حكايات من حارة اليهود

Page 1

‫حكايات‬ ‫من حارة اليهود‬


‫حكايات من حارة اليهود‬ ‫أحمد سعد عبيد‬ ‫قصص قصيرة‬ ‫حقوق النشر © أحمد سعد عبيد ‪2017‬‬ ‫الحقوق الفكرية للمؤلف محفوظة‬

‫كتابى للطباعة والنشر والتوزيع‬ ‫‪ 11‬شارع ابن الغنام ‪ -‬الظاهر ‪ -‬القاهرة‬ ‫تليفكس‪00202 27879791 :‬‬ ‫المدير العام‪ :‬محمود فاروق‬ ‫‪kitaby@yahoo.com‬‬ ‫جميع الحقوق محفوظة‬ ‫الطبعة األولي ‪2017‬‬ ‫رقم االيداع‪2017 / 1959 :‬‬ ‫تدمك‪9789775038890 :‬‬ ‫الغالف‪ :‬غادة خليفة‬ ‫التصميم الداخلي‪ :‬أحمد نجدي‬ ‫مراجعة لغوية‪ :‬محمود طلحة‬


‫أحمد سعد عبيد‬

‫حكايات‬ ‫من حارة اليهود‬ ‫قصص قصيرة‬



‫المحتويات‬ ‫لم أعرف يو ًما أ ّن أبي يكتب القصص ‪9.....................................‬‬

‫العيش الحاف ُير ّبي أكتاف ‪15.....................................................‬‬

‫يختفى كقط هارب من صاحبه ‪19...............................................‬‬

‫سكان األودش الجدد ‪23............................................................‬‬ ‫ربما يصل صاحب الخطوات المتعثرة إلى نهاية الطريق ‪27........‬‬

‫قطط سوسو الهائمة‪33................................................................‬‬ ‫البشارة ‪39...................................................................................‬‬ ‫صبغة شعر بيضاء ‪43...................................................................‬‬

‫ما تخشى منه يخشى منك ‪47......................................................‬‬ ‫حال األنس ‪51............................................................................‬‬ ‫مزار الطيف ‪55............................................................................‬‬


‫العصافير ال تأكل الجيلي كوال ‪59...............................................‬‬ ‫الحلبية‪63................................................................................ ..‬‬ ‫الهروب إلى النهر ‪67...................................................................‬‬

‫يا جريد النخل العالي ‪71.............................................................‬‬

‫الجنيهان‪75.................................................................................‬‬

‫قسوة قلب ‪79..............................................................................‬‬ ‫معدل ضربات ‪83........................................................................‬‬ ‫السيد خشبة يحمل سي ًفا ‪87.........................................................‬‬


‫بعض أكاذيب الحياة تنفجر صد ًقا‪.‬‬

‫نجيب محفوظ‬



‫لم أعرف يومًا أ ّن أبي يكتب القصص‬ ‫لم أبك عندما تو ّفي أبي‪ ،‬حرصت أال تظهر دمعة على عيني‪،‬‬

‫استعنت بالصمت‪ ،‬أدركت أنني أجز على أسناني عندما تكسر‬

‫بعضها‪ ،‬سمعت همسات استهجان لتماسكي‪ ،‬لم يفلح التربيت على‬ ‫ظهر ك ّفي عند التسليم وال طبطبة وأحضان أقاربى في كسر حاجز‬ ‫إخفاء مشاعري‪ ،‬نظرت إلى أخي الصغير باستهجان عندما سمعت‬

‫بكاءه و‪ ..‬وص َّمت‪.‬‬

‫ال أحد يعرف معنى كلمة (ظهري انقطم) ّإل بوفاة والده‪ .‬تتراخى‬

‫المالمح الجامدة وينحني الظهر وتتهدّل األكتاف وتشرد العيون في‬ ‫منطقة ّ‬ ‫ظل بعيدة من الذكريات‪ ،‬ويختفي ما يدور بالذهن والقلب‪،‬‬

‫شببت بظهري وفردته‪ ،‬رفعت أكتافي‪ ،‬وص َّمت‪.‬‬

‫ّ‬ ‫علي ويجب ّأل ينهار الجدار بوفاة أبي‪ ،‬تع ّلمت‬ ‫الكل سيتكئ ّ‬

‫منه «التراضي» فحاولت أن أحافظ على بيت العائلة وال أبيعه‪ ،‬لكن ّي‬ ‫استسلمت لرغبة أقاربي وو ّقعت العقد‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫حصتي ووضعتها في حقيبة أبي السمسونيت السوداء‪.‬‬ ‫لملمت ّ‬ ‫كانت ملقاة في قاع الدوالب الذي يفوح منه عطر العنبر الذى ينتقل‬ ‫لك ّفك عند مصافحة أبي‪ ،‬حاولت إفراغ الحقيبة‪ ،‬لكن شغلتني كراسة‬ ‫تص ّفحتها ألجد في صفحتها األولى‪:‬‬ ‫بدرا ليلتها‪ .‬لم يجدوا‬ ‫«ولدت في منتصف شهر نيسان‪ ،‬كان القمر ً‬ ‫قابلة تخرجني للحياة (كان اليوم األول في عيد الفصح) فخرجت‬ ‫إلى القاهرة وحدي أصرخ فيها وأعلن غضبي عليها‪.‬‬

‫جاء أبي من ّبر الشام إلى حارة اليهود بدعوة من ّ‬ ‫كل من الخواجة‬ ‫جوريان والخواجة كورييل‪ ،‬انتقل بين أكثر من مكان في المنطقة‪.‬‬ ‫ولدت في بيت الخواجة كامل في غياب أبي‪.‬‬

‫في الشهور األولى من عمري اندلعت حرب فلسطين‪ ،‬عاد أبي‬ ‫ً‬ ‫جمال تحمل‬ ‫ومعه حكاياته عن تن ّقله بين الفدائيين‪ .‬كيف أدخل‬ ‫أيضا «‪.‬‬ ‫صناديق المؤونة للفالوجا‪ .‬غيّر اسمه واسمي ً‬

‫ّ‬ ‫خط أبي بنغبشته بالحبر األزرق‪ ،‬ميل حروفه في ذيل الكلمات‬ ‫ّ‬ ‫التحول من ّ‬ ‫الخط الديواني في جملة‬ ‫خط الرقعة إلى‬ ‫للسطر التالي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مرات‪ .‬أذكر محاوالتي‬ ‫واحدة‪ ،‬نونه المستديرة أحيانا والحا ّدة برقعتها ّ‬ ‫لتقليد خطّه بال طائل‪ ،‬ابتسامته عندما رآني أمشي بمحاذاته وأنا أزك‬ ‫بقدمي اليسرى مثله‪ ،‬إصراره على استخدام لفظ خواجة بالرغم من‬ ‫تغيّر داللتها‪.‬‬ ‫شغلنى خاطر أنّني لم أعرف يو ًما أ ّن أبي يكتب القصص‪ .‬عرفت‬

‫‪10‬‬


‫وتنوع قراءاته لكن ّه لم يكن كاتبا‪ .‬قطعت المسافة بين‬ ‫اهتمامه باألدب ّ‬ ‫بيتنا ومكتبي في ثالث دقائق‪ .‬تذكّرت أبي ولمعة عينيه وهو يحكي‪،‬‬

‫رفعه ألكتافه والرسم في الهواء بساعديه‪ ،‬وكيف كان يرفع الهواء حول‬ ‫رأسه وكأنه يرفع ً‬ ‫عقال فلسطينيًا‪ ،‬سخرية أ ّمي من دموعه عندما يتذكّر‬ ‫والده وانحناءه للزمن من بعده‪ ،‬فيضحك ويبكي في نفس اللحظة‪.‬‬ ‫يالحقنا‪ ،‬نتقافز من حوله‪ ،‬أتع ّلق أنا بذراعه حتّى ال يصل إلى أ ّمي‬ ‫ويقبّلها في أذنها‪.‬‬

‫صحوت من شرودي في مكتبي‪ ،‬طلبت فنجان قهوة وعدت إلى‬

‫الحقيبة‪ ،‬أفرغت محتوياتها أمامي وأعدت ترتيبها‪ ،‬جنبت ميدالية‬

‫نحاسية على شكل نجمة مكتوب عليها بخط بارز (نجمة فلسطين‬ ‫ـ المملكة المصرية)‪.‬‬

‫فردت ورقة مطوية مطبوعة (هيئة وادي النيل العليا إلنقاذ فلسطين)‬

‫‪ 50‬جنيها مصريا‪.‬‬

‫الكراس األخضر بأوراقه الصفراء وتص ّفحته‪ ،‬يشبه بطاقة‬ ‫أخرجت ّ‬

‫التموين القديمة الورقية بالمر ّبع المخطوط في منتصف الغالف‬

‫األمامي ويشبه كتا ًبا لوزارة التربية والتعليم من الغالف الخلفي‬

‫بصورة جمال عبد الناصر في اليمين وصورة عبد الحكيم عامر في‬ ‫اليسار ومستطيل طويل على طول الغالف مليء بنصائح للفتيان‪.‬‬

‫مصفر بخطوط زرقاء‪،‬‬ ‫الكراسة من المنتصف‪ ،‬الورق‬ ‫ّ‬ ‫فتحت ّ‬

‫وجدت فاصل عبارة عن عود ريحان يابس‪ ،‬قرأت‪:‬‬

‫‪11‬‬


‫«عملت قمسيونجي بالصاغة‪ ،‬حملت عن أبي حقيبته ومشيت‬ ‫خلفه أحصي البالط الحجري وأتأمل مباني القاهرة‪ .‬لم يدخل أبي‬ ‫مدرسة وال يعرف من الكتابة سوى ّ‬ ‫خط اسمه‪ ،‬لكن ّه حفظ القرآن‬ ‫وتح ّدث الفرنسية‪ .‬ع ّلمني لغة الصنعة بمفرداتها العبرية‪ ،‬ك ّلنا في‬ ‫الحي نتحدّثها‪ ،‬لك ّن الفرنسية تع ّلمتها من استير في مقابل أن أع ّلمها‬ ‫ّ‬ ‫العربية‪ .‬كنت أرى لمعة عينها عندما ألتفت اليها وهي تمشي بجواري‬ ‫ويدها في ساعدي‪ .‬عندما شعر الرفقاء بزهوي بها أطلقوا عليها‬ ‫(المعدّسة)‪ ،‬النمش في وجهها كحبّات العدس لكن ّها جميلة‪ ،‬يكفي‬ ‫عطرها وشعرها الغجري المتطاير على كتفي‪ .‬كنت أوصلها لفاترينة‬ ‫ممر الكونتننتال وأنتظرها عند عودتها لنجلس في‬ ‫قشرة الجمل في ّ‬ ‫جروبي ونتدارس‪».‬‬

‫إستر كانت ُتد َِرس في الفرير على ناصية الشارع‪ ،‬عاشت وحيدة‬ ‫في ش ّقة في الدور األخير‪ ،‬اآلن فقط فهمت احمرار وجه أ ّمي عند ذكر‬ ‫تزوجت مسل ًما وانتقلت لألسكندرية‪ .‬انقطعت‬ ‫سيرتها بالرغم من أنّها ّ‬ ‫أخبارها رغم المو ّدة بينها وبين الناس‪ ،‬وأصبح بيتها اآلن عمارة للورش‪.‬‬ ‫الحارة ك ّلها عمارات متجاورة قبيحة للورش‪ ،‬تفوح منها رائحة سبك‬ ‫المعادن وأدخنة الميتريون المتطايرة من سحب التصنيع‪ .‬الحارة ليس‬ ‫ما يحكي عنه أبي في كراسته‪ ،‬ليست مم ّهدة بالحجر الجيري وال يمشي‬ ‫بها أحد يحصي بالطها ويتأ ّمل مبانيها‪ ،‬سيصطدم في الزحام بسيارات‬ ‫مح ّملة بالبضائع وصراخ التجار مع الزبائن‪ .‬بقي من أبنيتها القديمة‬ ‫ثالثة بيوت مزخرفة بنجمة داود وبرسو ٍم لورودٍ بارزة‪.‬‬ ‫‪12‬‬


‫عند فاصل آخر عبارة عن كمبيالة مطبوعة بالفرنسية واسم جدّي‬ ‫مكتوب في أحد الفراغات بالعربية ومكان ختمه في أسفلها مكشوط‬ ‫ومفرغ لدرجة ثقبها‪:‬‬

‫«الالسلكي يتساقط يوما بعد يوم‪ ،‬عربات حكومية تصل للحارة‬ ‫لنتساءل من؟‪ ،‬يدخل الجنود بأسلحتهم ويخرجون بأحدهم وأجهزة‬ ‫أرسال واستقبال‪ .‬خروج بال عودة‪ ،‬أيام وتلملم أسرته بعضها وتختفي‪،‬‬ ‫يخرجون في الليل بهدوء‪ .‬األغلبية باعوا في عجل أو بهدوء مصطنع‪.‬‬ ‫الخروج الرسمي من مصر ألف جنيه‪ ،‬الشايب يشتري منهم ويخزن‬ ‫ويهرب أموالهم‪ّ ،‬‬ ‫تغض البصر‬ ‫الكل يعلم دوره في التهريب‪ ،‬الحكومة ّ‬ ‫ّ‬ ‫عنه‪ ،‬من عامل يدفع عربة أزج معدنية‪ ،‬إلى أحد أصحاب األمالك في‬ ‫ً‬ ‫استغالل للموقف‪ .‬الخوف في‬ ‫الحارة‪ .‬الكثير اشترى منهم تعاط ًفا أو‬ ‫العيون ال يختفي‪ ،‬التل ّفت‪ ،‬التر ّدد والتلعثم ورعشة اليدين أثناء ع ّد‬ ‫الثمن‪ ،‬يس ّمونها ملحمة شيشيت ها ياميم ونس ّميها النكسة‪ ،‬نشتري‬ ‫منهم من أجل العيش والملح والعشرة‪».‬‬ ‫أول من هدم بيتًا وأقامه عمارة للورش‪ ،‬اشتراه من‬ ‫الشايب هو ّ‬ ‫جدّي‪ .‬يبيع ليشتري من جديد‪ ،‬لم يبق من ّ‬ ‫كل البيوت التى اشتريناها‬ ‫وبعناها سوى بيتنا هذا‪ .‬أبي لم يذكر أ ّن الشايب من أباطرة األعمال‪،‬‬ ‫أحفاده اآلن أصحاب قرى سياحية ومنتجعات‪ .‬الشائعات تقول أنّه‬ ‫بحصته في التهريب ويدّعي أ ّن السلطات صادرت‬ ‫لم يكن يكتفي‬ ‫ّ‬ ‫المهربات‪ ،‬بعد كل شايب‪ ،‬يظهر آخر يهدم البيوت القديمة ويبني‬ ‫ّ‬ ‫ويتحول إلى شايب جديد‪ .‬نحن لم نكن نهدم ونبني‪ ،‬لم نشارك‬ ‫ّ‬ ‫‪13‬‬


‫لكن ّنا صمتنا‪ ،‬شككنا ولم نتداول اإلشاعات وبقينا للنهاية‪ ،‬واليوم‬ ‫حصتي تكفي مقدّم شاليه لدى الشايب لو د ّبر لي خص ًما‬ ‫بعنا كغيرنا‪ّ .‬‬ ‫أو قبل التقسيط‪ .‬سخر من ّي أبي عندما سمعني أهاتف أحدهم مرد ًفا‬ ‫لقب بك‪ ،‬رأيت نظرة تهكّم في عينيه وأنا أفكّر في الشراء من البهوات‬ ‫الجدد‪ ،‬كعادته ز ّم شفتيه وطرق برأسه‪ ،‬يصمت برهة ثم يلقي مثال أو‬ ‫بيت شعر ويتركني أبحث عن مقصده‪.‬‬ ‫ضحكت وأنا أتخيّله يلقي بيتًا من أميات نجيب سرور‪ ،‬بكيت‬ ‫ألنّي أفتقده‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫العيش الحاف يُربّي أكتاف‬ ‫جئنا إلى القاهرة في هوجة التهجير مع العدوان الثالثي‪ .‬تركنا بيتنا‬ ‫بحي األربعين ودكان أبي المختص بعرق البلح‪ ،‬إلى شقة في أعلى‬ ‫بناية بمنطقة درب البرابرة بالموسكي‪ ،‬حيث عبور الشارع عبر ّ‬ ‫خط‬ ‫الترام لدخول كنيسة زويلة‪ ،‬وتناول البرشان‪ ،‬وشراء الخبز والخل‬ ‫مرة أخرى مرورا ّ‬ ‫بخط الترام‪ ،‬وأسمع‬ ‫من الخواجة «بيسح»‪ ،‬والعودة ّ‬ ‫همهمات أبي عن رغبته في شراء دكان الخواجة «أرتين»‪ ،‬واقتراح أ ّمي‬ ‫أ ّن دكان «سوسو الدباح» أحسن ومداري‪ ،‬وإنكار أبي تهمة الطمع عن‬ ‫نفسه بأ ّن أرتين خواجة وح يسيب البلد لكن سوسو مصري وقاعد‪.‬‬ ‫أول رغيف خبز تناله يدي‬ ‫أدس يدي في الكيس الورقي وأقطف من ّ‬ ‫ّ‬ ‫علي‬ ‫قطعة وأرميها في حلقي قبل أن ينتبها لي‪ .‬تالحظني أمي فتميل ّ‬ ‫علي‪ ،‬يتو ّقف الحديث حتّى‬ ‫وتحمل عن ّي الكيس‬ ‫ّ‬ ‫محتجة بأنّه ساخن ّ‬ ‫نصعد إلى بيتنا‪ .‬تتناول أختي تريزا األكياس منهم وتفرد الخبز على‬ ‫لتحضر اإلفطار‪.‬‬ ‫الطاولة حتّى يبرد وتدخل إلى المطبخ‬ ‫ّ‬ ‫نجلس في الصالة المتّسعة على الكنب االسطمبولي في انتظارها‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫تكف عن النوم وتتّجه لمساعدة أختها‬ ‫تنادي أمي على عواطف لكي ّ‬ ‫ويبدأ أبي في حكاياته المتكررة‪.‬‬ ‫كان يحكي لنا‪« :‬الجنيه الورق كان يساوي جنيه ذهب وخمسين‬ ‫فضة‪ .‬كان أغلى من جنيه جورج الذهبي»‪.‬‬ ‫تلقمني أمي قطعة خبز ساخن‪ ،‬ألوكها ببطء واستمتاع‪.‬‬ ‫يقول أبي‪« :‬كنت أهتف توب الدمور بخمسة أبيض»‪.‬‬ ‫أش ّد قطعة من الرغيف الساخن وأمضغها على مهل‪.‬‬

‫«في الحرس الملكي كن ّا نشوف موالنا زي األسد‪ ،‬كان له لبدة‬ ‫على كتافه‪ ،‬ولما يتمطع كأنه في غابة بيصرخ»‪.‬‬

‫إلي تاركا سرده‪« :‬يا واد ما تكلش العيش حاف كده‬ ‫يلتفت أبي ّ‬ ‫من غير غموس! ناوليه قوطة وال خيارة وحطي له جبنة في العيش»‪.‬‬ ‫وأمتص مياه البندورة وألقيها جانبا‪.‬‬ ‫أترك الخبز الملطّخ بالجبن‬ ‫ّ‬

‫«كنا في سيناء ساعة الفالوجا‪ ،‬عملت بدوي ودخ ّلت لهم جمل‬ ‫محمل مون‪ ،‬ما كنش عبد الناصر سهل‪ ،‬سألني عشان يوقعني في‬ ‫الكالم‪ ،‬قلت له يعيش موالنا وجيش موالنا»‪.‬‬ ‫أنهض تجاه الخبز المفرود على الطاولة وأتناول رغيفا وأختبئ‬ ‫به داخل خزانة الكنبة االسطمبولي‪.‬‬ ‫«ما تشوفوا حاجة للواد ده بدل العيش الحاف ده»‪.‬‬

‫تر ّد أمي عليه أ ّن العيش الحاف ير ّبي له كتاف‪.‬‬ ‫‪16‬‬


‫ترص عواطف األطباق على الطاولة‪ ،‬وتلحق بها تريزا التي‬ ‫ّ‬ ‫تجلسني على حجرها وتكتف يدي وهي تحاول عبثا أن تزغطني‬ ‫مثلما تفعل مع ّ‬ ‫البط‪ .‬أصرخ وأغلق فمي وأبكي وأ ّدعي الموت‪.‬‬ ‫يشدّني أبي منها وهو ير ّبت على ظهري حتّى تزول الزغطة المز ّيفة‪.‬‬ ‫تناولني أ ّمي كوب الماء وهي ّ‬ ‫ترش منه رذا ًذا على وجهي حتّى يزول‬ ‫احمراره‪ .‬أفلت منهم وأخطف رغيف خبز وأركض إلى التراسينة‪،‬‬ ‫أنزع بأسناني قطعة كبيرة منه وأنا أصعد السلم إلى السطح‪ ،‬وأجلس‬ ‫على سوره وأنا آكل وأفتل من بطانته الطرية فتاتا للطيور لتأكل معي‪.‬‬

‫‪17‬‬



‫يختفى كقط هارب من صاحبه‬ ‫باكرا من البيت إلى دكّانه‪ ،‬يرتدي جلبابه الكستور‬ ‫كان جارنا يخرج ً‬ ‫المخطّط بالطول والجاكت فوقه‪ ،‬ويعلو فوق رأسه طربوشه األحمر ذو‬ ‫يكف عن التحرك مع مشيته‪ ،‬يخرج ديفيد في أثره بشعره‬ ‫الزر الذي ال ّ‬ ‫المص ّفف وقميصه األبيض المفتوح حتى أسفل صدره وبنطاله الرمادي‪.‬‬

‫باكرا‪،‬‬ ‫لم يكن يذهب للمدرسة اإلسرائيلية معنا‪ ،‬كن ّا نخرج منها ً‬ ‫وكان يعود ّ‬ ‫متأخ ًرا عن ّا بساعات‪ ،‬كان في مدرسة «الفرير» على ناصية‬ ‫الخرنفش‪ ،‬وأخته سارة تدرس بال «بون باستير»‪ ،‬بينما تبقى الخالة‬ ‫توزع علينا البومبون‪ ،‬وتبعدنا عن باب أم زكي التي كانت تخرج‬ ‫إستير ّ‬ ‫تكف عن‬ ‫ُخربه‪ ،‬مع أنّها ال ّ‬ ‫لتتحسس الحائط وهي ال ترانا و َتدّعي أنّنا ن ّ‬ ‫ّ‬ ‫النداء علينا يوم السبت إلطفاء النور‪ ،‬ومع هذا فهي ال تعطينا بومبون‬ ‫مثل الخالة إستير‪ .‬كانت األبواب مفتوحة دائ ًما ال تغلق ّإل عند‬ ‫النوم‪ ،‬وكانت ش ّقة ع ّم زكي مكانًا مالئ ًما لالختفاء‪ ،‬فهو خادم معبد‬ ‫نادرا‪ ،‬وأ ّمه كفيفة ال ترى‪ ،‬إنّها تسمع‬ ‫القرائين‪ ،‬وال يظهر بالبيت ّإل ً‬ ‫ّ‬ ‫وتشك فينا بدا ٍع وبدون داعٍ‪.‬‬ ‫همسنا‬ ‫‪19‬‬


‫يجذبني أبي من يدي إلى الدكان‪ ،‬أمشي معه وأحاول أن أق ّلد مشيته‪،‬‬ ‫إذ يفرد صدره العريض ويخطو بهدوء وجلبابه الصعيدي يبرز أكتافه‬ ‫العالية‪ ،‬والصديري الحريري يظهر من فتحة الجلباب المسرجة بقفطان‬ ‫ذهبي‪ ،‬وعمامته البيضاء تزيده ً‬ ‫شب بجسده ستطول‬ ‫طول‪ ،‬كنت أظ ّن أنّه لو َّ‬ ‫رأسه السماء‪ ،‬لم يكن يستخدم الحديدة لجذب باب الدكّان من أعلى‪،‬‬ ‫فقط يم ّد يده وينزل به‪ ،‬أحمل المنشأة وأجلس على كرسيّه أق ّلده لحين‬ ‫انتهائه من الصالة‪ ،‬أعرف أنّه لن يضربني‪ ،‬لكن ّي أخشى نظرته عندما‬ ‫أخطئ في محاسبة الزبون‪ ،‬وأخشى أن يزغدني بطرف ك ّفه في كتفي‬ ‫يكف عن تعليمي‬ ‫معاقبا لي أنّني قصصت القماش ناقص سنتيمتر‪ ،‬وال ّ‬ ‫أقص بزيادة فنخسر‪،‬‬ ‫أن أزيد فضلة ليأخذ الزبون ح ّقه‪ ،‬بينما أخشى أنا أن ّ‬ ‫كنت أهرب بعدها متجها إلى البيت‪ ،‬وكنت أعرف أ ّن أخي األكبر سيأتي‬ ‫في إثري ويحملني إلى الدكان‪ ،‬ولهذا كانت ش ّقة عم زكي ضرورية‪.‬‬

‫أركض إلى البيت‪ ،‬أقف حتّى تهدأ أنفاسي‪ ،‬ثم أدخل أسفل سرير‬ ‫أم زكي‪ ،‬سرير نحاسي ٍ‬ ‫عال بعمدان تقترب من سقف الغرفة المرتفع‪،‬‬ ‫تنزل من عمدانه ناموسية ناعمة ش ّفافة تالمس األرض وأطراف‬ ‫المالءة‪ ،‬تحت السرير كليم‪ ،‬أجلس عليه ورأسي ال يصل إلى الشرائط‬ ‫المعدنية للسرير‪ ،‬أرقد وأتأ ّمل تداخل الشرائط المعدنية وأتساءل‪:‬‬ ‫ل َم ليس لديهم ُم َّلة خشبية مثلنا؟! وأرسم بإصبعي على الكليم قطعة‬ ‫أقصها وأن أحافظ على‬ ‫قماش زاهية اللون‪ ،‬وأتّكئ وأنا أحاول أن ّ‬ ‫المقاس‪ ،‬وأزغد نفسي وأقول‪ :‬ما تقطعش بالناقص‪ ،‬إقطع بالزيادة‪،‬‬ ‫إدي الناس حقها‪ .‬إنت ايه ما بتعرفش ربنا!‬ ‫‪20‬‬


‫تهتف أ ّم زكي منادية خالة إستير التي تأتي إليها‪ .‬تسألها أن تبحث‬ ‫ٍ‬ ‫عن ٍّ‬ ‫مختف تحت السرير‪ ،‬تهبط إستير على األرض بيديها وترفع‬ ‫قط‬ ‫إلي مبتسمة‪ ،‬وهي تخبرها‪ :‬القط ده هادي راقد‬ ‫مالءة السرير وتنظر ّ‬ ‫ما بيعملش حاجة‪.‬‬ ‫أم زكي‪ :‬طب حطي له حاجة ياكلها‪.‬‬

‫تقول إستير ‪ :‬ح ابعت له سارة تهشه لو بيضايقك‪.‬‬

‫تخرج وتترك أم زكي فوق السرير وهي تبسبس حتى أخرج من‬ ‫تحت السرير‪.‬‬ ‫تأتي سارة وهي ال تزال بمالبس المدرسة‪:‬‬

‫?‪Salut, ça va‬‬ ‫?‪Tu vas bien, sara‬‬ ‫‪Ça va‬‬

‫ما تتكلميش فرنساوي يا سارة عشان القط ما يفتكرش ان إحنا‬ ‫بنتكلم عليه‪.‬‬

‫إلي‬ ‫تنزل سارة وتراني وتسخسخ على نفسها من الضحك‪ .‬تشير ّ‬ ‫أهز أكتافي رافضا‪ ،‬تدخل‬ ‫بالبومبون حتى أخرج من تحت السرير‪ّ .‬‬ ‫إلي وهي مبتسمة‪ ،‬وترقد بجواري وتقبلني في رأسي وتسألني ‪ :‬مالك‬ ‫ّ‬ ‫مين ز ّعلك؟‬ ‫ال أجيب‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫علي وتعطيني البومبون وتخرج‪ :‬سيبوه هو ح يخرج لوحده‪.‬‬ ‫تر ّبت ّ‬

‫غلبني النوم‪ ،‬صحوت ألجد نفسي في سريري‪ ،‬وال أعرف من‬ ‫حملني وال كيف أو متى‪ ،‬فقط أستمع إلى تلميحات عن القط الذي‬ ‫يختبئ تحت سرير أم زكي وال يستطيع إخراجه ّإل الجميلة سارة‪.‬‬

‫‪22‬‬


‫سكان األودش الجدد‬ ‫أذكر وقع خطواتي المتتابعة على الحجارة البيضاء‪ ،‬النتوءات‬ ‫نعمتها وقع األقدام‪ ،‬أنطلق خلف خالي إلى بيت العائلة القديم‪،‬‬ ‫يذهب الستالم اإليجار عند مطلع ّ‬ ‫مرتي األولى‬ ‫كل شهر كانت ّ‬ ‫تعرجات غير متناهية‪ ،‬حوائط البيوت‬ ‫معه‪ ،‬يلتو بنا الطريق في عدّة ّ‬ ‫العالية تزخرفها إطارات ناعمة بلون مصفر مغبر وأبوابها المعدنية‬ ‫يتوسطها رسم لنجمة داود‪،‬‬ ‫المشكّلة من أعمدة متوازية ومتشابكة ّ‬ ‫تتوهج‬ ‫وأبواب أخرى خشبية يبرز في وسطها رسم لشمعدان‬ ‫ّ‬ ‫شعلته‪ ،‬نقف أمام النادي الزيوني ونلتف للبيت المواجه‪ ،‬ننزل درجة‬ ‫التفت إلى البوابتين المفتوحين‬ ‫عالية‪ ،‬يخطوها خالي وأقفزها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫على مصراعيهما‪ ،‬مشبوكتان إلى الحائط بشنكل حديدي طويل‬ ‫يعلوه الصدأ‪ ،‬وحافتاهما السفليتان مغروزتان في األرضية‪ ،‬الرخام‬ ‫المعرق في األرضية تشتبك عروقه المفرجة في حافة البوابتين‪،‬‬ ‫ترتسم الخطوط الحمراء الباهتة وتنحرف حوا ّفها بجوار حوائط‬ ‫الحوش الواسع المز ّينة بعتبة خشبية كان لونها بنّيًّا ّ‬ ‫تقشر عنها‬ ‫‪23‬‬


‫الطالء في أغلبها‪ .‬تنفرج أبواب خشبية في حوائط الحوش‪ّ ،‬‬ ‫يطل‬ ‫من بعضها نساء يرتدين جالبيب منزلية‪ ،‬ويستند إلى أحدها رجل‬ ‫يقف على قدم واحدة ويستند باألخرى الملوية على الباب‪ّ ،‬‬ ‫يدخن‬ ‫سيجارته‪ ،‬وينفث دخانها وهو يراقب تصاعده إلى السماء‪ .‬يلقي‬ ‫عليه خالي التحية فير ّد عليه رافعا يده اليمنى‪ ،‬أرى وش ًما لصليب‬ ‫بلدي على طول ذراعه‪ ،‬يتوسط الحوش سلم خشبي مسور بترابزين‬ ‫نحاسي غير المع‪ ،‬يقف الدرج صعودا أظن أنه ال ينتهي‪ ،‬أسمع‬ ‫صرير الدرجات الخشبية فألتفت إلى الخلف‪ ،‬يصيبني الذعر من‬ ‫انتصاب السلم وأخشى السقوط‪ .‬أنظر إلى السماء وأعاود النظر‬ ‫إلى الدرجات حتّى أصل إلى نهايتها‪ ،‬أنطلق راكضا في الكوريدور‪،‬‬ ‫يقف خالي مكانه وال ينطلق خلفي‪ ،‬ألتف حول ترابزين الكوريدور‬ ‫ألصل في نهايته لخالي الذي ينتظرني‪ ،‬أمسك يدي حتى ال أفلت‬ ‫منه‪ ،‬أغلب األبواب مغلقة ومع ّلقة بها األقفال‪ ،‬نصل إلى الباب‬ ‫في الزاوية اليسرى من الكوريدور‪ ،‬نقف أمام باب خشبي مزدوج‬ ‫به شراعتان زجاج مطليتان بلون أبيض وتحدّ هما قوائم حديدية‬ ‫مطلية بلون الباب البني‪ ،‬ينقر خالي الباب ثالث نقرات متتابعة‬ ‫وينتظر ويعيد النقر‪ ،‬ينفرج الباب عن سيدة في العقد الثالث من‬ ‫العمر بيضاء ممشوقة القوام ترتدي إيشارب أخضر مز ّين برسوم‬ ‫لورود روزية وينحسر عن شعر بن ّي ناعم تنفلت بعض خصالته‬ ‫على جبينها‪ ،‬ترتدي جلبا ًبا قطنيًا بح ّماالت يصل إلى منتصف‬ ‫فخذيها‪ ،‬انشرح وجهها لرؤية خالي وابتسمت وأحاطته بذراعيها‬ ‫علي تقبّلني وهي تسأل عني‪ ،‬احتضنتني عندما‬ ‫وقبّلته‪ ،‬ومالت ّ‬ ‫‪24‬‬


‫عرفتني وهي تسأل عن والدتي وأحوالها‪ ،‬ولجنا من الباب ألجد‬ ‫ً‬ ‫طويل في آخره باب مغلق وعلى جانبيه ع ّدة أبواب‪ ،‬دلفنا‬ ‫روا ًقا‬ ‫أول باب على اليمين‪ ،‬جلسنا على كنبة اسطنبولي‪ ،‬واستند‬ ‫إلى ّ‬ ‫خالي على وسادتين في منتصف الكنبة‪ ،‬غابت عن ّا دقائق قليلة‬ ‫وعادت بصينية عليها كوبا شاي وليمون‪ ،‬وكان على كتفيها شال‬ ‫أخضر‪ ،‬ابتسمت في وجها عندما الحظت تع ّلق عيني بمفرق نهديها‬ ‫مع ّلقة (بتبص علي ايه يا مبصبصاتي)‪ .‬زغدني خالي فالتفت إليه‬ ‫زاجرا‪ ،‬رفعت كتفي إلى أعلى وتناولت كوب‬ ‫إلي‬ ‫ً‬ ‫ووجدته ينظر ّ‬ ‫الليمون وارتشفت منه عدّ ة رشفات‪ ،‬تساءل خالي عن والدها‪،‬‬ ‫أصرت على بقائي لترسل‬ ‫اعتذر وجذبني من يدي لنخرج‪ ،‬لكن ّها ّ‬ ‫معي اإليجار فور عودته‪ ،‬سألني خالي عن معرفتي لطريق العودة‪،‬‬ ‫أومأت له باإليجاب عندما أشارت لي ‪.‬‬

‫يصر على أن أعود بأسرع وقت ممكن‪ ،‬أغلقت‬ ‫تركنا خالي وهو ّ‬ ‫الباب خلفه ودخلت خلفها إلى المطبخ‪ ،‬كانت تقلب في حلة نحاسية‬ ‫فوق بتوجاز مسطح مطلي بميناء أبيض‪ ،‬سحبت كرسي حمام ووضعته‬ ‫أشب على أطراف أصابعي حتّى أنظر إلى‬ ‫بجوارها ووقفت عليه وأنا ّ‬ ‫ينكب فوقي‪،‬‬ ‫ما بداخل الوعاء‪ ،‬ابتسمت لي وهي تحذرني حتّى ال‬ ‫ّ‬ ‫خرجت من المطبخ بعدما أغلقت البتوجاز وأنا خلفها‪ ،‬أراقب حركتها‬ ‫عن كثب‪ ،‬تفتح الباب المغلق في مواجهة الرواق‪ ،‬الغرفة تغرق في‬ ‫تتسرب من بين ثغرات الشيش المنسدلة‬ ‫الظالم‪ ،‬فيما عدا أش ّعة دقيقة ّ‬ ‫عليه ستائر بيضاء مخملية‪ ،‬ينتصف الغرفة سرير معدني ٍ‬ ‫عال بقوائم‪،‬‬ ‫‪25‬‬


‫تتج ّمع ستائره عند كل عمود ومربوط بزيق حريري‪ ،‬ترقد على السرير‪،‬‬ ‫وأحاول الصعود عليه‪ ،‬تساعدني وأرقد بجوارها‪ ،‬تحتضني‪ ،‬تنتفض‬ ‫فجأة وتخرج من الغرفة‪ ،‬أقفز وأركض خلفها‪ ،‬تتناول إنا ًء فخار ًيا‬ ‫من المطبخ وتفتح باب الشقة‪ ،‬تعلقه وتتجه إلى سلم جانبي في آخر‬ ‫الكوريدور‪ ،‬تصعد إلى السطح وتفتح عشة خشبية من البغدادلي‬ ‫المطلي باللون األخضر‪ ،‬تضع اإلناء الفخاري بداخلها‪ ،‬تتّجه الدواجن‬ ‫إلى اإلناء وهي تلتقط منه‪ ،‬تتناول مسقة المياه وتطلب من ّي االنتظار‬ ‫بجوار العش ّ‬ ‫وأل أفتحها لحين ملئها‪ ،‬تنزل هي وبمجرد أن تختفي‬ ‫في الدرج حتّى أفتح العش محاوال إمساك الديك األسود‪ ،‬تنطلق‬ ‫الطيور من ّ‬ ‫العش وأركض خلفها محاوال إعادتها بال طائل‪ ،‬تصعد‬ ‫وتوجهني لجمع الطيور‪ ،‬أرفض‬ ‫وتراني‪ ،‬تضع المسقة وتقرص أذني‬ ‫ّ‬ ‫وأصر على االنصراف‪.‬‬ ‫العودة إلى الشقة‬ ‫ّ‬

‫‪26‬‬


‫ربما يصل صاحب الخطوات المتعثرة‬ ‫إلى نهاية الطريق‬ ‫يقبع دكّان ع ّم يونان على ناصية حارتنا في بيته القديم الذي بناه‬ ‫مخصص لبيع الخمور‪ ،‬ليس ببار‬ ‫عبر السنين طاب ًقا تلو آخر‪ ،‬دكّانه‬ ‫ّ‬

‫وال يوجد به مكان لتناول المشروبات‪ ،‬فقط يغ ّلف لك الزجاجة في ورقة‬

‫بيضاء أو صفراء ويضعها في كيس بالستيكي أسود‪ ،‬تدفع ث ّم تنصرف‪،‬‬

‫كان ع ّم يونان يزجر الجالسين على الرصيف أمام الدكان ويسبّهم‬ ‫بأفظع الشتائم‪ ،‬ال يقبل بجلوس السكارى أمام محله‪ ،‬اشتر زجاجاتك‬ ‫وانصرف‪ ،‬ربع‪ ،‬نصف‪ ،‬أ ّيا ما كان انصرف به وتناوله في مكان آخر‪.‬‬

‫يخرج بنفسه لدوران الشارع ليتأكّد أنّه ال يرقد أحد زبائنه في‬

‫الطريق‪ ،‬وإن وجد أحدهم دفعه بيده ليفيق ويصرفه‪.‬‬

‫يفر من أمامه وهو‬ ‫كنت شغو ًفا بمراقبة من يفلت من قبضته‪ ،‬أو من ّ‬

‫يجري لينطلق في الحواري المجاورة‪ ،‬أو يعبر من حارتنا ليتّجه إلى بيته‬

‫وهو يترنّح‪ ،‬أقارن بين ما أشاهده في الواقع وبين األفالم العربي‪ ،‬ففيها‬

‫‪27‬‬


‫تنتاب السكير زغطة ويهتف أنا جدع ويمشي مترن ًّحا‪ ،‬قدماه تتعارك مع‬ ‫تراب األرض وتتجه سبعات في ثمانيات‪ ،‬الواقع مختلف ّ‬ ‫فكل سكّير‬ ‫له مشية مختلفة عن اآلخر‪ ،‬من يم ّد في خطوته ومن يتراقص مثل أغنية‬ ‫الرقص تحت المطر‪ ،‬وأحدهم يقف لتحيّة ع ّم أحمد ّ‬ ‫الحلق في منتصف‬ ‫الحارة ويخلع جلبابه ويهتف‪( :‬يا ع ّم أحمد يا أمارة يا حالق العمارة‬ ‫تسمح تمسي عليا بسيجارة)‪ ،‬ثم ينحني له في أداء مسرحي جليل‬ ‫وينتصب قائما فجأة وهو يش ّد جسده وينطلق في مارش عسكري حتّى‬ ‫يخرج من الحارة‪ ،‬القليل كان يغيب عن الوعي في قارعة الطريق‪ ،‬لكن ّي‬ ‫ال أنسى الشيخ الملتحي صاحب زبيبة الصالة الذي دخل يص ّلي بنا‬ ‫وتساءلت‬ ‫سري‬ ‫ُ‬ ‫الفجر وغن َّى (‪ )........‬بدال من القرآن‪ ،‬ضحكت في ّ‬ ‫عن إمكانية دخول ع ّم يونان الجامع ليخرج الشيخ السكّير من إمامة‬ ‫الصالة وعن جواز أن يتقدّم آخر لإلمامة‪ ،‬البعض خرج من الصالة‬ ‫وأعادها بمفرده والبعض أقام الصالة مرة أخرى جماعة بينما انصرفت‬ ‫منشرحا منتشيًا كأنّي في حالة سكر من اتّباع اإلمام السكير‪.‬‬ ‫أنا‬ ‫ً‬ ‫اتجهت إلى البيت ومررت من أمام دكّانه‪ ،‬ع ّم يونان بعينه الخضراء‬ ‫ووجهه األصفر الذي لم تفلح الخمر في تغيير لونه‪ ،‬كان شديد‬ ‫النحافة‪ ،‬تبرز عظام وجنتيه وعروق رقبته‪ ،‬يحرص على ارتداء مالبس‬ ‫أحس بالدماء ساخنة في عروقه أغلق باب دكانه‪،‬‬ ‫واسعة‪ ،‬فمتى‬ ‫ّ‬ ‫وتغاضى ع ّمن يرقد في الشارع من السكارى وصعد س ّلم بيته متقافزا‬ ‫كأنّه يخشى من فوات أمر ما‪.‬‬ ‫يفتح شيش البلكونة وير ّدها ليدخل الهواء البارد من شرفته في‬

‫‪28‬‬


‫المارين في‬ ‫الدور األول‪ ،‬تتساقط آهات وغنج عشقه لزوجته على‬ ‫ّ‬ ‫الشارع‪ ،‬فال يعلم السكّير إن كان مايسمعه من نشوة السكر أو هو‬ ‫أصوات حقيقية‪.‬‬

‫تخرج زوجته يوم األحد صباحا إلى الكنيسة‪ ،‬بشعرها األحمر الالمع‬ ‫وعينيها الالمعة من الليلة السابقة‪ ،‬تجري الدموية في وجهها وخطوتها‬ ‫تلتف حولها نساء الكنيسة يلتمسن الدفء من جسدها‬ ‫نشيطة ال تهدأ‪ّ ،‬‬ ‫الحار‪ ،‬تنطلق الضحكات صارخة وه ّن عائدات‪ ،‬تميل عليه ّن بناتهن‬ ‫وتدسها‬ ‫وأوالدهن‪ ،‬تخرج إحداهن من صدرها ورقة مالية مطوية‬ ‫ّ‬ ‫وتوزع علينا الحلوى‬ ‫في يد ابنتها‪ ،‬تفتح زوجة يونان البوك في يدها‬ ‫ّ‬ ‫والبنبون‪ ،‬أحيانا يأتي نصيبي في لقمة من خبز الكنيسة‪ ،‬آكلها وأنا أمشي‬ ‫وال أنتظر‪ ،‬عيني دائما على ابنة يونان‪ ،‬تصل رأسي إلى كتفها عندما أم ّد‬ ‫قامتي وتشرئب عنقي‪ ،‬تسبقني بعامين في الدراسة‪ ،‬ضفيرتها الحمراء‬ ‫تتأرجح مع مشيتها الراقصة‪ ،‬مريلة المدرسة الكاروهات تتمايل صعودا‬ ‫وهبوطا مع تراقص ردفيها تتماوج أعلى ركبتها وتهبط‪ ،‬يفوح منها عطر‬ ‫مرة‬ ‫أشبه برائحة كوكتيل الفواكه‪ ،‬تخيّلت أ ّن لها طعم الفراولة‪ ،‬حاولت ّ‬ ‫ألتذوق وجنتها‪.‬‬ ‫أن أقترب منها وأخرجت لساني‬ ‫ّ‬ ‫اشمأزت وهي تقول ‪ :‬إيه القرف ده؟‬

‫أشحت بيدي في وجهها (مطلعش طعمك فراولة وال حاجة)‬

‫واتجهت للحائط وبصقت وأنا أمسح فمي وأنظر إليها بطرف‬ ‫عيني‪ ،‬عندما أدارت وجهها عني‪ ،‬ابتعلت ريقي واستحضرت رائحتها‬ ‫وهمست لنفسي (طعمك طلع موز يا بنت اللذينة)‬ ‫‪29‬‬


‫عرقلني أخوها من قدمي عند عودتنا من المدرسة وهو يسبني‬ ‫بالمعفن المقرف‪ ،‬ويطلب من ّي ّأل أمشى معهم من المدرسة وإليها‪،‬‬ ‫توجهت نحوه‬ ‫نهضت من األرض وأنا أبتسم وانتظرت حتى ّ‬ ‫التف‪ّ ،‬‬ ‫ونزغت اصبعي الوسطى في ّ‬ ‫مؤخرته وركضت في االتجاه المعاكس‪،‬‬ ‫انتظرت في نهاية الشارع وتع ّلقت بيد الشيخ السكير وأخبرته أ ّن شكري‬ ‫ابن ع ّم يونان المسيحي ضربني وأنّني أخشى أن أعود إلى البيت كي‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬أمسكنى من يدي ثم وضع يده على‬ ‫ال ّ‬ ‫يترصدني ويضربني ّ‬ ‫يمسني أحد‪.‬‬ ‫كتفي وطلب من ّي أن أمشي إلى جواره ولن َّ‬ ‫تمسكت بجلباب الشيخ‬ ‫كان شكرى وأصدقاؤه ينتظرونني بالفعل‪ّ ،‬‬ ‫وأخرجت لساني لهم‪ ،‬مالوا على األرض والتقطوا األحجار وألقوها‬ ‫علينا‪ ،‬سال دم الشيخ بينما انطلقت أجري إلى بيتنا وأغلقت الباب‬ ‫خلفي‪ ،‬الحجارة تنطلق من الحارة إلى شرفتنا‪ ،‬أمي خرجت لتسمع‬ ‫من العيال إن الشيخ دمه سايل‬ ‫تنده على أم شكري لتنهي الموضوع حتى يرجع أبي من عمله‬ ‫ويجد حال ‪.‬‬

‫ال أجاوب على أسئلة أبي وال أرفع عيني من األرض أتأمل الكليم‬ ‫البني المخطط‪ .‬أسمع كلمات أبي وال أعي منها شيئًا‪ ،‬يقبض أبي على‬ ‫كفي ونذهب إلى بيت عم يونان‪ ،‬عند دخولنا من الباب تضيق عين‬ ‫يونان ويختفي خضارها وتلوي زوجته فمها‪ ،‬ويردف (يعني من جه‬ ‫لحد بيتك جاب الحق عليه)‬ ‫ابتسم أبي في هدوء وأشار برأسه بدون كالم‪ ،‬فأكمل يونان حديثه‬

‫‪30‬‬


‫(يعني بتحرجني باألدب عشان الموضوع يخلص)‪ ،‬صفعني أبي‬ ‫أمامهم‪ ،‬الدم صعد إلى وجهي حتى شعرت أنه سيخرج من أذني التي‬ ‫أصبحت مثل قطعة الكبدة‪ ،‬التفت ألراها تقف أمام حجرتها وهي‬ ‫إلي من أسفل إلى أعلى‪ .‬سحبني أبي‬ ‫تضع يدها في وسطها وتنظر ّ‬ ‫فأفلت يدي من بين كفه وانطلقت جاريا‪ .‬ال أعرف‬ ‫من يدي لنخرج‬ ‫ّ‬ ‫الي أين ؟ فقط لن أعود إلى البيت ‪.‬‬

‫جمعت أصدقائي وأخرجنا ّ‬ ‫كل ما في جيوبنا من جنيهات‪ ،‬ال تكفي‬ ‫لشراء زجاجتين من بيرة استال‪ .‬سنكتفي بواحدة‪ .‬تصدّرت أنا وذهبت‬ ‫إلى دكّانة عم يونان‪ ،‬وضعت الجنيهات أمامه وطلبت منه زجاجة‬ ‫إلي لحظة ونظر للجنيهات الملقية أمامه‪ ،‬م ّد يده إليها‬ ‫ستيال‪ ،‬نظر ّ‬ ‫وأحصاها ث ّم طلب جنيهان آخران‪ ،‬أخرجتهما له‪ ،‬تناولهما وهو‬ ‫ينظر إلى عيني التي تتأمل ضيق عينه الثابتة‪ ،‬أخرج ورقة بيضاء ول ّفها‬ ‫حول زجاجة االستيال ووضعها في كيس أسود وتركها أمامه في‬ ‫طرف الطاولة‪ ،‬شببت حتّى وصلت للكيس ونزعت عن الزجاجة‬ ‫الورقة ونتشت الغطاء المعدني بأسناني وشربت أمامه‪ .‬غالبت نفسي‬ ‫وأمسكت الزجاجة بيدي ومشيت إلى أصدقائي في نهاية الحارة وأنا‬ ‫أق ّلد مشي سكارى األفالم وأصرخ مقلدًا األصوات التي تخرج من‬ ‫شرفته‪ ،‬وأشعر بعينه تخترق ظهري‪ ،‬فأبالغ في مشيتي المصطنعة‬ ‫التفت وتأكّدت أ َّن عينه ال تتبعني‪.‬‬ ‫وأبصق ما شربته في الطريق‪ ،‬بعدما‬ ‫ُّ‬

‫‪31‬‬



‫قطط سوسو الهائمة‬ ‫األول‬ ‫انتقلنا من بيتنا إلى بيت جدي المغلق وأنا في الصف ّ‬ ‫الثانوي‪ ،‬وصلنا في الليل‪ ،‬البيت انطفأت أنواره لق ّلة االستخدام‪ ،‬ألقينا‬ ‫منقوالتنا فوق العفش القديم وسط األتربة المتراكمة عبر السنوات‪،‬‬ ‫استلقيت على سرير جدّتي المعدني المطلي باألبيض الذي كنت‬ ‫صغيرا عند زيارة جدتي‪ .‬رائحة التراب‬ ‫أتقافز عليه بسوسته المعدنية‬ ‫ً‬ ‫تلتصق بسقف حلقي‪ ،‬والخياالت تتحرك في الظالم‪ ،‬هربت منها‬ ‫بدفس رأسي تحت الوسادة‪ ،‬اختنقت‪ ،‬أخرجها ألم ّد يدي أصفع‬ ‫الخطوط الدائرية الش ّفافة المتالحقة ‪.‬‬ ‫تحسست طريقي وفتحته‪ ،‬ظهر سوسو‬ ‫سمعت طرقات الباب‪ّ ،‬‬ ‫األعرج بكشافه المضئ ‪:‬‬

‫أنا جاي أشبط لمبه تنورلكم لغاية ما آجي بكرة وال بعده أظبط‬ ‫الكهربا‪.‬‬

‫تدخل خلف سوسو مجموعة من القطط تتمسح به‪ ،‬أشار لهم‬ ‫‪33‬‬


‫عند عبوره الباب فجلسوا في انتظاره‪ ،‬حملت أحدهم ودخلت به‪،‬‬ ‫نظر إليه سوسو فقفز من بين يدي وجلس خارج الباب‪.‬‬

‫َعبّرت أ ّمي عن إحراجها لعدم تقديم مشروب الضيافة‪ ،‬وكنت‬ ‫أتساءل في نفسي عن كيفية معرفته بأنّنا بال إضاءة‪ ،‬فسألته‪ :‬هو مين‬ ‫قالك ان مفيش نور عندنا ؟‪.‬‬

‫أشار سوسو إلى ّ‬ ‫قط يتقافز بين القطط على الباب ‪ :‬القطة قالتلي‪.‬‬ ‫ابتسمت‪ :‬دي زي العصفورة قالتلي كده ؟‬

‫تحدّ ث عن كالم القطط معه منذ صغره‪ ،‬وأنّه كالقطط له سبعة‬ ‫ساخرا عن قدرته‬ ‫أرواح فقدَ منها روحين فقط في ُدنيانا‪ .‬لما سألته‬ ‫ً‬ ‫على الكالم مع جميع القطط‪ ،‬أجابني بتلقائية أن ليس ّ‬ ‫كل القطط‬ ‫قادرة على الحديث معه فقط القطط ذات األعين المشروطة‪،‬‬ ‫نظرت إلى عيون ّ‬ ‫قط منهم ووجدت حدقة عينه مشروطة من‬ ‫أعلى ألسفل وليست مستديرة‪ ،‬استكمل عمله وهو يحكي عن‬ ‫عدم اعتياده األمر وهو صغير وأحيانا خوف الناس منه‪ ،‬اقتربت‬ ‫وتمسحت في قدمي‪ ،‬خشيت أن أحملها‪،‬‬ ‫قطّة سوداء صغيرة من ّي‬ ‫ّ‬ ‫لما رأى سوسو تر ّددي في حمل القطة ابتسم‪ :‬دي عاوزة تبات‬ ‫معاك ‪ّ .‬‬ ‫تدخلت والدتي في الحديث رافضة بقاء القطة وسألت‬ ‫عن انتهائه من تركيب اإلضاءة‪.‬‬ ‫زر اإلنارة ليضيء المصباح الوحيد‬ ‫أومأ برأسه وهو يطلب من ّي رفع ّ‬ ‫في بيتنا الجديد القديم‪ .‬انصرف على موعد ليستكمل إضاءة المنزل‪،‬‬

‫‪34‬‬


‫أغلقت الباب بعدما تأكّدت من خلو المكان من قططه‪ ،‬بانت الكنبة‬ ‫األسطنبولي بفرشها المشجر بوردات بنفسجية ومسنديها ووسادتها‬ ‫المستديرة‪ ،‬تركت سرير جدتي واستلقيت أخفي وجهي من الظالل‬ ‫المتراقصة على الجدران ‪.‬‬

‫رجعت من االمتحان ألجد أمي أزاحت األتربة ونظفت البيت‪،‬‬ ‫الشبابيك مشرعة ّ‬ ‫تنسل منها أش ّعة الغروب‪ ،‬رائحة جدّتي تفوح في‬ ‫المكان تشبه رائحة خبز يستوي بالفرن‪ ،‬تسقط أش ّعة الشمس عبر حديد‬ ‫شبّاك الصالة لترسم على األرضية مربعات‪ ،‬الباب مفتوح وتجلس‬ ‫فأتحسس رأسها وأشرد‪ ،‬عندما‬ ‫أمامه قطّة سوداء‪ ،‬تتمطّى القطة أمامي‬ ‫ّ‬ ‫وأتوسد حجر‬ ‫كن ّا نأتي لزيارة جدّي كنت أرقد على الكنبة األسطمبولي‬ ‫ّ‬ ‫علي حتى أنام‪ ،‬تغطّي وجهي بطرحتها الحريرية‬ ‫جدّتي وكانت تر ّبت ّ‬ ‫الشفافة السوداء‪ ،‬تحكي لي عن الفتى يونس ما رضي للسفيرة عزيزة‬ ‫بنت سلطان تونس ألنّه في أسر أبوها‪ ،‬عتب عليها جدي‪ :‬لو هتضربيه‬ ‫بالسيرة حاكيه أبو زيد وسعيه ورا العالية ‪.‬‬ ‫رفعني من على حجرها وناولني عكّازه‪ ،‬أزحت ِع ِمامته عن رأسه‪،‬‬

‫علي جدتي ونهرتني‪ ،‬لمعت عيناه‬ ‫كان شعره في سواد الليل‪ ،‬عابت ّ‬ ‫وضحك سن ّه وأجلسني على مسند الكنبة‪ ،‬حكى لي عند درويش‬ ‫قط أسود ّ‬ ‫التكية عندما كان يأتيه ٌّ‬ ‫كل ليلة فيطعمه ويسقيه أربعين ليلة‪،‬‬ ‫في الليلة األربعين يهديه نبوتًا ليس من الزان وليس من األبنوس‪،‬‬ ‫يصبح عليه النهار فيبقى الدرويش العجوز شاب عفيا‪.‬‬ ‫سألت والدتي ‪ :‬هو جدي شعره شاب ‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫تبتسم ‪ :‬ريحه في البيت حاسه بيه ‪ ،‬ال كان كل ما يكبر شعره‬ ‫يغمق سواده ‪.‬‬

‫عندما أخبرتها أن سوسو سينتهي من عمله اليوم التالي‪ ،‬ز ّمت‬ ‫شفتيها لليسار وسكتت‪.‬‬

‫لما سألتها أجابتني ‪ :‬مالقتش غير الملبوس ده يجي يصلح الكهربا‪.‬‬

‫أخبرها أنه فقط مريض بهالوسه ولو كان صاد ًقا في حكيه ما كان‬ ‫بقي على حاله‪.‬‬ ‫ـ ال أنت جايبه عشان تسمع حكايات عن القطط وعنيها المشروطة‬ ‫بالليل‪.‬‬

‫ً‬ ‫وقليل من السكر‬ ‫مألت طب ًقا باللبن البارد وغطست به خبز لدن‬ ‫وض ْعت الصحن أمام الباب من الداخل لكي‬ ‫واتجهت إلى الباب‪َ ،‬‬ ‫ت عليها وهمست في أذنها‪ :‬أنا مش عاوز‬ ‫تخطي القطة عتبة الباب‪ ،‬ر ّب ّ‬ ‫نبوت الدرويش أنا عاوز عصاية التيسير بتاعة جدّي‪.‬‬

‫يظهر سوسو األعرج على بسطة الس ّلم دون أن يصدر لخطواته‬ ‫ّ‬ ‫في‪ ،‬أفشل في إخفاء‬ ‫القط ويفزع ثم يهبط‬ ‫صوتًا‪ ،‬يقفز‬ ‫ويتمسح ّ‬ ‫ّ‬ ‫دهشتي لظهوره المفاجئ‪ ،‬يحمل القط على ساعده ويهبط دون أن‬ ‫يتل ّفظ بكلمة‪.‬‬

‫مرة‬ ‫القطط حوله تختفي ويظهر غيرها‪ ،‬لم أجد قطّي األسود ّ‬ ‫أخبارا عن‬ ‫أخرى‪ ،‬لعبت الكرة مع أبناء الحارة وحاولت أن ألتمس‬ ‫ً‬ ‫قطط سوسو‪ ،‬تج ّمعنا بعد اللعب في حوش البيت حول سيجارة‬ ‫‪36‬‬


‫كيلوباترا نتبادل التخميس فيها‪ ،‬أفتى أحدهم بأ ّن القطط تؤكل ولها‬ ‫نفسا‬ ‫طعم األرانب‪ ،‬سخرنا منه فاستند أحدهم وتناول السيجارة وأخذ ً‬ ‫بعمق‪ ،‬أخرج دخانها وسرد لنا ما سمعه من جدّه أ ّن سوسو يس ّ‬ ‫خر‬ ‫أرواح القطط ً‬ ‫بدل من روحه‪ ،‬فك ّلما صعقته الكهرباء ذهبت روح من‬ ‫أرواح القط واحتفظ هو بروحه الباقية‪ ،‬قررت المشاركة بالتهجيص‬ ‫وأخبرتهم بأ ّن القطط ملبوسة بالعفاريت وهي في خدمته‪.‬‬

‫ً‬ ‫صراخا فهرولنا إلى الصوت‪ ،‬كان سوسو فوق كرسي‬ ‫سمعنا‬ ‫خشبي يرتعد ويتصاعد الدخان من شعره‪ ،‬دفعه أحدهم بعصا خشبية‬ ‫ليترك األسالك العارية من يده‪ ،‬سقط على األرض ووجهه شديد‬ ‫الحمرة وعينه غائبة‪ ،‬حاول ّ‬ ‫الكل أن يساعده ونقل للمستشفى بينما أنا‬ ‫أبحث بعيني عن قططه الغائبة‪ ،‬عاد بوجه مقشور وشعر محترق‪ّ ،‬‬ ‫قل‬ ‫كالمه وهدأت حركاته‪ ،‬صعدت إلى البيت ألجد القطط تنتظرني على‬ ‫بابنا فابتسمت وجلست على السلم أالعبها‪ ،‬لكنني لم أسمع حديثها‪.‬‬

‫‪37‬‬



‫البشارة‬ ‫أوقفتني امرأة عجوز في الشارع‪ ،‬حدّقت في وجهي بشدة وابتسمت‬ ‫رح جاي ‪.‬‬ ‫قائلة‪ :‬ال َف ْ‬

‫اختفت قبل أن أم ّد يدي في جيبي ألنفحها الجنيه‪ ،‬انعطفت في‬ ‫ت‬ ‫الخان أو مرقت من الوكالة‪ ،‬سندت خزينة الكسر تحت إبطي وتل ّف ّ‬ ‫حولي‪ ،‬شارع المعز مزدحم كعادته‪ ،‬مررت من الباب األول للصاغة‬

‫الممر دخلت خان أبو طاقية وصعدت‬ ‫متهر ًبا من كلب يونان‪ ،‬في نهاية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫عمارة الخزائن لسبك كسر الذهب لدى الخواجة‪ ،‬لن يفتح الششنجي‬

‫إال بعد ساعة‪ ،‬فاطمة مشرفة الوردية أخبرتني بأن أنتظر أمام التسجه‬ ‫حتى يفتح ويحدّد عيار السبائك‪.‬‬

‫لم تصدّق أنّني لم أتجاوز عامي الرابع عشر بعد وأني ما زلت‬

‫بالصف الثاني الثانوي‪ ،‬تتّهمني بالدلع لعملي في مصنعنا ورفضي‬ ‫ّ‬ ‫ت‪ ،‬استطردت بأ ّن صورتي وأنا أضع‬ ‫العمل بالسوق‪ ،‬ابتسمت وص َم ّ‬ ‫قدمي على الذهب والنقود حرام (ده َبطَر ع النعمة)‬

‫‪39‬‬


‫ِ‬ ‫دخلت مكتب أبي ؟ أنكرت‪ ،‬سألت نفسي وكيف رأت‬ ‫سألتها ‪:‬‬

‫الصورة؟‬

‫صوت أبي ير ّن في ذهني (لسانك حصانك ان صنته صانك وان‬

‫الصف الثاني االبتدائي عندما جذبني‬ ‫هنته هانك)‪ .‬كنت في إجازة‬ ‫ّ‬

‫من أذني وأخبرني بكلماته تلك بعد أن أخبرت أ ّمي أنّه كان يعطي‬ ‫فاطمة حقنة في حمام المصنع‪ ،‬أنكر أبي وا ّدعى أنّها كانت هي من‬

‫تعطيه األدوية‪ ،‬فقمت بوصف المشهد كما رأيته‪ ،‬وبعد رجوعنا من‬ ‫بيت جدّي لم تعد تعمل لدينا ال فاطمة وال غيرها‪.‬‬

‫سألت فاطمة‪ :‬انتى بتسألي علي سني وانتى عارفاه ؟‬ ‫وتتفحصني ببطء من أسفل ألعلى‪ :‬أصلك كبرت وبقيت‬ ‫تبتسم‬ ‫ّ‬

‫راجل‪.‬‬

‫تأكدت من وزن الشغل وانصرفت دون سالم‪.‬‬ ‫رأيت المرأة العجوز التي اختفت من أمامي من قبل توقف َسيدة‬ ‫ِ‬ ‫وتهمس لها وتنصرف ُم ِ‬ ‫سرعة‪ ،‬السيدة وقفت مكانها مذهولة‪،‬‬ ‫َغريبة‬

‫توجهت إليها أسألها ع ّما قالته لها العجوز‪ ،‬تيقظت وانصرفت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لم ال تنتظر الحسنة ؟‬

‫خرجت من الخان إلى حارة اليهود‪ ،‬أصوات سارينة المطافي‬

‫تدفع الناس للركض على جانبي الطريق‪ ،‬تتبّعت الصوت من شارعنا‪،‬‬

‫ضغطت بساعدي على الشغل وحاولت أن أرفع قدمي الثقيلة بال فائدة‪،‬‬ ‫‪40‬‬


‫جذبني جيراننا حتى ال أدخل الشارع‪ ،‬خفتت أصواتهم المتداخلة(حد‬ ‫يرشه بميه ‪ ...‬هيفوق ‪ ...‬االنبوبة انفجرت ‪ ...‬ال ماس كهربائي ‪...‬‬ ‫ابوه واخوه جوه ‪ ...‬الصنيعية لسه مجوش ‪ ...‬االسعا)‪.‬‬

‫‪41‬‬



‫صبغة شعر بيضاء‬ ‫دخلت الصيدلية‪ ،‬سألت عن صبغة شعر بيضاء‪ ،‬اعتذر مبتسما‬

‫وأخبرني باأللوان المتاحة‪.‬‬

‫أمرر بعض الخيوط البيضاء في رأسي‪ .‬هناك ثالث شعرات‬ ‫أريد أن ّ‬

‫بيضاء في طرف ذقني تختفي عند إطالق لحيتي‪ .‬يحكي لي الخال‬ ‫عن ج ٍّد لنا كان ك ّلما زاد عمره اسو ّد شعره أكثر‪ ،‬الشعرة بعدما تشيب‬

‫مرة أخرى بل تصبح أكثر سوا ًدا مما سبق‪ ،‬هام في دروب‬ ‫ّ‬ ‫وتبيض تسود ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيتزوج منها ويترك بذرته‬ ‫يحط في إحدى البطون‬ ‫قبائلنا ببضائعه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وجرها له وأنزل من عليها بضائعه‪،‬‬ ‫ويرحل‪ ،‬صحبه فتًى رعى ب ْغلته ّ‬

‫ويجلس الفتى على باب خيمته حتّى يترك الج ّد بذرته‪ ،‬مات الج ّد‬ ‫من أعوام وبقي الفتى يحكي حكايته‪.‬‬ ‫على الرغم من مرور السنين ّإل أنه فتى أمرد نحيل‪ ،‬تنسدل من‬

‫تحت قبّعته خصالته المقصوصة‪ .‬يلجأ األحفاد للفتى ليثبتوا مرور‬

‫الجد بقريتهم‪ .‬يأخذهم من أيديهم ويتجه لطرمبة المياه خلف خيمته‬ ‫‪43‬‬


‫ويصب عليهم ليغتسلوا‪ .‬ينظر في وجوههم فيصرف من يصرف‬ ‫ّ‬ ‫ويبشّ ر من يرى أنّه من أبناء عمومتنا‪ .‬وفي لحظة رضا وهو منتش‬ ‫بلحم غزال يسيل مرقه على ذقنه‪ ،‬سألته كيف يعرفهم؟‪ ،‬طلب من ّي‬ ‫أن أغسل وجهي في مياه الطرمبه وأعود‪ .‬أجلسني بجواره‪ ،‬أمرني أن‬ ‫أنظر لوعاء الماء بجوار النار وسألني ع ّما أرى‪ ،‬وجدت وجهي يترقق‬ ‫على صفحة الماء‪ .‬قال‪ :‬إ ّن جبال الكحل تفنيها المراود‪ ،‬والد سيدي‬ ‫كيف جدهم كحل عنيهم رباني مبيتغسلش بالمي‪.‬‬ ‫نظرت لوجهي في المياه وجلست بجواره وانتظرت المزيد‪.‬‬ ‫وسألته عن عمره فضحك ولم يجب‪ ،‬بعد فترة قال‪ :‬عارف كمان والد‬ ‫سيدي مبيشبوش‪ ،‬شعرهم إسود غميق وكل ما بيهرموا بيسو ّد اكتر‪.‬‬ ‫مر على تلك الجلسة عشرون عاما‪ ،‬ومللت الرحيل لدروب عوائلنا‬ ‫ّ‬ ‫ألعرف مرسى فتى جدي‪ ،‬فال هو يستقر وال يعثر عليه الطامعون في‬ ‫اسم قبيلتنا‪ ،‬هم أنواع يغلب عليهم الراغبون في مزج دماء أصالبهم‬ ‫ف يحمل أسرارنا المحمولة من المعابد القديمة‪.‬‬ ‫بدمائنا ليخرج خ َل ٌ‬ ‫ال يعرفون أنّها ال تل ّقن وإنما تسري بيننا دون علمنا أو رغبة من ّا‪.‬‬

‫في عامي الخامس واألربعين‪ ،‬ال تزال رموز قبيلتنا محفورة على‬ ‫ضي الشمس وال شعر‬ ‫سحنتي‪ ،‬فال الدموع تخفي ظالل الرموش في ّ‬ ‫الرأس شاب‪ .‬وأح ّن لزيارة دروبنا‪ ،‬ولو رأوني على هذه الحال لعرفوا‬ ‫أ ّن دمائي خالصة‪ ،‬وسيفتضح أمري بين عجائز القبائل‪ .‬ال ضير من‬ ‫شيبة مصطنعة‪ ،‬فمقتل سيّد سيّدي كان بيد الخائفين من ظاللنا الطائفة‬ ‫ٍ‬ ‫ألحد على قتالها أو التمن ّع عليها في الليالي‬ ‫في الضحى‪ ،‬فال قِبَ َل‬ ‫‪44‬‬


‫القمرية الكاملة‪ .‬كتب على من يحمل من ّا ريح جدّي مصيره‪ ،‬فإما‬ ‫الغربة الدائمة والرحيل بال سكون‪ ،‬وإ ّما انتظار الموت في مكان‬ ‫واحد؟؟‪.‬‬

‫صبغة شعر بيضاء قد ّ‬ ‫تحل المشكلة‪ ،‬إذا صحوت في الفجر‬ ‫حرة وأنا نائم حتّى الضحى‪ّ ،‬‬ ‫وأل أنام في‬ ‫ولم أترك أطياف ظاللي ّ‬ ‫الليالي القمرية التامة‪ ،‬لن يتشكّك بي أحد‪.‬‬

‫بسري ولم تفضحني في‬ ‫تلك المرأة العجوز التي همست لي ّ‬ ‫مقابل مضاجعتها‪ ،‬خطوط ذقنها الزرقاء المدقوقة ترسم عالمة حسن‪،‬‬ ‫وكحلة عينها الكثيفة تخيف سحرة الضوء‪ ،‬وأسنان فرجها نعمتها كثرة‬ ‫فلت منها‪ ،‬وإن اصطادتني فللظالم حيله‪ ،‬فقط لو‬ ‫الولوج فيها‪ ،‬قد أُ ُ‬ ‫أعثر على صبغة شعر بيضاء‪.‬‬

‫‪45‬‬



‫ما تخشى منه يخشى منك‬ ‫هم القابعون في زوايا الجدران‪ ،‬متكورين على أنفسهم‪ ،‬يض ّمون‬

‫أرجلهم إلى صدورهم باحتضانها بسواعدهم‪ ،‬يدفنون وجوههم بين‬

‫وتخف األقدام‬ ‫المارين‪ ،‬وما أن تسكن الحركة‬ ‫أرجلهم خوفا من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتنفسوا الصعداء‪ ،‬ويعطوا ألنفسهم‬ ‫ويسكن الضوء‬ ‫ويحل الظالم حتّى ّ‬

‫مجاال للحركة‪ ،‬مطمئنين لعدم اصطدام أحدنا بهم‪.‬‬

‫عامرو المكان أراهم والرعب محفور في أخاديد وجوههم‬ ‫ُ‬ ‫أتعجب من ّ‬ ‫كل حكايات الخوف منهم‪ ،‬ما أن تأتي سيرتهم‬ ‫الصغيرة‪ّ .‬‬

‫حتى تبدأ االستعاذات والبسملة وقراءة اآليات‪ .‬في البدء كنت أتصن ّع‬

‫تجاهلهم وال ألتفت إليهم‪ ،‬أسمعهم وهم يتح ّدثون بخوفهم من ّا‪،‬‬ ‫ويتفادون أقدامنا أو تعثّرنا بهم‪ ،‬يزعجهم صراخنا فيس ّدون آذانهم‬ ‫عن أصواتنا‪.‬‬

‫كنت أنظر إلى سقف الغرفة عندما يتحدّثون عن ّي‪ ،‬أو أتصن ّع النوم‬

‫إلى أن سمعته يسخر من عجيزتي أمام أخته‪ ،‬لما رآها شاخصة إليها‬ ‫‪47‬‬


‫وأنا أخلع مالبسي‪ ،‬لم أتمالك نفسي ورددت عليه‪ ،‬رأيت اتّساع‬ ‫عينيه وانتصاب أذنيه وتغيّر لونه من الرمادي الطيني إلى الوردي‬ ‫فر من أمامي‪ .‬لم يكن يعلم أ ّن أخته تصعد‬ ‫المطفي وانكتام صوته‪ّ ،‬‬ ‫لسريري في المساء‪ ،‬تغافلهم وتركب خصري‪ ،‬ال أعرف لماذا‬ ‫استفزتني سخر ّيته أمامها‪ ،‬هي بقيت ساكنة ومبتسمة وأردفت بأنّها‬ ‫ّ‬ ‫كانت تعلم‪.‬‬

‫يمسني بسوء أح ٌد في حضوري‬ ‫تلك المجنونة التي ال تطيق أن ّ‬ ‫كل من يضايقني‪ ،‬تغار من ّ‬ ‫أو غيابي‪ ،‬تنطلق فتؤذي ّ‬ ‫كل فتاة أحادثها‬ ‫فتبصق في وجهها ّ‬ ‫لتظل عابسة عدّة أيام‪.‬‬

‫هرب أخوها عندما عرف أنّي أراهم وأسمعهم‪ ،‬وهرب اآلخرون‬ ‫وراءه‪ ،‬وبقيت هي‪ ،‬يزورونها ّ‬ ‫كل فترة وينصحونها بالهرب‪ ،‬حاولت‬ ‫أن تعيدهم‪ ،‬رفضوا أن يدخلوا في خدمتي معها وأن يظ ّلوا عبيدي هم‬ ‫في‪ ،‬وأنّني لم أسع‬ ‫وساللتهم لخلفي من بعدي‪ .‬أنكرت عليهم ظن ّهم ّ‬ ‫يصرون‪.‬‬ ‫لذلك‪ ،‬ولم أطلب منهم ّ‬ ‫أي شيء‪ ،‬لكن ّهم ّ‬ ‫أبناء جنسهم في األماكن األخرى تغاضيت عنهم‪ ،‬لوال صحبتها‬ ‫الدائمة لي ومحاولتها الدائمة إلثارة غيرتي لما اهتممت بهم‪ ،‬أهل‬ ‫األماكن المعمورة طيبون‪ .‬عكس الجوالين في الطرقات‪ ،‬تخبّط‬ ‫الناس الدائم بهم جعلهم يستأسدون ويكشّ رون عن أنيابهم‪ ،‬وكثرة‬ ‫الندبات في أجسادهم أفقدهم اإلحساس باأللم‪ .‬اعتادوا الضوضاء‬ ‫فثقل سمعهم‪ ،‬منهم مشاكسون يؤذون للمتعة‪ ،‬لكن ّهم يتقبّلون الغرباء‬ ‫بعكس عامري األماكن‪ .‬تعاركت مع أحدهم‪ ،‬أراد السكن في جسد‬ ‫‪48‬‬


‫ِ‬ ‫جسدها‪ ،‬قتل أربعة من أرواحها وترك‬ ‫قطة مسكينة وكانت تنازعه في‬ ‫لحقت به عند الروح الرابعة واشتيكته لمارد‬ ‫لها ثال ًثا ليضمن عيشها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫في خدمة سيده‪ ،‬فحكم بالسماح له بسكنى القطة‪ ،‬ألنّه بقي له روح‬ ‫واحدة‪ ،‬وأخبرني أنّني لو لحقت به في الروح األولى أو الثانية لكان‬ ‫قد حكم عليه بتركها ومضيت‪.‬‬

‫أخبرتني بأنّه لن يتركني ألنّي اشتكيته‪ ،‬وسيحمل في صدره صورة‬ ‫ّ‬ ‫التدخل فيما ال يعنيني‪ .‬ونصحتني‬ ‫علي عدم‬ ‫روحي ليؤذيها‪ ،‬وأنّه ّ‬ ‫ً‬ ‫مسال فرفضت‪ ،‬غضبت من ّي‬ ‫بالتقرب من سيده بأن أقدم له د ًما‬ ‫ّ‬ ‫واختفت‪.‬‬

‫و ّ‬ ‫ظل مكاني مهجورا بال عامريه‪ ،‬سمعت في ليلة عواء قطط على‬ ‫بسطة المكان‪ ،‬فظننت أنّه موسم التكاثر ونداء الطبيعة ولكن ّي سمعت‬ ‫تتسرب بين المواء‪ ،‬فحزمت أمري بمقاتلتهم‪،‬‬ ‫أصوات مردة الشوارع ّ‬ ‫يفروا‪ .‬استعنت بقوة الكلمة‪ .‬ر ّددت‬ ‫إ ّما أن يسكنوا جسدي وإ ّما أن ّ‬ ‫عال ٍ‬ ‫بصوت ٍ‬ ‫وأذكارا أعلم رعبهم منها‪ ،‬لكن ّهم تركوا أجساد‬ ‫آيات‬ ‫ً‬ ‫علي مستهزئين بي‪ ،‬مر ِّددِين أ ّن أوالد الطرقات‬ ‫القطط وهجموا ّ‬ ‫ال يخشون الكلمات‪ ،‬استعذت ور ّددت التحصينات وشعرت‬ ‫بهم يجرحون روحي ليسكنوا جسدي‪ ،‬قاومت ونظرت إلى قلبي‬ ‫أذني عنهم‪ ،‬وسأعمره‬ ‫وأخبرته ّأل يخذلني‪ ،‬ووعدته أنّني سأص ّم ّ‬ ‫وتلويت‬ ‫بكلمات صالحة‪ ،‬وهتفت باسم الله وصرخت بصفاته‪ّ ،‬‬ ‫وقفزت ودرت حول نفسي حتّى يتطايروا من جسدي‪ ،‬أرتفع‪،‬‬ ‫أدور وأرتفع‪ ،‬أصرخ بأسماء الله‪ ،‬يتطايرون وأرتفع‪ ،‬يتساقطون‪،‬‬ ‫‪49‬‬


‫أدور وأدور وأرتفع حتّى آخرهم‪ ،‬أسقط ساج ًدا لله وطالبًا منه أن‬ ‫يسحب نعمته ألنّي لم أصنها ولم أتح ّملها‪ .‬آمنت بأ ّن الجهل صيانة‬ ‫للجهالء‪ ،‬والعلم نور لألتقياء‪.‬‬

‫‪50‬‬


‫حال األنس‬ ‫تجولت في الشارع دون وجهة‪ ،‬سمعت صوته في أذني‪ »:‬الشيخ‬ ‫ّ‬ ‫تكرر األمر‪،‬‬ ‫يطلبك في مسجد السلطان «‪ ،‬ألتفت حولي‪ ،‬ال أحد‪ّ ،‬‬ ‫أستجيب‪ ،‬الطيف يخبرك‪.‬‬

‫توجهت للميضه غسلت وجهي‬ ‫كنت راقدا في صحن الجامع‪ّ ،‬‬ ‫ودخلت المرحاض‪ ،‬الب ّد أنّه يخبرني بشيء وأنا ال أفهمه‪ ،‬أفرغت‬ ‫مثانتي‪ ،‬نزلت من ّي نقاط‪ ،‬تخ ّلصت من ضغط االحتقان‪ ،‬وذكّرت نفسي‬ ‫بضرورة زيارة صديقتي‪ ،‬لم ألمس أنثى من ع ّدة أسابيع‪ ،‬خرجت‬ ‫من المرحاض‪ ،‬نظرت في وجوه المنتظرين‪ ،‬خرجت من المسجد‪،‬‬ ‫لم أعد إلى غرفتي‪ ،‬صاحب المنزل لم يغلق دكّانه‪ ،‬لو مررت من‬ ‫تحصلت على قيمة شهرين لدفعتها تأمين ًا‬ ‫أمامه سيطالبني باإليجار‪ ،‬لو ّ‬ ‫لغرفة أخرى‪ ،‬اتّصلت بصديق‪ ،‬قابلته في مقهى البورصة‪ ،‬اقترضت‬ ‫منه‪ ،‬ابتسمت عندما فاوضني في المبلغ‪ ،‬يعلم أنّني في ّ‬ ‫كل األحوال‬ ‫لن أر ّده‪ ،‬وعدني بمحادثة شخ ٍ‬ ‫ص َّما ألعمل معه‪ ،‬انصرف وحاسب‪،‬‬ ‫صبي المقهى جز ًءا من الحساب ‪.‬‬ ‫استردت من‬ ‫ّ‬ ‫‪51‬‬


‫في المسجد جلست مستندًا إلى عمود‪ ،‬أرحت رأسي للخلف‬ ‫وأغمضت عيني‪ ،‬غبت للحظات‪ ،‬شعرت ٍ‬ ‫بيد تر ّبت على ركبتي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اعتدلت ونظرت إليه‪ ،‬رجل عجوز حفرت التجاعيد عمره في وجهه‪،‬‬ ‫موشوم على جانبي جبهته عصفور وثالث نقاط‪ ،‬شاربه األبيض‬ ‫مبروم ألعلى‪ ،‬أخاديد عينه توضحها وتظهر الغمامة التي تعوم فيها‪،‬‬ ‫تجاعيد يده ظهر في ثناياها بقايا وشم ألبو السباع ‪ ،‬بها خاتمان فضيان‬ ‫فص ياقوتي أحمر واآلخر زجاجي أسود‪ ،‬نظرت في عينه‬ ‫ألحدهما ّ‬ ‫المعتمة‪ .‬هل يراني؟‪ ،‬فجأة خاطبني ً‬ ‫قائل‪ :‬أنت شيخي‪ ،‬هززت رأسي‬ ‫نافيًا‪ ،‬طرق برأسه قليال‪ ،‬رأيت بياض شعر رأسه من العمامة البيضاء‪،‬‬ ‫م ّد يده في سيالة الجلباب وأخرجها فارغة‪ ،‬مدّها من فتحة الصدر‪،‬‬ ‫رأيت من خاللها صديري ستان المع مخطّط فضة ورصاصي‪ ،‬أخرج‬ ‫سبحة فيروزية طويلة ل ّفها على معصمه األيمن‪ ،‬نظر في عيني «هل‬ ‫يراني بتلك العين المعتمة؟»‪ ،‬نفيت تذكّري له‪ ،‬ضاقت خدود وجهه‬ ‫أحج!! ‪.‬‬ ‫واتسعت‪ ،‬أخبرني برؤيته لي في‬ ‫الحج‪ ،‬لكن ّي لم ّ‬ ‫ّ‬

‫طرق برأسه وتمتم‪ ،‬اعتذرت له ونهضت‪ ،‬لمس طرف بنطالي‬ ‫التفت‬ ‫فلت منه وخرجت مسرعا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهمس بكلمات غير مفهومة‪ّ ،‬‬ ‫خلفي ألتأكد أنّه لم يتبعني‪ .‬عبرت من عدّة حواري ضيّقة‪ ،‬جلست‬ ‫على دكّة فارغة في مقهى شعبي قديم‪ ،‬ظهر العجوز من العدم‪ ،‬جلس‬ ‫جواري ساقاه مربعتان ومستند بكوعه على ظهر الدكة ً‬ ‫قائل‪ :‬اطلب لي‬ ‫شاي‪ .‬نظرت عبر الحارة إلى المرآة في دكان الزجاج المقابل ورأيت‬ ‫نفسى ولم أره‪ ،‬سرت في جسدي قشعريرة‪ .‬وقفت مفزوعا وغادرت‬ ‫‪52‬‬


‫مسرعا‪ ،‬اصطدمت في طابور الخبز‪ ،‬دفعني شاب من نفس عمري‬ ‫قفصا من‬ ‫مستنكرا تعثّري به‪ ،‬خرج العجوز من أول الطابور حامال ً‬ ‫ً‬ ‫علي وأعطاني رغي ًفا بلد ًيا ساخن ًا‪،‬‬ ‫الجريد‬ ‫مفروشا عليه الخبز‪ ،‬طبطب ّ‬ ‫تناولته وأكلته‪ .‬سألت الشاب‪ :‬أتعرفه؟‪ ،‬رفع كتفيه إلى أعلى وتقدّم‬ ‫الشاب رأى العجوز‪ ،‬أكملت‬ ‫مكانه في الطابور‪ ،‬مشيت مطمئن ًا أل ّن‬ ‫ّ‬ ‫التهام الخبز‪ ،‬تو ّقفت وعدت أبحث عنه‪ ،‬لم يظهر في المسجد‪ ،‬ركنت‬ ‫إلى نفس العمود‪ ،‬أسندت رأسي بعين مغلقة وأخرى نصف مفتوحة‪،‬‬ ‫انتظرته‪ ،‬سمعت صوته ً‬ ‫والتفت في‬ ‫قائل مدد يا رب‪ ،‬فتحت عيني‬ ‫ّ‬ ‫جميع االتجاهات ولم أره‪ ،‬انتفضت‪ ،‬وغبت عن الوعي‪.‬‬

‫‪53‬‬



‫مزار الطيف‬ ‫ومن القنوع الرضا بمزار الطيف‪ ،‬وتسليم الخيال‪ ،‬وهذا‬ ‫إنّما يحدث عن ذكر ال يفارق‪ ،‬وعهد ال يحول‪ ،‬وفكر‬ ‫ال ينقضي‪ ،‬فإذا نامت العيون‪ ،‬وهدأت الحركات سرى‬ ‫الطيف ‪.‬‬ ‫طوق الحمامة ـ البن حزم األندلسي‬

‫في البدء كانت تسحر الناظرين بجمالها‪ ،‬تتهادى في مشيتها‬ ‫ليتمكّن الناظرون من التحديق‪ ،‬تشدّ مالءتها وتحكم ل ّفها لتبرز‬ ‫حرية ردفيها‪.‬‬

‫سائل ُ‬ ‫مسحت ألحدهم ً‬ ‫ينزل من شفتيه لما رآها وسخرت منه‪،‬‬ ‫حسدته على جرأته في الحملقة حتى سالت ريالته‪ ،‬بينما ألتزم أنا‬ ‫النظرة الخاطفة‪ ،‬الرؤية العابرة التي ال يلحظها أحد‪ ،‬أمسح على‬ ‫ّ‬ ‫وأهش بك ّفي أمام وجهي كأنّي ال أراها‪ ،‬أبعد صورتها‬ ‫جلبابي المكوي‬ ‫من أمامي أثناء مرورها‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫تختار بمزاجها الشخصي‪ ،‬فتقف وتتحدث إلى أحدهم وتتركه‬ ‫يهر وتنصرف‪ ،‬راسما في خياالته ما يشتهي من صور ال متناهية عنها‬ ‫ّ‬ ‫ومعها‪.‬‬

‫جاءتني متهادية تمشي وعلى وجهها ابتسامة حياء‪ ،‬كنت أمام‬ ‫باب الدكان أهش بمنشتي البعوض‪ ،‬سألتني عن سعر شيء ما‪،‬‬ ‫جاوبتها‪ .‬قطعت الحديث فجأة ونظرت في عيني‪»:‬حلمت بك‬ ‫شق قلبي‪ ،‬تم ّللت في وقفتها‪ ،‬جاوبتها‪ »:‬أنا‬ ‫البارحة»‪ ،‬بريق عينيها ّ‬ ‫أيضا حلمت بك»‪ ،‬ر ّبتت على صدري ضاحكة وانصرفت‪ ،‬الحقتها‬ ‫إلي وشدّت أزر مالءتها على وسطها‪ .‬لم تتحدّث‬ ‫بعيني‪ ،‬التفتت ّ‬ ‫عن التفاصيل‪ ،‬في الحلم استلقت على سرير معدني‪ ،‬سبلت الستائر‬ ‫البيضاء على أعمدته النحاسية‪ ،‬وفردت ذراعيها‪ ،‬ورفعت ركبتيها‬ ‫لتفتح ساقيها في حرية‪ ،‬خلعت جلبابي‪ ،‬أزحت الستائر‪ ،‬غرقت في‬ ‫جسدها‪ ،‬شفاهي لم تترك موض ًعا ّإل وطأته‪ ،‬قبلت جسدها الذي‬ ‫دوامات‬ ‫علت أنفاسه‪ ،‬انغمست فيها والت ّفت ساقاها حول خصري‪ّ ،‬‬ ‫الصعود والهبوط لم تنته‪.‬‬ ‫رأيتها تتد ّلل في مشيتها عبر الشارع‪ ،‬عرفت ثناياها‪ ،‬ردفها األيسر‬ ‫به وحمة‪ ،‬أرى بخيالي ما تحت المالءة‪ ،‬نزلت بنظري وهي تبتعد‪،‬‬ ‫الفضي‪ ،‬اختفت وسط الزحام‪ ،‬لم يفارق‬ ‫عرفت كيف تخلع خلخالها ّ‬ ‫الحلم خيالي‪.‬‬

‫جلست على المقعد الخشبي‪ ،‬وأعطيت لجسدي براحه‪،‬‬ ‫سندت فخذي وطويت ساقي أسفله‪ ،‬مال جسدي لألمام كي أخفي‬ ‫‪56‬‬


‫انتصابي‪( ،‬ال َمرة دي وشها مكشوف) األخريات يخشون االقتراب‬ ‫تورد وجنتيها لم يكن‬ ‫من ّي عندما ألج فيهم حلما‪ ،‬لكنها صارحتني‪ّ ،‬‬ ‫خجال بل من نضارة المعاشرة‪ ،‬وعرقي انساب على جبهتي من‬ ‫إرهاق الليلة السابقة‪ ،‬لم يتم ّلكها الفزع‪ ،‬لم تستجب لجلسات‬ ‫النميمة‪ ،‬وحكاية الجنية التي أنام معها وتغنيني عن النساء وغيرتها‬ ‫فتس ِّ‬ ‫خر عليها جنّيًّا يضاجعها في هيئتي‪،‬‬ ‫من كل امرأة تعجبني‪َ ،‬‬ ‫ن‪ ،‬ذلك‬ ‫َح ّذر البنات من المرور أمامي حتى ال يفقدن عذريته ّ‬ ‫اللغو الذي نقله إلى صحبة األفيون في جلستنا فوق السطح‪،‬‬ ‫ْت أفيونتي وأذبتها تحت لساني‪،‬‬ ‫تحججت بأنّه مجرد هراء‪ُ .‬لك ُ‬ ‫تناولت النرجيلة وأجبت عن ّ‬ ‫تأخر زواجي ضاحكا (الجن ّية مش‬ ‫عاوزة تسيبني) فتوالت القفشات‪.‬‬ ‫عادت وظهرت‪ ،‬رافعة ذراعها تشد مالءتها‪ ،‬ترسم عينها خطوط‬ ‫الفرح‪ ،‬سن ّها الضاحك يلمع لرؤية عيني التي ال تحيد عنها‪ ،‬اقتربت‬ ‫مني‪ ،‬قبالتي انفكّت مالءتها‪ ،‬ظهر قميصها الزاهي‪ ،‬لمتها ولفت‬ ‫ت حولي‪،‬‬ ‫طرفها على ذراعها‪ ،‬وتساءلت عما حدث البارحة‪ ،‬تل ّف ّ‬ ‫وهمست متسائال ع ّما حدث‪ ،‬أنكرت همسي ورنّت ضحكتها‪،‬‬ ‫مجرد حلم‪ ،‬ابتعدت عني قائلة‪(:‬طب ابقى تعالي شقر‬ ‫أخبرتها أنّه ّ‬ ‫ألحسن الوحدة صعبة)‪ ،‬سألتها‪:‬أين؟‪ ،‬أخبرتني ورنين ضحكتها‬ ‫يسبق كالمها‪ :‬في الحلم‪.‬‬ ‫سدل الليل أستاره‪ ،‬أسرعت لمرقدي أضجع عليه‪ ،‬وكالمها‬ ‫يجوب فكري‪ ،‬نمت على صوتها يطالبني بزيارتها‪ ،‬استيقظت ألجد‬ ‫‪57‬‬


‫شيب فودي ازداد والغبار متراكم على األثاث‪ .‬لحيتي طالت فشذبتها‬ ‫ومشطت شعري وانطلقت للسوق‪ ،‬فتحت الدكان‪ ،‬ولم أجب على‬ ‫مرت ببطنها المنتفخ‪ ،‬وقفت أمامي هامسة‬ ‫سؤال جاري عن غيبتي‪ّ ،‬‬ ‫كونها أرملة وفي أحشائها طفل من ّي‪.‬‬

‫‪58‬‬


‫العصافير ال تأكل الجيلي كوال‬ ‫كنا نسكن في فيال بحي مصر الجديدة‪ ،‬وكنت أقضي وقتي في‬

‫الباك يارد بجوار الجراج‪ ،‬أدفع أخي الصغير بعجلته الثالثية‪ ،‬أو أموج‬

‫األرجوحة الكامنة أسفل شجرة الكافور العتيقة‪ ،‬كانت العصافير‬ ‫تسكن الشجرة وتهب جيئ ًة وذها ًبا إلى خارج البيت‪ ،‬اختفت العصافير‬

‫قبل أن نترك البيت ونعود لبيت جدّي في الجمالية‪ ،‬ال أدرك سبب‬ ‫تبرره بأ ّن األوالد العاملين بمخزن الكوال‬ ‫اختفائها‪ ،‬لكن سمعت أ ّمي ّ‬

‫الجديد بجوارنا كانوا يرمون العصافير بالنبال‪ ،‬وأ ّن العمارة الناشئة في‬

‫مقابلنا حجبت ضوء الشمس‪ ،‬لكن ّها لم تكن تجيب لماذا تركنا الغفير‬

‫ولماذا أصبحت الحديقة متشابكة األغصان ونجيلتها عالية وماتت‬ ‫جف ولم يعد يتس ّلق الجدار‪ ،‬مع‬ ‫أغلب الورود فيها‪ ،‬حتّى اللبالب ّ‬

‫الوقت كففت عنها أسئلتي التي كانت تجيب عنها بالصمت‪ ،‬أو تبعد‬

‫وجهها عن ّي وهي تحبس دمعة تحاول الفرار من عينها‪،‬‬ ‫علي يدّعي أنّه يعرف السبب‪:‬‬ ‫أخي يتحاذق ّ‬

‫‪59‬‬


‫ربنا لما اختار بابا عشان يالعبه الطاولة والشطرنج‪ ،‬نسي يقوله‬

‫يرجع لينا ويدينا المصروف‪ ،‬فمشيوا إلنهم مش هيقدروا يشتروا‬

‫جيلي كوال‪.‬‬

‫فأخبرته ‪ :‬هي العصافير بتاكل جيلي كوال يا ناصح ؟‬

‫أجاب ‪ :‬أل ‪ ..‬العصافير شربت من الكوال المدلوقة على األرض‬

‫في المخزن اللي جنبينا‪ ،‬فعشان كده مرجعتش عندنا تاني‪.‬‬

‫تركنا بيتنا وذهبنا لنعيش مع جدّي في الجمالية‪ ،‬لم تكن هناك‬

‫حديقة‪ ،‬لكن ّه كان يصعد معنا إلى السطح لنالعب الحمام في الغية‪،‬‬

‫وربط عجلة سيارة بحبل في البغدادلي في السطح بدال من األرجوحة‪.‬‬

‫تقول أمي ‪ :‬إحنا سيبنا البيت إلن الشارع بقى سوق وبتوع الخضار‬

‫بقوا واقفين قصدنا طول النهار‪.‬‬

‫وأحيانا تقول ‪ :‬العمارات بقت واقفة حولينا في كل حته وبقينا‬

‫مش قاعدين براحتنا‪.‬‬

‫هناك كنت أنا وأخي فقط‪ ،‬هنا في الجمالية يوجد أوالد أعمامي وأوالد‬

‫أخوالي غير أوالد الجيران‪ ،‬بالرغم من كل األقارب والجيرة أحسست‬

‫أني غريب مع أول تعليق ‪ :‬ايه اللي أنت البسه ده ‪ .‬ال أذكر من القائل‪.‬‬ ‫أجبت ‪ :‬سلوبيت‪.‬‬

‫نعم؟؟!! دي عفريته هو انت عامل في مصنع‪ .‬أذكر جيدا أنني لم‬

‫أجب وكان الصمت صديقي ‪.‬‬ ‫‪60‬‬


‫(أسطى) بسبب‬ ‫علي اسم ُ‬ ‫أخبرت جدّي أ ّن أوالد الشارع يطلقون ّ‬ ‫السلوبيت وأنهم يطلقون على زيي (العفريتة)‬ ‫ضحك بش ّدة حتى دمعت عيناه‪ ،‬ر َّبت على كتفي وسألني عن‬ ‫ر ّدي عليهم ـ مرديتش‬ ‫سألني إذا كان يضايقني ما يفعلونه معي‪ ،‬أومأت برأسي‪،‬‬

‫قال ‪ :‬أدامك حل من اتنين ‪ ،‬يا تقولهم انك بتضايق منهم لما‬ ‫بيضايقوك يا اما متلعبش معاهم تاني‬

‫وقتها قررت ّأل أخبرهم بشيء وأن أستمر في اللعب معهم‪،‬‬ ‫تمر‪،‬‬ ‫وعندما أضيق بسخريتهم من ّي كنت أصمت قليال وأدع األمور ّ‬ ‫وعندما تزداد السخرية حدّة وجدت ضالتي في السخرية من أشكالهم‪:‬‬ ‫ـ منخيرك دي ‪ ...‬دي شكمان عربية‪.‬‬

‫ـ يا بت اللذينة ‪ ...‬ده ارئير شعرك مخبيا فيها صراصير من الشارع‬ ‫ـ انت قاعد طول الليل تخطط في البيجامة بتعاتك ‪.‬‬

‫وكانت النتيجة هائلة‪ ،‬تجمع أوالد الشارع بعدما تركتهم وقذفوا‬ ‫شباك غرفتي بالطوب‪.‬‬

‫‪61‬‬



‫الحلبية‪..‬‬ ‫ارتدت أ ّمي جلبابها وألبستني بنطاال قصيرا وأغلقت أزرار قميصي‪،‬‬ ‫َر َفعت ال َمشّ ن َة الفارغة‪ ،‬وضعتها عند فم الطرمبة َ‬ ‫وشدفت المياه عليها‬ ‫لتنظّفها‪ ،‬جففتها بمنشفة برتقالية اللون يشوبها بعض السواد إثر اتساخ‬ ‫سابق‪ ،‬فرشت عليها أوراقا بيضاء مصفرة‪ ،‬ووضعتها بجوار بوابة الدار‬ ‫الخشبية‪ ،‬ألقت على جسدها الملس األسود وسحبتني ورفعت المشنة‬ ‫على رأسها‪ ،‬رفعت المزالج الحديدى من الباب وسحبته للداخل‬ ‫وخرجنا تاركة البوابة مواربة‪ ،‬تجنبنا طين الشارع وصعدنا إلى نهايته‪،‬‬ ‫أشارت لكارو عليها بعض النسوة وجلسنا بجوارهن‪ ،‬العربجي يلتفت‬ ‫للنساء كل فترة يختلس نظرة ويطالب باألجرة‪ ،‬ت َ​َسحبت من جوار‬ ‫ّ‬ ‫يحث‬ ‫أ ّمي ألجلس بجواره‪ ،‬أخذت منه العصاة وق ّلدت صوته وهو‬ ‫البغل على المشي (ليك‪ ..‬ليك‪ ...‬ليك‪ ....‬شي) نغز البغل بطرف‬ ‫العصاة في ذيله ليسرع الخطى‪ ،‬جذب العربجى لجام البغل شاخرا‬ ‫ِ‬ ‫(هسسس) على إثر مناداة أ ّمي‪ :‬هنا يا أسطى‪.‬‬ ‫دخ َلت السوق قبل ازدحامه مت ِ‬ ‫قفزت خلفها أللحق بها‪َ ،‬‬ ‫ّجهة‬ ‫ُ‬ ‫‪63‬‬


‫لوكالة الس ّماك‪ ،‬وزنت المشنة فارغة على ميزان مع ّلق له ذراع به‬ ‫سنجة متحركة تقف على مؤشرات لقياس الوزن يمأل لها العامل‬ ‫يسجل اسمها في ورقة طويلة صفراء‪ ،‬ويكتب‬ ‫المشنة ويعيد الوزن‪ّ ،‬‬ ‫الوزن قبالته‪ .‬كَرت منه ميزانًا قبانيا حملته على ذراعها اليمنى‪ ،‬وسندت‬ ‫بيدها اليسرى المشنة على رأسها وتع ّلقت أنا بالملس خشية أن تضيع‬ ‫مني وال أجدها كما حدث من قبل‪ .‬تناثر البائعون على جوانب‬ ‫طريق السوق‪ ،‬البعض يهتف ببضاعته وآخرون ينتظرون‪ ،‬كررت‬ ‫ت من نطاق‬ ‫الهتافات وشدوت األغاني التي تناجي المشترين أف َل ّ‬ ‫أ ّمي على الفرشة‪ ،‬وانطلقت خلف كرة شراب تركها لي أحد أصحاب‬ ‫التفت‬ ‫الحوانيت‪ ،‬سمعت اسمي ينادي به أحدهم‪:‬كَويتشة‪..‬كويتشة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تجاه الصوت‪ ،‬أبي يقف بجوار الكارو ويثبت جوال العليقة فى خشم‬ ‫الحمار‪ ،‬ركضت إليه عبر الشارع متفاد ًيا أقدام العابرين‪ ،‬تع ّلقت به‬ ‫وأطلقني بيديه عاليا ألح ِّلق فوق رأسه وتل ّقفني في حضنه وقبّلني‪،‬‬ ‫حملني على الكارو ونغز الحمار لينطلق وناولني كيس غزل البنات‬ ‫وقرطاس حالوة‪ ،‬أعطاني لجام الحمار وهو يوجهه بعصاه لنعبر‬ ‫كوبري عبر مياه النيل وننزل عند ِعشّ ة خوص على الضفة األخرى‪.‬‬ ‫جلسنا على مصطبة أمامها طاولة من الجريد‪َ ،‬سأ َلت الحلبية‬ ‫أبي عن طلبه وهي تميل عليه وتلمس عروق رقبته البادية‪ ،‬تأملت‬ ‫َحلقها المخرطة والخطوط الزرقاء على ذقنها‪ ،‬ولمحت مفرق نهديها‬ ‫النافرين من جلبابها الالمع الضيق‪ ،‬طلب قرعة بوظة وجوزة نظيفة‬ ‫علي وسألتني عن طلبي‪ ،‬فمددت يدي إليها فدفعتها‬ ‫للتدخين‪ ،‬مالت ّ‬ ‫‪64‬‬


‫بلطف وهي تضحك في غنج‪ :‬لما أنت عيل وبتعمل كده‪ ..‬أمال لما‬ ‫تكبر هتعمل إيه‪ ،..‬قبض أبي على ذراعها البضة وغرس أصابعه في‬ ‫علي وقبّلتني على‬ ‫لحمها بلطف‪ :‬متكسريش بخاطر الواد‪ .‬مالت ّ‬ ‫طرف فمي‪ ،‬فجذبها ناحيتها‪ ،‬تمن ّعت عليه‪ :‬أبوس الواد آه‪ ...‬لكن‬ ‫أبوالواد بحسابه‪ ،..‬وتنطلق ضحكتها مجلجلة‪ ،‬يجرع أبي مشروبه‬ ‫وينفس دخان جوزته بهدوء وهو يتر ّقبها وهي تتهادى فى مشيتها خارج‬ ‫وداخل العشة طلب منها الجلوس‪ .‬الخوص ٍ‬ ‫خال من الزبائن ال أحد‬ ‫به سوانا‪ .‬سمعت ضجيجا بالخارج وصوت أمي وهي تصرخ باسمي‬ ‫مولولة بضياعي‪ ،‬وسباب أبي وعائلته‪ ،‬دخلت إلى العشة ومعها رجال‬ ‫ونساء من السوق وتلقفتني في حضنها وصفعتني وهي تسبني‪ :‬مش‬ ‫قلت لك ما تروحش معاه يا ابن الكلب‪ ،‬جذبني أبي من ذراعي ناحيته‬ ‫فصرخت من األلم‪ ،‬نشب عراك بين أبي وأمي والمتحيزين لهما‪،‬‬ ‫علي وتقبّلني‪،‬‬ ‫حملتني الحلبية َ‬ ‫وو َق َفت بي خلف الن َصبة وهي تربت ّ‬ ‫مسحت دموعي عن وجهي ولهتني عنهما بمداعبتها‪.‬‬ ‫انتهى الشجار بأن وضعتني أمي على كتفها وخرجت‪ ،‬أصابني‬ ‫عود من الخوص بجرح في وجهي‪ ،‬لم تنتبه لصراخي‪ ،‬أنزلتني من‬ ‫على كتفها ناصية الجسر ووضعتني على السور ألجدها تبكي في‬ ‫صمت‪ ،‬بللت ريقها ومسحت جرحي واحتضنتي ث ّم أشارت إلى‬ ‫فلوكة في النهر‪ :‬لو بطلت عياط هركّبك الفلوكة وأخليك تلعب في‬ ‫رافضا‪ ،‬وطالبتها بكيس غزل بنات‪ ،‬فضحك‬ ‫المية‪ ،‬هززت رأسي ً‬ ‫سنها ولمعت عينها وحملتني وعدنا إلى الدار‪.‬‬ ‫‪65‬‬



‫الهروب إلى النهر‬ ‫النهر يخضع لمن يركبه‪ ،‬ال تنحني أمواجه للعمر وال شيبة الشعر‪،‬‬ ‫لذا خضع لي وأنا ولد سنوات تسع‪ ،‬صرعته بذراعي عاريا قبل أن‬ ‫أضربه بالمجداف‪ ،‬اآلن أتحايل عليه بموتور في الالنش‪ ،‬فرعشة‬ ‫يدي ال يشعر بها وال ينعكس شيبي في عينيه التي شربت ماءها قدي ًما‪.‬‬

‫على الضفة األخرى من النهر كانت استراحة الرئيس‪ ،‬يأتي إليها‬ ‫يستجم أو يستقبل بها ضيوفه‪ ،‬وفي زمانها غفراء البلد يحاصرون‬ ‫الرزق‪ ،‬يطاردون الباعة في األسواق ويفر أمامهم خيالة المتنزهات‪،‬‬ ‫يستقر لهم موضع ّإل وطاردهم الغفراء‪،‬‬ ‫الدراجات لم‬ ‫ّ‬ ‫حتّى مؤجري ّ‬ ‫ركبت النهر في الليل ووجهت الفلوكة لمرسى االستراحة وكمنت في‬ ‫الظالم‪ ،‬حتى أضاءت الكهرباء ظالم االستراحة منتصف الليل‪ ،‬ساويت‬ ‫الجلباب وهذبت الالثة على كتفي وطرقت رأس الطقية الجوخ لتعطي‬ ‫ً‬ ‫مموجا ‪ ،‬ودخلت االستراحة من المرسى‪ ،‬فتحت الباب الزجاجي‬ ‫شكل‬ ‫ً‬ ‫المردود ووقفت وسط االستراحة‪ ،‬دخل الرئيس ليتفاجأ بوجودي في‬ ‫وجهه‪ ،‬وبنبرة ناهرة سألني‪ :‬أنت دخلت هنا أزاي ؟‬

‫‪67‬‬


‫أجبته عبر المرسى‪ ،‬في أثره كان ضيفان أحدهم بمالمح أوربية‬ ‫يتحدّث لآلخر األسمر الذي يشبه أبناء عمومتي بلغة ال أعرفها‪ ،‬تك ّلم‬ ‫الرئيس إليهم بأ ّن أبناء البلد يجدون طريقهم للرئيس من ّ‬ ‫كل الجهات‬ ‫وبرا ور ّبما يتساقطون عليه من السماء وضحك‪ ،‬وسألني عن‬ ‫نهرا ًّ‬ ‫ً‬ ‫حاجتي‪ ،‬فشكوت إليه العمدة الذي يس ّلط الغفر على أبناء البلدة‬ ‫ويقطع عنهم أرزاقهم‪ ،‬وعدني بالتصرف واعتذرت له عن ضيافته‬ ‫لي حتى يتفرغ لضيوفه‪ ،‬وخرجت من المرسى كما جئت‪.‬‬ ‫مر الغفراء على الباعة والخيالة والناس وطالبوهم‬ ‫في الصباح ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشط وأنا مبتسم أنجعص‬ ‫بالعودة إلى أماكن أرزاقهم‪ ،‬جلست على‬ ‫علي أسرعوا في‬ ‫مر الغفراء ّ‬ ‫في جلستى وأتأمل دخان الجوزة‪ ،‬ولما ّ‬ ‫خطاهم وكأنهم يخشونني‪ ،‬وقبل سقوط الليل جاءني مرسال بورقة‬ ‫من الحكومة بأنّني أرسو في النهر بدون ترخيص‪ ،‬واستدعاءات إلى‬ ‫المركز ألخذ أقوالي‪ ،‬تركت المرسال وقفذت للفلوكة ودخلت‬ ‫لالستراحة ليمسكني الحرس المستجدين على مرساتها‪ ،‬الرئيس‬ ‫رحل إلى العاصمة‪ ،‬صرخت مطالبا بمقابلة الرئيس‪ ،‬تركني رئيس‬ ‫الحرس أعود كما جئت بعدما وعدني بإبالغ الرئيس بزيارتي‪.‬‬

‫وتوجهت إلى مأمور المركز لم يقتنع بأ ّن المحضر كي ٌد من العمدة‬ ‫ّ‬ ‫ث ّم أشار أنه لو يعلم بكيديته فهو لديه أوراق يتعامل بها وأن حكاية‬ ‫بائعي المتنزهات ال عالقة لها بالنهر‪.‬‬ ‫إلي وابتسم‪ ،‬لم أتح ّمل‬ ‫دخل علينا العمدة بعد االستئذان ونظر ّ‬ ‫ابتسامته المنتصرة‪ ،‬صرخت فيه (أنا في حمى ربنا وحمى الريس)‬

‫‪68‬‬


‫وخرجت مندفعا من المركز‪ ،‬ورأسى يدور بالفكر‪ ،‬لن يأتي الرئيس‬ ‫قبل عدة أسابيع أو شهور‪ ،‬لو ذهبت للعاصمة لن أتمكن من لقائه‪،‬‬ ‫ربما غادر البالد الجتماعات مع قادة دول أخرى‪ ،‬العمدة لن يتركني‬ ‫سيفتعل المشكالت‪).‬‬

‫انتظرت ولكن لم يظهر الرئيس ويوم تلو يوم تزداد المحاضر حتى‬ ‫صودرت الفلوكة‪ ،‬ويومها ألقيت بهم في النهر وأشعلت في الفلوكة‬ ‫النار‪ ،‬وانطلقت ألصيب العمدة ولكنه فلت‪ ،‬وهربت‪ ،‬استقللت قطار‬ ‫الليل لمحطة رمسيس ومنها إلى اإلسكندرية وعربة لمطروح ثم‬ ‫دخلت سلكاوي إلى ليبيا‪ ،‬أطلقت لحيتي وتلثّمت بشال العمامة‪ ،‬لو‬ ‫رآنى أوالد بلدتي من فواعلية ليبيا لطارت الرسائل بمكمني للعمدة‪،‬‬ ‫علي‪ ،‬هربت لجبال خمير في تونس‪ ،‬أنزل‬ ‫يريدون خدمته بالفتنة ّ‬ ‫جندوبة أقضي حوائجي وأعود‪ ،‬لجرد ‪ ،‬بو خزارة وغيرهم ‪ ،‬عشت‬ ‫بقرية بني مطير بعد عين دراهم بيجي ميلين‪ ،‬وعملت معهم‪ ،‬وكأ ّن‬ ‫مرة للس ّد وعاد‬ ‫ر ّبنا عالم بوجع الغربة في قلبي‪ ،‬مهندس مصرى جاء ّ‬ ‫ليخبرني برسالة بالرجوع‪ ،‬رفض إخباري عن المرسل لك ّن ثبات نظرة‬ ‫عينيه جعلني أتخيّل أ ّن الرئيس عرف بظلمي‪ ،‬عاودت لقريتي على‬ ‫لدوار العمدة وعكفت على بابه (أنا مش قلتلك‬ ‫شط النهر‪،‬‬ ‫وتوجهت ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ ...‬انا فى حمى ربنا وحمى الريس) وانصرفت ‪.‬‬

‫‪69‬‬



‫يا جريد النخل العالي‬ ‫سقط الحاج زكريا من أعلى النخلة‪ ،‬ما حط منطق‪ ،‬مات في‬

‫لحظتها‪ ،‬لم نصدق في البداية ولكن أكد وفاته طبيب الوحدة الصحية‪،‬‬

‫وقع عدّة مرات من فوق النخيل واقفا واحتضن النخلة مرة أخرى‬ ‫مرة واحدة ملقى على ظهره‪ ،‬ساقه الهزيلة مثنية‬ ‫وصعد‪ ،‬هذه المرة نزل ّ‬

‫تحت بدنه الرقيق‪ ،‬يشبه الفراشة وهو يصعد النخل لتأبيره‪ ،‬رفيع مثل‬ ‫يرقة تنتظر االنطالق‪ ،‬يحتضن النخلة كامرأة يلقحها‪ ،‬ذهب وتركنا في‬

‫حيرة من سيجمع البلح من علوه الريح والشمس تأكله‪.‬‬

‫استأذنت أبي في طلوع النخل‪ ،‬صرخت أ ّمي رافضة‪ ،‬ربطت الحبل‬

‫في المطالع حول وسطي وعلقت البلطة في منطاقي وصعدت وباطن‬ ‫قدمى يتخطّى بروز الجذع‪ ،‬جمعت بلحنا ونخيل الجيرة والقرية‪،‬‬ ‫ورفضت أجري وطلبت التصدّق به لروح الحاج زكريا ‪.‬‬

‫ولكن عند تلقيح النخل لم يكن هناك غيري في الناحية‪ ،‬نفضت‬

‫الطلع على النخيل بسبعة جنيهات للواحدة‪ ،‬وبعد عدّ ة شهور‬ ‫‪71‬‬


‫حصدت‪ ،‬وأصبح طلوع النخل مهنتي‪ ،‬صورة الحاج زكريا وهو‬ ‫راقد تحت النخيل ال تفارقني‪ ،‬أنتبه للثعابين الكامنة بين السعف‪،‬‬ ‫أول‬ ‫ال أختار بين بطحها بالفأس أو الهبوط من أمامها‪ ،‬ال مجال للتر ّدد ّ‬ ‫خاطرة تأتي في رأسي أنفذها‪ ،‬أرخي الحبل قليال حول النخلة وأقفز‬ ‫مرة أخرى عدّة‬ ‫إلى أسفل وأنا أضيق الحبل ألحضن النخلة بذراعي ّ‬ ‫قفزات وأكون على األرض واق ًفا‪ ،‬ألتقط أنفاسي وأستع ّد لمواجهة‬ ‫شيحا ملفو ًفا في شا ٍ‬ ‫ش ٍّ‬ ‫مبتل وأتركه يو ًما وآخر‪ ،‬أو‬ ‫الثعبان‪ ،‬أع ّلق‬ ‫ً‬ ‫أصعد ألذبحه بفأسي‪.‬‬ ‫في الناحية القبلية من بلدتنا ارتفعت المباني حول الغيطان‪ ،‬كنت‬ ‫ّ‬ ‫المبتل أمام مرآتها‪ ،‬في‬ ‫أق ّلم الجريد عندما رأيتها تمشط شعرها‬ ‫ّ‬ ‫المبتل ما لفت نظري‪ ،‬غمغمت ونزلت‬ ‫الحقيقة لم يكن شعرها‬ ‫احمرت‬ ‫ببطء‪ ،‬افترشت األرض وأشعلت القلح في األصعة حتى‬ ‫ّ‬ ‫نارها‪ ،‬تناولت الجوزة وأنا أنفث صورة بياض جسدها في قميصها‬ ‫األسود الشفاف مع الدخان‪ ،‬وابتسمت ألنّني لم أسقط عند رؤيتها‪،‬‬ ‫أحكمت الحبل وصعدت‪ ،‬كانت شرفتها منفرجة في الدور الثالث‬ ‫أمامي مباشرة‪ ،‬رقدت تحتضن وسادة بذراعيها وساقيها‪ ،‬والسرير‬ ‫متّسع والغطاء منحسر‪ ،‬وقعت وال يقع إال الشاطر‪ ،‬التوت قدمي‬ ‫ولم تنكسر‪ ،‬وسهراية وراء حكاية عرفت أنها مستأجرة وليست من‬ ‫ناحيتنا‪ ،‬تسعى في األسواق بخضار الفالحين يا نخلتين في العاللي‪..‬‬ ‫يا بلحهم دوا‪ .‬يا نخلتين على نخلتين طرحوا في ليالي الهوا»‪،‬‬ ‫سألتها في السوق عن بلح وأنا أتغن ّى‪ ،‬أجابتني‪ :‬البلح عالى فوق‬

‫‪72‬‬


‫يتفحصني‪ ،‬لملمت الجلباب وثنيت‬ ‫النخل وابتسمت‪ ،‬كان بريق عينها ّ‬ ‫كمي ومددت يدي لمشنتها‪ :‬أنا ركيب نخل‪ .‬اتّسعت عينها والتفتت‬ ‫حولها لترى من حولها‪ ،‬وزغرت لي ناهرة بدون كالم ورفعت طرف‬ ‫منشتها وأسقطته ألمشي من أمامها‪ :‬طلبك مش عندى ‪.‬‬ ‫انصرفت من أمامها وأنا أشدو بموال (قالولي بله يا بلح يا ريتنى‬ ‫كنت بليته)‪.‬‬

‫وعند تس ّلق النخل بدأت أمام شرفتها‪ ،‬لم تكن تمشط شعرها‬ ‫وسريرها فارغ ومرآتها تنعكس منها أشعة الشمس‪ ،‬طال وقوفي‬ ‫على النخلة‪ ،‬هبطت وأخرتها لمعاودة أخرى في نهاية النهار‪ ،‬وما‬ ‫أن لمحتني حتى صفعت الشيش في وجهي‪ ،‬كانت بجلباب السوق‬ ‫والطرحة على رأسها‪ ،‬أنهلت بالبلطة على سباطة فارغة وسمعت‬ ‫عز النهار ورأيت في السماء‬ ‫فتح الشيش ورأيتها كقمر اتّقد نوره في ّ‬ ‫نجو ًما تلمع بجوار الشمس والنخلة تعلو وترتفع وسمعت صوت‬ ‫ارتطام مكتوم وأظلمت الدنيا ‪.‬‬

‫‪73‬‬



‫الجنيهان‬ ‫في انتظار األتوبيس‪ .‬جيبي به جنيهان أصل بهما إلى المنزل‪.‬‬ ‫مواصلة واحدة حتى ال اضطر للمشي مسافة طويلة‪ .‬اتجهت للكولدير‬ ‫وتناولت كوب ماء بارد والتفت عائدا للمحطة‪ .‬شيخ ملتحٍ في نهاية‬ ‫الخمسينات من عمره يرتدي جلبابا قصيرا بنصف ك ّم‪ ،‬أخرج هاتفه‬ ‫المحمول من سيالة الجلباب ونقله للجانب اآلخر‪ ،‬سقطت ورقة‬ ‫بيضاء كانت ملتصقة بالهاتف‪ ،‬تطايرت تجاهي واستقرت أسفل‬ ‫قدمي‪ .‬استمر الشيخ في المشي دون انتباه‪ .‬تجاهلت الورقة وقلت‬ ‫ربما ال يحتاجها‪ ،‬قد يكون عليها رقم هاتف‪ ،‬أو كلمات لتذكيره‬ ‫بشيء‪ .‬خطوت خطوتين وعدت للورقة‪ .‬وجدتها تلونت بلون أخضر‪،‬‬ ‫تعجبت (كانت بيضاء) ملت عليها وتناولتها‪ ،‬كانت مئة دوالر أمريكي‪.‬‬ ‫كرمشتها في كفي ونظرت حولي (مئة دوالر تساوي ثمانمئة جنيه‬ ‫مصري‪ .‬مرتب شهر تقريبا) نظرت في اتجاه الشيخ‪ ،‬ولمحت ظهره‬ ‫وربت على كتفه بيدي األخرى ‪.‬‬ ‫وهو يمد في خطاه‪ .‬انطلقت خلفه‬ ‫ّ‬ ‫إلي بنظرة متسائلة‪.‬‬ ‫التفت ّ‬ ‫‪75‬‬


‫سألته ‪:‬‬

‫ـ مش ضايع منك حاجة؟‬

‫ـ مش عارف‪ .‬يمكن فلوس بس أنا مش عارف‪.‬‬

‫م ّد يده داخل سيالته وأخرج رزمة من النقود فئة المئتي جنيه‪.‬‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وأخرج مجموعة من النقود غير المتراصة‬ ‫ثم م ّد يده ّ‬ ‫والمتداخلة في بعضها‪ ،‬أخرج هاتفه من الجيب اآلخر ومعه مجموعة‬ ‫أخرى من النقود‪.‬‬ ‫ـ أنا معايا فلوس كتير ومش عارف إيه اللي وقع مني‪.‬‬

‫تحسست الورقة الخضراء في ك ّفي القابضة عليها خلف ظهري‪،‬‬ ‫وتر ّددت لحظة وابتسمت‪ ،‬ثم أبرزتها من ك ّفي وأنا أمدّها إليه (دي‬ ‫وقعت منك)‬ ‫ـ آه الميت دوالر ‪ ،‬آه بتاعتي‪.‬‬

‫أخذها وشكرني والتفت عني وانصرف‪ .‬عدت إلى المحطة‬ ‫الكف عن الشرود‬ ‫أنتظر األتوبيس‪ .‬مر الوقت ثقيال وأنا أحاول‬ ‫ّ‬ ‫حتى ال يأتي األتوبيس وال ألحظه‪ .‬بعد نحو ثلث ساعة ‪ ،‬ركبت‬ ‫وأنا مندهش من فراغ األتوبيس ّإل من ركّاب قليلين‪ .‬اخترت نافذة‬ ‫وجلست بجوارها‪ ،‬أسندت ذراعي على حافتها‪ ،‬سارت الحافلة‬ ‫ببطء في اإلشارت المنغلقة التي ال يبدو أنها ستفتح‪ ،‬تشاغلت عن‬ ‫ّ‬ ‫المحلت‪ ،‬نظرت للسماء عندما‬ ‫الطريق بتأ ّمل الشجر العابر ويفط‬ ‫حجبت غيمة الشمس لبرهة‪ .‬نزلت عيني على حائط حجري لمبنى‬ ‫‪76‬‬


‫أثري قديم‪ .‬وسمعت صوت الشيخ (أنا معايا فلوس كتير ومش‬ ‫عارف إيه اللي وقع مني)‪.‬‬

‫غاب باله عنها ولم يالحظ غيابها‪ .‬لم يكن سيالحظ غيابها ً‬ ‫أصل‪،‬‬ ‫إلي وأنا رددت منحة الله لي‪ّ .‬‬ ‫كل‬ ‫هو ال يحتاجها‪ ،‬ر ّبما كانت مرسلة ّ‬

‫أنا رأيتها تسقط منه‪ ،‬وأعرف أنّها له‪ ،‬لكن ّه لم يكن يحتاج إلى هذه‬ ‫تسرعت وركضت خلفه ألعيدها إليه ؟ ‪.‬‬ ‫الورقة‪ .‬لماذا ّ‬ ‫كانت ستكفيني شهرا أو أكثر‪.‬‬

‫عبرت من أمامي أشجار عالية أمام الجدار الحجري‪ .‬ثم ظهر على‬ ‫الحائط نقوش وكلمات بارزة عالية متشابكة‪ .‬حاولت قراءتها بصعوبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عربي قديم ال أعرف نوعه‪ ،‬كأنّه لوحة فنية فوق بوابة ال أراها‪:‬‬ ‫فالخط‬ ‫ّ‬ ‫خافُ َب ْ‬ ‫« َف َم ْن ُي ْؤ ِم ْن ب ِ َر ِّب ِه َف َل َي َ‬ ‫خ ًسا َو َل َر َه ًقا»‪.‬‬

‫وتساءلت لماذا أعدت إليه النقود‪ ،‬حتّى بعدما علمت أنه ليس‬ ‫بحاجة إليها؟‪ ،‬ظن ّي أنني أحتاجها أكثر منه‪ ،‬كنت على األقل سوف‬ ‫أكفي نفسي إحراج طلب سلفة من جيراني أو أصدقائي‪ .‬ما زال‬ ‫الشهر في بدايته ولن أقبض اآلن‪ .‬ابتسمت وأنا أقنع نفسي أن اآلية‬ ‫التي استطعت ّ‬ ‫علي بأنّني فعلت ذلك بوازع ديني‪،‬‬ ‫فك رموزها تشير ّ‬ ‫ال‪ ،‬طب ًعا‪ ،‬ال وازع ديني وال حاجة‪ ،‬أمال بألوم نفسي ليه دلوقتي إنّي‬ ‫ما أخدتهاش وإنّي هروح أدور على حد أالستلف منه؟!‬ ‫أحاول إسكات األصوات المتصارعة في رأسي بال فائدة‪ .‬ماذا‬ ‫لو انتهى العالم اآلن وارتحت من هذا الصداع؟‪.‬‬ ‫‪77‬‬


‫مرت الحافلة بمحطة مزدحمة‪ ،‬وامتأل األتوبيس بالناس‪ ،‬ابتسمت‬ ‫ّ‬ ‫ألنّي بجوار الشباك أخرج وجهي منه أحيانا‪ ،‬قمت قبل محطّتي حتّى‬ ‫أمر بين األجساد المتراصة والمتالصقة‪،‬‬ ‫أقترب من الباب‪ ،‬أزاحم حتّى ّ‬ ‫ألمر دون اعتذار‪ .‬أشعر بأصابع‬ ‫أعتذر أحيانا‪ ،‬وأدفع الكيعان المد ّببة ّ‬ ‫أتعرف‬ ‫أحدهم تعبث في جيبي الخالي‪ّ ،‬‬ ‫أدب ك ّفي عليها وأمسكها حتى ّ‬ ‫وحرك لسانه‬ ‫على صاحبها‪ٌّ ،‬‬ ‫إلي بتح ٍّد ّ‬ ‫شاب يصغرني بعدّة أعوام نظر ّ‬ ‫داخل فمه المغلق‪ ،‬ث ّم أبرز من بين شفتيه شفرة حادة‪ ،‬رفعت ك ّفي عن‬ ‫إلي بقرف واستهجان‬ ‫أصابعه وتركته يسحبها من جيبي الخالي‪ .‬نظر ّ‬ ‫كأنّه يخبرني (يلعنك يا أخي أمال لو معاك فلوس كنت عملت إيه)‬ ‫أمر وأنزل من الحافلة في سالم ‪.‬‬ ‫وتركني ّ‬

‫‪78‬‬


‫قسوة قلب‬ ‫إلي من يستدعيني عندما‬ ‫وهي في غرفة العناية المركّزة أرسلت ّ‬ ‫علمت أنّني بالباب‪ .‬لم أطلب رؤيتها‪ ،‬ال يعنيني سوى أنّني مسؤول‬ ‫يخصها بحكم الواجب‪ ،‬دخلت في صمت وكعادتي ال‬ ‫عن متابعة ما ّ‬ ‫علي‬ ‫ألقي التحية عند الدخول‪ ،‬أر ّد الترحيب بترحيب‪ .‬ألقت سالمها ّ‬ ‫فأومأت برأسي صامتا‪ .‬طلبت من ّي أن أقترب‪ ،‬جررت قدمي الثقيلة‬ ‫وأنا أراقب األنابيب الموصولة بعروقها وكمامة األكسجين المنزلقة‬ ‫إلي لتصافحني‪ ،‬تر ّددت ثم‬ ‫من وجهها‪ .‬وقفت بجوارها‪ ،‬مدّت يدها ّ‬ ‫إلي‬ ‫صافحتها‪ ،‬تشبّثت بيدي فخشيت أن أسحبها‬ ‫فتتضرر‪ .‬نظرت ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهي تحبس دمعة في عينها وأردفت‪ :‬مسامحاك‪.‬‬ ‫ً‬ ‫محاول أن أخفي غضبي الشديد‪.‬‬ ‫سكت ونظرت إلى األرض‬ ‫ّ‬

‫ر ّددت مرة أخرى وهي تهز كفي بوهن شديد ‪ :‬مسامحاك‬

‫سحبت ك ّفي برفق من يدها‪ ،‬وو ّليت وجهي نحو الباب وخرجت‬ ‫ً‬ ‫مهرول ‪ ،‬جذبني من ساعدي بعنف‪:‬‬ ‫دون أن أر ّد‪ .‬خرج خلفي أبي‬ ‫مردتش عليها ليه‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫علي‪.‬‬ ‫نظرت في عينيه بهدوء ولم أر ّد‪ .‬هزني بشدّة ‪ :‬ر ّد ّ‬

‫فرت على الرغم من ّي‪ ،‬رسمت ابتسامة‬ ‫مسحت الدمعة التي ّ‬ ‫مصطنعة‪ :‬دي مستكبرة تطلب من ّي السماح وهيه حتواجه رب كريم‪.‬‬ ‫يترك ذراعي ويخطو للخلف ‪ :‬ال‪ ،‬طلبته ‪.‬‬

‫أنظر إليه متفحصا ‪ :‬هيه كده طلبته؟‬

‫ـ يا بني ده ربنا بيسامح ‪ ،‬إحنا عبيده مش حنسامح؟‬

‫ـ تبقي تطلب منه هو السماح‬

‫حدّثت نفسي وأنا أهرب من أمامه‪ :‬النفوس المنكسرة ال تقوى‬ ‫على السماح‪ ،‬العفو يطلب من األقوياء‪ ،‬أحتاج لجبر الخاطر‪.‬‬

‫استندت على ذراع صديقي للوصول للسيارة‪ ،‬فردت المقعد‬ ‫هزني برفق ليسألني العودة للمنزل ألرتاح من‬ ‫ورقدت مدّعيًا النوم‪ّ ،‬‬ ‫وتعجب من تبريري‪ :‬ساعات‬ ‫تعجب من رفضي‬ ‫ّ‬ ‫الزيارة‪ ،‬رفضت‪ّ ،‬‬ ‫والسر اإللهى هيطلع ‪.‬‬ ‫ارتعب من كالمي‪ :‬فال الله وال فالك يا شيخ ‪.‬‬

‫نظرت إليه بطرف عيني‪ :‬مش فارقة ‪.‬‬

‫أدار الكاسيت فخرج صوت الشيخ أحمد العجمي بتنغيمته‬ ‫ف أَيها الصدِّ ُ ِ ِ‬ ‫ٍ ِ ٍ‬ ‫ن َسبْ ٌع‬ ‫يق أَ ْفتن َا في َسبْ ِع َب َق َرات س َمان َيأْ ُك ُل ُه َّ‬ ‫ِّ‬ ‫وس ُ ُّ َ‬ ‫« ُي ُ‬ ‫ت ُخ ْض ٍر وأُ َخر يابِس ٍ‬ ‫اف وسب ِع سنْب َل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ات َل َع ِّلي أَ ْر ِج ُع إ ِ َلى الن َّا ِ‬ ‫س‬ ‫ج ٌ َ َ ْ ُ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َل َع َّل ُه ْم َي ْع َل ُمو َن»‪.‬‬ ‫‪80‬‬


‫عندما خرج إلينا أبي مسرعا‪ ،‬جذبت الكيس البالستيكي من‬ ‫المقعد الخلفي ونزلت إليه‪ ،‬وقبل أن ينطق بحرف أعطيته الكيس‪،‬‬ ‫فتحه فوجد الكفن والمسك والعطور‪.‬‬ ‫سألني ‪ :‬مش هنروحها البيت تطلع من هناك؟ ‪.‬‬

‫هززت رأسي نافيا‪ ،‬فعاد للداخل دون أن يدعوني للدخول معه‪.‬‬

‫اتجهت لحائط المستشفى وأسندت ذراعي ورأسي وبكيت ‪...‬‬ ‫بكيت كما لم أبك في حياتي ‪.‬‬

‫في صالة الجنازة جرجرني الناس ألقف في الصفوف‪ ،‬في‬ ‫التكبيرة الثالثة أمسكت لساني‪ ،‬جمعت أكبر قدر من اللعاب حتّى‬ ‫يتحرك‪ ،‬لكن ّي كنت أسمع صوتًا داخلي يتنازع األدعية (اللهم اغفر‬ ‫ال ّ‬ ‫لها وارحمها) ولساني ال يتحرك‪ .‬من أين يأتي الصوت؟‪ ،‬أنا ال أغفر‬ ‫لها فلماذا يغفر لها من يسكنني؟؟‬ ‫أشعر بنقاط مياه على صدري تنزلق من ذقني‪ ،‬أمسح دموعي‬ ‫وأسلم وأخرج مسر ًعا‪ ،‬أسابق المشيّعين حتى أحمل نعشها‪ ،‬أدفع‬ ‫كل من يخ ّفف عن ّي النعش هاتفا‪ :‬أجرني‪.‬‬

‫أنزل القبر وألحد لها كما طلبت‪ ،‬وأوسدها بحجر لبن ليّن‪ ،‬أهمس‬ ‫لها وأنا أقبّل رأسها‪ :‬وأنا كمان مسامحك‪.‬‬

‫‪81‬‬



‫معدل ضربات‬ ‫لدي اعتقاد أنها‬ ‫كانت تنظر إلى شاشة هاتفها المحمول ‪ ،‬لكن ّ‬

‫تتنصت على حديثي مع الكابتن‪ ،‬قررت أن أستفزها‪ .‬فكرت في‬

‫استفزازها بينما أتصنع االستماع إلى الكابتن‪ ،‬سألته بصوت مسموع‬

‫وأنا أتصن ّع الهمس‪ ،‬ملتفتًا حيث تجلس عابثة في هاتفها (أنا هحتاج‬ ‫استغنا قريب عشان حامضي عقد مع النادي األهلي)‪ .‬رفعت عينها عن‬

‫شاشة الهاتف‪ ،‬سرقت نظرة إلينا في سرعة وعادت تتصن ّع االنشغال‬

‫بالهاتف‪ .‬كنت أنتظر تلك النظرة ‪.‬‬

‫اسو َّد وجهها‬ ‫كانت عيناها استطالت كقط في ليلة يغيب عنها القمر‪َ ،‬‬

‫ونفرت عروقه كأنها تكبح جماح نفسها حتى الموت ‪ .‬لحظة واحدة‬

‫ودفنت وجهها في شاشة الهاتف‪.‬‬

‫ابتسمت وأنا أتحدث إلى الكابتن عن االحتماالت المتاحة أمامي‪،‬‬

‫وأنا أتراوح بين تأنيب لنفسي على استفزازها وبين تبرير لذلك‪ ،‬حتى‬

‫أستطيع أن أكشف ما وراء االبتسامة المخادعة‪ .‬أتحدث عن روعة‬

‫‪83‬‬


‫لبس النادي وروح جماهيره وأنا أفكّر فى سبب حقدها وغيرتها‬ ‫ونفسنتها‪ .‬فال نحن في فريق جماعي نتصارع على مركز الهداف‬ ‫أو صانع األلعاب‪ ،‬وال حتى بنفس الفريق‪ .‬أنا بفريق الشباب وهي‬ ‫بفريق الفتيات‪. .‬‬

‫كل ما يجمعنا وحدة اللعبة والنادي والكابتن المدرب ‪ .‬أنا أحب‬ ‫إغاظتها‪ ،‬ال أنكر‪ ،‬لكن ّي أشفق عليها من النيران التي تأكلها من الداخل‪.‬‬

‫من أين بدأت الحكاية ؟ منذ أن انضممت إلى فريق كرة السرعة‬ ‫لذوى االحتياجات الخاصة ؟ كال ‪ ...‬قبل ذلك‪ ،‬منذ أن رأيتها في‬ ‫بطولة الجمهورية لذوي االحتياجات‪ .‬كنت أنا مجرد أحد المشاهدين‪،‬‬ ‫كرسي المتحرك حتى وصلت لباب الفرق‪ ،‬أوقفتها‬ ‫دفعت عجالت‬ ‫ّ‬ ‫وعبرت عن إعجابي بأدائها ‪ .‬بالطبع انضممت لنفس ناديها ونفس‬ ‫فريقها‪ ،‬ال أنكر تتبعي ألدائها فلديها ميدالية برونزية‪.‬‬

‫معدل ضرباتي تسعون ضربة في الدقيقة‪ ،‬تزيد عن المئة في‬ ‫المسابقات الرسمية‪ .‬هي حصلت على البرونزية بست وسبعين‬ ‫ضربة ال غير‪ ،‬ميدالية ذهبية في أول مسابقة ورقم جديد يقترب من‬ ‫أرقام البطوالت العادية‪.‬‬ ‫أنا فقط كنت أحاول لفت نظرها ‪ ،‬ال ‪ ...‬أنا أحاول كيدها وإغاظتها‪،‬‬ ‫كرسي‪،‬‬ ‫للتحرك بينما أنا جالس علي‬ ‫تستطيع أن تستخدم عكازيها‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫تتحرك ‪ ،‬هل فعال‬ ‫إنها فعال أفضل من ّي ‪ ،‬أنظر إلى عكازيها وهي‬ ‫ّ‬ ‫أحسدها عليه ؟ أم أشفق على جمالها المنقوص ؟ عندما ترى نظرتي‬ ‫إلى العكازين ترسم ابتسامتها الزجاجية‪ .‬بعد فترة أصبحت ال تبتسم‪،‬‬ ‫‪84‬‬


‫إلي‬ ‫فقط ترد النظرة بنظرة إلى عجل الكرسي‪،‬‬ ‫وأخيرا أصبحت تنظر ّ‬ ‫ً‬ ‫شرارا يخرج من عينيها عبر دمعة محبوسة‪.‬‬ ‫بكراهية‪ ،‬وكأن هناك‬ ‫ً‬

‫طلبت من الكابتن أن يد ّبر مباراة بيننا في التدريب‪ ،‬وانهزمت لها عن‬ ‫طيب خاطر‪ ،‬هل حقا كنت أريد أن تهدأ نفسها ؟ أم كنت أحاول إرضاءها‬ ‫ولفت نظرها ؟ هل اكتشفت الخدعة أم صدقت فعال أنها هزمتني ؟‬

‫إلى بسخرية‪،‬‬ ‫بينما أوشوش المعالج بأني تركت لها المبارة نظر ّ‬ ‫وكأني أرفض االعتراف بالهزيمة ! امتنعت عن الكالم وآمنت‬ ‫استفزها الحديث عن خوض مباراة زوجية نكون فيها‬ ‫بهزيمتي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أنا وهي شريكين‪ ،‬نظرت إلى عجل الكرسي وإلى وجهي من أسفل‬ ‫مرتين وانصرفت دون كالم‪.‬‬ ‫ألعلى ّ‬ ‫شهورا عديدة‪ ،‬بالسؤال عنها تبين أنها اجرت‬ ‫غابت عن الفريق‬ ‫ً‬ ‫عملية جراحية ‪ .‬جبنت عن االتصال بها وتتبعت أخبارها من على‬ ‫البعد‪ ،‬ولكني لم أكن مطمئن ًا‪.‬‬

‫عادت بعد أشهر وهي تمشي بال عكاز‪ .‬نجحت العملية في التخلص‬ ‫من أثر شلل األطفال ‪ ،‬ونجحت هي في إخفاء زكّة خفيفة في سيرها‪.‬‬ ‫انتقلت للفريق األساسي وبقيت أنا من ذوي االحتياجات الخاصة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بدل من أن أخبرها بتع ّلقي بها وامتناني ألنها شفيت‪ ،‬أخبرتها أن معدل‬ ‫صحتها‪.‬‬ ‫ضرباتي ما زال أعلى من معدل ضرباتها وهي في كامل ّ‬

‫‪85‬‬



‫السيد خشبة يحمل سيفًا‬ ‫وال يوم من أيامك يا معلم يعقوب‪.‬‬

‫حدثت بها نفسي وأنا خارج من خلف الجامع األحمر بالرويعي‬ ‫متجها إلى جسر الخليج ألعبر منه للخرنفش‪ ،‬حيث سراي أبناء الشيخ‬ ‫السادات ألصلح لهم بعض أمور النجارة‪.‬‬

‫على ناصية الجسر أوقفني جندي شركسي وبعثر محتويات‬ ‫الخرج‪ ،‬دفع عمامتي السوداء عن رأسي وفتش في نطاقي عن‬ ‫سالح مخفي لم يجده‪ ،‬جذبني من صليبي الخشبي المتدلي‬ ‫من رقبتي إلى صدري‪ ،‬مسح زيت يده في جلبابي‪ ،‬ولم يتركني‬ ‫إال بعدما سبّني وأمرني ّ‬ ‫بأل أد ّلي العمامة على جبهتي أخفي بها‬ ‫وشم الصليب‪.‬‬

‫قمعت غضبي داخلي وتذكرت أيام المعلم يعقوب (كنت في‬ ‫مجموع من جاءوا من الصعيد وانضموا لفرقة حارة النصارى‪ ،‬كنا‬ ‫نركب البغال ونمشي في األسواق‪ ،‬أذقناهم ما كانوا يسممون أبداننا‬ ‫‪87‬‬


‫به‪ ،‬حرمناهم ركوب البغال ووقفنا على نواصي األسواق ندفع‬ ‫عمامتهم البيضاء عن رؤوسهم لكن الجنرال مينو أصدر أوامره‬ ‫بالكف عن ذلك)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عدلت هندامي وأكملت طريقي‪ ،‬قرعت بوابة البيت فتحت لي‬ ‫جارية حبشية حالكة السواد يتع ّلق في جلبابها طفل ال يصل طوله‬ ‫لنطاقها‪ ،‬بشْ رته أفتح منها قليال ولون عينيه أزرق‪ ،‬خمنت أنها ممن‬ ‫تعلقوا بالفرنسيس‪ ،‬سألتها عن حاجتهم في النجارة‪ ،‬أشارت إلى‬ ‫المضيفة وطلبت تصليح المقاعد والدكك‪.‬‬

‫«كنت أرتدي بدلتي العسكرية الحمراء وأضع على رأسي قبعة لها‬ ‫فرو أسود‪ ،‬لوال لون بشرتي لظن الناس أنني من الفرنسيس‪ ،‬وقفت‬ ‫عند حائط بيت السادات وفككت نطاق السروال وأنزلته وأفرغت‬ ‫إلي بغضب‪ ،‬ابتسمت عندما‬ ‫مائي كما يفعل الفرنسيس‪ ،‬رأيتهم ينظرون ّ‬ ‫رأيت الخوف في أعينهم مني‪ ،‬النساء تهرب من أمامي وه ّن تخفين‬ ‫هتفت بإحداهن‪:‬‬ ‫أعينهن البادية من اليشمك بأيديه ّن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫«‪»Charmante‬‬

‫تبسم وبريق‪ ،‬جذبت اليشمك من‬ ‫إلي وفي عينيها ّ‬ ‫كانت تنظر ّ‬ ‫وجهها فصرخت ضاحكة وهربت مني»‪.‬‬

‫عشّ قت خشب الدكك وأصلحت حالها‪ ،‬قدمت لي الحبشية قرعة‬ ‫ثريد مخفوق باللبن‪ ،‬تربعت على األرضية وتناولته‪ ،‬سألتها عن الطفل‬ ‫هل هو ابنها؟‪ ،‬أومأت برأسها باإليجاب وانفلتت من أمامي حتى‬ ‫‪88‬‬


‫األجر مع‬ ‫ال أجرجر الكالم‪ ،‬ث ّم التفتت تسألني عن أجري‪ ،‬أرسلت‬ ‫َ‬ ‫غالم من خدم سيّدها وأوصلني للخارج‪.‬‬

‫«كانت الحبشيات تقفزن من فوق سور الرويعي ويعبرن المتاريس‬ ‫إلى قلعة الجنرال يعقوب يبحثن عن الفرنسيس‪ ،‬لما علمن أنهم‬ ‫يقصدون النساء دون تفريق فال يه ّمهم في األنثى سوى فرجها‪ ،‬وكنا‬ ‫نصيب منهن ما نريد‪ ،‬وكنت أمشي أمام بغل يحمل سيدة فرنسية أدفع‬ ‫وتتحسس‬ ‫عنها العوام والمتطفلين وكانت تتمايل على المكاري تقبّله‬ ‫ّ‬ ‫صدره العاري‪ ،‬وكنت أحسده على ما يالقيه منها‪ ،‬بعض نساء العوا ّم‬ ‫خاصة من ُخطِف من بوالق‪،‬‬ ‫تشبهن بنساء الفرنسيس فلبسن ز ّيهن‪ّ ،‬‬ ‫وغصبن على المواقعة فرفعوا النقاب وكشفوا صدورهن وتمايلوا‬ ‫فذقناهم كما استطعمنا نساء الفرنسيس»‪.‬‬

‫سحبت بغلي خلفي منتظرا عبور الجسر عودة إلى بيتي في حارة‬ ‫التفت‬ ‫النصارى‪ ،‬وأنا أخشى مقابلة الجندي الشركسي مرة أخرى‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يميني ويساري ولما اطمأننت أ ّن الطريق ٍ‬ ‫خال من العسكر قفزت فوق‬ ‫كرباجا‬ ‫أمر من الطريق سوى بضعة عشر ذراعا حتّى وجدت‬ ‫ً‬ ‫البغل‪ ،‬لم ّ‬ ‫يدمي ظهري فقفزت من فوق البغل وركضت تاركا إ ّياه‪.‬‬

‫‪89‬‬





Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.