ك واي���ت يف حديثه عن «ال�تراث الوطني» ال��ذي ر�أى �أن��ه «ا�ستخراج للتاريخ – �أو معناه و�إمكانياته – من �إنكار احلياة اليومية ،و�إع����ادة تركيبها وعر�ضها مبوا�ضع وح���وادث و�صور ومفهومات حم��ددة معزولة». عموما� ،إن ال��روائ��ي�ين ق���ادرون بالت�ساوي على التهكم من �صناعة الرتاث ،كما فعل جوليان بارنز يف (�إنكلرتا� ،إنكلرتا )1998حيث �أن امل�ستثمر ي�شرتي �آي��ل �أوف واي��ت ويحولها �إىل «�إنكلرتا خ��ا���ص��ة»� ،أو حل��دي��ق��ة �سياحية ن��اج��ح��ة جناحا مدويا ،بينما بقية البالد� ،أ�صبح ا�سمها «�ألبيون»،
مرتوكة خلطر التحلل والتعفن .غري �أن حكاية بارنز ال�ساخرة مل تقدم معنى اقت�صاديا ،على �سبيل املثال ،من خالل الكارثة االقت�صادية التي ت�سببت بها «قبة ازدهار �ألفية لندن» عام ،2000 ولكنها عو�ضا عن ذل��ك دعتنا لإن��ك��ار ما يح�صل واعتباره فانتازيا جتريدية .لقد تراكمت املخاطر �أمام الرواية الإنكليزية – كما الحظ بارنز ب�شكل وا���ض��ح -ومكمن اخلطر ك��ان يف متابعة الوعي الذاتي بالروح الإنكليزية التي تقود �إىل تفريغ روحي لكل ما هو عادي يف حياة �إنكلرتا اليومية. والروايات التي ا�ست�شهدت بها بايات كانت غالبا ت��اري��خ��ي��ة ،و���ض��م��ن حبكة تت�ضمن �إي��ط��ال��ي��ا يف القرون الو�سطى ،والقاهرة يف القرن اخلام�س ع�شر ،و�أملانيا القرن الثامن ع�شر ،و�أماكن �أخرى. وهي �أعمال «�أوروبية» لأنها حملت ب�صمات كتاب م��ن �أوروب����ا مثل �إي��ت��ال��و كالفينو و�أل��ب�ير كامو و�إيزاك داين�سني وغونرت غرا�س وميالن كونديرا وغ�ي�ره���م .ول��ك��ن رمب���ا ك��ان��ت ب��اي��ات ق��د ذك��رت بالعناية نف�سها ت�أثر بريطانيا بالواقعية ال�سحرية التي ظهرت يف �أمريكا الالتينية ،وب��رواي��ات ما بعد احلداثة التي ظهرت يف الواليات املتحدة. ميكن مالحظة �أ�سلوب جديد يف تدوين التاريخ عند نورمان دايفز يف كتابه «اجل��زر :تاريخ –
،»1999وه��و عمل ي��ت��ج��اوز بعنوانه املا�ضي التاريخي ل��ـ«�إن��ك��ل�ترا» و«بريطانيا» لي�صل �إىل الواقع احلايل املتبلور .وال�سياق الربيطاين ،ما ت�سميه بايات وغريها حكاية �شعبية �أو «خرافة»، ميكن �أن تعتربه �أي�ضا حركة �إحياء للرومان�س. فتقاليد الرومان�س ف�ضلت العجائبي على العادي، وهذا وا�ضح عند روائيني بريطانيني من فرتة ما
بعد احل��رب العاملية الثانية مثل :وليام غولدنغ و�آيري�س م��اردوخ وموريل �سبارك ،والكتابات امل��ت���أخ��رة ل��دوري�����س لي�سينغ .لقد جنحت هذه الرومان�سيات احلديثة ،واعتربت خرافات عن الهوية ،وبع�ضها عالج ق�ضايا ال�شخ�صية الوطنية. م��ن ب�ين رواي���ات ول��ي��ام غولدنغ املبكرة� ،أعمال مهمة عن اجلنوح والعزلة كما يف�« :سيد الذباب»
( ،)1954و«بين�شر مارتن» (� .)1958أ�ضف لذلك روايته «الوارثون» ،1955وهي عن مغامرات ما قبل التاريخ .لقد حازت هذه الثالثية على اهتمام وا���س��ع و�ضعها يف ع���داد احل��ك��اي��ات الأخالقية املتعلقة بالطبيعة الكونية ل�ل�إن�����س��ان ،وكانت �إنكليزية «بين�شر م��ارت��ن» وال�صغار يف «�سيد الذباب» من �ضمن العوامل الأ�سا�سية امل�شاركة. و«النزوع الإنكليزي» هنا ،والذي غاب عن معظم �أع��م��ال غولدنغ التالية ،دليل على ظاهرة نهاية الإمرباطورية ،ويف طياتها جتد خربات للكاتب نف�سه .وقد ك�سبها من عمله يف البحرية امللكية، وعليه هذه الأعمال يف حالة تقابل مع ما ت�سميه بايات «ك ّتاب اخلرافة الأوروب��ي��ة» .ومن ه�ؤالء: �أجنيال كارتر ،وبينيلوبي فيتزجرالد ،وجينيت ونرت�سون ،وكذلك ماردوخ و�سبارك .فقد نظرت لهذه الأ�سماء وك�أنها انعكا�س حل�سا�سية جديدة عن ال�شخ�صية الوطنية يف فرتة ما بعد االنهيار (تفكك االمرباطورية)� .أما الروائيون املعا�صرون، والأق����رب لفرتتنا ه���ذه ،فهم يكتبون يف �سياق ع�ضوية بريطانيا داخل االحتاد الأوروبي ،وهو �سياق� ،إن مل يكن يعني حمو الهوية الوطنية ،فهو بالت�أكيد يت�ضمن اختزالها املمكن �إىل �شيء من قبيل الهوية املناطقية.
حفريات الطاهر يف �سجالت جنيب حمفوظ عن "الهيئة امل�صرية العامة للكتاب" �صدر لطارق الطاهر ،كتاب بعنوان "جنيب حمفوظ بختم الن�سر" ،وه��و كتاب وثائقي ع��ن جنيب حمفوظ م��ن خ�لال البحث يف ملفاته يف وظائفه احلكومية التي تن َّقل فيها بني ث�لاث وزارات ه��ي :الأوق��اف، والإر�شاد القومي ،الثقافة .وهذه الوثائق ت�شتمل على رحلة جنيب حمفوظ الوظيفية التي بد�أت يف العام 1934واختتمها يف العام ،1971حينما بلغ �سن ال�ستني و�أحيل للمعا�ش .وقد ب��ذل ط��ارق الطاهر ج��ه��دًا يف ق���راءة ه��ذه الوثائق وتقدميها للقراء ،م�ستهد ًفا ر�سم �صورة �أخرى لنجيب حمفوظ �صاحب العطاء الإبداعي املمتد لأكرث من 70عامًا ،و�إن كنت �أرى �أن هذه الوثائق بقدر ما تعطي �صورة عن جنيب حمفوظ ،فهي تر�سم �صورة �أق��وى لطبيعة املجتمع امل�صري �آن��ذاك ،وتعرف �أبناء زماننا بنمط احلياة الوظيفية يف م�صر ،وحتديدًا يف دواوين احلكومة امل�صرية ،وتظهر العقلية التي كانت �سائدة فيها ،ومما ميكن �أن ن�صل �إليه يف تقدير جنيب حمفوظ �أن نعرف كيف �أن هذا الرجل ا�ستطاع بكفاءة وقدرة �شبه معجزة �أن ينجح ب�شكل ال خالف عليه يف اجلمع بني �أمرين متناق�ضني ً من�ضبطا ملتزمًا ،و�أن يكون �أديبًا بطبيعتهما؛ �أن يكون موظ ًفا مبدعًا �صاحب فكر وخيال وموقف من املجتمع الذي كان يعي�ش فيه ،و�أنه ا�ستطاع �أن ي�ضع لكلتا ال�شخ�صيتني حدودها ،فهو كموظف يعرف حدود امل�ستخدم يف احلكومة وواجباته ،فيلزم نف�سه بها وين�ضبط عليها ،وهو كفنان مبدع يعرف كيف ينطلق بخياله وقلمه لي�صنع عامله اخلا�ص يف ت���ؤدة وه��دوء وثقة دون �أن ي�شغل الآخرين �أو ي�سعى لتحقيق �شهرة �أو جنومية، بل كان يقدم العمل تلو العمل من جمموعته "هم�س اجلنون" �إىل رواياته التاريخية" :رادوبي�س" و"عبث الأقدار" و"كفاح طيبة" �إىل روايته الطبيعية "ال�سراب" �إىل رواياته الواقعية "القاهرة اجلديدة" و"بداية ونهاية" و"خان اخلليلي" و"زقاق املدق" �إىل "ال�ساجا" �أو ما نعرفه برواية الأجيال التي كتب فيها "بني الق�صرين" و"ق�صر ال�شوق" و"ال�سكرية" �إىل روايته الكونية "�أوالد حارتنا" �إىل رواي��ات��ه النف�سية التي ب��د�أت بـ "الل�ص والكالب" و"ال�شحاذ" و"ثرثرة فوق النيل" �إىل روايته امللحمية "احلرافي�ش" �إىل� ....إىل .....و�أود الت�أكيد على �أن
جنيب حمفوظ مل يكن كاتبًا ثوريًا ،فالثورة الوحيدة التي �آمن بها كانت ثوررة ،1919كما �أنه مل يكن كاتبًا ي�ساريًا ،ومل يدع ً من�ضبطا يخاف �أنه بطل اجتماعي .كان جنيب حمفوظ موظ ًفا على رزق��ه ،وك��ان ملتزمًا بطبيعة املوظف والوظيفة .وكان �إن�سانيًا ..كان �إن�سا ًنا م�صريًا عاديًا مي�شي يف الأزقة ويجل�س على املقاهي ال�شعبية ولي�س على "الكافيهات" ويلب�س املالب�س الب�سيطة �صي ًفا و�شتا ًء ويحيا حياة املاليني من ب�سطاء م�صر ال حياة ال�صفوة م��ن �أغنيائها ،وككل م�صري طيب تعر�ض جنيب حمفوظ للن�صابني الذين ن�صبوا عليه ،كما ذكر لنا �أن �أحد املقاولني الن�صابني �أخذ منه مبل ًغا ليبني له م�سك ًنا ف�ضاع املقاول و�ضاعت "الفلو�س"! والغريب �أن جنيب حمفوظ كان يحكي ذلك بابت�سامة م�ستاءة .ويعلق �ساخ ًرا�" :أال يكفي هذا لأ�صاب بال�سكر!". هكذا ك��ان جنيب حم��ف��وظ .والآن لننظر يف بع�ض حفريات ط��ارق الطاهر يف �سجالت جنيب حمفوظ املمهورة بـ "خامت الن�سر" .كانت �أول �شهادة ح�صل عليها جنيب حمفوظ هي ال�شهادة االبتدائية يف �سنة ،1925ثم �شهادة الدرا�سة الثانوية نظام الثالث �سنوات �سنة ،1928ثم �شهادة الثانوية نظام ال�سنوات اخلم�س �سنة ،1930ثم لي�سان�س الآداب من اجلامعة امل�صرية �سنة .1934ما يعني �أنه كان ينجح دائمًا ومل يتخلف �سنة واحدة� .أما بخ�صو�ص الوثائق التي وردت مثل" :طلب اال���س��ت��خ��دام للجامعة امل�صرية" و"نتيجة الك�شف الطبي" و"ك�شف ممتلكاته" و"�إقرارات يكتبها بعدم تقا�ضيه �أي مرتب �أو معا�ش من احلكومة يف "1934و"طلب �إجازة ملر�ض خفيف �أمل به" �أو "طلب �إج���ازة اعتيادية" �أو "�إجازة مر�ضية" �أو "�إجازة بعد وفاة والده" ،ومثل هذه الوثائق الإداري��ة �أمر ع��ادي عند �أي موظف حكومي ،ولكن ال��ذي لفت نظري يف هذه الوثائق هو اللغة الأدبية الراقية التي كان ي�س�ستخدمها جن��ي��ب حم��ف��وظ وه���و تعبري �أي ً �����ض��ا ع��ن ال��ط��ري��ق��ة ال��ت��ي كان ي�ستخدمها عامة النا�س من املوظفني يف طلب �أمر يخ�ص العمل، فهناك ال�سلم االجتماعي الذي يحر�ص اجلميع على احرتامه. فهناك من يخاطب بـ "�صاحب العزة" ومن يخاطب بـ "معايل الأ�ستاذ" ومن يخاطب بـ "فالن �أفندي" .فلم يكن من املعتاد �أن
يخاطب �شخ�ص بغري �صفة يحملها� ،سواء كان موظ ًفا مبتد ًئا �أو مدي ًرا كبريًا .ومن �أمثلة ذلك تلك الأوراق التي �ضمها هذا الكتاب و�أعجبتني .يقول يف �إحداها" :ح�ضرة �صاحب العزة �سكرتري عام اجلامعة امل�صرية: �أت�شرف ب�أن �أرجو التف�ضل باحت�ساب املدة من يوم اخلمي�س 30دي�سمرب 1927لغاية الأحد 2دي�سمرب 1938التي تغيبتها ب�سبب وفاة والدي من �إجازتي االعتيادية. وتف�ضلوا بقبول فائق االحرتام. جنيب حمفوظ عبدالعزيز. كاتب ب�إدارة امل�ستخدمني. 1938 /1/3 ويعلق امل�ؤلف ب�أنه من غري املعقول �أن يكون جنيب حمفوظ قد ح�صل ما يقرب من ال�سنوات الع�شر على �إج��ازة اعتيادية لرحيل والده! والغريب �أنه مل تالحظ �إدارة امل�ستخدمني هذا اخلط�أ الوارد يف طلب هذه الإجازة ،وت�ستمر الورقة حمفوظة بخطئها مبلفه الوظيفي .ويرر ذلك �أو يعلله ب�أنه التوتر الناجت عن حالة احلزن التي مر بها حمفوظ بعد وفاة والده .و�أرى �أن هذه مالحظة جميلة .ولكنني �أعيد قراءة اخلطاب و�أ�س�أل كيف �صاغ املوظف طلب الإج��ازة؛ ف�سكرتري عام اجلامعة يلقب بـ "ح�ضرة �صاحب العزة" .ويف عر�ض املو�ضوع يقول "�أت�شرف ب�أن �أرجو التف�ضل باحت�ساب ،"....فهو يت�شرف ويرجو رئي�سه �أن يتف�ضل باحت�ساب �أيام غابها لت�شييع والده �إىل مثواه الأخري من �إجازته االعتيادية .وهذا ما �أراه من لغة خطاب ذلك الع�صر، ل�نرى كيف ك��ان النا�س يتعاملون .ويقدم امل�ؤلف �صورة من �أوراق تعيني جنيب حمفوظ ،وفيها �إ�شارة �إىل تاريخه ال�صحي عند التحاقه بالوظيفة ،وهو ي�شري�إىل خلوه من الأمرا�ض، وكان ذلك �سنة ،1934ثم ي�شري امل�ؤلف �إىل �أن جنيب حمفوظ �أ�صابته احل�سا�سية والكبد بعد اكت�شاف �إ�صابته مبر�ض ال�سكر. ويت�ساءل :فهل يكون تاريخه ال�صحي الذي قدمه عند التحاقه بالعمل م�شكو ًكا فيه لأن��ه �أ�صيب بعد ذل��ك وم��ع م��رور الزمن وكرور الأيام وما يتعر�ض له الإن�سان من منغ�صات وتوتر �أن تكون �إ�صابته بداء �أو مر�ض �أم ًرا غريبًا� .إنه من الطبيعي �أن الإن�سان كلما م�ضى به قطار العمر تغادره قوة ال�صحة ليحل
حملها وهن اجل�سم و�ضعفه وهذه من طبائع الأمور .ويتحدث امل�ؤلف عن جنيب حمفوظ الذي ترجم وهو يف املرحلة الثانوية كتاب "م�صر القدمية" جليم�س بيكي .ويقول جنيب �إنه فعل ذلك لتقوية نف�سه يف اللغة و�أنه عر�ض كتابه على �سالمة مو�سى لن�شره كمقاالت ،ولكنه فوجئ يف �أحد الأي��ام ب�شخ�ص يطرق بابه وي�سلمه ن�سخة من الكتاب مطبوعة ،فكان �سالمة مو�سى قد طبعه كهدية �إىل القراء بديلاً عن �شهرين تتوقف فيهما املجلة التي كان ي�صدرها .وهكذا تدور الأحداث حتى نقف عند بع�ض الأزم��ات التي مرت بنجيب حمفوظ يف حياته الوظيفية ويف حياته الأدبية الإبداعية ،فكانت املرة الأوىل حينما كان رقيبًا على امل�صنفات الفنية ،وع ُِر َ �ض عليه فيلم عن اليابان ي�سيئ �إىل اليابان ،فاعرت�ض عليه جنيب حمفوظ من زاوي��ة �أن العالقة بني اليابان وم�صر كانت جيدة ،و�أن اليابان �ساندت م�صر يف كفاحها �ضد االع��ت��داء عليها ،ولكن ك��ان للبع�ض رغبة يف عر�ض هذا الفيلم وكانت فكرة االرتكان على �أحد �أركان النظام احلاكم يف م�صر تعطي ل�صاحبها قوة ال�سلطة ،فعُر�ض الفيلم برغم رف�ض جنيب حمفوظ ،ويف �أول يوم لعر�ضه توجه �سفري ً معرت�ضا ،ف�أمر عبدالنا�صر بوقف اليابان جلمال عبدالنا�صر عر�ض الفيلم الذي �أ�ساء �إىل اليابان.