الراحلون #إليك كتابي

Page 1

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫َّالراحَّلَّون‬ ‫تعددت أسبابُ الرحيل‪ ،‬والفرا ُ‬ ‫ق واح ُد‬

‫أحمد إبراهيم موسى‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫اعتذار‬

‫ُكلهم يبدأونَ ُكتُبَهم بإهداء إال أنا‪ ،‬أبدأ ُ كتابي باعتذار‪..‬‬ ‫اعتذا ٌر لك سيدتي‪،‬‬ ‫فبع َد ُك ِّل ما لقنتيني من أشكال الحروف ومنطوق الكلمات وبعد ُكل ما‬ ‫عجز ُ‬ ‫ت أن‬ ‫علمتيني من دروس النحو والصرف والبالغة واألدب‪َ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ب إهدا ًء يلي ُ‬ ‫وصف ير ُس ُم‬ ‫ق بك‪ ،‬فال َكل ٌم يُداني حُسنَ شملك‪ ،‬وال‬ ‫أكتُ َ‬ ‫جميل سمتك‪ ،‬وال شع ٌر يُوفي حلي َم طبعك‪ ،‬وال نث ٌر يجزي رفي َع قدرك‪..‬‬ ‫َ‬ ‫ب حرفًا وأال أر ُس َم وصفًا وأال أ ُخط سردًا يُنافي ما‬ ‫وأ ُعاه ُدك أال أكتُ َ‬ ‫ربيتيني وشببتيني عليه‪..‬‬

‫من شرفَهُ هللاُ بأن يكونَ ابنًا لك‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الفصلُ​ُاألول‬ ‫ُ‬ ‫قدُتبكيناُأشيا ٌءُصغيرةٌُ​ُألنُ​ُأشياءُأكبرُ​ُتراكمتُقبلهاُ ُ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪1‬‬ ‫لم يستطع القمر‪ -‬رغـم اكتماله ‪ -‬تبديد ظلمة السماء من حوله‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ضبابية فظهر باه ًتا وتائهًا وسط آالف النجوم‬ ‫غمامة‬ ‫غشيته‬ ‫التي تناثرت تراقب حيرته من بعيد‪ ،‬حاول جاه ًدا مضاعفة‬ ‫توهجه آم ً​ًل في إنارة الطريق أمام تلك الفتاة السائرة بخطىً‬ ‫حثيث ٍة في الشارع الرئيسي للمدينة التي انقطعت عنها الكهرباء‬ ‫للمرة الثالثة هذا اليوم‪ ،‬اتسعت عيناها عن آخرهما محاو ً‬ ‫لة‬ ‫استشكاف الطريق المعتم أمامها‪ ،‬كان سيرها في الشارع الذي‬ ‫خًل أو كاد من المارة ش ً‬ ‫ذوذا عن المنطق‪ ،‬لم تبعث وحشة‬ ‫الظًلم فيها الخوف كما فعلت عيون القطط الًلمعة التي‬ ‫تناثرت على جانبي الطريق بعدما فشلت في العثور على شي ٍء‬ ‫حفز عندما ارتفع‬ ‫تأكله‪ ،‬هرَّ ت القطط وحرَّ كت ذيولها في ت ٍ‬ ‫صوت هاتف الفتاة‪ ،‬طالعت االسم الظاهر عليه في المباالة‬ ‫دون أن تجيب‪ ،‬صعدت إلى منزلها وحيَّت أبويها في عجل ٍة ثم‬ ‫دلفت إلى غرفتها عندما عاود هاتفها الرنين للمرة الخامسة‬ ‫فأجابته هذه المرة‪ ،‬جاء صوته م ً‬ ‫حتدا يسألها عن سبب تأخرها‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫حتى الحادية عشرة ً‬ ‫ليًل فأخبرته أنها كانت تتنزه برفقة‬ ‫صديقاتها‪ ،‬انفعل أكثر فقاطعته‪:‬‬ ‫ أنا حرة‪ ،‬أنا مكنتش بعمل حاجة غلط وبابا نفسه مزعقليش‬‫زيك كدا‪..‬‬ ‫ يعنى إيه إنتي حرة؟ ال طبعًا مش حرة‪ ،‬ومن النهاردة مفيش‬‫خروج مع صحباتك تاني بالليل‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ضحكة ساخرة‪ ،‬وقالت ‪:‬‬ ‫ضحكت‬ ‫ نعم؟ ليه خير يارب معلش مش واخده بالي‪ ،‬تكونش جوزي‬‫أو حتى خطيبي؟‪ ،‬بقولك إيه‪ ،‬لما تبقى دبلتك في صباعي إبقى‬ ‫قول اللي تقوله بس قبل كدا إنت ملكش كلمة عليا‪ ،‬ويلًل‬ ‫علشان عايزه أنام‪..‬‬ ‫ كنتي البسه إيه؟‪..‬‬‫ وإنت مالك؟‪..‬‬‫ أنا لما أسألك تجاوبي‪..‬‬‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ يعنى إيه لما تسألني أجاوبك دي؟ إنت اشترتني ولًلحاجة؟‬‫ومع ذلك كنت البسة بنطلون وشيميز‪..‬‬ ‫بلغ انفعاله منتهاه وهو يصرخ في أذنها‪:‬‬ ‫ بنطلون بردو؟‪ ،‬مفيش فايدة يا مها؟ مش قلتلك ألف مرة‬‫متلبسيش زفت؟‪..‬‬ ‫ أنا كدا وهفضل كدا يا حسام وانسى إني أتغير‪ ،‬متقبلني زي‬‫مانا كدا يا أخي‪..‬‬ ‫ يعني إيه مش هتتغيري‪ ،‬إنتي هتلبسي زي مانا عايز مش‬‫زي مانتي عايزة‪ ،‬معنديش استعداد أبقى ماشي في يوم من‬ ‫األيام طرطور ماشي مع الهانم والناس كلها بتتفرج عليكي‪،‬‬ ‫ومش هقبلك كدا ألن اللي بقوله هو الصح‪ ،‬لبسك دا مش‬ ‫مقبول في الدين وإنتي عارفه كدا كويس‪..‬‬ ‫ بقولك إيه‪ ،‬لما تبقى أنت صح في كل حاجة بتعملها ابقى‬‫تعالى كلمني بالدين‪ ،‬قبل كدا متتكلمش معايا ال في خروج وال‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫في لبس وال في أي حاجة ً‬ ‫أبدا‪ ،‬أنا عايزة أعيش حياة تبسطني‬ ‫مش حياة تخنقني‪ ،‬لو بتحبني هتتغير علشاني ألني ببساطة‬ ‫مبتغيرش علشان حد‪..‬‬ ‫قالتها وأنهت االتصال بدون حر ٍ‬ ‫ف إضافي‪ ،‬عندما وضعت‬ ‫الهاتف إلى جوارها حدث شي ٌء نادر الحدوث في حياتها‪ ،‬بكت‬ ‫بدون إراد ٍة منها‪ ،‬سالت دموعها كجدولين رقيقين على وجنتيها‬ ‫الخمر َّيتين وانزلقت تروي الزهور الحمراء المرسومة على‬ ‫وسادتها‪ ،‬آالف األسئلة بدأت تغمر عقلها‪ ،‬لماذا يصر على أن‬ ‫يح َّبها بهذه الطريقة؟ لماذا ال يحبها على طريقتها هي وليس‬ ‫ً‬ ‫رجًل يسألها أين تذهب‬ ‫على الطريقة الشرقية؟ هي ال تريد‬ ‫ومتى ستعود؟ ال تريد رج ً​ًل يأمرها بفعل هذا وينهاها عن فعل‬ ‫ذاك‪ ،‬تريد رج ً​ًل يكملها ال رج ً​ًل يحتويها داخله وهو يريدها‬ ‫ط ً‬ ‫فلة يخاف عليها‪ ،‬هي ليست كذلك ولن تكون أب ًدا‪ ،‬ماذا‬ ‫يضيره إن تأخرت في العودة إلى المنزل وما يؤذيه من طريقة‬ ‫هندامها؟ لماذا ال يحاول فهمها؟ لماذا ال يدرك أنها متمردةٌ‬ ‫بطبعها؟ تعشق االنطًلق وال تخشى نظرة أح ٍد إليها أب ًدا‪ ،‬تفعل‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ك َّل ما تحب دون محاذير أو خوف‪ ،‬لماذا ال يمنحها مساحتها‬ ‫الشخصية فًل يتدخل في أي شيء ليس له ع ً‬ ‫ًلقة به؟ لم يسبق‬ ‫لها الدخول في عًلقا ٍ‬ ‫ت سابقة حتى إنَّ صديقاتها كنَّ يعجبن‬ ‫منها‪ ،‬تعترف داخلها أنها أخطأت عندما سمحت له بالولوج إلى‬ ‫حياتها وبعثرة مخططاتها لنفسها‪ ،‬صحي ٌح أنها لم تقل أب ًدا له‬ ‫أنها تحبه على يقينها من ذلك لكنها على أتم االستعداد لنسف‬ ‫هذا الشعور إن ظنت لوهل ٍة أنه قد يؤثر في شخصيتها أو‬ ‫ينتقص من تقديرها لذاتها‪ ،‬لم تبن كيانها وكينونتها على مدار‬ ‫سنواتها الفائتة حتى يأتي رج ٌل مهما كانت مكانته فيفكر مجرد‬ ‫تفكير في التغيير منها‪ ،‬تفضل دهس قلبها تحت قدميها بًل‬ ‫ٍ‬ ‫رحم ٍة على أن يحدث ذلك‪ ،‬ستبقى كما هي أب ًدا حتى لو كان‬ ‫آخر الرجال على وجه األرض‪ ،‬إن أرادها ً‬ ‫حقا فليتقبلها على‬ ‫حالتها هذه وإال فليرحل عن عالمها بسًلم‪ ،‬كشطت دموعها‬ ‫بأطراف أصابعها ونهضت من فراشها‪ ،‬وقفت أمام المرآة‬ ‫ونظرت إلى وجهها في تحد صارم‪ ،‬ضاقت حدقتاها وهي‬ ‫تتمتم في صو ٍ‬ ‫ت عميق‪" :‬أنا قوية بنفسي ولنفسي ومش‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫هضعف لحد مهما كان"‪ ،‬عادت إلى فراشها بنفس الهدوء‪،‬‬ ‫التقطت الدمية التي أهداها إليها يومًا ما ثم ألقتها على األرض‬ ‫َّ‬ ‫عميق وكأنَّ شي ًئا لم يحدث‪..‬‬ ‫نوم‬ ‫ٍ‬ ‫بمنتهى القوة وغطت في ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪2‬‬ ‫أمعنت الشمس في رفع درجة حرارتها غير آبه ٍة ً‬ ‫أبدا لهؤالء‬ ‫ص دت‬ ‫السائرين تحت أشعتها في هذا الوقت من النهار‪ ،‬تف َّ‬ ‫جلودهم عر ًقا في محاول ٍة لتلطيف حرارة أجسادهم الملتهبة‪،‬‬ ‫ظليل يأوون إليه‪،‬‬ ‫كن‬ ‫ٍ‬ ‫زاغت أعينهم وهم يبحثون عن ر ٍ‬ ‫أخرجوا محارمهم ومسحوا بها قطرات العرق التي أغرقت‬ ‫جباههم ورقابهم ليمنعوها قبل أن تلحق بسابقاتها إلى داخل‬ ‫مًلبسهم‪ ،‬على جانب الطريق وقف شاب في أواخر‬ ‫العشرينيات من عمره وتثبتت عيناه تراقب حركة السيارات‪،‬‬ ‫اشتعل عقله باألفكار حتى صار لهيب الشمس في هذه اللحظة‬ ‫ً‬ ‫سحابة من الجليد تظلل رأسه‪ ،‬اقتربت سيارة أجر ٍة فتأهب لها‬ ‫الجميع‪ ،‬تزاحموا عليها وكأنها الصراط الذي سيحملهم من‬ ‫الجحيم إلى النعيم‪ ،‬تكالبوا يحاول كل واحد منهم الفوز بأحد‬ ‫المقعدين الشاغرين‪ ،‬اشرأبت األعناق وتشابكت األذرع‬ ‫وتناحرت األجساد‪ ،‬وسط الحشد صرخت فتاةٌ ما ثم سقطت‬ ‫على الرصيف من فرط التدافع‪ ،‬لم يكترث أح ٌد لمعاونتها على‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫النهوض بل بدا أ َّنهم لم يسمعوها على اإلطًلق فجميع حواسهم‬ ‫ٌ‬ ‫بكثير من االطمئنان على فتا ٍة‬ ‫بأمر مختلفٍ تمامًا‪ ،‬أهم‬ ‫نشغلة‬ ‫م‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ضعيف ٍة سقطت م ً‬ ‫غشيا عليها‪ ،‬لم يكن الشاب قد انخرط في‬ ‫منازعتهم على المقعدين م ً‬ ‫فضًل انتظار سيارة تالية‪ ،‬التفت إلى‬ ‫جسد الفتاة الممدد في وضعي ٍة مفزع ٍة بًل حراك ونظر إليها‬ ‫نظر ًة شارد ًة جوفاء‪ ،‬لم تصدر منها أية تأوها ٍ‬ ‫ت وظلَّت عيناها‬ ‫مغلقتين لفتر ٍة أطول من المعتاد‪ ،‬أنفاسها البطيئة ترددت في‬ ‫خفو ٍ‬ ‫ت شديد وأنبأته أنها ما زالت على قيد الحياة‪ ،‬أخرج‬ ‫طر صغير ٍة من جيب بنطاله وأشار بها إلى فتا ٍة‬ ‫قارورة ع ٍ‬ ‫أخرى وطلب منها محاولة إفاقة الفتاة المغشي عليها‪ ،‬لم يهتم‬ ‫ً‬ ‫ثانية إلى الطريق الذي ظهرت‬ ‫الستعادة قارورته وأعاد النظر‬ ‫عند بدايته سيارة أجر ٍة أخرى‪ ،‬قاتل هذه المرة على المقاعد‬ ‫الجديدة الذاهبة إلى الجنة ونجح في الظفر بإحداها م ً‬ ‫ستغًل قوة‬ ‫ً‬ ‫سريعة إلى الفتاة التي بدأت‬ ‫جسده بالنسبة للباقين‪ ،‬نظر نظر ًة‬ ‫تسترد وعيها والتقت عيناهما في لحظ ٍة خاطف ٍة لم تتجاوز‬ ‫مدتها الثانية ثم انطلقت سيارته‪ ،‬بدا المشهد أمامه مختن ًقا‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫بعوادم السيارات وسباب الذين لم يتمكنوا من الركوب‪،‬‬ ‫اعتصرت قبضته هاتفه المحمول حتى كاد أن يتحطم وعقله‬ ‫يستعيد كل تفاصيل الليلة الفائتة‪ ،‬آالف الكلمات والحروف‬ ‫تداعت داخل خًليا مخه الرمادية مكو ً‬ ‫نة عشرات الجمل‬ ‫الصادمة والقاتلة بصوتها‪ ،‬شجا ٌر يتكرر مع كل مر ٍة تخرج‬ ‫فيها للتنزه مع صديقاتها حتى صار الشجار ركيزة أحاديثهم‬ ‫وال شيء سواه‪َّ ،‬‬ ‫هز رأسه محد ًثا نفسه‪ ،‬إلى متى سيظل‬ ‫محتم ً​ًل كلماتها وأفعالها؟ تلك التي دخلت حياته بصور ٍة مفاجئ ٍة‬ ‫فزلزلت بصلفها عرش رجولته وأفاقته من سكرة تسلطه‬ ‫وجرَّ عته كأس الصبر في صم ٍ‬ ‫ت وأسقطته من قمة البأس إلى‬ ‫قاع الًلحيلة وأهوته من علياء التمكن إلى قعر التودد‪ ،‬كلما‬ ‫ً‬ ‫تدليًل ازدادت عنا ًدا حتى‬ ‫تقرَّ ب منها تم َّنعت عنه وكلما زادها‬ ‫أصبح ال يملك من أمر قلبه شي ًئا‪ ،‬كل قطر ٍة من دمه تحمل‬ ‫هواها إلى كل خلي ٍة في جسده وتغذيها به حتى تشبعت روحه‬ ‫بعشقها ح َّد االرتواء‪ ،‬فعلت به ما لم تفعله أية أنثى قبلها بل‬ ‫فعلت به ك َّل ما فعله هو بكل سابقاتها‪ ،‬لربما ساقها القدر‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫للقصاص لهنَّ منه‪ ،‬كم من عبرا ٍ‬ ‫ت أجراها على وجوه من‬ ‫تركهنَّ خلفه‪ ،‬وجوهٌ ما كانت تستحق أن تبكي لكنه أبكاها‪-‬‬ ‫بقص ٍد أو بدون قصد‪ -‬فأتت من تذيقه من نفس الكأس حتى‬ ‫صار يسأل نفسه عن الطرف األقوى في تلك العًلقة المرهقة‬ ‫آن واحد‪ ،‬ترميه في خضم صراعا ٍ‬ ‫ت نفسي ٍة‬ ‫لقلبه وعقله في ٍ‬ ‫داخلي ٍة حتى أوشكت طاقة الصبر لديه على النفاد بينما تحيا‬ ‫هي بمنتهى البرود غير آبه ٍة له‪ ،‬لم تتصل منذ الصباح وال‬ ‫يعتقد أنها ستفعل فقد س َّنت هي قانو ًنا غير مكتو ٍ‬ ‫ب بينهما منذ‬ ‫تعارفا‪ ،‬أن يتصل هو بها ويسترضيها في حالة الشجار حتى‬ ‫لو كانت هي التي أغضبته‪ ،‬في البداية طاب له ذلك لكن األمر‬ ‫صار ً‬ ‫ثقيًل عليه‪ ،‬في كل مر ٍة تبوء محاوالته لرأب الصدع‬ ‫الذي أصاب عًلقتهما بالفشل ألنها تعتبر محاوالته المستميتة‬ ‫تلك ضع ًفا منه يستوجب قسو ًة منها فتمتطي جواد تكبرها أكثر‬ ‫وأكثر‪ ،‬هي ال تهتم على اإلطًلق ويبدو أنها لن تتغير في‬ ‫المستقبل المنظور على األقل‪ ،‬أكثر ما يوجع استجداء االهتمام‬ ‫أشخاص نهتم بهم‪ ،‬يعلم علم اليقين أنها لم تفكر في‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫االتصال به مطل ًقا منذ أمس فيما فكر هو في ذلك ألف مر ٍة‬ ‫خًلل الدقيقة الماضية‪ ،‬عندما وصل إلى المنزل مسح اسمها‬ ‫من هاتفه فسخرت منه نفسه وسألته‪" :‬هل هكذا إذن ستمنع‬ ‫نفسك من االتصال بها؟ على من تكذب؟ أال تحفظ رقمها عن‬ ‫ظهر قلب؟ أنت تعلم أنك ستتصل حتمًا عاج ً​ًل أو آجًل"‪،‬‬ ‫وتمامًا كعشرات المرات السابقة أجرى االتصال‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪3‬‬ ‫فترةٌ من الصمت جاوزت الدقيقة ظلَّت ألسنتهم ساك ً‬ ‫نة في‬ ‫ٌ‬ ‫دقيقة خلت من أية تسليما ٍ‬ ‫ت أو أسئل ٍة عن األحوال‬ ‫مرابضها‪،‬‬ ‫حتى إ َّنها خلت من كل أنواع التحايا وبقيت أنفاسهم وحدها هي‬ ‫التي تتردد عبر األثير‪ ،‬استدارت أطراف الحديث بعي ًدا عن‬ ‫عقليهما وانحسرت أمواج الحروف عن شواطئ أفواههم فلم‬ ‫يجد أي منهما نقطة بداي ٍة لنفث الجحيم الذي يستعر داخله‪،‬‬ ‫أخيرً ا نطقت هي‪ ،‬جاء صوتها مبحوحً ا فخان قسوة كلماتها‪:‬‬ ‫ خير؟ عايز إيه؟‪..‬‬‫لم يجب السؤال‪ ،‬مأل صدره بالهواء عن آخره ومع زفرته جاء‬ ‫سؤاله معجو ًنا بالمرارة ‪:‬‬ ‫ لحد إمتى يا مها؟ لحد إمتى يا بنت الحًلل؟ أنا تعبت من‬‫حرقة األعصاب دي كل يوم‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ إنت اللي بتحرق أعصاب نفسك فمتحملنيش ذنبك‪ ،‬إنت اللي‬‫غيور أوفر وبتهتم بتفاصيل زيادة‪ ،‬ارتاح يا حسام‪ ،‬كبر‬ ‫دماغك شوية وفكر في األهم‪ ،‬سيبك من لبسي وخروجي‬ ‫ودماغي وفكر في اللي بعد كدا لما نكون سوا‪ ،‬هنعيش فين‬ ‫وهناكل إيه؟ مش التفاهات اللي كل شويه بتتكلم فيها دي‪..‬‬ ‫ تفاهات‪ ،‬غيرتي عليكي تفاهات؟‪..‬‬‫ حسام! طريقتك دي مش نافعة معايا‪ ،‬غيَّر طريقتك يمكن‬‫تنفع‪ ،‬أنا مبحبش أتجبر على حاجة‪ ،‬أنا لما أعمل حاجة أعملها‬ ‫بمزاجي‪..‬‬ ‫قاطعها م ً‬ ‫وبانفعال غير محدود‪:‬‬ ‫حتدا‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫أصًل مش هتتغيري وال عندك أساسًا استعداد للتغيير‪،‬‬ ‫ إنتي‬‫ً‬ ‫أصًل‪ ،‬وبعدين‬ ‫إنتي عاجبك نفسك كدا ومبتقتنعيش بكًلم حد‬ ‫طالما أنا مقتنع إن اللي بقوله صح مش هغيره‪ ،‬المفروض‬ ‫حضرتك تشوفي اللي بقوله صح ولًل غلط‪ ،‬لو صح تنفذيه‬ ‫ولو غلط متنفذيش‪ ،‬لكن المسخرة بتاعتك دي ودماغك الناشفة‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫عمرهم ما هينفعوا غير مع واحد معندوش دم ودا أكيد مش‬ ‫أنا‪ ،‬بجد أنا زهقت‪..‬‬ ‫ زهقت؟ طب تمام‪ ،‬بس متبقاش تقول إنك بتحبني لما مش‬‫قادر تتقبلني زي مانا‪ ،‬روح شوف واحدة على مزاجك ألني‬ ‫عمري ما هكون على مزاجك‪ ،‬إنت عايز تهدني وتبنيني من‬ ‫جديد ودا مش هيحصل أب ًدا‪ ،‬مش هيحصل‪..‬‬ ‫ أنا لو عايز أهد وأبني كنت شفت واحده تانيه هدها أسهل‬‫بكتير منك لكن إنتي عمرك ما هتفهمي دا‪ ،‬لو مبحبكيش‬ ‫مكنتش استحملت كل الشهور اللي فاتت دي وأنا بسمع منك‬ ‫كًلم ميقبلوش أي راجل في الدنيا بس أنا خًلص زهقت‬ ‫ومبقتش قادر أتحمل أكتر‪ ،‬بصي أنا خًلص مش عايز أكمل‪،‬‬ ‫إنتي لو آخر بنت على وجه األرض مش هادعي ربنا ً‬ ‫أبدا إنها‬ ‫تكون نصيبي‪..‬‬ ‫ طب تمام‪ ،‬كويس إنها جت منك علشان متشيلنيش ذنبنا بعد‬‫كدا‪ ،‬سًلم‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫جامدا ينظر لهاتفه ثم أعاد‬ ‫أنهت االتصال فيما ظ َّل هو‬ ‫االتصال من جديد عدة مرات‪ ،‬في المرة السابعة أتاه صوتها‬ ‫ً‬ ‫باردا يسأل‪:‬‬ ‫ أفندم؟‪..‬‬‫ إنتي لسه بتكلمى هشام؟‪..‬‬‫ إنت متصل علشان تسألني السؤال دا؟‪..‬‬‫ ردي على سؤالي‪ ،‬لسه بتكلميه؟‪..‬‬‫ أيوه لسه بكلمه‪..‬‬‫سحقت إجابتها قلبه‪ ،‬ألف مر ٍة طلب منها أال تتحدث إلى زميلها‬ ‫في العمل الذى سبق وأن طلب يدها للزواج‪ ،‬صرخ حتى‬ ‫أسمعت صرخته الكون كله‪:‬‬ ‫ ليييييه؟ لسه بتكلميه ليه؟‪ ،‬سايباله الباب متوارب ليه؟‬‫ً‬ ‫أصًل راضية‬ ‫مبتقطعيش عًلقتك بيه ليه؟ يهمك في إيه؟ إزاي‬ ‫إني أتحرق ألف مرة وإنتي بتردي عليه؟‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ علشان إنت قلتلي اقطعي عًلقتك بيه‪ ،‬مش هعمل حاجة حد‬‫قالي إعمليها حتى لو كانت صح‪..‬‬ ‫ وإنتي عارفه ومتأكده إنه لسه بيفكر فيكي‪ ،‬أنا بلعتلك كل‬‫حاجة قبل كدا بس دي مش هعديها‪ ،‬كله إال غيرتي‪ ،‬غيرتي‬ ‫هي رجولتي ولو سامحتك في دي مش هسامح نفسي أب ًدا طول‬ ‫ً‬ ‫أصًل وال بتحسي ولو عندك ذرة‬ ‫حياتي‪ ،‬إنتي مش بني آدمة‬ ‫عقل مكنتيش تضحي بحد بيحبك بالطريقة دي‪..‬‬ ‫بدون حرفٍ إضافي أنهى هو االتصال هذه المرة ثم قذف‬ ‫هاتفه بمنتهى الغضب في زاوية الغرفة فته َّشم تمامًا وتهشمت‬ ‫معه الثقة بينهما‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الفصلُ​ُالثاني ُ‬ ‫ُ‬ ‫صِ رناُنبنيُجدرانُالصمتُِحولناُكيُالُيسمعُاآلخرونُ‬ ‫ُفيُقلوبنا‬ ‫ُالوجع‬ ‫ضجيج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪1‬‬ ‫لم تأبه ‪ -‬كعادتها ‪ -‬للحرارة المرتفعة وخرجت من بيتها لتبدأ‬ ‫يومًا جدي ًدا من أيام حياتها الروتينية‪ ،‬حرارة الجو ‪ -‬مثلها مثل‬ ‫ً‬ ‫خلية واحد ًة في رأسها‪ ،‬أسدلت‬ ‫الكثير من األشياء ‪ -‬ال تشغل‬ ‫غطاء رأسها بني اللون ليقي عينيها الحساستين من أشعة‬ ‫الشمس مخفيًا عن الناظرين إليها آثار الزمن الذي نحتها على‬ ‫وجهها النحيل‪ ،‬هبطت من سيارة األجرة التي استقلتها من‬ ‫قريتها ثم سارت ألكثر من ربع الساعة‪ ،‬أبطأت في سيرها ثم‬ ‫عبرت الطريق في هدوء لكن سيارة أجر ٍة ما ظهرت من خلفها‬ ‫فجأة‪ ،‬نجح السائق المتهور في تفادي الكتلة الحية المتحركة‬ ‫أمامه مطل ًقا سبا ًبا بذي ًئا لم يصل إلى مسامعها منه شي ٌء‪ ،‬أما‬ ‫هي فأطلقت زفيرً ا قو ًيا من أنفها مع تسارع أنفاسها‪ ،‬سارعت‬ ‫إلى بوابة مصنع المًلبس الجاهزة التي تعمل به عاملة نظافة‬ ‫منذ أكثر من سبع سنوات‪ ،‬أشارت إلى عامل البوابة كى يدون‬ ‫اسمها في دفتر الحضور بيدها التي لم تمسك بها قلمًا يومًا‬ ‫قط‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫منزل قديم متهالك يتكون من طابقين‬ ‫لم يكن المصنع سوى‬ ‫ٍ‬ ‫فقط‪ ،‬يشمل الطابق السفلي غرف المشغل وغرف العاملين‪،‬‬ ‫فيما الطابق العلوي يحتوي على غرف اإلدارة والمعرض‪..‬‬ ‫دلفت إلى غرفة العاملين‪ ،‬خلعت عنها عباءتها التي حاكتها لها‬ ‫أمها قديمًا‪ ،‬العباءة التي تقاسمها حرَّ الصيف وبرد الشتاء‬ ‫وتقلبات الربيع‪ ،‬عباءةٌ لم تبرز يومًا هذا الجسد اآلخذ في‬ ‫االنكماش حتى صار كالعرجون القديم وسترت عن األعين‬ ‫آال ًفا من خطوط اإلهانة واأللم‪ ،‬وضعت عليها رداء العمل‬ ‫البالي رمادي اللون‪ ،‬تركت جسدها مم ًدا على األريكة الخشبية‬ ‫المتهالكة في زاوية الغرفة للحظات‪ ،‬أطلقت من صدرها‬ ‫زفرا ٍ‬ ‫زمن‬ ‫ت حار ًة أحرقت شفتيها الجافتين اللتين لم تعرفا منذ‬ ‫ٍ‬ ‫بعي ٍد انفراجة الفرح أو شكوى الحال‪ ،‬ارتكزت على يدها‬ ‫وتحسست تجاعيد خديها الملتهبة من صفعات زوجها في‬ ‫ٌ‬ ‫صفعات اعتادتها دومًا من هذا الزوج العاق الذي لم‬ ‫الصباح‪،‬‬ ‫يعترف يومًا بتفانيها في خدمته وخدمة أمه المسنة‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫جمعت أدوات النظافة وبدأت عملها‪ ،‬لم تستطع مغالبة الدموع‬ ‫التي سالت على األرض ثم اختلطت بالماء الذي سكبته‪،‬‬ ‫كفكفت دمعاتها ومسحتها بطرف ردنها‪ ،‬نثرت قلي ً​ًل من‬ ‫ً‬ ‫رائحة منعشة أخذت تمأل‬ ‫قطرات المعطر الذى أكسب المكان‬ ‫بها رئتيها اللتين اعتادتا على تنفس الدخان المنبعث من‬ ‫نارجيلة زوجها يوم ًيا‪ ،‬مرت على مكتب رئيس العمال‬ ‫سريعة م ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لقية عليه تحية الصباح فر َّد الرجل‬ ‫ابتسامة‬ ‫وابتسمت‬ ‫بال طالبًا منها تنظيف مكتبه الح ًقا‪،‬‬ ‫النحيل تحيتها بوج ٍه ال م ٍ‬ ‫أومأت برأسها ثم أكملت طريقها في اتجاه غرفة األستاذ كامل‬ ‫ً‬ ‫قائلة في ود‪:‬‬ ‫المشرف العام على المصنع‪ ،‬ابتسمت له‬ ‫ صباح الورد يا أستاذ كامل‪..‬‬‫ر َّد عليها الرجل الوقور وهو منهم ٌ‬ ‫ك في لملمة أوراقه المبعثرة‬ ‫بفعل المروحة التي تسرى عليه حرارة الجو‪:‬‬ ‫ صباح الفل يا أم محمد‪ ،‬لما ترتاحي شوية الضهرية كده ابقي‬‫افتكرينا يا ستي بدل ما إحنا قاعدين في الفوضى دي‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ردت واالبتسامة تمأل فمها‪:‬‬ ‫ انت تؤمر يا أستاذ كامل‪ ،‬ده إحنا ننضفهالك برموش عنينا‪..‬‬‫ضحك الرجل لكلماتها ثم سألها سؤا ًال معتا ًدا عن حالها وحال‬ ‫أوالدها فحمدت هللا وشكرت له سؤاله عليها‪ ،‬أتمت عملها عند‬ ‫الظهيرة ثم عادت إلى غرفتها‪ ،‬تناولت كسرا ٍ‬ ‫ت من الخبز‬ ‫وقلي ً​ًل من الجبن القريش والجرجير ثم اغتسلت وأدت صًلتها‪،‬‬ ‫ذهبت إلى مكتبي األستاذين سعيد وكامل‪ ،‬قامت بتنظيفهما ولما‬ ‫انتهت منهما عادت أدراجها إلى غرفتها دون ابطاء‪ ،‬خلعت‬ ‫عنها رداء العمل وارتدت عباءتها األثيرة في ود وكأنها‬ ‫شاق معتاد‪ ،‬يومها هذا تتكرر تفاصيله‬ ‫يوم‬ ‫ٍ‬ ‫اشتاقت إليها بعد ٍ‬ ‫الدقيقة بمنتهى االنتظام والرتابة‪ ،‬أيامها ال تتشابه فقط بل تكاد‬ ‫تتطابق تمامًا كالنسخ الكربونية‪..‬‬ ‫خرجت من المصنع مشير ًة إلى عامل البوابة كي يوقع لها في‬ ‫دفتر االنصراف‪ ،‬سارت في طريق عودتها يفكر عقلها في‬ ‫الًلشيء مطاب ًقا الطريق الذي تسير فيه بصورة الطريق‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫المطبوعة فيه طيلة السنوات التي قضاها داخل جمجمة هذه‬ ‫المرأة البائسة‪ ،‬تفاصيل صغيرة تغيرت لكنه اعتادها بمرور‬ ‫األيام ربما ألنه تطبَّع بعادتها‪ ،‬ال تفكر إال في األشياء المهمة‬ ‫فقط والتي غالبًا ال تدور سوى حول أبنائها األربعة‪ ،‬حتى هي‬ ‫نفسها صارت مجرد تفصيل ٍة صغير ٍة في حياتها‪..‬‬ ‫الشمس في شفقها األحمر آخذةٌ في المغيب خلف حقول القمح‬ ‫وجم ٌع من الفًلحين منهم ٌ‬ ‫ك في حصد المحصول‪ ،‬تناثر غبار‬ ‫الحصاد في الهواء و َّ‬ ‫حط على مًلبس المارة‪ ،‬لم تتأفف ولم‬ ‫ٌ‬ ‫عًلمات للضيق‪ ،‬سارت في الطريق ال‬ ‫ترتسم على وجهها‬ ‫تلقي با ًال ألي شيء حولها‪ ،‬ال إلى الطريق غير الممهد المليء‬ ‫بمخلفات الحيوانات وال إلى الروائح الكريهة المنبعثة من‬ ‫مصرف المياه الذي تسير بجواره وال إلى الحشرات التي تطن‬ ‫فوق رأسها طيلة الوقت‪ ،‬صارت من فرط ما مرَّ بها من‬ ‫أزما ٍ‬ ‫مثال متحركٍ ال ينبض فيه بالروح إال قلبها وعقلها‪،‬‬ ‫ت كت ٍ‬ ‫عالم‬ ‫فًل وج ٌع يؤثر فيه وال مرضٌ يقعده‪ ،‬عقلها أصبح في‬ ‫ٍ‬ ‫عالم ملي ٍء بالحزن والضيق‪ ،‬لكنه عال ٌم لم يتطرق إليه‬ ‫خاص‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫يومًا التذمر أو السخط‪ ،‬فاتصالها بربها هو الذي يجعلها صامد ًة‬ ‫حتى اآلن‪..‬‬ ‫وصلت إلى منزلها لتجد أم زوجها الحاجة هانم مفت ً‬ ‫رشة‬ ‫نوم عميق‪ ،‬فيما كان محمود ‪-‬‬ ‫أرضية غرفة المعيشة تغط في ٍ‬ ‫ابنها الصغير ذو األربعة أعوام ‪ -‬يلهو بدميته إلى جوار جدته‪،‬‬ ‫نادتها بصو ٍ‬ ‫ئ حتى ال تفزعها‪:‬‬ ‫ت هاد ٍ‬ ‫ أما‪ ،‬إيه اللي نيمك كده؟ مش كنتي ترتاحي جوه عالسرير‬‫بدل نومة األرض اللي تكسر العضم دي؟‪..‬‬ ‫أفاقت حماتها ثم ردت بصو ٍ‬ ‫ت مكتوم به حشرجة واضحة‪:‬‬ ‫ اتغديت يا بنتي ومقدرتش أقوم من مكاني‪ ،‬ناوليني شربة ميه‬‫يا بنتي هللا يسترك ريقي ناشف من الحر‪..‬‬ ‫ناولت حماتها كوبًا من الماء ثم عادت فمألته وتركته إلى‬ ‫جوارها‪ ،‬عرَّ جت على غرفة ابنتها هند فلم تجدها‪ ،‬تساءلت في‬ ‫نفسها عن سر تأخر ابنتها وقد أوشك الظًلم أن يح َّل على‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫البلدة‪ ،‬ذهبت إلى غرفتها وخلعت مًلبسها ثم ارتدت جلبابًا‬ ‫قطن ًيا ناعمًا ووضعت غطاء رأسها ثم صعدت إلى سطح‬ ‫المنزل‪ ،‬على الحصيرة المهلهلة رقد جس ٌد شبه ميت‪ ،‬مغطى‬ ‫ال اتسخ حتى صار له لون الرماد‪ ،‬إلى جواره‬ ‫الوجه بش ٍ‬ ‫تنتصب أرجيلته المعتادة وأحجارٌ متناثرة وقلي ٌل من قًلحات‬ ‫الذرة المتفحمة‪ ،‬على مقرب ٍة من يد الجسد استقرت قطعٌ من‬ ‫مخدر الحشيش في مندي ٍل ملوَّ ن‪ ،‬التقطت المنديل ثم ألقت به‬ ‫في بيت الدجاج القابع في زاوية السطح‪..‬‬ ‫تذكرت أباها الراحل‪ ،‬لكم كانت تود لو أنها تعاتبه اآلن على‬ ‫هذه الزيجة من هذا الرجل الفاسد الذي ال يقدر لها سعيها عليه‬ ‫ً‬ ‫خاصة أنه مصابٌ‬ ‫بمرض عضال ينتشر في أنحاء جسده‬ ‫ٍ‬ ‫وبالكاد تستطيع أن توفر من أجرها ما يتطلبه مرضه من أدوي ٍة‬ ‫تعلم أن ال جدوى وال طائل من شرائها‪ ،‬لم تفكر أب ًدا في‬ ‫التوقف عن شرائها وهذا الزوج الوضيع يبدد إيراد إيجار‬ ‫أرض أمه في شراء تلك المخدرات التي تفسد جسده أكثر مما‬ ‫يفسده المرض‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫انتهت من تنظيف سطح المنزل في حدود السابعة‪ ،‬أعدت‬ ‫ً‬ ‫بسيطا أخذت في تناوله هي ومحمود الصغير في الوقت‬ ‫طعامًا‬ ‫الذي دخلت فيه ابنتها هند المنزل‪ ،‬هند – التي على وشك‬ ‫االنتهاء من شهادتها اإلعدادية بعد أقل من شهر ‪ -‬ذات وج ٍه‬ ‫ستدير وبشر ٍة خمري ٍة وعينين سوداوين كعيني أمها‪ ،‬كانت‬ ‫م‬ ‫ٍ‬ ‫بمتجر لبيع المواد المنظفة بالمدينة التي‬ ‫عائد ًة لتوها من عملها‬ ‫ٍ‬ ‫تبعد عن قريتهم بضعة كيلو مترات‪ ،‬أرسلتها أمها للعمل‬ ‫بالمتجر بنا ًء على نصيحة صديقتها أم حسن كي تبعد ابنتها‬ ‫بعض من‬ ‫عن صنائع أبيها من ناحي ٍة وأم ً​ًل في توفير‬ ‫ٍ‬ ‫احتياجات األسرة من المال من ناحي ٍة أخرى خاصة بعدما‬ ‫أخبرتها أم حسن أنَّ صاحب المتجر رج ٌل يحسن معاملة من‬ ‫يعملون لديه‪..‬‬ ‫مسحت هند حبات العرق من على جبهتها ثم ارتمت على‬ ‫أريك ٍة بسيط ٍة بجوار جدتها الممددة على األرض وقالت‬ ‫بصو ٍ‬ ‫ت منهك‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ أنا هسيب الشغل ده إمتى يا أما؟ دي االمتحانات لسالها تًلت‬‫أسابيع بس‪..‬‬ ‫ردت أمها في عطف‪:‬‬ ‫ معلش يا ضنايا استحملي لنص الشهر وبعدها سيبيه وفوقي‬‫لمذاكرتك‪ ،‬بس إنتى إيه اللي أخرك كده لحد دلوقتي؟‪..‬‬ ‫ أصل وأنا مروحة عديت على بيت سماح اللي معايا في‬‫الشغل وأمها حلفت آلكل معاهم‪..‬‬ ‫بدا الضيق جل ًيا في صوت أمها‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬ ‫ ليه يا بنتي كده بس‪ ،‬محنا لينا بيت ناكل فيه‪ ،‬ليه ناكل عند‬‫الناس؟‪..‬‬ ‫نهضت هند‪ ،‬وقالت منفع ً‬ ‫لة بصو ٍ‬ ‫مرتفع أيقظ جدتها‪:‬‬ ‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫ فين البيت دا؟ بيت منعرفش فيه مين الراجل ومين الست‪،‬‬‫بيت إيه اللي تشتغل فيه عيلة عندها خمستاشر سنة وأبوها‬ ‫طول اليوم بيشرب حشيش فوق السطح؟‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ متعليش صوتك ألبوكي يسمعك ويدور فينا الضرب وإحنا‬‫مش ناقصين هم يا هند‪ ،‬معلش يا بنتي بكره تتعدل وتتجوزي‬ ‫راجل يسترك ويريحك من هنا‪..‬‬ ‫ ومين ده المغفل اللي هيرضى يدخل بيتنا ويناسب واحد زي‬‫أبويا؟‪..‬‬ ‫كانت قد احتدت أكثر في انفعالها الًلمحسوب فبلغ صوتها‬ ‫مسامع أبيها الذي هبط متك ًئا على عصاه‪ ،‬جسده الذي أبًله‬ ‫المرض يئن من الحركة غير المعتادة‪ ،‬حاول سيد ذو الوجه‬ ‫الغليظ والشفتين البارزتين فتح عينيه الغائرتين بصعوبة‪،‬‬ ‫زمجر بصو ٍ‬ ‫ت أجش سائ ً​ًل عن سبب الصوت المرتفع‪ ،‬أجابته‬ ‫أمه أنَّ هند كانت تنادي أمها طا ً‬ ‫لبة الطعام بعد عودتها من‬ ‫العمل‪..‬‬ ‫ارتفع صوته أكثر وهو ما زال غاضبًا‪:‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ إيه؟ هي خًلص علشان راحتلها الشغل أسبوعين هتعمل فيها‬‫فالحة؟ صوتها ميعًلش تاني وإال قسمًا عظمًا ما في خروج‬ ‫تاني ال لشغل وال لمدرسة‪..‬‬ ‫حمدت أحًلم ربها على أنه لم يسمع كلمات ابنته وإال كان‬ ‫أذاقها من ألوان التعذيب ما ال يطيقه جسدها الضعيف‪ ،‬وجهت‬ ‫ً‬ ‫حاولة تهدئة مزاجه وسألته عما إذا كان جائعًا‬ ‫حديثها إليه م‬ ‫فتحضر له الطعام‪ ،‬وجَّ ه نظره إليها بعينيه المحمرتين وسأل‪:‬‬ ‫ مين اللي نضف السطح يا أحًلم؟ كان فيه منديل جنبي وأنا‬‫نايم‪ ،‬راح فين؟‪..‬‬ ‫ مشفتوش يا خويا‪ ،‬دور في جًلبيتك ولًلأشفهولك تحت‬‫الحصيرة؟‪..‬‬ ‫ المنديل كان جنبي يا أحًلم وأنا نايم‪ ،‬مكانش فاضي‪ ،‬كان فيه‬‫حتة كيف‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫تعلم أنه لن يدع األمر يمر بسًلم فإما أن تقول له ماذا فعلت‬ ‫بالمنديل وساعتها لن تسلم من بطش يديه وإما أن تستمرَّ في‬ ‫المداراة وعندها سيستمر غضبه وهللا وحده يعلم إلى أي شي ٍء‬ ‫سينتهي هذا اليوم‪..‬‬ ‫قطعت زمجرته الغاضبة وتلويحه بعصاه أفكارها عند هذا‬ ‫الحد‪ ،‬بدا متأك ًدا تمامًا أنها هي من خبأت ما يبحث عنه‪،‬‬ ‫حاولت اإلنكار لكنها لم تتمكن من ذلك فقد سبقت عصاه ‪ -‬التي‬ ‫هوت على منتصف ظهرها ‪ -‬لسانها قبل أن ينطق بشيء‪ ،‬أخذ‬ ‫ينهال عليها ضربًا بًل رحمة‪ ،‬حاولت أمه دفعه بعي ًدا عنها إال‬ ‫أنه استمر في سبه ولعنه غير مكتر ٍ‬ ‫ث بلعنات ودعوات أمه‬ ‫ً‬ ‫دفعة أخير ًة ارتطمت على‬ ‫التي تصبها فوق رأسه‪ ،‬دفع زوجته‬ ‫أثرها بزاوية األريكة فسالت دماؤها على ثياب أمه‪ ،‬شعرت‬ ‫بدوار قوي إال أنها جاهدت لترك عينيها مفتوحتين انتظارً ا‬ ‫ٍ‬ ‫لمزي ٍد من اإلهانات‪ ،‬لكنه فتح الباب وخرج ثم صفقه خلفه بقو ٍة‬ ‫فاستسلمت أخيرً ا للنوم على قدمي حماتها‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫استيقظت بعد ساعتين‪ ،‬تح َّسست رأسها فوجدته معصو ًبا بقطعة‬ ‫قماش تفوح منها رائحة البن الذي وضعوه على جرحها الدامي‬ ‫ٍ‬ ‫إليقاف نزيفه‪ ،‬عندما رأتها هند تفيق قالت‪:‬‬ ‫ محمد اتصل يا أما وقال إنه جاي في الطريق‪..‬‬‫ابتسمت أحًلم لسماعها الخبر الذي أذهب عنها بعضًا مما‬ ‫هي فيه‪ ،‬محمد ابنها يقضي آخر فتر ٍة من فترات تجنيده‬ ‫اإلجباري‪ ،‬لم تره منذ أكثر من شهر في آخر إجاز ٍة له‪ ،‬ارتفع‬ ‫صوت النداء الخالد من الخارج‪ ،‬رددت كلماته ثم أوصت‬ ‫ابنتها بأال تقصَّ شي ًئا مما حدث ألخيها‪..‬‬ ‫طويل وبشر ٍة‬ ‫قبل أن ينتصف الليل حضر محمد‪ ،‬ذو جس ٍد‬ ‫ٍ‬ ‫سمراء لفحتها شمس الصحراء أكثر وعينين عسليتين داكنتين‪،‬‬ ‫وجد جدته وحدها في غرفة المعيشة فسلَّم عليها وقبَّل يديها ثم‬ ‫سألها عن أمه فأشارت إليه أنها في غرفتها‪ ،‬ما أن رآها على‬ ‫ضيق وقال‪:‬‬ ‫حالتها تلك حتى ضاقت عيناه في‬ ‫ٍ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ كنت عارف‪ ،‬طالما مستنيتينش بره يبقى فيه حاجه‪ ،‬مالك يا‬‫أما وإيه اللي حصل؟‪..‬‬ ‫قبَّل يديها ورأسها المعصوب ثم أعاد سؤاله فلم تجبه إال بلمس ٍة‬ ‫ٌ‬ ‫دركة تمامًا أنه يعرف السبب فوجَّ ه‬ ‫حاني ٍة على وجهه وهي م‬ ‫سؤاله لهند‪:‬‬ ‫ عرفنا إنه أبويا يا هند‪ ،‬بس إيه السبب؟‪..‬‬‫ً‬ ‫ثانية ورأى في عينيها‬ ‫أخبرته هند بما كان من أبيه فنظر ألمه‬ ‫رفضًا أقوى للخوض في هذا الموضوع‪ ،‬خرج ثم اغتسل‬ ‫وارتدى جلبابًا أبيض‪ ،‬بعد أن فرغ من تناول الطعام استلقى‬ ‫إلى جوار أمه وسألها‪:‬‬ ‫ صحيح يا أما‪ ،‬سعاد عاملة إيه هي وابنها؟ مشفتهاش بقالي‬‫شهرين‪ ،‬مكلمتكيش من زمان؟‪..‬‬ ‫ متصلتش من أسبوع يا محمد‪ ،‬مانتا عارف جوزها مانعها‬‫تكلم أى حد من قرايبها‪ ،‬هللا يسامحه ويهديه‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ طب وإيه اللي يصبرنا عليه يا أما؟ مناخدها تعيش بيننا‪..‬‬‫ والناس تقول علينا إيه يا بني؟ خدوا بنتهم وطلقوها من‬‫جوزها؟ ال يبني الصبر‪ ،‬يمكن الحال يتعدل‪..‬‬ ‫أومأ برأسه مطيعًا ثم حكى لها بعضًا من المواقف التي حدثت‬ ‫له بالمعسكر لعله يسلَّيها ويخرجها قلي ً​ًل عن همومها‪ ،‬خرج‬ ‫بعدها ليلتقي بأصدقائه الذين لم يرهم منذ أكثر من شهر ثم عاد‬ ‫ً‬ ‫قبل الفجر بقليل‪ ،‬سمع أصوا ًتا وضحكا ٍ‬ ‫مرتفعة أعلى من‬ ‫ت‬ ‫صوت الموسيقى المصاحب لها‪ ،‬ذهب إلى غرفة أمه ليستفسر‬ ‫منها فوجدها تبكي بكا ًء مريرً ا وتقطعات أنفاسها تكاد تزهق‬ ‫روحها‪ ،‬اندفع مسرعًا إلى السطح في اتجاه مصدر الصوت‪،‬‬ ‫يعرف أنَّ أباه اعتاد التسامر مع رفقاء السوء فوق سطح‬ ‫المنزل وأنهم يتعاطون كافة أنواع المحرمات فما الذي يبكي‬ ‫أمه هكذا؟ ما الجديد؟ عندما صعد إلى السطح كاد أن يصعق‬ ‫لما رأى‪ ،‬أبوه ورفقاؤه كالمعتاد متحلقون لكن ليس حول‬ ‫نج بينهم كالحية‪ ،‬كتم‬ ‫النارجيلة‪ ،‬بل حول غاني ٍة تتمايل في غ ٍ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫انفعاله ونادى أباه بهدو ٍء شديد‪ ،‬التفت إليه أبوه لكنه لم يتب َّينه‬ ‫ً‬ ‫ثانية وهو يصم مسامعه عن فحيح ضحكات‬ ‫بعد فكرر نداءه‬ ‫المرأة‪:‬‬ ‫ آبا‪ ،‬أنا محمد يا آبا‪ ،‬لسه واصل دلوقتي‪..‬‬‫رد أبوه في ال وعي‪:‬‬ ‫ إزيك يا محمد؟ انزل إنت وأنا هجيلك كمان شوية‪..‬‬‫أدار وجهه ناحية رفيقه المجاور الذي ناوله النارجيلة وأخذ‬ ‫هم شديد‪ ،‬أغمض محمد عينيه وأحنى رأسه في‬ ‫يتنفس دخانها بن ٍ‬ ‫خزي وامتأل صدره بالغضب الشديد‪ ،‬كم كان يتمنى لو كان‬ ‫هو أبًا ألبيه فيمسك بتًلبيب ثوبه وينهره علَّه يزدجر عن‬ ‫أفعاله المشينة‪ ،‬نظر نظر ًة أخير ًة إليهم وخطر بباله أن يركل‬ ‫أشياءهم بقدميه ويطردهم خارج المنزل الذي دنسوه‬ ‫بالمخدرات والعاهرات وهو متأك ٌد أ َّنه لن يقدر عليه أح ٌد في‬ ‫ً‬ ‫ثانية وأدار وجهه ثم هبط إلى حيث‬ ‫حالتهم هذه‪ ،‬أطرق رأسه‬ ‫أمه فوجدها على بكائها المؤلم‪ ،‬ضاق صدرها وسعلت سعا ًال‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫جا ًفا كاد يمزق أحشاءها‪ ،‬ناولها كوب الماء فأبت أن تشرب‪،‬‬ ‫لحظات حتى َّ‬ ‫ٌ‬ ‫غطت في‬ ‫أراحت رأسها على وسادتها ولم تمض‬ ‫نوم عميق وهو بجوارها‪ ،‬تطلَّع ً‬ ‫مليا في وجهها الناعس‪ ،‬كم‬ ‫ٍ‬ ‫عجيبة ً‬ ‫ٌ‬ ‫جدا!‪ ،‬تبكي وكأنها تبكي ألول مر ٍة في حياتها‬ ‫هي‬ ‫وتضحك كأنها لن تضحك بعدها‪ ،‬وعلى الرغم من حزنها‬ ‫كطفل‬ ‫وكمدها بمجرد أن وضعت رأسها على وسادتها نامت‬ ‫ٍ‬ ‫ولي ٍد ال يدرك ماهية الحياة وال يعي أعباءها التي ستثقل كاهله‬ ‫حين من الزمن‪ ،‬أية شخصي ٍة هذه وأية طبيع ٍة تلك؟ تتراكم‬ ‫بعد‬ ‫ٍ‬ ‫األحمال والهموم فوق رأسها لكنها ال تمل وال تضجر أب ًدا‪ ،‬ال‬ ‫تشكو وال تسخط أب ًدا‪ ،‬قبَّل رأسها ثم أطفأ مصباح الغرفة‬ ‫وذهب لغرفته ونام هو اآلخر‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪2‬‬ ‫مرَّ شهرٌ والحال هو الحال‪ ،‬ففي كل ليل ٍة يغلق محمد الباب‬ ‫على أمه وأخته وجدته حتى ال تصل إليهم تلكم األصوات‬ ‫المنكرة واألدخنة المقيتة فتدنس البقية الباقية من حيائهن‬ ‫الفطري الذي قتل معظمه هذا األب الجاحد‪..‬‬ ‫وفي ليل ٍة ما عندما بلغ الصبر منتهاه صعد الولد وحادث أباه‪،‬‬ ‫لين كي ال يستف َّز أخًلق أبيه الفاسدة‪:‬‬ ‫قال في ٍ‬ ‫ يابا! هللا يخليك إنت عندك بنت ومينفعش البت تشوف أبوها‬‫جايب رقاصة في البيت‪ ،‬يابا! هللا يخليك فكر شوية‪ ،‬فكر في‬ ‫صحتك علشانك يابا حتى مش علشانا وإن كنت مصمم يبجى‬ ‫بًلش هنا‪ ،‬خليها في بيت تاني من بيوت أصحابك‪..‬‬ ‫ إنت هتحاسبني يا قليل األدب؟‪..‬‬‫قالها السيد منفع ً​ًل ثم رفع يمناه ليصفع ابنه لكن يد محمد‬ ‫استوقفته ثم دفعته إلى الخلف‪ ،‬استشاط األب غضبًا‪ ،‬كيف‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫جرؤ هذا الولد على تحديه؟ رفع عصاه ثم هوى بها يريد بها‬ ‫رأس ابنه‪ ،‬تنحى االبن جانبًا بعي ًدا عن العصا ثم أمسك بها‬ ‫وجذبها بقو ٍة من يد أبيه ورفعها عاليًا‪ ،‬لم ينطق بحر ٍ‬ ‫ف واحد‬ ‫ت وأس ٍ‬ ‫وهو ينظر في عيني أبيه بكل مق ٍ‬ ‫ف‪ ،‬أراد الولد إيصال‬ ‫رسالته ألبيه‪ ،‬أراد أن يخبره أنَّ زمان قسوته المفرطة‬ ‫واستبداده الفاسد قد ولَّى وأنه ما عاد يملك بأسه القديم‪ ،‬أراد أن‬ ‫يخبره أنهم ما عادوا يطيقون أفعاله وأنَّ أبوته قد صارت‬ ‫اسم يقترن بأسمائهم في شهادات الميًلد فقط‪ ،‬حضرت‬ ‫مجرد ٍ‬ ‫ً‬ ‫مرفوعة أمام‬ ‫أمه في هذه اللحظة لتجد ابنها ممس ًكا بالعصا‬ ‫وجه أبيه‪ ،‬ذهلت وتخيلت ما كان سيحدث لو لم تأت في هذه‬ ‫اللحظة‪ ،‬فصرخت‪:‬‬ ‫ ال يا محمد إياك‪ ،‬ده أبوك‪..‬‬‫وبكثير من األلم‪ ،‬إنه ال يستحق لقب األب هذا‪،‬‬ ‫قالتها بمرار ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫نزعت العصا من يد ابنها ودفعته ليهبطا درجات السلم معًا‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫تاركة زوجها وحي ًدا يلملم شتات نفسه ويلعن هذا الولد الذي‬ ‫تجرَّ أ على الوقوف في وجهه‪..‬‬ ‫استيقظت أحًلم في السادسة صباحً ا كعادتها‪ ،‬ذهبت إلى‬ ‫المطبخ كي تع َّد طعام اإلفطار قبل خروجها إلى عملها‪ ،‬وجدت‬ ‫بن عليها آثار الخبز‪ ،‬باب‬ ‫طب ًقا من العسل األبيض وقطعة ج ٍ‬ ‫خال ودافئ‪ ،‬أين ذهب مبكرً ا هكذا‬ ‫غرفة ابنها مفتو ٌح وسريره ٍ‬ ‫ولم لم يخبرها لي ً​ًل بعزمه على الخروج صباحً ا؟ ولم ولم؟ ألف‬ ‫لم دارت برأسها‪ ،‬عادت من عملها بحير ٍة أكثر من تلك التي‬ ‫ذهبت بها‪ ،‬دخلت عليه غرفته لتجده يجهز حقيبته‪ ،‬بمنتهى‬ ‫الدهشة واالستغراب سألته‪:‬‬ ‫ بتعمل إيه يا محمد؟ ورايح فين الساعة دي يا ابني؟‪..‬‬‫لم يجبها ولم يلتفت إليها كيًل تلتقي عيونهما‪ ،‬نمت هواجسها‬ ‫بسرع ٍة رهيبة‪ ،‬يبدو أنه عاز ٌم على السفر‪ ،‬ما الذي سيفعله‬ ‫غير ذلك وهو يعد حقيبته رافضًا اإلفصاح عن نيته؟ وجهت‬ ‫عينيها نحو عينيه مباشر ًة وقالت‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ محمد‪ ،‬هتسيبني لمين يا محمد؟ دانا قلت إنت اللي هتريحني‬‫من همي‪ ،‬دانت سندي وضهري يا ابني‪..‬‬ ‫بكت َّ‬ ‫فمزقت بآهاتها نياط قلبه‪ ،‬أخذت تكرر اسمه في كل جمل ٍة‬ ‫علَّه يرق لها‪ ،‬لمحته وهو يضع شي ًئا ما في حقيبته‪ ،‬شهقت‬ ‫ً‬ ‫ش ً‬ ‫روعة واتسعت عيناها ح َّد الهلع‪ ،‬صحي ٌح أنها ال تقرأ‬ ‫هقة م‬ ‫وال تكتب لكنها تعرف تمامًا ماهية هذا الكتيب األخضر‬ ‫الصغير‪ ،‬إنه جواز سفر‪ ،‬تعالى صوت نشيجها وسالت دموعها‬ ‫كنهر فاض بعدما انهدم سده‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫ركع على ركبتيه أمامها‪ ،‬أمسك بيديها وقبلَّهما ثم قال بصو ٍ‬ ‫ت‬ ‫مختنق‪:‬‬ ‫ غصب عني يا أما‪ ،‬عايز أشق طريقي‪..‬‬‫ تقوم تسيبنا يا ابني وإحنا اللي ملناش غيرك‪ ،‬تسيبنا وتروح‬‫بره البلد‪ ،‬طب خليك في أي حتة تانيه جوه‪ ،‬ساعتها نعرف‬ ‫نتطمن عليك‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ البلد تعبانة يا أما وأبويا إنتي شايفاه عمره ما هيعملنا حاجة‪..‬‬‫ هتسيبني يا محمد؟‪..‬‬‫أوجعته بسؤالها‪ ،‬أطرق رأسه ألسفل في أسى ولم يجبها‪،‬‬ ‫مسحت دموعها بيديها وانتصبت واقفة‪ ،‬ثم أدارت له ظهرها‬ ‫وقالت‪:‬‬ ‫ اللي تشوفه يا محمد‪ ،‬اللي تشوفه يا ابني‪..‬‬‫زاغت عيناها واستحالت الرؤية أمامها ضبابية‪ ،‬كانت تنتظر‬ ‫أن يفرغ من أداء خدمته العسكرية حتى يزيح عن كاهلها‬ ‫بعضًا من مشاق الحياة فإذا به يضيف ألمًا أش َّد وط ًئا عليها‪ ،‬ألم‬ ‫فراقه‪ ،‬رفعت يديها إلى ربها وسألته التوفيق البنها والعون لها‬ ‫ثم افترشت األرض‪ ،‬ض َّمت يديها ووضعتهما تحت خدها‬ ‫ت راض ً‬ ‫األيمن وتركت دموعها تسيل في صم ٍ‬ ‫ية بتصاريف‬ ‫القدر‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫أخذ يجاهد في وقف نزاعاته الداخلية‪ ،‬خذلها ألول مرة في‬ ‫حياته‪ ،‬اختار الهرب من جحيم أبيه على الكفاح معها واختار‬ ‫المستقبل المجهول على الحاضر القاسي‪ ،‬أخذ ضميره يلعنه‬ ‫ويسأله‪" :‬أتترك أمك وحدها تصارع الزمان والبشر؟ أتجاهد‬ ‫ابن أنت وأي‬ ‫أمك الحياة بالصبر وتطعنها أنت بالهرب؟ أي ٍ‬ ‫إنسان أنت؟"‪..‬‬ ‫رجل أنت؟ بل أي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ارتمى على السرير للحظا ٍ‬ ‫ت محاو ًال قمع الضجيج الذي أحدثه‬ ‫ً‬ ‫وداعية على‬ ‫ضميره‪ ،‬نهض وع َّدل هندامه‪ ،‬بعدما ألقى نظر ًة‬ ‫باب غرفة أمه قتل ضميره بهدو ٍء‪ ،‬ورحل‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الفصلُ​ُالثالث ُ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪1‬‬ ‫انتهت هند من اختبارات نهاية العام وقبل أن تستمتع بإجازتها‬ ‫ً‬ ‫ثانية‪ ،‬آثرت أن تبعد ابنتها عن‬ ‫الصيفية أعادتها أمها إلى العمل‬ ‫ً‬ ‫خاصة أنَّ أباها قد فسدت طباعه أكثر‬ ‫أجواء البيت المقيتة‬ ‫بفعل المرض الذي أخذ ينتشر بسرع ٍة أكبر في جسده ولم يعد‬ ‫يهتم بالدواء مما خفف من ضغوط االلتزامات المالية الملقاة‬ ‫ً‬ ‫كئيبة بطيئة ولم تكن‬ ‫على عاتق زوجته التي مرَّ ت أيامها‬ ‫تتناول من الطعام إال ما يقيم صلبها‪ ،‬على حالها المستديم ما‬ ‫بين بكا ٍء على رحيل ولدها ومجاهدة زوجها الفاسد وما بين‬ ‫مشقة العمل وضيق الحياة‪ ،‬تنظر إلى حماتها وتتساءل كيف‬ ‫يكون هذا ولدها وهل كرر محمد معها عقوق أبيه لجدته؟ هل‬ ‫كان لخروجه من صلب هذا األب ما يبرر فعلته؟ نفضت عن‬ ‫رأسها تشبيه ولدها بزوجها فمهما فعل محمد فإنه يومًا لم يقم‬ ‫شخص آخر‪..‬‬ ‫باإلساءة ألمه أو ألي‬ ‫ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫في ظهيرة أحد األيام أتى رج ٌل في الخمسينيات من عمره‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طوية ثم أوصاها بسرعة اتخاذ ما يلزم‪ ،‬لم‬ ‫ورقة م‬ ‫وسلَّم الجدة‬ ‫تفهم منه سوى أ َّنه محضر المحكمة‪ ،‬عندما عادت أحًلم من‬ ‫عملها أعطتها حماتها الورقة‪ ،‬لم تفهم أحًلم شي ًئا بالطبيعة لكن‬ ‫قلبها أخبرها أنَّ شي ًئا كبيرً ا سيحدث وأنَّ حضور محض ٍر إلى‬ ‫خير ً‬ ‫أبدا‪ ،‬هرعت من فورها إلى منزل‬ ‫بيتها ال ينم عن‬ ‫ٍ‬ ‫صديقتها أم حسن‪ ،‬تسارعت خفقات قلبها حتى صارت أسرع‬ ‫من خطوات قدميها كأنما تتسابقان لمعرفة سر الورقة الكمين‬ ‫قبل أحًلم نفسها‪ ،‬دفعت أحًلم الورقة إلى صديقتها طال ً‬ ‫بة منها‬ ‫تفسير محتواها‪ ،‬ولما كان ضوء النهار قد رحل وأم حسن ال‬ ‫ترتدي نظارتها طلبت من أحًلم الدخول حتى يتسنى لها‬ ‫قراءتها فرفضت وأخبرتها أنها ستنتظر‪ ،‬مرت ثواني االنتظار‬ ‫كامل وتخيلت فيها ك َّل أنواع الكوارث التي‬ ‫كدهر‬ ‫على أحًلم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أحزان‬ ‫يمكن أن تحملها هذه الورقة‪ ،‬ماذا يا ترى سينقش من‬ ‫ٍ‬ ‫على جدار حياتها الليلة؟ عادت أم حسن ووجهها ممتقعٌ لكن‬ ‫الظًلم حجب مًلمحها عن أحًلم التي بادرتها في لهف ٍة‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ خير يا أم حسن‪ ،‬طمنيني هللا ال يسيئك‪..‬‬‫بلعت المرأة ريقها وبصو ٍ‬ ‫ت متهدج أفصحت عن فحوى‬ ‫الورقة‪ ،‬قطعت صرخة أحًلم المدوية كلمات صديقتها ثم‬ ‫سقطت على األرض مغش ًيا عليها‪..‬‬ ‫بعد ساع ٍة تقريبًا أفاقت من إغماءتها‪ ،‬بدأت في تحريك رأسها‬ ‫وفتحت عينيها‪ ،‬حاولت االعتدال وهي تقول فيما يشبه الهذيان‪:‬‬ ‫ أم حسن؟ الورقة‪..‬‬‫ر َّدت هند الجالسة على طرف السرير‪:‬‬ ‫ أم حسن لسه ماشية يا أما مع ابنها‪ ،‬هللا يباركلهم لما وقعتي‬‫عندهم جابولك الدكتور وكشف عليكي وبعدين جابوكي هنا‪،‬‬ ‫بيقولوا الزم ترتاحي علشان ضغطك عالي‪..‬‬ ‫ارتفع صوت أحًلم وهي تسأل من جديد‪:‬‬ ‫ فين الورقة؟‪..‬‬‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ناولتها ابنتها الورقة فأشارت إليها أن تقرأها‪ ،‬قرأت هند‬ ‫سكون تام حتى دخلت‬ ‫الورقة بينما تستمع أحًلم إليها في‬ ‫ٍ‬ ‫الحاجة هانم فسألتها‪:‬‬ ‫ إيه يا أما اللي مكتوب في الورقة ده؟ إنتى صحيح يا أما‬‫بعتي البيت؟‪..‬‬ ‫ والنبي يا بنتي ما بعت حاجة وال فاهمة أي حاجة؟‪..‬‬‫ أمال إيه يا أما؟ ده مكتوب إن الحاج عبد هللا جارنا عايز‬‫يخلي البيت علشان يهده؟‪..‬‬ ‫سكتت قلي ً​ًل وكأنها تفكر في شي ٍء ما ثم نفضت عنها غطاءها‬ ‫واستطردت‪:‬‬ ‫ قومي بينا يا أما نروحله ونستفهم منه‪..‬‬‫حاولت حماتها إثناءها عن عزمها م ً‬ ‫تعللة بتأخر الوقت وضعف‬ ‫إصرار عجي ٍ‬ ‫ب ثم‬ ‫صحتها لكن أحًلم نهضت من فراشها في‬ ‫ٍ‬ ‫ارتدت مًلبسها وانطلقتا إلى بيت جارهم‪ ،‬طرقت باب المنزل‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫بعصبي ٍة الواعي ٍة بصور ٍة أزعجت ساكنيه‪ ،‬فتحت لهم فتاةٌ‬ ‫ً‬ ‫طالبة منهم االنتظار في غرفة الضيوف‬ ‫صغيرةٌ ورحَّ بت بهم‬ ‫حتى توقظ أباها‪ ،‬بعد ربع ساع ٍة أتاهم الحاج عبد هللا مرحبًا‬ ‫سائ ً​ًل عن حاليهما فر َّدت أحًلم في جفاء‪:‬‬ ‫ حال ميسرش يا حج عبد هللا‪ ،‬إيه اللي حصل ده يا حج؟ إيه‬‫الورقة اللي مبعوتالنا مع المحضر دي؟ ومن إمتى والبيت اللي‬ ‫إحنا ساكنينه بتاعك؟‪..‬‬ ‫ هو السيد مقالش ليكم؟ غريبة! مع إنه حلفلي إنكم عارفين‪،‬‬‫وقالي كمان إنكم ناويين تسيبوا البيت وتروحوا تعيشوا في‬ ‫المنصورة‪..‬‬ ‫طلبت الحاجة هانم توضيحً ا أكثر‪ ،‬فابتلع الرجل ريقه ثم قال‪:‬‬ ‫ الحكاية يا حاجة إن السيد كان سالف مني قرشين من زمان‬‫ولما جه معادهم قالي اصبر شوية علشان بيخلص في بيت‬ ‫هيشتريه في المنصورة وإنكم هتنقلوا فيه‪ ،‬وعرض عليا يبيعلي‬ ‫البيت فأنا وافقت خصوصً ا إن الجدار في الجدار‪ ،‬فكملتله بقية‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫المبلغ وكل لما أسأله هتخلوا البيت إمتى يقولي اصبر شوية‬ ‫عليا‪ ،‬فعملت المحضر ده علشان أستعجله وأنا معرفش يا‬ ‫حاجة إنه مخبي عليكم‪..‬‬ ‫كانتا تستمعان إليه في ذهول وكلماته تهوي كالمطارق على‬ ‫رأسيهما‪ ،‬لم يتخيًل أب ًدا أن تبلغ الوقاحة بسيد إلى هذه الدرجة‬ ‫فيبيع المنزل الذي يؤوي أمه وزوجته وأوالده‪ ،‬بعد لحظا ٍ‬ ‫ت‬ ‫من سكون ما بعد الصدمة قالت الحاجة هانم في انكسار‪:‬‬ ‫ طب يا حاج عبد هللا بًلش تمشي في إجراءات اإلخًل‪ ،‬إحنا‬‫يا ابني ملناش غير البيت ده يتاوينا‪ ،‬وإحنا جيرة أبوك وأمك‬ ‫هللا يرحمهم‪..‬‬ ‫قالتها وهي تهوي على يد الحاج عبد هللا تريد تقبيلهما‬ ‫وساعدها على العودة إلى مكانها وقال‪:‬‬ ‫ جيرتكم على راسي يا أم السيد بس السيد خد مني فلوس‪..‬‬‫قالت أحًلم بصو ٍ‬ ‫ت ه َّده األلم‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ هنردهالك يا حاج عبد هللا‪ ،‬لو هنقطع من جلدنا الحي‬‫هنردهالك‪ ،‬بس بحق الجيرة يا حاج تصبر علينا ويبقى جميلك‬ ‫على راسنا طول العمر‪..‬‬ ‫أومأ الرجل برأسه ولم يدر ما يقول في هذا الموقف العصيب‪،‬‬ ‫انصرفتا ولساناهما يلهجان بالشكر لتفضله عليهما ثم عادتا إلى‬ ‫منزلهما ترفًلن في االنكسار والحيرة‪ ،‬بعد ساع ٍة أو أقل عاد‬ ‫السيد من الخارج‪ ،‬صرخت أمه في وجهه عندما رأته‪:‬‬ ‫ أنت رايح تبيع البيت اللي آوينا يا فاجر علشان تصرف‬‫فلوسه عالخمرة والحشيش والنسوان‪ ،‬يلعن البطن اللي شالتك‪،‬‬ ‫يا ريتك كنت مت وال نزلتش من بطني يا فاجر‪..‬‬ ‫انتفخت أوداجها واحمرَّ ت عيناها مع االنفعال الشديد فيما لم‬ ‫يلق السيد با ًال لها وكأ َّنه لم يسمعها ثم صعد إلى السطح وكأنَّ‬ ‫شي ًئا لم يحدث‪..‬‬ ‫كل هذا وأحًلم لم تنطق بحرفٍ واح ٍد تفكر في كيفية تجهيز‬ ‫المبلغ‪ ،‬والتفكير في الكارثة المحدقة بعائلتها يكاد يقتلها‪ ،‬قفزت‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫صورةٌ ما إلى مخيلتها من وسط أفكارها‪ ،‬صورة ابنها محمد‪،‬‬ ‫تتمنى لو أنه معها اآلن كي تضع رأسها على صدره وتبكي‪،‬‬ ‫افتقادها له وحنينها إليه طغى على التفكير في حل للكارثة‬ ‫تمتمت بشفاهها واض ً‬ ‫عة يديها أعلى رأسها "آه يا محمد‪ ،‬آه‬ ‫يبني‪ ،‬يا ترى أنت فين؟ شفت أمك والحزن اللي هي فيه؟"‪..‬‬ ‫ظلَّت تتقلب في فراشها ولم يغمض لها جفنٌ طيلة الليل‪ ،‬عند‬ ‫الفجر سمعت صوت خطوات حماتها بالخارج‪ ،‬خرجت لتجدها‬ ‫ً‬ ‫تصلي راف ً‬ ‫سائلة ربها أن يساعدها في محنتها‪،‬‬ ‫عة يديها للسماء‬ ‫توضأت أحًلم وبينما هي تصلي سمعت صوت الباب يقفل من‬ ‫الخارج‪ ،‬أت َّمت صًلتها ولم تجد حماتها‪ ،‬ما الذي تنتويه هذه‬ ‫العجوز وجعلها تخرج في هذه الساعة المبكرة من الصباح؟‬ ‫افترشت األرض فغلبها التعب أخيرً ا واستغرقت في النوم حتى‬ ‫أيقظتها حماتها‪ ،‬أفاقت ورأت أمامها م ً‬ ‫نشفة كبير ًة بداخلها كيسٌ‬ ‫من البًلستيك أذهلها بمحتواه‪ ،‬ك ٌ‬ ‫مية كبيرةٌ ج ًدا من النقود‪،‬‬ ‫اندهاش عظيم‪:‬‬ ‫اتسعت عيناها في شدة وسألت حماتها في‬ ‫ٍ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ جبتي منين الفلوس دي يا أما؟‪..‬‬‫لملمت حماتها المنشفة وأمرتها بالذهاب معها إلى منزل الحاج‬ ‫عبد هللا قبل خروجه‪ ،‬نهضت مذهولة وتبعت حماتها في‬ ‫صم ٍ‬ ‫ت يتنافى مع ضجيج األسئلة في رأسها‪ ،‬من أين أتت هذه‬ ‫العجوز بكل هذا المال؟‪ ،‬وكيف بهذه السرعة؟ أخرجتها‬ ‫طرقات حماتها على باب منزل الحاج عبد هللا من بحر‬ ‫الًلوعي الذي غمر عقلها‪ ،‬فتح لهم الرجل منده ًشا لقدومهما‬ ‫في هذا الوقت‪ ،‬بعدما رحَّ ب بهما قال‪:‬‬ ‫ وهللا يا ستي أنا كنت ناوي أروح النهاردة بعد الضهر أوقف‬‫إجراءات اإلخًل‪ ،‬بس باهلل عليكي يا أم السيد تسامحيني‪..‬‬ ‫ر َّدت الحاجة هانم في هدوء‪:‬‬ ‫ وال يهمك يا حاج عبد هللا‪ ،‬لو كنا مكانك كنا عملنا كده‪..‬‬‫قاطعها ً‬ ‫قائًل‪:‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ ال طبعًا يا أم السيد دانتي أم األصول‪ ،‬لو العيبة طلعت مننا‬‫عمرها ما تطلع منك أب ًدا‪..‬‬ ‫ تسلم يا حاج عبد هللا‪ ،‬إحنا جايينلك في كلمة ورد غطاها‪،‬‬‫إحنا يا حاج جبنالك الفلوس‪ ،‬خد منها اللي سيد خده منك‬ ‫وبعدين تعملنا عقد بيع جديد باسم أحًلم‪..‬‬ ‫خجل‬ ‫قالتها وفتحت الكيس البًلستيكي أمامه‪ ،‬أحنى رأسه في‬ ‫ٍ‬ ‫ثم نظر إلى السيدتين وقال‪:‬‬ ‫ حد هللا أحط إيدي في فلوسك يا أم السيد‪ ،‬سيد كان خد مني‬‫تسعين ألف‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مكتومة ود َّقت صدرها بقوة‪ ،‬ماذا فعل‬ ‫شهقة‬ ‫شهقت أحًلم‬ ‫السيد بهذا المبلغ الكبير؟ تسعون أل ًفا؟ وكيف ب َّدد ك َّل هذا المال؟‬ ‫وفيم؟‪..‬‬ ‫م َّدت أم سيد يدها للرجل بالمبلغ المطلوب ثم لملمت منشفتها‬ ‫وقامت من جلستها‪ ،‬أصرَّ أال تخرج من بيته قبل أن تتناول‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫طعام اإلفطار لكنها اعتذرت طال ً‬ ‫بة منه في أد ٍ‬ ‫ب أن يقوم بكتابة‬ ‫عقد البيع في أسرع وقت وشكرت له صنيعه معهما وتفضله‬ ‫عليهما ثم انصرفتا إلى منزلهما‪ ،‬ه َّمت أحًلم بإلقاء أسئلتها‬ ‫والفضول يقتلها إال أنَّ حماتها ذكرتها بتأخرها عن العمل‬ ‫مشير ًة إلى الساعة المعلقة على الحائط‪ ،‬اتجهت عيناها دون‬ ‫قص ٍد إلى الصورة ذات اللونين األبيض واألسود المجاورة‬ ‫للساعة‪ ،‬صورة زفافها إلى سيد وقد ابتسمت ناظر ًة إلى عينيه‬ ‫ً‬ ‫واضعة يديها على كتفيه فيما أحاط هو خصرها النحيف بيديه‪،‬‬ ‫يوم مرَّ ت به في حياتها‪ ،‬تمتمت‬ ‫لم تعلم حينها أنه سيكون أسوأ ٍ‬ ‫بحمد هللا على قضائه ثم ارتدت مًلبسها‪ ،‬أيقظت هند التي‬ ‫زمجرت من تحت غطائها لكنها لم تجد ً‬ ‫مفرا من النهوض‪،‬‬ ‫عادت أحًلم لتودع حماتها فوجدتها قد استسلمت للنوم وعلى‬ ‫ٌ‬ ‫ابتسامة خفيفة‪،‬‬ ‫شفتيها ارتسمت‬ ‫ابتسامة رضًا وارتياح‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪2‬‬ ‫المس الندى وجنتيها في حميمي ٍة واستنشقت نسمات الصباح‬ ‫بانتعاش خفيف‪ ،‬ربما كان الفضول يقتلها إال أنها لم‬ ‫فأحست‬ ‫ٍ‬ ‫تدعه يفسد عليها سرور انفراج األزمة‪ ،‬رفعت عينيها إلى‬ ‫السماء فلما غشيتها الشمس بنورها رفعت يمناها وصنعت منها‬ ‫واقيًا لعينيها‪..‬‬ ‫ماجت شوارع القرية بالحركة‪ ،‬قاد الفًلحون عرباتهم المحملة‬ ‫بروث البهائم بوجو ٍه جامد ٍة خالي ٍة من أي انفعاالت‪ ،‬فقط آثار‬ ‫النوم الذي ما زال يتململ في أعينهم يحارب أجفانهم في‬ ‫إصرار وكل منهم يجالده بفرك عينيه أو بتمط ٍع لذي ٍذ من‬ ‫ذراعيه‪ ،‬لماذا لم يكن زوجها فًلحً ا مثلهم؟ يستيقظ فجرً ا ال أن‬ ‫ينام صباحً ا‪ ،‬يجتهد في فًلحة أرض أمه ويقتات منها فيكفيهم‬ ‫بعضًا من حاجتهم بد ًال من تركها تستهلك من قبل مستأجريها‬ ‫نفع يعود عليهم‪..‬‬ ‫بًل ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫وصلت إلى المصنع وأشارت اإلشارة المعتادة لعامل البوابة‪،‬‬ ‫في غرفتها سمحت لنفسها بأن تتم َّدد فوق األريكة ناظر ًة‬ ‫ألعلى واضعة ذراعها األيمن على جبهتها‪ ،‬احتلت صورة‬ ‫ابنها كالمعتاد تفكيرها بالكامل‪ ،‬انفرجت شفتاها وكأنها تود أن‬ ‫تخبره بما حدث من أبيه وكيف قامت جدته بحل الموقف‬ ‫بطريقة ما ثم بدا وكأنها تعده بإخباره بقية القصة حينما تعرفها‬ ‫من جدته‪ ،‬نهضت ثم جمعت أدواتها وبدأت تؤدي عملها‬ ‫الروتيني‪ ،‬مرَّ ت على غرفة األستاذ سعيد فنظفتها ثم على‬ ‫غرفة األستاذ كامل الذي تجاذب معها أطراف الحديث سائ ً​ًل‬ ‫اهتمام لما روته‬ ‫إياها عن أحوالها وأحوال أسرتها‪ ،‬استمع في‬ ‫ٍ‬ ‫عن قصة بيع المنزل ثم هنأها بانفراج األزمة سريعًا داعيًا لها‬ ‫بدوام راحة البال فأ َّمنت على دعائه وشكرت له حسن إصغائه‬ ‫وسعة صدره‪..‬‬ ‫بًل أدنى اختًلفٍ عن سابقيه انتهى هذا اليوم من العمل‪،‬‬ ‫وصلت منزلها في تمام السابعة تقريبًا‪ ،‬وجدت حماتها المس َّنة‬ ‫مفترشة األرض كعادتها تار ً‬ ‫ً‬ ‫كة النافذة‬ ‫نوم عميق‬ ‫تغط في ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫مفتوحة على مصراعيها حتى تسمح لتيارات الهواء بالمرور‬ ‫علَّها تخفف من درجة الحرارة التي على ما يبدو لم تعد تفرق‬ ‫بين النهار والليل وعلى ذراعها األيمن ينام محمود الصغير‬ ‫سكون مًلئكيٍ بريء‪..‬‬ ‫في‬ ‫ٍ‬ ‫مرَّ ت كعادتها على غرفة ابنتها فوجدتها خالية‪ ،‬رفعت حاجبيها‬ ‫فًل تدري أكان رفعهما لًلستغراب أم للقلق أم للغضب أم‬ ‫لثًلثتها معًا‪ ،‬انتهت من استحمامها لتجد ابنتها قد دخلت لتوها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خاطفة إلى الساعة ثم سألت ابنتها في غضب‪:‬‬ ‫نظرت نظر ًة‬ ‫ اتأخرتي ليه يا هند‪ ،‬كنتي فين كل ده؟ الساعة سبعة ونص‪..‬‬‫ر َّدت هند وهي تتحرك في اتجاه غرفتها‪:‬‬ ‫ وأنا مروحة عديت مع سماح على بيتهم وقعدت مع أمها‬‫شوية وبعدين وصلتني للموقف فركبت وجيت‪..‬‬ ‫جذبت أحًلم ذراع ابنتها بمنتهى العنف ثم صرخت في‬ ‫وجهها‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ هو كل يوم تعدي على بيت سماح دي‪ ،‬حسك عينك تتأخري‬‫بعد كده وسماح دي متعتبيش بيتها تاني‪ ،‬مفهوم؟‪..‬‬ ‫تأوهت هند من شدة قبضة أمها فأذعنت لألمر في خضوع‬ ‫حتى تتفادى انفعال أمها ثم دخلت غرفتها‪ ،‬ارتمت على‬ ‫سريرها وأخذت تعاتب نفسها‪ ،‬لقد أصبحت تتأخر كثيرً ا هذه‬ ‫األيام حتى أثارت غضب أمها والخوف كل الخوف أن تثير‬ ‫شكوكها أيضًا‪ ،‬عليها أن تكون أكثر حذرً ا في األيام القادمة‬ ‫وأن تعمل على العودة مبكرً ا قدر اإلمكان‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫طرقات عصبية د َّقت باب المنزل وانتزعتها من تفكيرها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سرعة لترى من يكون الطارق فيما انتصبت أمها‬ ‫ذهبت م‬ ‫ً‬ ‫واقفة تضع شي ًئا يغطي رأسها‪ ،‬فتحت هند لتندفع أختها سعاد‬ ‫ً‬ ‫باكية‬ ‫نحو أمها التي ذهلت ل َّما رأتها‪ ،‬ارتمت في أحضان أمها‬ ‫بكا ًء هيستير ًيا‪ ،‬لم يكن سبب ذهول أحًلم رؤية ابنتها المفاجئة‬ ‫أو بكائها الرهيب‪ ،‬لم تسأل ابنتها عن سبب مجيئها أو حتى عن‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫سبب بكائها فهي تعلم مسب ًقا‪ ،‬كان سؤالها ملتاعًا بكل معنى‬ ‫الكلمة‪:‬‬ ‫ فين حامد يا سعاد؟‪..‬‬‫نظرت سعاد ألمها بوج ٍه متسرب ٍل بالقهر وتدلَّت من عينيها‬ ‫إلحاح‬ ‫عناقيد المرارة واالنكسار‪ ،‬كررت أم محمد السؤال في‬ ‫ٍ‬ ‫قاس غير آبه ٍة لحال ابنتها رعبًا على الطفل الوليد الذي لم‬ ‫ٍ‬ ‫يتجاوز عمره السبعة أشهر‪ ،‬سعلت سعاد س ً‬ ‫عاال شدي ًدا فجاءت‬ ‫ً‬ ‫معجونة بالدم‪ ،‬ر َّدت والتشنجات تذبح صدرها‪:‬‬ ‫نخامتها‬ ‫ طردوني يا أما وخدوه مني؟ شدوه وقالولي زي ما جيتي هنا‬‫لوحدك هتمشي لوحدك‪ ،‬ده ابننا مش ابنك‪..‬‬ ‫تضاعف ارتياع أحًلم ألف مرة حتى بدا وكأنَّ وجهها على‬ ‫وشك االنفجار وأنَّ عينيها صارتا فتي ً​ًل لهذا االنفجار‪ ،‬من لهذا‬ ‫الطفل الوليد؟ من يغذيه وقد أبعدوه عن أمه؟ أي قلو ٍ‬ ‫ب تنبض‬ ‫شر هم؟ قالت في صو ٍ‬ ‫خفيض وكأنها‬ ‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫في صدورهم وأي ب ٍ‬ ‫تحدث نفسها‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ ومين هيرضعه؟ ده لسه متمش سنة‪..‬‬‫انفجرت سعاد في البكاء وكأنَّ تساؤل أمها يخطر على بالها‬ ‫ألول مرة‪ ،‬ض َّمتها أحًلم إلى صدرها في قوة فتسلل صوت‬ ‫كين باردة‪ ،‬نظرت‬ ‫نشيج ابنتها المكتوم إلى قلبها فمزقه كس ٍ‬ ‫عيناها إلى الًل شيء ودار عقلها في الًلوعي‪ ،‬تثبتت كالصنم‬ ‫وقد أسندت ذقنها إلى قمة رأس ابنتها‪ ،‬تخيلت حفيدها الوليد‬ ‫يتلوى من األلم والجوع‪ ،‬تتمزق أحشاؤه وهو يصرخ بصوته‬ ‫الحاد ضاربًا الهواء بكفيه الرقيقتين ً‬ ‫باحثا عن ثديي أمه التي ال‬ ‫يعرف لماذا هجرته وض َّنت عليه بعطفها؟ رفعت عينيها إلى‬ ‫السماء وطلبت من ربها العون وأن يلهم ابنتها الصبر‪..‬‬ ‫أسبو ٌع مرَّ وسعاد لم تبدل ثيابها ولم تغير جلستها منذ دخلت‬ ‫المنزل‪ ،‬ترتكن إلى الجدار بكتفها األيمن فيما انثنت ساقاها إلى‬ ‫جانبها‪ ،‬ال تنقطع عن البكاء إال عندما تفقد وعيها حتى إذا‬ ‫عادت إليه لطمت صدغيها وش َّدت شعرها حتى تخلعه من‬ ‫منبته صار ً‬ ‫خة باسم فلذة كبدها‪ ،‬ال تذوق طعامًا وال يغمض لها‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫جفن‪ ،‬يغشاها الوهن حي ًنا فيجبرها على النوم لهنيها ٍ‬ ‫ت بسيطة‬ ‫ً‬ ‫ابتسامة ال‬ ‫ثم تفيق على اسم ابنها‪ ،‬تتخيله أمامها فتبتسم‬ ‫ً‬ ‫شعورية وتمد يدها لتتحسسه فًل تجد شي ًئا‪ ،‬تصرخ ثم تبكي‬ ‫وكأنَّ ينابيع العبرات في مقلتيها ال تنضب ً‬ ‫أبدا‪ ،‬ال تشعر بأمها‬ ‫التي تحيطها بجسدها بين الحين واآلخر تخفي ًفا عنها وال تسمع‬ ‫اللعنات التي تصبها جدتها على رأس زوجها وأمه التي‬ ‫حرمت أ ًما من وليدها‪..‬‬ ‫عزمت أحًلم على الذهاب إلى قرية زوج ابنتها لتحاول أن‬ ‫تقنع العجوز القاسية بإعادة الولد إلى كنف أمه حتى ترضعه‬ ‫أسبوع كامل‪ ،‬استيقظت فجرً ا‬ ‫وهو الذي لم يذق طعم لبنها منذ‬ ‫ٍ‬ ‫كتمثال‬ ‫ألم شدي ٍد إلى ابنتها التي بدت‬ ‫ٍ‬ ‫وأ َّدت صًلتها‪ ،‬نظرت في ٍ‬ ‫من الشمع يستند إلى الجدار‪ ،‬مسحت بكفها على رأس ابنتها‬ ‫فأفاقت من غفوتها ونظرت إلى أمها بعينين غائرتين كبئرين‬ ‫ٌ‬ ‫عشرات من الهاالت السوداء ثم انكمشت‬ ‫سحيقتين وحولهما‬ ‫في مكانها أكثر تريد أن تتًلشى في الجدار‪ ،‬أحنت رأسها بين‬ ‫هن من جديد‪..‬‬ ‫ركبتيها وبدأت تبكي في و ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫خرجت أحًلم مع خيط الشمس األبيض األول‪ ،‬وجهت بصرها‬ ‫شطر السماء واستنشقت الهواء في قو ٍة ثم تمتمت‪" :‬يارب"‪،‬‬ ‫ارتفعت مخاوفها وانخفضت آمالها بقدر ارتفاعات وانخفاضات‬ ‫الطريق غير الممهد الواصل بين قريتها وقرية زوج ابنتها‪ ،‬ال‬ ‫تدري ماذا ستقول لحماة ابنتها وكيف ستستدر عطف تلك‬ ‫الشمطاء لتعطيها الرضيع الذي أوشك على الموت جوعًا؟‬ ‫وصلت البلدة في وق ٍ‬ ‫قصير ج ًدا وعلى باب البيت المنشود‬ ‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫طرقت بهدوء‪ ،‬فتحت امرأةٌ في العقد الثالث من عمرها تحمل‬ ‫الطفل نائمًا‪َّ ،‬‬ ‫نفور حتى التصقا عندما رأت‬ ‫قطبت حاجبيها في‬ ‫ٍ‬ ‫أحًلم التي م َّدت يدها في لهف ٍة تريد تقبيل حفيدها الحبيب‪،‬‬ ‫أبعدته المرأة عنها وذهبت إلى الداخل دون أن تدعوها للدخول‬ ‫ثم عادت بعد دقائق مشير ًة ألحًلم بالدخول بًل ترحي ٍ‬ ‫ب أو‬ ‫مودة‪ ،‬في الداخل أسندت المرأة العجوز ظهرها إلى وساد ٍة‬ ‫كبيرة ولم تكترث بثني قدميها من باب التأدب بل قالت في‬ ‫جفا ٍء واضح‪:‬‬ ‫ خير يا أحًلم؟ إيه اللى جابك الساعة دي؟‪..‬‬‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫أجبرت أحًلم شفتيها على االبتسام وهي تقول‪:‬‬ ‫ خير يا حاجة إن شاء هللا‪ ،‬أنا كنت جاية علشان أشوف اللي‬‫متتسماش سعاد عملت إيه؟ وندر عليا يا حاجة لو طلعت‬ ‫غلطانة ألجرجرهالك من شعرها لحد هنا وأرميها تحت‬ ‫رجليكي خدامة‪..‬‬ ‫ معملتش حاجة‪ ،‬أهي غارت وجتلكم‪ ،‬إحنا مش عايزينها‪..‬‬‫جنحت أحًلم للتلطف في الكًلم بعدما رأت حدة العجوز‪:‬‬ ‫ طب يا حاجة أنا طمعانة في كرمك تسيبيلنا الولد لحد ما‬‫يتغذى من لبن أمه دي أمه مموته نفسها من العياط وال داقت‬ ‫لقمة وال نومة وانتي ربنا يديكي الصحة أم وعارفه‪..‬‬ ‫ يعني إيه أسيبلكم الولد؟ هو إحنا ملناش فيه زي ما ليكوا فيه‬‫ولًل إيه؟‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ يا حاجة ال سمح هللا هو ابنكم قبل ما يكون ابننا وهو شايل‬‫اسمكم إنتم‪ ،‬بس الواد بقاله أسبوع مرضعش ونخاف يتعب‬ ‫ولًل يجراله حاجة‪..‬‬ ‫قالت العجوز في سخرية‪:‬‬ ‫ ال اتطمني مش مقصرين‪ ،‬بنشربه لبن بقري وأعشاب‪..‬‬‫ارتاعت أحًلم ل َّما سمعت "لبن بقري وأعشاب" ودار هاجسٌ‬ ‫ً‬ ‫قائلة‪:‬‬ ‫مرعب بخلدها لكنها كالعادة تماسكت‬ ‫ يا حاجة أنا طمعانة في كرمك‪ ،‬عهد عليا آخد الواد ألمه‬‫النهاردة يشبع منها مرة واحدة وأجيبهولك تاني بكره‪ ،‬واللي‬ ‫تطلبيه ضمان دلوقتي أعمله يا حاجة‪..‬‬ ‫أطرقت العجوز رأسها تفكر‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬ ‫ إخلعي الحلق اللي إنتي البساه وهاتيه‪ ،‬وهتاخديه لما تجيبي‬‫الواد‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫لم تفكر أحًلم في حقارة المرأة وال في قيمة قرطيها الذهبيين‬ ‫اللذين لم تخلعهما منذ زواجها‪ ،‬لم تفكر إال في ابنتها وحفيدها‬ ‫فخلعت قرطيها وناولتهما للعجوز التي أشارت البنتها بأن‬ ‫تعطي الطفل ألحًلم‪ ،‬تلقفته ثم ض َّمته إلى صدرها في قو ٍة غير‬ ‫حنان افتقده كثيرً ا‪ ،‬شكرت للعجوز فضلها ‪ -‬رغم‬ ‫مؤلم ٍة وفي‬ ‫ٍ‬ ‫فعلتها الوضيعة بضمان حفيدها مقابل قرطين ‪ -‬ثم انصرفت‬ ‫من فورها خشية أن تعود العجوز عن قرارها‪ ،‬ابتسمت في‬ ‫رضًا وراح ٍة شاكر ًة ربها على فضله وأقسمت أال تستر َّد‬ ‫قرطيها قط‪ ،‬وجه الطفل الشاحب وجسده الواهن جعًلها تحدثه‬ ‫مس من قلبها‪" :‬ال تقلق يا صغيري‪ ،‬دقائق وتكون بين يدي‬ ‫به ٍ‬ ‫ً‬ ‫قاطعة‬ ‫أمك وتعود حفيدي الذي أعرفه"‪ ،‬هرولت في مشيتها‬ ‫زمن أقل من الذي استغرقته ذهابًا‪ ،‬انتفضت سعاد‬ ‫الطريق في‬ ‫ٍ‬ ‫عندما وقع بصرها على وجه ابنها وم َّدت يدها لتختطف الطفل‬ ‫من يدي أمها في لهف ٍة ملتاعة‪ ،‬انهمرت دموعها فتساقطت على‬ ‫ضين وارتفع صوت نهنهاتها فاستيقظ الطفل فزعًا‬ ‫خديه الغ َّ‬ ‫باكيًا وراح صراخه يشق سكون البيت‪ ،‬في عفوي ٍة حانية‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫صرخة كادت‬ ‫أخرجت ثديها وألقمته فلذة كبدها لكنها صرخت‬ ‫ٌ‬ ‫صرخة حملت ك َّل رعب وألم وقهر‬ ‫أن تفجر بها أذني وليدها‪،‬‬ ‫الكون‪ ،‬هنا تأ َّكد ألحًلم هاجسها الذي دار بخلدها في بيت حماة‬ ‫ابنتها‪ ،‬لقد رفض الوليد ثدي أمه بعدما منعوه عنه قسرً ا لمدة‬ ‫أسبوع وهذا ما كانت تخشاه‪..‬‬ ‫قربت سعاد ثديها من فمه مرارً ا حتى كادت تخنق أنفاسه لكنه‬ ‫في كل مر ٍة يرفض فارتفع صوت شهقاتها وهي ترى ابنها‬ ‫يرفض ثديها‪ ،‬ص َّبت ببكائها المكتوم كل عذاباتها ولعناتها على‬ ‫رأس زوجها وأهله‪ ،‬لقد فطم الطفل قبل أن يكمل عامه األول‪،‬‬ ‫حرموه من غذائه الذي منحه إياه ربه وهو في بطن أمه‪ ،‬أين‬ ‫تذهب المسكينة باللبن الذى يمأل ضرعيها؟‪ ،‬ولدها يتلوى‬ ‫ويتمزق أمام ناظريها جوعًا وألمًا وال تملك له من أمرها شي ًئا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خارجة من المنزل ثابتة‬ ‫حانية ثم انطلقت‬ ‫ضمة‬ ‫ض َّمتها أمها‬ ‫االنفعال يحثها على اإلسراع صراخ حفيدها وبكاء ابنتها‪،‬‬ ‫ذهبت إلى منزل الدكتور أحمد واعتذرت منه لقدومها في وق ٍ‬ ‫ت‬ ‫مبك ٍر ً‬ ‫صت عليه ك َّل شيء‪ ،‬دوَّ ن لها شي ًئا ما على‬ ‫جدا ث َّم ق َّ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ورقة ذهبت بها إلى صيدلية القرية فابتاعت المطلوب ثم عادت‬ ‫إلى المنزل‪ ،‬سعاد ما زالت تبكي في مرار ٍة أقسى من ذي قبل‬ ‫وهند تحمل الطفل وتهدهده أم ً​ًل في أن يكفَّ صراخه‪ ،‬دخلت‬ ‫ضع‬ ‫أحًلم المطبخ وأع َّدت اللبن المخصص لغذاء األطفال الر َّ‬ ‫بالطريقة التي وصفها الدكتور أحمد ثم مألت به قنينة الصغير‬ ‫نهم واستسلم لها‬ ‫التي يشرب منها‪ ،‬أخذ الطفل يشرب في ٍ‬ ‫تمامًا‪ ،‬قرَّ بته من أمه وهو يتغذى كي تقرَّ عينها وال تحزن‪،‬‬ ‫زن كأنها تعاتبه على تغذيه من زجاج ٍة‬ ‫نظرت إليه في ح ٍ‬ ‫ص َّماء ً‬ ‫بدال من التغذي منها وهي التي أنجبته ثم ض َّمته في‬ ‫حنو وبدأت تتكيف مع الوضع القائم‪ ،‬رفعت عينيها المبتلتين‬ ‫بدموع االمتنان إلى أمها ثم قبَّلت يديها‪ ،‬ربتت أحًلم على كتف‬ ‫رفق كأنها تقول إنَّ العذابات آن لها‬ ‫ابنتها وأغمضت عينيها في ٍ‬ ‫أن تنتهي‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الفصلُ​ُالرابع ُ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪1‬‬ ‫انطلقت أحًلم وهند تح َّثان الخطى بغية الهرب من ذكرى هذا‬ ‫الصباح المشحون‪ ،‬ك ٌل منهما توشك أن تكون متخل ً‬ ‫فة عن ميعاد‬ ‫عملها‪ ،‬أغمضت عينيها طيلة الطريق وراحت تسترجع بعضًا‬ ‫من ذكرياتها القديمة حتى توقفت السيارة فانتبهت كالمستيقظ‬ ‫من نومه‪ ،‬نظرت البنتها قائ ً‬ ‫لة في حسم‪:‬‬ ‫ مفيش مرواح مع اللي اسمها سماح دي وإياكي تتأخري‪،‬‬‫سامعاني؟‪..‬‬ ‫كان صوتها مرتفعًا فلفت انتباه المارة إليهما‪ ،‬نظرت هند‬ ‫خجل وأومأت برأسها إيجابًا ثم سارت في الطريق‬ ‫حولها في‬ ‫ٍ‬ ‫المعاكس لطريق أمها‪..‬‬ ‫أمام باب المتجر سكبت سماح الماء لتهدئة الغبار المتطاير في‬ ‫الشارع الذي يموج بالحركة‪ ،‬استنكرت تأخر صديقتها على‬ ‫غير عادتها فقصت عليها هند كل ما حدث‪ ،‬استمعت سماح في‬ ‫اهتمام شدي ٍد فشهقت تارة ود َّقت صدرها تارا ٍ‬ ‫ت أخرى وكأنَّ‬ ‫ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫األحداث تدور أمام عينيها‪ ،‬بعد نحو الساعة حضر الحاج‬ ‫شرف صاحب المتجر واطمأن إلى سير العمل‪ ،‬سأل الفتاتين‬ ‫عن حاليهما ثم نقدهما ثمن طعام اإلفطار وانصرف ألداء‬ ‫بعض أعماله‪ ،‬لم تجلس هند إلى الطعام فلكزتها سماح بمرفقها‬ ‫ً‬ ‫ضاحكة غامز ًة بإحدى عينيها‪:‬‬ ‫وقالت‬ ‫ أنا عارفة بتفكري في إيه‪ ،‬الصبر يا ختي الصبر‪ ،‬كلها كام‬‫ساعة‪ ،‬نخلص الشغل ونروح البيت سوا‪..‬‬ ‫لم تستجب هند لغمزات صديقتها‪ ،‬نهضت وحاولت التشاغل‬ ‫بالعمل من جديد بينما يسترجع عقلها تنبيهات وتحذيرات أمها‬ ‫صباحً ا‪ ،‬ماذا تفعل في سماح التي بدأت في اإللحاح عليها من‬ ‫اآلن فكيف بها عندما يحين وقت االنصراف؟ قطعت سماح‬ ‫ً‬ ‫استفهام ملح‪:‬‬ ‫سائلة في‬ ‫أفكارها‬ ‫ٍ‬ ‫ فيه إيه يا بت مالك؟‪..‬‬‫ظلَّت هند على صمتها فتمتمت سماح بكلما ٍ‬ ‫ت غير مفهومة‬ ‫وباشرت عملها من جديد حتى حضر الحاج شرف في‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الخامسة وأذن لهما باالنصراف‪ ،‬سارا معًا لمساف ٍة قصير ٍة‬ ‫شارع جانبي لكن هند‬ ‫ج ًدا‪ ،‬ه َّمت سماح باالنعطاف إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫قائلة‪:‬‬ ‫استوقفتها‬ ‫ أنا هروح أنا يا سماح‪ ،‬أمي الحظت إني بتأخر كل يوم‬‫وبهدلتني إمبارح وأنا خايفة‪..‬‬ ‫ يعني إيه؟ معنتيش ناوية تيجي تاني ولًل إيه؟‪..‬‬‫ ال يا سماح‪ ،‬يومين بس لحد ما أمي تنسى وأبقى آجي‬‫معاكي‪..‬‬ ‫ طب ولوهو سألني عليكي‪ ،‬أقوله إيه؟‪..‬‬‫ قوليله تعبت في الشغل ومقدرتش تيجي وكمان أمها بدأت‬‫تاخد بالها إنها بتتأخر‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫مطت سماح شفتيها في استنكار وقالت‪:‬‬ ‫ ماشي‪ ،‬أنا هقوله اللي قولتيه‪ ،‬بس إنتي عارفاه‪ ،‬ميحبش‬‫الكًلم ده‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ حاولي تفهميه إن ده مؤق ًتا بس يا سماح‪ ،‬غصب عني‪..‬‬‫قالتها بصو ٍ‬ ‫ختنق ثم مضت في طريقها وعادت إلى المنزل‬ ‫تم ٍ‬ ‫في السادسة‪ ،‬تل َّمست وجود أمها فلم تجدها فقط جدتها المسنة‬ ‫تهدهد حامد الرضيع وتًلمس باطن قدميه وراحتيه بأطراف‬ ‫ً‬ ‫ضفية‬ ‫أصابعها فيبتسم رغمًا عنه وترتفع ضحكاته الطفولية م‬ ‫ً‬ ‫مرحة لم تعتدها جدرانه وشاركها محمود‬ ‫على المنزل أجوا ًء‬ ‫الصغير في مًلعبة الطفل الوليد الذي كان بالنسبة له د ً‬ ‫مية‬ ‫بالحجم الطبيعي‪..‬‬ ‫دخلت غرفتها وبدأت في تغيير مًلبسها‪ ،‬ف َّكت ضفيرتها‬ ‫ً‬ ‫غبية حين‬ ‫ونظرت إلى وجهها في المرآة تفكر‪ ،‬كم كانت‬ ‫تركت األمور تسير بهذه الطريقة حتى أصبحت واق ً‬ ‫عة بين‬ ‫مطرقة أمها وسندانه وال تستطيع الفكاك من أحدهما‪ ،‬خطرت‬ ‫ٌ‬ ‫لها فكرةٌ‬ ‫بسيطة‪ ،‬ستقول إنَّ الحاج شرف قرر زيادة عدد‬ ‫ً‬ ‫ساعة إضافية كما هو معتاد في بقية المتاجر‬ ‫ساعات العمل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طامة كبرى إذا اكتشفت‬ ‫خاصة خًلل فترة الصيف‪ ،‬ستكون‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫أمها عدم صحة هذا الخبر لكن من عساه يخبرها؟ هذه أمها‬ ‫فماذا عنه؟ ماذا تفعل معه وهو ال يصبر وال يتفاهم؟ لقد‬ ‫وجدت مهربًا مؤق ًتا اليوم فماذا عن الغد وما بعده؟ لم يهتد‬ ‫عقلها لشي ٍء حتى سمعت صوت أمها بالخارج‪..‬‬ ‫اجتمعن على الطعام ألول مر ٍة منذ زمن بعي ٍد‪ ،‬الحاجة هانم‬ ‫وأحًلم وهند وسعاد التي تب َّدل حالها تمامًا‪ ،‬ارتدت عباء ًة‬ ‫وردية اللون وأسدلت شعرها الممشط بعناية على كتفيها‬ ‫طر فواح وطفلها الرضيع على يديها يرتشف اللبن‬ ‫متعطر ًة بع ٍ‬ ‫من زجاجته الصغيرة في استسًلم‪ ،‬نظرت أحًلم إليهما‬ ‫بابتسامة رضًا أبعدها األسى سريعًا عن شفتيها م ً‬ ‫حتًل وجهها‬ ‫بالكامل‪ ،‬تذكرت محمد الذي ال تعلم عنه شي ًئا منذ غادرهم‪،‬‬ ‫دمعت عيناها وسألت هللا أن يعيده إليها سالمًا ثم انخرطت في‬ ‫األحاديث معهنَّ ‪ ،‬للحظ ٍة بدا أنها تذكرت شي ًئا ما‪ ،‬لم تخبرها‬ ‫حماتها عن كيفية تجهيز النقود يوم مشكلة بيع المنزل فسألتها‬ ‫عن ذلك‪ ،‬أدارت الحاجة هانم وجهها كي ال تواجه عيناها‬ ‫عيني أحًلم وقالت‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ رحت بعت السبع قراريط للحاج منصور اللي مأجر‬‫األرض‪ ،‬كان نفسه يشتريها من زمان علشان يضمها ألرضه‬ ‫وياما اتحايل عليا علشان أبيعله وكنت عارفه إنه جاهز‬ ‫بالفلوس في أي وقت‪..‬‬ ‫امتعضت أحًلم في أسفٍ معق ً‬ ‫بة‪:‬‬ ‫ ليه كده يا أما؟ ده إيرادها كان بيساعد في مصاريف البيت‬‫وبيجيب تمن دوا سيد‪..‬‬ ‫انفعلت الحاجة هانم بمنتهى العصبية صار ً‬ ‫خة‪:‬‬ ‫ إن شاهلل عنه ما أخد دوا وال يجعله يعيش ساعة واحدة‪،‬‬‫جايبلنا الفقر ورايح يبيع البيت اللي آوي أمه ومراته وعياله‪،‬‬ ‫متجيبليش سيرته‪ ،‬ربنا ياخده‪..‬‬ ‫أطبق الصمت ً‬ ‫ٌ‬ ‫طرقات قوية كادت‬ ‫قليًل حتى د َّقت على الباب‬ ‫ً‬ ‫غليظا متجهما لوج ٍه‬ ‫تخلعه من مكانه‪ ،‬كان الطارق رج ً​ًل‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫يرتدي لباس الشرطة قال بصو ٍ‬ ‫سؤاال‬ ‫ت أجش دون أن ينتظر‬ ‫من أحد‪:‬‬ ‫ عايزين الست أحًلم تيجي تستلم ابنها محمد من القسم‪..‬‬‫اتسعت عيناها وارتفع حاجباها حتى المسا منبت شعرها‪،‬‬ ‫شهقت من هول المفاجأة ود َّقت صدرها بكفها ثم انفجرت‬ ‫براكين األسئلة في رأسها‪ ،‬ما الذي فعله محمد حتى يصير‬ ‫حبيس الشرطة؟ وكيف انتهى به الحال هكذا وهو الذي غادر‬ ‫المنزل مسافرً ا خارج البًلد ً‬ ‫بحثا عن عمل؟ ألم يسافر أص ً​ًل؟‬ ‫أم تراه قد سافر فع ً​ًل ثم عاد لسب ٍ‬ ‫ب ما؟ سألت الشرطي عن‬ ‫سبب احتجاز ابنها فأخبرها بأ َّنها ستعرف ك َّل شي ٍء الح ًقا‪،‬‬ ‫عرضت بنتاها الذهاب معها فرفضت وكأ َّنما ال تريد أن‬ ‫تشاركاها فرحة لقائه حتى ولو كان المكان هو مركز الشرطة‪،‬‬ ‫اندفعت تسابق شوقها إليه وتسبقها أسئلتها التي لم تبرح بعد‬ ‫خًليا مخها‪ ،‬انتظرت للحظا ٍ‬ ‫ت كالدهر حتى أتاها الشرطي به‪،‬‬ ‫كان أشع ً‬ ‫ث نامي اللحية هندامه غير متناسق وعيناه الزائغتان‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫طويًل طويًل‬ ‫تدالن على عدم نومه لفتر ٍة طويلة‪ ،‬احتضنته‬ ‫وذابت في جسده‪ ،‬أبعدته قلي ً​ًل ثم نظرت إلى وجهه الشاحب‪،‬‬ ‫وتحسسته براحتيها لتتأكد أنه بين يديها ح ًقا وليس مجرد‬ ‫خياال ٍ‬ ‫ت في أحد أضغاث أحًلمها‪ ،‬أما هو فلم تذرف عيناه‬ ‫ً‬ ‫دمعة واحدة وظ َّل صام ًتا‪ ،‬عندما هدأت انفعاالت اللقاء‬ ‫واستقرت القلوب بعد اضطرابها انصرفا من المركز‪ ،‬تأبطت‬ ‫ً‬ ‫ثانية‪،‬‬ ‫ذراعه كاأليام الخوالي وتشبثت به كأنها تخشى أن تفقده‬ ‫في المنزل تجددت االنفعاالت من جديد‪ ،‬نظر إليها راجيًا‬ ‫غفرانها بينما الفضول يقتلها‪ ،‬سمعا سعال السيد وهو يهبط‬ ‫على درجات السلم‪ ،‬أشار إلى ابنه بعصاه وهو يقول متهكمًا‪:‬‬ ‫ حمدهلل عالسًلمة يا سبع البرمبة‪ ،‬مش عملت فيها راجل‬‫وقلت مسافر أشتغل‪ ،‬رجعت تاني ليه؟‪..‬‬ ‫وكأنَّ ك َّل متاعب األسابيع الفائتة لم تكفه فأتى أبوه بسخريته‬ ‫السخيفة لزيادتها‪ ،‬لم يرد على أبيه الواقف على عتبة الباب‬ ‫خارجً ا وأكمل سخريته لكن ألحًلم هذه المرة‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ أهو رجعلك ياختي‪ ،‬مش كنتي بتقعدي تعيطي عليه؟ أهو‬‫رجعلك من القسم‪..‬‬ ‫أرادت أن تصرخ في وجهه بكل كرهها وغيظها ومقتها كي‬ ‫يصمت لكن ما لم تستطعه هي فعلته حماتها‪:‬‬ ‫ يا أخي ارحم نفسك واتهد واسكت بقى‪ ،‬إنت مش مكفيك إننا‬‫مستحملين قرفك وعارك وساكتين‪ ،‬وإنت وال ليك الزمة‬ ‫وعايش على قفا مراتك‪ ،‬غور في ستين مصيبة‪ ،‬داهية ال‬ ‫ترجعك‪ ،‬قلتك أحسن‪..‬‬ ‫خرج وصفق الباب خلفه في عنفٍ فيما ربتت الجدة على كتف‬ ‫حفيدها م ً‬ ‫هونة عليه‪ ،‬قبَّل يدها ويد أمه ثم ذهب إلى غرفته‬ ‫ليستريح‪..‬‬ ‫لم تنم أحًلم وظلت األسئلة تتقلب معها في الفراش طيلة الليل‬ ‫حتى الصباح‪ ،‬نهضت في لهف ٍة فوجدته يصلي بهدوء حليق‬ ‫الذقن تبدو عليه أمارات الراحة‪ ،‬أت َّم صًلته ونظر إليها‪ ،‬يعلم‬ ‫أنَّ التساؤالت تمأل رأسها فابتسم لها في حنو وجلس إلى‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫جوارها‪ ،‬لم يرد أن تأكلها الحيرة أكثر من ذلك‪ ،‬التمعت عيناه‬ ‫وهو يتذ َّكر كل ما مضى ً‬ ‫قائًل بصو ٍ‬ ‫ت متهدج‪:‬‬ ‫ كنت متفق أنا وواحد صحبي مع راجل فالمنصورة إنه‬‫يسفرنا إيطاليا في مركب‪ ،‬اديتله خمس تًلف كنت محوشهم‬ ‫وصحبي زيهم‪ ،‬الراجل اتفق معانا نقابله في مطروح‪ ،‬لما‬ ‫ركبنا المركب شوية شوية بدأ البحر يهيج‪ ،‬كنا تعبانين جدا بس‬ ‫كنا الزم نستحمل‪ ،‬من بعيد ظهرت لينا أرض افتكرناها‬ ‫إيطاليا‪ ،‬لما قربنا من األرض لقينا خفر السواحل بيسحبوا‬ ‫المركبة وبيجروها للشط‪ ،‬نزلونا وركبونا عربيات البوليس‬ ‫استغربنا منهم ألنهم كانوا بيتكلموا عربي بس مش بلهجتنا‪،‬‬ ‫عرفنا بعدها إننا في ليبيا وإن الراجل نصب علينا وخلى‬ ‫المركب تلف بينا في البحر بالليل وتودينا ليبيا بدل ما تروح‬ ‫إيطاليا‪ ،‬وبعدين هناك رحلونا على مصر‪..‬‬ ‫استمعت أحًلم إليه واج ً‬ ‫مة تتخيل األحداث منذ رأته يعد حقيبته‬ ‫حتى اآلن وكأنها فيل ٌم مصورٌ أمامها‪ ،‬تخيلت لو كان حدث له‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫مكروه ماذا كانت تفعل؟ هكذا اإلنسان دومًا يتخيل األسوأ إن‬ ‫حدث األفضل‪ ،‬ها هو ابنها عاد أسرع مما توقعت أو تم َّنت‬ ‫وتراه رأى العين فلماذا تصر خياالتها على إفساد هذه اللحظة؟‬ ‫ً‬ ‫ارتياح عميق ثم‬ ‫ثانية وابتسمت ألول مر ٍة فى‬ ‫نظرت إليه‬ ‫ٍ‬ ‫ودعته مصطح ً‬ ‫بة هند وانطلقتا إلى عمليهما كالمعتاد‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪2‬‬ ‫ألقت هند تحية الصباح على سماح فنظرت إليها األخيرة في‬ ‫نفور ثم أدارت وجهها وتشاغلت بأداء عملها‪ ،‬انقبض صدر‬ ‫ٍ‬ ‫هند من نظرة صديقتها وسألتها في خوفٍ ‪:‬‬ ‫ سماح‪ ،‬طمنيني‪ ،‬عمل إيه؟‪..‬‬‫ قعد يزعقلي ويقولي مجتش معاكي ليه؟ معرفتش أنطق‪،‬‬‫قلتله تعبت وأمها جت عدت عليها وخدتها من الشغل‪..‬‬ ‫وجمت هند وأسهمت تفكر في العواقب‪ ،‬حاولت االنهماك في‬ ‫عملها وتناسي األمر فلم يتأت لها ذلك‪ ،‬عندما د َّقت الساعة‬ ‫الخامسة لملمت متعلقاتها واستدارت تنادي سماح‪ ،‬شهقت‬ ‫ووضعت يدها اليمنى على فمها كي تكتم صرختها فيما د َّقت‬ ‫باليسرى على صدرها لمَّا رأته يقف أمامها‪ ،‬حاولت التحدث‬ ‫والتغلب على المفاجأة التي ألجمت لسانها‪ ،‬بلعت ريقها‬ ‫وتلعثمت عدة مرات وهي تقول‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ و ‪ ..‬ولـ ‪..‬وليد‪ ،‬إيه ‪ ..‬إيه اللي جابك‪ ،‬إحم‪ ،‬هنا؟‪..‬‬‫حدق في عينيها بصور ٍة جعلت كيانها من الداخل يرتعد خو ًفا‬ ‫وبطريق ٍة خلعت قلبها من مكانه وألقته عند قدميه‪ ،‬استمر في‬ ‫صمته متلذ ًذا بتعذيبها‪ ،‬أخيرً ا نطق بصو ٍ‬ ‫خفيض عميق‬ ‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫وببط ٍء مقصو ٍد هدم البقية الباقية من احتمالها‪:‬‬ ‫ مجيتيش إمبارح ليه يا هند؟‪..‬‬‫امتقع وجهها أكثر ودارت عيناها في محجريهما‪ ،‬تجاهد لمنع‬ ‫دموعها التي تأهبت كي تسيل على خديها واندفعت كل الدماء‬ ‫إلى وجنتيها استعدا ًدا لتلقي صفعاته حتى أكسبها توردهما‬ ‫منظرً ا رائعًا يتنافى تمامًا مع جحيم الموقف الذي تحياه‪،‬‬ ‫انكسار وقلة حيلة بعدما‬ ‫طأطأت رأسها ونظرت بين قدميها في‬ ‫ٍ‬ ‫عجز لسانها عن إجابته برد يرضيه‪ ،‬استدار ثم انصرف تحت‬ ‫ً‬ ‫صامتة تراقبهما‪ ،‬بعد لحظا ٍ‬ ‫ت قًلئل‬ ‫أنظار سماح التي وقفت‬ ‫حضر الحاج شرف والحظ الوجوم البادي على وجه هند‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫وعكة شديد ًة أل َّمت بها هذا الصباح‪ ،‬ر َّبت‬ ‫فأخبرته سماح بأنَّ‬ ‫الرجل على كتف هند ثم دعا لها بالسًلمة وودعهما‪..‬‬ ‫قادتها سماح كالمسحورة عبر األزقة وانعطفت بها ي ً‬ ‫منة ويسر ًة‬ ‫بدون أدنى مقاومة منها حتى دخًل المنزل وما إن رأتها أم‬ ‫وليد حتى مصمصت شفتيها وقالت في غض ٍ‬ ‫ب ساخر‪:‬‬ ‫ مجيتيش إمبارح ليه يا غندورة؟ عامله فيها بنت ناس؟‪..‬‬‫لم تجب هند فردت سماح في سرعة‪:‬‬ ‫ أصل يا أما عندهم مشاكل في البيت وكمان محمد أخوها‬‫رجع مالسفر‪..‬‬ ‫انفجرت هند باكية مع ذكر أخيها وكأنما لم تتذكر عودته إال‬ ‫اآلن‪ ،‬نظرت أم وليد إلى ابنتها وأشارت إليها بإشارا ٍ‬ ‫ت ما‬ ‫فأخذتها سماح إلى دورة المياه‪ ،‬خلعت عنها مًلبسها وألبستها‬ ‫قميصًا شفا ًفا أبيض اللون ثم قادتها إلى غرف ٍة جانبية‪ ،‬نظرت‬ ‫هند إليها تستعطفها كي ال تتركها وحيد ًة لكن سماح خفضت‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫رأسها هربًا من عيني صديقتها ولم تستجب الستغاثتها‬ ‫قليل سمعت صوت أخيها‬ ‫المكتومة ثم أغلقت الباب عليها‪ ،‬بعد ٍ‬ ‫الغاضب وصراخ هند‪ ،‬هرولت إلى الغرفة واندفعت داخلها‬ ‫ً‬ ‫عارية تمامًا على األرض تبكي بكا ًء‬ ‫دون استئذان‪ ،‬وجدت هند‬ ‫شدي ًدا وقد وضعت يديها على وجهها خو ًفا من صفعا ٍ‬ ‫ت جديد ٍة‬ ‫محتمل ٍة بينما وليد يرتدي مًلبسه‪ ،‬خرج من الغرفة مندفعًا وهو‬ ‫يكيل سبابًا بذي ًئا لهند‪ ،‬ض َّمت سماح صديقتها إلى صدرها‬ ‫وحاولت تهدئتها فلما سكنت ً‬ ‫قليًل ألبستها مًلبسها وقادتها إلى‬ ‫مكان تجمع سيارات األجرة‪ ،‬ودعتها وق َّبلت وجنتيها في هدوء‬ ‫فيما لم تنبس هند ببنت شفة منذ صراخها حتى اآلن‪ ،‬مع تحرك‬ ‫السيارة بدأت في تذكر هذا الجحيم الذي بدأ منذ بداية العام‬ ‫الدراسي المنتهي‪ ،‬رأته يومًا مع سماح بجوار سور المدرسة‪،‬‬ ‫أخوها الذي يكبرها بثًلثة أعوام‪ ،‬كانت تحكي لها أخباره‬ ‫يوم ما أتاها اتصا ٌل مفاج ٌئ منه عبر‬ ‫بصور ٍة عفوية‪ ،‬في ٍ‬ ‫هاتفها‪ ،‬سألها عن سماح مدعيًا أنها تأخرت عن ميعاد عودتها‪،‬‬ ‫لم تكن سماح إلى جواره حين اتصل بها إذن مما يعني أنه أخذ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫رقم هاتفها عن عم ٍد مسب ًقا من هاتف أخته ثم تحيَّن الفرصة‬ ‫لًلتصال بها‪ ،‬أغلقت االتصال في وجهه يومها لكنه عاود‬ ‫كلل أو ملل حتى رضخت إللحاحه‬ ‫المحاولة مر ًة بعد مر ٍة دون ٍ‬ ‫وأجابته‪ ،‬أخبرها أنه وجد فيها شي ًئا ما مختل ًفا على الرغم من‬ ‫أنه لم يرها سوى مر ٍة واحد ٍة فقط‪ ،‬كانت تعلم أنه يكذب وأنه‬ ‫قال هذه الكلمات للكثيرات قبلها كما أخبرتها سماح عن‬ ‫عًلقاته بفتيا ٍ‬ ‫ت أخريات‪ ،‬لم ينف ما قالته أخته لكنه أكد لها أنها‬ ‫مختل ٌ‬ ‫فة تمامًا عن سابقاتها وأنه رأى فيها من الذكاء والنضج ما‬ ‫لم يره في أي فتا ٍة تعرَّ ف عليها من قبل‪ ،‬كانت هذه طريقته في‬ ‫خداع الفتيات إذن‪ ،‬يسير ببراع ٍة على نهج بني جلدته من‬ ‫الذكور عندما ينصبون شباكهم العنكبوتية الستدراج أي أنثى‪،‬‬ ‫الطريقة التي خدعت ك َّل أنثى على مر العصور مهما بلغت‬ ‫درجة ذكائها ومهما كان عمرها هي إخبارها أنها مختلفة حتى‬ ‫لو لم يكن بها أي شيء يميزها ح ًقا وحتى لو كانت هي نفسها‬ ‫تعلم ذلك‪ ،‬يروق لألنثى دومًا االستماع لهذه الكلمات فًل تأخذ‬ ‫حذرها من هذا الذكر الذي ينوي الطرق على مشاعرها‪،‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫كثرت أحاديثهما عبر الهاتف كل ليل ٍة بصور ٍة مستمرة حتى‬ ‫صارا يتقابًلن يوم ًيا بعد المدرسة‪ ،‬حدث كل هذا تحت رعاية‬ ‫أخته سماح‪ ،‬تطورت اللقاءات أكثر فصارت تتهرب من‬ ‫الذهاب إلى المدرسة‪ ،‬تحمل مًلبس أخرى في حقيبتها لترتديها‬ ‫بد ًال من الزي المدرسي ثم تمضي اليوم معه وفي نهايته تعود‬ ‫فترتدي مًلبسها المدرسية ثم تعود إلى بيتها وكأنَّ شي ًئا لم‬ ‫يكن‪ ،‬عندما عرضت عليها أمها العمل بمتجر المنظفات لم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاصة أن‬ ‫فرصة أكبر للقائه قبل الذهاب للعمل‬ ‫تمانع‪ ،‬كانت‬ ‫منزله قريبٌ ج ًدا من المتجر‪ ،‬كان يمر عليها يوم ًيا مع نهاية‬ ‫فترة العمل وفي بعض األحيان كانت تذهب معه وأخته إلى‬ ‫منزلهما وتجلس قلي ً​ًل مع أمهما ثم تعود إلى قريتها‪ ،‬تعددت‬ ‫مرات ذهابها إلى منزله حتى صار شي ًئا اعتياد ًيا‪ ،‬كانت سماح‬ ‫ً‬ ‫تاركة الفرصة للعاشقين‬ ‫في بعض األحيان تنسحب بعي ًدا عنهما‬ ‫لًلختًلء ببعضهما‪ ،‬ظفر منها بالكثير من القبًلت المختلسة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫رغبة أكثر‬ ‫في البداية كانت تقاومه في خجل فيزيده تمنعها‬ ‫لكنها بعد ذلك صارت تبادله القبًلت في نهم‪ ،‬حتى كان ذلك‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫اليوم الذي تركتهما فيه سماح وحدهما بالمنزل‪ ،‬لعب الشيطان‬ ‫لعبته‪ ،‬أسكر رأسيهما وأضرم النيران في جسديهما فأحرق بها‬ ‫أخضرها ويابسه‪ ،‬لم تستشعر فداحة الكارثة إال بعد وقوعها‪،‬‬ ‫لحظة لذ ٍة امتصَّ فيها رحيق زهرتها فذبلت حياتها قبل أن تبدأ‪،‬‬ ‫انقطعت عن الذهاب إليه لفتر ٍة لكنها عادت إليه ثانية‪ ،‬الحظت‬ ‫أنَّ طباعه تغيرت منذ ظفر بها‪ ،‬لم يعد ذلك القلب الحاني الذي‬ ‫يحتويها وال األذن المصغية التي تستمع إليها‪ ،‬أصبحت كالدمية‬ ‫بين يديه يحركها كيفما شاء‪ ،‬ينهل من نبع جسدها ما يروي‬ ‫ظمأه ويطفئ شهوته‪ ،‬غرقت في مستنقعه اآلسن حتى قمة‬ ‫رأسها لكنها لم تتوقف عن الذهاب إليه فامتناعها قد يقطع‬ ‫عليها فرصة زواجه منها‪ ،‬الزواج وحده هو الذي سيمنع‬ ‫الفضيحة‪ ،‬وعدها بأنه سيتزوجها لكنها ال تعلم متى يفي‬ ‫ً‬ ‫ورقة حقير ًة تعهد فيها بالزواج منها متى‬ ‫بوعده؟ أعطاها‬ ‫زواج هذا الذي يتعهد به‬ ‫وصلت إلى السن القانونية لكن أي‬ ‫ٍ‬ ‫وهو الذي لم ينه بعد دراسته في المعهد وما زال يعتمد على‬ ‫أمه في نفقاته؟‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫توقفت السيارة على مشارف القرية فتوقف معها سيل‬ ‫ذكرياتها‪ ،‬تخطت الساعة السابعة بقليل بما يعني أنها تأخرت‬ ‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬هرولت في مشيتها تكاد تنكفئ على وجهها‪ ،‬ترى وجه‬ ‫أمها عابسًا في كل عثر ٍة من عثرات الطريق ومظلمًا كالليل‬ ‫الذي بدأ يحيط بها‪ ،‬مسحت دموعها المرتعبة التي انسلت خ ً‬ ‫لسة‬ ‫على خديها‪ ،‬قلبها يزداد خفقانه أكثر كلما اقتربت من البيت‬ ‫واندفاع األدرينالين في جميع عروقها يرفع حالة التأهب إلى‬ ‫اللون األحمر‪ ،‬ماذا ستقول وبم ستتعلل؟ ترنح عقلها داخل‬ ‫تهم في القفص ينتظر خروج القاضي من غرفة‬ ‫رأسها كم ٍ‬ ‫المداولة للنطق بالحكم‪ ،‬دخلت المنزل بهدو ٍء شديد‪ ،‬لم تجد‬ ‫أح ًدا بغرفة المعيشة ولم تسمع أيَّ صو ٍ‬ ‫ت على اإلطًلق‪،‬‬ ‫تباطأت ضربات قلبها شي ًئا فشي ًئا وبدأ روعها يهدأ وزفرت في‬ ‫ارتياح حذر‪ ،‬دخلت غرفتها المظلمة ووضعت يدها على زر‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫صرخة مدوية‪ ،‬أمها تقف هناك في الظًلم‬ ‫اإلضاءة وصرخت‬ ‫ووجهها ال يرى منه شيء‪ ،‬اعتصرت أحًلم ذراع هند بيمناها‬ ‫وصرخت‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ كنتي فين واتأخرتي ليه؟ مش قلتلك متتأخريش تاني؟‪..‬‬‫فعل ال إرادي‪ ،‬دفعتها‬ ‫وضعت هند كفيها على خديها في رد ٍ‬ ‫أمها بقو ٍة شديد ٍة فارتطمت بالمرآة التي تهشمت محد ً‬ ‫ثة دو ًيا‬ ‫كبيرً ا ثم خرجت من الغرفة‪..‬‬ ‫ارتمت هند على األرض إلى جوار سريرها تبكي‪ ،‬هل انتهى‬ ‫الموقف أم ما زالت له بقية؟ ولماذا لم تصر أمها على معرفة‬ ‫السبب ككل مرة؟ هل ملَّت أمها من نهرها فعزمت على منعها‬ ‫ً‬ ‫ثانية أم أنها تضمر شي ًئا ما؟ انتفض جسدها‬ ‫من الخروج‬ ‫وفقدت الشعور بما حولها‪ ،‬مع الهاجس الذي اجتاح رأسها‬ ‫كبير‪ ،‬ماذا إن كانت نية أمها أن توكل مهمة تقصي‬ ‫كطوفان‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫سبب تأخيرها ألخيها محمد؟ انفجرت في البكاء أكثر وارتعش‬ ‫جسدها من قمته إلى أخمصه‪ ،‬آ ٍه لو علم محمد أنها تذهب إلى‬ ‫بي ٍ‬ ‫ت آخر وأنها ترتمي في أحضان شاب ال يعلم عنه شي ًئا‬ ‫وتتعامل معه كزوجها‪ ،‬أية فضيح ٍة وأي عار؟‪ ،‬بل أي جزا ٍء‬ ‫لها على فعلتها؟ سيذبحها ذبحً ا يليق بجريمتها‪ ،‬ال بل سيغلق‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫عارية في صقيع البرد مق َّيد ًة إلى السقف ويتركها‬ ‫عليها غرفتها‬ ‫تموت ببط ٍء ثم يحرق جثتها كما فعل أحدهم بابنته في القرية‬ ‫المجاورة منذ عدة أشهر‪ ،‬غاص جسدها النحيل في مًلبسها‬ ‫لمقاومة البرودة التي انتشرت فيه‪ ،‬لم يعد عقلها يحتمل أكثر‬ ‫ً‬ ‫مغشيا عليها‪..‬‬ ‫فانهارت‬ ‫"نظر محمد في عيني أخته بمق ٍ‬ ‫ت لم تر مثله في حياتها‪ ،‬اقترب‬ ‫منها ثم رفع عصاه وهوى بها على رأسها بًل رحم ٍة فانفجرت‬ ‫منها الدماء كنافور ٍة صغيرة َّ‬ ‫لطخت الجدار خلفها باللون‬ ‫األحمر وأصابت بعضًا منها مًلبسه‪ ،‬لم يأبه للدماء التي سالت‬ ‫على وجهها ولملم خصًلت شعرها في يده اليمنى ثم جذبها‬ ‫منه إلى الخلف بًل أدنى شفقة‪ ،‬انثنت رقبتها للخلف ولم يتحرك‬ ‫جسدها معه فانتبهت إلى أنَّ يديها مقيدتان خلف ظهرها بنفس‬ ‫القيد الذى يلف قدميها‪ ،‬من خلف دمائها رأت شررً ا من اللهب‬ ‫يتطاير من عينيه وقد عضَّ بأسنانه العلوية على شفاهه‬ ‫السفلى‪ ،‬وضع يسراه على رقبتها ثم قبض على قصبتها‬ ‫الهوائية واعتصرها بين أصابعه‪ ،‬اختنقت حتى أح َّست أنَّ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫روحها تج َّمعت في حنجرتها تنتظر انفراجة يده حتى تفارق‬ ‫جسدها‪ ،‬حاولت أن تشهق لتدفع بعضًا من الهواء إلى رئتيها أو‬ ‫تزفر لتخرج روحها وتستريح من العذاب فلم تسمح يده ال بهذا‬ ‫وال بذاك‪ ،‬صوت تق َّطع أنفاسها التي تجاهد للمرور يعذبها أكثر‬ ‫ويخبرها بأنَّ أجلها قد دنا‪ ،‬ش َّدد الضغط أكثر وأكثر فيما‬ ‫ترتجف هي في قيدها كالعصفور الذي تقاوم روحه الخروج‬ ‫من جسده‪ ،‬حاولت أن ترفع جفنيها لتستعطف أخاها حتى يرفع‬ ‫عنها بعضًا من العذاب الذي يسومه لها لكنهما أبيا أن ينفرجا‬ ‫وصبغت الدماء اللزجة الرؤية المشوشة أمامها باللون األحمر‪،‬‬ ‫انتفض جسدها عدة مرات فأسلمت أمرها لبارئها وانتظرت‬ ‫لحظة انقضاء أجلها"‪..‬‬ ‫كسا اللون الرمادي الفراغ أمامها‪ ،‬هل صارت اآلن في الحياة‬ ‫اآلخرة أم أنها ال زالت في حياتها البرزخية؟ سمعت صو ًتا‬ ‫شعور منها بدأت‬ ‫ينادي عليها من بعيد لم تستطع تمييزه‪ ،‬دون‬ ‫ٍ‬ ‫في تحريك رأسها وحاولت فتح عينيها فاستجابتا لها في وه ٍن‬ ‫ً‬ ‫مقاومة للضوء المباشر الذي آلم منتصف‬ ‫ثم انغلقتا بسرع ٍة‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫رأسها‪ ،‬ضغطت بيديها على جبهتها محاو ً‬ ‫لة تخفيف األلم‬ ‫فانتبهت إلى أنهما حرتان‪ ،‬تذكرت قدميها وسألت نفسها هل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إجابة‬ ‫إراديا‬ ‫تحررتا أيضًا أم ال تزاالن رهن القيد؟ تحركتا ال‬ ‫لسؤالها‪ ،‬ب َّددت اللطمة الخفيفة على خدها ك َّل تساؤالتها‬ ‫وأعادتها إلى الحياة البائسة مر ًة أخرى‪ ،‬عاد الصوت يناديها‬ ‫فميزت فيه صوت أمها وفتحت عينيها في بط ٍء محاو ً‬ ‫لة‬ ‫استيعاب ما يدور حولها‪ ،‬أمها والدكتور أحمد وأخوها محمد‬ ‫متحلقين حول سريرها‪ ،‬عندما رأت أخاها ارتعدت واسترجعت‬ ‫في أقل من لحظ ٍة ك َّل ما فعله بها أثناء إغماءتها‪ ،‬دوَّ ن الدكتور‬ ‫أحمد الدواء الخاص بها في ورقته ثم ناولها لمحمد ليحضر‬ ‫الدواء‪ ،‬خرج فبكت من جديد تحت نظر أمها التي حاولت أن‬ ‫تستشفَّ ما يدور في عقل ابنتها‪ ،‬ما سبب نظرة الرعب في‬ ‫عينيها ل َّما أفاقت ورأت أخاها وما يبكيها اآلن؟ لم تسألها عن‬ ‫شيء‪ ،‬تعلم علم اليقين أنَّ هناك سببًا ما وحتمًا ستعرفه قري ًبا‪،‬‬ ‫س َّددت إليها نظر ًة متوعد ًة ثم خرجت وتركت هند تستعيد‬ ‫تفاصيل كابوسها الدموي من جديد‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الفصلُ​ُالخامس ُ‬ ‫ُ​ُ‬ ‫الليلُيزدادُظ ً‬ ‫يأسُويمضيُسري ًعاُباألمل‬ ‫لمةُبال ِ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪1‬‬ ‫في تمام التاسعة انطلق صوت المنبه البغيض‪ ،‬وضع يده‬ ‫بسرع ٍة عليه وكتم صوته‪ ،‬عندما قرر مخترع المنبه تنفيذه لم‬ ‫يدر بذهنه أنَّ هناك أناسً ا سيستخدمونه إلراحة ضمائرهم فقط‪،‬‬ ‫يضبطونه لي ً​ًل وكأنهم سيلتزمون به عندما يوقظهم وعندما‬ ‫ينطلق يقتلون صرخته في مهدها‪ ،‬وضع الوسادة فوق رأسه‬ ‫ثانية‪ ،‬سيأخذ نصف ساعة على األقل حتى يتخذ قراره‬ ‫ٌ‬ ‫ساعة بأكملها قبل أن يقرر النهوض من‬ ‫بالنزول‪ ،‬مضت‬ ‫فراشه‪ ،‬فرك عينيه بيمناه ثم نظر إلى شاشة حاسوبه‪ ،‬ال جديد‬ ‫ٌ‬ ‫صديق غير صورة حسابه وآخ ٌر يشعر‬ ‫في الفيس بوك‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫صديق آخر‬ ‫بالغضب ألن سيارته قد صدمت الليلة الماضية‪،‬‬ ‫أعلن خطبته فانض َّم بتعليقه إلى عشرات المهنئين‪ ،‬بعدما انتهى‬ ‫ٌ‬ ‫غارقة في برك ٍة من‬ ‫من استحمامه توجَّ ه إلى المطبخ‪ ،‬األطباق‬ ‫الماء في وسط الحوض ورائحة القمامة تثير الغثيان‪ ،‬أنوا ٌع‬ ‫من الحشرات الزاحفة تتجول على األرض وكأنما نقلت‬ ‫عوالمها من أسفل إلى أعلى‪ ،‬فتح باب الثًلجة التي خوت على‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫عروشها تقريبًا وشرب قلي ً​ًل من العصير المعلَّب ثم عاد إلى‬ ‫غرفته‪ ،‬لم يكن البيت كريهًا مقي ًتا هكذا عندما كانت روح أمه‬ ‫الراحلة تتجول فيه‪ ،‬ارتدت جدران المنزل ثوبًا من الغبار‬ ‫أكسبها لو ًنا رم ً‬ ‫اديا داك ًنا ح ً‬ ‫دادا عليها وركد الهواء بعدما أصابه‬ ‫الهرم خلف النوافذ المغلقة‪ ،‬ارتدى مًلبسه وهو ال يدري هل‬ ‫ٌ‬ ‫نظيفة أم ال ث َّم غادر البيت تار ًكا الوحشة تفرض سلطانها‬ ‫هي‬ ‫عليه من جديد‪ ،‬استق َّل سيارة أجرة وانحشر بين ركابها‪ ،‬لو أ َّنه‬ ‫سار على قدميه لتس َّنى له الوصول إلى وجهته في وق ٍ‬ ‫ت أقل‬ ‫من الوقت الذي قضاه في السيارة‪ ،‬هبط تمامًا أمام الصيدلية‬ ‫التي ترفع الفتتها اسمه "صيدلية الدكتور حسام عبد هللا"‪ ،‬تذكر‬ ‫أباه الراحل الذي ابتاعها له فور تخرجه من كلية الصيدلة ناق ً​ًل‬ ‫حياة األسرة من القرية إلى المنصورة‪ ،‬أمام الباب وقف عم‬ ‫السعدني بواب البناية مبتسمًا‪ ،‬يقولون إنَّ االبتسامة تجعل وجه‬ ‫صاحبها أجمل لكنَّ هذه المقولة أفسدها الرجل األصلع تمامًا‬ ‫فهو عندما يبتسم تنفرج شفتاه للغاية وتظهر من خلفها بقايا‬ ‫أسنانه المتفحمة بسبب حرائق الدخان التي يشعلها ويتنفسها كل‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫لحظة‪ ،‬ال يتذكر حسام أنه رأى عم السعدني يومًا بدون‬ ‫سيجارته‪ ،‬رائحة الدخان في أي‬ ‫مكان من البناية تشي بأنه مرَّ‬ ‫ٍ‬ ‫فيه‪ ،‬رفع حسام يمناه ور َّد تحية الرجل ثم دخل صيدليته‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫مضت فترةٌ‬ ‫طويلة دون أن يتحدث إلى مها‪ ،‬راودته نفسه‬ ‫كثيرً ا عن االتصال بها بعدما قرر إنهاء عًلقتهما لكنه استطاع‬ ‫– حتى اآلن ‪ -‬الصمود أمام إغراءات نفسه‪ ،‬ال يعلم لماذا‬ ‫طاوع نفسه األمارة بالسوء هذه المرة واتصل بها؟ قبل أن‬ ‫يتحدث بادرته هي‪:‬‬ ‫ طب وهللا كويس إنك لسه فاكرني‪ ،‬افتكرتك نسيتني‪..‬‬‫ إنتي عارفه إني أنسى نفسي وال أنساكي يا مها‪..‬‬‫تردد كثيرً ا قبل أن يسألها طلبه الغريب‪:‬‬ ‫ مها‪ ،‬عايز أشوفك؟‪..‬‬‫األغرب من طلبه كانت موافقتها على النقيض تما ًما من‬ ‫طباعها في المواقف المشابهة‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫في اليوم التالي وفي المكان المتفق عليه وقفت تنتظره‪ ،‬تأخر‬ ‫ٌ‬ ‫دقيقة إضافية احترق‬ ‫عليها وهي تكره االنتظار‪ ،‬كلما مرَّ ت‬ ‫عقلها من الحيرة وقلبها من الغضب‪ ،‬رفعت عينيها إلى الجهة‬ ‫المقابلة من الطريق تستطلع قدومه‪ ،‬تعجبت ل َّما رأته يراقب‬ ‫حيرتها في جمود‪ ،‬ضاقت حدقتاها وهي تستغرب جموده هذا‪،‬‬ ‫لماذا لم يأتها أو يشر إليها؟ لكن مه ً​ًل‪ ،‬لقد استدار مبتع ًدا عنها‪،‬‬ ‫اتصلت به فلم يجبها‪ ،‬طاح عقلها من الثورة بعدما تركها هكذا‬ ‫في الشارع خلفه‪ ،‬نقمت عليه وأقسمت أال تجيب له اتصا ًال‬ ‫مر ًة أخرى‪ ،‬أما هو فقد اجتاز االختبار الذي وضعه لنفسه‪،‬‬ ‫أثر‬ ‫كان عليه أن يطهر قلبه من عشقها وأن يزيل من عقله ك َّل ٍ‬ ‫ينتمي لحقبتها وأول الطريق لنسيانها هو تحمل رؤيتها دون أن‬ ‫يعاوده الحنين إليها‪..‬‬ ‫هذه المرة أجرى اتصا ًال مختل ًفا‪ ،‬اتصل بياسر‪ ،‬صديقه القديم‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪2‬‬ ‫جلست أحًلم في شرفة المنزل وراقبت بًل هد ٍ‬ ‫ف الشارع الذي‬ ‫غاص آخره في عتمة الليل‪ ،‬انعكس بصيصٌ من ضوء القمر‬ ‫على وجهها فصنع ظًل ًال لتجاعيده منحتها مظهرً ا مخي ًفا‬ ‫ً‬ ‫خاصة مع سكونها هذا‪ ،‬أخبرها محمد أنه ذاهبٌ للقاء صديقه‬ ‫ياسر الذي لم يره منذ فتر ٍة طويلة‪ ،‬تبادال نظر ًة ذات معنى‬ ‫عميق لم ينجح الظًلم في طمسه‪ ،‬حاولت إثناءه عن الذهاب‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫خاصة مع انقطاع التيار الكهربي عن القرية‬ ‫متعلل ًة بالظًلم‬ ‫بأكملها لكنه أصرَّ على الذهاب‪ ،‬سار مسرعًا حتى ذاب في‬ ‫ظًلم الليل‪ ،‬أح َّست بانقباض ٍة جديد ٍة في قلبها فعلى الرغم من‬ ‫اعتيادها هذا المشهد المظلم كثيرً ا لكنها هذه المرة وجدته‬ ‫مختل ًفا‪ ،‬كرهت انبعاثه إلى بيت ياسر ألنها تشعر أنَّ ما حدث‬ ‫بينها وبين ابنها قبل سفره كان هو السبب الرئيس في سفره‪..‬‬ ‫بعد لحظا ٍ‬ ‫ت من سيره عادت الكهرباء للسريان في أوصال‬ ‫القرية وبدأت الشرفات تنير بطريق ٍة غير منتظم ٍة في مشه ٍد‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫مثير‪ ،‬تحولت القرية إلى المنظر المألوف وتب َّدد الظًلم شي ًئا‬ ‫فشي ًئا‪ ،‬طفا شبح ابتسامة الذكريات على شفتيه وهو يطرق باب‬ ‫منزل ياسر‪ ،‬تبادال األحضان بحرار ٍة لفتر ٍة طويل ٍة تدل على‬ ‫صداقتهما التي تعود ألكثر من عشرين سنة ثم رحبت به أم‬ ‫ياسر‪ ،‬دار بعينيه في أرجاء المنزل بسرع ٍة خاطف ٍة في نظرا ٍ‬ ‫ت‬ ‫بدت عفوية ثم دخل غرفة الضيوف التي لم يلجها منذ عامين‬ ‫تقريبًا وعانق ببصره جدرانها الرمادية التي علقت عليها فرو ٌع‬ ‫من الورد البًلستيكي‪ ،‬نادى ياسر على أمه حتى تطلب من‬ ‫أخته إعداد الشاي فأخبرته أنها نائمة‪ ،‬اختلج قلب محمد فقد‬ ‫كان يمني نفسه برؤيتها‪ ،‬لم يكن ياسر يعلم ما في قلبه ولم‬ ‫يجرؤ محمد يومًا أن يبوح لصديقه بأن قلبه مت َّي ٌم بها‪ ،‬الحظ‬ ‫ياسر شرود صديقه فسأله عن السبب‪َّ ،‬‬ ‫هز محمد رأسه بًل‬ ‫إجاب ٍة ثم قصَّ عليه تفاصيل رحلته التي باءت بالفشل وشكا له‬ ‫عمل مناس ٍ‬ ‫ب يوفر له دخ ً​ًل جي ًدا حتى‬ ‫عدم استطاعته إيجاد‬ ‫ٍ‬ ‫اآلن‪ ،‬تسامرا حتى الثانية صباحً ا ثم انصرف على وعد اللقاء‬ ‫غ ًدا أو بعد غ ٍد على أقصى تقدير‪ ،‬خرج حزي ًنا ألنه لم يستطع‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫رؤيتها‪ ،‬اشتاقت عيناه لعينيها الدافئتين المسكونتين دومًا‬ ‫بالحزن ‪ -‬حتى لو كانت هي في قمة الحبور والفرح – شوق‬ ‫شاطئ لموج ٍة رحلت منذ أم ٍد بعي ٍد وأخلفت موعد اللقاء ال‬ ‫ٍ‬ ‫شاطئ‬ ‫يدري أضلَّت طريقها في البحار أم ذابت على رمال‬ ‫ٍ‬ ‫آخر‪..‬‬ ‫رحاب‪..‬‬ ‫رحاب التي تصغره بثًلثة أعوام‪ ،‬رحاب التي رافقته هي‬ ‫وأخوها إلى المدرسة صغارً ا‪ ،‬يتهامسان ويتضاحكان وال‬ ‫يلقيان با ًال ألي شي ٍء في هذه الحياة حتى األمس القريب‪،‬‬ ‫لكنهما ما إن صارا في حكم الفتى والصبية حتى باعدت التقاليد‬ ‫بين جسديهما مله ً‬ ‫بة جذوات العشق في قلبيهما وصار الحديث‬ ‫ً‬ ‫بينهما عبر الهاتف فقط‪ ،‬تمنى كثيرً ا لو كان فتىً‬ ‫غربيا يستطيع‬ ‫أن يحادث فتاته ويسامرها ويضاحكها‪َّ ،‬‬ ‫يتنزه معها ويسكب في‬ ‫مسامعها كلمات الهوى التي يصيغها قلبه بمدا ٍد من دمه‪ ،‬هل‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ستواتيه الفرصة لًلعتذار لها عندما سافر دون علمها؟ وهل‬ ‫ستعطيه هي تلك الفرصة فض ً​ًل عن العفو عنه؟‪..‬‬ ‫توقف عند الجدول الصغير الذي ينساب موازيًا للطريق‪ ،‬كان‬ ‫الجدول رائ ًقا في منتصفه يعكس ضوء أعمدة اإلنارة الصفراء‬ ‫فيما تهتز صورة القمر في قاعه مع حركة المياه الهادئة على‬ ‫جانبيه‪ ،‬على الجانب اآلخر تدلَّت وريقات شجرة الصفصاف‬ ‫ناحية الجدول‪ ،‬لم يتأثر سباتها العميق بصوت الهواء الذي‬ ‫تسلل بين فروعها حتى أيقظتها آيات القرآن الكريم التي‬ ‫انطلقت من مكبرات صوت المسجد المقابل للشارع إعًلمًا‬ ‫بدخول وقت صًلة الفجر‪..‬‬ ‫دخل المسجد ثم توضأ واستع َّد لصًلته‪ ،‬تأم َّل األعمدة الرخامية‬ ‫واآليات المكتوبة على جدرانه العلوية بمهار ٍة فائقة‪ ،‬طالع‬ ‫باطن القبة نصف الكروية ثم أغلق عينيه ورفع يديه مناجيًا‬ ‫ربه‪ ،‬بعد تمام الصًلة بوق ٍ‬ ‫طويل خرج من المسجد‪ ،‬نازعه‬ ‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫الحنين إلى طفولته فارتقى سلم المئذنة‪ ،‬لطالما ارتقاها صغيرً ا‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫هو وياسر وكان الشيخ عبد اللطيف ينهرهما خو ًفا عليهما‪ ،‬كم‬ ‫افتقد شيخه كثيرً ا‪ ،‬لم يره منذ أكثر من خمس سنوا ٍ‬ ‫ت عندما‬ ‫ارتحل الشيخ وعائلته عائدين إلى بلدتهم األصلية بمحافظة‬ ‫الشرقية‪ ،‬افتقد يده الحانية التي كانت تزرع االطمئنان في‬ ‫قلوب أطفال القرية وصوته الذي كان يبعث الرعب في‬ ‫ً‬ ‫ضجة أثناء أوقات الصًلة‪..‬‬ ‫نفوسهم إذا ما أثاروا‬ ‫مخاض يسير ولد قرص الشمس األصفر من خلف الحقول‬ ‫في‬ ‫ٍ‬ ‫وانكمشت مع والدته قطع الليل الجاثمة على فضاء القرية منذ‬ ‫المغيب أمس‪ ،‬تسلل الهواء المنعش البكر إلى رئتيه فغسل‬ ‫روحه المضطربة‪ ،‬كم يعشق هذه اللحظة التي ينبلج فيها النور‬ ‫فيبعث األمل بقلبه‪ ،‬كم مر ٍة اختفت الشمس وح َّل الليل مكانها‬ ‫ناشرً ا بظًلمه الخوف والفزع‪ ،‬ق ٌ‬ ‫لة من البشر فقط هم الذين‬ ‫يشعرون بالطمأنينة والسكينة فيه‪ ،‬هؤالء الذين يعلمون أ َّنه‬ ‫مهما طالت عليهم عتمة الليل ستشرق الشمس من جديد‪ ،‬كل ما‬ ‫بر ورجاء‪..‬‬ ‫عليهم هو االنتظار بص ٍ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫اكتمل قرص الشمس الذهبي فكان اكتماله جرسًا دوَّ ى في‬ ‫ً‬ ‫تدريجيا‪،‬‬ ‫أرجاء الكون‪ ،‬خ َّفف الضباب قبضته على األرض‬ ‫انطلقت الطيور خماصًا تبحث عن طعام فراخها التي تتلوى‬ ‫تتابع‬ ‫جوعً ا في أعشاشها‪ ،‬فتحت أبواب البيوت ونوافذها في‬ ‫ٍ‬ ‫سريع وخرج الفًلحون إما راكبين مطاياهم أو سائرين‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وفتية صغار حملوا مشنات الخبز الشبكية‬ ‫فتيات‬ ‫بجوارها‪،‬‬ ‫فوق رؤوسهم قاصدين مخبز القرية‪..‬‬ ‫هبط درجات سلم المئذنة منهيًا صباح الشجن واألمل هذا وسار‬ ‫في طريق عودته الذي تغيرت حاله بعد بضع ساعا ٍ‬ ‫ت فقط من‬ ‫السكون ‪ -‬أو قل الموت ‪ -‬إلى الحياة‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪3‬‬ ‫ككل مسا ٍء انزوت في ركن سريرها الخشبي الذي تعلوه‬ ‫صورة شخصيتها الكارتونية المفضلة ممسك ًة هاتفها‪ ،‬انزلقت‬ ‫أصابعها المبللة على شاشته بسهولة‪ ،‬رفعت يدها إلى أنفها‬ ‫وتشممتها‪ ،‬ما زالت أطرافها تحمل رائحة الصابون الخاص‬ ‫بغسيل األطباق الذي يعد آخر إجراءات روتينها اليومي‪،‬‬ ‫تجولت عيناها ببط ٍء في أرجاء غرفتها‪ ،‬دوالبها الخشبي‬ ‫العتيق يرتجف في مكانه الذي لم يبرحه منذ سنوا ٍ‬ ‫ت وقد‬ ‫التصقت أقدامه باألرض تحته في حميمي ٍة صماء‪ ،‬رقد‬ ‫سًلم وجاورته بعض الكتب‬ ‫حاسوبها القديم فوق مكتبها في‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ذرات من‬ ‫التي احتفظت بها منذ العام الدراسي الفائت تعلوها‬ ‫ً‬ ‫داللة عن طول الفترة منذ آخر مر ٍة فتحت فيها‪ ،‬توقفت‬ ‫التراب‬ ‫عطر فارغتين متجاورتين على سطح‬ ‫عيناها عند قارورتي‬ ‫ٍ‬ ‫المكتب‪ ،‬إحداهما أكبر من األخرى بكثير‪ ،‬الكبرى كانت آخر‬ ‫هداياه لها قبل أن يرحل كعادة بني جنسه غير آب ٍه لها وتار ًكا‬ ‫بحر من الحيرة بدون أي خيطٍ خلفه يقود إليه‪،‬‬ ‫إياها في لجَّ ة ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫رحل فجأ ًة دون أن يودعها أو يتعلل بأي سبب‪ ،‬تبخر أو‬ ‫ضت‬ ‫تسامى كأ َّنه كان عدمًا لم يخلق‪ ،‬بكته كثيرً ا حتى ابي َّ‬ ‫عيناها ولم تنجح األيام في لئم جراحها بل زادتها سوءًا‪ ،‬أذاقها‬ ‫عذابات الرحيل دون ذن ٍ‬ ‫ب ارتكبته فماذا كان يضيره لو‬ ‫أخبرها؟ أما القارورة الصغرى فكانت تذكر ًة لذاك اليوم الذي‬ ‫سقطت فيه مغش ًيا عليها فأفاقت على رائحتها‪ ،‬أليست هذه‬ ‫إحدى مفارقات القدر؟ أحدهم أهداها عطرً ا يوجعها ويذكرها‬ ‫ً‬ ‫ثانية إلى‬ ‫برحيله عنها وآخرٌ ترك عطره خلفه كي يعيدها‬ ‫ً‬ ‫رمزا لأللم الراسخ‬ ‫وعيها وإداركها‪ ،‬صارت القارورة الكبرى‬ ‫ً‬ ‫رمزا لألمل المهترئ في عقلها‪..‬‬ ‫في قلبها وأصبحت الصغرى‬ ‫تصفحت حسابات صديقاتها في موقع التواصل االجتماعي ‪-‬‬ ‫فيس بوك‪ -‬مئات الكلمات المتضاربة والمتشابكة عن الرحيل‬ ‫والخيانة وعن التحمل والصبر‪ ،‬عن الفقد واألسى وعن الحنين‬ ‫والشوق وكأنما اتفقن فيما بينهنَّ اتفا ًقا ضمن ًيا على زيادة‬ ‫أوجاعها وتذكيرها بالهجران باإلضافة إلى إسالة دموعها‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫بلَّلت دموعها شاشة هاتفها فوضعته إلى جوارها ثم استلقت‬ ‫على ظهرها تمامًا وأخذت تنظر إلى سقف غرفتها‪ ،‬ش َّقت‬ ‫دموعها نهرين صغيرين على جانبي رأسها فصبَّا على شطآن‬ ‫وسادتها‪ ،‬حملت هاتفها من جديد وتص َّفحت رسائله القديمة‪،‬‬ ‫استحالت الرسائل إلى مئات األنصال الحادة و َّ‬ ‫مزقت قلبها بًل‬ ‫رحمة‪ ،‬أجفلت عندما انطلق صوت هاتفها فجأ ًة بين يديها‬ ‫وظهر اسم صديقتها األثيرة بسمة‪ ،‬ظلَّت تنظر إلى الهاتف في‬ ‫شرود وكأنَّ عقلها لم يستوعب بعد هوية المتصل‪ ،‬فتحت‬ ‫االتصال دون أن تنطق حر ًفا واح ًدا‪ ،‬أتى صوت بسمة مفعمًا‬ ‫بالقلق‪:‬‬ ‫ رحاب مالك؟ مبتتكلميش ليه؟ شكلك كنتي نايمة‪ ،‬عالعموم أنا‬‫هاجي وأعدي عليكي بدري علشان نروح الكلية سوا‪ ،‬الدراسة‬ ‫بدأت بقالها أسبوعين وإنتي منزلتيش الجامعة وال مرة‪..‬‬ ‫بدال من صديقتها‪ ،‬توجست نفسها خ ً‬ ‫أجابها الصمت ً‬ ‫يفة عندما‬ ‫مرير‪ ،‬تركتها تفرغ شحنتها في‬ ‫نقل لها الهاتف صوت بكا ٍء‬ ‫ٍ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫هدو ٍء حتى هدأت وتيرة النحيب شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬لملمت رحاب‬ ‫شتات نفسها ثم قالت في لهج ٍة قاطعة‪:‬‬ ‫ مش هروح‪..‬‬‫لم تجد بسمة شي ًئا تقوله‪ ،‬تعلم ما يدور في نفس صديقتها لكن‬ ‫واجب صداقتهما يحتم عليها أكثر من مجرد الصمت فقالت في‬ ‫حسم‪:‬‬ ‫ هعدي عليكي الصبح بدري وهخليكي تنزلي غصب عنك‪،‬‬‫يالًل سًلم‪..‬‬ ‫ً‬ ‫باكية من جديد ولفحت آهاتها الحارقة‬ ‫انفجرت رحاب‬ ‫َّ‬ ‫فغطاها‬ ‫راحتيها‪ ،‬بقيت على حالتها حتى أنهكها الوجع تمامًا‬ ‫الوسن بجناحيه‪..‬‬ ‫لم تدر كم من الوقت نامت حتى أحسَّت ببسمة عند طرف‬ ‫السرير تهزها ً‬ ‫هزا‪ ،‬انكمشت في سريرها أكثر وأدارت ظهرها‬ ‫لكن بسمة نفضت عنها الغطاء ثم قالت في غض ٍ‬ ‫ب مصطنع‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ يالًل يختي مش ناقصين دلع‪..‬‬‫صرخت رحاب صرختها المكتومة احتجاجً ا ثم اعتدلت في‬ ‫سريرها ثم قالت في تحد‪:‬‬ ‫ قلت مش رايحة‪..‬‬‫في نفس الوقت دخلت أمها حام ً‬ ‫لة طعام اإلفطار‪ ،‬ال مفرَّ إذن‬ ‫من النهوض‪ ،‬اغتسلت وأ َّدت صًلتها ثم ارتدت مًلبسها في‬ ‫صمت‪ ،‬لم تذق شي ًئا من الطعام ولم تحاول بسمة نصحها بأن‬ ‫تفعل‪..‬‬ ‫لم تخالف المنصورة عادتها في نفس هذا التوقيت من كل‬ ‫صباح فازدحمت بآالف السيارات والبشر وأدخلتهم في محرق ٍة‬ ‫ً‬ ‫كبير ٍة لألعصاب تأكل ساعا ٍ‬ ‫يوميا‪ ،‬لم يختنق‬ ‫ت من العمر‬ ‫صدرها من الزحام وال من عوادم السيارات بل على العكس‬ ‫تمامًا كان الزحام الخانق طوق نجاتها الذي يؤخرها ً‬ ‫قليًل عن‬ ‫الجحيم الذي ينتظرها هناك على باب الجامعة‪ ،‬تطلَّعت إلى‬ ‫وجوه األطفال التي ما زال النوم يمأل تجاويفها الدقيقة‪ ،‬وجوهٌ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫بريئة لم تختبر بعد قسوة الحياة‪ ،‬لو أنها علمت كيف‬ ‫حالمة‬ ‫ً‬ ‫يافعة لدعت هللا منذ نعومة أظفارها‬ ‫ستكون حياتها حين تصير‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫طفلة مبلغ همها أن تعقص شعرها‬ ‫طفلة أبد الدهر‪،‬‬ ‫أن يبقيها‬ ‫جامح معاند ًة أ َّمها التي تصر أن تجدله على هيئة‬ ‫صان‬ ‫كذيل ح‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫طفلة ال يشغل بالها سوى العرائس والدمى ولون‬ ‫ضفائر‪،‬‬ ‫الشمس البرتقالي في أقصى الزاوية العلوية من ورقة الرسم‪،‬‬ ‫أغمضت عينيها لوهل ٍة فترقرقت منهما دمعتان صافيتان‬ ‫كحبتين من الماس لم ينجح كحل عينيها في تلويثهما‪ ،‬على‬ ‫مرمى البصر تنتظرها بوابة الجامعة التي يقبع الجحيم في‬ ‫أقسى صوره خلف قضبانها الحديدية‪ ،‬جحيم الذكريات‪ ،‬مرَّ ت‬ ‫بسمة مبرز ًة بطاقتها التعريفية وكذا فعلت رحاب‪ ،‬شهقت‬ ‫بصعوب ٍة قلي ً​ًل من الهواء قبل أن تعبر البوابة ومع عبورها‬ ‫أطلقت زفر ًة ظ َّنت بسمة على أثرها أنَّ روح صديقتها قد‬ ‫صعدت إلى السماء بعد أن سقطت رحاب على األرض بًل‬ ‫حراك‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫عندما أفاقت من غيبوبتها كانت بسمة تقبض على راحتها‬ ‫ً‬ ‫مسكة باليد األخرى قارورة العطر الصغيرة‬ ‫بمنتهى القوة م‬ ‫ذاتها‪ ،‬لم يكن ذهنها قد استعاد عافيته بعد لكنَّ آالف المشاهد‬ ‫انقطاع في تتاب ٍع رهيب‪ ،‬يومًا ما جلسا‬ ‫تتابعت أمام عينيها بًل‬ ‫ٍ‬ ‫هنا وتضاحكا هناك وهنالك كان آخر لقا ٍء لهما‪ ،‬عندما‬ ‫استعادت رشدها وإدراكها بالكامل استعادت معهما قدرتها على‬ ‫البكاء من جديد وكالعادة لم تفلح بسمة في تهدئتها‪ ،‬ساعدتها في‬ ‫النهوض آم ً‬ ‫لة أن تكون هذه نهاية األمر لكن على النقيض تمامًا‬ ‫لم تكن هذه سوى البداية‪ ،‬سارت رحاب كالمسحورة في اتجاه‬ ‫شجر ٍة ما‪ ،‬تعلم بسمة تمامًا ماهية هذه الشجرة ما جعلها تدعو‬ ‫من أعمق أعماق قلبها "رحمتك يا رب"‪ ،‬لم تكن الشجرة سوى‬ ‫شجرتهما التي اعتادا اللقاء عندها‪ ،‬تحسست رحاب جذع‬ ‫الشجرة من زاوي ٍة ما فًلمست أناملها حرفي "ر ‪ ،‬م" منقوشين‬ ‫بمهار ٍة مجموعين داخل قل ٍ‬ ‫ب محفور‪ ،‬هنا كان دمعها فيضا ًنا‬ ‫حقيق ًيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى وكأنَّ ك َّل ما مضى‬ ‫مجرد إحما ٍء لغددها الدمعية‪ ،‬ظلَّت على حالها حتى عادت إلى‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫المنزل منتصف النهار‪ ،‬لم تذق طعامًا ولم تنطق بحرفٍ واح ٍد‬ ‫ونامت مبكرً ا بعدما أنهكها اإلعياء‪..‬‬ ‫صوته الضاحك أتاها من بعيد‪ ،‬نادته فلم يجبها‪ ،‬ه َّمت بتعنيفه‬ ‫وتوبيخه والصراخ في وجهه لكنه استمرَّ في ضحكاته كأن لم‬ ‫يسمعها‪َّ ،‬‬ ‫هزت رأسها تحاول نفض تهيؤاتها عن رأسها لكن‬ ‫صوته ظ َّل يطاردها حتى في يقظانها‪ ،‬يتكلم حي ًنا ويضحك‬ ‫حي ًنا ويصمت أحيا ًنا‪ ،‬زاغت عيناها وهي تفتحهما محاو ً‬ ‫لة‬ ‫استيعاب الموقف‪ ،‬هل كانت تحلم؟ عاد صوته يتردد من جديد‬ ‫بصور ٍة أوضح هذه المرة أوضح مخال ًطا صوت أخيها ياسر‪،‬‬ ‫ليس حلمًا بكل تأكيد‪ ،‬اقتربت من باب غرفتها واسترقت‬ ‫السمع‪ ،‬أخوها يناديها لتحضير الشاي لمحمد السيد فترد أمه‬ ‫بأنها نائمة‪..‬‬ ‫ماذا؟ هل هو هو فع ً​ًل؟ أنصتت جي ًدا إلى صوته الذي تستطيع‬ ‫تمييز نبراته من بين اآلالف‪ ،‬عصف الذهول بعقلها‪ ،‬استغرابًا‬ ‫ً‬ ‫فرحة بها؟ ال تدري‪..‬‬ ‫من عودته أم‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫قة بالباب منص ً‬ ‫ظلَّت ملتص ً‬ ‫تة إلى حديثهما حتى انصرف‪ ،‬بقيت‬ ‫ً‬ ‫تيقظة تسائل نفسها‪ ،‬ماذا يفعل اآلن؟ هل استيقظ‬ ‫طيلة الليل م‬ ‫من نومه أم ما زال راق ًدا في فراشه متأم ً​ًل هاتفه انتظارً ا‬ ‫التصالها كما تفعل هي اآلن؟ لم تتخيل أب ًدا أن يأتي اليوم الذي‬ ‫تجهل فيه ك َّل شي ٍء عنه وهي التي تعلم عنه َّ‬ ‫أدق تفاصيل‬ ‫فريق يناصر‪..‬‬ ‫لون يفضل وأي‬ ‫ٍ‬ ‫حياته‪ ،‬ماذا يحب أن يأكل وأي ٍ‬ ‫لملمت خصًلت شعرها الخشن الملتوي تحت رأسها‪ ،‬وضعت‬ ‫يديها ملتصقتين تحت خدها األيمن ونظرت عبر النافذة إلى‬ ‫ٌ‬ ‫غيمة ما وخبأت قلي ً​ًل من‬ ‫الشمس التي اعترضت طريقها‬ ‫ً‬ ‫محاولة اختراقها أو إزاحتها‬ ‫نورها‪ ،‬دققت النظر في الغيمة‬ ‫عن طريق النور‪ ،‬انقبض قلبها مع طول فترة غياب الشمس‬ ‫باسم واح ٍد فقط‪ ،‬حسام‪ ،‬صديق أخيها‬ ‫وراء الغيمة وأنار عقلها‬ ‫ٍ‬ ‫ياسر وصديق محم ٍد أيضًا والذي اتصل بأخيها من أجل‬ ‫خطبتها بما يعني أنه ال يعلم شي ًئا عنها وعن محمد‪ ،‬لم تتخيل‬ ‫ً‬ ‫أبدا في أسوأ كوابيسها ما كتبه القدر في صحيفة حياتها‪ ،‬تسامر‬ ‫محمد وأخوها حتى وق ٍ‬ ‫تأخر أمس فهل أخبره أخوها‬ ‫ت م ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫قاتلة تعلم عنف وقعها عليه ألنها‬ ‫طعنة‬ ‫باألمر؟ كم ستكون‬ ‫تجرَّ عتها مرتين قبل ذلك‪ ،‬ذاقتها يوم أخبرها أنَّ أ َّمه رفضت‬ ‫زواجه منها‪ ،‬وقتها حاولت احتمال طعنة أمه لع َّل القدر يخبئ‬ ‫لهما تصاريف أخرى ال يعلمانها لكنَّ الطعنة األقسى كانت‬ ‫طعنته هو عندما سافر دون أن يودعها أو حتى يخبرها‪ ،‬هاتفته‬ ‫كثيرً ا فتجد هاتفه المغلق يجيب بد ًال منه فيزيد قلقها عليه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫صدفة بأمر سفره‪،‬‬ ‫تح َّسست أخباره قدر اإلمكان حتى علمت‬ ‫لطالما دارت فكرة السفر برأسه وكان يخبرها بذلك فيمتلئ‬ ‫قلبها رعبًا‪ ،‬طلبت منه مرارً ا أال يسافر بدونها فكان يعدها بأ َّنه‬ ‫لن يتركها أب ًدا وأ َّنه حين يعزم على السفر ستكون هي درب‬ ‫سفره وهدى طريقه لكن عندما كتبت قوائم الرحيل كان أول‬ ‫المغادرين دون وداع‪..‬‬ ‫ما الذي دفعه للرحيل يومها إذن؟ ال ب َّد أن يكون سببًا قو ًيا ج ًدا‬ ‫لكن هل كان أقوى من حبها؟ طأطأت رأسها وزوت ما بين‬ ‫َّ‬ ‫وتركزت عيناها للحظا ٍ‬ ‫ت دون أن يرت َّد إليها طرفها‪،‬‬ ‫حاجبيها‬ ‫تج َّمعت كل الخيوط والتفاصيل في رأسها‪ ،‬أخًلق أبيه الفاسدة‪،‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫رؤيته ألمه تجاهد للحفاظ على األسرة‪ ،‬عدم نجاحه في العثور‬ ‫عمل مناسب وأخيرً ا رفض أمه المتعسف لزواجه منها‪،‬‬ ‫على‬ ‫ٍ‬ ‫ليس هناك تفسيرٌ لرحيله هذا سوى شي ٍء واح ٍد‪ ،‬الهروب‪،‬‬ ‫ألول مر ٍة منذ كانا صغيرين ترى فيه عيبًا‪ ،‬أهناك أقسى على‬ ‫قلب المحب من أن يرى محبوبه ضعي ًفا ينحني أمام العاصفة‬ ‫كي ال تكسره فينساق لها خائر القوى مغلوبًا على أمره؟ تعلم‬ ‫أ َّنه سيظل محبوبها األبدي وإن فرَّ قت بينهما الظروف لكنها لن‬ ‫تغفر أب ًدا له هروبه وتخليه عنها‪..‬‬ ‫أخرجها صوت هاتفها من أفكارها‪ ،‬نظرت إليه في تساؤل‬ ‫وقلبها يرتجف ثم زفرت ببط ٍء فًل تعلم أكان زفيرها لًلرتياح‬ ‫أم لألسف‪،‬غريبٌ هو قلبها‪ ،‬تمنى أن يكون هو المتصل ولو‬ ‫كان هو لتمنى َّأال يكون هو‪ ،‬لم تجب على اتصال بسمة وأنهت‬ ‫الرنين‪ ،‬ظ َّل إبهامها يتحرك على الهاتف للحظا ٍ‬ ‫ت في ترد ٍد‬ ‫مرتبكٍ كلما ظهر اسمه تعود فتحجبه‪ ،‬دامت حيرتها ألكثر من‬ ‫خمس دقائق حتى حسمت أمرها واتصلت به‪ ،‬مضت فترةٌ‬ ‫كالدهر فكرت فيها ألف مر ٍة أن تنهي االتصال لكنَّ أصبعها لم‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫يستجب لتفكيرها على ما يبدو حتى استفاقت من وجومها على‬ ‫صوته‪:‬‬ ‫ آلو‪ ،‬إزيك يا رحاب‪..‬‬‫أجفلت وكأنها ال تتوقع أن صوته حقيقي فما زالت تعتقد أنها‬ ‫ٌ‬ ‫تحلم‪ ،‬مضت لحظا ٌ‬ ‫غريبة من الصمت استجمعت فيها قواها‬ ‫ت‬ ‫ت أو عتابا ٍ‬ ‫وبدون أية مقدما ٍ‬ ‫ت سألته‪:‬‬ ‫ ياسر قالك؟‪..‬‬‫ قالي إيه؟‪..‬‬‫ مقالكش إن حسام فاتحه علشان يخطبني؟‪..‬‬‫بال من الحديد هبطت‬ ‫سحقت كلمات جملتها األخيرة عقله كج ٍ‬ ‫على ذرة ملح وتك َّفلت ضلوع صدره بإنقاذ الكون من انفجار‬ ‫قلبه‪ ،‬انفجا ٌر كان من الممكن أن يعيد تكوين المجرات وتشكيل‬ ‫الكواكب من جديد‪ ،‬تج َّمدت يده على هاتفه مغل ًقا عينيه‬ ‫ومحتر ًقا بلهيب نحيبها‪َّ ،‬‬ ‫ظًل صامتين حتى كفكفت دموعها‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫وابتلعت ريقها‪ ،‬حاولت التماسك وإضفاء الهدوء على صوتها‬ ‫المتهدج وقالت‪:‬‬ ‫ اعمل حاجة يا محمد‪ ،‬كلم أمك تاني‪ ،‬أنا ممكن أسامحك على‬‫اللي فات بس أنا مش هستحمل أعيش في بيت تاني مع حد‬ ‫غيرك‪..‬‬ ‫نطقت كلماتها األخيرة بسرع ٍة ومرارة‪ ،‬خنقها السعال الذي‬ ‫أفرغ كامل الهواء من رئتيها فانتظر حتى فرغت من نشيجها‬ ‫المتقطع ثم قال بصو ٍ‬ ‫خفيض ج ًدا‪:‬‬ ‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫ رحاب‪ ،‬أنا لما سافرت‪ ،‬سافرت علشان حاجات كتير‬‫واستحملت حاجات أكتر إال حاجة واحدة مقدرتش عليها‪ ،‬إني‬ ‫أكلمك وأقولك إني مقدرتش أقنع أمي إننا نتجوز‪ ،‬هربت‪،‬‬ ‫هربت ألني مقدرتش أتجوزك زي ما وعدتك ألني مش هقدر‬ ‫أتجوزك من غير موافقة أمي‪ ،‬سامحيني يا رحاب‪ ،‬هتقولي‬ ‫عليا بهرب تاني قولي‪ ،‬بس هللا وحده يعلم أنا حاولت وتعبت قد‬ ‫إيه‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ أنا عارفه إنك تعبت وعلشان كده أنا بردو كلمتك رغم إنك‬‫سيبتني قبل كدا وبقولك تاني أنا لسه مستنياك‪ ،‬حاول تعمل‬ ‫حاجه أبوس إيدك‪ ،‬صاحبك حسام جاى آخر األسبوع‪..‬‬ ‫قالتها وأنهت االتصال‪ ،‬لم يدر أب ًدا بذهنها أنَّ البيت الذي‬ ‫ستكون سيدته ليس هو عين البيت الذي سيأوي إليه في نهاية‬ ‫ً‬ ‫باحثا عن الراحة والطمأنينة‪ ،‬كم مر ٍة اختارا لهذا‬ ‫يوم شاق‬ ‫ٍ‬ ‫البيت لون الحوائط وشكل األثاث وطريقة توزيعه‪ ،‬كم مر ٍة‬ ‫تشاجرا على أسماء األطفال‪ ،‬كان يمازحها بأنه سيطلق على‬ ‫طفليهما اسمي "عباس وزغلولة" فتحتد عليه في غض ٍ‬ ‫ب‬ ‫طفولي وتتهمه بأ َّنه يريد ألطفالهما أن يكونوا نزالء المصحات‬ ‫النفسية بسبب اسميهما وكم كان يستلذ بهذا الغضب‪ ،‬رسما م ًعا‬ ‫محاذير في‬ ‫أدق تفاصيل حياتهما المستقبلية دون وضع أية‬ ‫ٍ‬ ‫الحسبان ولم يتطرقا أب ًدا للتفكير في تقلبات الزمان واستمرا في‬ ‫أحًلم اليقظة وكأنَّ زواجهما أمرٌ حتمي ال مناص منه‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪4‬‬ ‫غار ًقا في الذكريات لم يتوقف عن التفكير طيلة يومه‪ ،‬استعاد‬ ‫ذكرى يوم فاتح أ َّمه قبل سفره‪ ،‬رفضت رفضًا صارمًا حينها‬ ‫فعل أكبر وأقوى من المتوقع‪ ،‬هل كان لرفضه فكرة‬ ‫في ردة ٍ‬ ‫الزواج من ابنة خالته التي حدثته أمه عنها تأثي ٌر في هذا‬ ‫الرفض؟ أم هل أح َّست أمه أنَّ رحاب طغت على تفكيره‬ ‫فغارت منها؟ إن كان هذا صحيحً ا فهذا يعني أنَّ األمر قد‬ ‫انتهى‪ ،‬رفضت أمه من قبل فحزم حقائبه ورحل فهل يتوقع‬ ‫اآلن أن تستجيب له؟ إن كانت أمه رفضت قب ً​ًل ألنها تغار فهي‬ ‫اآلن صارت تكره كما أنها تحمل رحا ًبا وزر رحيله حتى لو‬ ‫لم تصرح بهذا‪ ،‬هل انتقل احتمال زواجه من رحاب إلى خانة‬ ‫المستحيل؟ ال ب َّد من المحاولة مرا ٍ‬ ‫ت أخرى حتى ال يبكي بقية‬ ‫حياته شاعرً ا أنه خذلها وحتى تغفر له وتستيقن أ َّنه لم ي َّدخر‬ ‫وسعًا في سبيل االقتران بها‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫لم يغمض له جفنٌ طيلة الليل‪ ،‬ظ َّل يتقلَّب على الفراش‬ ‫كالمتقلب على جمر وبدا أنَّ الوقت ال يمضي‪ ،‬قام فتوضأ ثم‬ ‫أ َّدى صًلة الفجر وسأل ر َّبه أن يرقق قلب أمه‪ ،‬منحته لحظات‬ ‫أمل واهيًا لكنه تشبث به‪ ،‬سمع صوت‬ ‫شروق الشمس بصيص ٍ‬ ‫خطوات أمه التي دخلت المطبخ فعزم على الحديث معها اآلن‪،‬‬ ‫جسده المترنح من التعب والسهر ال يسعفه لكنه أجبره على‬ ‫المضي قدمًا‪ ،‬وقف على باب المطبخ وارتكن إليه بكتفه عاق ًدا‬ ‫ساعديه وقال مبتسمًا في ود‪:‬‬ ‫ صباح الخير يا أما‪ ،‬صاحية بدري ليه؟‪..‬‬‫ صباح الخير يا محمد‪ ،‬قلت ألحق أعمل الغدا قبل ما أمشي‬‫ألني احتمال أتأخر شوية في الشغل‪..‬‬ ‫رأى أنَّ الحوار بينهما سيتخذ منحى آخر غير الذي أراد فسألها‬ ‫مباشر ًة‪:‬‬ ‫ قوليلي يا أما‪ ،‬هو فيه فرق بين إن الواحد يكون راضي وإنه‬‫يكون سعيد؟‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫توقفت للحظ ٍة عما تفعل‪ ،‬رفعت حاجبيها وأخفضتهما في‬ ‫سرع ٍة ثم أجابت‪:‬‬ ‫ ال مفيش فرق بينهم‪ ،‬هما االتنين حاجة واحدة‪ ،‬اإلنسان لما‬‫بيرضى بيبقى سعيد‪..‬‬ ‫ أيوه يا أما بس الرضا مش معناه أنه يستسلم لحاجة حصلت‬‫هو ممكن يغيرها وحاسس إن السعادة في غيرها‪..‬‬ ‫فهمت مقصده فاكتسى صوتها بالحزم أكثر وهي تقول‪:‬‬ ‫ ال‪ ،‬هما االتنين حاجة واحدة‪ ،‬إنت عايز إيه بالضبط؟‪..‬‬‫صمت قلي ً​ًل وأحنى رأسه ثم رفعها ونظر إليها نظرة‬ ‫استعطاف‪:‬‬ ‫ أما‪ ،‬إنتي مش عايزاني أعيش سعيد بقية حياتي؟‪..‬‬‫ألقت الملعقة من يدها بعنفٍ واتسعت عيناها بشد ٍة وصرخت‬ ‫في وجهه‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ هو مش الموضوع ده قفلناه قبل ما تسافر وخلصنا؟ بتفتحه‬‫ليه تاني؟‪..‬‬ ‫خفض صوته ألقصى حد حتى يتفادى الصدام‪:‬‬ ‫ يا أما بالراحة بس‪ ،‬يا أما أنا مش عايز أعيش عيشة زي‬‫عيشتك إنتي وأبويا‪ ،‬يا أما أنا عايز أعيش مع حد أعرفه‬ ‫ويعرفني وأكون أنا وهي واحد‪ ،‬مش عيشة والسًلم‪..‬‬ ‫ أنا قلت متفتحش الموضوع ده تاني‪ ،‬أنا مش عايزاها‪..‬‬‫بدأت عيناه تدمعان وهو يقول‪:‬‬ ‫ بس أنا عايزها يا أما‪ ،‬أنا اللي هعيش معاها مش إنتي‪..‬‬‫نظرت إليه في غيظٍ وقالت في قسو ٍة قصمت قلبه‪:‬‬ ‫أنا حلفت باهلل لحد آخر يوم في عمري ما هتتجوزها‪ ،‬لما‬‫أموت إبقى روح اتجوزها‪ ،‬ولًل روح اتجوزها لوحدك بس‬ ‫ساعتها ال إنت ابني وال أعرفك‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ يا أما حرام عليكي‪ ،‬إنتي بتعملي فيا كده ليه؟ دانا ابنك يا‬‫أما‪..‬‬ ‫ ابني يقولي حاضر ويسكت‪ ،‬إنت عايز توجع قلبي‬‫وتموتني؟‪..‬‬ ‫ه َّمت بمغادرة المطبخ فانكبَّ على قدميها محاو ًال تقبيلهما ثم‬ ‫قال ولعابه يخنق صوته‪:‬‬ ‫ يا أما أبوس رجلك‪ ،‬دانتي حتى رافضه من غير سبب‪ ،‬يا أما‬‫إنتي عايزة تكسري قلبي طول حياتي؟‪..‬‬ ‫نزعت قدميها من بين يديه بقسو ٍة ثم صفعته على خده األيسر‬ ‫وصرخت كمن يرى شيطا ًنا أمامه‪:‬‬ ‫ أنا قلت ال وانتهى الموضوع‪..‬‬‫دخلت غرفتها وصفقت الباب خلفها بقوة ‪،‬ظ َّل جام ًدا إثر‬ ‫صفعتها‪ ،‬استند بظهره إلى الجدار مغل ًقا عينيه وانهمرت‬ ‫دموعه وأغرقت مًلبسه‪ ،‬ال يصدق قسوتها وال سخريتها‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫اللتين لم يعتدهما من قبل وال يصدق أنها أنفذت قرارها ضد‬ ‫رغبة ابنها وحالت بينه وبين أكثر مخلوق ٍة أحبها على وجه‬ ‫األرض‪" ،‬آآآآآآآه يا رحاب "جاءت من أعمق أعماق قلبه‪ ،‬من‬ ‫جميع خًليا جسده ومن كل ذرات عظامه‪ ،‬تحولت أوردته‬ ‫وشرايينه إلى مشانق لخًلياه العصبية والحسية فأطلقت آها ٍ‬ ‫ت‬ ‫حملت ك َّل القهر والبؤس واأللم‪ ،‬تراءت له رحاب في خياله‬ ‫تبكي‪ ،‬اقترب منها وحاول مسح دموعها فابتعدت عنه وأدارت‬ ‫له ظهرها‪ ،‬تسارعت أنفاسه وارتفع صدره وانخفض‪ ،‬أحسَّ‬ ‫بسخون ٍة غريب ٍة في جسده وشعر بحبات العرق تسري على‬ ‫جلده الملتهب داخل مًلبسه‪ ،‬نهض من مكانه فتحرك الهواء‬ ‫حوله واستشرت برودته المفاجئة في جسده فأصابته برعش ٍة‬ ‫قوي ٍة كمصا ٍ‬ ‫ب بالحمَّى‪ ،‬حالته يرثى لها كمن جردوه من‬ ‫مًلبسه في زمهرير إحدى ليالي الشتاء العاصفة ثم ألقوا به في‬ ‫عرض البحر‪َّ ،‬‬ ‫هز رأسه في استكان ٍة مريرة‪ ،‬استكانة المقهور‬ ‫المغلوب على أمره‪ ،‬رفض أمه من ناحي ٍة وحبه لرحاب يلهبانه‬ ‫نار بًل رحمة كمصلو ٍ‬ ‫ب في ساح ٍة رومانية تبارى‬ ‫بسياطٍ من ٍ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫فريقان على خلع ذراعيه من الجانبين ومنتظ ٍر األسد الجائع‬ ‫شعور يمكن‬ ‫كي ينهش لحمه ويريحه من آالمه‪ ،‬أحسَّ بأقسى‬ ‫ٍ‬ ‫أن يشعر به إنسان‪ ،‬شعور العجز‪ ،‬تم َّنى لو كانت روحه في‬ ‫زمان آخر فى بل ٍد آخر فى‬ ‫جس ٍد آخر غير جسده‪ ،‬تحيا في‬ ‫ٍ‬ ‫ب آخر‪ ،‬نهض من مكانه في وه ٍن شدي ٍد بعد تسع ساعا ٍ‬ ‫كوك ٍ‬ ‫ت‬ ‫كاملة وقام بتغيير مًلبسه ثم خرج من بيته هائمًا على وجهه‬ ‫تغالبه دموعه فيقمعها حتى ال تنتقص رجولته أمام السائرين‪،‬‬ ‫قادته قدماه إلى مكان تجمع السيارات فاستقل إحداها بعفوي ٍة‬ ‫دون تفكير وعندما هبط منها كان قد ح َّدد وجهته‪ ،‬استقل‬ ‫شعور حتى وصل القرية المرجوة‪..‬‬ ‫القطار بًل‬ ‫ٍ‬ ‫عربات تجرها الحمير م ً‬ ‫ٌ‬ ‫حملة بالبرسيم استلقى فوقها رجا ٌل‬ ‫بمًلبسهم الداخلية أقرب للموت منهم للحياة وتصرخ عضًلت‬ ‫طعام‬ ‫أجسادهم طلبًا للراحة‪ ،‬نسا ٌء يحملن فوق رؤوسهنَّ أوعية‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حصيلة صغير ًة من الخضراوات الطازجة‪ ،‬أطفا ٌل‬ ‫فارغة أو‬ ‫حفاةٌ في الشوارع يلعبون بأقصى طاقتهم تكو َّنت قشرةٌ سم ٌ‬ ‫يكة‬ ‫ٌ‬ ‫تيارات‬ ‫من الجلد أسفل باطن أقدامهم تقيهم وخزات الحصى‪،‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫خفيفة من الهواء تحمل معها دخان حرائق القش ورائحة روث‬ ‫البهائم‪..‬‬ ‫كل هذا لم يره أو يشعر به فقط أحسَّ بالرهبة المعتادة كلما‬ ‫وطأ غريبٌ أرض بلد ٍة غريب ٍة عليه‪ ،‬زاغت عيناه بين البيوت‬ ‫والطرقات المتفرعة ال يدري أيها يسلك‪ ،‬أمام مدخل أحد‬ ‫راش من الحصير يتسامران‪،‬‬ ‫البيوت جلس شيخان على ف ٍ‬ ‫سألهما عن المنزل المنشود فأجاباه أ َّنه يقع في آخر المنعطف‬ ‫التالي‪..‬‬ ‫تأمل البيوت المضيئة المصطفة على جانبي الطريق‪ ،‬كانت‬ ‫كلها تنبض بالحياة‪ ،‬أصوات أجهزة التلفاز المرتفعة وصراخ‬ ‫األطفال وقهقهات الرجال وثرثرات النساء وأضواء الشرفات‬ ‫لم تذهب عنه شعوره بالوحشة‪ ،‬على اليمين من نهاية المنعطف‬ ‫ٌ‬ ‫بيت من الطوب اللبن بين البيوت الضخمة المحيطة به‬ ‫قبع‬ ‫وش جائرة‪ ،‬ليس هناك دلي ٌل قاط ٌع‬ ‫كحمل‬ ‫مستكي ًنا‬ ‫ٍ‬ ‫وديع بين وح ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫على أنَّ هذا المنزل به أنفاسٌ تترد وإال كانت بعضٌ منها‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫نفضت أكوام التراب التي غلَّفت بابه ونوافذه‪ ،‬تضاعف شعوره‬ ‫بالوحشة أكثر لكنه تق َّدم من الباب وطرقه عدة طرقا ٍ‬ ‫ت سريعة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫لحظات مرَّ ت ولم ينفتح الباب بعد فشعر أنَّ مجهوده في‬ ‫الوصول إلى هنا قد ضاع سدى‪ ،‬سمع حفيف خطوا ٍ‬ ‫ت من‬ ‫خلف الباب فانتظر حتى فتح ببط ٍء شدي ٍد ورأى بعده ضوءًا‬ ‫خاف ًتا يهرب إلى الشارع‪ ،‬لم يتبين مًلمح المرأة العجوز التي‬ ‫انحنى ظهرها كثيرً ا بفعل السنوات التي تراكمت عليه‪ ،‬لم‬ ‫تتعرف عليه مع النظارة السميكة ج ًدا التي ترتديها‪ ،‬سألته ع َّمن‬ ‫يكون فأخبرها أ َّنه محمد أبو السيد تلميذ الشيخ وأنه أتى‬ ‫لزيارته من البلدة التي سكنوها قبل سنوات‪ ،‬ذهبت المرأة‬ ‫لتخبر زوجها فيما وقف هو على الباب انتظارً ا إلذن الدخول‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫خشبية معلق ٌة نقشت عليها آية الكرسي بمهار ٍة‬ ‫لوحة‬ ‫أمامه‬ ‫فائقة‪ ،‬أغمض عينيه وبدأ يتلوها من ذاكرته حتى سمع صوت‬ ‫المرأة تناديه ليدخل‪ ،‬خفق قلبه بكل قو ٍة عندما رأى شيخه نائمًا‬ ‫على ظهره فوق سريره وعلى جسده غطا ٌء ثقي ٌل يذب عنه‬ ‫برودة الليل‪ ،‬كم افتقد هذا الوجه الحاني والتي ازدادت شعرات‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫لحيته شيبًا عن ذي قبل‪ ،‬ارتدى نظار ًة شمس ً‬ ‫ية ال تليق ً‬ ‫أبدا‬ ‫بالوقت وال بالظًلم المحيط‪ ،‬ألقى السًلم على شيخه ثم م َّد يده‬ ‫ليصافحه لكنَّ الشيخ على ما يبدو لم يفطن إلى اليد الممدودة‬ ‫إليه‪ ،‬هنا أدرك محمد الموقف‪ ،‬لقد كفَّ بصر شيخه‪ ،‬دمعت‬ ‫عيناه وانكبَّ على يدي شيخه وقبَّلهما‪ ،‬ابتسم الشيخ ور َّبت على‬ ‫رأس محمد في حنو ثم أشار إليه بالجلوس على الكرسي‬ ‫المجاور للسرير وقال‪:‬‬ ‫ ياه يا ولد يا محمد‪ ،‬أخيرً ا افتكرت شيخك‪..‬‬‫ أنا عمري ما نسيتك يا شيخنا وكلنا في البلد فاكرينك وبنجيب‬‫في سيرتك على طول بالخير‪..‬‬ ‫ بتجيبوا في سيرتي؟‪ ،‬وأنا أقول طول اليوم عمال أكح ليه؟ ‪-‬‬‫يضحك ثم يسعل بقوة – يا ابني بطلوا تيجبوا في سيرتي أنا‬ ‫كنت خًلص افتكرت إني جالي السل‪..‬‬ ‫ابتسم محمد لدعابة شيخه وقال‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ بعد الشر عليك يا شيخنا‪ ،‬ربنا يحفظك ويطولنا في عمرك‪..‬‬‫سعل الشيخ عدة مرا ٍ‬ ‫ت وتفل في منديله ثم وضع يده على‬ ‫صدره حتى استكان وقال في صو ٍ‬ ‫ت متحشرج‪:‬‬ ‫ قول يا سيدي‪..‬‬‫ أقول إيه يا شيخنا؟‪..‬‬‫يعلم جي ًدا مدى فطنة شيخه الذي طلب من زوجته إعداد الشاي‬ ‫ربما إلبعادها عن الغرفة حتى ال يجد محمد حرجً ا في الحديث‬ ‫أمامها‪ ،‬مرَّ ت فترةٌ من الصمت استجمع خًللها شتات نفسه ثم‬ ‫قصَّ على شيخه كل ما جرى معه منذ أن انتهى من الدراسة‬ ‫حتى اآلن وما كان من أمه وعًلقته برحاب‪ ،‬لم يقاطعه الشيخ‬ ‫خجل أو‬ ‫إال الستيضاح بعض األمور ومحمد يجيبه بدون أدنى‬ ‫ٍ‬ ‫بعمق لفتر ٍة‬ ‫مواربة حتى فرغ من حديثه‪ ،‬أخذ الشيخ يفكر‬ ‫ٍ‬ ‫قصير ٍة ثم قال في صو ٍ‬ ‫ت رزين‪:‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ كل اللي حصل ده هو القدر وإحنا الزم نرضى بالقدر يا‬‫محمد ولو كانت نصيبك اللي مكتوبلك من فوق سبع سماوات‬ ‫كانت أمك وافقت‪..‬‬ ‫ بس يا شيخنا دي مقالتش حتى سبب‪ ،‬رافضه كده وخًلص‪،‬‬‫أروح أنا أسكت وأقول دا القدر والمكتوب؟ ما هي لو كانت‬ ‫وافقت كان هيبقى قدر ومكتوب‪..‬‬ ‫ إنت طول عمرك بترضى يا محمد؟‪..‬‬‫ آه يا شيخنا وهلل الحمد‪ ،‬عمري ما سخطت ودايمًا أي حاجة‬‫خير بتحصلي بحمد ربنا عليها ولو حاجة شر حصلتلي بكون‬ ‫عارف إن نفسي هي السبب أو الشيطان‪ ،‬مثًل لما دخلت كلية‬ ‫عادية وملحقتش الكلية الكبيرة اللي كنت عايزها قلت الحمد هلل‬ ‫ألني ماستاهلش أدخلها علشان ما اجتهدتش‪..‬‬ ‫ إنت فاكر إن ده الرضا؟ اللي إنت قلته ده تسبيب الرضا مش‬‫الرضا نفسه‪ ،‬لألسف غالبية الناس اللي حاسين إنهم راضيين‬ ‫بقدر هللا وقضائه غلطانين ‪-‬إال من رحم ربي ‪ -‬كل اللي‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫بيعملوه إنهم بيدوروا على سبب ألي حاجة حصلت وبعدها‬ ‫بيقولوا الحمد هلل مع إن المفروض ميدوروش على سبب من‬ ‫األساس‪..‬‬ ‫ مش فاهم يا شيخنا‪..‬‬‫ يعني الناس أربعة أصناف‪ ،‬فيه ناس مبترضاش وبتسخط‬‫ودول حاشا هلل ظالمين لنفسهم وفيه ناس بترضى علشان‬ ‫مجبرين على كده ومقدامهمش يعملوا أى حاجة‪ ،‬ده مش رضا‬ ‫بس علشان هما عاجزين إنهم يعملوا حاجة فبيسكتوا‪ ،‬وفيه‬ ‫ناس اللي بيقولوا إنهم بيرضوا‪ ،‬بيدوروا على سبب يريحهم‬ ‫للرضا عن القدر‪ ،‬مثًل لو حد جاله دور برد‪ ،‬بيقعد يدور على‬ ‫سبب البرد ده‪ ،‬يقولك أنا نمت بهدوم خفيفه أو فيه حد كان‬ ‫عنده برد وأنا أخدته منه ولما يوصل لكده يقول الحمد هلل‪ ،‬ده‬ ‫اسمه تسبيب الرضا وده ملوش عًلقة بالرضا‪ ،‬أما الرضا بقى‬ ‫بجد إنك تعمل اللي عليك وتتعب وتجتهد وتاخد باألسباب‬ ‫وبعدين اللي يحصل ترضى بيه سواء كان على هواك أو على‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫عكس هواك ودي منزلة كبيرة ً‬ ‫جدا وقليل من الناس اللي‬ ‫بيوصلها‪ ،‬ستنا هاجر لما أبونا إبراهيم سابها هي وابنها‬ ‫الرضيع في الصحرا الواسعة يدوبك معاهم زاد يكفيهم أسبوع‬ ‫واحد بس‪ ،‬سألته إنت سايبنا هنا ليه؟ قالها ربنا أمرني بكده‪،‬‬ ‫مسألتش عن السبب ومفكرتش‪ ،‬قالت‪" :‬إذن لن يضيعنا"‪،‬‬ ‫عارف ليه علشان راضية بقدر ربنا وعارفه حكمته‪ ،‬مقالتش‬ ‫خًلص طالما ربنا اللي جابنا هنا نستنى لحد ما يبعتلنا الزاد؟‬ ‫ال‪ ،‬خدت باألسباب وطلعت الجبل ونزلت وراحت وجت بين‬ ‫الجبلين سبع مرات لحد ما تعبت وهنا ربنا إدالها أكتر من اللي‬ ‫تحلم بيه علشان هي رضيت من غير سؤال‪ ،‬خلفت سيدنا‬ ‫إسماعيل أبو العرب وكلنا بنحكي عنها لحد دلوقتي‪ ،‬لكن لو‬ ‫مكانتش رضيت كانت اتجننت وسخطت والعياذ باهلل‪ ،‬فهمت يا‬ ‫محمد؟‪..‬‬ ‫أطرق محمد رأسه مفكرً ا في حديث شيخه ثم سأل‪:‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ يعني يا شيخنا تقصد إن رفض أمي ده هو تنفيذ المكتوب‬‫عند ربنا مش سبب في حد ذاته؟‪..‬‬ ‫ أيوه يا ابني‪ ،‬الزم قلبك يرتاح وتعرف إن ده مكتوب ربنا‬‫اللي الزم ترضى بيه‪ ،‬أنا عارف أنه صعب عليك وإن قلبك‬ ‫مش بإيدك بس صدقني لو رضيت بيه من غير ما تدورله على‬ ‫سبب هيديلك من حيث ال تدري وال تعلم ويمكن أحسن من‬ ‫اللي إنت كنت عايزه بس إنت ترضى‪..‬‬ ‫بكى محمد وأطلق لدموعه العنان فتركه الشيخ يغسل همومه‬ ‫في تفهم ثم نادى زوجته وطلب منها أن تع َّد الغرفة المجاورة‬ ‫لمحمد حتى يتسنى له المبيت معهم‪ ،‬كان متأك ًدا أنَّ محم ًدا لن‬ ‫يوافق على ذلك فأراد أن يخرجه من حالته تلك حتى يستطيع‬ ‫اللحاق بآخر قطار‪ ،‬الوسيلة الوحيدة للعودة فالوقت أصبح‬ ‫متأخرً ا ً‬ ‫جدا‪ ،‬أدرك محمد ذلك أيضًا فنهض من مكانه مقب ً​ًل يد‬ ‫ورأس شيخه شاكرً ا إياه ثم انطلق أهدأ با ًال من ذي قبل‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ٌ‬ ‫معدومة‬ ‫وقف على رصيف المحطة منتظرً ا القطار والرؤية‬ ‫تقريبًا‪ ،‬فقط مصبا ٌح أصفر ضعيف في نهاية الرصيف يحتضر‬ ‫ضوؤه‪ ،‬تج َّمعت حوله بعض الحشرات الطائرة لتستم َّد الدفء‬ ‫أشخاص ينتظرون مثله‪ ،‬كانوا‬ ‫منه‪ ،‬على مقرب ٍة منه وقف عدة‬ ‫ٍ‬ ‫مثل األشباح الرمادية وصوت خطواتهم على الرصيف البارد‬ ‫يقذف الرهبة في قلبه كلما اقتربوا منه‪ ،‬من بعي ٍد أبصر ضوء‬ ‫مقدمة القطار‪َّ ،‬‬ ‫مزق صوت صفارته سكون الليل وأيقظ بها‬ ‫تلك البيوت المصطفة على الجانبين من سباتها العميق‪ ،‬ال‬ ‫يريدها أن تهنأ بالنوم فيما هو ما زال يعمل حام ً​ًل أولئك الذين‬ ‫ً‬ ‫ثانية لكن هذه المرة في‬ ‫يجوبون البًلد‪ ،‬صرخت صافرته‬ ‫ٌ‬ ‫بيوت تؤويكم‬ ‫وجوه المسافرين ولسان حالها يسألهم‪ :‬أليست لكم‬ ‫في هذا الوقت المتأخر؟ لم يبد أنَّ المسافرين اهتموا بهذا‬ ‫التعنيف بل على العكس ازدادوا اهتمامًا به‪ ،‬نفث القطار‬ ‫غضبه عبر مدخنته العلوية الشهيرة ثم توقف في استسًلم‬ ‫بعدما ضاع تعنيفه سدى‪ ،‬استقلوه في سرع ٍة خشية أن ينتفض‬ ‫ً‬ ‫بغتة ويتحرك ويتركهم خلفه‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫جلس محمد إلى جوار النافذة عكس اتجاه حركة القطار‬ ‫كعادته‪ ،‬كل شي ٍء يتحرك حوله‪ ،‬نتف الغمام في السماء‬ ‫والرياح واألشجار وأعمدة اإلنارة وأسًلك التلغراف‪ ،‬الشيء‬ ‫الوحيد الثابت كان القمر الذي بدا كأ َّنه مركز الكون والنجوم‬ ‫تدور في فلكه‪ ،‬شرد بذهنه مفكرً ا في كًلم شيخه‪ ،‬تب َّدت له‬ ‫أشيا ٌء كان من الصعب على عقله أن يصل إليها إال بعد سنوا ٍ‬ ‫ت‬ ‫من التجربة والخبرة‪ ،‬تأ َّمل وجوه األشخاص حوله ثم أمال‬ ‫رأسه إلى الخلف وأغمض عينيه‪ ،‬التقى حاجباه وارتسمت‬ ‫بينهما أمارات التفكير‪ ،‬الحياة مثل هذا القطار‪ ،‬كل سن ٍة منها‬ ‫كمحط ٍة من المحطات العديدة التي تنتشر في طول البًلد‬ ‫وعرضها‪ ،‬أناسٌ يستقلون القطار ويغادرونه دون أن نعرفهم‬ ‫وأناسٌ يستقلونه ويجلسون إلى جوارنا لكننا ال نشعر بما يدور‬ ‫داخلهم‪ ،‬ومنهم من نتعرف إليهم ونحادثهم‪ ،‬قد نألفهم حتى نظن‬ ‫أنهم باقون معنا حتى نهاية الحياة لكن عندما يصل القطار إلى‬ ‫حيث وجهتهم يرحلون حاملين معهم قلوبنا وأحًلمنا ومخلفين‬ ‫معنا الذكريات مفرحها وموجعها‪ ،‬وهناك من فرضتهم علينا‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫وجهة السفر المشتركة ال يريدون إال منافعهم الشخصية‪ ،‬تمامًا‬ ‫كهؤالء الباعة الجائلين الذي يمتزج صوتهم بصوت عجًلت‬ ‫َّ‬ ‫يتغزلون‬ ‫القطار فيصنع ضجيجً ا اعتاده كل المسافرين بالقطار‪،‬‬ ‫في بضاعتهم رغم رداءة جودتها إغواء للمسافرين وهم ‪ -‬مع‬ ‫وش قليل ٍة‬ ‫تغزلهم هذا ‪ -‬أحرص ما يكونون على بيعها لقاء قر ٍ‬ ‫قد تطعم فمًا جائعًا ينتظر هناك في غياهب الفقر المدقع أو‬ ‫تقضي دي ًنا يطوق عن ًقا اعتاد على قسوة الحياة أو تشتري علبة‬ ‫تبغ تنفث بدخانها األبيض بعضًا مما خلَّفته تقلبات األيام‪ ،‬يا‬ ‫ٍ‬ ‫لحظ هذا القطار‪ ،‬يجوب البًلد مندفعًا ال يجرؤ على اعتراضه‬ ‫أحد‪ ،‬طريقه مح َّد ٌد وواضح ال يسير فيه غيره‪ ،‬يخترق الحقول‬ ‫الخضراء ويمر فوق األنهار الصغيرة‪ ،‬تغلق الطرق ألجله‬ ‫ويضبط الناس مواعيدهم على توقيته ويهلل األطفال لرؤيته‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ضخمة من الحديد األصم تتغذى على الفحم أو الوقود‬ ‫كتلة‬ ‫السائل بًل قل ٍ‬ ‫ب يعذبه‪ ،‬ال يهتم لهؤالء الذين حزموا أمتعتهم‬ ‫عزمًا على الرحيل يمزقهم الحنين ألوطانهم وأهليهم وأحبتهم‬ ‫وال يعير اهتمامًا لكل هذه األحضان الملتاعة على جانبيه وال‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫تؤثر فيه تلك العبرات التي تذرف في أوقات الوداع‪ ،‬يحملهم‬ ‫أحضان‬ ‫أوطان أخرى أو ربما إلى‬ ‫شعور منه إلى‬ ‫بًل أدنى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جديدة‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الفصلُ​ُالسادس ُ‬ ‫ُ‬ ‫باتتُالذُكرياتُالسعيدةُتو ِجعناُأكثرُمنُالذكرياتُالحزينة ُ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪1‬‬ ‫امتزجت دموعها بكحل عينيها فرسمت َّ‬ ‫خطين أسودين على‬ ‫بشرتها القمحية وتسللت مرارة الدموع إلى فمها بطريق ٍة ما‬ ‫وامتزجت بريقها حتى بلغت قلبها‪ ،‬طوَّ قت ركبتيها بيديها‬ ‫ً‬ ‫جالسة على األرض بجوار سريرها‪،‬‬ ‫ودفنت وجهها بينهما‬ ‫مكان‬ ‫لنصف الساعة أو أكثر فقدت اتصالها بما حولها من‬ ‫ٍ‬ ‫وزمان‪ ،‬ألهبت دقات الجرس في الخارج قلبها بسياطٍ من لهب‬ ‫فانتفض محاو ًال الهرب فحاول صدرها قمع الثورة التي‬ ‫اندلعت داخله بكل قسو ٍة‪ ،‬طرقات يد أمها على الباب أخبرتها‬ ‫أنَّ ما تخشاه قد وقع‪ ،‬أتاها راجيًا أال ترده خائبًا وهو ال يعلم أن‬ ‫قلبها معلَّ ٌق بصديقه‪ ،‬أمسكت منديلها ومسحت أنهار دموعها‪،‬‬ ‫أعادت تثبيت الكحل ناظر ًة إلى وجهها الذابل في المرآة‪ ،‬محا‬ ‫ٌ‬ ‫الزمان معالم الطفولة منه وحفر ً‬ ‫دوامة‬ ‫بدال منها أخاديد األلم‪،‬‬ ‫من التيه سحقت عقلها‪ ،‬ف َّتشت في ذاكرتها عن األسماء‬ ‫والوجوه واأللوان‪ ،‬عن ضحكاتها وأيامها وأحًلمها‪ ،‬لكن ال‬ ‫شيء‪ ،‬ال شيء أب ًدا‪ ،‬عادت طرقات أمها تستحثها للخروج‪،‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫حاولت المسير لكن قدميها لم تستجيبا لها‪ ،‬نظرت إليهما في‬ ‫ٌ‬ ‫خفية سيطرت عليهما تمامًا‬ ‫ذهول وكأنما قيَّدتهما أغًل ٌل‬ ‫ٍ‬ ‫فمنعتها من التحرك‪ ،‬دخلت أمها الغرفة فسقط الجدار الرمادي‬ ‫الذي أحاط بعقلها وأعادها إلى الحياة الواقعية من جديد‪ ،‬سارت‬ ‫خلف أمها في تثاقل السائر على الرمال وكانا هما ينتظرانها‪،‬‬ ‫أخوها وحسام‪..‬‬ ‫تحدث إليها بعدما صارا منفردين تحت نظري أمها وأخيها‬ ‫ٌ‬ ‫صامتة ال ترفع عينيها إليه‪ ،‬تحدث عن نفسه وعن‬ ‫وهي‬ ‫المستقبل وما ينوي فعله وهي ال تدرك شي ًئا مما يقول على‬ ‫آخر من أفكارها سألت نفسها‪ ،‬هل ح ًقا أتى‬ ‫اإلطًلق‪ ،‬في‬ ‫عالم ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫آخ ٌر غيره ليخطبها؟ ال بد أنه كابوسٌ مخيفٌ فمتى عساه‬ ‫ينتهي؟ أخذت نفسًا عمي ًقا وحسام مسترس ٌل في حديثه‪ ،‬شيء ما‬ ‫استفز عقلها وجعلها ً‬ ‫َّ‬ ‫تنظر إليه عاقد ًة حاجبيها فتوقف عن‬ ‫الكًلم فجأة‪ ،‬سألها ما إذا كانت تريد أن تستفسر عن شيء ما‬ ‫لكنها لم تجبه‪ ،‬بدون استئذان وبًل أي حر ٍ‬ ‫ف نهضت واندفعت‬ ‫إلى غرفتها بسرعة‪ ،‬تعجَّ بت األم وغضب ياسر من فعلة أخته‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫المفاجئة فيما سيطرت الحيرة على حسام وعاد يسترجع بينه‬ ‫ً‬ ‫باحثا ع َّما يكون قد أغضبها‪ ،‬عادت‬ ‫وبين نفسه كلماته األخيرة‬ ‫ً‬ ‫حاملة قارورة العطر الصغيرة‬ ‫بسرع ٍة لتقطع عليهم حيرتهم‬ ‫وأشارت بها إليه فنقل بصره بينها وبين رحاب في دهش ٍة‬ ‫عارمة‪ ،‬استفسر ياسر عن القارورة وعًلقتها بصديقه فأخبره‬ ‫حسام بواقعة إغماء الفتاة في الطريق والتي لم يعرف أنها‬ ‫رحاب إال اآلن‪ ،‬وافقته بإيماءات رأسها وهي تتش َّمم رائحة‬ ‫العطر من جديد‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪2‬‬ ‫باتت ليلتها في الجحيم‪ ،‬للمرة الثانية أخبرها أنه لم يفلح في‬ ‫إقناع أمه‪ ،‬لو ذبحها بيديه لكان أهون عليها مما هي فيه‪،‬‬ ‫احترقت روحها داخلها وأصبحت رما ًدا خنق قلبها المثخن‬ ‫ً‬ ‫قائلة‪:‬‬ ‫بالوجع‪ ،‬احتضنتها بسمة‬ ‫ حرام عليكي نفسك يا بنتي‪ ،‬انسي بقى وفكري في اللي‬‫جاي‪..‬‬ ‫ً‬ ‫مختنقة بلعابها‪:‬‬ ‫أجابت‬ ‫ مش هقدر يا بسمة‪ ،‬مش هقدر أنساه‪ ،‬دا حبي األول‬‫واألخير‪ ،‬أنا اتولدت وكبرت وعشت معاه‪ ،‬دا هو الحياة كلها‪..‬‬ ‫ مفيش حاجة اسمها مش هتقدري تنسيه‪ ،‬إنتي اللي بتصعبيها‬‫على نفسك‪ ،‬كلمة مش هقدر أنساه دي هي اللي هتخليكي مش‬ ‫هتقدري‪ ،‬لو قلتي هنساه علشاني وعلشان نفسي هتقدري‪..‬‬ ‫ هو النسيان بالسهولة دي؟‪..‬‬‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ ال طبعًا النسيان مش بالسهولة دي‪ ،‬بس فكري في اللي‬‫يساعدك عليه‪ ،‬فكري في إنه سابك وسافر قبل كدا من غير ما‬ ‫يقولك وقبل كل دا فكري إن دا أمر ربنا‪..‬‬ ‫ وكمان مقدرش يقف قدام أمه عشاني‪..‬‬‫ عايزاني أقولك زي ما أي بنت بتقول لصاحبتها إنه‬‫المفروض يحارب الكون كله عشانك بما فيهم أمه؟ كل دا كًلم‬ ‫أفًلم وروايات بيضحكوا بيه على بعض‪ ،‬بس أنا مش هخالف‬ ‫ضميري أب ًدا‪ ،‬محدش بيتجوز واحدة غصب عن أمه ألن‬ ‫رضاها متقدم على رضا اللي هيتجوزها‪ ،‬لو شايفه إنه عمل‬ ‫اللي عليه معاها ومرضيتش يبقى هو خد باألسباب ودا‬ ‫نصيبكم فترضي باللي ربنا كتبه‪ ،‬لكن لو مكانش عمل اللي‬ ‫عليه وبيقول كدا وخًلص يبقى ربنا هيحاسبه وساعتها‬ ‫هتكوني إنتي الكسبانة‪ ،‬المهم دلوقت تفكري في اللي جاي‪،‬‬ ‫وبعدين عمر الحياة ما وقفت على حد‪ ،‬نفضل في وقت الوجع‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫نقول مش هنقدر بس لما األيام تعدي بنتأكد فعًل إنها مبتقفش‬ ‫على حد‪ ،‬المهم الصبر في وقت الوجع‪..‬‬ ‫ أعمل إيه يعني يا بسمة؟‪..‬‬‫ فكري في حسام ألنه هو األحق دلوقت بالتفكير‪ ،‬الراجل جه‬‫ودخل البيت ومستني ردك عليه فشوفي هل يستحق ولًل ال؟‬ ‫وكمان اعتبريها رسالة ليكي يوم ما كنا ماشيين سوا في‬ ‫المنصورة وأغمى عليكي وإزازة الريحة بتاعته هي اللي‬ ‫فوقتك‪ ،‬مش يمكن دي رسالة علشان تنسي اللي فات مهما كان‬ ‫كبير وتبصي لقدام؟‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪3‬‬ ‫"بقولك إيه يا محمد‪ ،‬خطوبتي على رحاب أخت ياسر يوم‬ ‫السبت اللي جاي إن شاء هللا عندهم في البيت‪ ،‬حبيت أقولك‬ ‫قبل ياسر ما يقولك‪ ،‬إياك تتأخر"‪ ،‬هبطت الكلمات على رأسه‬ ‫عبر الهاتف كصاعق ٍة من السماء اختارته هو بالذات لتضربه‬ ‫ً‬ ‫نيابة عن كل سكان الكوكب‪ ،‬مادت األرض به وارتفع صوت‬ ‫دقات قلبه فوضع يده اليمنى على صدره وكأنما يكتم الصوت‬ ‫مخافة أن يسمعه حسام‪ ،‬سعل سعا ًال مفتع ً​ًل محاو ًال استعادة‬ ‫هدوئه وقال‪:‬‬ ‫ مبروك يا صاحبي‪ ،‬ألف مبروك‪ ،‬هكون موجود إن شاء‬‫هللا‪..‬‬ ‫تسارعت خطواته في الظًلم الدامس بين البيوت الرابضة في‬ ‫أماكنها كالقبور هربًا من الكلمات التي تًلحقه‪ ،‬أصبحت الدنيا‬ ‫حوله فضاء رهيبًا ال حدود له واستطال الطريق أكثر وأكثر‬ ‫مكان في الكون‪،‬‬ ‫حتى بدا أن ال نهاية له وصار البيت أبعد‬ ‫ٍ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ببصيص من الرحمة‪،‬‬ ‫اختفى القمر خلف سحاب ٍة ما وضنَّ عليه‬ ‫ٍ‬ ‫توقف الزمن في الوقت الذي وصل فيه إلى البيت‪ ،‬دفع الباب‬ ‫بقو ٍة فأطلق صريره احتجاجً ا على الطريقة التي دفع بها‪ ،‬في‬ ‫غرفته ارتكن إلى الجدار بظهره ثم انزلق ألسفل‪ ،‬وضع وجهه‬ ‫بين كفيه وبكى‪ ،‬أطلق سراح أوجاعه فانهمرت عبراته‬ ‫والكلمات ما زالت تطن في رأسه‪ ،‬لم يتصور يومًا حتى في‬ ‫ق َّمة الخصام بينهما أن تكون لغيره‪ ،‬ولمن؟ لحسام صديقه؟!‬ ‫عندما رفضت أمه رفضها الصارم في المرتين كانت ذؤابة‬ ‫ً‬ ‫باقية في قلبه تقاوم عواصف الزمن‪ ،‬لكن اآلن صار‬ ‫األمل‬ ‫المستحيل واقعًا وبأقسى صور ٍة ممكنة‪..‬‬ ‫آ ٍه يا رحاب‪ ،‬هل سيأخذ حسام مكاني في قلبك؟ هل ستحادثينه‬ ‫طيلة الليل كما كنت تحادثينني وهل ستشتاقين إليه كشوقك‬ ‫إليَّ ؟ هل ستهاتفينه صباحً ا عند خروجك إلى الجامعة وهل‬ ‫ستعتادين قلقه عندما تتأخرين في العودة منها؟ آ ٍه يا رحاب‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫زفرات حارة َّ‬ ‫ٌ‬ ‫مزقت نياط قلبه‪ ،‬ثنى ركبتيه ووضع وجهه‬ ‫بينهما ثم أحاطهم بساعديه وأغمض عينيه‪ ،‬تذكر ك َّل الكلمات‬ ‫التي يحب أن يسمعها بصوتها الحاني وهي تعيدها عليه مرارً ا‬ ‫دون أن يم َّل تكرارها‪ ،‬تذكر عندما كانت تفعل شي ًئا يغضبه‬ ‫بعفوي ٍة وبدون قص ٍد منها فينفعل عليها ثم ينهي االتصال فجأة‬ ‫فتعود لًلتصال به بعدما هدأت ثورته وتعتذر كثيرً ا‪ ،‬تحتمل‬ ‫عصبيته وتحتويها حتى تتغير حالته المزاجية‪ ،‬وربما أغلق‬ ‫هاتفه حتى الصباح وهو يعلم أنها تحاول االتصال وعندما يحل‬ ‫حزن‬ ‫الصباح تهاتفه وكأ َّنه لم يوبخها وهي التي باتت ليلتها في‬ ‫ٍ‬ ‫وكمد‪ ،‬قسا عليها كثيرً ا لكنه في نفس الوقت عشقها أكثر مما‬ ‫عاقل أو مجنون‪ ،‬كل نعيم الحياة ال يساوي لديه شي ًئا‬ ‫يتخيله أي‬ ‫ٍ‬ ‫عندما يسمع صوتها المبحوح عند استيقاظها من النوم وهي‬ ‫تقول "صباح الخير" فتمس كلماتها شغاف قلبه‪ ،‬تسأله "هو أنا‬ ‫حبيبتك؟" فيجيبها "ال"‪ ،‬تصمت ألن جوابه جاء صادمًا على‬ ‫عكس المتوقع‪ ،‬يتركها قلي ً​ًل في حيرتها وهو يبتسم في نفسه ثم‬ ‫يعود فيقول "إنتي مش حبيبتي بس‪ ،‬إنتي بنتي اللي كبرت قدام‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫عينيا يوم بعد يوم"‪ ،‬كان فع ً​ًل يعتبرها طفلته‪ ،‬يألم إذا أصابها‬ ‫الزكام‪ ،‬يود لو أحاطها بجسده فيمنحها الدفء الذي تحتاجه‬ ‫ويعنفها عندما ال تستطيع ابتًلع أقراص الدواء‪ ،‬يطمئن عند‬ ‫عودتها من الجامعة وهل قامت باستذكار المحاضرات أم ال؟‬ ‫كان آخر من يحدثها قبل أداء االختبار وأول من يطمئن عليها‬ ‫بعد انتهائه‪ ،‬كانت ترفض أن يأتيها أح ٌد غيره بنتيجة‬ ‫االختبارات‪ ،‬أرادت أن يشاركها أفضل اللحظات الممكنة‪،‬‬ ‫ماضيها بأكمله كان له أما حاضرها ومستقبلها فيبدو أنَّ القدر‬ ‫كتبهما لرج ٍل غيره‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪4‬‬ ‫خطواته مرتع ٌ‬ ‫شة وكأنَّ األرض التي يسير عليها أصبحت‬ ‫رخو ًة لسب ٍ‬ ‫ب ما‪ ،‬ساقته قدماه إلى بيتها كما يساق المذنب إلى‬ ‫حجرة اإلعدام‪ ،‬تدلَّت من فوق المنزل أضوا ٌء مختلفة األلوان‪،‬‬ ‫صفراء وبرتقالية وحمراء‪ ،‬ربما استم َّدت ألوانها من النار التي‬ ‫تستعر في صدره‪ ،‬ارتجَّ ت جنبات البيت باألغاني الصادحة‬ ‫وتبارت النساء داخله في إطًلق أطول زغرود ٍة ممكنة وكأنها‬ ‫ً‬ ‫سابقة للزغاريد كل واحد ٍة منها تشق قلبه ككًلبيب‬ ‫صارت م‬ ‫من حديد‪ ،‬وجوه المدعوين تبتسم في وجهه تهنئه بخطبة‬ ‫ً‬ ‫داعية له بقرب عثوره على ابنة الحًلل‪ ،‬هذه الوجوه‬ ‫صديقه‬ ‫كانت يجب أن تهنئه هو ال أن تهنئ صديقه‪ ،‬يبتسم لهم ودمعتاه‬ ‫توشكان على التكون‪ ،‬تداعت أمام عينيه صورة وجهها في كل‬ ‫وزمان رآها فيه ومرَّ ت أمام عقله كل لحظاته معها‪،‬‬ ‫مكان‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫استرجعت أذناه كل همساتها وضحكاتها وبكائها وحتى‬ ‫قفص حديدي أخذ‬ ‫صمتها‪ ،‬ضاق صدره وتحولت ضلوعه إلى ٍ‬ ‫ينكمش شي ًئا فشي ًئا حتى أوشكت أن تعتصر قلبه الذي تلوى‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫مذبوح‪ ،‬تطلَّع في الوجوه من حوله‪ ،‬تم َّنى أن يضحك‬ ‫ور‬ ‫كعصف ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أحدهم في سخري ٍة مشيرً ا إليه ويخبره بأنَّ ما يحدث مجرَّ د‬ ‫ً‬ ‫ستيقظا من نومه لكن ذلك لم يحدث‪،‬‬ ‫بغيض فينتفض م‬ ‫وس‬ ‫ٍ‬ ‫كاب ٍ‬ ‫إنه واقعٌ من الجحيم إذن‪..‬‬ ‫دوى صوت منبهات السيارات وصنع ضجيجً ا صاخبًا حتى‬ ‫توقفت سيارتهما أمام المنزل تمامًا‪ ،‬هبط حسام من بابها‬ ‫الخلفي مرتديًا ح ً‬ ‫نق‬ ‫لة فضية اللون وقميصًا أبيض ورابطة ع ٍ‬ ‫زهرية اللون‪ ،‬رفع يديه محييًا المدعوين ثم دار حول السيارة‬ ‫في سرع ٍة وفتح لها الباب‪ ،‬استقرت أناملها الرقيقة في راحته‬ ‫اليسرى في استسًلم وهي تهبط من السيارة‪ ،‬من يراها ال‬ ‫يصدق أنها تمت لهذه القرية المتواضعة بصل ٍة بل يشعر أنها‬ ‫أميرةٌ تطل عليه من إحدى القصص الخيالية‪ ،‬كانت في أوج‬ ‫ً‬ ‫حريريا زهريَّ اللون تم َّدد على جسدها‬ ‫سحرها‪ ،‬ارتدت فستا ًنا‬ ‫في دع ٍة وفرح‪ ،‬كان الفستان مستمتعًا بارتدائها له مستم ًدا رقته‬ ‫ٌ‬ ‫انتظام كأ َّنها‬ ‫حبات المع ٌة بًل‬ ‫منها‪ ،‬تبعثرت على نصفه السفلي‬ ‫ٍ‬ ‫النجوم في أفًلكها‪ ،‬لم تضع على وجهها من مساحيق التجميل‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫سوى أحمر شفا ٍه زاد شفتيها لهيبًا وتكحَّ لت عيناها فتب َّدلت‬ ‫نظرة عينيها الحزينة إلى نظر ٍة أكثر غموضًا‪ ،‬لم تتخ َّل عن‬ ‫حجابها الذي دار حول رأسها في حميمي ٍة حاجبًا عن األعين‬ ‫نحرها العاجي‪ ،‬أمسكت بيمناها ً‬ ‫باقة من الورد أبيض اللون‬ ‫استخدمتها في التلويح لصديقاتها وكأ َّنها تستثير غيرتهنَّ بها‬ ‫فيما تأ َّبطت ذراع حسام بيسراها‪ ،‬رآها كما لم يرها من قبل‪،‬‬ ‫رائعة وفات ً‬ ‫ً‬ ‫نة بكل المقاييس‪ ،‬كل هذه السنوات كانت تحت‬ ‫بصره وملء سمعه فلماذا لم يرها بهذه الصورة من قبل؟‬ ‫تج َّسدت أمام عينيه الحكمة الشهيرة‪ ،‬ال تشعر بقيمة األشياء إال‬ ‫إذا فقدتها‪..‬‬ ‫أما هي فكانت تبتسم للجميع بًل استثناء حتى رأته‪ ،‬رأت في‬ ‫عينيه أل ًما مكتومًا ال يشعر به سواها‪ ،‬أدارت رأسها تكمل‬ ‫توزيع سحرها على النسوة الًلئي التففن حولها وقبَّلنها‬ ‫بحرارة‪ ،‬انتهز لحظة تركها لذراع خطيبها وانشغالها مع‬ ‫صديقاتها فتق َّدم إليه واحتضنه بحرار ٍة وتم َّنى له السعادة‬ ‫مخلصًا فشكره حسام داعيًا له بالعقبى القريبة‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫دخلت وخطيبها المنزل وجلسا في منتصف غرفة المعيشة‪،‬‬ ‫الغرفة التي طالما شهدت قصائد عشقهما الصامتة كلما التقت‬ ‫عيناهما في األيام الخوالي والتي تشهد اآلن نعي حبهما على‬ ‫أنغام الموسيقى‪ ،‬خيل إليه أنَّ جدران الغرفة تستنكر وجوده‬ ‫بعدما عجز عن تحويل الحب إلى زواج وتطالبه باالنصراف‪،‬‬ ‫تحاشت النظر إليه وتساءلت فيما بينها‪ ،‬لماذا جاء؟ هل أراد أن‬ ‫يشهد نهاية قصتهما بعينيه أم أراد أن يعذب نفسه ويعذبها معه؟‬ ‫عندما هجرها بكته وعندما عاد سامحته قبل أن يعتذر بل‬ ‫وأعطته الفرصة من جديد فماذا يريد منها؟ فليذهب ويلقي‬ ‫ً‬ ‫وفية ألبعد مدى‪ ،‬أجفلت فجأة‬ ‫اللوم على أمه أما هي فقد كانت‬ ‫عندما وضع حسام يده على يدها برق ٍة ناعمة‪ ،‬نظر في عينيها‬ ‫خجل‬ ‫بمنتهى األمل مستبشرً ا بحياته معها‪ ،‬تورَّ د خداها في‬ ‫ٍ‬ ‫وسألت نفسها‪" :‬ما ذنب هذا الذي يحتوي كفي بيده؟"‪ ،‬ال تريد‬ ‫بحر من الهدوء‬ ‫أن تخون التزامها تجاهه‪ ،‬غمست عقلها في‬ ‫ٍ‬ ‫ألقل من ثاني ٍة وج َّددت عهدها الذي قطعته على نفسها‪ ،‬ستمنح‬ ‫حسام ك َّل ما يفرضه الواجب عليها من احترام‪ ،‬رفعت رأسها‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫روعة فتهلل وجهه أكثر‪،‬‬ ‫ناظر ًة إليه ومنحته أكثر ابتساماتها‬ ‫ً‬ ‫حاملة "الشربات" وق َّدمت كأسًا لكل منهما‬ ‫هنا دخلت أمها‬ ‫وأمرتهما أن يسقي كل منهما اآلخر بيده‪ ،‬إنها اللحظة األكثر‬ ‫إثارة للحرج خًلل الحفل واألكثر إثارة للحديث بعده‪ ،‬نظر كل‬ ‫خجل يستعطفانها‪ ،‬ارتفعت ضحكات المدعوين‬ ‫منهما إليها في‬ ‫ٍ‬ ‫وهم ي َّ‬ ‫بحر ألقى‬ ‫بحر من الخجل‪ٍ ،‬‬ ‫تلذذون برؤيتهما غارقين في ٍ‬ ‫ببعض الرذاذ على وجهيهما‪ ،‬أخرج حسام منديله وج َّفف حبات‬ ‫العرق التي تكونت على جبهته فيما فعلت بسمة المثل بوجه‬ ‫رحاب‪ ،‬ارتفعت همهمات المدعوين مشج ً‬ ‫عة لهما‪ ،‬يبدو أنه شر‬ ‫وال بد منه‪ ،‬رفع كل منهما الكأس ويده ترتعش حرجً ا وخو ًفا‬ ‫أن ينسكب الشراب من يد أحدهما على ثياب اآلخر وتصير‬ ‫كاية مضح ً‬ ‫ح ً‬ ‫كة طيلة حياتهما‪ ،‬تعلقت العيون بهما وهما يسقيان‬ ‫بعضهما وكان هو يشرب معهما أيضًا‪ ،‬يشرب كأسًا من العلقم‬ ‫الخام مذا ًبا فيه جبا ٌل من المرارة‪ ،‬أمسكت بسمة صندو ًقا‬ ‫صغيرً ا من القطيفة الحمراء على شكل قل ٍ‬ ‫ب وناولته لحسام‬ ‫فوضع الكأس من يده في سرع ٍة منهيًا تلك الفقرة الضاحكة‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫على المدعوين فارتفعت تأوهاتهم الغاضبة‪ ،‬لم يتسنَّ لهم رؤية‬ ‫"الشربات" مسكوبًا على ثياب أحدهما‪ ،‬أمسك حسام بأصابعها‬ ‫الرقيقة كي يقلدها خاتم الخطبة‪ ،‬انساب خنصرها خًلل الخاتم‬ ‫في هدو ٍء وفعلت هي المثل بيد حسام فالتمع الخاتم الفضي في‬ ‫يده يعكس فرحته العارمة‪ ،‬هنا كان محمد فع ً​ًل على شفا حفرة‬ ‫ٌ‬ ‫لمسة واحدةٌ ويرقد فيها إلى األبد‪ ،‬تراجعت نبضات‬ ‫الموت‪،‬‬ ‫قلبه وصار عددها دون المع َّدل‪ ،‬غامت الدنيا أمام عينيه وشعر‬ ‫أنه ال شيء‪ ،‬تهاوت سنوات عمره السابقة واندثرت في طرفة‬ ‫عين‪ ،‬ارتجف جسده واشتعلت النيران في جميع أركانه‪ ،‬أحسَّ‬ ‫أن خاتم الخطبة ال يطوق إصبعها بل يل َّتف حول رقبته ينفذ‬ ‫على بقية حياته حكم اإلعدام‪ ،‬في أسوأ كوابيسه لم يتخيل أن‬ ‫يم َّسها غيره‪ ،‬كانت غيرته تبني حولها حصو ًنا المرئية‪ ،‬يغار‬ ‫أحدا تعرفه ص ً‬ ‫إن حادثت ً‬ ‫دفة في الطريق ويغار إن اضطرت‬ ‫إلى السًلم بيدها على أي قري ٍ‬ ‫ب من أقاربها‪ ،‬يغار عليها من‬ ‫إنسان حي أو شي ٍء جام ٍد يراها فماذا اآلن وغيره يمسك‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫يدها وتتأبط ذراعه؟ لم يستطع أن يتحمل أكثر من ذلك فأخرج‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫هاتفه المحمول من جيبه وتص َّنع االنشغال به ثم خرج من‬ ‫المنزل‪ ،‬لم يحدد وجهته لكنها بالتأكيد ليست المنزل فآخر وج ٍه‬ ‫يريد رؤيته اآلن هو وجه أمه‪..‬‬ ‫أوصدت الحياة بابها في وجهه بمنتهى القسوة واإلحكام‪ ،‬بابٌ‬ ‫قاس هذا‬ ‫أسود سرمدي من فضا ٍء غير ملموس‪ ،‬كم هو‬ ‫ٍ‬ ‫الشعور‪ ،‬عندما تضيق عليك األرض بما رحبت فتصبح سج ًنا‬ ‫جدران وبًل أسًلكٍ شائكة‪ ،‬تشعر أنك وحي ٌد في هذا‬ ‫كبيرً ا بًل‬ ‫ٍ‬ ‫صدر ترتمي فيه لتبكي فًل تجد‪ ،‬مجبرٌ أن‬ ‫العالم‪ ،‬تهفو إلى‬ ‫ٍ‬ ‫تقمع براكين األلمب داخلك في صمت‪ ،‬تنظر لكل شي ٍء حولك‬ ‫تود لو تبثه ه َّمك فتصطدم بجموديته وعجزه عن فهمك‪ ،‬أعظم‬ ‫الشعراء وأمهر الكتاب ال يستطيعون وصف حالة قلبه اآلن‪..‬‬ ‫هام على وجهه في طرقات القرية هاربًا منها ومن كل ما‬ ‫يربطه بها‪ ،‬سار إلى محطة القطار واقتطع تذكر ًة إلى‬ ‫المنصورة‪ ،‬وقف ينتظر واضعًا يديه في جيبي بنطاله‪ ،‬ت َّ‬ ‫حفز‬ ‫الباعة الجائلون للوثوب داخل القطار رغم أنهم لن يزاحموا‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الركاب على المقاعد لكن التحفز صار جزءًا من طبيعتهم‪،‬‬ ‫على مقرب ٍة منه شاب وفتاة تشابكت يداهما‪ ،‬كانا على ما يبدو‬ ‫يمنيان نفسيهما بنزه ٍة على ضفاف النيل ليسرَّ ا إليه بأمانيهم‪،‬‬ ‫يرسمان على صفحاته الهادئة تفاصيل حياتهم المستقبلية‬ ‫ويجعًلنه شاه ًدا على كل الوعود التي قطعاها على نفسيهما‪،‬‬ ‫مال الفتى على أذن رفيقته وسكب على مسامعها كًلمًا دغدغ‬ ‫مشاعرها فاندفعت الدماء إلى وجنتيها وخضَّبتها خج ً​ًل‪،‬‬ ‫وضعت يدها على فمها قبل أن تنطلق ضحكتها الساحرة خشية‬ ‫لفت األنظار إليهما بينما يرقص قلبها طربًا على وقع كلمات‬ ‫الغزل‪ ،‬ح َّدق الفضوليون فيهما محاولين قراءة الكلمات التي‬ ‫سنة َّ‬ ‫تنساب من شفتيهما‪ ،‬بجانبهما سيدةٌ م ٌ‬ ‫مطت شفتيها في‬ ‫امتعاض الع ً‬ ‫نة قلة الحياء التي أصابت جيل هذا الزمان‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫في الناحية األخرى على الرصيف المقابل لهما فتاةٌ وحيدةٌ‬ ‫أخذت تراقبهما في شرود‪ ،‬لم يتبين مًلمحها المبهمة لكنه شعر‬ ‫أنها تحسد تلك الفتاة التي اختارها ذلك الشاب لترافقه في بقية‬ ‫مشوار حياته بينما هي تنتظر ذاك الذي كتبه القدر في‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫صحيفتها‪ ،‬لعلَّها اآلن تلعن االنتظار‪ ،‬عيناها مركزتان على‬ ‫العاشقين محاو ً‬ ‫لة اختراق جسديهما إلى مكنون قلبيهما تريد أن‬ ‫تتبين صدق مشاعرهما‪ ،‬أجفلت مع سماع صوت القطار القادم‬ ‫من بعيد‪ ،‬مسحت بسبابتها شي ًئا ما من تحت عينيها‪ ،‬هل كانت‬ ‫تبكي؟ لم يكن باستطاعة محمد أن يرى دمعها يسيل من مكانه‬ ‫هذا لكنه تأكد من ذلك عندما أخرجت م ً‬ ‫نديًل من حقيبتها‪ ،‬ربما‬ ‫كانت عاش ً‬ ‫قة رحل عنها حبيبها لسب ٍ‬ ‫ب ما أو حال القدر بينهما‬ ‫كما حال بينه وبين رحاب‪ ،‬حركت رأسها في عفوي ٍة فوقعت‬ ‫عيناها عليه‪ ،‬التقت عيناهما عبر الطريق الفاصل بينهما ألقل‬ ‫من ثانية كانت كفيل ًة لتدرك أ َّنه ينظر إليها وكا ً‬ ‫فية له حتى‬ ‫يشعر بكم الحزن الذي يحويه صدرها‪ ،‬ه َّمت بتحريك حاجبيها‬ ‫تساؤ ًال عن سر تحديقه فيها لكن القطار لم يمنحها الفرصة‬ ‫لذلك‪ ،‬قطع االتصال بينهما وأنهى عتابها الصامت قبل أن يبدأ‪،‬‬ ‫ترك الباعة الجائلين يتدافعون قاطعين الطريق أمام الركاب‬ ‫الهابطين منه ثم صعد خلفهم في خطوا ٍ‬ ‫ت بسيطة وعيناه‬ ‫تبحثان عن الفتاة على الناحية األخرى‪ ،‬لعله أراد أن يسألها في‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫صم ٍ‬ ‫ت عن سبب حزنها‪ ،‬وقف على الباب المقابل للناحية التي‬ ‫تقف فيها‪ ،‬ما زالت تنتظر قطارها الذي سيأخذها إلى وجه ٍة‬ ‫عكس وجهته تمامًا رغم هذا الشعور الذي انتابه من نظرة‬ ‫عينيها أن طريقهما يجب أن يكون واح ًدا‪ ،‬نظر إليها وضاقت‬ ‫حدقتاه كأ َّنه يسألها ما بك؟ لم تخش نظراته ولم تشح عنه‬ ‫بوجهها‪ ،‬نظرت إليه في شرو ٍد حتى خيل له أنها ال تراه‪ ،‬بدأ‬ ‫قطاره في التحرك‪ ،‬رفع حاجبيه كثيرً ا كأنه يلح في السؤال‬ ‫علَّها تجيبه بسرع ٍة قبل أن يرحل‪ ،‬انفرجت شفتاها وكأنها‬ ‫ستجيب‪ ،‬تعلم أنه لن يسمعها لكنه حتمًا سيشعر بها‪ ،‬راب ٌ‬ ‫ط خفي‬ ‫ربط بين عقليهما‪ ،‬لكنها أدارت ظهرها إليه وابتعدت في‬ ‫االتجاه المعاكس فظ َّل يتتبعها بنظراته‪ ،‬دوى صوت القطار‬ ‫القادم من االتجاه اآلخر‪ ،‬القطار الذي ربما تنتظره‪ ،‬حانت منها‬ ‫ً‬ ‫التفاتة ناحيته تتحرى هل ما زال ينظر إليها أم ال؟ نظرت في‬ ‫ترق ٍ‬ ‫ب إلى القطار القادم الذي أوشك أن يدخل المحطة‪ ،‬فجأ ًة‬ ‫وبدون تفكير قفزت أمام القطار ووقفت في طريقه‪ ،‬تناقصت‬ ‫المسافة بينهما بسرع ٍة كبيرة فصرخ محمد م ً‬ ‫حاوال تحذيرها‪،‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫صرخته جعلت الركاب حوله‬

‫ينظرون إليه في تعج ٍ‬ ‫ب‬

‫واستنكار ودفعتهم عًلمات الفزع على وجهه للنظر إلى‬ ‫االتجاه الذي ينظر إليه لكنهم لم يروا شي ًئا يستحق صرخته‪،‬‬ ‫كل ما رأوه هو القطار المعتاد اآلتي من االتجاه المقابل‪،‬‬ ‫جلسوا في أماكنهم يلمزون هذا الفتى األرعن‪ ،‬كاد أن يصرخ‬ ‫ً‬ ‫ثانية لكن الصرخة تجمدت في حلقه ولم تتجاوز شفتيه‪ ،‬القطار‬ ‫الذي رآه يقترب بسرع ٍة كبير ٍة منها لم يرتطم بها أو يدهسها‬ ‫بل تخلَّلها‪ ،‬بدا له جسدها شفا ًفا في هذه اللحظة‪ ،‬عبر القطار‬ ‫من خًللها وحرَّ ك الهواء الذي صنعه ك َّل شي ٍء فيها‪ ،‬شعرها‬ ‫والوشاح الذي ل َّفته حول رقبتها وفستانها لكنه لم ينجح في‬ ‫تحريك نظراتها الجامدة التي تسددها نحو محمد‪ ،‬روي ًدا روي ًدا‬ ‫اتضحت مًلمح الوجه الشاحب‪ ،‬إ َّنه وجهها بكل تفاصيله‬ ‫ٌ‬ ‫رعشة باردةٌ في جسده‪،‬‬ ‫ورقته وبساطته‪ ،‬وجه رحاب‪ ،‬سرت‬ ‫هرب من نظراتها وجلس على مقعده بجوار النافذة يلهث من‬ ‫ً‬ ‫فرط االنفعال‪ ،‬أعاد النظر في رع ٍ‬ ‫ثانية لكنها‬ ‫ب إلى مكانها‬ ‫اختفت‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫َّتذكر ما حدث منذ أقل من ساعة‪ ،‬لم يستطع طرد صورة حسام‬ ‫ممس ًكا بيدها من مخيلته‪ ،‬حاصرته كما يحاصر الموج طف ً​ًل‬ ‫غفل عنه أبواه حتى طلب الغوث ال يقدر عليه‪ ،‬ضغط جانبي‬ ‫ً‬ ‫خيفة منه وظنوا به ك َّل‬ ‫رأسه براحتيه فتوجس الركاب‬ ‫الظنون‪ ،‬صرخته السابقة وتأوهاته الحالية لم تدع لهم مجا ًال‬ ‫مرض نفسي‪ ،‬وكعادة الناس‬ ‫للشك أنه مصابٌ بلوث ٍة عقلي ٍة أو‬ ‫ٍ‬ ‫في هذه المواقف لم يحاولوا مساعدته بل ابتعدوا عنه وهو ال‬ ‫ثانية ً‬ ‫ً‬ ‫بدال من مواجهته‪ ،‬كم‬ ‫يشعر بهم‪ ،‬ها هو يهرب من الواقع‬ ‫من الزمن سيمكث عند ابن خالته في المنصورة؟ يوم‪ ،‬أسبوع‪،‬‬ ‫شهر؟ حتمًا سيعود مهما طالت مدة هروبه‪ ،‬صرخت نفسه‬ ‫"ليتني انتهيت في عرض البحر"‪ ،‬استعاذ باهلل من شر نفسه‬ ‫وقرأ المعوذتين وبعضًا من اآليات واألذكار‪..‬‬ ‫في التاسعة تمامًا وصل أخيرً ا إلى المنصورة‪ ،‬المدينة التي‬ ‫قضى بها فترة دراسته الجامعية‪ ،‬ليس له أقارب بها سوى ابن‬ ‫وابنة خالته التي توفيت منذ عشر سنوات بينما لم يمر على‬ ‫وفاة أبيهما أكثر من عامين‪ ،‬اصط َّفت سيارات األجرة أمام سلم‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الخروج من المحطة مطل ً‬ ‫قة أصوات منبهاتها جذبًا للقادمين‬ ‫ً‬ ‫خاصة المنهكين واألغراب منهم‪ ،‬فضَّل المسير وسط شوارع‬ ‫المدينة التي تتثاءب وال تستطيع النعاس‪ ،‬ربما ألنَّ قهقهات‬ ‫الجالسين في مقاهيها ال تمنحها الهدوء الًلزم أو ربما تريد‬ ‫االطمئنان على هؤالء الذين قصدوها من أجل زيارة طبي ٍ‬ ‫ب‬ ‫شهير لتخفيف أوجاعهم‪ ،‬اجتاحت رجف ٌة باردةٌ أنحاء جسده‬ ‫ٍ‬ ‫فنفخ في كفيه بقو ٍة محاو ًال دحرها‪ ،‬إنها رجفة ليل يناير‪ ،‬تش َّبع‬ ‫الهواء ببخار الماء وتل َّبدت السماء بالغيوم‪ ،‬سؤا ٌل يلوح بذهن‬ ‫كل من يرى حالتها هذه‪ ،‬متى ستمطر؟ لم تتأخر إجابة السماء‬ ‫ٌ‬ ‫كثيرً ا‪ ،‬نثر ٌ‬ ‫واهنة سقطت تختبر استعداد أهل األرض للمطر‬ ‫ات‬ ‫قبل أن ترسل زخاتها تباعًا‪ ،‬بدأ الباعة الذين يفترشون‬ ‫الطرقات في تغطية بضائعهم وهرول المشاة لًلحتماء بمداخل‬ ‫المباني‪ ،‬لم يختبئ مثلهم بل ظ َّل يستمتع بكل قطر ٍة تسيل بين‬ ‫منابت شعره وتنزلق على جبهته ورقبته إلى داخل مًلبسه لع َّل‬ ‫المطر يطفئ أوجاعه التي تأجَّ جت وذكرى حسام ورحاب تعود‬ ‫إلى عقله من جديد‪ ،‬ماذا تراه يحدث اآلن؟ هل هما اآلن في‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫حرج بعد أن رحل المدعوون؟‬ ‫غرفة المعيشة يتسامران بدون‬ ‫ٍ‬ ‫هل تبتسم في وجهه اآلن وهل يلقي على مسامعها كلمات‬ ‫ً‬ ‫خجًل؟ أسرع في خطواته أكثر وأكثر‬ ‫الغزل فتتورَّ د وجنتاها‬ ‫هربًا من المشاهد التي تًلحق ذهنه فبدا سيره أقرب للعدو حتى‬ ‫وصل إلى المبنى الذي يسكنه ابن خالته‪ ،‬فتحت له سمر ابنة‬ ‫خالته‪ ،‬إن كان اسمها يعني الحديث لي ً​ًل فصوتها العذب‬ ‫ٌ‬ ‫رقيق‬ ‫يستهويك لسماعه صباحً ا ومسا ًء؛ سمراء‪ ،‬جلدها‬ ‫ومشدو ٌد على وجهها كتلك التماثيل المنحوتة في أروقة‬ ‫المتاحف‪ ،‬أنفها وفمها دقيقان وكأنهما لطفل ٍة في السادسة من‬ ‫عمرها‪ ،‬عيناها الهادئتان وجسدها الضئيل يشعران من يراها‬ ‫أسنان ناصع ٍة‬ ‫بشعور األبوة نحوها‪ ،‬ابتسمت فأبانت عن‬ ‫ٍ‬ ‫بيضاء است َّقت لونها من صفاء قلبها‪ ،‬سألها عن أحوالها وعن‬ ‫اختبارات نصف العام فأخبرته أنها انتهت منها أمس فقط ثم‬ ‫أشارت إليه بأنَّ أخاها في غرفته الخاصة ينتظره‪ ،‬مع دخوله‬ ‫سعل بقوة‪ ،‬دخان السجائر احت َّل الغرفة بصور ٍة رهيبة حتى إنه‬ ‫س َّد الفراغات بين الكتب المبعثرة على مكتب الحديدي‪ ،‬رحم‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫هللا أباه‪ ،‬أراده متفر ًدا فأعطاه لقبًا يصلح لعائل ٍة بأكملها‪ ،‬ذو‬ ‫وشعر زاده الطول وسامة‪،‬‬ ‫هيئ ٍة متناسق ٍة ووج ٍه قمحي باس ٍم‬ ‫ٍ‬ ‫تصافحا في قو ٍة ثم فتح محمد النافذة على مصراعيها ليطلق‬ ‫سراح الدخان فبدأ الهواء البارد يحل محله‪ ،‬استرسًل في‬ ‫الحديث عن أحوالهما في الوقت الذي كانت فيه أصابع‬ ‫الحديدي بين لحظ ٍة وأخرى تجري على لوحة حاسوبه الذي‬ ‫بكثير من كلمات محمد‪ ،‬حوَّ ل الحديدي وجهه‬ ‫يجلس إليه أسرع‬ ‫ٍ‬ ‫غموض شدي ٍد امتزج بابتسامته‬ ‫إلى ابن خالته وقال في‬ ‫ٍ‬ ‫الواسعة‪:‬‬ ‫ روق يا حج‪ ،‬أوعدك بكام يوم معشتهمش وال هتعيشهم تاني‬‫طول حياتك‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الفصلُ​ُالسابعُ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪1‬‬ ‫د َّقت الساعة السادسة إعًل ًنا عن انتهاء فترة العمل الصباحية‬ ‫في مصنع المًلبس فبدأت العامًلت في لملمة حاجياتهنَّ‬ ‫الخاصة استعدا ًدا لًلنصراف وتوافد العاملون الذكور على‬ ‫المشغل لبدء فترتهم المسائية‪ ،‬أتوا منهكين تفوح من أجسادهم‬ ‫رائحة العرق الذي جفَّ على أجسادهم من أثر أعمالهم في‬ ‫أماكن أخرى منذ الصباح‪ ،‬بعضهم أخذ في تدخين سجائره‬ ‫بشراهة وانشغل اآلخرون في الثرثرة مع العامًلت‬ ‫ً‬ ‫ورجاال‬ ‫المنصرفات‪ ،‬كانت الفترة االنتقالية بالنسبة لهم ‪ -‬نسا ًء‬ ‫تفريغ لشحنات الكًلم التي مألتهم بها المواقف على‬ ‫ بمثابة‬‫ٍ‬ ‫مدار اليوم‪ ،‬لم يلتفتوا إلى عاملة النظافة التي تؤدي عملها في‬ ‫آلي ٍة اعتادوها منها‪ ،‬وجهها جام ٌد فيما قلبها يغلي من الثورة‪،‬‬ ‫أيام مع‬ ‫أخبرها محمد منذ ٍ‬ ‫قليل عبر الهاتف أ َّنه سيقضي عدة ٍ‬ ‫ابن خالته في المنصورة والسبب المبهم الذي لم يصرح به هو‬ ‫رحاب‪ ،‬كم تمقتها بقدر حب ابنها‪ ،‬تمقتها أل َّنها أح َّست أن حبها‬ ‫صار في قلبه أقوى من أي شي ٍء في الكون لدرج ٍة دفعته‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫للرحيل عن أمه عندما رفضتها وهي ليست على استعدا ٍد ألن‬ ‫ً‬ ‫ثانية حتى لو على حساب سعادته هو‪ ،‬كل من يعرفها‬ ‫تخسره‬ ‫لم يصدق أب ًدا صنيعها مع ابنها‪ ،‬قسوتها عليه وعدم تفهمها‬ ‫لمشاعره تجاه رفيقة قلبه ولم يجدوا تفسيرً ا لهذا التغير في‬ ‫شخصيتها‪ ،‬هل تط َّبعت رغمًا عنها بطباع زوجها القاسية على‬ ‫مدار السنوات التي عاشتها معه؟ هل كان لنشئتها في كنف‬ ‫أبيها المسافر على الدوام لظروف عمله وزوجته التي تزوجها‬ ‫بعدما ماتت أمها يوم والدتها فلم تذق حنا ًنا في أكثر األوقات‬ ‫احتياجً ا إليه؟ هل كان لذلك كله أثرٌ في تحول قلبها تجاه ابنها؟‬ ‫ال أحد يدري‪..‬‬ ‫انتهت من عملها وانطلقت تحث خطاها وسط الزحام‪ ،‬لم تتأثر‬ ‫تعبيرات وجهها المتغضن بصوت منبهات السيارات التي‬ ‫زمجرت في أذنيها وكأنها أصيبت بالصمم فما يدور برأسها‬ ‫بكثير ً‬ ‫جدا من غضب هؤالء الذين يقطعون الطرقات‬ ‫أهم‬ ‫ٍ‬ ‫بسياراتهم ومشاكلهم السخيفة‪ ،‬خطر ببالها خاط ٌر ما فب َّدلت‬ ‫طريقها في اتجاه المتجر الذي تعمل فيه هند‪ ،‬بادرها الحاج‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫حسن بالتحية وتساءل عن سر حضورها بعد انصراف هند‪،‬‬ ‫أخبرته كذبًا أنها انتظرت ابنتها كثيرً ا عند مكان تجمع‬ ‫ً‬ ‫خاصة أنها سبق وأخبرتها أن ميعاد‬ ‫السيارات لكنها لم تأت‬ ‫انصرافها من المحل قد تغير للسادسة‪ ،‬نفى الرجل تمامًا زيادة‬ ‫فترة العمل ولو لخمسة دقائق إضافية وأخبرها أنَّ هند‬ ‫انصرفت مع سماح في تمام الخامسة‪ ،‬استأذنته أن يصف لها‬ ‫الطريق إلى منزل سماح‪ ،‬نادى الحاج حسن أحد الصبية من‬ ‫الورشة المقابلة ووصف له طري ًقا ما ثم أمره أن يقود السيدة‬ ‫خًلله‪ ،‬شكرته وسارت خلف الصبي وصدرها يفيض بغض ٍ‬ ‫ب‬ ‫ووعي ٍد ال حدود لهما‪ ،‬أشار الصبي إلى المنزل المنشود‬ ‫فاقتربت منه وطرقت بابه بقوة‪ ،‬فتحت سماح وهي تضع شي ًئا‬ ‫على رأسها لتغطي به شعرها المكشوف‪ ،‬ارتاعت عند رؤية أم‬ ‫صديقتها‪ ،‬اتسعت عيناها حتى أقصاهما واحتبست الكلمات في‬ ‫فمها وأفلتت يدها المرتعشة غطاء رأسها فسقط على األرض‪،‬‬ ‫رد الفعل هذا فجَّ ر هواجس أحًلم وشكوكها ألف مرة وأك َّد لها‬ ‫أنَّ ثمة أمرً ا ً‬ ‫جلًل على وشك أن يتك َّشف أمامها‪ ،‬دفعت سماح‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫بعي ًدا عن طريقها بمنتهى القوة واندفعت إلى الداخل بدون‬ ‫حر ٍ‬ ‫ف واح ٍد‪ ،‬لم تأبه للعجوز الجالسة القرفصاء في وسط‬ ‫غرفة المعيشة والتي أخذت تصرخ وهي ال تعلم من تكون هذه‬ ‫جنون ً‬ ‫بحثا‬ ‫المرأة التي اقتحمت بيتها وأخذت تفتح ك َّل األبواب ب‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫عن ابنتها‪ ،‬سمعت تأوها ٍ‬ ‫خافتة تأتي من خلف الباب الوحيد‬ ‫ت‬ ‫المغلق‪ ،‬نظرت في سرع ٍة خاطف ٍة ناحية سماح التي أوشكت‬ ‫على االنهيار وأم وليد التي تجاهد جسدها الضخم حتى تمنع‬ ‫أحًلم من فتح الباب التي َّ‬ ‫دق قلبها بعنفٍ كطبول الحرب في‬ ‫حومات القتال‪ ،‬اقتحمت الغرفة بعنف فاحتبست التأوهات في‬ ‫ً‬ ‫عارية كيوم ولدتها أمها التي تراها اآلن ووليد‬ ‫حلق هند‪ ،‬كانت‬ ‫رجل وامرأته‪ ،‬تج َّمدت‬ ‫ضع فج ال يكون سوى بين‬ ‫ٍ‬ ‫يعلوها في و ٍ‬ ‫مثال من الشمع وتوقف كل شي ٍء في‬ ‫أحًلم في مكانها كت ٍ‬ ‫جسدهاعن العمل من هول الموقف‪ ،‬وحده قلبها الذي لم يتوقف‬ ‫بل على العكس تمامًا أخذ يضخ الدماء بصور ٍة أسرع لمعادلة‬ ‫تلك البرودة التي أصابت ك َّل خلي ٍة في جسدها بالشلل‪ ،‬ارتفع‬ ‫ضغط الدم في عروقها وانفجرت الشعيرات الدموية في أنفها‪،‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫َّ‬ ‫تركزت نظراتها‬ ‫لم يبد أنها تأثرت بالرعاف الذي أصابها‪،‬‬ ‫التي تحرك الصخر على عيني هند الزائغتين‪ ،‬احمرَّ ت عينا‬ ‫األم كجمرتين من جه َّنم وابيضَّ جسد االبنة الغض كأجساد‬ ‫الموتى بعدما ماتت كل كريات الدم الحمراء فيه من الرعب‪..‬‬ ‫أطبق سكونٌ رهيبٌ على المكان وبدا المشهد أقرب للصورة‬ ‫الفوتوغرافية منه للحياة حتى إنَّ الستائر المعلَّقة على النافذة‬ ‫كسرت قانون الطبيعة في هذه اللحظة ووقفت في وجه الهواء‬ ‫المتسلل من الزجاج المفتوح احترامًا لهذا الموقف الجلل‪ ،‬قطع‬ ‫وليد ثبات المشهد ونهض من الفراش‪ ،‬أحاط خصره بمنشف ٍة‬ ‫ليواري سوأته فيما نهضت هي من نومتها ولملمت غطاء‬ ‫السرير لتحجب عورتها‪ ،‬انكمشت إلى الوراء والتصقت‬ ‫بحاجز السرير لتحتمي به من إعصار أمها الهادر المنتظر‪،‬‬ ‫تم َّنت لو أنَّ األرض ابتلعتها اآلن أو أنها حتى ما وجدت في‬ ‫هذه الحياة‪ ،‬تحوَّ ل وجهها إلى أسفل في خزيٍ وسوَّ ده العار‬ ‫الذي جلبته ألمها قبل أن تجلبه لنفسها‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫اتجهت أم وليد إلى أحًلم في قمة التبجح مستنكر ًة اقتحامها‬ ‫لمنزلهم بهذه الصورة‪ ،‬لم تكتف بهذا بل هوت بالصاعقة‬ ‫الكبرى على رأس أحًلم وأخبرتها أن وليد متزوج بهند‬ ‫عرف ًيا‪ ،‬لم يكن من الطبيعي أب ًدا أن يتحمل عقلها البشري هذه‬ ‫الصواعق المتتابعة فخرَّ ت مغش ًيا عليها‪ ،‬ارتطم وجهها‬ ‫باألرض وانكسرت إحدى أسنانها األمامية‪ ،‬عندما أفاقت‬ ‫وجدت نفسها مم َّدد ًة على نفس السرير الذي اقترفت فوقه ابنتها‬ ‫جريمتها ملو ً‬ ‫ثة شرف أسرتها بالدنس‪ ،‬قفزت بصور ٍة ال‬ ‫تتناسب ً‬ ‫أبدا مع سنها وإعيائها من عليه في تقز ٍز شديد‪ ،‬كانت‬ ‫ً‬ ‫رتدية كامل مًلبسها فنظرت إليها أمها نظر ًة‬ ‫هند تقف أمامها م‬ ‫فيها مقت الدنيا كلها‪َّ ،‬‬ ‫تنخمت أحًلم ثم بصقت في وجه ابنتها‬ ‫وابل من اللعنات‬ ‫ولطمتها عليه‪ ،‬تتابعت اللطمات واللكمات مع‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫دمعة واحدة‪ ،‬بم تفيد الدموع اآلن‬ ‫والشتائم لكنَّ هن ًدا لم تذرف‬ ‫أمام هذا الجحيم الذي انفتح على مصراعيه؟ توقفت أحًلم عن‬ ‫الضرب ثم جذبت ابنتها من يدها في صم ٍ‬ ‫ت وخرجت بها تحت‬ ‫نظري سماح وأمها‪.‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪2‬‬ ‫ً‬ ‫حلقة ألحد المسلسًلت المدبلجة‬ ‫جلست هي وابنتها تتابعان‬ ‫قليل في منزلهما ليس بذي أهمي ٍة على‬ ‫وكأنَّ ما حدث منذ‬ ‫ٍ‬ ‫اإلطًلق لكلتيهما‪ ،‬حتى وليد عندما خرج من غرفته طلب من‬ ‫أمه ً‬ ‫ماال فأشارت دون أن تتكلم إلى جوار التلفاز فأخذ النقود‬ ‫كلها ولم يترك شي ًئا ثم خرج من المنزل‪ ،‬أشعل إحدى سجائره‬ ‫ً‬ ‫بصديق له وأخبره أنه قاد ٌم في‬ ‫اتصاال‬ ‫رخيصة الثمن ثم أجرى‬ ‫ٍ‬ ‫الحال‪ ،‬الطريق الذي يسير فيه لم يعد مع َّب ًدا بعد أن تجاهله‬ ‫المارة منذ أم ٍد بعي ٍد‪ ،‬الرائحة القذرة خنقت الهواء المحيط لكنها‬ ‫يوان ناف ٍق‬ ‫لم تخنق رئتيه اللتين تعودتاه‪ ،‬داست قدماه جثة ح ٍ‬ ‫جاج‬ ‫فوثب بسرع ٍة إلى األمام فتهشمت تحت قدميه بقايا ز ٍ‬ ‫مكسور‪ ،‬نبحت عدة كًل ٍ‬ ‫حذر‬ ‫ب في اتجاهه ثم اقتربت منه في‬ ‫ٍ‬ ‫وتش َّممته‪ ،‬تمتم لها بكلما ٍ‬ ‫ت ما فرقدت في مكانها بعد أن ميزت‬ ‫صوته وأطاعت سيدها المهيب‪ ،‬أخيرً ا الحت له المملكة‪ ،‬عربة‬ ‫طار تم إحالتها إلى التقاعد في المحطة القديمة المهجورة‪ ،‬لو‬ ‫ق ٍ‬ ‫كان لها وصفٌ أدق لسميت مملكة الظًلم والدخان‪ ،‬وضع‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫مرتادوها قطعًا من القماش والكرتون المقوى على جميع‬ ‫أبوابها ونوافذها حتى مدخلها الخلفي الذي يدخلون منه وتش َّبع‬ ‫هواؤها بالكامل بأدخنة مخدرات الحشيش والبانجو‪ ،‬األعمدة‬ ‫المعدنية الصماء وما تبقى من المقاعد الخشبية تشاطرهم‬ ‫أنفاسهم‪ ،‬الضوء الوحيد الذي يتمرد على قوانين الظًلم تلك هو‬ ‫ً‬ ‫حاملة نزق لعاب كل‬ ‫ضوء لفافات السجائر التي تدور بينهم‬ ‫منهم إلى فم اآلخر‪ ،‬صمتهم يدوم ما دامت اللفافة مشتعلة‬ ‫تقديسًا لمراسم التعاطي‪ ،‬قام جًلل بتشغيل إحدى األغاني‬ ‫ً‬ ‫نشازا اختلط بعدة كلما ٍ‬ ‫ت سوقي ٍة‬ ‫الشعبية من هاتفه‪ ،‬كانت لح ًنا‬ ‫منحطة لكنها على ما يبدو أشعلت فتيل إثارته فأخذ يتمايل‬ ‫ويرقص بنصف جسده العلوي جالسً ا في مكانه لكن يد وليد‬ ‫امتدت إلى الهاتف لتطفئ إثارة جًلل فنظر إليه صديقاه في‬ ‫دهشة‪ً ،‬‬ ‫فعليا هما ال يريانه لكن العجيب أنه شعر بنظرتيهما‬ ‫فأدار وجهه في االتجاه اآلخر ونفث دخان سيجارته‪ ،‬خرج‬ ‫السؤال من فم متولي بطي ًئا ً‬ ‫ثقيًل كأ َّنه عجو ٌز أصاب الشلل‬ ‫لسانه‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ مالك يا صاحبي؟‪..‬‬‫أفرد وليد إحدى قطع الكرتون ثم تم َّدد فوقها‪ ،‬وضع يديه إلى‬ ‫جواره ملتص ً‬ ‫قة بجسده كجث ٍة تنتظر التكفين‪ ،‬تنحنح جًلل‬ ‫وتن َّخم ثم بصق إلى جواره وكرَّ ر سؤال متولي‪:‬‬ ‫ مالك يا ليدو؟‪..‬‬‫لم يكن متولي على استعدا ٍد لمعاودة سؤاله مرا ٍ‬ ‫ت أخرى فركل‬ ‫قدم وليد بقدمه اليمنى ثم صرخ فيه‪:‬‬ ‫ متنطق يا زفت!‪..‬‬‫ البت هند‪..‬‬‫في لحظ ٍة واحد ٍة تقريبًا انطلق صوتا جًلل ومتولي في حير ٍة‬ ‫وفضول‪:‬‬ ‫ مالها؟‪..‬‬‫ أمها شافتني أنا وهي النهاردة عندنا في البيت‪..‬‬‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫سعل متولي سعا ًال جا ًفا‪ ،‬ناول لفافة البانجو لجًلل في تلقائية ثم‬ ‫قال بصو ٍ‬ ‫ت خفيض وكأنما يحدث نفسه‪:‬‬ ‫ كنت عارف إن ده هيحصل‪ ،‬والعمل دلوقتي؟ هتعمل إيه؟‪..‬‬‫أتى صوت جًلل بار ًدا وهو يقول‪:‬‬ ‫ إنت مزعل نفسك أوي كدا ليه؟ هي دي أول مرة تخلى‬‫بواحدة؟ اقلبها وفكك يا معلم وشوف نفسك‪..‬‬ ‫استنكر متولي كلمات صديقه‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ يقلبها إزاي يا جلجل؟ دي بنت ناس مش بنت كلب يا عم‪..‬‬‫احت َّد جًلل ً‬ ‫قائًل‪:‬‬ ‫ إييييه يا عم؟ هتعملنا فيها شيخ ولًل إيه؟ محنا ياما نهشنا لحم‬‫طري ورميناه عضم ناشف عالسكك‪ ،‬ولًل نسيت؟‪..‬‬ ‫تجاهل متولي جًلل هذه المرة ثم وجَّ ه حديثه إلى وليد‪:‬‬ ‫ اتجوزها يا ليدو‪ ،‬وكويس إن مفيش حد قبلك لمسها‪..‬‬‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ أتجوز مين يا ميتو؟ إنت اتجننت؟ إحنا من إمتى فكرنا‬‫نتجوز واحدة دقناها ولًل حتى مشينا معاها؟ إحنا نمشي مع‬ ‫ألف واحدة وندوق ألف واحدة تانية بس لما نيجي نتجوز تبقى‬ ‫واحدة مش من األلفين دول خالص‪ ،‬واحدة لسه بكيستها‪،‬‬ ‫الدبان نفسه محطش عليها‪..‬‬ ‫ يعني ناوي تعمل إيه؟‪..‬‬‫ مش عارف‪ ،‬بس األكيد الزم أخلص منها قبل ما أخوها‬‫يعرف‪ ،‬علشان لو عرف هتحصل مشاكل كبيرة‪..‬‬ ‫ألقى متولي لفافته على األرض ثم سحقها بقدمه بقوة‪ ،‬إن كان‬ ‫زمن بعي ٍد فإن ضميره ما زال في‬ ‫ضميرا جًلل ووليد ماتا منذ‬ ‫ٍ‬ ‫طور االحتضار ينازع سكرات الموت وهو ال يريده أن يموت‬ ‫دون إعطائه قبلة الحياة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ طب مانت اللي فاكك كيستها ومسويها بإيدك يا ليدو وإنت‬‫عارف إن محدش قبلك لمسها‪ ،‬متتجوزها يا عم وإبقى طلقها‬ ‫بعدين‪ ،‬وأهو تبقى ريحت ضميرك ومرميتش البت‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ تاني أتجوزها؟ أتجوز مين يا متولي‪ ،‬أتجوز مين؟ إنت‬‫اتجننت ولًل إيه؟ دي واحدة باعت جسمها‪..‬‬ ‫صرخ متولي فتجاوز صوته حدود المملكة وهو يقول‪:‬‬ ‫ هي باعته بفلوس؟ دي حبتك إنت‪ ،‬وبعدين دي لسه عيله‬‫وإنت اللي ضحكت عليها‪..‬‬ ‫ العيلة والغبية تاخد فوق دماغها‪ ،‬إحنا في زمن مفيهوش‬‫مكان لألغبيا‪ ،‬علشان كدا البت دي الزم تموت‪..‬‬ ‫كقاض أصدر حكم إعدا ٍم سريع التنفيذ ثم نهض من مكانه‬ ‫قالها‬ ‫ٍ‬ ‫وغادر المملكة دون أي حرفٍ إضافي وعندما عاد إلى المنزل‬ ‫أخبر أ َّمه بالحكم الذي أصدره سل ًفا‪:‬‬ ‫ أما‪ ،‬البت دي الزم تموت‪ ،‬مش عايزين مشاكل‪..‬‬‫بمنتهى البرود أجابه الشيطان على لسان أمه وكأن ما يقوله‬ ‫ابنها شيء عادي ومنطقي‪:‬‬ ‫ خًلص سيبلي الموضوع ده وأنا هتصرف‪..‬‬‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الفصُلُ​ُالثامن ُ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪1‬‬ ‫ش َّد الهواء البارد وجهيهما وتب َّدت لهما أنفاسهما الحارة التي‬ ‫اختلطت بعوادم السيارات السائرة بجوارهما‪ ،‬سارا إلى‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫فارهة تصدح منها‬ ‫سيارات‬ ‫المنطقة التي يقع فيها النادي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫األغاني بصو ٍ‬ ‫ت مرتفع‪،‬‬ ‫فتيات يرتدين مًلبس زادت أنوثتهنَّ‬ ‫توهجً ا بصور ٍة أغرت الشباب المتسكع حول النادي فأطلقوا‬ ‫صافرات اإلعجاب وألقوا على آذانهنَّ كلمات الغزل غير‬ ‫العفيف‪ ،‬نسا ٌء يسرن بجوار أزواجهن ويتزين بأثمن الحلي يكاد‬ ‫محمد والحديدي أن يشت َّما روائح عطورهنَّ النفاذة من مكانهما‬ ‫هذا‪ ،‬أشعل الحديدي سيجارته الرابعة منذ خروجهما ثم راقب‬ ‫تعبيرات وجه محمد الذى لم يتأثر بأي شيء يراه أمامه‪،‬‬ ‫فبغض النظر عن اعتياده هذه المظاهر إبان دراسته بالجامعة‬ ‫فإنَّ ما يعتمل بقلبه يمنعه من التأثر بها‪ ،‬ابتسم الحديدي ولكز‬ ‫محمد بمرفقه وغمز بإحدى عينيه سائ ً​ًل إياه عن رأيه فيما‬ ‫ضيق شديد‪:‬‬ ‫يرى فأجاب محمد في‬ ‫ٍ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ رأيي في إيه يا حديدي؟ إنت جايبني علشان نتفرج عالبنات؟‬‫هو إحنا لسه عيال؟ وبعدين منتا عارف إن الكًلم دا مش في‬ ‫دماغي‪..‬‬ ‫اتسعت ابتسامة الحديدي أكثر وأكثر ثم جذب محمد من ذراعه‬ ‫وسارا بمحاذاة النيل في اتجاه الكوبري الحديدي الذي يربط‬ ‫بين ض َّفتيه‪ ،‬مرَّ ا على بائعة الترمس التي أخذت تحضهما على‬ ‫شرائه‪ ،‬اقتربت منهما طفل ٌة سمراء في السابعة من عمرها‬ ‫ً‬ ‫حافية على الرصيف البارد‪ ،‬نحيف ٌة يكاد بنطالها‬ ‫تقريبًا تسير‬ ‫يسقط وهي تجره ً‬ ‫جرا‪ ،‬لها شعرٌ مج َّعد يحاول ال َّتمرد على‬ ‫قطعة القماش التى ق َّيدته بها‪ ،‬جذبت طرف قميص محمد في‬ ‫استعطافٍ حتى يبتاع منها علبة مناديل‪ ،‬أعطاها الحديدي‬ ‫جنيهًا دون أن يأخذ منها شي ًئا في المقابل فرحلت عنهما سعيد ًة‬ ‫بالغنيمة التي حازتها دون أن تخسر في المقابل جزءًا من رأس‬ ‫مالها‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫على امتداد بصريهما تراصَّ العاشقون يتأملون صفحة النيل‬ ‫الهادئة‪ ،‬دفء قلوبهم يسري عنهم برودة الجو ويمرق الوقت‬ ‫عليهم فًل يشعرون به‪ ،‬ال يقطع عليهم لحظاتهم الحالمة إال‬ ‫بائعو الفل‪ ،‬يصدرون الحرج للفتيان أمام فتياتهم فيجبرونهم‬ ‫على الشراء‪ ،‬دعوتهم المعتادة ومفتاح رزقهم "ربنا يخليهالك‬ ‫يا بيه وال يحرمك منها أب ًدا"‪ ،‬دعوةٌ يؤمن عليها الشاب في‬ ‫غيظٍ وهو يدس يده في جيبه ليخرج لهذا اللعين جنيهًا أو‬ ‫أكثر‪..‬‬ ‫سبحت عينا محمد في مياه النهر وغرق في همومه من جديد‪،‬‬ ‫لطالما تخيَّل نفسه هنا مع رحاب‪ ،‬يتأمل معها صورة القمر‬ ‫الراقصة على صفحة الماء‪ ،‬يسترجعان ذكرى أحاديثهما‬ ‫ٌ‬ ‫الهاتفية ويضحكان ملء قلبيهما‪ ،‬تكونت دمع ٌ‬ ‫ملتهبة في‬ ‫ات‬ ‫عينيه فمحاها بطرف أصابعه قبل أن تسيل على وجهه مخافة‬ ‫أن يفطن إليها الحديدي‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ٌ‬ ‫أربعينية كاش ً‬ ‫انتهيا إلى الكوبري أخيرً ا‪ ،‬تمددت تحته امرأةٌ‬ ‫فة‬ ‫عن قدمها المبتورة حتى تستدرَّ بها عطف المارة‪ ،‬تتسول‬ ‫بإلحاح وتكرر دعوا ٍ‬ ‫ت تحفظها عن ظهر قلب‪ ،‬تتباين كل دعو ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫على حسب الشخص المار أمامها‪ ،‬فالطالب الذي يحمل أوراقه‬ ‫تدعو له بالنجاح والفتاة التي بلغت سن رشدها تدعو لها‬ ‫بالزواج من شاب يجعل عيشها رغ ًدا واألم التي تصطحب‬ ‫أوالدها تدعو لها بطول العمر حتى ترى أحفاد أحفادها وهل َّم‬ ‫جرَّ ا‪ ،‬إلى جوارها رقد طفًلها نائمين دون غطا ٍء يدفع عنهما‬ ‫مخالب البرد القارس‪ ،‬مشه ٌد وخز قلب الحديدي بشدة‪ ،‬أشاح‬ ‫ً‬ ‫عجزا وشفقة ال نفورً ا وكبرً ا‪ ،‬وضع ما استطاع‬ ‫بوجهه عنهما‬ ‫في يدها ومضى دون أن يلتفت إليها‪ ،‬كان يحمل في صدره‬ ‫قلبًا رقي ًقا ال يتناسب مع شراهته في التدخين وال مع ابتسامته‬ ‫التي تعطي انطباعًا لكل من يراه بأنه ال يكترث ألي شي ٍء في‬ ‫هذه الدنيا‪..‬‬ ‫بدأت المدينة تهدأ أكثر إال من حركة الدراجات البخارية التي‬ ‫نشطت في هذا الوقت بصور ٍة كبيرة‪ ،‬عمال التوصيل يحملون‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫إما دوا ًء لمريض أو طعامًا لجائع‪ ،‬تًلقت ذرات بخار الماء‬ ‫فيما بينها وتًلحمت بان ً‬ ‫ية جدارً ا عزلت به العيون عن منتهى‬ ‫البصر‪ ،‬أعمدة اإلنارة لم تستطع تبديد الضباب فنصفها مكسور‬ ‫ً‬ ‫ونصفها اآلخر ال يعمل بكل طاقته‪ ،‬ركل الحديدي ع ً‬ ‫فارغة‬ ‫لبة‬ ‫لمشرو ٍ‬ ‫ب غازى شهير فأفزعت القطط المتجمعة حول صندوق‬ ‫القمامة‪ ،‬رائحة العطن التي تفوح من القمامة حول الصندوق‬ ‫المعدني لم تفسد عليها لذة وجبة السمك الفاسدة‪ ،‬تسمرَّ ت‬ ‫وأضاءت عيونها بقو ٍة ناظر ًة إلى الحديدي في تحفز‪ ،‬يرقد‬ ‫على الناحية األخرى من الصندوق رج ٌل عجو ٌز أصلع نمت‬ ‫ً‬ ‫بالية وقفازين من الصوف‬ ‫كبير‪ ،‬يرتدي خر ًقا‬ ‫بشكل‬ ‫لحيته‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫نابتة منهما‪ ،‬وضع‬ ‫غطيا راحتيه فقط فيما بدت أصابعه وكأنها‬ ‫على ركبتيه جوا ًال من الخيش الخشن محاو ًال منع تيارات‬ ‫ٌ‬ ‫قطة صغيرة‬ ‫الهواء من التسلل إلى عظامه‪ ،‬بين قدميه سكنت‬ ‫ج ًدا لم تستطع على ما يبدو مناحرة القطط الكبيرة للظفر بشيء‬ ‫خبز‬ ‫من وجبة السمك الفاسدة فلجأت إليه‪ ،‬رمى إليها بكسرة‬ ‫ٍ‬ ‫تش َّممتها ثم الكتها في سرع ٍة ورفعت رأسها إليه طال ً‬ ‫بة المزيد‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫فأشار إليها بيديه الخاليتين في أسف‪ ،‬هل يعتقد أنها ستفهمه؟‬ ‫الغريب أنها أحنت رأسها في تفهم‪ ،‬مسحت رأسها في باطن‬ ‫حذائه وأخذت تلعقه باح ً‬ ‫ثة بين ثناياه عن أي شيء يسد جوعها‬ ‫لكنها لم تجد فعادت إلى كنفه خائبة المسعى واستسلمت للنوم‪..‬‬ ‫طفرت عينا الحديدي بالدموع‪ ،‬تذكر أبويه الراحلين‪ ،‬أمه التي‬ ‫بعام واحد فقام األب بدورها إلى جانب‬ ‫رحلت بعد والدة أخته ٍ‬ ‫دوره حتى لحق بزوجته عند خالقهما وتركه هو وأخته‬ ‫يجابهان الحياة وحدهما‪ ،‬تخرَّ ج منذ عامين من كلية الهندسة‬ ‫وق َّدم أوراقه مرارً ا للعمل بنفس المصنع الذي عمل فيه أبوه‬ ‫كعامل ألكثر من ثًلثين عا ًما‪ ،‬األولوية لمثله من أبناء العاملين‬ ‫ٍ‬ ‫لكن حتى اآلن لم يصدر القرار بتعيينه‪ ،‬استأثر أبناء العاملين‬ ‫باإلدارة العليا بكل الوظائف المتاحة ولم يتركوا شي ًئا ألبناء‬ ‫العمال‪ ،‬لم تشفع له شهادته الجامعية وتقديره الجيد لدى‬ ‫القائمين على المصنع‪ ،‬الشفاعة في هذه األيام للوساطة وليس‬ ‫للمؤهل أو الخبرة‪ ،‬نظر إلى الطريق المظلم أمامه ورأى األمل‬ ‫يرتجف في برودة الليل‪ ،‬ما حدث في األيام الثًلثة الماضية‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫أخرج األمل من تابوته مرتقبًا قبلة الحياة فهل تراه يعود ح ًيا أم‬ ‫يدفن إلى األبد؟‪..‬‬ ‫عادا إلى المنزل فوجدا سمر في انتظارهما ً‬ ‫قلقة كعادتها على‬ ‫بأمان إال ودخان سجائره يعبئ المكان‪ ،‬تعشقه‬ ‫أخيها‪ ،‬ال تشعر‬ ‫ٍ‬ ‫لدرج ٍة أبعد من حب األخت ألخيها‪ ،‬تعتبره األبَّ الذي لم تهنأ‬ ‫فق على عدم‬ ‫به واألم التي رحلت ولم تحن عليها‪ ،‬عاتبها في ر ٍ‬ ‫نومها حتى اآلن‪ ،‬ذهبت لتشاهد التلفاز في غرفتها وذهبا إلى‬ ‫غرفتيهما لتبديل مًلبسهما‪ ،‬ارتمى مح َّمد على السرير محاو ًال‬ ‫النوم‪ ،‬أشعل الحديدي إحدى سجائره ثم جلس أمام شاشة‬ ‫حاسوبه يتابع األخبار التي تتوالى في سرع ٍة على مواقع‬ ‫التواصل االجتماعي‪ ،‬انتهى من جلسته وذهب إلى غرفة أخته‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫عميق فيما التلفاز ال يزال يعمل‪ ،‬ف َّكك أصابعها‬ ‫نوم‬ ‫ٍ‬ ‫غطت في ٍ‬ ‫المتجمدة حول أداة التحكم عن بعد ‪ -‬الريموت كنترول ‪ -‬ثم‬ ‫وضع على جسدها غطا ًء ثقي ً​ًل‪ ،‬جلس إلى جوارها وتأ َّمل‬ ‫وجهها الطفولي البريء مداعبًا شعرها المتهدل‪ ،‬أمسك بيديها‬ ‫محاو ًال تدفئتهما ثم طبع ً‬ ‫قبلة على جبينها َّ‬ ‫بث فيها ك َّل حبه‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫وحنانه‪ ،‬اطمأنَّ إلى أنَّ الدفء بدأ يسري في أوصالها فأغلق‬ ‫عليها الباب وعاد إلى غرفته‪..‬‬ ‫نام جسده لكن عقله لم يذق طعم النعاس‪ ،‬أحًلمه الوردية تأبى‬ ‫االكتمال حتى ال تصدمها قسوة المستقبل ويبقى الزمن هو‬ ‫الفيصل الوحيد بين المأمول والمكتوب‪ ،‬استفاق وأ َّدى صًلة‬ ‫ً‬ ‫ثانية‪ ،‬الكلمات على مواقع‬ ‫الفجر ثم جلس إلى حاسوبه‬ ‫التواصل االجتماعي تتضاعف ك َّل لحظ ٍة آالف المرات‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وتنبيهات قرأها في تمعن‪ ،‬ه َّم بإشعال إحدى سجائره‬ ‫تحذيرات‬ ‫لكنه نظر إلى وجه محمد النائم على السرير المقابل‪ ،‬الدخان‬ ‫حتمًا سيخنقه‪ ،‬صعد إلى سطح البناية‪ ،‬تابع شروق الشمس في‬ ‫ترق ٍ‬ ‫ب ث َّم نظر إلى علبة سجائره في سخرية‪ ،‬تعجَّ ب من تلك‬ ‫الملعونة الصغيرة التي أدمن دخانها الذي يحرق عظامه في‬ ‫الداخل‪ ،‬أفرغ ك َّل ما تحويه العلبة على األرض ثم فرمها‬ ‫بقدميه بصور ٍة بعثرت أحشاءها من التبغ في جريم ٍة مروع ٍة‬ ‫سيقاضيه بسببها كل المدخنين في هذا الكوكب‪ ،‬أراد لهذا اليوم‬ ‫بشكل جيد‪ ،‬نظر إلى السحب التي‬ ‫أن يكون مختل ًفا وأن يبدأه‬ ‫ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫تتهادى فوقه وتمر أمام الشمس كغًلل ٍة شفافة‪ ،‬سربٌ من الطير‬ ‫اختفى خلفها للحظا ٍ‬ ‫ت ثم عاد للظهور في مشه ٍد هادئ‪ ،‬قائد‬ ‫السرب يستشكف األرض التي يحلقون فوقها وهم يسيرون‬ ‫خلفه في طاع ٍة عمياء ث ً‬ ‫قة في خبرته‪ ،‬في المقابل ترك لهم‬ ‫حرية تشكيل السرب على النحو الذي يريدون‪ ،‬تار ًة يأخذ‬ ‫وس يقوده هو وتار ًة يكون شك ً​ًل مثلث ًيا يترأسه‪،‬‬ ‫السرب شكل ق ٍ‬ ‫تختلف أفكار ورؤى كل فر ٍد في السرب لكن دومًا الهدف‬ ‫عمل في‬ ‫واح ٌد‪ ،‬الطعام‪ ،‬المحرك الرئيسي والدافع الفطري ألي‬ ‫ٍ‬ ‫هذه الدنيا‪َّ ،‬‬ ‫حط القائد على سطح إحدى البنايات فتبعوه ببساطة‬ ‫تتابع منظم‪..‬‬ ‫في‬ ‫ٍ‬ ‫دار الحديدي بعينيه في أسطح البيوت والمباني التي تناثرت‬ ‫فوقها أطباق االستقبال وأبراج الحمام وأخشابٌ قديمة وأجهزةٌ‬ ‫مستهلكة في فوضى رهيبة‪ ،‬اختلفت ارتفاعات المنازل وألوانها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غاية في الغموض‪ ،‬تخفي‬ ‫لوحة‬ ‫لكنها رسمت مع بعضها‬ ‫ً‬ ‫آوية‬ ‫داخلها أسرارً ا وحكايا ال تكفيها كل أوراق وأقًلم الدنيا‬ ‫ً‬ ‫جائعة وأنفسًا خائفة وأجسا ًدا مريضة وربما‬ ‫بداخلها أفواهًا‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫ثانية إلى البيت ليجد سمر‬ ‫حان الوقت لتغيير هذا الواقع‪ ،‬هبط‬ ‫تنتظره كعادتها‪ ،‬نظرت إليه نظرة استغراب بعدما لم تلمح في‬ ‫يديه علبة السجائر وبد ًال من أن تسأله ألقت بنفسها بين ذراعيه‬ ‫فاحتوى جسدها الضئيل بكل جوارحه‪ ،‬رفعت إليه عينيها‬ ‫الدامعتين ووجهت إليه نظر ًة تحمل ك َّل معاني االستعطاف‬ ‫والرجاء ث َّم استحلفته أال يخرج اليوم‪ ،‬لم يبق لها في هذه الدنيا‬ ‫سواه وهي ال تريد أن تفقده كما فقدت أبويها‪ ،‬لم يجبها بحرفٍ‬ ‫واح ٍد بل ض َّمها في قو ٍة أكثر كأنه يطمئنها‪ ،‬يعلم حجم الخوف‬ ‫الذي يجتاحها وال يعلم كيف السبيل إليقافه‪ ،‬لم يكن األمر‪ -‬من‬ ‫وجهة نظره ‪ -‬يستدعي كل هذا القلق‪ ،‬بدأت دموعها في‬ ‫السريان فمسحها بإبهاميه‪ ،‬لم تكن يداه تحمًلن رائحة التبغ‬ ‫المحروق كالمعتاد‪ ،‬طلب منها تجهيز طعام اإلفطار قبل‬ ‫ً‬ ‫محمدا نائمًا‬ ‫النزول ألداء صًلة الجمعة ثم دخل غرفته فوجد‬ ‫على ظهره شار ًدا موجهًا نظره إلى السقف فقال في سخرية‪:‬‬ ‫ صباح الخير يا حاج‪ ،‬إيه؟ فيه حاجه في السقف عاجباك؟‬‫قوم يلًل علشان نفطر وننزل نصلي‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫لم يجبه محمد وذكرى الليلة الماضية تتكرَّ ر أمامه بكل‬ ‫تفاصيلها المريرة‪ ،‬تململ ً‬ ‫قليًل قبل أن ينهض من فراشه ثم‬ ‫ذهب لًلغتسال‪ ،‬أغلق الحديدي الغرفة عليه من الداخل ثم‬ ‫أجرى اتصا ًال هاتف ًيا‪ ،‬سمعته سمر من خلف الباب يحتد على‬ ‫الطرف اآلخر وعندما خرج كانت أمارات الغضب محفور ًة‬ ‫في قسمات وجهه‪ ،‬تناولوا الطعام جميعًا في صم ٍ‬ ‫ت تام كأنما‬ ‫على رؤوسهم الطير فبرأس كل منهم ما يشغله عن محاولة‬ ‫إثارة الحديث‪..‬‬ ‫ه َّما بالخروج للصًلة لكن سمر جذبت أخاها من ذراعه‬ ‫واستوقفته‪ ،‬احتضنته ثم نظرت في عينيه نظرة رجا ٍء أخير‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ابتسامة حانية ثم خرج مغل ًقا‬ ‫تركها تفرغ انفعاالتها وابتسم لها‬ ‫الباب عليها من الخارج بمفتاحه الخاص‪ ،‬في الشارع كان الجو‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫نسمات من الهواء البارد تهب ك َّل فتر ٍة ما وتختلط‬ ‫صحوا‪،‬‬ ‫بآيات القرآن التي ترتفع من مكبرات الصوت فتصنعان مزيجً ا‬ ‫ً‬ ‫رجفة لذيذة‪ ،‬الشوارع شبه خالي ٍة من‬ ‫يبعث في األجساد‬ ‫السيارات فيما المارة يحملون على أكتافهم سجادات الصًلة‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫شاغر داخل المسجد أو بغية‬ ‫مكان‬ ‫الصغيرة تحسبًا لعدم وجود‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الجلوس في الخارج تلمسًا لدفء الشمس‪ ،‬خلعا حذاءيهما‬ ‫وعبرا باب المسجد‪ ،‬استشعر محمد شي ًئا غريبًا في عيون‬ ‫الشباب الذين امتألت بهم جنبات المسجد‪ ،‬أ َّديا صًلة تحية‬ ‫المسجد وارتكن الحديدي بظهره إلى أحد األعمدة فيما جلس‬ ‫جًلل‬ ‫محمد القرفصاء إلى جواره‪ ،‬ارتفع صوت األذان ب‬ ‫ٍ‬ ‫فانخفضت الرؤوس في خشوع‪ ،‬ارتقى الخطيب المنبر وبدأ في‬ ‫إلقاء خطب ٍة َّ‬ ‫حث فيها الجميع على العمل من أجل رفعة الوطن‬ ‫ووحدته وحذرَّ هم من االنسياق وراء دعاوى التفرق‪ ،‬ارتسمت‬ ‫ٌ‬ ‫ابتسامات ساخرةٌ على وجوه الشباب لكنهم ظلوا على صمتهم‬ ‫كل يعتمل بقلبه وعقله ما يعتمل‪ ،‬بعدما انتهت الصًلة مباشر ًة‬ ‫قام الحديدي سريعًا إلى حذائه فتبعه محمد في آلي ٍة ثم وقف‬ ‫ينظر للجموع الغفيرة التي تخرج من المسجد كأنما تتكاثر‬ ‫بداخله وتلتحم بالحشود األخرى التي قدمت من المساجد‬ ‫القريبة‪ ،‬ش َّد الحديدي ظهره في اعتدا ٍد وقال لمحمد في‬ ‫صرامة‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ دايمًا خلي عينك عليا‪ ،‬أنا مش هبقى مركز معاك‪ ،‬لو حصل‬‫حاجه متفكرش فيا وروح البيت على طول‪..‬‬ ‫اندفع الحديدي وسط الحشود قبل أن يسأله محم ٌد عن ماهية‬ ‫الحدث ثم رفعه أحد الشبان على كتفيه‪ ،‬صوته الجهوري أشعل‬ ‫الحماسة في الحشود فانطلقت حناجرهم تردد هتافه الصادم‪:‬‬ ‫"الشعب يريد إسقاط النظام"‪ ،‬زئيرٌ ولد من رحم الخنوع ممز ًقا‬ ‫مشيمة الجمود فارتجَّ ت بصداه جنبات المدينة‪ ،‬ح َّل الغضب‬ ‫محل الدم في عروق الشبان‪ ،‬مظاهراتهم يوم الثًلثاء الماضي‬ ‫ضت مضجع النظام الحاكم‪ ،‬غضب ٌة في وجه الظلم والفساد‬ ‫أق َّ‬ ‫والقهر والقمع وهب ٌَّة من أجل إيجاد ما يسد رمق الجوعى في‬ ‫الشوارع وثورةٌ من أجل تحرير األفكار في العقول والمعتقلين‬ ‫من السجون وانتفاض ٌة من أجل عدال ٍة هي مل ٌ‬ ‫ك لهم لكنَّ‬ ‫القوانين الجائرة صادرتها وألقت بها في غياهب النسيان حتى‬ ‫أصبحت العدالة تر ًفا ال يحوزه سوى علية القوم دون غيرهم‬ ‫مز للنظام الحاكم أسقطوه‬ ‫من المظلومين الفقراء‪ ،‬كلما مروا بر ٍ‬ ‫حتى وصلوا إلى مقر أمانة الحزب الوطني‪ ،‬المكان الفعلي‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الذي تنهب من خًلله مقدرات المحافظة‪ ،‬لم تكن في صدورهم‬ ‫ً‬ ‫محاطا بأي‬ ‫تلك الرهبة المعتادة تجاهه‪ ،‬الغريب أنه لم يكن‬ ‫نوع من أنواع الحراسة حتى أبوابه المغلقة فتحت أمامهم‬ ‫ٍ‬ ‫بسهول ٍة أكثر من المتوقع‪ ،‬بدا أنَّ النظام الحاكم ضحى به من‬ ‫أجل أن يفرغ هؤالء الشباب شحنات غضبهم فيه لك َّنه لم يضع‬ ‫عال‬ ‫في حسبانه أنَّ هذه الشحنات لم تكن لتفنى بمجرد اشت ٍ‬ ‫ثير مما تخيل أي‬ ‫للنيران في مبنىً جام ٍد فالغضب أعتى بك ٍ‬ ‫كن من أركان النظام‪ ،‬وصلت الجموع إلى مبنى المحافظة‬ ‫ر ٍ‬ ‫حيث يختلف الموقف تمامًا في ظل تواج ٍد أمني م َّ‬ ‫كثف‪ ،‬رت ٌل‬ ‫من العربات المصفحة أحاط بالمبنى واعتلتهم جنو ٌد لوَّ حوا‬ ‫بأسلحتهم في غطرس ٍة واضحة‪ ،‬اصطفَّ عساكر األمن‬ ‫المركزي بطول جانبي الشارع المؤدي إلى المبنى متحصنين‬ ‫بدروعهم البًلستيكية الشفافة وشاحذين هرواتهم السوداء‬ ‫الغليظة انتظارً ا لألوامر من أجل سحق هؤالء األطفال الذين‬ ‫اجترأوا على المطالبة بإسقاط النظام‪ ،‬لم ترتجف ذرةٌ في قلوب‬ ‫الفتية بل زادتهم نظرات المقت تلك إصرارً ا على المضي قدمًا‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫في طريق ثورتهم الوليدة‪ ،‬ارتفعت وتيرة الهتافات أكثر حتى‬ ‫زلزلت المباني الشاهقة المحيطة بهم وارتفعت حتى عنان‬ ‫السماء فاستحت أمام لهيبها حرارة الشمس حتى ارتفع صوت‬ ‫النداء الخالد معل ًنا دخول وقت صًلة العصر فراحت ذاكرة‬ ‫الحديدي تسترجع األحداث منذ بدايتها‪..‬‬ ‫في الخامس عشر من يناير بدأت الدعاوى في مصر عبر‬ ‫ت واحتجاجا ٍ‬ ‫مواقع التواصل االجتماعي لتنظيم مسيرا ٍ‬ ‫ت مماثل ٍة‬ ‫لما حدث في تونس خًلل الشهر الفائت وأجبرت الرئيس هناك‬ ‫على الهرب من البًلد‪ ،‬القت الدعاوى صدىً واسعًا وتجاوبًا‬ ‫صريحً ا يطابق ما تهفو إليه القلوب منذ سنوات‪ ،‬حددت المواقع‬ ‫والصفحات يوم الثًلثاء الخامس والعشرين من يناير ميعا ًدا‬ ‫لبدء تلك االحتجاجات‪ ،‬نجحت الوقفات األولى في لفت أنظار‬ ‫المسئولين إلى جديتها فعقدوا العزم على تكرارها يوم الجمعة‬ ‫وبضجيج أصدح وبدوي أعنف‪ ،‬بعثت الحياة من‬ ‫بقو ٍة أكبر‬ ‫ٍ‬ ‫جدي ٍد في جسد المارد الذي وصفوه بخائر القوى فراح يتململ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫في قمقمه نافضًا عنه غبار اليأس وهادمًا الخوف الذي قبروه‬ ‫فيه منذ عقود‪..‬‬ ‫ران الصمت على المكان حتى ليسمع صوت نبضات القلوب‪،‬‬ ‫استقبل الفتية القبلة واصطفوا في صفو ٍ‬ ‫ف متوازية‪ ،‬جعلت لهم‬ ‫األرض على اتساعها مسج ًدا وطهورا‪ ،‬أخفضوا رؤوسهم في‬ ‫حضرة اإلله الواحد في خشوع‪ ،‬سجدت جباههم وأنوفهم على‬ ‫األسفلت الملتهب وقلوبهم بين يدي خالقهم تجأر إليه بالشكوى‪،‬‬ ‫شحنتهم سجداتهم بالعزم الًلزم لمواصلة الكفاح‪ ،‬بكت العيون‬ ‫واختلطت عبراتها بالتراب وارتفعت األكف في ضراع ٍة‬ ‫تستسقي النصر‪ ،‬انتهوا من صًلتهم وعادوا لهتافاتهم بقوَّ ٍة‬ ‫أكبر‪" ،‬ثورة ثورة حتى النصر‪ ،‬ثورة في كل شوارع مصر"‬ ‫حتى صارت الساعة الرابعة والنصف‪ ،‬تواترت األنباء عن‬ ‫اجتماعا ٍ‬ ‫ت بين القيادات األمنية تراقب الموقف المتوتر وسط‬ ‫تعتيم إعًلمي حول ما يجري على األرض‪ ،‬قللت أبواق‬ ‫ٍ‬ ‫اإلعًلم المحسوبة على النظام من شأن حركة االحتجاجات‬ ‫ول‬ ‫األقوى في تاريخ البًلد واتهمت الداعين إليها بالعمالة لد ٍ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫معادية وصوَّ رتهم على أ َّنهم شرذم ٌة من مثيري الشغب‬ ‫والفوضى ينفذون مخططا ٍ‬ ‫ت أجنبية لزعزعة االستقرار الذي‬ ‫تحياه مصر‪ ،‬مع مغيب الشمس هدأ الموقف إلى حد ما لكنه‬ ‫كان هدوء ما قبل العاصفة‪ ،‬تحركت العربات المدرَّ عة‬ ‫وأشهرت فوهات مدافعها في وجوه المحتجين فتوجَّ ست‬ ‫نفوسهم خيف ًة وسرت موجات التوتر بينهم‪ ،‬أحاط الفتية‬ ‫بالفتيات وطلبوا منهنَّ االنصراف من أحد الطرق الجانبية‪ ،‬لم‬ ‫يكن الموقف يحتمل مجرد التفكير فض ً​ًل عن الرفض فانصعن‬ ‫للطلب في حزن وبدأن في التحرك في نفس اللحظة التي‬ ‫صدرت فيها األوامر بفض المظاهرات بالقوة‪ ،‬رفع الفتية‬ ‫أيديهم الخالية أمام العربات المدرَّ عة وهتفوا "سلمية‪ ،‬سلمية"‪،‬‬ ‫لكنَّ أبواب الجحيم لم تعبأ بسلم َّيتهم تلك وانفتحت في وجوههم‬ ‫على مصراعيها‪ ،‬انهمرت قنابل الغاز المسيل للدموع كمط ٍر‬ ‫من الجمر الملتهب‪ ،‬تك َّسرت مئات النوافذ الزجاجية في المباني‬ ‫المحيطة واقتحم الغاز المنازل على حين غرَّ ٍة من قاطنيها‪،‬‬ ‫صوتها عند االنطًلق يصم اآلذان لكنها لم تزعزع ولو‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫بالشيء اليسير إيمان الفتية بعدالة قضيتهم‪ ،‬راحوا يلملمونها‬ ‫كما يلملم األطفال ألعابهم ثم ردوها إلى مرسليها ببساط ٍة‬ ‫فهبطت عليهم كحجار ٍة من سجيل‪ ،‬تع َّبأ الجو تمامًا بالغاز‬ ‫الخانق‪ ،‬يعمل الغاز المسيل للدموع على تهييج األنسجة‬ ‫المخاطية في األنف والفم والرئتين فتتم َّدد تلك األنسجة‬ ‫قدر من األكسجين لكنَّ الغاز يصل إليها بد ًال منه‬ ‫الحتواء أكبر ٍ‬ ‫فيزداد العذاب الذي يشوي الوجوه ويلهب العيون ويمزق‬ ‫الصدور‪ ،‬امتزج صوت السعال بصوت قذائف الخرطوش‬ ‫واأللم باألمل‪ ،‬بعض قنابل الغاز سقطت على أسًلك الكهرباء‬ ‫فقطعتها مصدر ًة قرقعا ٍ‬ ‫ت مخيف ًة وانعدمت الرؤية تمامًا‪ ،‬امتدت‬ ‫أيدي البعض في عفو َّي ٍة إلى الحجارة وألقتها تجاه قوات‬ ‫الشرطة‪ ،‬كانت السلمية في هذا الوقت بالنسبة لهم إغرا ًقا في‬ ‫ً‬ ‫خاصة أنَّ عدوَّ هم لم يتورَّ ع عن إمطارهم بالرصاص‬ ‫المثالية‬ ‫المطاطي والحي‪ ،‬بعث الموت صقوره لتحوم فوق الطرفين‬ ‫ً‬ ‫س هناك‪،‬‬ ‫وح هنا أو نف ٍ‬ ‫المتشابكين متحينة الفرصة اللتقاط ر ٍ‬ ‫دامت المواجهات لم َّدة الساعة ما بين كر وفر من الطرف‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫األعزل الذي ال يحمل سًلحً ا سوى اإلصرار الذي يمأل ك َّل‬ ‫ً‬ ‫تاريخا جدي ًدا ينهي به عقو ًدا من‬ ‫خل َّي ٍة فيجسده مسطرً ا‬ ‫الخضوع واالستسًلم‪ ،‬فجأ ًة توقف الجنود عن إطًلق قنابل‬ ‫الغاز والرصاص المطاطي فظنَّ الشباب أنَّ ذخيرتهم قد‬ ‫نفدت‪ ،‬تقدموا أكثر ناحية السيارات التي تقهقرت أمامهم ثم‬ ‫انسحبت تمامًا في مشه ٍد ضاعف حماستهم آالف المرات‪،‬‬ ‫سناج المطاط المحترق خنق الهواء بالكامل لكنه لم يستطع كتم‬ ‫صيحات الفرح التي انطلقت من حلوقهم منتشين بهذا النصر‬ ‫السريع الذي لم يتوقعوا أن يكون بهذه السرعة والسهولة فهل‬ ‫كان النظام ً‬ ‫هشا على عكس الصورة التي كان يرسمها إعًلمه‬ ‫لدرجة أنه لم يصمد سوى ساعا ٍ‬ ‫ت قليل ٍة أمام هؤالء الفتية‬ ‫الع َّزل؟‪..‬‬ ‫ألول مرَّ ٍة منذ اندالع المواجهات تذ َّكر الحديدي ابن خالته‬ ‫محمد فأجرى االتصال به‪ ،‬حاول عدة مرا ٍ‬ ‫ت لكنَّ شبكة‬ ‫االتصاالت كانت مقطوع ًة عن المنطقة بأكملها‪ ،‬أمام مبنى‬ ‫المحافظة راودته األفكار عن األسباب التي دفعت قوات األمن‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫سهلة بين أيدي الثائرين‪ ،‬لم‬ ‫للتخلي عن المبنى وتركه فريس ًة‬ ‫تطل تساؤالته كثيرً ا ففي نهاية الطريق ظهرت اإلجابات‬ ‫قليل لم تكن سوى الموجة األولى‬ ‫سريعًا‪ ،‬هجمة الشرطة منذ ٍ‬ ‫التى يشنها النظام الفاسد عليهم فالموجة الثانية اآلخذة في‬ ‫التكون والتي تستعد للهجوم ستكون أعتى بكثير‪ ،‬جموعٌ من‬ ‫الهمج والبلطجية يدقون األرض بأقدامهم ويلوحون بأسلحتهم‬ ‫البيضاء من بعيد‪ ،‬ال طاقة للفتية بهذه الجموع فأغلبهم طلبة‬ ‫ت وحملة مؤهًل ٍ‬ ‫جامعا ٍ‬ ‫ت عليا لم يحمل أي منهم سًلحً ا أبيض‬ ‫قط كما أنهم ليسوا مدرَّ بين على الدفاع عن أنفسهم مما ينذر‬ ‫بمذبح ٍة رهيب ٍة في عرض الشارع‪ ،‬اقترب البلطجية أكثر لكنهم‬ ‫لم يتجهوا ناحية الثائرين بل اتجهوا إلى البنوك والشركات‬ ‫المحيطة بمبنى المحافظة وأعملوا سيوفهم ومطارقهم في‬ ‫ب تام للشرطة‪َّ ،‬‬ ‫حطموا ماكينات‬ ‫أبوابها وواجهاتها وسط غيا ٍ ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وخاصة‬ ‫عامة‬ ‫صرف األموال وكاميرات المراقبة‪ ،‬أموا ٌل‬ ‫نهبت بمنتهى البساطة‪ ،‬حملت دراجاتهم النارية أجهز ًة‬ ‫كهربائية وحواسب ً‬ ‫آلية بدون أدنى راد ٍع أو مقاومة‪ ،‬حتى‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫المحال الصغيرة البائسة وأكشاك بيع السجائر المجاورة لم‬ ‫تسلم من بطشهم ثم رحلوا بغنائمهم بعدما أحدثوا تلك الفوضى‬ ‫الرهيبة‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫تمزق قلب الحديدي وقلب ك َّل من تابع المشهد المروع‪ ،‬أحسوا‬ ‫بألم رهي ٍ‬ ‫ب بعدما عجزواعن دفع هذا االجتياح الهمجي فلم يكن‬ ‫ٍ‬ ‫هذا أب ًدا ما تمنوه في بداية اليوم‪ ،‬دناءة النظام ووضاعته فاقت‬ ‫ك َّل التصورات‪ ،‬أدار الحديدي وجهه وهو على وشك البكاء ثم‬ ‫سلك أحد الشوارع الجانبية‪ ،‬غرقت قدماه في مستنق ٍع من المياه‬ ‫الناضحة من إحدى البالوعات المفتوحة وأزكمت رائحتها‬ ‫الكريهة أنفه تمامًا‪ ،‬وصل إلى منتصف البركة ونظر بعفوي ٍة‬ ‫إلى مدخل المبنى السكني على يساره‪ ،‬وقفت فتاتان في ركنه‬ ‫المظلم تراقبان الشارع في حذر‪ ،‬ربما تختبئان حتى تزول‬ ‫الموجة الهمجية التي ش َّنها البلطجية‪ ،‬أشفق عليهما من الرعب‬ ‫الذي يمأل قلبيهما‪ ،‬منذ بدأت الدعوات إلى التظاهرات كان ض َّد‬ ‫تواجد الفتيات في الشارع ألنه يعرضهنَّ لمخاطر ال داعي لها‬ ‫فالفتية قادرون على الصمود أكثر منهنَّ والركض إذا لزم‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫األمر‪ ،‬و َّد لو أنه يستطيع االنتظار معهما لكن ليس من الحكمة‬ ‫أب ًدا أن يقف وحده مع فتاتين في أحد األركان المظلمة حتى لو‬ ‫كان بهدف حمايتهما وقد تخافاه إذا اقترب منهما؟ تضاعف‬ ‫ألم لكن‬ ‫شعوره بالعجز داخله أكثر وأكثر ثم واصل طريقه في ٍ‬ ‫صوت إحدى الفتاتين مناديًا باسمه اخترق قلبه كالسهم المسموم‬ ‫ال من الرخام‪ ،‬أدار وجهه ببط ٍء شدي ٍد‬ ‫فتسمَّر في مكانه كتمث ٍ‬ ‫ناحيتها بينما ما زالت أذناه تترجمان الصوت لعقله الرافض‬ ‫للتصديق‪ ،‬خرجت الفتاة من دائرة الظًلم إلى بصيص الضوء‬ ‫الذي تسلل على استحيا ٍء إلى الشارع الضيق‪ ،‬وقفت على حافة‬ ‫الرصيف تفرك يديها في عصبية‪ ،‬اتجه إليها في خطوا ٍ‬ ‫ت آلي ٍة‪،‬‬ ‫لم يعبأ بالمياه العطنة التي تسللت إلى حذائه وأغرقت حافة‬ ‫بنطاله من أسفل‪ ،‬نظر إليها بطريق ٍة عصفت بكيانها بالكامل‬ ‫فانعكس ذلك على عينيها الزائغتين‪ ،‬قبل أن تنطق بأي حر ٍ‬ ‫ف‬ ‫ألم لك َّنها لم تحاول‬ ‫أمسك بعضدها بمنتهى القسوة فتأوَّ هت في ٍ‬ ‫انتزاع ذراعها من قبضته‪ ،‬صرخ في وجهها بمنتهى الغضب‪:‬‬ ‫ هو أنا مش قلت متنزليش؟ إيه اللي خًلكي تنزلي؟ انطقي!‪..‬‬‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫لم يبال للموقف الذي يحيط بهم وال بالبيوت المحيطة بل لم‬ ‫يبال بألمها هي نفسها‪ ،‬لم تجبه وبدأت البكاء في صمت‪ ،‬ش َّدد‬ ‫قبضته أكثر بدون أن يشعر حتى كادت أطراف أصابعه أن‬ ‫تخترق لحمها لتحطم عظامها من الداخل‪ ،‬رفعت عينيها‬ ‫الغارقتين في الدموع ونظرت إليه وقالت‪:‬‬ ‫ مقدرتش أفضل في البيت والناس كلها في الشارع‪ ،‬وبعدين‬‫صاحباتي كلهم نزلوا اشمعنى أنا يعني منزلش؟‪..‬‬ ‫زادته كلماتها تلك غضبًا على غضب‪ ،‬أمسك عضدها اآلخر‬ ‫بيده األخرى ثم َّ‬ ‫هزها بقو ٍة صار ًخا في وجهها بكل انفعال‬ ‫الدنيا‪:‬‬ ‫ متنزليش علشان أنا قلت متنزليش‪..‬‬‫متأوه ًة في أل ٍم شديد كاد يفقدها الوعي قالت‪:‬‬ ‫ على فكرة دي أول مرة تلمسني‪ ،‬أول مرة تلمسني فيها‬‫توجعني‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ أنا بتكلم في إيه وإنتي بتتكلمي في إيه؟ أنا قلت متنزليش‬‫ونزلتي‪ ،‬يعني محترمتينيش‪ ،‬مين فينا بقى اللي وجع التاني؟‬ ‫انطقي‪..‬‬ ‫أطرقت رأسها ولم تحر جوابًا‪ ،‬أفلتها من قبضتيه فاقتربت منها‬ ‫صديقتها وضمتها إلى صدرها مهون ًة عليها‪ ،‬أدار ظهره وقال‬ ‫في حسم‪:‬‬ ‫ امشوا ورايا علشان أوصلكم البيت‪..‬‬‫سارتا خلفه في طاع ٍة عمياء‪ ،‬كان قلبها محطمًا‪ ،‬أخطأت لكن‬ ‫ثير فعلتها تلك‪ ،‬هل هناك عقابٌ أقسى من أال‬ ‫عقابه لها يفوق بك ٍ‬ ‫ينطق اسمها؟ تنظر في عينيه فًل تجد فيهما سوى الغضب‬ ‫خاليتين من أية عاطف ٍة ناحيتها‪ ،‬ألول مر ٍة وقفت شخصيتها‬ ‫أمر له‪ ،‬اعتادت منذ أحبته َّأال تعصي له أمرً ا‪،‬‬ ‫العنيدة أمام ٍ‬ ‫طاعتها له ليست وليدة حبها وإنما لثقتها فيه وفي رجاحة عقله‬ ‫وحسن نواياه أكثر مما تثق في نفسها‪ ،‬فالحب هو أن تثق في‬ ‫من تحب أكثر من ثقتك في نفسك إيما ًنا منك بأنه لن يقوم بفعل‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫شي ٍء يسيء إليك فلماذا تمرَّ دت اليوم على هذه الثقة؟ لماذا‬ ‫ضربت بأمره عرض الحائط وقررت النزول على غير‬ ‫رغبته؟‪..‬‬ ‫سار بخطوا ٍ‬ ‫ين ليطمئن أنهما ما‬ ‫ت منتظمة ناظرً ا خلفه ك َّل ح ٍ‬ ‫زالتا تقتفيان أثره‪ ،‬ترفع عينيها الذابلتين من البكاء إليه كلما‬ ‫حانت التفاتته لكنه لم ينظر إلى وجهها قط وكان هذا يقتلها‬ ‫أكثر‪ ،‬الشوارع خلت تما ًما من المارة رغم أنَّ الساعة لم‬ ‫تتجاوز السابعة بعد‪ ،‬األنباء عن المناوشات وانتشار البلطجية‬ ‫أجبر العامة على التزام منازلهم وأغلقت المتاجر أبوابها‪ ،‬كان‬ ‫يختار أوسع الطرق وأقصرها متجنبًا المظلمة منها‪ ،‬قبل أن‬ ‫ينعطف إلى الشارع الذي تسكن فيه عاد إليهما‪ ،‬ظ َّنت أنه‬ ‫سيسامحها لكنه لم يوجه حديثه وإنما سأل صديقتها عن مكان‬ ‫إقامتها فأخبرته أنها تسكن في نفس المبنى الذي تسكنه علياء‪،‬‬ ‫أومأ برأسه ثم أكمل طريقه أمامهما حتى وصلتا إلى باب‬ ‫المنزل‪ ،‬توقفت قلي ً​ًل علَّه ينظر إليها لكنه لم يفعل واستكمل‬ ‫طريقه يتأرجح عقله بين الغضب ألنها عصت أمره واألسف‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ألنه أمسك بذراعيها‪ ،‬ليس من حقه أن يم َّسها تحت أي ظر ٍ‬ ‫ف‬ ‫من الظروف مهما كانت درجة حبه لها ومهما كانت ثقتها فيه‪،‬‬ ‫أعاد ترتيب أفكاره منذ البداية‪ ،‬طلبت منه النزول في بداية‬ ‫األمر فرفض تقديرً ا لألحداث المتوقعة وحدث أسوأ مما توقع‬ ‫مما يؤدي بالتبعية إلى كونها أخطأت‪ ،‬زرع هذا الموقف‬ ‫أشجار القلق بداخله لم يتخيل أنها قد تنمو يومًا من األيام‪،‬‬ ‫أمسك هاتفه واتصل بها‪ ،‬سمع صوت الرنين لمر ٍة واحد ٍة فقط‬ ‫ثم أنهى االتصال‪ ،‬تراجع عن الحديث إليها فمهما كان خطؤه‬ ‫بتعنيفها بهذه الصورة كبيرً ا فهو ال يساوي أب ًدا عصيانها ألمره‬ ‫وتعريض حياتها للخطر‪ ..‬وصل إلى شارعه ووجد محم ًدا‬ ‫جالسًا على الرصيف أمام المنزل فسأله‪:‬‬ ‫ إيه يا ابني‪ ،‬واقف هنا من إمتى؟ ومطلعتش فوق ليه؟‪..‬‬‫أشار محمد إلى أعلى‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ عايزني أطلع فوق وإنت مش معايا؟ إنت عايز يجيلها سكتة‬‫قلبية لما أطلع وإنت مش معايا؟‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ابتسم الحديدي مستحس ًنا صنع ابن خالته ثم ارتقيا درجات‬ ‫السلم‪ ،‬قبل أن يعبر الحديدي الباب إلى الداخل أتت سمر وأثر‬ ‫البكاء يبلل وجهها الرقيق ثم ضربت أخاها في صدره بكل قو ٍة‬ ‫لكنه لم يتأثر بضرباتها حملها بكلتا يديه كالطفلة الصغيرة‬ ‫فنظرت في عينيه نظر ًة فيها كل الخوف والشوق والحب‬ ‫والغضب‪ ،‬طوقت عنقه بيديها وأطلقت لدموعها العنان حتى‬ ‫هدأت ثم قالت‪:‬‬ ‫ حرام عليك يا أخي إنت بتعمل فيا كدا ليه؟ اتصلت بيك كتير‬‫موبايلك مقفول وكأنك عايز تموتني من الخوف عليك‪..‬‬ ‫أنزلها ثم أخرج شي ًئا من جيبه وقال‪:‬‬ ‫ أقفل موبايلى ليه يا هبله إنتي؟ يا بت كانوا قاطعين‬‫االتصاالت في المناطق الحيوية في البلد كلها‪ ،‬بس أنا بردو‬ ‫هعرف أصالحك‪..‬‬ ‫م َّد إليها قطعة شيكوالتة من النوع الذي تفضله‪ ،‬تب َّدل وجهها‬ ‫وحلَّت فرحة طفل ٍة صغير ٍة مح َّل دموع عينيها ثم انتزعتها من‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫يديه انتزاعًا‪ ،‬أدارت ظهرها إليه وهى تفتح غًلف قطعة‬ ‫الشيكوالتة‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬ ‫ بردو لسه مخاصماك‪..‬‬‫انطلق صوت هاتفه ع َّدة مرات فه َّم بفتح الباب‪ ،‬اندفعت سمر‬ ‫حائ ً‬ ‫لة بينه وبين أخيها ثم قالت في عصبية‪:‬‬ ‫ رايح فين تاني؟ الدنيا بقت كحل‪..‬‬‫ إيه يا بت إنتي؟ طالع السطح‪..‬‬‫عاود هاتفه الرنين فأداره إليها حتى تستطيع قراءة االسم الذي‬ ‫يظهر على شاشته‪ ،‬اقترب حاجباها من بعضيهما وقالت‪:‬‬ ‫ بردو؟ طيب‪..‬‬‫ هو إنتي مش هتعقلي بقى؟‪..‬‬‫ترك الباب خلفه مفتوحً ا حتى تتأكد أنه صعد إلى أعلى‪ ،‬ظلَّت‬ ‫ً‬ ‫استأثرت بقلبه‪ ،‬تغار منها إلى أبعد‬ ‫واقف ًة تفكر في هذه التي‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫مدى‪ ،‬تحب أخاها وال تريد أن يشغل غيرها تفكيره‪ ،‬هي نفسها‬ ‫أقفلت قلبها عليه‪ ،‬لم تستجب ولو للحظ ٍة واحد ٍة ألي شا ٍ‬ ‫ب‬ ‫تقرَّ ب منها في الجامعة‪ ،‬ضربت حصارً ا على قلبها فباؤوا‬ ‫ٌ‬ ‫جميعًا بالفشل حتى ظنوا أنها فتاةٌ‬ ‫منغلقة منطوية وكانت‬ ‫صديقاتها يتهمنها بالجنون ألنَّ حبها ألخيها مبال ٌغ فيه ويتعدى‬ ‫ح َّد المعقول‪..‬‬ ‫في األعلى ذهب إلى أقصى زاوي ٍة في السطح ثم أجابها‪:‬‬ ‫ آلو‪ ،‬أيوه يا آنسة‪..‬‬‫آنسة‪ ،‬كم تكره هذه الكلمة‪ ،‬تمامًا ككلمة حضرتك عندما ينطقها‬ ‫ٌ‬ ‫كلمات تبني مئات األسوار والحواجز بينهما في‬ ‫بلهج ٍة رسمية‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫غريبة عنه‪ ،‬ابتلعت الكلمة بمرار ٍة كما يبتلع‬ ‫لحظة فتشعر أنها‬ ‫الطفل كبسولة الدواء‪ ،‬أخذت نفسًا عمي ًقا‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬ ‫‪ -‬إنت مبتردش على طول ليه؟ بقالي كتير برنلك‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ معلش‪ ،‬كنت لسه داخل البيت حتى لسه مغيرتش هدومي‪،‬‬‫خير؟ فيه حاجة؟‪..‬‬ ‫ حديدي‪ ،‬فيه إيه؟ متعملش فيا كده‪ ،‬أنا آسفة ومعترفة إني‬‫غلطانة‪ ،‬خًلص بقى‪..‬‬ ‫ آسفة؟ آسفة إيه؟ أصرفها منين دي؟‪..‬‬‫ً‬ ‫دفعة واحد ًة‬ ‫صمتت قلي ً​ًل لتسمح له أن يفرغ شحنات غضبه‬ ‫لكنه لم يسترسل‪ ،‬صمت محاو ًال ترتيب أفكاره وبعد لحظا ٍ‬ ‫ت‬ ‫قال بهدو ٍء يحسد عليه‪:‬‬ ‫ علياء‪ ،‬عارفه أنا زعًلن ليه؟ علشان سمعتي كًلم نفسك‬‫وخليتيه ألول مرة يغلب كًلمي ليكي‪ ،‬مع إنك واثقة مليون في‬ ‫المية إني مبطلبش منك تعملي حاجة على حساب شخصيتك‪،‬‬ ‫كًلمي كله مبني على أساسين اتنين ملهمش تالت‪ ،‬حبي ليكي‬ ‫وخوفي عليكي‪ ،‬أنا آسف إني مسكت إيدك ووجعتك‪ ،‬آسف‪،‬‬ ‫بس في عز ثورتي دي مكنتش أقدر أطبطب عليكي‪ ،‬إنتي لو‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫جرالك حاجة محدش هيطبطب عليا ساعتها‪ ،‬ألني ساعتها‬ ‫هموت يا علياء‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫واقفة أمامه اآلن كتلمي ٍذ يستمع لتعنيف‬ ‫أخفضت رأسها وكأنها‬ ‫أستاذه ولم تجد الكلمات المناسبة للرد عليه‪ ،‬سألها عن كل ما‬ ‫مرَّ ت به منذ خرجت من المنزل إلى أن قابلها قصَّت عليه ك َّل‬ ‫شيء حتى تعنيف أبيها عندما تأخرت في العودة منذ قليل‪،‬‬ ‫تر َّدد السؤال المعتاد في ذهنها‪ ،‬متى سيأتي إلى أبيها طالبًا‬ ‫زواجها حتى يخلصها من هذه العزلة التي تحياها في هذا‬ ‫البيت؟ أبوها وإخوتها الذكور يعتبرونها مجرَّ د طفل ٍة صغير ٍة ال‬ ‫يقيمون لها وز ًنا‪ ،‬كل أهميتها بالنسبة لهم هي مساعدة أمها في‬ ‫شئون البيت عًلو ًة على خدمتهم‪ ،‬تعد الطعام لهذا وتغسل‬ ‫مًلبس ذاك‪ ،‬بينما أمها ‪ -‬التي من المفترض أن تكون األقرب‬ ‫إليها ‪ -‬غير مدرك ٍة بعد أنَّ ابنتها قد ش َّبت عن طوق المراهقة‬ ‫وأصبحت في أمس الحاجة إلى من يحتويها ويستمع إلى‬ ‫مكنون صدرها‪ ،‬كم كان القدر رحيمًا بها عندما بعث به إليها‬ ‫فمأل الفراغ الذي تحياه‪ ،‬ترى فيه منقذها الذي سيخرجها من‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫لل أو‬ ‫هذا المنزل الذي أصبحت تعمل فيه كالجارية بًل ك ٍ‬ ‫هوادة‪ ،‬قرأ أفكارها فقال‪:‬‬ ‫ يا علياء أنا كمان نفسي نتجوز بسرعة‪ ،‬بس مش هقدر أدخل‬‫بيتكم من غير ما يكون معايا شغًلنة أأكلك منها عيش وإال‬ ‫ساعتها أبوكي هيطردني‪..‬‬ ‫استمعت إليه دون أن تجيب‪ ،‬لديه الحق فيما يقول لكن إلى متى‬ ‫ستظل منتظرة؟ تأرجحت أحاسيسها ما بين البًلدة واالحتراق‪،‬‬ ‫يشعر تمامًا بكل هذه الدوامات التي تحيط بعقلها لكن ليس‬ ‫بيدهما شيء سوى الصبر‪ ،‬الركن الركين الذي يستند إليه‬ ‫الحب في هذا الزمان‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪2‬‬ ‫ساخن تمامًا كمنزل‬ ‫صفيح‬ ‫أسبوعان مرَّ ا والبًلد على‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الحديدي‪ ،‬كلما تج َّ‬ ‫هز للنزول في مظاهرات أيام األحد والثًلثاء‬ ‫والجمعة صرخت سمر في وجهه وتظل على بكائها المرير‬ ‫حتى يعود إليها في المساء منه ًكا حتى كانت تلك الليلة التي‬ ‫دخلت فيها عليه غرفته فوجدته يعد حقيبة الظهر الخاصة به‪،‬‬ ‫وضع بهاعباءة والده السوداء وبعض متعلقاته الشخصية‪،‬‬ ‫نظرت إليه في استغراب فض َّم رأسها إلى صدره كأنما يكتم‬ ‫تساؤالتها‪ ،‬ضمته هذه لم تهدئ من روعها بل زادتها قل ًقا على‬ ‫حيرة‪ ،‬نزعت رأسها من بين ذراعيه وصوبت أول أسئلتها‬ ‫ناحية عينيه مباشر ًة‪:‬‬ ‫ رايح فين؟‪..‬‬‫كانت األمور جل َّي ًة واض ً‬ ‫حة كشمس الظهيرة لكن ربما الحقيقة‬ ‫تفكير أو أدنى‬ ‫يكون لها وق ٌع أعنف عندما تلفظ‪ ،‬بدون مجرد‬ ‫ٍ‬ ‫موارب ٍة أجابها‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ التحرير‪..‬‬‫رددت في ذهول كمن ذهب عقلها‪:‬‬ ‫ التحرير؟!‪..‬‬‫تابع إعداد حقيبته فصرخت‪:‬‬ ‫ إنت مش شايف الناس اللي بتموت؟ إنت ليه يا أخي عايز‬‫تسيبني لوحدي في الدنيا دي؟ مش كفاية أبوك وأمك سابونا؟‪..‬‬ ‫وضع راحته اليمنى على فمها ليمنعها من االسترسال في‬ ‫ً‬ ‫ثانية‪،‬‬ ‫الكًلم الذي ال تعيه‪ ،‬سالت دموعها على يديه فضمها‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫ إياكي أب ًدا تقولي الكًلم دا تاني‪ ،‬أبوكي وأمك مسابوناش‪،‬‬‫دي إرادة ربنا‪ ،‬وأنا كمان مش عايز أسيبك وال حاجة‪ ،‬بس‬ ‫إنتي عارفة إني كان نفسي إن البلد تتغير وإن الثورة تقوم من‬ ‫زمان فمش يوم ما هتقوم الثورة هقعد في البيت يا سمر‪..‬‬ ‫ ما أنت بتنزل هنا عند المحافظة‪ ،‬هنا زي هناك‪..‬‬‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ يا سمر الثورة بجد اللي في الميدان‪ ،‬ليها طعم تاني وأنا‬‫عايز أدوقه فأرجوكي متحرمينيش منه‪..‬‬ ‫كمطرق ٍة ثقيلة هوت فوق رأسه باغته سؤالها الجديد‪:‬‬ ‫ قلت لعلياء؟‪..‬‬‫نظر إلى عينيها منده ًشا‪ ،‬لم يتخيل هذا السؤال منها أب ًدا فعلياء‬ ‫ٌ‬ ‫نافسة على قلبه وآخر أنثى على وجه األرض قد‬ ‫بالنسبة لها م‬ ‫تهتم بعًلقتها به‪ ،‬بدا وأنها تستعين بتأثير علياء عليه فأرادت‬ ‫أن تضعه بين ش َّقي الرَّ حى‪ ،‬أخته وحبيبته‪..‬‬ ‫ر َّد مشيحً ا بوجهه عنها‪:‬‬ ‫ مقلتلهاش ومش هقولها‪..‬‬‫ إشمعنى مقلتلهاش؟ خايف تزعلها لما تعرف إنك رايح‬‫التحرير؟ شاطر توجع قلبي أنا بس لكن هي ال؟‪..‬‬ ‫"يا هللا"‪ ،‬قالها وهو يزفر من أعماق قلبه‪ ،‬حتى في هذه اللحظة‬ ‫ال تنسى غيرتها‪ ،‬إنهنَّ الفتيات‪ ،‬االستئثار بالشيء هو شغلهنَّ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الشاغل دون أية اعتبارات للموقف أو التوقيت‪ ،‬كل منهما ترى‬ ‫َّ‬ ‫أحق به من األخرى‪ ،‬ظلَّت تنظر إلى عينيه في تحد‬ ‫نفسها‬ ‫قنع‬ ‫توشك على تصديق نفسها‪ ،‬لو لم يجبها فورً ا برد‬ ‫قاطع م ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ستصدق أ َّنه يخاف على مشاعر حبيبته أكثر من خوفه على‬ ‫مشاعرها هي وسيخسر ثقتها إلى األبد‪ ،‬اقترب منها وأمسك‬ ‫بكتفيها ثم نظر في عينيها مباشر ًة‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ طبعًا مش هخاف على مشاعرها أكتر منك‪ ،‬إنتو االتنين‬‫عندى زي ‪ -‬ضغط على الكلمة بقوة ‪ -‬بعض بالضبط‪ ،‬بس أنا‬ ‫مقدرش أنزل من البيت كده وأسيبك عادي من غير ما‬ ‫تشوفيني‪ ،‬هتتجنني وأنا مرضالكيش الجنان ‪ -‬يبتسم ‪ -‬لكن هي‬ ‫مش شايفاني وسهل ج ًدا أخبي عليها وأقولها إني هنا مش‬ ‫هناك‪ ،‬فهمتي؟‪..‬‬ ‫لم تبتلع الر َّد الذي لم يقنعها‪ ،‬الح في عقلها شيء ما اعتبرته‬ ‫حبل نجاتها األخير‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ خًلص سافر إنت وسيبني لوحدي في الشقة من غير ما‬‫يكون حد معايا خصوصًا في الظروف اللي إحنا فيها دي وال‬ ‫فيه أمن في البلد وال أي حاجة‪ ،‬وحد ييجي يكسر عليا الباب‬ ‫ويموتني علشان ترتاح وتروق لحبيبة القلب‪..‬‬ ‫ضحك وهو يدفعها إلى غرفتها‪ ،‬فتح دوالبها‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ ومين قال إني هسيبك لوحدك؟ جهزي هدومك علشان‬‫هنسافر البلد دلوقتي‪ ،‬محمد ابن خالتك مستنينا عالمحطة‪ ،‬يلًل‬ ‫ربع ساعة وتكوني جاهزة‪..‬‬ ‫في الطريق إلى محطة القطار لم تستجب لمحاوالته إلثارة‬ ‫الحديث ولم تبتسم لدعاباته التي حاول بها تغيير حالتها‬ ‫المزاجية‪ ،‬مع تحرك القطار انطلق رنين هاتفه‪ ،‬نظرت إليه في‬ ‫تحد وهي تستمع إلى الرنين الخاص برقم علياء مر ًة بعد مرة‬ ‫وهو ال يجيب‪ ،‬يعلم أنَّ ك َّل مر ٍة ال يجيب علياء فيها يتضاعف‬ ‫قلقها ألف مر ٍة وما زالت سمر تسدد نظراتها القاسية إليه‪،‬‬ ‫نظرا ٍ‬ ‫ت تتهمه فيها بالجبن أمام علياء بينما كان قو ًيا فقط أمامها‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫وهي التي تحبه أكثر من حبيبته‪ ،‬أصابه الرنين الذي استمرَّ‬ ‫ً‬ ‫طويًل بالتوتر فانتزع بطارية الهاتف ثم ألقاها من نافذة القطار‬ ‫دون تفكير‪ ،‬ردة فعله كانت مبال ًغا فيها بالنسبة لمحمد الجالس‬ ‫أمامه‪ ،‬تلك المرة األولى التي يرى فيها ابن خالته يفقد أعصابه‬ ‫بسهول ٍة وبدون سب ٍ‬ ‫ب يستدعي ذلك‪ ،‬لم يعلم قدر الضغوط التي‬ ‫يكابدها الحديدي بداخله‪ ،‬خوفه على أخته وقلقه على حبيبته‬ ‫والموازنة بينهما باإلضافة إلى سفره هذا وأشياء أخرى ال أحد‬ ‫يعلمها سواه‪..‬‬ ‫اقترب القطار من المحطة فنهض محمد وحمل الحقيبة‪ ،‬حاول‬ ‫الحديدي مصافحة أخته لكنها رفضت ثم توجَّ هت إلى الباب‪،‬‬ ‫تطلع محمد إلى ابن خالته وسأله‪:‬‬ ‫ هو إنت مش هتيجي معانا ولًل إيه؟‪..‬‬‫بنبر ٍة تملؤها السخرية المريرة أتاه الجواب من خلف ظهره‪،‬‬ ‫من سمر التي لم تنبس بحرفٍ واح ٍد منذ أن استقلوا القطار‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ هو كمان مقالكش؟ الظاهر إنه مبقاش يقول أي حاجة ألي‬‫حد‪ ،‬ال مش هييجي معانا‪..‬‬ ‫صافحه الحديدي في قوة وقال له‪:‬‬ ‫ خلوا بالكم منها كويس يا محمد‪ ،‬وأنا إن شاء هللا لما أوصل‬‫هشتري بطارية جديدة وهكلمكم‪..‬‬ ‫ ماشي يا صاحبي‪ ،‬توصل بالسًلمة‪..‬‬‫تعانقا ثم هبط محمد من القطار وسار إلى جوار سمر على‬ ‫الرصيف فيما كان الحديدي يراقبها‪ ،‬تمنى لو أ َّنها ترفع عينيها‬ ‫إليه وتلوح له مود ً‬ ‫عة لكنها لم تفعل‪ ،‬ظلَّت تنظر إلى األرض‬ ‫حتى غادر القطار المحطة ومعه غادرت دموعها محبسها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صافية ولمعت على خديها األسمرين كغديري‬ ‫رقراقة‬ ‫انهمرت‬ ‫ما ٍء عذب‪ ،‬تسلل صوت بكائها المكتوم إلى أذني محمد فسبقها‬ ‫بخطوا ٍ‬ ‫ت معدودة كي يعطيها حريتها في التنفيث عن لهيب‬ ‫صدرها دون حرج‪ ،‬لم يتبادل معها حر ًفا واح ًدا حتى وصًل‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫إلى المنزل حيث كان الجميع في انتظارهما‪ ،‬ضمتها خالتها‬ ‫إلى صدرها في حنان فيما ما زالت عيناها مبتلتين بالدموع‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الفُصُلُ​ُالتاسع ُ‬ ‫ُ‬ ‫لوُعلِمناُكيفُستكونُالنهاياتُ​ُماُكانُللبِداياتُِمعنىُ ُ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪1‬‬ ‫نظر إلى هاتفه الذي خبا ضوء الحياة منه‪ ،‬انفعاله الًلمحسوب‬ ‫حين انتزع البطارية كان عني ًفا‪ ،‬لع َّل عقله الباطن هو من أملى‬ ‫ً‬ ‫ترضية ألخته‪ ،‬أراح رأسه إلى الخلف وأغمض‬ ‫عليه هذا الفعل‬ ‫عينه وراح يفكر في علياء‪ ،‬يتخيلها اآلن تدور في غرفتها‬ ‫كالمجنونة‪ ،‬تضغط أزرار هاتفها في عصبية فتجيبها السيدة‬ ‫ذات الصوت البارد "الهاتف الذي تحاول االتصال به ربما‬ ‫يكون مغل ًقا"‪ ،‬ثم تشير عليها بنصيحتها األكثر سخافة "من‬ ‫فضلك حاول االتصال في وق ٍ‬ ‫ت الحق"‪ ،‬يعلم أنها لن تنام ولن‬ ‫يهدأ لها بال حتى يجيبها‪ ،‬احت َّل القلق ك َّل خلي ٍة من عقلها وقلبها‬ ‫وفعل بهما األفاعيل حتى ظهر اسمه على هاتفها في الحادية‬ ‫عشرة مسا ًء‪ ،‬ظلت محد ً‬ ‫قة في الهاتف في شرود كأنها لم‬ ‫تستوعب بعد أنه هو المتصل‪ ،‬لم تجبه على الفور‪ ،‬هل تحاول‬ ‫أن تذيقه بعضًا مما أذاقها؟ سخرت من نفسها فمثله ال يشعر‬ ‫أب ًدا بالقلق‪ ،‬أتاها صوته معتذرً ا ومتعل ً​ًل بأنه كان خارج المنزل‬ ‫وأن بطارية هاتفه قد فرغت ولم يستطع االتصال بها حتى عاد‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫لكن الضوضاء من حوله َّ‬ ‫كذبت عودته المزعومة‪ ،‬عندما‬ ‫بخير تغيرت طبيعتها إلى النقيض تمامًا من القلق‬ ‫اطمأنت أنه‬ ‫ٍ‬ ‫عليه إلى الغضب منه‪ ،‬نعتته بقسوة القلب واتهمته بعدم‬ ‫احترامها ثم أنهت االتصال فجأة‪ ،‬هنا فقط يمكن لقلبها أن يهدأ‪،‬‬ ‫قليل‬ ‫لم يصبه سوء وهي ال تريد أكثر من ذلك‪ ،‬تعلم أنه بعد ٍ‬ ‫سيتصل بها معتذرً ا ومحاو ًال استرضاءها فتتق َّمص دور‬ ‫الغاضبة بعضًا من الوقت ثم تعود األمور إلى طبيعتها تمامًا‬ ‫مثل المرات الخمسين السابقة‪..‬‬ ‫لم يحاول معاودة االتصال بل وضع الهاتف في جيبه ببساط ٍة‬ ‫وسار في طريقه إلى الميدان الذي يقع على مرمى بصره‪،‬‬ ‫تمثال الفريق عبد المنعم رياض يقف شام ًخا على رأس‬ ‫الشارع يراقب الداخلين إلى الميدان وكأنه يستحثهم على‬ ‫المضي قدمًا في طريق الحرية‪ ،‬وجَّ ه نظرة عتا ٍ‬ ‫ب إلى التمثال‬ ‫ألنه لم يستطع الوقوف في وجه البلطجية الذين هاجموا‬ ‫المحتجين يوم األربعاء الماضي ‪-‬الثاني من فبراير‪ -‬ممتطين‬ ‫أحصنتهم وجمالهم مخلفين عشرات القتلى والجرحى فيما‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫أيام على المذبحة‬ ‫عرف تاريخ ًيا بموقعة الجمل‪ ،‬مرت ثمانية ٍ‬ ‫وما زال األسفلت مضرَّ جً ا بالدماء ينتظر القصاص من القتلة‪،‬‬ ‫مرت جمعتان منذ بدء االحتجاجات‪ ،‬الغضب والرحيل وغ ًدا‬ ‫ستكون الجمعة الثالثة‪ ،‬وقف عند حاجز التفتيش على حدود‬ ‫الميدان‪ ،‬ابتسم في وجهه أحد القائمين على الحراسة وطلب منه‬ ‫بطاقة التعريف الشخصية فناولها له ببساطة‪ ،‬ف َّتش حقيبته ثم‬ ‫سمح له بالولوج‪ ،‬مع دخوله ارتفع صوت المذيع الشهير من‬ ‫بيان جدي ٍد لرأس‬ ‫مكبرات الصوت في جنبات الميدان معل ًنا عن ٍ‬ ‫النظام يوجهه لعموم الشعب‪ ،‬تجمهر الجميع بالقرب من‬ ‫عرض كبيرة‪ ،‬تعالت همهماتهم ما‬ ‫المنصة الرئيسية أمام شاشة‬ ‫ٍ‬ ‫آمل بأن يكون هذا هو البيان‬ ‫بين م‬ ‫ستبشر بقرب سقوط النظام ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫األخير وما بين مترق ٍ‬ ‫ذر يشعر أنَّ السبعة عشر يومًا‬ ‫ب ح ٍ‬ ‫ً‬ ‫كافية بعد إلزاحة هذا النظام الذي جثم على‬ ‫الماضية ليست‬ ‫صدور المصريين ألكثر من ثًلثين عا ًما‪ ،‬بعد لحظات أط َّل‬ ‫وجه رأس النظام المقيت‪ ،‬وج ٌه يحمل ك َّل مًلمح الخبث‬ ‫والمكر‪ ،‬أمارات الشيخوخة تنضح من كل قسم ٍة من قسمات‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫وجهه‪ ،‬بدأ خطابه الخبيث بالترحم على الضحايا الذين سقطوا‬ ‫جرَّ اء السياسات القمعية ألجهزته األمنية في األسبوعين‬ ‫الماضيين متناسيًا اآلالف الذين ماتوا خًلل عصره إما‬ ‫محترقين في القطارات أو غرقى في البحار والنيل أو صرعى‬ ‫على الطرقات أو تحت أنقاض عقاراتهم أو مرضى بمختلف‬ ‫األمراض المزمنة أو تحت وطأة التعذيب في المعتقًلت‬ ‫والسجون في ظل حكمه الذي اتسم بالفساد واإلهمال‪ ،‬أبان عن‬ ‫خططه للتعديل في مواد الدستور وتغ َّنى ببطوالته المجيدة‬ ‫ومجهوداته الحثيثة في سبيل هذا الوطن وتأ َّسف لما يًلقيه من‬ ‫ القلَّة ‪ -‬من أبناء وطنه فيما األغلبية الكاسحة تعرف حقيقة‬‫نواياه الطيبة‪ ،‬لعب على وتر العاطفة التي تمأل قلوب هذا‬ ‫الشعب الذي أنهكه بالفقر والجهل والمرض‪ ،‬رفع البعض‬ ‫أحذيتهم في وجهه كأنما يقولون له إنَّ خطاباتك العاطفية‬ ‫ووعودك الزائفة لن تؤثر فينا بعد اآلن‪ ،‬مللناها طيلة ثًلثة‬ ‫عقو ٍد ذاقت فيها البًلد ويًلت العوز والفاقة والعجز‪ ،‬ارتفعت‬ ‫الهتافات من جديد بمق ٍ‬ ‫زم أقوى‪" ،‬ارحل‪ ،‬ارحل‪،‬‬ ‫ت أكبر وع ٍ‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ارحل"‪ ،‬انتهى من خطابه الذي سلَّم فيه بعضًا من اختصاصاته‬ ‫لنائبه‪ ،‬شعر الحديدي أنَّ الخطاب كان لقياس مدى ثبات‬ ‫المحتجين في الميدان‪ ،‬هل سيمضون في طريق ثورتهم‬ ‫المجيدة أم سيستجيبون لهذا الخطاب العاطفي ويسمحون له‬ ‫أشهر هي الفترة الباقية من م َّدته‬ ‫آمن بعد تسعة‬ ‫بخروج‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الرئاسية الحالية وكأنَّ ما أفسده نظامه من مؤسسا ٍ‬ ‫ت وأجهز ٍة‬ ‫وذم ٍم وضمائر على مدار الثًلثين عامًا سيكون قادرً ا على‬ ‫إصًلحهم في تلك األشهر التسع‪ ،‬يبدو أنَّ النضال سيستمر‬ ‫لمدىً أطول ال يعلمه إال هللا‪..‬‬ ‫أجرى الحديدي اتصاله بعلياء فوجد هاتفها مغل ًقا كما توقع‪،‬‬ ‫أجرى اتصاله بمحمد واطمأنَّ على أخته ثم تحدث إلى خالته‬ ‫أحًلم التي أقسمت عليه أن يكون حذرً ا وحريصًا على نفسه‬ ‫قدر المستطاع‪ ،‬تحرك إلى المناطق الخلفية ً‬ ‫بحثا عن أفضل‬ ‫األماكن الممكنة للمبيت وسط كل هذه الخيام التي اكتظت بها‬ ‫ٌ‬ ‫مجموعة بجوار خيم ٍة يرددون أغاني‬ ‫أرجاء الميدان‪ ،‬تحلقت‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫مجموعة أخرى في انتبا ٍه إلى رج ٍل‬ ‫وطنية قديمة وأنصتت‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫لشاعر راحل‪ ،‬لم يكن للثورة قائ ٌد‬ ‫حماسية‬ ‫ثورية‬ ‫يلقي قصيد ًة‬ ‫ٍ‬ ‫يحركها بل كانت فكرة الثورة هي التي تحرك العقول وتشحذ‬ ‫الهمم‪ ،‬وجد مكا ًنا صالحً ا للنوم على الحشائش الخضراء في‬ ‫أحد الشوارع الجانبية‪ ،‬نام على ظهره ثم التحف بعباءة والده‪،‬‬ ‫رائحة أبيه والذكريات المنسوجة مع خيوطها أمدته بالدفء‬ ‫المطلوب وأذهبت عنه برودة فبراير‪..‬‬ ‫مع شعاع الشمس األول استيقظ‪ ،‬سمع زئيرً ا لمجموع ٍة من‬ ‫حماس ونشاطٍ كبيرين كأنهم‬ ‫الشباب يدورون حول الميدان في‬ ‫ٍ‬ ‫يقومون بعمليا ٍ‬ ‫ليوم جدي ٍد من أيام كفاحهم‬ ‫ت إحمائي ٍة استعدا ًدا‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫مجموعة أخرى تجمع القمامة من أرض‬ ‫السلمي ورأى‬ ‫الميدان‪ ،‬في الحادية عشرة والنصف أقام األقباط ق َّداسًا تغنوا‬ ‫َّ‬ ‫حث فيها‬ ‫فيه بعظمة مصر وتاريخها ثم تبعته خطبة الجمعة‬ ‫الخطيب الجميع على الصمود والثبات واالعتصام بحبل هللا‬ ‫وعدم التخلي عن مطالب ثورتهم الوليدة‪ ،‬انتهت صًلة الجمعة‬ ‫ثم أعلنت المنصة عن صًلة الجنازة على جثمان الفريق أول‬ ‫سعد الدين الشاذلي رئيس أركان القوات المسلحة األسبق‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫وصاحب خطة "المآذن العالية" االسم الحركي لخ َّطة حرب‬ ‫أكتوبر المجيدة‪ ،‬الرَّ جل الذي أذاق إسرائيل أقسى هزيم ٍة في‬ ‫تاريخها وتدرَّ س خططه الحربية في أكبر المعاهد العسكرية‬ ‫على مستوى العالم‪ ،‬الرجل الذي ظلمه الرئيسان المتعاقبان‬ ‫وأمعنا في التنكيل به فنفياه إلى خارج البًلد وصادرا ممتلكاته‬ ‫ومؤلفاته وعندما عاد إلى مصر وضعوه قيد اإلقامة الجبرية‬ ‫إشعار في‬ ‫حتى توفاه هللا في العاشر من فبراير بدون أي‬ ‫ٍ‬ ‫اإلعًلم الرسمي وكأنه مجهو ٌل من نكرات الزمان‪ ،‬اقشعرَّ بدن‬ ‫الحديدي لمهابة الموقف‪ ،‬أكثر من مليوني إنسان اصطفوا‬ ‫للصًلة على جثمان الفريق الراحل وكأنها إرادة هللا لتكريم‬ ‫وتشريف هذا الرجل الذي أفنى السواد األعظم من حياته في‬ ‫الدفاع عن تراب هذا الوطن فكان جزاؤه النفي واإلبعاد‬ ‫واإلذالل‪ ،‬فقط ألنَّ آراءه الحربية والسياسية ناطحت أطماع‬ ‫َّ‬ ‫شق زئير‬ ‫رؤوس األنظمة الفاسدة‪ ،‬بعدما انتهت الصًلة‬ ‫المتظاهرين حجب السماء‪" :‬ارحل‪ ،‬ارحل"‪ ،‬بعد صًلة العصر‬ ‫تضاربت األنباء حول اجتماع المجلس العسكري وقيادات‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫تنبؤات هناك بشأن‬ ‫إرهاصات هنا و‬ ‫الجيش بدون الرئيس‪،‬‬ ‫البيان الذي أعلن عنه منذ قليل‪ ،‬في تمام السادسة كان البيان‬ ‫الذي تص َّدر شاشات النقل الحي والمباشر في جميع أرجاء‬ ‫ٌ‬ ‫صمت رهيبٌ خيَّم على المكان‪ ،‬توقف الشباب عن‬ ‫البًلد‪،‬‬ ‫الحديث والسائرون عن المشي والباعة الجائلون عن اإلعًلن‬ ‫عن بضاعتهم حتى القطط التي كانت تلهو في األنحاء توقفت‬ ‫عن المواء‪ ،‬تسمرت األجساد وتركزت العيون وأنصتت اآلذان‬ ‫وارتجفت القلوب أمام الكلمات البطيئة التي ألقاها نائب‬ ‫الرئيس‪ ،‬أعلن الرئيس تنحيه عن حكم البًلد وأوكل مهمة‬ ‫الحكم المؤقت إلى القيادة العامة للقوات المسلحة‪ ،‬انفجرت‬ ‫الدموع من األحداق ولهجت األلسنة بحمد هللا‪ ،‬انطلقت حلوق‬ ‫السيدات بالزغاريد فيما صرخ الرجال بالفرحة العارمة‪ ،‬آالف‬ ‫األلعاب النارية انفجرت في سماء القاهرة وفي كل ربوع‬ ‫مصر‪ ،‬سجد الحديدي في مكانه بين يدي ربه‪ ،‬لم يكن يتوقع‬ ‫انتصارً ا سريعًا كهذا ففي ثمانية عشر يومًا فقط سقط النظام‬ ‫وتهاوى أمام صًلدة هؤالء الفتية وعزيمتهم‪ ،‬اهتزاز هاتفه في‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫جيبه نبهه من فرحته وأتاه صوتها يحمل ك َّل ألوان البهجة‬ ‫والفرح‪:‬‬ ‫ مبروك يا حبيبي‪ ،‬ألف مبروك‪ ،‬ربنا استجاب لدعائنا‪ ،‬أنا‬‫مش مصدقة نفسي لحد دلوقتي‪ ،‬مقدرتش أمسك نفسي وقعدت‬ ‫أعيط‪..‬‬ ‫ ألف مبروك على مصر كلها يا علياء‪ ،‬ربك مبينساش دم‬‫المظلومين‪ ،‬أكيد الشهدا فوق مبسوطين دلوقتي‪ ،‬الحمد هلل‪..‬‬ ‫ الحمد هلل يا حبيبي‪ ،‬إيه الدوشة اللي حواليك دي؟ إنت عند‬‫المحافظة في االحتفال؟ هلبس وهنزل أنا وماما علشان أشوفك‬ ‫من بعيد وأفرح معاك في اليوم دا‪..‬‬ ‫ ال يا حبيبتي أنا مش عند المحافظة‪..‬‬‫ مش عند المحافظة؟! بس أصوات الفرحة حواليك عالية‬‫ج ًدا‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫بداية منذ يوم‬ ‫صمتت قلي ً​ًل‪ ،‬تشابكت جميع الخيوط أمام عينيها‬ ‫أمس‪ ،‬عدم رده عليها لمد ٍة طويلة وإغًلقه لهاتفه‪ ،‬حديثه معها‬ ‫يوم من أيام‬ ‫دومًا عن رغبته في الذهاب إلى التحرير وقضاء ٍ‬ ‫ً‬ ‫جلية اآلن‪ ،‬سألته في تردد‪:‬‬ ‫الثورة هناك‪ ،‬تك َّشفت الحقائق‬ ‫ حديدي‪ ،‬إنت في التحرير؟‪..‬‬‫ً‬ ‫خائفة أن يصدق حدسها وو َّدت لو أنه يقول ال‪ ،‬صمت‬ ‫كانت‬ ‫عميق أجاب‪:‬‬ ‫شهيق‬ ‫قلي ً​ًل وبعد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ أيوه يا علياء أنا في التحرير‪..‬‬‫أضاع عليها فرحة اليوم‪ ،‬ألم يقم الدنيا ولم يقعدها ألنها خرجت‬ ‫دون إخباره منذ أسبوعين فكيف به يذهب إلى أتون األحداث‬ ‫دون أن يخبرها؟ فكرت مل ًيا في طريقة رد فعلها‪ ،‬هل تكون‬ ‫ً‬ ‫عصبية مثلما كان أم تمتص عصبيتها وتؤجل هذا الحديث لما‬ ‫بعد؟ آثرت الثانية ولم تنفعل‪ ،‬فوجئ بهدوئها فداعبها‪:‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ لو كنت أعرف إن الثورة هتعقلك كده كنت دعيت ربنا تقوم‬‫من زمان‪ ،‬عارفة يا بت؟‪..‬‬ ‫ نعم؟‪..‬‬‫ بحبك‪..‬‬‫ابتسمت في خجل‪ ،‬شعرت ألول مر ٍة أنها مختلفة وأنه أيضًا‬ ‫كذلك‪ ،‬بالهدوء استطاعت أن تتجنب خًل ًفا وشي ًكا يحرق‬ ‫األعصاب وهو أيضًا الحظ ذلك‪ ،‬عاهد نفسه وعاهدها على‬ ‫مصارحتها بكل شيء بعد اآلن إن ظلَّت على تعقلها هذا‬ ‫فوعدته بدورها أ َّنها ستزن األمور بروي ٍة أكثر وأنها لن تترك‬ ‫ً‬ ‫فريسة لًلنفعال بعد اآلن‪ ،‬لم يكن هناك أفضل من‬ ‫نفسها‬ ‫األجواء المحيطة حتى يبث كل منهما بعضًا من عشقه لآلخر‬ ‫ثم أخبرها أنه سيبقى بالقاهرة أسبوعًا آخر لحضور مقابلة‬ ‫عمل‪ ،‬بعدما انتهيا أتاه اتصا ٌل من محمد وهو في قمة الحبور‪:‬‬ ‫ حديدي‪ ،‬ألف بركة وحمد هلل عالسًلمة يا حاج‪ ،‬يا ريتك كنت‬‫رحت هناك من زمان وخلصت الليلة بدري بدري‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ هللا يبارك فيك يا محمد‪ ،‬مبروك على البلد كلها‪ ،‬المهم اسمع‬‫كًلمي اللي هقوله وركز فيه كويس‪..‬‬ ‫أنصت محمد البن خالته بكل حواسه في‬ ‫ذهول تام‪ ،‬اعتقد أنَّ‬ ‫ٍ‬ ‫الحديدي يهذي وأنَّ نشوة االنتصار أسكرته وذهبت بعقله‪ ،‬كان‬ ‫كًلمًا يتع َّدى حدود العقل والحكمة بمًليين السنين الضوئية‬ ‫ً‬ ‫ثانية للتأكد من أنَّ محم ًدا قد وعى ك َّل‬ ‫كرر الحديدي ما قاله‬ ‫حرفٍ من كًلمه ث َّم أنهى االتصال وترك ابن خالته يصارع‬ ‫الجنون‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪2‬‬ ‫تم َّدد جسدها بًل أدنى حرك ٍة على األرضية الباردة‪ ،‬منذ ذلك‬ ‫اليوم المشؤوم صارت تنام على األرض‪ ،‬ربما تحاول التكفير‬ ‫كنوع من التوبة‬ ‫عن شيء من ذنبها بتعذيب جسدها ومجاهدته‬ ‫ٍ‬ ‫أو ربما حتى ال تستسلم لراحة الفراش فتقل بالتالي درجة‬ ‫حساسيتها تجاه الخطر‪ ،‬تنام وعقلها مضا ٌء باللون األصفر على‬ ‫وضع االستعداد‪ ،‬تنتظر اليوم الذي ستشنقها أمها بيديها فيه أو‬ ‫الليلة التي سينحر محمد عنقها فيها‪ ،‬فمتى؟ إن كان الموت هو‬ ‫النهاية المحتومة لها فليعجًل به فعذاب انتظار الموت أقسى‬ ‫آالف المرات من الموت نفسه مهما كانت كيفيته‪..‬‬ ‫من وسط أفكارها سمعت صوت رسال ٍة أتتها على هاتفها‬ ‫المحمول‪" :‬يا هند‪ ،‬أنا ثناء‪ ،‬إلحقيني وتعالي بسرعة أنا شكلي‬ ‫بولد"‪ ،‬لم يكن الرقم هو رقم ثناء الخاص لكنها ردت على‬ ‫الرسالة بأخرى "هحاول آجي ً‬ ‫حاال"‪ ،‬ثناء صديقتها وزميلتها‬ ‫في الدراسة في األسابيع األخيرة من فترة حملها‪ ،‬كانت قد‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫نسيتها في خضم مشاكلها ولم تتذكرها إال الليلة الماضية فقط‬ ‫عندما اتصلت سماح تستفسر عن أحوالها‪ ،‬كان غريبًا ً‬ ‫جدا أن‬ ‫تتصل سماح ألول مر ٍة منذ ما حدث في منزلها للسؤال عن‬ ‫ثناء وليس للسؤال عن هند نفسها وكأنها ما عادت تعنيها في‬ ‫شيء‪ ،‬أخبرتها هند أنَّ ثناء على ما يبدو في أواخر فترة‬ ‫حملها‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫مسكينة أنت يا ثناء‪ ،‬في سن الخامسة عشرة توشكين على‬ ‫ً‬ ‫مسئولة عن أسر ٍة لكن‬ ‫وضع مولودك األول وتجدين نفسك‬ ‫بكثير من حالي‪ ،‬أنا التي أصبحت عاهر ًة‬ ‫بالتأكيد حالك أفضل‬ ‫ٍ‬ ‫منبوذة‪ ،‬زلَّت قدماي في مستنقع الرذيلة تحت غطا ٍء وهمي من‬ ‫الحب‪ ،‬كم أحسدك على الحًلل الذي تعيشينه فهو بالتأكيد‬ ‫أطهر ألف مر ٍة من ال َّدنس الذي أرفل فيه‪..‬‬ ‫ارتدت مًلبسها وخرجت من غرفتها‪ ،‬جدتها ومحمود الصغير‬ ‫يفترشان أرضية غرفة المعيشة بينما سعاد وسمر تتسامران‬ ‫في الشرفة الخارجية وال وجود ألمها كي تأخذ إذنها‪ ،‬صعدت‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ألعلى وألقت نظر ًة خاطفة‪ ،‬أبوها يدخن بشراه ٍة كعادته ال يكاد‬ ‫يعي ما حوله وال أثر ألمها‪ ،‬سألت سعاد عن أمها فأخبرتها‬ ‫ٌ‬ ‫ذاهبة إلى‬ ‫أنها ذهبت لزيارة صديقتها أم حسن‪ ،‬أعلمتها بأنها‬ ‫بيت ثناء التي تعاني آالم المخاض‪ ،‬استنكرت سعاد خروجها‬ ‫ً‬ ‫خاصة أنَّ الشوارع‬ ‫في هذا الظًلم الدامس والطريق الموحلة‬ ‫خلت تمامًا من المارة وأضافت أن أمها ما كانت لتسمح‬ ‫بخروجها في هذه الظروف مهما كانت المبررات‪ ،‬عللت هند‬ ‫إصرارها باستنجاد صديقتها بها ثم خرجت‪ ،‬سارت في الظًلم‬ ‫ً‬ ‫ستعينة بإضاءة هاتفها الخافتة‪ ،‬حذاؤها الصغير كل‬ ‫بسرعة م‬ ‫ً‬ ‫طبقة جديد ًة من الوحل فتضطر ك َّل بضع لحظا ٍ‬ ‫ت‬ ‫خطو ٍة يجمع‬ ‫للتوقف لتنظيف حذائها ثم تعاود سيرها‪ ،‬يقع بيت ثناء على‬ ‫أطراف النصف اآلخر من القرية التي تنشطر إلى نصفين‬ ‫بواسطة ترع ٍة كبير ٍة يوازيها الطريق الرئيسي‪ ،‬وصلت إلى‬ ‫الجسر البدائي المصنوع من جذوع األشجار والذي يربط‬ ‫شطري القرية ببعضهما فوق الترعة الرئيسية‪ ،‬ح َّكت حذاءها‬ ‫باألسفلت بقو ٍة حتى تتخلص من طبقة الوحل الجديدة‪ ،‬لم‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫شعور باألمان‪،‬‬ ‫تمنحها اإلضاءة الصفراء على الجسر أدنى‬ ‫ٍ‬ ‫خلفية صوت ً‬ ‫ً‬ ‫ية‬ ‫صوت حذائها على األلواح الخشبية للجسر صنع‬ ‫امتزجت مع األجواء الماطرة المظلمة وأكملتا المشهد‬ ‫المخيف‪ ،‬لمحت على الناحية األخرى من الجسر امرأ ًة ترتدي‬ ‫ردا ًء أسود بالكامل وتحمل حذاءها بيدها‪ ،‬يبدو أنها خافت عليه‬ ‫من الوحل فآثرت أن تتسخ قدماها بد ًال منه‪ ،‬طريقة سيرها‬ ‫ً‬ ‫مألوفة لهند لكنها ال تعرف أح ًدا يسكن في الناحية‬ ‫تبدو‬ ‫األخرى من القرية سوى صديقتها ثناء‪ ،‬سارتا في طريقيهما‬ ‫مقتربتين من بعضيهما وعند المنتصف تواجها‪ ،‬أفسحت هند‬ ‫الطريق للمرأة لكنَّ المرأة توقفت أمامها مباشر ًة وكشفت عن‬ ‫وجهها‪ ،‬ألجمت المفاجأة صرخة هند واتسعت عيناها في رعب‬ ‫فالوجه الذي رأته كان آخر وج ٍه تتوقع رؤيته على اإلطًلق‬ ‫في هذه اللحظة‪ ،‬وج ٌه جام ٌد خًل من أية انفعاالت وأكسبه‬ ‫الظًلم بع ًدا شيطان ًيا مخي ًفا‪ ،‬أكمل صفير الرياح التي حركت‬ ‫غطاء رأسها أركان المشهد الرهيب‪ ،‬بسرع ٍة خاطف ٍة دفعتها‬ ‫المرأة بكل قوتها نحو حاجز الجسر الخشبي المتهالك‪ ،‬حاولت‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫هند التشبث بمًلبس المرأة لكنها لم تفلح‪ ،‬حاجز الجسر أيضًا‬ ‫لم يسعفها فتهشم وسقط معها إلى أسفل‪ ،‬ارتطم جسدها بالمياه‬ ‫الباردة بمنتهى القوة‪ ،‬أطلقت ص ً‬ ‫راخا بائسًا لع َّل أحدهم يسمعها‬ ‫فينقذها ضار ً‬ ‫بة سطح المياه مرارً ا بيديها‪ ،‬ذراعاها الواهنان لم‬ ‫ً‬ ‫طافية‬ ‫يستطيعا قيادتها إلى أحد جانبي الترعة فقط أبقياها‬ ‫للحظا ٍ‬ ‫ت أخرى حتى خارت قواها‪ ،‬لم تستجب المياه الراكدة‬ ‫لنداءات غريزة البقاء التي أطلقتها الفتاة‪ ،‬انتفض الجسد الرقيق‬ ‫ً‬ ‫تاركة إياه يغوص‬ ‫عدة مرات قبل أن تفارقه روحه إلى األبد‬ ‫ببط ٍء إلى مستقره األخير بين مخلفات القاع وعاد الهدوء من‬ ‫جدي ٍد إلى سطح المياه العطنة القاتمة‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪3‬‬ ‫عادت أحًلم من الخارج بعد ساع ٍة تقري ًبا‪ ،‬أخبرتها سعاد أنَّ‬ ‫ً‬ ‫هندا ذهبت لزيارة صديقتها ثناء التي تعاني آالم المخاض‪ ،‬لم‬ ‫يكف فمها عن توعد الفتاة التي تأخرت ً‬ ‫جدا بالعقاب طيلة الليل‬ ‫ثم افترشت أرضية غرفة المعيشة انتظارً ا لعودة ابنتها التي لم‬ ‫تعد‪ ،‬في الصباح الباكر طلبت من سعاد االتصال بثناء التي‬ ‫نفت قدوم هند على اإلطًلق‪ ،‬ارتدت أحًلم مًلبسها وانطلقت‬ ‫إلى مركز الشرطة لتبلغ عن اختفاء ابنتها‪ ،‬هناك نصحوها أن‬ ‫تبحث عن ابنتها جي ًدا في كل األماكن الممكنة ألنه لم يمر يو ٌم‬ ‫كام ٌل بعد على اختفائها وإن لم تتمكن من العثور عليها يمكنها‬ ‫الحضور غ ًدا للبدء في إجراءات البحث‪ ،‬عادت إلى المنزل‬ ‫وسط قلق وتوتر كل من فيه‪ ،‬عند الظهيرة أتاهم شرطي طالبًا‬ ‫من أحًلم أن تذهب معه إلى قسم الشرطة‪ ،‬هناك استقبلها‬ ‫الضابط المسئول ثم قادها الى غرف ٍة ملحق ٍة بالمبنى‪ ،‬الغرفة‬ ‫ٌ‬ ‫سرير متهالك تم َّدد فوقه جس ٌد له نفس طول‬ ‫خالية تما ًما إال من‬ ‫ٍ‬ ‫جسد هند‪ ،‬قال الضابط بنبر ٍة هادئة‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ بعد ما خرجتي من عندنا الصبح بساعتين‪ ،‬جالنا واحد يقولنا‬‫إنه لقى جثة بنت في الترعة‪ ،‬شكينا إنها ممكن تكون بنتك‬ ‫فبعتنالك على طول‪..‬‬ ‫تركزت نظراتها على الجسد المسجى تود لو أنَّ لعينيها القدرة‬ ‫على اختراق الغطاء إلى ما دونه‪ ،‬اقترب الضابط من الجثة ثم‬ ‫أزاح الغطاء األبيض ببط ٍء كاش ًفا عن وجهها وسأل أحًلم‪:‬‬ ‫ هي دي بنتك يا أحًلم؟‪..‬‬‫كان وجه الجثة شاحبًا أكسبه الموت بياضًا غريبًا‪ ،‬تعابير وجه‬ ‫أحًلم تكاد تجزم أنَّ هذه البنت ال تمت إليها بصلة‪ ،‬كست‬ ‫فعل مختلفة عن‬ ‫الحيرة وجه الضابط‪ ،‬كان ينتظر منها ردة ٍ‬ ‫ارتياح لو لم تكن المتوفاة هي ابنتها أو‬ ‫جمودها هذا‪ ،‬فإما زفرة‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قاسية قد تفضي إلى غيبوب ٍة ال تفيق منها أو موت لو‬ ‫صدمة‬ ‫كانت الجثة البنتها لكنها لم تحرك ساك ًنا‪ ،‬اقترب الضابط‬ ‫كتمثال من الشمع‪ ،‬هنا نظرت إليه‬ ‫ليتح َّسسها بعدما تصلبت‬ ‫ٍ‬ ‫وقالت في صو ٍ‬ ‫ت متحشرج‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ أيوه بنتي يا حضرة الضابط‪..‬‬‫تضاعف استنكار واستغراب الضابط ألف مرة‪ ،‬لم يخبروه من‬ ‫بأس إلى هذا الحد‪ ،‬لم تتكون‬ ‫قبل أنَّ النساء في القرى ذوات ٍ‬ ‫دمعة واحد ٌة في إحدى عينيها بل لم يبد أنها تأثرت على‬ ‫اإلطًلق وكأنَّ األمر ال يعنيها‪ ،‬طلب منها مرافقته الستكمال‬ ‫اإلجراءات‪ ،‬جلست أمامه في شرو ٍد وتثبتت عيناها كأنها ال‬ ‫تبصر‪ ،‬قال الضابط وهو يقلب في األوراق‪:‬‬ ‫ تفتكري إن بنتك ممكن تكون وقعت غصب عنها من فوق‬‫الجسر يا ست أحًلم ولًل نكشف عليها علشان نشوف إذا كانت‬ ‫وفاتها ليها طبيعة جنائية‪..‬‬ ‫لم تكن تريد أن يت َّم تشريح الجثة خو ًفا من افتضاح أمر ابنتها‪،‬‬ ‫أجابته بدون تردد‪:‬‬ ‫ ال يا حضرة الضابط‪ ،‬بنتي لسه عيلة وملهاش أعداء نهائي‬‫وحتى لو فيه حد بيكرهها مفتكرش إن األمر يوصل بيه إنه‬ ‫يقتلها‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ طيب عندك معلومة توضحيها لنا بسبب خروجها في الوقت‬‫دا ولوحدها؟‪..‬‬ ‫ كانت رايحة لصاحبتها علشان بتولد‪..‬‬‫ يعني نقفل المحضر يا ستي؟‪..‬‬‫أومأت برأسها إيجابًا ببطء دون أن تتفوه بحرفٍ واحد‪ ،‬أمر‬ ‫الضابط كاتبه بإقفال المحضر على أنَّ الوفاة قدرية‪ ،‬أعطاها‬ ‫الكاتب قلمًا كي توقع فوضعت بصمتها وقامت من جلستها‪،‬‬ ‫كاد الفضول يقتل الضابط فلم يستطع منع نفسه من سؤالها‪:‬‬ ‫ اعذريني يا ست أحًلم في كًلمي بس أنا مش حاسس إنك‬‫اتأثرتي نهائي وكأن اللي ماتت دي مش بنتك‪..‬‬ ‫نظرت إليه مباشر ًة في عينيه‪ ،‬وقالت في جمود‪:‬‬ ‫ الحزن حزن القلب يا حضرة الضابط‪ ،‬وأنا ست مؤمنة إن‬‫كل شيء متقدر ومكتوب ويمكن موتها خير‪ ،‬مين يعرف؟‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫كاد يصرخ في وجهها‪" :‬أنا حاسس من برودك دا إنك كنتي‬ ‫بتكرهيها وبتتمني موتها"‪ ،‬لكنه حافظ على هدوئه وهو يطلب‬ ‫من أحد العساكر مرافقتها حتى تستخرج تصريح الدفن‪..‬‬ ‫عندما عادت إلى المنزل كانت الحيرة تأكل عقول النسوة‪،‬‬ ‫حماتها وسعاد وسمر حتى محمود الصغير ترك ألعابه التي‬ ‫يلهو بها وتطلع الى أمه في براءة‪ ،‬على عكس المتوقع كان‬ ‫سيد هو أول من سأل‪:‬‬ ‫ إيه اللي حصل يا أحًلم؟‪..‬‬‫نظرت إليه نظر ًة مقيتة؟ كادت تسأله ما الذي دعاك إلى‬ ‫االستيقاظ مبكرً ا يا سي السيد؟ هل ً‬ ‫فعًل تذكرت أن لك ابنة‬ ‫ً‬ ‫أصًل؟ لكنها أجابت‪:‬‬ ‫ربما أصابها مكروه؟ بل هل تتذكر اسمها‬ ‫ لقوها واقعة في الترعة الكبيرة‪..‬‬‫اشرأبت األعناق إليها في حير ٍة ملهوفة فأدارت وجهها‬ ‫وجسدها بالكامل عن الجميع‪ ،‬وأردفت‪:‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ ميتة‪..‬‬‫ً‬ ‫صرخة أسمعت القرية بأكملها‪ ،‬اتسعت عينا‬ ‫صرخت سعاد‬ ‫حماتها بشدة ود َّقت صدرها بيدها‪ ،‬شهقت سمر ثم انهارت‬ ‫ً‬ ‫مغشيا عليها‪ ،‬سقط سيد أرضًا ووجهه ينم عن شيء من‬ ‫الصدمة لكنه لم يذرف عبر ًة واحدة بعدما أفقدت المخدرات‬ ‫قدرة عينيه على تكوين الدموع‪ ،‬حتى محمود الصغير انفجر‬ ‫في البكاء عندما رأى ردات الفعل هذه‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الفصلُ​ُاألخير ُ‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪1‬‬ ‫طوى الليل المنطقة بأكملها تحت جناحيه ومنع ضوء القمر من‬ ‫كن من الشارع‪ ،‬أعمدة اإلنارة تواطأت فيما‬ ‫الوصول إلى أي ر ٍ‬ ‫بينها على العطب في نفس الوقت وفرضت النوافذ الخشبية‬ ‫حصارً ا على األضواء الداخلية للبيوت فمنعتها من التسلل إلى‬ ‫الخارج‪ ،‬القطط النائمة بجوار جدران البيوت على امتداد‬ ‫الشارع استيقظت على صوت خشخشة أقدام أحدهم‪ ،‬كان القادم‬ ‫من نهاية الشارع يترنح كمصا ٍ‬ ‫ب نزف كثيرً ا يقاوم السقوط‪،‬‬ ‫تحفزت القطط وبدأت التجمع إلى جوار بعضها البعض‪ ،‬لم يبد‬ ‫أنَّ المترنح رآها أو شعر بها على األٌقل‪ ،‬مرَّ من أمامها وعيناه‬ ‫تكادان تتدليان من رأسه‪ ،‬فجأة فزعت القطط وانفرط عقد‬ ‫تجمعها وذهبت كل واحد ٍة في اتجا ٍه ما فمن خلفها تمامًا انفصل‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫بروز التحم مع الجدار على‬ ‫بروز ما عن جدار أحد المنازل‪،‬‬ ‫مدى الساعتين الماضيتين فلما اقترب منه هذا الجسد المترنح‬ ‫استفزه ليبرح مكانه‪ ،‬حاول وليد تحريك أجفانه الثقيلة لتتسع‬ ‫أكثر حتى يتبين ماهية هذا الشيء لكنها لم تستجب له‪ ،‬سأل في‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫عصبية "إنت مين؟"‪ ،‬لم يجبه البروز وإنما التف حوله‬ ‫بسرعة‪ ،‬وضع يسراه على فم وليد كي يمنعه من الحديث ثم‬ ‫أخرج سكي ًنا حا ًدة من جيبه الخلفي في خفة ووضع مقدمة‬ ‫نصلها على صدر وليد أمام القلب مباشرة‪ ،‬بصو ٍ‬ ‫ت أشبه‬ ‫بالفحيح همس المجهول في أذن وليد بكلما ٍ‬ ‫ت ما‪ ،‬بلغ ارتياع‬ ‫وليد مداه وسقط األسمنت من على أجفانه فارتفعت حتى‬ ‫التصقت بحاجبيه‪ ،‬حاول الصراخ لكن اليد القابضة على فمه‬ ‫وأدت صرخته في مهدها‪ ،‬انتفخت أوداجه وانفتحت مسام جلده‬ ‫على مصارعها تطرد العرق ولم تستطع طرد الرعب معه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عبثا حاول التشبث بأي شيء لكن اليد التي توجه السكين إلى‬ ‫قلبه ضغطته أكثر فتوقف عن المقاومة‪ ،‬استمع في رع ٍ‬ ‫ب ج َّمد‬ ‫أوصاله إلى صوت الملثم فاستسلم تمامًا آلسره‪ ،‬كانت أمنيته‬ ‫ً‬ ‫فرصة أخرى للتكفير‬ ‫في تلك اللحظة أن يعطيه هذا المجهول‬ ‫عن جريمته لكن الملثم لم يكن على استعدا ٍد للتفاوض‪ ،‬يبدو أنه‬ ‫جاء لتنفيذ مهمته بدون استعدا ٍد لسماع أي حر ٍ‬ ‫ف من هذا‬ ‫الحقير‪ ،‬بدون مقدما ٍ‬ ‫ت انغرزت السكين في صدر وليد بمنتهى‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ً‬ ‫شاقة‬ ‫القسوة‪ ،‬عبرت جلده ولحمه واخترقت قفصه الصدري‬ ‫طريقها إلى القلب مباشر ًة‪َّ ،‬‬ ‫مزق نصلها جدار القلب واقتحم‬ ‫بطينيه من أسفل بًل رحمة‪ ،‬لم يسحب المجهول سكينه من قلب‬ ‫وليد وظ َّل م ً‬ ‫تشبثا بها بكل قو ٍة وغضب‪ ،‬اندفع الدم األحمر‬ ‫الدافئ من القلب الم َّمزق وسال منزل ًقا على قبضة محمد ليطفئ‬ ‫نيران قلبه المستعرة‪ ،‬خارت قوى جسد وليد فأسجاه محمد‬ ‫انتقام‬ ‫كجزار يتج َّهز لنحر ذبيحته‪ ،‬لم يكن مجرد‬ ‫على األرض‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لنفسه ولشرفه فقط بل انتقامًا ألخته البريئة التي دنسها هذا‬ ‫الحقير مستبيحً ا جسدها فدفعت حياتها ثم ًنا لخ َّسته وحقارته‪،‬‬ ‫حاول جسد وليد التمسك بروحه التي بدت وكأنها تنتظر هذا‬ ‫زمن بعيد‪ ،‬انفجرت الدماء من فمه وأنفه في وجه‬ ‫الخًلص منذ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد لكنه لم يكترث لها ولم يحاول مسحها‪ ،‬دما ٌء نجسة تطهر‬ ‫الرجس الذى علق بشرفه‪ ،‬سحب السكين من صدر ضحيته‬ ‫بمنتهى البطء ودار حول الجسد ورفع رأسه إلى أعلى ً‬ ‫قليًل‬ ‫وبمنتهى البرود ذبح عنقه‪ ،‬اندفعت الدماء من بين لحم الرقبة‬ ‫المشقوق كنافور ٍة أفقية‪ ،‬انتفض الجسد للحظا ٍ‬ ‫ت في تتابع‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫تنازلي ثم سكن إلى األبد‪َّ ،‬‬ ‫مزق محمد ثياب الجثة التي‬ ‫انخفضت حرارتها شي ًئا فشيئا‪ ،‬مسح بيده الدماء اللزجة من‬ ‫ً‬ ‫كلمة من أربع حروف‪" ،‬قصاص" ثم‬ ‫فوق البطن ونقش عليها‬ ‫نظر إلى ذبيحته في رضًا تام‪ ،‬أت َّم ثأره على النحو الذى أراد‪،‬‬ ‫و َّد لو أنه يستطيع دعوة بعض الذئاب إلى هذه الوليمة‬ ‫الطازجة‪ ،‬تل َّفت حوله في حرك ٍة غريزي ٍة مطمئ ًنا إلى أنَّ أح ًدا‬ ‫لم يره‪ ،‬فقط عيون القطط الًلمعة في نهاية الشارع هي التي‬ ‫تراقب الموقف‪ ،‬ترك الجثة في عرض الشارع ثم اتجه إلى‬ ‫منزل وليد‪ ،‬فتح الباب الذي لم يكن موص ًدا بإحكام‪ ،‬نظر إلى‬ ‫بحر من الدماء وإلى جوارها أمها‬ ‫جثة سماح الغارقة في‬ ‫ٍ‬ ‫المغشي عليها‪ ،‬قتل االبن واالبنة وترك أمهما تحيا بدونهما في‬ ‫جحيم أبدي جزا ًء لما فعلته بأمه‪ ،‬روت الدماء عطش غضبه‬ ‫ٍ‬ ‫حتى الثمالة‪ ،‬ألقى نظر ًة أخير ًة على جثة وليد وتفل عليها‪ ،‬أعاد‬ ‫لثامه المضرَّ ج بالدماء وغطى به وجهه من جديد ثم ترك‬ ‫رائحة الموت تحل مح َّل الظًلم‪..‬‬ ‫‪2‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫التمعت عينا أحًلم بشد ٍة كنجمتين متوهجتين عندما أشار إليها‬ ‫ضبة بالدماء‪ ،‬لقد أنجزت المهمة على أكمل وجه‬ ‫بيده المخ َّ‬ ‫وانتقمت من أم وليد وابنها وبنتها‪ ،‬تذكرت يوم أن رأت ابنتها‬ ‫في غرفة وليد‪ ،‬تذكرت حقارة أمه وهي ترعى عًلقة ابنها‬ ‫اآلثمة مع هند وتذكرت ليلة أن دفعت ابنتها من فوق الجسر‬ ‫الخشبي‪ ،‬لم تكن هذه النهاية التي أرادتها لها عندما أنجبتها‪،‬‬ ‫كانت تتمنى يومًا أن تحمل أطفالها وتداعبهم ال أن تحمل ألم‬ ‫قتلها في صدرها إلى األبد‪ ،‬لم تكن تتخيل أنَّ حياة ابنتها‬ ‫حيوان‬ ‫آسن كأي‬ ‫ستنتهي على يديها في ظًلم الليل في ما ٍء‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫نافق‪ ،‬تحسست الجزء من عباءتها الذي مزقته هند عندما‬ ‫حاولت التشبث بها‪ ،‬دوت صرخة هند في أذنيها من جديد‬ ‫واستعاد عقلها منظر عيني ابنتها الذاهلتين وهي تهوي في‬ ‫المياه‪ ،‬وقتها أخذت شهي ًقا قو ًيا مشبعًا بالهواء الذي دنسته‬ ‫جريمتها الشنعاء وتلفتت حولها في حذر‪ ،‬لم يكن هناك سوى‬ ‫أشجار الكافور التي ن َّكست رؤوسها حتى ال تشاهد أ ًما تنهي‬ ‫حياة ابنتها‪ ،‬اطمأنت إلى أنَّ ال أحد يراقبها من أي مكان‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫فخلعت جوربيها المتسخين وألقتهما بجوار كوم ٍة من القمامة‬ ‫ثم ارتدت حذاءها وعادت إلى المنزل كأنَّ شي ًئا لم يكن‪،‬‬ ‫أخبرتها سعاد بأنها حاولت إثناء هند عن الخروج لكنها لم‬ ‫تفلح‪ ،‬تص َّنعت الغضب وتوعدت هذه الفاسدة بقاسي العقاب‪،‬‬ ‫خلعت مًلبس الجريمة وفي الصباح ذهبت إلى قسم الشرطة‬ ‫إمعا ًنا في إتقان المهمة‪ ،‬ظلَّت تكتم ك َّل شي ٍء بداخلها حتى‬ ‫انتهت مراسم العزاء ثم أخبرت ابنها بكل شيء ورسمت له‬ ‫دوره المطلوب وها هو قد أدى مهمته على النحو األمثل كما‬ ‫أرادت تمامًا‪ ،‬آن األوان ليهدأ عقلها ويطمئنَّ قلبها ويرتاح‬ ‫جسدها‪..‬‬ ‫دخلت إلى غرفتها ثم استلقت على سريرها ونامت‪،‬‬ ‫نامت إلى األبد‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫‪3‬‬ ‫ما زال هاتفه مغل ًقا‪ ،‬راسلته عبر الفيس بوك لكنه لم ير‬ ‫الرسائل بعد‪ ،‬صارت كالمجنونة ال تنام‪ ،‬تطالع هاتفها في‬ ‫الساعة مائة مرة لعله يبعث إليها بشيء يهدئ جنونها ويطفئ‬ ‫هلعها‪ ،‬أسبوعٌ مرَّ ولم يرسل أيَّ شيء وهو يعلم تمامًا كيف‬ ‫تكون حالتها عندما تجهل مكانه‪..‬‬ ‫رق ٌم غريبٌ يتصل بها عدة مرا ٍ‬ ‫ت وال تجيبه رغم أنَّ قلبها‬ ‫يحدثها أنه هو‪ ،‬أجبرها يومًا ما على القسم بأال تجيب رقمًا‬ ‫ٌ‬ ‫غريبًا ً‬ ‫رسالة من نفس الرقم "ردي عليا يا علياء‪ ،‬أنا‬ ‫أبدا‪ ،‬أتتها‬ ‫سمر"‪ ،‬بصو ٍ‬ ‫مبحوح من شدة البكاء أبلغتها سمر أن‬ ‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫صل على منح ٍة للدراسات‬ ‫الحديدي سافر إلى إسبانيا بعد أن تح َّ‬ ‫العليا هناك وأقسمت لها أنها مثلها لم تكن تعرف شي ًئا حتى‬ ‫أبلغها قبل دقائق فقط طالبًا منها أن تخبر علياء باألمر ألنه لم‬ ‫يجد لديه القدرة على إبًلغها بنفسه‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫لو هزم الرعد في أذنيها لكان هزيمه أهون عليها مما سمعت‪،‬‬ ‫ولو سحقتها صاع ٌ‬ ‫قة وأحالتها عدمًا لكان أرحم بها مما تشعر‬ ‫به اآلن‪ ،‬تباعدت األشياء حولها وتضاءل جسدها حتى قارب‬ ‫ٌ‬ ‫الفناء وابتلعتها هوَّ ةٌ‬ ‫سحيقة ألقت بها إلى قعر الجحيم‪ ،‬بدت‬ ‫كتمثال أصم في قلب كهفٍ مهجور‪ ،‬حركتها الصدمة‬ ‫لدقائق‬ ‫ٍ‬ ‫نحو حاسوبها ففتحت صفحتها على الفيس بوك وبمدا ٍد من‬ ‫لظى صاغت كلماتها‪:‬‬ ‫ما بالكم؟‪..‬‬ ‫تلقون إلينا بقصاصا ٍ‬ ‫ت فيها أرقام هواتفكم أو تدفعون صديقاتنا‬ ‫الجتذاب اهتمامنا‪..‬‬ ‫نصم آذاننا عن معسول كًلمكم ونقاوم طرقاتكم على أبواب‬ ‫قلوبنا‪..‬‬ ‫نبلو صبركم ونختبر صدقكم‪ ،‬ننظر من خلف األسوار إلى‬ ‫مكامن أعماقكم حتى إذا ما وجدنا في أنفاسكم بصيصًا من‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الحب فتحنا لكم أفئدتنا على مصارعها وجعلناكم ملو ًكا على‬ ‫عروشها فتعيدون تكوينها من جديد‪..‬‬ ‫روي ًدا روي ًدا نثق فيكم‪..‬‬ ‫نصدق عهودكم ومواثيقكم بأن حيواتنا معكم ستكون فراديس‬ ‫سعادة وجنان حب وحدائق بهجة‪..‬‬ ‫وآفاق مًلئكية‪ ،‬نبحر معكم في‬ ‫نسافر معكم إلى عوالم وردي ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫بحار العشق ونحلق معكم في سماوات الوله‪..‬‬ ‫نذوب على وقع قسمكم بأنَّ ما يجمع قلوبنا بكم سيظل خال ًدا أبد‬ ‫اآلبدين وأنَّ انطباق السماوات على األراضين لن يمحو أثره‪..‬‬ ‫نرضى منكم بالقليل من كًلم الهوى ألنه ينتقص من رجولتكم‬ ‫على حد زعمكم فيما نتقرَّ ب به إليكم آناء الليل وأطراف‬ ‫النهار‪..‬‬ ‫نقبل ثوراتكم ونمتص غضبكم سواء كان بسب ٍ‬ ‫ب أو كالمعتاد بًل‬ ‫سبب‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫تنصبون محاكمكم وتصدرون أحكامكم‪ ،‬تعدون مشانقكم‬ ‫وتسنون مقاصلكم إذا ما بدرت منا فقط بادرة خطأ‪..‬‬ ‫حتى إذا ما تملكتمونا وصرنا كالجواري أمام عروش‬ ‫رجولتكم‪ ،‬ترحلون‪..‬‬ ‫ترحلون عندما تكونون أنتم الخبز والملح والماء‪ ،‬وتغلقون ك َّل‬ ‫ً‬ ‫واحدا على حافة الهاوية‪..‬‬ ‫أبواب الحياة علينا وتتركون بابًا‬ ‫ترحلون هكذا‪ ،‬بًل سب ٍ‬ ‫إشعار بل حتى بًل كذب‪..‬‬ ‫ب وبًل‬ ‫ٍ‬ ‫أيها الراحلون لماذا رحيلكم دومًا يكون عند ق َّمة تعلقنا بكم‬ ‫وعندما تكون دنيانا قاصر ًة عليكم؟‪..‬‬

‫تصرون أن يكون رحيلكم قاسيًا‪ ،‬صادمًا ومفاج ًئا‪ ،‬كاإلعصار‬ ‫الهادر يسحق األشجار ويدهس األزهار‪ ،‬يمحق األماني‬ ‫وينسف اآلمال في البحار‪ ،‬حتى إنه ينزع األلوان من قوس‬ ‫قزح‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫تركتم قلوبنا كالخرق البالية أو كأعجاز النخل الخاوية بعد أن‬ ‫كانت البًلبل على فروعها المورقة تصدح بحروف أسمائكم‪..‬‬ ‫ذبحتم البسمة على شفاهنا وأجريتم العبرات على وجوهنا‪،‬‬ ‫تركتم اللوعة تحرق أفئدتنا وأطلقتم الكمد يأكل أكبادنا‪..‬‬ ‫رحلتم بعد أن أضفتمونا إلى قوائم ضحاياكم التي تبرزونها في‬ ‫مقاهيكم ومجالسكم‪ ،‬تدخنون آالمنا وتلوكون عذاباتنا وتحتسون‬ ‫أوجاعنا‪..‬‬ ‫نركع ونجثو أمام الزمان كي ينسينا رحيلكم ونكفكف الدمع‬ ‫لدمع آخر ما زال في طور التكون على‬ ‫حتى نفسح الطريق‬ ‫ٍ‬ ‫شطآن أجفاننا‪..‬‬ ‫تمر األيام والشهور والسنون تحاول مداواة جروحنا‪ ،‬تلتئم أو‬ ‫هكذا نظن‪..‬‬ ‫حتى إذا نسيناكم وارتحلت ذكراكم ع َّنا كما ارتحلتم من قبل‪،‬‬ ‫عدتم‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫عدتم تغمسون أصابعكم في جراحنا‪ ،‬وتلهبون قلوبنا بسياط‬ ‫الذكريات التي قتلتموها أنتم‪..‬‬ ‫عدتم تذكرونا باأليام الخوالي والليالي الطوال‪..‬‬ ‫عدتم تذكرونا بالعهود والمواثيق وبما ع َّقدتم من األيمان التي‬ ‫كافر بها‪..‬‬ ‫كنتم أنتم أول‬ ‫ٍ‬ ‫تسوقون أعذارً ا وتذرفون من مآقيكم أنهارً ا‪ ،‬تعضون أنامل‬ ‫الندم معلنين التوبة النصوح راجين منا أن نوقع لكم على‬ ‫صكوك الغفران‪..‬‬ ‫م َّنا من يسقطن أمام حنينهن إليكم‪ ،‬يضعن أيديهنَّ بإرادتهنَّ في‬ ‫جحور الكاذبين المخادعين للمرة الثانية‪ ،‬ال يعلمن أنكم‬ ‫ستحطمون قلوبهنَّ مرارً ا وتكرارً ا ثم تعودون فتتركونهنَّ‬ ‫كذرات الرماد على أرصفة الحياة‪ ،‬وم َّنا من يتركن األمر لرب‬ ‫األرباب كي يجبر كسرهنَّ ويقتصَّ لهنَّ منكم‪..‬‬ ‫باسم كل من تعللتم لهنَّ بالقدر والحظ والنصيب‪..‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫باسم كل الفتيات والنساء الًلئي عبثتم بأرواحهنَّ ورقصتم‬ ‫ساخرين على إيقاع دقات قلوبهنَّ منذ بدء التاريخ وحتى فناء‬ ‫الخليقة‪..‬‬ ‫باسم كل األجساد التي استبحتموها ود َّنستموها ورفعتم عليها‬ ‫رايات انتصاركم الحقير‪..‬‬ ‫باسم كل امرأ ٍة أنهت حياتها بيديها بعد أن امتصصتم رحيق‬ ‫روحها وتركتموها م ً‬ ‫علقة على شفير الجحيم‪..‬‬ ‫باسم كل الًلئي واعدتموهنَّ س ًرا وتركتموهنَّ جهرً ا‪..‬‬ ‫باسم الم َّ‬ ‫عذبات الباكيات في هجيع الليل‪..‬‬ ‫باسم التائهات الحائرات على قارعة المستقبل‪..‬‬ ‫باسمهنَّ كلهنَّ ‪..‬‬ ‫سح ًقا لكم ‪..‬‬ ‫المنصورة ‪ -‬سبتمبر ‪2112‬‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫رسالة‬ ‫إلى ك ِّل الكادحات في هذا الوطن وفي هذا الزمان‪،‬‬ ‫إلى ك ِّل ال ُمهمشات الالئي عشنَ حياةً لم يبتسمنَ فيها يو ًما‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الزمان‬ ‫إلى ك ِّل اللواتي ُولدنَ فعـشنَ ألجل غيرهن ثم رحلن ولم يعُد‬ ‫ق من ذكرهن إال دع ُ‬ ‫وات أبنائهن بالرحمة‪.‬‬ ‫يذكرهُن بشيء ولم يب َ‬ ‫شقاؤ ُكن في هذه الحياة ينف ُد وما عن َد هللا باق‪..‬‬

‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


‫ِلنَّ الشعر يبقى‬

‫ارتحلنا وصا َر الهوى أم ًسا‬ ‫ي بعدك أال تَد َم ُع‬ ‫فكيفَ لعينا َ‬ ‫وكيفَ أه َج ُع في ليل كاحل‬ ‫وأ ُ ُ‬ ‫ذن غيري لصوتك تس َم ُع‬ ‫أتُو ُ‬ ‫ق لخن َجر الردَى يُمزقُني‬ ‫فال يت ُر ُ‬ ‫صبًا يتوج ُع‬ ‫ك في َجسدي َع َ‬ ‫هو الق َد ُر طُويَت صحائفُه‬ ‫طو ُل البُكاء لديه ال يشفَ ُع‬ ‫أحمد إبراهيم موسى‬

‫تمت بحمد هللا تعالى‬ ‫الراحلون – أحمد إبراهيم موسى‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.