املنافذ الثقافية جملة ثقافية ف�صلية تعنى ب�أحوال الثقافة والفكر والأدب
رئي�سا التحرير العدد الثاين
عمــر حممـــد �شــــبلي
شتاء 2013
د .علي مهدي زيتون
الهيئة الإدارية د .هالـة أبــو محـدان د .راغــدة املصــري الـر ْمــح د .نــــدى ُ د .باسمة زين الديـن د .أيــلـي أنـــطـون
جوزيف سمعان رزق رفـعـــت فــارــس عــلـي أيـــــــوب مــــروان درويــش
املجلة َّ حمكمة د .ديـزيـريـه ســـ َّقال د .حممـــد فـرحــات د .فــــاتــن ا ُملـــــر
ِّ املحكمة اللجنة
د .حممـــد طــاهــــر
د .علـي مهـدي زيتون د .فــــؤاد خـلـيــــل العـريــبي د .حممـــد ُ
ت�صميم الغالف
املدير امل�س�ؤول:
ح�سني عنقا
علي حمود
اإلشتراكات السنوية: لبنان:
لألفراد 50 000ل.ل.
للمؤسسات 60 000ل.ل.
باقي الدول العربية:
لألفراد 50دوالر
للمؤسسات 60دوالر
للمراسالت: chebli_omar@hotmail.com a.m.zaitoun@hotmail.com
عنوان املجلة :لبنان ـ بريوت ،كورنيش املزرعة ،بناية الريفيريا سنرت( ،دار العودة)،
الطابق اخلامس .هاتف70871193 / 70848961 : رقم احلساب املصرفي: IBN: LB06 0028 0000 0000 0063 7525 3201
احملت ـويـ ات
ـ الكتابة واملوقف...................................................عمر شبيل
5
ـ فطرة املرأة يف الشعر «تشييء الذات وتبخيس النفس» سعاد الصباح أنموذج.....................................د .رياض عثام ن
21
ـ «براءة املسلمني» يف صورتني......................................د.فؤاد خليل
46
مكونات املجتمع الدويل يف القرن الواحد والعرشين...............رغيد الصلح ـ ِّ
ـ شخصية العدد« :مطاع صفدي»...................................أرسة التحرير
ـ الظاهر بيربس ....................................................برشى اخلليل
ـ املرأة يف اإلسالم :حق اإلرث والطالق ...........................د.هالة أبو محدان
ـ قراءة يف جمموعة الشاعر أمحد حافظ الشعرية: «ال ضوء إال أحداق الذئاب» ..............................د.عيل زيتون
ـ قراءة بنيوية (ألسنية ـ سيميولوجية)لقصيدة صوت وسوط لـ حممود درويش..........................................د .هدى املعدرا ين ـ «الطبيعة يف شعر جودت فخر الدين».............................د .عائشة شكر
13
32
50
60
65 71 80
ـ التعالق النيص ودور الكلمة الشاهدة يف: رواية« :السهل» لـ أمحد نرص ...............................حممد احممد بن طاهر 92 ـ إىل سعيد عقل يف يوم تكريمه ......................................د .حممد أبو عيل
102
ـ وجه النبوة........................................................إهياب محادة
108
ـ عىل سفحك العايل تنام القصائد...................................عمر شبيل
* ملف األدب املقاوم:
ـ جمزرة طواها النسيان.....................................د .فاتن املر
104
112
ـ الزمن يف "رأيت رام اهلل" بدء الرسد ......................سهام أنطون
ـ إىل غزة شاهدة وشهيدة...................................جعفر إبراهيم
ـ هواري...................................................ماجدة ريـّا
ـ كفكف دموعك وانسحب يا عنرتة.......................مصطفى اجلزار
115
119
124
126
ـ فطمت السامء فطمت األرض.............................د .ماجدة غضبان املشلب 128
ـ أعالم احلركة الشعرية يف البقاع.....................................مروان درويش
133
* من األدب العاملي
ـ ساقي نامه لـ حافظ الشريازي .............................ترمجة :عمر شبيل 146 ـ تقويم سنوي بال تاريخ للشاعرة األرمنية :ماروش ت
153
ـ الوحدة اإلسالمية..................................................غريبي مراد
156
ـ طربوش «أبو جهاد» ...............................................جوزيف رزق
183
ـ قراءة يف كتاب (املحاكاة) لـ خالد كموين............................عمر شبيل
190
ـ اإلسالم والغرب رصاع أم حوار...................................عيل أيوب
ـ مقابلة مع الفنان عبد الكريم إمامة..................................أرسة املجلة
170
185
* ملف الشباب
يض 197 ـ نشيد املقاوم...............................................زينب فايز را ين 198 ـ خـواطر...................................................عمران الوردا ـ فوىض هذا الشارع تزعجني...............................فرح حممد دياب 200 201 ـ «شعب الشعر املختار» و«مجع املؤنث العاشق».............فادية اخلش ن «رسالة الدانامرك»
اعتذار:
نعتذر من الشاعر املفكر اإلنسان املبدع حممود نون عن بعض ما ورد يف املقابلة معه يف العدد األول من جملتنا ،آملني بالتعاون املستمر يف سبيل خدمة إنساننا التواق للتواصل بإنسانيته اململوءة بقيم التاريخ التي محلها أهلنا يف رحلتنا الفكرية املخصبة.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 5
الكتابة واملواقف عـمـر شــــبلـي «عار عىل من يغني وروما حترتق». ٌ يستيطع املثقف أن يكون مثقف ًا معروف ًا بعمق ثقافته ،ويستطيع الشاعر أن يكون شاعر ًا بموهبة ساطعة ،ولكن األفضل من كل ْيهام أن يكون املثقف مثقف ًا رشيف ًا ومناضالً ،وأن يكون الشاعر شاعر ًا رشيف ًا ومناضالً ،فإذا كان األدب ،وحتديد ًا َ الداخيل لتحوالت النفس التاريخ الشعر، َّ اإلنسانية ،وإذا كان األدب بالتزامه تأسيس ًا للوجود األفضل ،فإنه مطالـَب بجامليته اللصيقة بنفس املتلقي أن يكون هادف ًا وذا وظيفة أخالقية واجتامعية ووجودية ،وذلك بسبب قوة تأثريه، وترسب هذا التأثري يف الذات األخرى التي تتلقى االنفعال اجلاميل والتحرييض بنهم غري متوفر يف الكتابات األخرى، وليس املقصود بالوظيفة األخالقية أن يكون الشاعر واعظ ًا وأن يكون املثقف واعظ ًا ،وإنام مهمة الشاعر الرشيف املناضل واملثقف امللتزم املناضل خلخلة البنى املهرتئة والتحديق باألرقى وختفيف غربة اإلنسان املحارص بالتقاليد البالية، وإلغاء املنايف الروحية املسطرية عىل عاملنا املعارص ،وخلق األمل العنيد يف الذات البرشية .مهمة الشاعر واملثقف واملفكر
المارتني
أن يقتلوا "إخوة يوسف" الذين يسقطون ب ،ويسجنون األنبياء جل ِّ الفكر يف ا ُ والثوار .جيب أن تكون الكلامت حرائق مشتعلة يف هشيم العقل اجلاهل .وعىل هليب الفكر والشعر امللتزمينْ تعود اخلرضة ألشجار أعامرنا اليابسة. نحن أمة عىل شفا اهلاوية ،ومهمة الفكر والشعر حتديد ًا إنقاذ األمة قبل سقوطها يف غياهب النسيان ،ولذا عىل املثقف وعىل الشاعر حتديد ًا بسبب سريورة الشعر أن يواجه املأساة بوضوح جارح ،وأالّ يتهرب إىل اإلغراق يف الرمز ،وأنا لست ضد الرمز اختزان ًا وتكثيف ًا للمشاعر الغائصة يف أدغال كوامننا الداخلية وعىل الرمز يف حالة وجوده أن يكون أكثر داللة وأكثرحضور ًا من الوضوح نفسه .إن التخفي وراء الرمز خوف ًا من القمع يـُلجئ الشاعر إىل شتم كافور األخشيدي مث ً ال للتهرب من الوضوح يف فضح متسلط جمهول االنتامء سيئ املحتوى ،فيغيب دور الشعر ،ويصبح ٍ نخبة ،قد تكون أقرب إىل اهلمس وخماطبة هي نفسها بحاجة إىل التحرير .ومهام كانت داللة الرمز التارخيي فقد يكون اللجوء إليه خروج ًا من التاريخ ،وخروج ًا
املنافذ الثقايف
6ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من اجلغرافية حني يغرق الشاعر يف رماده تارك ًا مجر الفجيعة جيتاح شعبه .والغريب أن هذا التخفي اجلبان جيعل الشاعر مقبوالً من السلطة اجلائرة يف وطنه ،وعىل عداء مع حكام عربوا وزالوا .إن احلاكم الظامل اليوم يقبل أن تفرغ قهرك عىل رأس احلجاج بن كنت يف أعامقك يوسف الثقفي ،حتى ولو َ تريد صب غضبك عىل احلاكم الذي يظلم فرتتك التارخيية كلها ،ويستعمر التاريخ واجلغرافية مع ًا .وقد هيجو الشاعر املعارص حاك ًام يف بلد عريب جماور ومعارص وال ِ يتكلم عىل حاك ِم متسلط عىل ِ وروحه عقله وشعبِه .من هنا عىل الشاعر أن خيلع قبـَّعة اإلخفاء وثوب املهرج والواعظ ليكون مناض ً ال يف خندق املواجهة األول ،علينا أن نُسقط الشعر املنافق والثقافة املنافقة ،حتى ولو كان الشعر مجيل الصياغة ،ولو كلفنا ذلك ما ك ّلف. ويف رأي "سان جون بريس" أن الشعر أقرب إذا مل يكن املطلق احلقيقي فإنه ُ ما يكون إليه" ،وكان الشاعر الصيني "لوتيش" يقول" :نحن الشعراء نصارع الالوجود لنجربه عىل أن يمنح وجود ًا، ونقرع الصمت لتجيئنا املوسيقى ،إننا نأرس املساحات التي ال حدَّ هلا يف قدم مربع من الورق ،ونسكب طوفان ًا من القلب الصغري بقدر بوصة" وهكذا يتحول الشعر إىل جدول يتدفق يف صحارى األرواح القاحلة ،ألن"الصحراء ال زمن فيها" كام يقول غراهام غرين، ولكن الشعر هيبها الزمن والنضارة كام فعل الشعر العريب يف صحارانا .وأهم صفة للزمن أنه متغري ،والغوص يف أعامق
هذا املتغري خلدمة قضايا اإلنسان هي مهمة األديب واملثقف واملناضل ،يقول ناظم حكمت" :املهارة تكمن يف اإلمساك باملتغري ويف التوغل إىل قلبه ،والعمل عىل سهم تغيريه ،حذار من التوهم أن املتغري ٌ منطلق عىل هواه دون قانون أو نظام" ومن هنا تتجلىّ أمهية االلتزام يف األدب أكثر من الكتابات األخرى ،فاألدب يصوغ الوجدان اجلمعي وحيرضه ،وينمي الوعي بسبب اختامر التجربة البرشية يف ذات األديب وصدورها عنه مصبوغة بأحاسيسه ،وهكذا تكون مهمة األدباء تطوير البرشية والتعامل الضوئي مع العامل اجلواين يف النفس اإلنسانية ،وهذا يغذي ّ العقل بدفء يكتسب صفة الديمومة، وجيعله أكثر حضور ًا وتأثري ًا يف املتلقي. وهلذا كان األدب أكثر العلوم نفع ًا لتعامله مع الوجدان والوعي يف آن ،ونفعية األدب ليست مادية يف جوهرها ،ولكن تأثرياته يف املجتمع تصبح إنجاز ًا روحي ًا ومادي ًا ،وهذا ما ينقذ اجلنس البرشي من االنقراض، وهيبه املناعة ضد عنارص التحلل والتاليش التي تصيب املخلوقات األخرى .ونفعية األدب ليست آنية ،ويستمر حضورها بمقدار ما ختتزنه من عنارص اإلبداع واجلامل .إن رس خلود األدب هو انبثاقه من معاناة إنسانية واحتكاك خشن باألشياء وانسكاب هذه املعاناة يف صياغة فنية راقية .فالشاعربتجربته يستبطن العامل ثم يعيد خلقه مصبوغ ًا بالوجدان الساطع يف الكلامت ،وحتَدَّ د قيمة النتاج األديب بمقدار القيم اإلنسانية الساطعة فيه ،ومن هذا الفهم لألدب تتجىل قيمته األخالقية.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 7 إن الرشط األول للمثقف امللتزم واألديب امللتزم هو أن يكون املثقف أو األديب حر ًا ،وأن جياهر باحلقيقة ،حتى ولو كان يف جمتمع مستع َبد ،واحلرية هي التي متنح املثقف واألديب عصمة ضد الزوال ،ومتنحه معنى تكاملي ًا منسج ًام مع سريورة الزمن اإلبداعي ،ألن إلغاء احلرية هي إلغاء للزمن نفسه ،وبذلك تتجمد مفاصل احلضارات ،والتي هي فعل ثقايف وأديب قبل كل يشء ،واحلرية جيب أن تكون موقف ًا يتخذه املثقف ألن انعدامها إلغاء إلنسانية اإلنسان ،واملوقف ينقذ احلرية من مفهومها العام الذي يساء تفسريه أحيان ًا كثرية ،ال بد للحرية يف املثقف أن ممارس قبل كل يشء. تتجسد يف موقف َ ومن الطبيعي أن نؤكد أن قوة االلتزام جيب أن تنبع من عواطف نبيلة ،ألن اهلدف النهائي للفعل الثقايف هي إزاحة الفساد عن طريق اإلنسانية يف سريها إىل األمام .ووجود العواطف النبيلة يف املثقف امللتزم تتمرد عىل السكونية ،وعليها أن متارس فعلها األخالقي مهام كان االشتباك بالقيم املتدنية عنيد ًا ومكلف ًا ،ومعلوم أن االشتباك من سامت العواطف ألهنا متأججة يف صدر من حيملها .إهنا بمثابة مادة متفجرة داخل املثقف امللتزم ،سواء أكان مفكر ًا أم أديبا. ورسالة املثقف امللتزم تكمن يف قدرته عىل تغيري الواقع وتغيري العامل أيض ًا ،ولضامن حرية األديب التي هي أول مداميك البناء احلضاري جيب ابتعاد األديب واملثقف عن االنخراط يف أي نوع من أنواع السلطة، سواء أكانت هذه السلطة سياسية أم ثقافية
أم اقتصادية ،هذا ما يراه سارتر وما يراه إدوارد سعيد الحق ًا ،ولعل يف هذا املنحى ضامن ًا حلرية النتاج اإلبداعي ،ولك َّن هناك أدباء ومفكرين أغلوا حرياهتم عىل وجودهم يف السلطة ،وجعلوا سلوكهم عم ً ال تصحيحي ًا للسلطة نفسها ،ولعل هذا أرفع حاالت املقاومة الفكرية للسلطات التي حتاول تعليب األديب واملثقف وفق مجودية ختدم استمرارها ،ألن اإلبداع هو حركة تصاعدية ومؤرشة باجتاه املستقبل، بينام السلطات تريد مجود الفعل الثقايف ليظل أسري رؤيتها السلطوية .لقد كان ستالني يقول" :الفنانون واألدباء هم مهندسو البرشية" ،ومع ذلك كان جيربهم عىل االنخراط بنتاجهم يف مفهوم "الواقعية االشرتاكية" بمعناها السلطوي ،والذي يرفض هذا التوجه اإللزامي مصريه معروف!! .ومن هنا يبدو االرتباط وثيق ًا بني النتاج احلر والشهادة ،فالكاتب امللتزم يف سلطة جائرة هو مرشوع شهيد باستمرار ،ألن ثقافته تتحول فع ً ال سلوكي ًا، وهكذا جيب أن تكون .وهكذا يكون االلتزام فع ً ال أخالقي ًا يف النهاية حني يصعد باإلنسان وال هيبط به .إن االلتزام هو خوض معركة حقيقية ،رصاصها الكلامت. ومن املستخ َلص من جتربة التاريخ اإلنساين أن املجتمعات البرشية حني متر بمراحل طويلة من االستقرار النسبي تسود فيها مذاهب فكرية ودينية وسياسية تنحو منحى ثابت ًا ،وينجم عن ذلك كالسيكية غامرة يف السياسة واألدب وخمتلف مناحي احلياة االجتامعية ،وقتها يصعب عىل األديب واملثقف اخلروج عىل هذه املفاهيم
املنافذ الثقايف
8ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثابتة ،وينحرص دوره يف صياغة املعاين السائدة وتقليبها عىل أوجهها احلصورة يف الوعي اجلامعي الثابت دون أية إضافة، وقتها يدخل الفكر يف مرحلة السبات، ألن قوة السلطة وقتها ال تكون حمصورة يف السلطة السياسية ،وإنام تتكون هناك سلطات أخرى اجتامعية ودينية ،ويكاد ينحرص التجديد وقتها يف الصياغة .وهذا ال يمكن اخلالص منه إال باحلرية ،ولو غال ثمنها .فالتقليد واجلمودية والتكلس تنسحب عىل القارئ أيض ًا ،وقد قرأنا يف أدبنا نامذج حول هذا عند أيب متام مث ً ال حني سأله أحدهم" :لمِ َ ُ تقول ما ال يـُفهـ َُم" فأجابه أبو متام" :ولمِ َ ال تفهم ما يقال" ،هذا التغري كان خارج الذوق املجتمعي رغم انحصاره يف الصياغة ،وحني نصل إىل أيب العالء املعري يصبح ثمن االلتزام أعىل وأغىل .إن مصلحة السلطات السياسية والدينية واالجتامعية تتطلب سكونية كل يشء ،وهذا ما يناقض حركة التاريخ التي ال تقبل الفراغ وال السكونية ،إن التاريخ كالطبيعة املادية متام ًا متحول باستمرار "إنك ال تدخل يف النهر مرتني".
ومل تكن احلركة الرومانسية التي ثارت عىل وقار كالسيكية القرن السابع عرش وهيمنتها بأفضل حاالً ،ألن األديب يف هذه املرحلة من القرن الثامن عرش انسحب إىل داخله ،وصار نتاجه بكـَّا ًء، وقد قرأنا فيام بعد لعبد القادر املازين يف نقد املنفلوطي حني سماّ ه":احلانويت الندّ ابة"، هكذا كانت الرومانسية ،ويف أفضل حاالهتا كانت نجاوى وصلوات داخلية ال عالقة هلا هبموم الناس وأحالمهم
وأمانيهم .وكانت أوضاع أمتنا تنتظر أدب ًا ملتزم ًا ومتمرد ًا ملقارعة االستعامر والظلم وسكونية احلياة االجتامعية ،وكانت أمتنا مهيـّأة للتخلص من األدب املجاين املسيل والبعيد عن الناس وقضاياهم ،واألدب امللتزم يف حقيقته يكون باحث ًا عن معنى أفضل للحياة ،وهذا املعنى يكون جتاوزي ًا ومؤرش ًا باجتاه املستقبل ،وليس باجتاه املايض الراكد.
وال بد من التأكيد عىل أن أخالقية السلوك عند املثقف امللتزم ال تعفيه من االنحدار حني تكون فنية نتاجه متدنية، ال بد من توفر العنرص اإلبداعي يف النتاج امللتزم ،ألن مجالية اإلبداع يف النص املنتـَج ال تقل تأثري ًا يف النفوس املتلقية عن االلتزام نفسه ،ويف شعرنا العريب كان النتاج األكثر فنية أكثر حضور ًا يف اآلخر، وليس يف زمن الشاعر وحده ،بل يف األزمنة الالحقة ،وستستمر أدبية النص حضور ًا بسبب ألقها اإلبداعي احلامل مهوم النفس اإلنسانية وأشواقها وآالمها وآماهلا.
ومن أزمات املثقف املبدع وجوده يف جمتمع متخلف ،وقتها تكون مسؤوليته مضاعفة للتوفيق بني فنية النتاج وقبول جمتمعه املتخلف له ،وقتها عليها أن يتوكأ عىل فنية الرتاكم املعريف عرب الزمن للتواصل مع جمتمعه ،ورغم صعوبة هذا املنحى فإنه الطريق الوحيد النخراط املتلقي يف نتاجه، وهنا تتدخل املهارة والذكاء واستعامل الرموز التارخيية الدالـّة عىل املعاصرَ ة ،لقد "التصالح" للشاعر املبدع كانت قصيدة ْ "أمل دنقل" أقوى رد ثقايف عىل "اتفاقية كامب ديفد" ،لقد حرض تراكم الفعل
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 9 التارخيي املؤثر يف إيقاظ الدم العريب النائم يف "كامب" السياسة املذلة .وهكذا يصبح األدب امللتزم غاية ،ألن غايته اإلنسان، فهو ال يتسم باملرحلية واآلنية ،وال بد لعمر األدب امللتزم أن يكون طويالً، وطوي ً ال بطول هواجس اإلنسان وأحالمه وتطلعاته .وال بد يف الثقافة امللتزمة من إخضاع الوسيلة للغاية ،أي إخضاع مجالية الصياغة لغايتها األخالقية التحريكية اهلادفة ،ولكن جيب هنا أن نؤكد أن مهمة األديب والشاعر ختتلف عن مهمة رجل الدين الوعظية ،مهمة األديب هي خلق اجلامل املوحي واملؤثر ،والذي يمكن أن نسميه فع ً ال ثوري ًا بامتياز ،ألنه يتعامل مع قلق النفس البرشية املتطلعة باستمرار إىل ما ليس ثابت ًا وهنائي ًا ،وما أروع املتنبي حني عرب عن ذلك بقوله:
عىل ٍ الريح حتتي قلق كأن َ أرصفـُها جنوب ًا أو َشامال ِّ
هذا القلق املستبد هو الذي هيدد سكونية العامل والسلطان حتديد ًا .إنه قوة مؤثرة ،والذي يملك قوة التأثري هو املنقذ من الرشور ومن احلروب وويالهتا ،وإذا كانت السلطات السياسية تريد بناء اإلنسان فاألدب متقدم عليها ،ودليل هلا ألنه يقنع الوجدان اجلمعي ،وإذا كانت نفعية السلطة حمصورة باملادة ،فهي متناقضة مع نفعية األدب ،وهذا يعني أن األديب املبدع هو الذي يبتعد عن تلوث السلطة وإغراءاهتا وعن النفعية املادية باعتباره حامل رسالة، وعند أصحاب الرسالة تكون الرسالة أهم من النجاح نفسه ،فاألديب املبدع نقيض للسلطة .ولذا حتاول السلطات أن
تلزم األديب باالنحياز هلا ،وإذا استجاب األديب لرتغيب السلطة وترهيبها فقدَ معنى وجوده ،وانتقل من حال االلتزام إىل حال اإللزام ،وأبرز نامذج هذه احلال املرحلة الستالينية وأدجلة األدب ،وإذا كان البد من انحياز األديب فانحيازه املؤدلج جيب أن يكون طوعي ًا ،وخارج كل رقابة سلطوية ،وجيب أن تكون األيديولوجيا انحياز ًا لقضايا اإلنسان األوىل ،وأن تكون الحقة لالنحياز الداخيل يف اإلنسان .إن مرحلة تعليب الفكر باأليديولوجيا من اخلارج تقتل اإلبداع ،حتى ولو كانت هذه األيديوجيا إنسانية املنطلق وكونية الغايات، فااللتزام ال يمكن فرضه من اخلارج ،وقد انتبه النقاد منذ القدم هلذا فقال األصمعي يف شعر حسان بن ثابت األنصاري":حسان ٌ فحل من فحول اجلاهلية ،فلام جاء اإلسالم سقط شعره" ،هذا مع ما للعقيدة اإلسالمية من أبعاد إنسانية وروحية .إذ ال يمكن وضع حراس ملنع مترد الروح عىل اجلدران واألبواب املوصدة السميكة .إن حرص املوهبة قتل هلا ،وأعىل االلتزام ما سطع من الداخل ،وسمت به األيديولوجية ألنه مبرش هبا ونذير.
إن املوقف الفكري امللتزم هو فعل مسبق وإضايف ،ويصبح تارخيي ًا بمقدار حضوره يف املستقبل ،وإذا كانت روعة الفكر امللتزم أو األدب امللتزم تنبع من يتحول سالح ًا من إنسانيته وأخالقيته ،فإنه َّ أسلحة التدمري الشامل حني يكون التزامه عنرصي ًا وشوفيني ًا استعالئي ًا ،إن النازية نفسها كانت نتيجة فكر نازي عنرصي، وكذلك الصهيونية التي تنظـِّر ألفضلية
املنافذ الثقايف
10ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جمموعة برشية عىل غريها تكويني ًا ،وقتها يصبح الفكر مرض ًا ،وااللتزام به دمار ًا، وهذا ما أنتجته النازية والصهيونية من ويالت وحروب وظلم واستبداد ،كل ذلك حصاد فكر متطرف يؤدي إىل فعل متطرف تعاين منه احلضارة اإلنسانية .ومع أن الصهيونية تقول :إن النازية كانت سبب ًا ملآيس الشعب اليهودي ،فإهنا متارس ضد الشعب الفلسطيني ما مارسته النازية ،إهنا سفاح ٍ فكر الختتلف أبد ًا عن النازية ،إهنام ُ ِّف السكني بدالً واحد متعصب راح ينظـ ُ من تنظيف اجلرح.
ومع أن اهلوة ال تزال شاسعة بني مفهوم االلتزام يف الرشق والغرب تبع ًا لظروف كل منهام ،ولنظرة كل منهام هلموم واقعه وتكوينه الفكري والروحي ،ولكن قضية اإلنسان يف العمق ُّ تظل واحدة. ولعل ثورة االتصاالت احلديثة وما نتج عنها من تواصل كوين ومعريف وتقارب يف فهم مشكالت العامل ،كل ذلك جعلنا اليوم مطالبني بجعل الفكر اإلنساين واألدب اإلنساين متحد ْين يف نضاهلام ضد العوملة اجلشعة اآلكلة حلم الشعوب الضعيفة باسم تعميم احلضارة الكونية ،مع ًا جيب أن نقاوم اسرتاتيجية الرشكات االحتكارية التي حولت اإلنسان إىل رقم استهالكي، ومع ًا جيب أن نقاوم رشكات اإلرهاب التي أوجدهتا اإلمربيالية الغربية التي تدعي أهنا حتارب اإلرهاب ،ولنقاوم احلروب التي تستنفد موارد الطبيعة وجتعلها لألقوياء، ومع ًا جيب أن نتصدى للتغيري املناخي الذي سببه جشع الرشكات االحتكارية، واالنفجار السكاين الذي بدأ يطغى عىل
قدرة الطبيعة يف حفظ توازهنا وحكمتها، وال بد من حماربة التطرف الديني املتناقض مع روح الدين السمحاء .وال بد من ختليص احلضارة الغربية من ماديتها التي ال ترى يف اإلنسان غري سلعة يف السوق ،والتي حتجر قلبها فأعملت قوهتا يف قتل روح اإلنسان املعارص واملتاخم هلا عىل هذا الكوكب الذي يكاد يشيخ من كثرة األثقال التي ألقيت عىل كاهله ،البد من مقاومة ذلك اإلعالم األجوف اخلايل من اإلحساس بفعل انحيازه للطغيان والظلم واالحتكار.
إن االلتزام وقتئذ بقضايا اإلنسان الكربى يغدو تأسيس ًا جديد ًا للوجود، ولعل األديب والشاعر حتديد ًا مطالبان أكثر من غريمها بالوقوف يف وجه هذا الطغيان املعومل اجلشع ،إن رسالة األديب تتجىل يف انحيازه الكامل لنرصة القضايا العادلة ،وجيب أن نكون بالتزامنا مطمئنني لتوجه العامل للطيبة والسالم قبل أن نغادره .هذه هي رسالة االلتزام الفكري، يقول األديب الرويس تشيخوف كالم ًا ال يف هذا االجتاه" :ال ْ مجي ً تقل يل كم هو القمر ميضء ،بل أرين وميض ًا من الضوء عىل زجاج حمطـَّم" ،إن هذا انحياز لقوة احلق عند الشعوب التي تكالب عليها االستعامر واالحتكار ،إنني أقبل أحيان ًا كتابة فيها ٌ خلل معريف ،ولكنني ال يمكن أبد ًا أن أقبل كتابة فيها خلل أخالقي، مطالب باستمرار وهذا يعني أن األديب ٌ أالّ يغرتب عن قلبه وروح جمتمعه. وااللتزام جيب أن يكون دائ ًام مقرتن ًا باألمل بانتصار القيم اجلميلة ،ولذا عىل األديب أن َّ يظل حام ً ال شمسه اخلاصة به،
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 11 حتى ولو كان يف جوف زنزانة مظلمة ،هبذا وحده يستطيع األديب امللتزم أن يساعدنا عىل اخلروج من ظلامتنا ،ويبقى األمل هو الزمن املستقبيل يف اإلنسان ،وهو القادر عىل نرش الواحات يف صحارى أعامرنا القاحلة. وعىل األديب امللتزم أن يتدخل "فيام ال يعنيه" كام يقول سارتر ،ألن كل يشء يعنيه يف النهاية باعتباره رسوالً يتلقى وحيه من قم ُع األديب، آالم ذاته وآالم جمتمعه ،وقد ُي َ وقد يدفع عمره ثمن ًا ملوقفه ،وقد ُيرمى بالزندقة ،ويقتل ،ولكن عمره احلقيقي يمتد يف موقفه ليكون يف النهاية أكثر حضور ًا من كثري من األحياء احلارضين الغائبني .لألدباء امللتزمني قدرة وجدانية عالية عىل إلغاء احلروب ،واألصوات العالية تصبح أندى عىل اإليصال يف زمن َّ قل فيه االلتزام وقلـ َّْت فيه األخالق.
ٍ وبشكل حمموم، تثار يف هذه األيام، فكرة ،كانت و ّملا ْ تزل مدار نقاش بني الفئات التي اختذت الكتابة مهنة وسالح ًا وغاية ،هل غاية النتاج األديب السفر إىل الساموات العىل ،وانقطاعه عن حبل رسته الذي يشده باستمرار إىل أصوله التكوينية، وهل يكفي أن يكون هذا النتاج للنخبة، أم املطلوب أن يغوص األديب يف وحل جمتمعه وقضايا أمته ،وهل النتاج الثقايف اإلنساين اخلالد الذي تربينا عىل غائيته كان بعيد ًا عن قضايا اإلنسان الكربى !! فإذا كانت الثقافة فع ً ال إنساني ًا ،فاإلنسان غايتها يف النهاية ،إننا نكتب لإلنسان أوالً وأخري ًا ،وهذا يعني أن كل كتابة هادفة ،وهلذا عليها أن تكون لصيقة أكثر
بالقضايا التي تسمو بإنسانية اإلنسان .إن شعبك بحاجة إليك أكثر مما أنت بحاجة لعامليتك ،ولن تصل إىل عامليتك إال عرب التصاقك بقضايا شعبك أوالً.
إننا أمة موتورة ،وخنادقها مطمورة بالشهداء ،وقضيتنا عادلة ،إننا نريد أن نكون أحرار ًا يف أفكارنا وأعاملنا دون أن نعتدي إال عىل من اعتدى علينا ،ومع ذلك تُسلـَب أحالمنا ،وتصنع أقدارنا عىل موائد الرشكات االحتكارية اجلشعة، ُغتصب أوطاننا ،وحتكمنا أصنام جتربنا وتـ َ عىل السجود هلا ،ألهنا ترى نفسها معصومة عن الزلل والزوال رسمدية ال حتول وال تزول ،حتيي ومتيت ،وتتناسل تناس ً ال استخباراتي ًا حييل اإلنسان رق ُام يف الزنازين واألقبية املرعبة ،ودمنا يتحول نفط ًا تـُمأل به أجواف الطائرات التي تقصف أهلنا يف غزة واجلنوب اللبناين والعراق ،كل هذا وكثري من أدبائنا ومفكرينا ينسون هذا ألهنم مهتمون بنيل جوائز من قتلونا، ويذهبون إليهم طامعني وطاحمني ،ياملئون السكني التي تذبحنا لنيل أوسمة وجوائز يعجز املتخمون من اجلوع والظلم والقهر عن إحصاء أرقامها املالية املرسوقة من دمنا وخبز أطفالنا ،هذه الفئة من املفكرين واألدباء هي أخطر من االحتالل نفسه، ألهنا تسخـِّر أقالمها لتعميق جراحنا، ولتامرس دور الساحر واملهرج ،إهنا تدافع عن الشيطان بحجة أنه مالك ،وبحجة أننا متخلفون ،ومل يعد يف األرض سبب لبقائنا أحياء نُرزق. تثار هذه القضية يف زمن اجلوائز العاملية التي يتهافت عليها األدباء والكتاب
املنافذ الثقايف
12ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكبار ،وأعني كتابنا ،ومفكرينا وشعراءنا، مل نعد بحاجة إلبداعهم ،لقد علمتنا جراحنا عىل كتابة الشعر ،وعلمتنا الزنازين عىل عشق الشمس ،وعلمنا السلطان عىل انتعاله والبصاق عليه .لقد علمنا السوط عىل رفع الصوت ،وسنتعلم أكثر كلام ازداد وعي أطفالنا ،إننا بحاجة إىل جوائز نحصل عليها من عيون أطفال غزة املحارصة بالغيم األمحر والظلم وأحذية الغزاة والصمت العريب املخزي ،إننا بحاجة للكتابة عن أولئك الذين يبيتون يف العراء حتت العصف والثلج ونباح الكالب اجلائعة كأطفاهلم .إننا بحاجة للبحث عن كثري الضامدات الروحية التي حتتاجها
أرواحنا املكلومة من سهام الصهيونية والنفاق الغريب املنحاز هلا يف عرص بدت فيه سوءات احلضارة املادية بأوضح صورها. إننا نرفض األقالم املنحازة لتربئة الذئب من أشالء الضحية .كيف نقبل جائزة التنحاز ألطفال غزة وجوع أهلها ،كيف ننحاز جلائزة ال تدين الصهيونية والغرب املتآمر معها عىل أحالمنا املطمورة يف الزنازين واألقبية .اجلائزة ال تكون إنسانية إال إذا انحازت لإلنسان املظلوم دون النظر لدينه أو عرقه أو فكره.هكذا نفهم االلتزام ،وهكذا مارسناه ،وهكذا سنظل نامرسه ،وسننترص عىل الظلم ألنه نقيض احلياة وعدوها.
عـمـر شــبلـي
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 13
مكونات املجمتع الدولي في القرن الواحد والعشرين رغيــد الصـلح يستأثر موضوع نشوء وتطور القومية يف العامل باهتامم كبري بني علامء السياسة واالجتامع .وخيتلف هؤالء اختالفا واسعا حول هذه القضية .وتعددت أوجه هذا االختالف فانصب أحيانا عىل تاريخ القومية وتطورها .اتفق أكثر هؤالء عىل حتديد حمطة االنطالق التارخيية للقومية يف العامل ،ولكن لكي ينقسموا بعدها اىل مدرستني سوف نتوقف عندمها الحقا.
متى بدأ عرص القوميات؟
يتفق أكثر املعنيني باملسألة القومية، مثل املؤرخ الربيطاين البارز اريك هوبزبوم الذي تويف قبل أشهر قليلة، عىل أن ما يدعى بعرص القوميات بدأ يف منتصف القرن التاسع عرش تقريبا .ولقد تنوعت احلركات واملشاريع القومية التي نشأت خالل هذه املرحلة .فهناك مشاريع رمت إىل ترسيخ «الوحدة القومية» يف دول كانت موجودة أصال .وهناك مشاريع هدفت إىل حتقيق الوحدة القومية بني دول متعددة ،وهناك مشاريع جلامعات كانت تريد االنسالخ عن دول وإمرباطوريات موجودة لكي تؤسس دولتها القومية. النموذج األول عرفناه يف فرنسا
حيث كانت املحطة األوىل يف الرحلة القومية هي انتخاب لويس نابليون الثالث رئيسا للجمهورية الفرنسية عام ،1848ثم تتوجيه امرباطورا عىل فرنسا. وخالل حكمه سعى نابليون إىل ترسيخ مركزية الدولة الفرنسية عىل حساب الرصاعات االجتامعية احلادة التي طبعت احلياة العامة .واختذت عملية «القومنة» طابعا مماثال يف دول أخرى عندما سارت بدفع من حوافز مشاهبة ومشرتكة اال وهي تنظيم املجتمعات والدول عىل أساس املبدأ القومي الذي يشدد عىل اهلوية ووحدة الكيان واالرض والتامثل املجتمعي والثقايف .فروسيا كانت موحدة ولكنها مل تكن تشكل جمتمعا متامسكا وقويا قادرا عىل توظيف كافة طاقاته يف توفري احلامية للروس .انكشفت هذه الثغرات خالل حرب القرم التي نشبت يف منتصف القرن التاسع عرش بني روسيا من جهة وفرنسا وبريطانيا واالمرباطورية العثامنية ورسدينيا ،من جهة اخرى .ومنذ ذلك الوقت حاول حكام روسيا تعزيز مركزية الدولة وحتديثها بحيث ينطبق عليها توصيف الدولة القومية.
املنافذ الثقايف
14ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعرفنا النموذج الثاين من املشاريع القومية يف املحطات األهم لرحلة القوميات التي جتلت يف ايطاليا واملانيا .فقد حقق البلدان وحدهتام القومية خالل ربع قرن تقريبا وأكمال عملية االندماج القومي بحلول عام .1870وعرفت الواليات املتحدة هنجا قوميا يشبه ذاك الذي طبع احلركتني القوميتني يف ايطاليا واملانيا .فهي كانت تتأرجح بني كيان كونفدرايل يضم عدة دول مستقلة جتمعها رابطة تعاون، وبني كيان فدرايل يف شامل البالد االمريكية يضم واليات متتلك استقالال ذاتيا ولكنها خاضعة لسلطة فدرالية ،وما لبثت احلرب االهلية االمريكية أن حسمت االمر فأنشأت الدولة االحتادية «القومية». وشهدنا النموذج الثالث يف العديد من دول اوروبا التي كانت تضمها االمرباطوريات الكربى ولكنها مل تلبث أن استقلت وأعلنت دولتها القومية .من هذه الدول كانت اليونان التي بدأت إرهاصات احلركة القومية فيها خالل عام 1814لكي تتحول إىل ثورة ضد االمرباطورية العثامنية وحتقق هدفها االستقاليل بدعم من الدول االوروبية الكربى يف عام .1832
انتهت مرحلة التحول القومي خالل احلرب العاملية االوىل ،كام يقول هوبزبوم يف كتابه الشهري" ،األوطان والقوميات منذ "1780لكي تبدأ بعدها مرحلة "الذروة القومية" خالل عام .1918ولقد افتتح الرئيس االمريكي وودرو وليسون هذه املرحلة عندما تبنى فكرة حق الشعوب يف تقرير مصريها ،وحاول إرساءها كأساس للنظام الدويل اجلديد الذي انبثق من حطام
احلرب العاملية االوىل.وأبدى ويلسون يف مرشوعه الذي دعي "بالنقاط األربع عرشة" اهتامما بمصري األرايض والشعوب التي كانت تابعة لالمرباطوريات ومنها االمرباطورية العثامنية .ومل يدع ويلسون إىل التحرير الفوري للشعوب والقوميات التي كانت جزءا من هذه االمرباطوريات، إال أنه دعا إىل حتقيق هذه الغاية بصورة متدرجة يف البالد التي نمت فيها حركات قومية أصيلة .فضال عن ذلك فقد اقرتح يف مرشوعه اآلليات والطريق املفضية إىل إمتام األهداف القومية بام يف ذلك إنشاء أجهزة ملراقبة مدى تقيد الدول املنتدبة بتطبيق النقاط االربع عرشة .ولقد ضاعف من أمهية هذه الفكرة ومن مغزاها يف العالقات الدولية تبني لينني الزعيم السوفيايت هلا أيضا. اعترب تبني الزعيمني ،االمريكي يف الغرب والسوفيايت يف الرشق ،للحق يف تقرير املصري دعام قويا للفكرة القومية، وإيذانا بتوسيع انتشارها وحتقيق أهدافها ومشاريعها عىل نطاق دويل واسع .وعلقت شعوب اآلمال العريضة عىل هذا املوقف الدويل املشرتك الذي تبنته دولتان من دول العامل الكربى .وكان العرب من بني هذه الشعوب خاصة بعد أن عمل ويلسون عىل تشكيل جلنة كينغ كرين لتقيص احلقائق يف املرشق العريب .ولقد أوصت اللجنة بتبني الدعوة اىل حتقيق املرشوع العريب الوحدوي ،كام جاء يف تقريرها نقض رصيح لوعد بلفور الذي اعترب انه من املمكن تنفيذ املرشوع الصهيوين بدون انتهاك حقوق اجلامعات الدينية االخرى
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 15 يف فلسطني .لقد جزم التقرير بأن املرشوع الصهيوين لن يطبق إال بقوة السالح وعىل حساب هذه اجلامعات الدينية .وكان هذا التدخل املبارش من الرئيس ويلسون جتاه القضايا العربية نموذجا للسياسات التي كان من املتوقع أن يطبقها عقب جتديد واليته الرئاسية .ولكن االنتكاسة السياسية التي أصابت ويلسون واحلصار السيايس الذي رضب عىل روسيا بعد انتصار البالشفة فيها أديا إىل نتائج خمالفة هلذه التوقعات. رغم االنتكاسة الكربى التي أصابت احلركات القومية يف العامل نتيجة الرتاجع الذي اصاب االحتاد السوفيايت والتيار الليربايل األممي ممثال بوودرو ويلسون يف الواليات املتحدة فان «عرص الذروة القومية» استمر حتى منتصف القرن العرشين حيث متكن العديد من احلركات القومية من حتقيق هدف إقامة ’الدولة القومية‘ املستقلة سواء أكان ذلك عن طريق النضال السيايس أم العسكري أم االثنني معا .ولقد كانت حرب السويس ضد مرص عام 1956والنتائج التي متخضت عنها مفصال تارخييا حاسام يف هناية االمرباطوريات يف العامل التي لبثت العائق األهم أمام حتقيق أهداف احلركات القومية يف العامل.
تاريخ مشرتك لإلمربيالية والقومية؟
بينام يتفق الكثريون من املؤرخني وعلامء السياسة واالجتامع ،كام أرشنا أعاله ،عىل أمهية الدور الذي لعبته احلركات القومية خالل املراحل التارخيية
التي امتدت بني منتصف القرن التاسع عرش والقرن العرشين ،فإهنم خيتلفون عىل مصري القومية بعد حرب السويس، فاهنم ينقسمون إىل مدرستني رئيسيتني: واحدة اعتربت أن باب السياسة العاملية الذي انفتح أمام القومية خالل مراحل تارخيية معينة ما لبث أن أوصد بحيث أن احلركات القومية التي ختلفت عن دخول الباب يف حينه فوتت عىل نفسها ،إىل األبد، فرصة تأسيس دولتها القومية .والثانية، اعتربت أن الباب الذي انفتح حلظة ولوج القوميات املرسح العاملي ال يزال مفتوحا حتى تارخينا هذا.
مدرسة «هناية عرص القوميات». إن حرب السويس مل متهد إىل خروج االمرباطوريات من مرسح التاريخ فحسب،
وانام سامهت أيضا يف إخراج احلركات القومية منه ايضا .بتعبري آخر ،كان للقوميات عرصها وزماهنا يف املرحلة التي بدأت بمنتصف القرن التاسع عرش يف أوروبا مع صعود البورجوازية واضطالعها بتحقيق الثورات الصناعية وتوسيع السوق الداخلية عن طريق الوحدات القومية.
أما خارج اوروبا فقد اقرتن صعود احلركات القومية بانبثاق حركات النضال من اجل االستقالل القومي التي وحدت طبقات وفئات اجتامعية وسياسية ضد االستعامر واالنتداب وأنظمة احلامية ومشاريع اإلحلاق. متيز هذه الفكرة بني نوعني من احلركات القومية :واحد متكن ،بفضل ظروف ذاتية وخارجية مناسبة من حتقيق أهدافه ،وآخر مل يستطع حتقيق تلك االهداف .هكذا
املنافذ الثقايف
16ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فان احلركات التي فاهتا القطار وعجزت عن حتقيق مشاريعها القومية ،توحيدا او انفصاال ،خرست الفرصة اىل األبد ،وبات عليها أن تبحث عن هدف جديد حيرك خميلتها ويلهم منارصهيا. مقابل هذه املدرسة ،فان املدرسة الثانية التي تعتقد باستمرارية القومية كالعب وفاعل أسايس عىل املرسح الدويل تعتقد بان نظرة املدرسة االوىل خاطئة ،ويذهب البعض من القائلني باستمرارية القومية إىل القول إن القرن الواحد والعرشين هو جتديد لعرص القوميات .وكام كان األمر خالل عرص القوميات االول ،يرى أصحاب هذه النظرية أن القومية اليوم تتجىل بأكثر من وجه .فهي تشكل حافزا إىل االنقسام واالنفصال احيانا .باملقابل فإهنا تشكل حافزا إىل الوحدة ،أو حافزا إىل ترسيخ اهلوية واملصالح القومية للبلد املعني .وفيام يالحظ هؤالء وغريهم من متتبعي تطور الظاهرة القومية ارتفاع عدد املنظامت واالحزاب العنرصية املتطرفة التي ترتدي اللباس القومي مثل اجلبهة القومية بزعامة لوبن يف فرنسا أوحزب احلرية بزعامة خريت ويلدرز يف هولندا التي تبقى مهام تفاقم أمرها ظواهر طارئة عىل احلياة العامة يف البلدان املعنية .فان الذين يؤكدون أمهية الظاهرة القومية يف القرن الواحد والعرشين ال يتوقفون كثريا عند هذه االحزاب واحلركات ،وانام يشددون عىل أمهية ما يدعى ’القومية املؤسسية‘ املتجذرة يف النخب احلاكمة،والتي تعرب عن مشاعر االكثرية من املواطنني عرب مروحة واسعة من االحزاب التي تنتمي
اىل اليمني والوسط واليسار.
ويعتقد قسم من هؤالء أن الدليل األبلغ عىل صواب هذه النظرة هو جتليات النهج االنفصايل للقومية املؤسسية يف دول اوروبا الرشقية والوسطى .فأكثر هذه الدول كان ينتمي إىل املعسكر االشرتاكي الذي كان يستلهم األممية ،ويرى يف القومية عقبة أمام خالص البرشية من املظامل االجتامعية واحلروب ،ويتوقع حتمية زوال هذه العقبة .ولكن هذه التوقعات مل تتحقق ،فاهنار املعسكر االشرتاكي وكانت العصبية القومية السبب األهم يف اهنياره كام اكد زعامء االحتاد السوفيايت السابق. وامتدت اآلثار االنفصالية لصعود القومية ،كام يالحظ الذين يؤكدون أمهيتها يف القرن الواحد والعرشين إىل يوغوسالفيا وتشيكوسلوفاكيا اللتني انقسمتا اىل عدة دول عىل االساس القومي. باملقابل فإن الصعود القومي خالل املرحلة اجلديدة برز أحيانا عرب االندماج التوحيدي كام حصل يف االملانيتني بعد سقوط جدار برلني وانضامم املانيا الرشقية إىل املانيا الفدرالية الغربية .بذلك حتقق احللم االملاين القومي القديم يف حتقيق الوحدة االملانية ويف حتول املانيا إىل كربى دول اوروبا وقاطرة حتوالهتا التارخيية. أما صعود الظاهرة القومية عرب ترسخها وتأكيد حضورها يف سياسات الدول وخياراهتا فقد برز يف الواليات املتحدة والصني اللتني تتنافسان عىل الزعامة الدولية اليوم. ويتلمس بعض علامء السياسة واالجتامع ظاهرة تزايد التعصب القومي
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 17 عرب دراسة سلوك بعض اجلامعات الناشئة حديثا مثل املحافظني اجلدد او حفلة الشاي ،باملقابل فإن بعض األكاديميني يدرسون هذه الظاهرة عرب متابعة جذورها االقتصادية فيؤكد كل من جيمس روبنسون من جامعة هارفرد وتيريي فريدييه من كلية باريس لالقتصاد ودارون عاصم اوغلو من جامعة ام .آي.يت عىل اخلصوصية القومية للواليات املتحدة عرب التصنيف االقتصادي الذي يقدمونه لدول العامل. يف هذا التصنيف تربز استثنائية النظام املجتمعي للواليات املتحدة التي تستلهم، دون غريها ،نموذجا حادا للرأساملية. يشكل هذا النموذج الذي يعيش فيه املواطن حتت «ضغط املنافسة القاسية مما حيفزه اىل االبتكار واإلبداع ،الذي يعترب املعلم االكرب للقومية االمريكية اليوم».
ال حيتاج املرء اىل التفتيش كثريا عن مظاهر قومنة النظام يف الصني، فهذه الظاهرة منترشة عىل كل صعيد ويف كل حدث مثل املؤمتر الثامن عرش للحزب الشيوعي الصيني .الذي سبقته محالت توعية وتثقيف حول االنبعاث القومي الصيني .وينظر البعض اليوم اىل الشيوعية كعقيدة صينية ختتلط تعاليمها مع الكونفوشيوسية أكثر مما ينظرون إىل الصني كبلد شيوعي .وعندما يبحث املختصون يف الدراسات الصينية مثل جان بيري كابيستان من اجلامعة املعمدانية يف هونغ كونغ شؤون الدولة العظمى القادمة عىل الطريق فإن مدار النقاش ال يكون ما إذا كانت الصني اليوم هي قومية أم ال .يف أكثر احلاالت يكون النقاش
هو أي هنج قومي تعتمده الصني :هل هو القومية الديمقراطية الذي ينصح به كابيستان؟ ام هو القومية الفاشية اجلذور التي حتذر منها ديدي كريستني تاتلو، املعلقة يف صحيفة اهلريالد تريبيون الدولية (.)2012/11/1
القرن الواحد والعرشين وظاهرة النيو قومية
هل تعني هذه الظواهر وغريها من الظواهر املشاهبة الكثرية أننا امام عرص النيو قومية؟ أم أننا أمام نوع االنتعاش املؤقت للمشاعر القومية معرض للزوال الرسيع بعد إعادة تشكيل النظام الدويل عىل أسس جديدة اقرب إىل واقع اخلريطة السياسية يف العامل؟ جوابا عىل هذا السؤال ،وبعد متابعة تطور النظام الدويل الراهن واملتغريات الدولية يمكننا التوصل إىل املالحظات التالية:
األوىل ،هي أن العصبيات القومية تتعمق وتتفاقم .وليس املقصود هنا تلك العصبيات التي تعرب عنها أحزاب وحركات اليمني املتطرف يف بعض املجتمعات الصناعية بصورة خاصة .ولكن املقصود هنا هي "القومية املؤسسية" املرتسخة بني النخب احلاكمة يف بعض الدول الصناعية أو يف بعض الدول الصناعية احلديثة. ثانيا ،جنبا إىل جنب مع انتشار هذه الظاهرة يف جمتمعات كثرية ،فإنه يمكن القول إن الدولة القومية ،أو باألحرى دولة األحادية القومية ،مل تعد أساسا حرصيا النظام الدويل .فهناك اكثر من منافس للقومية عىل حيازة هذه املكانة العاملية.
املنافذ الثقايف
18ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويعزو البعض تراجع هذه املكانة احلرصية للقومية إىل ثغرة رئيسية فيها أال وهي أهنا مل تتمكن من تقديم تفسري مقنع ومتامسك لنشوء الدول ولتكوين املجتمعات البرشية. قدمت تفسريات معقولة لنمو الظاهرة القومية عندما ربطت بينها وبني عامل اللغة كعنرص أساس يف تكوين املجتمعات البرشية ،ولكنها مل تقدم تفسريا مقنع ًا عندما أعلنت أنه ينبغي أن يكون لكل قومية دولة مستقلة ولكل دولة مستقلة قومية واحدة تنهض عليها.
ثالثا ،إن العوملة هي أول املرشحني وأبرزهم ملنافسة الدولة القومية بحيث عادت إىل التداول اليوم األحاديث التي راجت خالل احلرب العاملية الثانية حول قيام احلكومة العاملية والربملان العاملي. ورغم أن البعض دعوا إىل إحياء هذه األفكار توخوا الوصول من خالهلا إىل متكني شعوب العامل من املشاركة يف صنع واقعها ومستقبلها ،إال أن الواقع يقول إنه جرى توظيف مثل هذه الدعوات يف خدمة نزعات اهليمنة يف العالقات الدولية مما أدى إىل إضعاف هذه الدعوات وتراجعها.
رابعا ،مع تراجع وتعثر العوملة، بدت مشاريع التكتل االقليمي األقلمة كمنافس أكثر صدقية للدولة القومية عىل مكانتها كركن وحيد للنظام الدويل .إن هذه التكتالت ،وخاصة االقتصادي منها، تسري يف خط تصاعدي مستمر ليس عىل حساب املكون القومي للكيانات الدولية فحسب ،وإنام أيضا عىل حساب مشاريع العوملة كام يالحظ ريتشارد بولدوين أستاذ االقتصاد الدويل واملستشار االقتصادي
السابق يف إدارة جورج بوش األب.
يعزو البعض تطور التكتالت اإلقليمية عىل حساب الدولة القومية أو الدولة الرتابية يف النظام الدويل اجلديد إىل مجلة عوامل يأيت يف مقدمتها ما ييل:
)1التطور الكبري عىل صعيدي االقتصاد واملواصالت .فاالسواق تتوسع
باستمرار حتت ضغط التنافس وبحث املنتجني عن زبائن جدد لتسويق منتجاهتم ،وتلبية هلذه احلاجات يأيت التطور يف املواصالت ومد شباكها بحيث تتجاوز الدولة الرتابية .هذا ما تعتزم دول جملس التعاون اخلليجي عىل سبيل املثال ال احلرص حتقيقه بإنفاق ما يقارب مئة بليون دوالرا خالل العقد الراهن عىل بناء حوايل 6000آالف كلم .من السكك احلديدية والطرق الرسيعة التي تربط دول املجلس بعضها بالبعض اآلخر فتسهل التنقل والتجارة بني وعرب دوهلا.
)2املنافع املالية التي حتققها السلطات الرسمية واألفراد معا .فالكيانات الكربى ،حتى ولو مل تكن دولة موحدة ،تتمكن يف ختفيض نفقاهتا عرب االستغناء عن العديد من اإلدارات واألعباء واملهام املرتاكمة واملتكررة التي تتطلبها الوحدات التي تتكون منها هذه الكيانات .مقابل توفري املبالغ اهلائلة يف النفقات ،قد تربز هنا وهناك نفقات إضافية بسبب تأسيس التكتالت اإلقليمية .فميزانية االحتاد االورويب السنوية تصل اىل ما يفوق املئة بليون يورو .هذا يعني أنه عىل كل مواطن
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 19 ومواطنة اورويب دفع ما يقارب 220
يورو إىل االحتاد .ولكن هذه الرضيبة تشكل مبلغا ضئيال باملقارنة باملنافع الكثرية التي حيصل عليها االوروبيون من جراء قيام االحتاد ،وباملقارنة أيضا مع النفقات الكربى التي يمكن االستغناء عنها مع كل خطوة ختطوها دول االحتاد عىل طريق التكامل والتكتل.
)3إن التكتالت اإلقليمية تقدم ضامنة أكرب لقيام النظم الديمقراطية واستقرارها. يف رشحه ألفضلية الكيانات الكربى عىل الصغرى ،قال جيمس ماديسون ،زعيم الفدراليني األمريكيني يف رده عىل دعاة االنفصال والتفكك إن "األكثرية يف املجتمعات الصغرية او حتى املتوسطة احلجم قد جتنح ،بحكم عدد سكاهنا ومواطنيها إىل انتهاك حقوق األقليات، أما يف املجتمعات الكبرية فانه سوف يكون من األصعب عىل هذه األكثرية أن تكتشف قوهتا العددية وأن تترصف كعصبة موحدة ضد األقلية الضعيفة وأن تسلبها بالتايل حقوقها وحرياهتا". يضاف اىل هذه احلقيقة املوضوعية أن قيام التكتالت اإلقليمية رافقه اهتامم رصيح من قبل هذه التكتالت بدعم مشاريع التحول الديمقراطي داخل اإلقليم .بدأ هذا املسار مع السوق االوروبية املشرتكة التي متكنت من نرش هذا التحول يف سائر الدول االوروبية رشقا وجنوبا .بموازاة ذلك ،حتولت املنظامت اإلقليمية يف امريكا الالتينية وجنوب رشق آسيا وأخريا افريقيا إىل أدوات لتعميم الديمقراطية والتطور
السيايس السلمي حيث تدخلت قوات االحتاد االفريقي او قوات املنظامت اإلقليمية الفرعية انتصارا للسلطات الرشعية املنتخبة.
)4سامهت التكتالت االقليمية يف محاية الدول األعضاء من مشاريع اهليمنة الدولية .هذا ما يلمسه املرء بوضوح يف امريكا الالتينية حيث قدمت سوق امريكا اجلنوبية (مريكوسور) شبكة أمان سيايس واقتصادي للدول األعضاء لكي تتمكن من ولوج طريق التنمية الرسيعة والتحول الديمقراطي .كذلك سامهت هذه التكتالت يف حتقيق سالم إقليمي بني الدول األعضاء وحتى عىل املستوى اإلقليمي األشمل .اإلنجاز األهم عىل هذا الصعيد كان عىل مستوى القارة االوروبية التي لبثت لقرون بؤرة للحروب الدولية .بيد أن هذا اإلنجاز مل يقترص عىل االوروبيني فحسب، وإنام تكرر يف امريكا الالتينية ورشق آسيا حيث وجدنا رايات السالم ختيم عىل العالقات بني دول كانت منخرطة يف احلروب ورصاعات عنيفة مثل اندونيسيا وفيتنام وماليزيا وسنغافورة. إن الواقع العريب الراهن يسري يف خط معاكس للمسار الدويل املتمثل يف هنوض التكتالت اإلقليمية يف العامل. فبينام أعيد تكوين النظام الدويل بعد احلرب العاملية الثانية عىل أساس ترسيخ التكتالت اإلقليمية يف العامل ،وبينام بدأ العرب يف تأسيس نظامهم اإلقليمي الرائد قبل قيام النظام الدويل وقبل قيام
املنافذ الثقايف
20ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العديد من التكتالت الدولية بام فيها السوق االوروبية املشرتكة ،وبينام تتوفر يف املنطقة العربية األسس املتينة لقيام تكتل إقليمي راسخ وناهض ،نجد أن النظام االقليمي العريب يف تراجع مستمر وأن القوى الكربى واملتوسطة غري العربية تتطلع إىل الدول العربية كمجال حيوي لكي تتبضع فيه ما يطيب هلا من املغانم السياسية واالقتصادية ومن بسط النفوذ
واهليمنة عىل حساب مشاريع التكتل العريب .هذا الواقع ال يتناىف مع املصالح العربية فحسب ،وإنام يتناىف أيضا مع مسار السياسة الدولية التي تؤكد بصورة متزايدة عىل أمهية التكتالت اإلقليمية وعىل أن هذه الكيانات ال تنشأ من فراغ ولكنها تتأسس استنادا إىل مقومات موضوعية منها ما هو جغرايس ومنها ما هو اقتصادي مصلحي ومنها ما هو ثقايف لغوي.
رغيــد الصـلح
كانون الثاين/يناير 2013
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 21
فطرة املرأة في الشعر: تشييئ الذات وتبخيس النفس (دراسة نفسية) سعاد الصباح تعمد هذه الدراسة إىل الدخول يف نفسية املرأة من خالل ِّ الشعر املكتوب وفلتات النفس ،عرب االهتامم باألشياء والترصفات والتعابري العفوية واالنفعاالت ،باالرتكاز النفيس عند علامء عىل معطيات التحليل ّ النفس وتزاوجها مع النقد األديب يف حتليل تطبيقي لدى الشاعرة الكويتية سعاد الصباح يف بعض دواوينها ،حيث م ّثلت أشعارها ،من وجهة نظر هذه الدراسة، ُ خري مثال عىل إسقاطات نفس الشاعرة الثرة ،والدالئل عىل الورقة ،لتأمني املادة ّ الوفرية. من هنا ،تتضمن الدراسة مصطلحات خمتصة بعلم النفس ،فت َُو َّظف مفاهيمها يف تقسيامت سرب مضامني األدب ،وتراعي ُ مباحثها عناوي َن تتصل باألمرين معا: التحليل النفيس والنقدي ،يف مسرية شعرية من املرحلة اجلنينية حتى املرحلة الرشجية فالفمية ،إىل مرحلة النكوص حيث تتمثل ظاهرة تشييء املرأة وتبخيسها صدقا يف جلوة الروح أو انكامشها ،بحيث هتدف تلك الظاهرة إىل ترشيح النفس البرشية بطريقة علمية بعيدة عن املحاباة أو مراعاة
()1
«أمنوذج»
د.رياض عثـامن
()2
املنحى اجلاميل يف الشعر ،فهي دراسة أردهتا أال تكون عادية أو مألوفة عن سعاد الصباح ،وعن املرأة عامة . وعليه ،فإن نقاط البحث تتمحور حول املباحث التالية :االنشطار وفصل الروح عن اجلسد ،واملرحلة اجلنينية وأثرها يف عالقة املرأة االجتامعية ،وصوال إىل املرحلة الفمية ،ثم إىل احلديث عن قانون العشق وعالقة األب باجلنني لدى البنت ،فاحلديث عن اجلسد املش ّيأ ،ثم تربير الشعور بالغبن النسائي الذي مصدره تبخيس الذات، وصوال إىل النكوص والتمسك بالعودة واحلنني إىل مرحلة تطهري الذات وسموها. فلامذا سعاد الصباح؟ سعاد الصباح شاعرة اخليمة املكشوفة نصفها يف البحر ونصفها يف الصحراء، النصف املنفتح عىل العامل ،واآلخر املتمسك باألصول واألعراف .حاولت الشاعرة أن تستمد مادهتا الشعرية من أنوثتها وأحاسيسها يف جمتمع كان ينظر إىل املرأة نظرة خمتلفة .
ـ فصل الروح عن اجلسد
( )1شاعرة كويتية مواليد .1942راجع معجم البابطني للشعراء املعارصين حرف السني. ( )2أستاذ حمارض يف اجلامعة اللبنانية.
املنافذ الثقايف
22ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من خالل نظرة يف ديوان ْيها "فتافيت امرأة" و"يف البدء كانت األنثى" تربز امليول الفطرية الواعية والالواعية للمرأة العربية يف عرصنا احلارض .لذلك تبدو شاعرتنا امتدادا لبنات جنسها الاليت يعانني من جرح اخلروج من رحم األم ،والتك ّيف مع العامل اجلديد، العامل اخلارجي ،متفادية بذلك املرحلة األوديبيةالتي جاءهتا متأخرة عن أخيها الصبي ،لتصاب بانشطار بني روح وجسد، " فالبنت بنظر األم لطيفة ومجيلة وهادئة، ولكنها ليست موضوعا جنسيا لرغبة .هي ال جنسية ال يشء ،وعبارة "ستصبحني امرأة" التي يقوهلا هلا األقرباء واألصحاب للفتاة، بليغة يف هذا االجتاه"(.)3
فهويتها دوما مسلوبة ومعيار حقيقتها ُ دوما مستعار ،إذا حاولت أن تصارع لكي تصري صبيا مثل أخيها( ،)4ما أدى هبا إىل شعورها باحلسد جتاه أمها( ،)5وجتاه بنات جنسها : أسميك حتى أغيظ النساء حبيبي وحتى أغيظ عقول الصفيح حبيبي وأعرف أن القبيلة تطلب رأيس وأن الذكور سيفتخرون بذبحي ُ وأن النساء سريق ْص َن
حتت صليبي ...
(يف البدء كانت األنثى)ص .28
إذ ًا ،مثل هذه احلاالت جديرة بالدراسة يف تسلسل مسرية فطرة النساء، وحتديدا املرأة الشاعرة.
ـ املرحلة اجلنينية وعالقة املرأة االجتامعية
للمرحلة اجلنينية التي متر هبا البنت، وملرحلة الطفولة حتى مرحلة النضج، وقعها اخلاص يف نفس املرأة بعامة ،ويف نفس سعاد الصباح بخاصة ،فحسدها مل يكن من النساء وحدهن ،بل تُصوره ّن هن اللوايت يضمرن احلسد فضال عن الرجال يف القبيلة الرازحة حتت نري العادات والتقاليد " ...إهنا امرأة قتلتها الغرية والفضول ،هي تفضل أن تكون املرأة األخرية و املعركة األخرية يف حياة الرجل"( ،)6يعترب حمللو الدراسات النفسية أن ال َغرية واحلسد واالنتقام هي سامت ط ْب ِع ّية نمطية للمرحلة تنس يف بداية السادية الرشجية( ،)7فهي مل َ قصيدهتا التي عنواهنا " إىل واحد ال يسمى" أن تشدّ أنظار الرجل املعارص بكلمة عذبة، ومظهر الئق ،بدافع هذه الغيرْ ة : اسميك ... تسمى رغم اقتناعي بأنّك لست ّ حبيبي عيل وأعرف أن اللغات تضيق ّ عيل وأن قمييص يضيق ّ
( )3يف النقد األديب والتحليل النفيس :خريستو نجم ،ص.119 ( )4أنثى ضد األنوثة :جورج طرابييش ،ص .26 ( )5يف النقد األديب والتحليل النفيس :خريستو نجم ،ص.15 ( )6مقالة بعنوان :سعاد الصباح؛ مصطلحات عاطفية وأبعاد شعرية ،حممود عثامن جريدة الديار ،بريوت السبت 29حزيران 1991م .ص.7 ( )7ينظر أنثى ضد األنوثة :جورج طرابييش ،ص.49
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 23 وأن مجيع املعاجم من دون جدوى وأن حرويف مرضجة
باللهيب ...
نفسه ،ص 26
وهي تقول يف ن َّصها املفتوح: أهم ما ْ فيك ّ ُ تتعامل معي أنك ال كقصيدة منتهية وإنام تتعامل معي كنص مفتوح
عىل احلرية ()...
نفسه ،ص 119
ّ حررها من ضغط لعل ّ احلب الذي ّ الوجود الكثيف ،وضغط املكان والزمان يعكس عندها توقا إىل حرية بال حدود(.)8 إال أهنا مل خترج عن ف ّن التمثيل املستمر بشخصية األنثى التي شعرت باحلسد جتاه أمها وجتاه بنات جنسها كام سبقت اإلشارة إنام حاولت أن تقوم بدور املرأة التي هتتم بمظهرها ،كي تلفت أنظار الرجل وتنال إعجاب اآلخر ،لتجذبه بمفاتنها املخادعة، كيام " تدفعه إىل هاوية الشبق ،فإهنا متيل إىل اإلغراء الذي يرضم نار الرغبة فتقلب األشياء إىل عكسها وباألخص يف امليدان اجلنيس" (.)9 غري أن حماولة الشاعرة ختطي املرحلة الفمية ،حيث "تتشبث الشخصية عىل هذه املرحلة فيصبح املرء اتكاليا يميل إىل ال ِّط ْفلية (التلذذ بالطفولة) يف عالقاته، جيب أن يتلقى أكثر مما يعطي أو يبادر"(،)10
تتخطاها بأال تبدو مهتمة بشؤون املطبخ، إال بالقهوة التي شدّ هتا يف غري موضع لتتخذها وسيلة بينها وبني شفتيها .وليس يف تكرار لفظة "قهوة" يف قصائدها إال داللة عىل هذه العالقة الفمية التي ت ِ ُظهر الشاعرة ّتواقة إىل االنفتاح ،ملا يف القهوة من انجذاب للشفاه والكالم ،وملا يف أحاسيسها ،من حاجة إىل سامع كلامت احلب يف اللحظة احلميمية"( .)11أليست هي القائلة ،يف قصيدة "ملاذا فمي": إذا كنت ال أستطيع أن أرشب القهوة ْ معك وإذا كنت ال أستطيع أن أرصخ أحبك نفسه ،ص 58 فام جدوى فمي ...؟؟
وهي القائلة:
أستعيد أيامي الواقعة ْ سلطتك حتت وفمي املحارص (فتافيت امرأة) ص 90 ْ شفتيك ... بني
تظهر املرحلة الفمية عندها ،وتتجىل أكثر عندما يبقى فمها ،منبع الكالم حبيس فمه ،ولن ُيفك حصارها وحصار فيها، ولو توسلت إليه بنرجسية تظهر صفاء وجهها: أتوسل ْ إليك ووجهي أال تقف بني مرآيت ... ْ بني قامتي وظيل بني أصابعي وورقتي بني فنجان القهوة ...
( )8و( )9لغة التامس ،مطالعة يف شعر سعاد الصباح :حممود حيدر ،ص .73 ( )10سيكولوجية اإلنسان املقهور :مصطفى حجازي ،ص .273 ( )11النقد األديب والتحليل النفيس ،خريستو نجم ،ص.16
املنافذ الثقايف
24ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شفتي .. وبني ّْ
(فتافيت امرأة) ،ص 62
أن هذا الرجل ّ إال ّ ظل يرتاد جمامر احلوة شفتيها ليقف ما بني القهوة و-بني ّ العربية ذات اللعس التي يمر هبا قانون األرض: أنا اخلليجية التي يمر من شفتيها نفسه ،ص51 خط االستواء..
حيول الزمن إىل فشفاهها املكان الذي ّ حيس ٍ ونار أبد ّية : ٍّ ليس معقوال بأن تبقى مقيام نفسه ،ص40 شفتي.. سنة كاملة يف ْ
إىل أن تأخذ الشفة عندها معاين احلرية، حرية القول ،وحرية احلب التي حرمتها منها أ ّمها وعشريهتا وعاداهتا ...كأن تقول: إن ّ ّ كل امرأة حتتاج أحيانا صديق كف ْ إىل ِّ وكالم طيب تسمع ْه وإىل خيمة دفء كلامت نعت من ْ ُص ْ ال إىل عاصفة (يف البدء كانت األنثى) ،ص9 قبالت.. من ْ
املرة ّ أدل عىل حالوة فح ّبها للقهوة ّ املرحلة الفمية ،وما تعانيها من إطباق شفة ،وتلذذ بالقهوة التي لونتها بلون العروبة!: أنا الناي والربابة والقهوة املرة
(فتافيت امرأة) ،ص56
وكذلك املوسيقى (الناي والربابة)
التي تعيدها إىل احلالة النفسية (اهلدهدة) إىل طفولتها مع موسيقى أمها ،إيامغو األمومة.
ـ اضطهاد مجيل
تركت املرحلة الفمية آثارها يف قصائد الصباح ،من إنشاد (الناي) وسامع عذب (الربابة) وتلذذ (القهوة) وبخاصة يف ديوان فتافيت امرأة ،هذا العنوان الذي يستوحى املجهزة للقضم( .)12قال منه تلك اللقيامت ّ الن تأخذ اليشء بإصبعك ،فتصريه ُفتاتا أي دقاقا ،فهو مفتوت وفتيت .وفتات العهن والصوف ما تساقط منه ،والفتيت والفتوت :اليشء املفتوت وقد غلب عىل فت من اخلبز .الفتيت :اليشء يسقط فيقع ٍّ ()13 ويتفتت . "...
أما «فتافيت امرأة» فتدل عىل تلك الروح التي أحست باضطهادها ما جيعل منها امرأة تواقة إىل قول الكلمة احللوة وسامعها من الرجل وفقدان الشحنات النرجسية الرضوورية لنامئها ،ألن البنت لشعورها بغياب األم منذ حلظتها األوىل حتس باملسافة الفاصلة بينها وبني أمها ،لذا جتد نفسها مضطرة إىل ردم الفجوة وملء هذا الفراغ بغية الوصول إىل أمل .من هنا كانت البنت أرسع إىل النطق من الصبي(.)14 وإن كان من مستلزمات التحليل النفيس معرفة بعض تفاصيل حياة الشخصية املعنية بالدراسة (طفولتها،
( )12لسان العرب :ابن منظور ف ت ت ،واجلمع ُفتات ،ولفظة فتافيت لفظة عامية وظفتها الشاعرة ملعنى االنشطار. ( )13لسان العرب :ابن منظور ف ت ت ،ص 169و . 170 ( )14يف النقد األديب والتحليل النفيس ،خريستو نجم ،ص.16
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 25 حياهتا صباها) ،فإين أجد هذا يف أشعارها كشاهد عىل هذه امليول ؛ ألن الرجل "يلجأ إىل عدو الزمن إىل املرأة التي تعرف رس جلوئه إليها ،فتحتضنه باحلنان ،وتقذفه نحو األبدية بكالم عذب مجيل"(:)15 ملاذا الرجل الرشقي ينسى حني يلقى امرأة (يف البدء كانت األنثى) ص14 نصف الكال ْم؟
وتقول:
إن كل امرأة يف األرض حتتاج إىل صوت نفسه ،ص11 وعميق ذكي ْ
"رس نسائي" حيث أيقنت جليا يف قصيدة ّ رس املرأة وسحرها: أن الكالم اجلميل ّ قل يل :أحبك قل يل أحبك التكرار أعرف أنك تكره ْ وأعرف رأيك الصامت يف الكالم ْ يتكلم ويف الصمت الذي ْ ولكنني كامرأة أحب من ّ حيك (يف البدء كانت األنثى) ،ص 81 جلد أنوثتي...
وتوضح يف قصيدة :
لكنني خنت قوانني األنثى (نفسه) الكلامت ... واخرتت مواجهة ْ
يتولد من ذلك االضطهاد استسالم آخر للروح وانسيابية سامع الكالم العذب الذي حيك مشاعرها ،وينمي األحاسيس. فعىل الرشقي أال ينسى نصف الكالم ،وأن
يكون صوته ذكيا وعميقا ،يربطها بصوت القوة. األب وحنّوه ،حيث تستمدّ ّ
ـ قانون العشق وعالقة األب باجلنني
يتأثر اجلنني يف بطن أمه كام أثبت علميا بمحيطه اخلارجي فيسمعه ،ويشعر به ،هبذا نجد أن هذا املفهوم ُيترَ جم عند البنت إىل قاعدة "واألذن تعشق قبل العني أحيانا"( ،)16ألن املرأة ُفطرت عىل سامع ختتص هبا ربام فقدهتا مقارنة بأخيها لغة ّ الصبي كام سبق إال أهنام اتفقا معا عىل سامع احلب واحلنان يف املرحلة اجلنينية تفاصيل ّ اجلنني صوت أبويه فينعم به، حيث يسمع ُ وإن سمعه غاضبا فينفر ،ويكتسب الوليد قلقا.
من هنا يف هذه املرحلة ،مرحلة السبعة أشهر من احلمل ،وجب عىل األب أن يالمس بطن األم ويالطفه كي يشعر اجلنني بطمأنينة األب وعاطفته .ولعل ولع الشاعرة بالكلمة احللوة اآلرسة ناتج، إىل جانب حرماهنا يف املرحلة الفمية، عن إحساسها العميق بمرور الزمن، فهي تقتنص الزمن الذي ينسكب عليها انسكاب الربق ...ألن جسدها املسطح يذكّرها دائام برضورة االنتظار ،ويدفعها إىل أن حتيا بالروح ال باجلسد( .)17هذا يف احلاالت العادية ،حاالت الرخاء والطمأنينة ،فكيف يفرس هذا الشعور بالزمن الذي امتأل بنوبات احلزن اخلامد، ورصخات األمل املكبوتة يف موائد الشعور
( )15قصيدة الغزل العربية بني احللم والواقع :عبد احلميد جيده ،ص .121 ( )16ديوان بشار بن برد ،عجز البيت الذي صدر يا قوم أذين لبعض احلي عاشقة. ( )17يف النقد األديب والتحليل النفيس ،ص .18
املنافذ الثقايف
26ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ؟ففي جسدها ،كام يف جسد كل امرأة هزها الوجد واجلزل ،يكمن ذلك املؤرش الذي يرمز إىل فناء األشياء وهتدّ هلا :
من ذلك العرص الذي يعترب املرأة (يف البدء كانت األنثى) ،ص10 متثال رخام ...
فالرجل الذي يبتعد عن حب اجلسد هو املثقف برأهيا :
دعوت اهلل أن حيررين من حبك وحو لني ّ (يف البدء كانت األنثى) ،ص 79 حجر... إىل ْ
أنا يف حالة حب ليس منها شفا ْء أنا املقهورة يف جسدي (فتافيت امرأة) ،ص 26 كماليني النسا ْء ...
أنت أول مثقف عرفته ال تعترب اجلنس مطلبا قوميا وال يتخذ من الرسير (يف البدء كانت األنثى) ،ص 87 منربا للخطاب ْه ...
لذا فهي تظهر مدى ارتياحها وتقديرها للرجل الذي حياول إعانتها عىل مأزقها كامرأة عربية كان فوها عرضة حلصار تارخيي ،وعقلها سجينا يف غرفة األطفال حتت وسادة من الرمل حيث ُيطمر جسدها ،نجدها تقول : عندما تتحدث عم مأزق املرأة العربية ورضورة فك احلصار التارخيي عن فمها وعقلها وجسدها املطمور (يف البدء كانت األنثى) ،ص87 حتت الرمل ....
هذا اجلسد الذي ش ّيأه الرجل باهتامماته الشكلية يف أغلب األحيان : فلامذا أهيا الرشقي هتتم بشكيل وملاذا تبرص (يف البدء كانت األنثى) ص 104 الكحل بعيني؟
ويف قصيدة : أنا متعبة
مترضعة ،إىل تشييء نفسها كذلك، لتهرب ّ حتى حتررها من ربقة احلب اجلسدي:
ـ غبن نسائي مصدره التبخيس
انطالقا من نقاط إمهال الروح وتقديس اجلسد ،تعود الشاعرة لتُظهر صورة تبخيسها يف جمتمعها ،لتتفاداها معلنة أمهية انتقاهلا اجلسدي من العامل املادي املثقل ،إىل عامل خفيف كأجنحة املالئكة يف أعايل السامء: أنا مشدودة األعصاب لوتنفخ يف داخل أذين لتطايرت ُ (فتافيت امرأة) ،ص20 دخانا يف اهلوا ْء
إال أن هذا التبخيس الذي جعل الرجل سيدا واملرأة بخسا يف جمتمع قبيل شدّ ته العادات: وإن الرجال هم الشعرا ْء... فكيف ستولد شاعرة (فتافيت امرأة) ،ص)84 يف القبيله..
ُيميل ترشيطا اجتامعيا كي تألفه ،وتظل رهينة له ،ما يو ّلد عندها إحباطا مصدره احلقد واالضطهاد الذي حاق باملرأة العربية يف إطار الغبن املفروض: عيل كثريا فال تض ّيق الدائرة ّ ألنني أريدك حبيبي (يف البدء كانت األنثى) ،ص88 سجاين... ال ّ
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 27 فاالضطهاد سار يف اجتاهني :أما األول فصب العدوانية عىل اآلخر بأنه قاهر ُّ وظامل ،وأما الثاين فهو أن تستسلم وتقع ضحية عدواهنم ،مثال األول: العرص يا هوالكو هذا ْ القهر إرفع عني سيف ْ سوداوي إنّك رجل ّ مأساوي ّ عدواين ّ دماي بني تفرق لست ْ (يف البدء كانت األنثى) ،ص 30 رب. وبني نقاط احل ْ
وهي التي عانت وتعاين منه دائام ،ومن امتيازاته : ْ الرجال إن الكالم امتياز فال تنطقي وإن التغزل فن الرجال (فتافيت امرأة) ،ص 19 تعشقي ... فال ْ
فلم تكتف الشاعرة بعرض معاناهتا هبذه املشاعر ،إنام أكدهتا بعدد من األلفاظ ذات الداللة االستبدادية :تذبحني ،هتمة الذبح عيل ،إرفع سيف إرهابك عني ،فال تنطقي ،فال تعشقي ،فال تغرقي ...
كل هذه األفعال الرافضة والناهية حتمل ياء املخاطبة فهي تكرس أحد األمرين :إما أن تصب عليهم جا ّم غضبها، وإما أن تقع ضحية عدواهنم. لكنها بحنكة األنثى وفطرة األمومة، وجدت نفسها واقعة يف مطب التناقض، حيث عاشت حلظتني متناقضتني يف آن: فهي الناقمة وهي اخلاضعة .ناقمة ثائرة أمام عالقاهتا الثقافية وانفتاحاهتا الشعرية، وهي ضحية كرمى ألمومتها التي جعلتها تفرح بلقائه:
ْ بلقائك فرحي كالرضبة األوىل للجنني (يف البدء كانت األنثى) ،ص 65 الرحم عىل جدران ْ
وهي هبذه الرضبة عىل جدران الرحم قد ميزت أنوثتها ،وأعطتها لذة األمومة التي مل يستطع أي شاعر صور نفسية املرأة، أن يدخل إىل نشوهتا هذه التي عاشتها وشعرت هبا وأفهمتها دورها كأم تتحمل مسؤولياهتا : ال أستطيع أن أقول لك :ال و ال أستطيع أن أقف يف وجه نزواتك الصغري ْه ... فأنت تستغل طفولتك بذكا ْء وأنا أدفع ثمن (يف البدء كانت األنثى)84 ، أمومتي... فتحولت هذه املسؤولية إىل استسالم له جعلت الرجل أمجل املستعمرين : ولكنني منذ عرفتك نسيت حقوقي ومل أعد متحمسة لرحيلك عني يا أمجل (يف البدء كانت األنثى) ،ص 84 املستعمري ْن... أصبح املستعمر الدائم الذي حل هبا، سيدَ ها ،وحمرر كل النساء ،وملك احلب: يا ملك احلب ....ويا حمرر النسا ْء إليك قد جلأت كي تلمني من قسوة األنوا ْء وعندمارأيتني مكسورة مقهورة حولت أجزائي إىل أجزا ْء وبعدها تركتني ضائعة كذرة الغبار
املنافذ الثقايف
28ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بني األرض والسام ْء..
(يف البدء كانت األنثى)
وهنا ظهر الرصاع ،أمام ارجل ،بني الصغري والكبري ،بني ذرة الغبار والكرة الكبرية ،لتقوقع نفسها يف مأزق يعرتيه االحباط ،...ولكنها عادت لتربر هذا االستسالم للرجل ،وهلذا االضطهاد ،إىل إرجاعه إىل طفولة كامنة فيه ،وأهنا تقدّ ر طفال يف داخل الرجل ،حيب دائام أن يلعب: ْ كلامتك كلام جرحتني بسكاكني تقول يل :اغفر يل طفولتي فإىل متى تستغل (يف البدء كانت األنثى) ،ص 44 أمومتي؟...
لعل احلقد واالضطهاد مظهران من مظاهر االحباط الذي حيرك عواطف العدوانية يف ال وعيها املكبوت ،فتتوجه حينا عىل شكل ثورة عاصفة ،فهي "امرأة هتاجم الرجل الرشقي البليد الشهرياري النزعة صاحب العقلية السلفية، والنرجسية التارخيية الذي يتعامل مع املرأة كدمية أو متثال من الرخام ،وهيتم باجلنس واملظاهر فقط ،ويؤمن بالتملك واالقطاعية والتعددية النسائية"(.)18 لذلك توجه خطاهبا إىل عريب عاشق: مشكلتك الكربى يا صديقي أنك ختتزن يف ذاكرتك ّ كل األفكار السلفي ْه وكل الكلامت املأثورة ْ ّ أجدادك وكل ما ورثته عن من نزعات التم ّلك (يف البدءكانت األنثى) والتعدد ّية النسائ ّي ْه ...
لكنها حتدد عالقتها ،وحتدد أي الرجال ختاطب:
ْ أسفارك ورغم كثرة (يف البدء كانت األنثى) ْ خيمتك فإنك مل تبارح
هذه النزعة العدوانية التي تظهر تبخيسا لآلخر جعلها تضع الرجل يف مصاف اآللة التي ال تتطور ،بل تردد كل ما حفظته ذاكرهتا لرت ّد عدوانيتها بتشييء الرجل: ّ فإن آخر اهتاممايت (يف البدء كانت األنثى) كمبيوتر أن حي ّبني ْ
جعلها هذا العدوان املشرَ ْ َعن أن متتطي صهوة احلروف وجتمح نحو البحر لتمخر عبابه بأسطول ثورهتا الصارخة الصادحة يف وجه القهر والظلم ،كي تعيش بأحالمها املتيقظة .هذه األحالم التي تدفعها رغبة االطمئنان ورغبة احلرية؛ ألن الرغبة تنبعث يف التغلب عىل الكراهية عندما مل يشعر املرء يف احللم بفظاعة ما( ،)19حيث "جتتمع مجيع املصادر القادرة عىل إحداث حالة وجدانية معينة"( .)20هلذا تلجأ سعاد الصباح إىل احللم ،ألن احللم حتقيق رغبة كام يرى فرويد( ،)21فكان حلمها األول: أمس حلمت ليلة ْ بأنني أصبحت سنبل ْه ْ صدرك يف براري احللم خفت أن أقص عليك ْ حتى ال تأخذين إىل خباز املدين ْه فيحولني إىل رغيف ساخ ْن (يف البدء كانت األنثى) وتأكلني...
( )18سعاد الصباح مصطلحات عاطفية وأبعاد شعرية ،حممود عثامن ،جريدة الديار ،ص .7 ( )19تفسري األحالم ،فرويد ،ترمجة مصطفى صفوان .ص .457 ( )20املصد السابق نفسه ،ص .459
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 29 ـ نكوص وعودة إىل احلنني
إزاء هذا الواقع ،نرى أن األمور التي سلفت تولد عندها نكوصا وحنينا إىل املاء الذي كانت تنعم به داخل الرحم ألن فرويد ينطلق "من فكرة أن الوالدة هي انفصال وقحط .فاجلنني يف بطن أمه حماط بغشاء السابياء ،وهو موجود يف وسط مائي ،وهو كالسمكة يف املاء الذي يامثلها يف الرىض، فبطن األم يؤلف خالل احلمل وسطا مائيا مغذيا ،هو بحر داخيل يريد وحياول اإلنسان العودة إليه طيلة حياته"(.)22
زادها ،وملهم خواطرها ؛ ألن البحر هو أنثى وهو أم وإخصاب ،فهو حامل الرغبات ومساحاته الواسعة ،إسقاط مكان الرصاع للتأمالت واألفكار ،البحر كاتم األرسار ،وهو رطوبة وموت ،وهو انعاش وفتوة ،جامع التناقضات من املياه الطاهرة إىل املبتذلة( .)24كام البحر فإن الرجل بالنسبة إليها هو املجهول مكمن األرسار ،تدرك أمامه قدرهتا عىل اكتناه األشياء ودرس مكنوناهتا بني يديه: عندما أصبحت امرأ ْه ْ حبك ودخلت بحر عرفت لذة الغوص (يف البدء كانت األنثى) ْ املجهول... يف
يتجسد هذا املفهوم الفطري عند سعاد الصباح عندما جتد نفسها سمكة يف أعامق البحار أو ذرة ماء يف آفاق السامء نزفت جدوال رقراقا بعذوبته إىل األعامق؛ ألن البحر «يعترب أفضل تعبري عن اصل احلياة وديناميتها .فكل يشء خيرج من البحر وكل يشء يعود إليه .فهو مكان الوالدات والتحوالت ،والوالدات من جديد ،البحر عطاء ،حركته الدائمة ترمز إىل حالة انتقالية بني املمكن ،ووضعية الشك والالقرار»( ،)23فاتركها تقل:
أميش كل خريف يف الغابات ألغسل وجهي (يف البدء كانت األنثى)33 ، باألمطار ... ْ
لعلها تولد من جديد عندما تعشق، وبإمكاهنا أن تتحدى املخاطر بقرب عشيقها الرجل لتعود إىل البحر حمطة
أخشى جدا أال يبقى غيم مطر أال يبقى ْ أال تبقى أشجار الغابات
ٍ عشق حني أكون بحالة أشعر أن العامل أضحى وطني وبإمكاين أن أجتاز البحر (يف البدء كانت األنثى) األهنار. وأعرب آالف ْ
ـ توبة وطهارة
أما مياهها املفضلة ،فهي أمواه طاهرة نقية كوثرية تثمن قيمة اإلنسان طهرا وبركة ،إذا ما اغتسل هبا:
وألن املياه العذبة تظهر كرمز للنقاوة، وتظهر الشاعرة بشكل املاء الذي يتخذ شكل اإلناء ،إذ اإلناء بام فيه نضاح ،فرتيده جف املطر: كام حتب أن تكون هي ،إذا ما ّ
( )21املصد السابق نفسه ،ص .457 ( )22شاعرية املاء واحلياة النفسية ،زهري مناصفي ،جملة الفكر العريب .م .س ،ص .156 ( )23تفسري األحالم ،فرويد ،ص .457 ( )24املصد السابق نفسه ،ص .457
املنافذ الثقايف
30ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولذا أرجو أن تزرعني (يف البدء كانت األنثى) ،ص5 الكلامت.. مابني ْ
إال أن مياهها تكرج يف دواوينها معرض البحث وتسيل عذوبة رقراقة، أو ماحلة جبارة ،فال تعرف الركود ،اتعب منها حركة واستمرارا دائمني يف احلياة واألفكار .فأشعارها ال تعرف النوم كام ماؤها؛ ألن "املياه الراكدة تطلق العنان لفكرة املوت واملوتى ،كون املياه الراكدة مياها نائمة"(.)25 وإذا وجدنا ماء يف إحدى قصائد الصباح ،حتيطها اليابسة من جوانبها ،ما هي إال عودة اليابسة األرض إىل أصلها األم إىل البحر بداية تكوين الكون .
وما بحرية الليامن التي يف قصيدة "نسخة ثانية" إال تذكري بنرجس الذي وجد نفسه عائام عىل صفحات املاء النقية، فهي كذلك جتد نفسها عىل صفحات ذلك الرجل الذي أرادته ،فعال ،بتوجيهاته وأفكاره جتاه املرأة ،فوجدت يف ظله نرجسيتها: ال متش إىل جانبي عىل ضفاف ْ الليامن بحرية حتى ال تظ ّن البحرية أنني نسختك (يف البدء كانت األنثى) ،ص91 الثاني ْه...
ثم تعود بعد ذلك إىل خيمتها ظافرة بمعامل احليوية نصفها سمكة ونصف عاشق ش ّفها الوجد ،ودفعها؛ ألن تثور يف وجه العادات لتعلن قاموس مفردات العشق الفطرية عند املرأة العربية هبذه اجلرأة.
اخلالصة
توصلت الدراسة إىل أن فلتات اللسان الشعرية تعطي متتبعي املنهج النفيس مادة كافية ،جترد نفس الشاعر بعيدا عن املحاباة ،وتسلط الضوء عىل أشياء بسيطة هتم قد ال يلقي الدارس هلا باال ،وقد ال ّ متّبع الوظيفة اجلاملية يف حتليل الشعر، بل هي جمرد حمطات فطرية اشرتكت فيها سعاد الصباح مع املرأة العربية بشكل عام، متثلت باهتامماهتا الشكلية واجلوهرية ،وما تطلبه من الرجل مع حتديد ما حتبه منه وما ٍ كاف للتناقضات تكرهه فيه ،مع تربير الفطرية التي متر هبا املرأة العاشقة .وطرح فلسفة جديدة ملفهوم احلرية كام تراها هي، ال كام يراها دعاة التحرر من أصحاب الفكر غري العريب.
وهبذا تبدو فطرة املرأة ّتواقة إىل اللجوء إىل اهتاممات تشغلها ترجو أن تكون ّ حمل تقدير الرجل بلغة واضحة رصحية منفتحة داعية إىل احلوار :حوار العواطف والرغبات واملشاعر ،وحوار الذات التي تنعكس عىل مرآة النفس بعيدة عن التصنّع ،أو حماولة تصوير نفسية املرأة عىل لسان الرجل مهام بلغ من الدقة واحلساسية ،فإنه لن يصل إىل التحدث بلسان املرأة أو التعبري عن مشاعرها بلساهنا ،بأبسط تعبري عن لذة النشوة من وجود اجلنني يف بطن املرأة ،أو رضبات روحه عىل جدران الرحم،التي هي مرحلة فطرية من مراحل األمومة . وعليه فإن هروب املرأة من واقعها، من أحاسيسها ناجم من تشييء الذات، حتى ال تدفع رضيبة رقة مشاعرها ،وحتى
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 31 التنقلب عليها أحاسيسها فتخدش .لذلك تلجأ إىل تشييء نفسها ،بأن مت ّثل نفسها بريشة خلفتها ورقتها ،أو غبار متطاير ،أو متثال ،أو صخرة .ثم تلجأ ّ لتبخس نفسها بأن تدعو عىل نفسها ،أو أن تتمنى بأن ال تكون موجودة عىل األرض ،فتنقلب دعوهتا إىل تبخيس الرجل بجعله ال يشء
وبال قيمة إذا خالف فطرهتا .فالكلمة احللوة أسمى ما دعت إليه الشاعرة ،لتكرب روحها وتنمو مشاعرها وإال فتشييؤها أوىل من تبخيسها .
ريـاض عثـامن مصطلحات وردت في البحث
إحباط ،اضطهاد ،إعجاب ،إسقاط النفس ،انشطار ،انتظار ،ألسنية ،تبخيس، التلحيل النفيس ،التحوالت ،ترشيط ،تشييء، التكيف ،التمثيل ،جنيس ،حرمان ،حقد، حلم ،رحم األم ،رشعنة ،رصاع الصغري الكبري ،عدوانية ،الغبن املفروض ،الفطرة،
املراجع
فلتات النفس ،ماء السابياء ،املرحلة األوديبية، مرحلة البلوغ ،املرحلة اجلنينية ،املرحلة الفمية، الرشجية ،مرحلة الطفولة ،مرحلة النضوج، املنهج التحلييل ،امليول الفطرية ،نرجسية، نكوص ،الواعية والالواعية ،الوالدات .
.1أنثى ضد األنوثة :جورج طرابييش دار الطليعة بريوت 1995 .2تفسري األحالم فرويد ترمجة مصطفى صفوان .دار املعارف بمرص ال تا .3ديوان بشار بن برد ،عجز البيت الذي صدر يا قوم أذين لبعض احلي عاشقة .4سعاد الصباح :مصطلحات عاطفية وأبعاد شعرية :حممود عثامن جريدة الديار بريوت السبت 29حزيران 1991م .ص7 .5سيكولوجية اإلنسان املقهور :مصطفى حجازي ،معهد اإلنامء العريب1980 ، .6شاعرية املاء واحلياة النفسية زهري مناصفي جملة الفكر العريب العدد 82السنة 16معهد اإلنامء العريب خريف 1995ص 156مؤسسة سعاد الصباح ط 1989 ،5 .7يف النقد األديب والتحليل النفيس :خريستو نجم مكتبة السائح طرابلس لبنان 1991 .8فتافيت امرأة :سعاد الصباح ،الصفاة الكويت .9يف البدء كانت النثى :سعاد الصباح الديوان دار رياض الريس ال ط ،ال تا. .10قصيدة الغزل العربية بني احللم والواقع :عبد احلميد جيده .دار الشامل طرابلس لبنان . 1987 .11لسان العرب :ابن منظور دار إحياء الرتاث العريب ط .،1993 3 .12لغة التامس مطالعة يف شعر سعاد الصباح ،مؤسسة دار الكتاب احلديث1995 ، .13لغة التامس مطالعة يف شعر سعاد الصباح :حممود حيدر دار الكتاب احلديث1995 ، .14نقد جمتمع الذكور :روجيه غارودي وغريه .ترمجة هنرييت عبودي ،دار الطليعة بريوت 1982
املنافذ الثقايف
32ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شخصية العدد:
مقابلة مع األستاذ مطاع صفدي أجرى املقابلة :د .هالة أبو محدان عـمـر شــــبلـي عمران الوردانـي ســام أبـو نــوح من الصعب أن تضع تعريف ًا حمدد ًا للشخصية الفكرية والثقافية التي تسكن يف وجدان األستاذ مطاع صفدي وعقله، هو بحر معريف بال سواحل ،أمواجه ترضب يف كل االجتاهات ،هو فيلسوف منهمك يف الغوص يف استجالء الذات الكونية املغلقة والتي انطوى فيها "العامل األكرب" ،قرأ فلسفة الرشق يف أعالمها الكبار ،ودخل فيهم وخرج منهم مضيف ًا وحاذف ًا حام ً ال حرية عقله العنيد ،وأحاط بالفلسفة الغربية م َّطلع ًا ومرتمج ًا وناقد ًا ومتميز ًا ،وكانت احلرية أستاذه الوحيد يف كل الدروب املعرفية التي سلكها باحث ًا ومتقصي ًا ورائي ًا .هو أديب مل تستطع الفلسفة بكل حضورها فيه أن تطفئ حرارة وجدانه امللتهب واملنفعل بقضايا أمته ،كان أستاذنا يف بداية الستينيات، وقرأنا له رواية (جيل القدر) ،وكانت حتمل أحالمنا مجيع ًا ،أحالم جيل عرويب مؤمن برسالة أمته الكونية ،وحني بزغ فجر الوحدة ،الوحدة بني سورية ومرص كان احللم يبدو حقيقة يف قبضات اجلامهري
وهتافاهتا ،وكانت اآلمال يومه ًا نقيض ًا لآلالم ،وحني ُذبِحت الوحدة وقف ذائد ًا عنها وناقد ًا بقلم يرعف أمل ًا لتقصف هذا احللم الذي انتظرناه طويالً .واستمر مطاع صفدي حام ً ال قلمه ولسانه ،كاتب ًا وحمارض ًا ومتجوالً يف قلوب الش ّبان العرب الذين ظ ّلوا مؤمنني برسالة أمتهم .وها هو اآلن يربو عىل الثامنني ومل يسأم ،وال يزال إيامنه بأمته كام كان .ومل يزل ذهنه متوقد ًا وحارض ًا ،وعطاؤه مستمر ًا ،ومل ينضب ألن حريته وهبته كل سامهتا اجلميلة .وها أنا ألقاه بعد واحد ومخسني عام ًا عجاف ًا، ومل أزل تلميذه يف مدرسة التجهيز األوىل تلك املدرسة التي انطلق منها احلس العرويب الصادق ،وها هو يتذكر تلك األيام بشغف احلضور يف القول والفعل. ـ عمر شبيل:
أستاذ مطاع ،سنبدأ من العام 1961
عندما كلفتني ،وكنت أستاذنا يف ثانوية "ابن خلدون التجهيز األوىل" ،بتلخيص كنت تعتقد رواية (جيل القدر) ،إذ َ
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 33 ّ أن جيلنا يومها هو جيل احللم العريب، وسؤالنا اليوم :ماذا حتقق من هذا احللم، وكنت ترى أن الوحدة بني سورية ومرص كانت نتيجة هذا احللم ،لذا فإن مدخلنا إىل احلديث سيكون يف السؤال:
ـ ماذا بقي من هذا احللم اجلميل وما تأثري حال االنكسار العريب العام 1967 وما تالها إىل الربيع العريب راهن ًا ،وأنا كنت قد استمعت إىل حمارضتك السابقة يف األونيسكو ولكنك مل تتطرق إىل هذه املسألة بالذات .وباختصار إىل أين نسري بعد رحيل ذاك اجليل املشبع باملعنويات والروح اخلالصية؟ ـ مطاع صفدي:
املسألة ليست جمرد حلم ،بل كان هناك توقع أن اخلالص من املشكالت التي حدثت يف مرحلة ما بعد االستقالل الوطني أي ما بعد فرتة االستعامر الغريب املبارش سيكون بداية ملراحل حتتاج نضاالً من نوع آخر .كان ال بدّ من أن تتفتح قضايا الشعب العريب الداخلية املتعلقة بمصريه الذايت ،بغض النظر عن سلطة أجنبية تتدخل بشؤونه اخلاصة ،كان الواقع احلدثي آنذاك قد أبرز ببساطة أن االستقالل الوطني كان بداية لظهور قضايا من الدرجة الثانية مل تكن مثارة أثنا َء مرحلة الكفاح الوطني ضد االستعامر وحتديد ًا القضايا االجتامعية واالقتصاد والتنمية والسلطة والعالقة ما بني القمة والقاعدة ،وكل هذه القضايا التي كانت حمجوبة وراء فكرة الرتكيز عىل النضال ضد االستعامر املبارش ،ولكن خروج االحتالل األجنبي مل يكن سوى نقطة انطالق نحو
أشكال أخرى من االحتالل عن طريق ما يسمى قدي ًام حتت مصطلح املؤمترات كان ّ الدولية واللقاءات التي كانت حتدث بني شخصيات كان من املفرتض أهنا وطنية يف جمتمعنا العريب ،ولكنها كانت عىل صلة وثيقة باالستعامر القديم من هنا بدأنا يسمى باالستعامر اجلديد ،بدالً نواجه ما َّ من االستعامر املبارش للقوى العسكرية املحتلة احتالالً مبارش ًا للوطن .أصبحنا نعاين من االستعامر الشفاف الذي يتحاشى الظهور املادي لقواه مستخدم ًا صنف ًا أخر من الرجال الذين كانوا يـُحسبون من الرعيل الوطني الثاين .كانوا يستخدموهنم ٍ ٍ بطرق بطرق خمتلفة لينفذوا مشاريع الغرب غري واضحة املعامل للجمهور ،فقد تط ّلب ذلك نوع ًا جديد ًا من النضال ،كان هذا هو مبعث التغيري لشكل النضال العريب آنذاك من الرصاع املبارش مع االستعامر إىل الرصاع املبارش مع ما كان يسمى آنذاك بعمالء االستعامر يف تلك احلقبة ،إذ كان هؤالء املتعاملون ممثلني خاصني باالنظمة الوطنية احلاكمة باسم االستقالل ،ولكنها يف الواقع كانت تناور عىل هذا االستقالل، وحتاول أن تسلبه إمكانياته املطلوبة أو املنتظرة من مجاهري الشعب .وهكذا دخلنا يف مرحلة أخرى من التعقيد والتشابك بني العاملة الداخلية يف الصفوف العربية والقوة الوجدانية الطاحمة الستمرار ٍ واضحة سلطاهنا ،ولكن بوسائل غري املعامل بصورة تستفز الشعوب جمدد ًا ،فكان ال بد من حتول النضال من وجهه السابق إىل وجه آخر يتطلب ثقافة جديدة هي بداية ثقافة النهضة االستقاللية احلقيقية،
املنافذ الثقايف
34ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وظهرت آنذاك األحزاب الوطنية ذات الطابع القومي التي كانت ترى أن مشكلة االستقالل القطري الضيق أنه ال يمكن أن يأيت باحللول النهائية ،إذن ال بد من حتقيق االستقالل القومي ،الذي يعني االنتقال من املرحلة الضيقة إىل املرحلة األوسع حيثام يمكن أن تستعيد االمة مفهوم وجودها بالتئام عنارص وحدهتا. كان عىل إمكانيات أمة عربية جديدة صاعدة مستقلة ألول مرة يف التاريخ احلديث ،وقادرة عىل أن تقود شؤوهنا بنفسها ،وتفسح يف املجال أمام أجياهلا الصاعدة اجلديدة لتصبح العملية االستقاللية عملية هنضوية بكل معنى الكلمة. ـ عمر شبيل:
ـ انكسار الوحدة أمل يكن انكسار ًا هلذا احللم؟ ـ مطاع صفدي:
هذا ما كنت أعبرّ عنه باحللم العريب، احللم العريب هو االستقالل القطري الذي جيب أن يكون مرحلة أولية ،ليس غاية يف ذاته ،بل طريقة السرتجاع االمة كيانهَ ا الكامل والشامل املعروف يف التاريخ، والذي أثبت يف ماضيه أنه قادر عىل إنتاج حضارة كونية يقر هبا العامل املتقدم يف كل مناسبة. ـ عمر شبيل:
كنت من ـ دكتور مطاع يف الستينيات َ املعجبني جد ًا بالفيلسوف الفرنيس «جان بول سارتر» وبفلسفته الوجودية ،وكنت ترى أن جوهر هذه الفلسلفة هو تركيز
سارتر عىل حرية االنسان ،وأن معنى وجود االنسان مرتبط بحريته فإذا ما ألغيت حرية االنسان ألغيت كينونته بوصفه إنسان ًا متحرض ًا .وهذا الفهم الوجودي أثر يف عامل الثقافة اإلنسانية وأثر يف جيل سارتر حتديد ًا ،وقد ترجم فلسفته إىل مواقف سياسية ،ولديه كام نعرف خطبة شهرية ألقاها يف جملس النواب الفرنيس واسمها "عارنا يف اجلزائر" ،خطبة حوايل تسعني صفحة .ولكن الحق ًا نالحظ أن سارتر أتى إىل إرسائيل ورآها واحة حضارية، هنا السؤال هو كيف تفرس مواءمة سارتر ملوقفه يف احلرية عرب هجومه عىل االحتالل الفرنيس يف اجلزائر من جهة ،وإشادته بدولة «إرسائيل» املحتلة ألرض ليست هلا .السؤال هو كيف يمكن لفيلسوف بمقام سارتر أن يزاوج بني هذين املوقفني املتناقضني من وجهة نظرك ،كيف يمكن لذلك أن حيدث؟؟ ـ مطاع صفدي:
هذه مشكلة هلا أوجه خمتلفة بحسب البيئة الثقافية التي يمكن أن تثار عواملها داخل تناقضاهتا اخلاصة ،فاملرحلة التي كان يعيشها سارتر يف فرنسا كانت أقرب إىل مرحلة التحرر الوطني بالنسبة إىل جمتمعاتنا ،إذ ال ننسى أن فرنسا كانت حمتلة من النازية اهلتلرية خالل احلرب العاملية الثانية ،وكانت مشكلة اليهود هي الذريعة التي متسكت هبا النازية من أجل شن حروهبا ضد معظم دول أوربا ،وهي التي تضم جاليات هيودية كبرية ومتنفذة، ومن املعروف أن النازية تعتقد أن فشل أملانيا يف احلرب العاملية األوىل سببه اليهود،
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 35 وكأن احلرب الثانية هي نوع من االنتقام من األنظمة األوروبية احلاكمة ،التي كانت متآلفة إىل حد ما مع بقية مكوناهتا ومن مجلتها املكون اليهودي .وبالنسبة إىل اليسار الفرنيس الذي انخرط بجدية يف املقاومة الرسية ضد االحتالل النازي يف فرنسا ويف خمتلف االقطار االوروبية التي احتلتها النازية كان العنرص اليهودي عاملاً فاعلاً وجزء ًا منه وكذلك بالنسبة إىل حركات املقاومة األوربية آنذاك .من هذا املنطق مل يكن سارتر قادرا عىل الفصل بني الشعب اليهودي الذي عانى من االضطهاد النازي ،يف الوقت الذي سادت فيه الشعارات العنرصية املتطرفة التي استخدمتها النازية ،فقد كانت بمثابة حتدّ مبارش للوجدان الثقايف األورويب .ما جعل كرس نفسه فيلسوف ًا للحرية، سارتر الذي ّ فهو ينتمي إىل هذا اخلط ،خط املقاومة التحريري يف أوروبا ،ولكنه مل يستطع أن يغدو جزء ًا من هؤالء التحرريني (؟) قد اندفعوا من اليهودية املضطهدة إىل اليهودية التي ستضطهد سواها يف أرض العرب وتستويل عىل ما ليس هلا حق فيه، وتتس ّبب يف طرد شعب كامل من اراضيه ومن تارخيه ومن مواقعه الطبيعية. ـ عمر شبيل: حسن ًا استاذ ،كيف يمكن لنا أن نفهم هذا من فيلسوف مثل سارتر؟ ـ مطاع صفدي:
هذه إشكالية ،وكنا قد دخلنا معه آنذاك يف نقاشات مبارشة ،برفقة العديد من مثقفني الشباب العريب يف باريس.
كان الرجل هو أيض ًا بأزمة وجدانية حادة إزاء هذه املسألة ،لكن اجلو الثقايف العام آنذاك املوصوف باحلرية واالشرتاكية والتقدمية بتاممه كان متعاطف ًا جد ًا يف املجتمع الفرنيس مع اليهود ،ويرى أن هلم حق ًا يف جزء من ارض لتصبح وطن ًا هلم، لكن املسألة مل تكن تنظر يف اجلانب اآلخر من املوضوع ،وهي أن هذه االرض ملن ستؤول وملاذا ستصبح ملكا ملن ليس له حق فيها. إذا املسألة هي مسألة جو ثقايف عام معني ،كان سارتر متزعام فيه ،وكان العنرص اليهودي نافذ ًا يف خمتلف املجاالت الثقافية املكتوبة واملذاعة واملنشورة، والتي كانت تصبغ جيال كام ً ال من الشبيبة الفرنسية الصاعدة ،هذا كان حرج ًا كبريا لسارتر ،واضطره إىل أن يتنازل عن كثري من الوضوح الفكري يف ما يتعلق باملسألة اليهودية يف فلسطني. ـ عمر شبيل:
ممكن أن يكون هذا أحد أسباب خالفه مع "ألبري كامي" ،فقد نادى كامي باحلرية املطلقة ،و أعلن أنه ال يسطيع أن يكون تقدمي ًا إذا مل يؤمن بتحرر كافة الشعوب املقهورة واملضطهدة ،هل هذا من أسباب االفرتاق بالرؤية بني الفيلسوفني؟؟ ـ مطاع صفدي:
إن اخلالف بني سارتر وكامي كان عىل عدة قضايا فلسفية (هنا عمر شبيل مقاطع ًا :إن تلك القضايا اخلالفية تتعلق بالوجودية واحلرية )...أعني أهنا مسألة تتطلب طروحات منها أن كامي مل يكن
املنافذ الثقايف
36ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مفكرا يساري ًا باملعنى املطابق للكلمة، كان يف احلقيقة أديبا متحررا وهو أقرب إىل الثقافة االدبية منه إىل الثقافية الفكرية وقد اختلف مع املنهج الوجودي بشكل عام من حيث أن احلرية ال تتحدد فحسب باملسائل السياسية والرصاع السلطوي الذي طبع تلك املرحلة .كان كامي يرى أن احلرية هي حقيقة إنسانية ،والسياسة هي ظرف طارىء .يف حني أن سارتر كان متمسكا يف نظرته حول االلتزام ،ويرى أن احلرية جيب أن تظهر دائام عرب مواقف جمسدة واقعية ،وليست فقط نزوة عاطفية أو مثالية جمردة. ـ عمر شبيل:
إذن ،أنت تعني بإجابتك أن كامي أقرب إىل احلرية من سارتر؟ أي أقرب إىل احلال االنسانية؟ ـ مطاع صفدي:
نعم هو مفكر أديب أكثر منه مفكر فلسفي وسيايس ،اخلالف بني كامي وسارتر ،بدأ حول املشكلة اجلزائرية بالذات ،ففي احلني الذي كان سارتر يرى أن حل مشكلة اجلزائر ال تكون إال باخلالص من االحتالل الفرنيس ،فإن كامي كان ال يقدر أن يتصور انفصال اجلزائر عن فرنسا ،وهذا يشكل أحد االسباب العميقة للخالفات بينها. ـ د .هالة أبومحدان
استاذ مطاع :قلت إن االستقالل القطري هو مرحلة انتقالية للعبور نحو الوحدة ،ولكن أال تعتقد أن االستقالل القطري ملدّ ة طويلة قد يشوه مفهوم وحدة
األمة؟ وقد تتحول هذه االقطار إىل عدة أمم فقد اصبحنا اليوم أمام مفاهيم جديدة االمة اللبنانية واألمة التونسية واالمة املرصية ،وهذا ما يعني بروز ظاهرة الوطنيات التي أفرزت مفاهيم جديدة لألمة الشوفينية ،فبدالً من أن يكون لدينا أمة واحدة أصبحنا أمم ًا شتى؟ ـ مطاع صفدي:
القطرية عندما تطول تتجذر وتنتج فعال شعور ًا خمتلفا عن اجلار بأشياء صغرية ثم تصبح كبرية مع الزمن ،ويمكن أن تولد قوة فكرية معينة النشاء كيان كامل ومستقل ويصبح القطر غاية يف ذاته ،كام هي احلال السائدة اليوم. ـ د .هالة أبومحدان:
نعم هذا صحيح وهذا ما نشاهده اليوم يف عاملنا العريب املعارص!! ـ مطاع صفدي:
وهذا الذي حدث خالل العقود مرحلتي االستقالل الطويلة التي مرت عىل ْ الوطني وما تاله ،فبقينا نفهم ونعيش قطري ًا ودخلت عوامل التنافس بني هذه األقطار، وكأهنا بلدان غريبة ،بسبب ظهور طبقات اجتامعية هلا مصالح معينة يف هذا القطر أو ذاك وهذه الطبقات هي التي أصبحت تقود يف لبنان وسوريا والعراق ...أي أصبح هناك أنظمة سياسية مرتبطة بتشكيل طبقي جديد له مصلحة كبرية يف احلفاظ عىل الكيان القطري واالستفادة منه (أي تشكل طبقة الكمربادور) وبخاصة عندما ظهرت الثروات النفطية التي حولت جمتمعات قبلية بدائية إىل دول وأوطان قائمة بذاهتا ،وهذا
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 37 كان من غرائب العرص العريب اجلديد ،عرص النهضة العربية ،إننا االن نعيش يف ظل 22 دولة عربية بدال من أن نعيش يف ظل دولة عربية واحدة فالقطريات أصبحت كيانات سياسية ساعدت عىل تشكيل كيانات اجتامعية خاصة هبا ،وهذه العوامل جمتمعة أنشأت فعال ما يشبه االمة فأصبحنا نقول أمة عراقية أمة جزائرية ...وخاصة عندما تستويل فئات ذات نزاعات فئوية وسياسية ضيقة ومؤقتة .عىل أقطارها وتصبح هي أكرب عقبة يف وجه االلتقاء واملصاحلة املتبادلة بني الشعوب .وقد عمل االستعامر اجلديد بكل قوته عل منع اتصال حقيقي شعبي ومجاهريي بني االقطار العربية .فقد مرت حقبة طويلة خالهلا مث ً ال كان عىل املسافر اجلزائري الذاهب إىل املغرب أن يمتطي الطائرة املسافرة أوالً إىل باريس قبل أن تتابع نحو املغرب ،هذه صورة عجيبة، ومن ذلك الوقت وحتى االن ال يزال اهلدف الرئيس للغرب هو منع التقاء بعض القوى العربية مع بعضها اآلخر ،وجاءت إرسائيل يف الواقع كاخلازوق يف جسد األمة العربية ،مهمة هذا الكيان املصطنع هي خلق الفواصل النهائية فيام بني أبناء األمة العربية ،أي منع أي تواصل بني األقطار العربية إىل درجة أصبحت بلدان عربية، حيارب بعضها بعضا .ونسينا مث ً ال إرسائيل، إننا اآلن منشغلون باالنقالبات الداخلية بالثورات الداخلية باحلروب الذاتية فيام بيننا ،وننسى أن احلرب االساسية هي حرب ضد الغازي الغريب عىل االرض والوطن، والذي يسكن بيننا ،يف وطننا ويفرق بيننا باستمرار .والذي هو العدو الصهيوين.
ـ عمر شبيل:
بالنسبة إىل كتاب "الرش املحض" وأنت مؤلفه ،تقول يف الكتاب إن االستعامر يف املايض كان عبارة عن عسكر جيثم عىل صدورنا وحيكمنا بالسياسة عرب عمالئه ،واالن تقول إن االستعامر املعارص يف عرصالعوملة ،والتي تسميها األمركة ليس مضطر ًا لالستعامر املبارش ،إذ يستطيع أن يستعمرنا عرب وسائله التكنولوجية عرب أنامط حياهتا وسلعها االستهالكية، ونحن بتصديرها إلينا نصبح أرسى تلك املنتجات ،وال نستطيع الفكاك من تسلطها ،ولكن مع ذلك ال بد من التخلص سميت هذا النوع من االستعامر منها ،ملاذا َ الرش املحض بالضبط؟؟؟ ـ مطاع صفدي:
الرش املحض هو تعبري عن احلال التي تصبح فيها مفاعيل الرش أكرب بكثري من أسباهبا ،يعني أن الرش بحد ذاته هو نتيجة فعل سلبي معني ،ولكنه مع استمرار سطوته تكاد أسبابه تُنسى ،ويصبح فعله السبب والنتيجة يف وقت هو يف حد ذاته َ واحد .من هنا نجد أن الغرب جيدد وسائل التعبري عن نوايا الرش الكامنة فيه حتى من خالل ابتكاراته وإبداعاته التي ليس هلا هدف تطوير االنسانية وحتررير االنسان أكثر فاكثر من حتميات الطبيعة ونواقصه االجتامعية .إن هدف هذه اإلبداعات هو إهلاء هذه الشعوب عن مشاكلها األساسية وإغراقها يف تفاصيل ال اول هلا وال آخر. لكن هي يف حد ذاهتا هلا قيمة معرفية ال َ طرق يمكن نسياهنا ،بيد أن استخدا َمها ِ تعميمها يستفيد منها القوي دائام من أجل
املنافذ الثقايف
38ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استمرار مذهبه يف السيطرة واالستغالل. أنظر مثال اآلن إىل انتشار وسائل التواصل األلكرتونية ،وهو آخر اخرتاع اكتشفته الراساملية االمريكية ،وعممته عىل العامل ،وهي يف الواقع استطاعت من خالله إىل حد كبري أن تؤجل افالسها املادي واالقتصادي .اآلن تعدّ جتارة هذه الوسائل هي من أكثر التجارات املربحة وتدر عىل أمريكا أمواال طائلة جتبيها من مجيع أنحاء العامل ونالحظ هذا التنافس الذي حيدث بني رشكاهتا من سنة إىل أخرى حتت تصور أهنا تطور وتقدم باآلالت من أجل أن يظل هناك استهالك دائم هلا .اآلن ال نستطيع أن نستغني عنها ،ويف الوقت ذاته نعرف ُأهليات (لإلهلاء) أكثر منها ذات منافع مبارشة وحقيقية لإلنسانية ،وليس فقط لقضايانا الوطنية والذاتية واالقتصاد اخلاص هبا. ـ عمر شبيل:
أنت تقصد االفالس املادي واالقتصادي ،ولكنك مل ترش إىل إفالسها الروحي الذي أصبح يبدو ظاهرا للعيان، مع تقدمها العلمي واملادي ،ولكن أال ترى أن غياب هذه املسألة الروحية قد يكون السبب وراء خراب احلضارة الغربية وهو املقتل الذي سيصيبها ؟ ـ مطاع صفدي:
مسألة اإلفالس الروحي واإلفالس املادي مسألة حتتاج إىل نقاش فلسفي عميق ،ولكن يمكن برسعة أن نقول إن أمريكا استطاعت خالل تقدمها الصناعي، هنا نالحظ أن خمتلف الصناعات الكربى
هي أمريكية باألساس ،يعني أول املستفدين من اكتشاف البرتول هي امريكا وأول من أنتج السيارات هي امريكا ،التلفزيون أمريكي ،وسائل النقل والتواصل أمريكية، إذن ،امريكا قلبت حياة االنسان راسا عىل عقب ،وقد تسميها تطور ًا وتقدم ًا ،لكن يف الوقت ذاته هي إفقار روحي لكل البرشية ،وامريكا التي مل تستطع ّ ضخ ٍ روح لذاهتا وخاصة هبا أفقرت البيئة اإلنسانية وجردهتا من شخصيتها الذاتية ،وعممت أشكاالً من االستخدامات غري املبارشة التي يصبح فيها البرش عبيد املوارد التي يستخدموهنا ،وليسوا أسيادا عليها ،هناك اآلن وحدة العوملة ،وهي جاءت لكي ترض بمفهوم العاملية الراهن يف التاريخ .العاملية تعني وصول العامل بتطوره الذايت اإلنساين إىل حال االنفتاح بعضه عىل بعضه اآلخر، وأن يتعايش وأن يتجاوز االستغالل وأن يكون فعال عامل أحرار ..عامل للبرش، منفتح ًا عىل اجلميع ،لكن جاءت العوملة لتقيض عىل هذا الراهن التارخيي الوجودي إذ حتاول تغيري هذا العامل ومفاهيمه وأهدافه وجعل االنسانية أداة العوملة، وليست سيدة عىل أدواهتا. ـ عمر شبيل:
استاذ ،أنت تقول يف معظم كتاباتك أن هذه االمرباطوريات الكربى التي انترشت يف العامل سابق ًا هي شكل من أشكال العوملة أو العاملية وكانت حتمل مفهوما سلبي ًا بسيطرة أمة عىل أمة ،يعني سيادة املفهوم الرشير الذي يساوي حجم احلال املعارصة ،وكانت موجودة منذ القدم عند الرومان واليونان ،كان هذا
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 39 نوعا من العوملة وحتى العرب الذين محلوا قيام روحية عندما خرجوا عن حدودهم االقليمية محلوا عامليتهم معهم؟
ـ مطاع صفدي: ّ إن العوملة ليست حديثة ،العوملة ختتلف عن العاملية ،العاملية هي املحصلة النهائية النتقال احلضارات املغلقة إىل مرحلة املدنية ،فاالنسانية تنتقل اآلن من احلضارات املغلقة إىل احلضارات املدنية الشاملة إذ تصبح القيم االنسانية هي السائدة وموجودة فوق القيم املحلية، ويصبح املحيل جزء ًا من العاملي الشامل، وليس نقيض ًا له ،أو خمتلف ًا عنه فهذه العاملية هي باملفهوم الفلسفي هي الراهنية اآلن، يعني كان من املفرتض أن حتقق اإلنسانية ما نسميه بالكوسموبوليتي ،أي العاملي، أي السياسة العاملية احلقيقية ،عندما تصبح األمم عبارة عن أعضاء متكاملني يف العائلة اإلنسانية الواحدة .ذلك أن تطور العقل يف االنسانية كان جيب أن يوصلنا إىل مثل هذه احلال ،لوال االستغالل ،لوال االستعامر اجلديد الذي هو استعامر عاملي اآلن ،هو ليس استعامر ًا ضد العرب فقط فالعوملة كأهناهي نوع من استعامر أمريكي للعامل ،بالسيادة عىل اقتصاده ،فهي متنع العامل أن يصبح حرا يف ذاته ،وذلك ألجل أن تبقى أمريكا هي املستفيد من خريات اإلنسانية ،باحتكارها لإلبداعات الكربى يف التكنولوجيا ،مثال األنرتنت كان معروف ًا عند اجليش االمريكي وذلك قبل أن تعممه الصناعة الرأساملية كان اجليش االمريكي يستخدمه يف نطاق عملياته اخلاصة، وضمن وحداته ومل يكن عندها االنرتنت
صناعة مرئية حتى الوقت الذي قررت فيه امريكا إخراجه من النطاق العسكري إىل النطاق العلني لكي تستفيد من الثروات اهلائلة التي تدرها عليها صناعة االنرتنت واملعلوماتية ،يعني بدال من أن نتحدث عن أرقام املئات واالالف واملاليني أصبحنا نتكلم اآلن بلغة املليارات والرتيليونات، هذا الواقع يوصلنا إىل فكرة "استبضاع االنسان" أي االنسان أصبح هو بضاعة يف حد ذاته أي سلعة ،وهي بضاعة املستفيد االول منها ،أن اسمي هذا "خصخصة الكيل " ملصلحة اخلاص ،اي ان تستويل عىل ما هو كيل ملصلحتك أنت وليس فقط أن ترتكه لفائدة االنسانية. ـ د .هالة أبومحدان:
أنا سأعود إىل مسألة االفالس الروحي الذي حتدثت عنه ،طبعا نعود إىل أن الغرب يعيش مرحلة ما قبل احلداثة وأن طرح مسالة اإلفالس الروحي هي مسالة تطرح يف نطاق فكر مابعد احلداثة، ولكن هل تعتقد أن العودة إىل األصولية الدينية حتى يف امريكا والفكر املسيحي سببه الشعور باإلفالس الروحي ،وهل أن العودة إىل االصولية يف الغرب سببه هذا االفالس؟ هذا ما يتم طرحه يف سياق عقل ما بعد احلداثة ،أي أن الفراغ الروحي قاد إىل االحتامء باألصول الدينية؟ ـ مطاع صفدي:
بالنسبة إىل الغرب املشكلة هي انقطاع صلته بالدين إذ مل يستطع ان يعوض عن هذا النقص بفكر جديد وذلك بسبب الرأساملية ،فعندما تطور العقل الغريب إىل
املنافذ الثقايف
40ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ درجة مل يعد يؤمن بالقوى الغيبية وعمم هذا بسلوك جديد ،وليس جمرد اعتقاد، يعني اآلن أن الكنائس فارغة ،واملتدينني ما زالوا أعداد ًا قليلة جدا واصبح هناك انفصال ،وليس االنفصال عن الدين الرسمي فقط ،بل ايضا انفصال املجتمع عن الدين ،وهذا االنفصال الكبري شكل فراغا روحيا وكان من املفرتض أن متأله ثقافة احلقيقة وحدها ،أي االيامن بالفكر املوضوعي وتأمني رشوط احلرية للجميع حقيق ًة ،والذي حدث أن الليربالية اجلديدة حالت دون جتذير هذا التطور املدين، حتويله اىل سلوك انساين جديد يصبح هو مصدر الروحانية املطلوبة ،روحانية واقعية وعملية ،وليست روحانية غيبية وغري منظورة. ـ د .هالة أبومحدان:
ولكننا نشهد عند الغرب أصولية دينية جديدة مثل الربوتستانتية اجلديدة والصهيونية املسيحية. ـ مطاع صفدي:هذا التغيري املتوجه نحو االصولية هو ليس تعبري ًا عن اإلفالس الروحي فقط ،بل هو تعبري عن عجز احلضارة الغربية عن االبتكار والتعويض عن هذا االفالس ،ولذلك تصبح االحتجاجات الدينية هي التعبري عن تعويض مريض وليس عن تعويض عقيل .لذلك تالحظني أن املتدينني الربوتستانت خيرتعون افكار ًا غريبة وعجيبة ويقيمون طقوس ًا هلا من أجل املحافظة عىل نخبويتهم فقط ،باعتبارهم ما زالوا يقودون عامل اليوم ،الربوتستانت هم املسيطرون عىل امريكا التي تسيطر
هي بدورها عىل شبكيات املوارد احليوية للعامل ،ويف أمريكا ذاهتا يسود التمييز العنرصي الذي حياول عنرصه األبيض الربوتستانتي خاصة أن يظل هو املتملك واملستفيد االول من الصناعات احلربية خاصة وتوابعها من الطاقة واملعلوماتية. هذه الصناعات هي عامد القوة االمريكية، لذا فاإلرادة االمرييكة تؤمن بأنه جيب أن تبقى احلروب حمرك ًا دائ ًام ومستمر ًا يف العامل ،كأهنم يعملون عىل توليد رشوطها التعجيزية يف العامل العريب والعامل الثالث، الحظي أن احلروب ُحرصت يف هذه تم تعجيز شعوهبا عن نيل املنطقة بعد أن َّ احلرية احلقيقية يف إدارة شئون استقالهلا الوطني والقومي ،فتظل هي الضحية املستدامة .احلروب انتهت اليوم بني الدول االوروبية ،ولكنها حتولت إىل حروب يف العامل الثالث ،العامل االفريقي والعريب ،حتى إهنا تراجعت نوع ًا ما يف افريقيا واستمرت يف الوطن العريب واإلسالمي ،واآلن العرب واإلسالم يشكلون آخر احلضارات التي ما زالت ضحية هذه االنفعاالت الغريزية التي تتغذى بشتى الطرق ،مثال اآلن ما الداعي إىل حركات اإلسالم السيايس ،والتي تقرص االهتامم بقضايا تفصيلية خاصة باالفراد ،واستبدلت السلوك االجتامعي العام والشأن السيايس املصريي بالتدخل يف حريات األشخاص وتكبيل الترصف الفردي بالنمذجات العقدية والطقسية، وراحت ظاهرة أحزاب االسالم السيايس تصب اهتاممها االول عىل مسالك األفراد وأفكارهم الذاتية ،حسب طقوس معينة
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 41 حتى تصبح هي البديل عن قضايا الشعب الكربى والتحريرية مثل التنمية والتقدم والوحدة واالمن القومي واالستقالل الداخيل ومنع التدخل األجنبي والعدالة االجتامعية ..الخ. ـ عمر شبيل:
استاذ مطاع كام نعرف أن حرضتك أديب وفيلسوف يف الوقت ذاته ،السؤال هو كيف استطعت أن توفق بني األدب والفلسفة مع أن هناك صعوبة يف االلتقاء بني هذين االجتاهني ،فاألدب كام تعلم حيتاج لغة وصياغة بينام الفلسفة فكر حمض وقاس ،فالفلسفة تستخدم تعابري معقدة وصعبة أحيانا ،ربام القارىء العادي قد ال يستسيغها لذا فالسؤال :هو كيف استطاع مطاع صفدي أن يوفق بني األديب والفيلسوف؟ فمثال رواية "جيل القدر" هي رواية ،وصحيح أهنا حتمل مه ًا فكري ًا، ولكنها حتمل أدب ًا!! لقد كتبتها بلغة أدب البلغة فلسفة . ـ مطاع صفدي:
ليس هناك فرق نوعي بني االدب والفلسفة ،هناك فرق إجرائي باألحرى عندما نكتب أدب َا معمق ًا إىل حد ما يصبح فلسفة ،االدب والفلسفة وجهان لإلبداع الفكري فالرواية والبحث الفلسفي اخلاص بالفلسفة احلديثة واملعارصة متآلفان متاما .أحدمها يؤدي إىل االخر، مثال سارتر هو روائي كبري وناقد ويكاد يكون شاعرا ومرسحي ًا ،لقد كان قادرا عىل حتويل الفكرة الفلسفية إىل مرسحية و بالعكس ،مل يكن يعاين أي عناء يف االنتقال
من الفكر إىل االدب ،ومن االدب إىل الفكر ،وكذلك قام بدراسات معمقة يف األدب ،يف هذه الدراسات نالحظ عبقرية سارتر الذي استطاع أن يكتشف معاين اإلنتاجات االدبية االكبرية املعارصة له، ويعيد حتليلها يف ضوء املنهج الوجودي، أصبحت تقرأ بروحية جديدة ،مثال عندما كان يتناول األديب األمريكي "فوكلنر" مل يكن معروفا يف أوروبا ومل يقرأه أحد من قبله ،كان روائيا أمريكيا قام سارتر بالكتابة عنه فرتمجت أعامله إىل الفرنسية واالملانية؛ الفكر االنساين املتحرر، ألنه اكتشف يف أدبه َ وكيف يتحرر االنسان من العبوديات األمريكية اجلديدة ،فقد نشأ هذا الروائي يف مرحلة خاصة صاحبت ما يسمى "بالكساد العظيم" عام ،1929يف تلك املرحلة حدثت أكرب هزيمة اقتصادية للرأساملية حتول املجتمع إىل جيوش من العاطلني عن العمل ،مهددين باملوت جوع ًا ،يصطفون يف شوارع نيويورك للحصول عىل كوب من احلساء مع قطعة من اخلبز. فوكلنر ،كان من االدباء الذين عايشوا تلك احلقبة وكتبوا عنها ،وكان لسارتر فضل التنويه بنوع االلتزام اجلديد يف الرواية األمريكية لثالثينيات القرن املايض .فال فرق يف العمل الفكري االصيل بني الفلسفة واالدب وكالمها يؤدي إىل اآلخر ،فمثال ميشيل فوكو الذي قمت برتمجة أعامله كان يعدّ من أكرب االسلوبيني الفكريني يف اللغة الفرنسية ،ونالحظ أن الكتب الفلسفية عندما تنزل يف لغاهتا تغيرّ من االدب وتغنيه بمصطلحات جديدة، مثال فكرة احلرية مذهب االلتزام أصبحا
املنافذ الثقايف
42ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من بدهييات الثقافة العاملية املعارصة ،ومنذ سارتر حتى اليوم مل تتغري التيارات األدبية ومل تبتعد عن هذه املنطلقات ،وأصبح االلتزام يف األدب أمر ًا طبيعي ًا ،كان هذا يف املايض حيسب نوع ًا من التعدي عىل األدب من أجل السياسة ،بينام االلتزام استطاع أن يظهر أن احلرية ليست مسألة سياسية بل مسألة وجودية ،واملواقف السياسية هي نتاج املعاناة الوجودية وليس العكس. ـ عمر شبيل:
بالنسبة إىل الربيع العريب أنت تسميه "البحر اهلائج" وما تسميه ثورة عربية تراه حاالً سطحية للتغيري العميق يف املجتمعات العربية ،أي أنت تشري إىل أن هذه احلال الثورية تالمس سطح احلدث، وأن التغيري يف العمق أمر قادم حتمي ًا، وأنت تقول" :التغيري أصبح مثل اخلضم اهلائج وما يسمى بالثورة ال ختترصه إنه أشبه بسفينة باخرة عباب اهليجان األعظم من حتتها ومن حوهلا وال تعني الثورة أكثر من مصطلح اجرائي لبعض ظواهرها"، والسؤال هل الربيع العريب سائر هبذا االجتاه؟؟ فهل سيالمس األعامق أم سيبقى عىل السطح بتقديرك؟ ـ مطاع صفدي:
الربيع العريب حقيقة راهنية ،أعني حتى الربيع العريب أصبح له مرتادفات بني األمم االخرى وأصبحنا نقول هناك ربيع أورويب وربيع فرنيس ،أي صار حاال عاملية .والعرب هلم فضل ألهنم كانوا هم رواد هذا التغيري الذي جاءهم دون أن يدروا ،إذ أنه انبثق هكذا من حدث
بسيط جدا يف تونس إىل أن أصبح اآلن راهني ًا ،اذ ال مفر اآلن من التغيري اجلذري، أنا أفهم الربيع العريب بكونه دعوة إىل العودة بالفكر االنساين إىل التغيري اجلذري العميق ،وليس التغيري السطحي ،وليس التغيري العابر ،اآلن االنسان أصبح إما أن يستسلم إىل حتويله إىل جمرد بضاعة يف أيدي جتار االنسانية أويسرتد سيادته عىل ذاته .إذا صح القول جاء الربيع كأنه هو الرد الفعيل عىل ظاهرة العوملة ،طبعا هذه مفارقة مفاجئة ،ولكنها اآلن صارت شاهدة يف قلب نيويرك ،هناك حركة يسموهنا حركة إلغاء " وول سرتيت"، "الشعب يريد إهناء وول سرتيت" ،وكبار املثقفني األمريكيني ينزلون إىل الشارع يف نيويرك بشكل دوري ويتظاهرون ضد وول سرتيت ،وول سرتيت ماذا تعني هي رمز الليربالية ،العوملة رمز االستعامر االقتصادي للعامل وليس فقط لألمريكان من هنا نستطيع أن نرى الربيع العريب كأنه بداية عرص ربيع إنساين جديد. ـ سام أبو نوح:
لقد جبتم يف رحاب العقل الغريب، لكن سؤايل هو يف إطار العقل العريب، وكام نقرأ لكم أنتم من دعاة نقد العقل العريب ،وإعامل النقد يف هذا العقل بام هو األداة الصانعة واملنتجة للمعرفة كام نعلم ،هناك فئة تدعو إىل نقد العقل العريب بأدوات معرفية تراثية ،وهناك من يدعو إىل نقد العقل العريب بأدوات معرفية حداثية مأخوذة من الغرب ،برأيك وأنت الفيلسوف الناقد إذا ما قمنا باستخدام أدوات املعرفة الغربية األوروبية
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 43 ومناهجها حتديد ًا من قبيل املنهج التارخيي والوضعي والديموقراطية والسيميائية واأللسنية ...أال تشعر معي أنه ربام قد نصل إىل نتائج غري بريئة قد ترضب يف أس الرتاث الفكري العريب أو قد تقودنا إىل مفاهيم مغلوطة ختالف ما اتفقت عليه الكتابات التارخيية العربية ،أو قد متس بقدسية املعارف االسالمية؟
ـ مطاع صفدي: يف احلقيقة ّ إن العقل الغريب قد ارتقى إىل مستوى العقل الكوين ،إن العقل الغريب بشكل عام فقد صفته املحلية ،أنا أرى كلمة غريب ال تستطيع أن ختترص طبيعة هذا العقل الغريب .لقد أصبح عقال كونيا وجتربته وكفاحه ضد املفاهيم هي جتربة للعقل االنساين بشكل عام .أنظر مثال إىل الفارق بني العرب والغرب فالعرب غابوا عن التاريخ ألف سنة .خالل ألف سنة خرجت حضارة الغرب وتطور العقل الغريب كام لو كان عق ً ال لكل إنسان يف ذات الوقت ،وليس خاص ًا باالنسان الغريب وحده ،العقل الغريب ُيساء استعامله من فئة معينة يف املجتمع الغريب ،لكن العقل الغريب هو يف حد ذاته يعطي حقائقه لكي تصبح حقائق صاحلة للفهم والتعامل عىل مستوى التجارب االنسانية ،من هنا نقد العقل الغريب جيب أن يكون جزءا من نقد العقل العام ،العقل العام جتربته الكربى كام حدثت يف التاريخ هي جتربة العقل الغريب ،وكان العقل العريب قد ساهم مسامهة أساسية يف تكوين هذا العقل الغريب ،يعني ما نسميه بالعقل الغريب فعليا هو تطور للعقل العريب اإلسالمي،
والغربيون يعرتفون بذلك فلوال ابن رشد ملا كان للغرب أن يتطور ،ابن رشد جاء يف حلظة اخلمود بالنسبة إىل احلضارة العربية وأصبح هو يف حلظة اليقظة للعقل الغريب، فاستفاد هذا الفائدة الكربى يف حني دمرنا االجتياح املغويل ،هذه حقيقة نحن َ تارخيية ،كان يمكن للعرب أن يتطوروا ما بعد فكر أبن رشد لو استطاعوا أن حيتفظوا باستقالهلم السيايس ،لقد فقدوا استقالهلم السيايس وأضاعوا حضارهتم ،الن االجتياح املغويل مل يكن اجتياحا سياسيا بل اجتياحا بدائيا قىض عىل الثقافة العربية واحلضارة االسالمية قىض عىل كل يشء له عالقة باالدب والفكر .وما زلنا حتى اآلن نعيش حتت أعباء ذلك احلدث التارخيي املهول وتداعياته. العقل الغريب انا أراه جتربة للعقل الذي حترر من دون أن نربطه هبوية ما عقل غريب عقل رشقي .ولكن اصطالحا نسميه العقل الغريب ،يف حني أن احلقيقة هو عقل إنساين ،ومن هنا نالحظ أن الراساملية حتاول أن جتعل نتائج هذا العقل يف خدمتها فهي أوال املستفيد األكرب من كنوزه، بينام متنع فائدته عن بقية شعوب العامل، أي متنع التحرر ،كل اجلهد االستعامري يف بالدنا أمريكيا وصهيونيا هو إلبقائنا ندور يف عرص االنحطاط العريب الذي هو مستمر إىل اآلن .هذه النكسات الدينية يف عاملنا العريب ،هي أبرز صورة الستمرار االنحطاط وديمومته ،نحن نسميه اآلن االنحطاط املعارص وليس االنحطاط التارخيي ،لنعرتف أننا اليوم نعيش عرص انحطاط عريب مستديم ومعارص ،لعل
املنافذ الثقايف
44ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثورات الربيع العريب سوف تنقض عىل هذا رشط أن يفهمه املثقفون اآلن، االنحطاطْ ، وهذا من واجبكم أنتم جيل الشباب ،عىل جيلكم أن يتفهم فعال أن الثورة العربية احلقيقة هي ثورة حترر عقيل أوال ،وإذا مل نبدأ من هذه النقطة فسنبقى ندوريف احللقات املفرغة ذاهتا ونكرر انحطاطنا حتت صور خمتلفة ،أي أن معركتنا ثقافية، وليست سياسية بالدرجة األوىل. ـ عمران الورداين:
أستاذنا الكريم لقد أرشتم يف سياق حديثكم إىل العوملة وإىل التطور التكنولوجي ،وقلتم إن الرصاع مل يعد عسكري ًا ،وإنام أصبح يف مكان آخر ،لقد رأينا يف بداية التسعينيات أن ما سمي باحلرب العاملية الثالثة هي حرب باردة اقتصادية ،اما اآلن وبوجود العوملة واحلرب االلكرتونية فقد رأينا ما يسمى باملعسكر االشرتاكي عاد بالذات من نفس البوابة التي خرج منها فقد خرج اقتصاديا وعاد الكرتونيا واقتصاديا ،هل هذه العودة يمكن أن نعدّ ها هناية بالنسبة إىل امريكا أم هي بداية رصاع بني املعسكرين الرشقي والغريب؟ وأين نحن كام أرشتم بوصفنا أرضية خصبة للرصاعات إذ مل يبق غرينا من كافة أنحاء العامل نعيش وقع الرصاعات واحلروب والنزاعات؟ ـ مطاع صفدي:
يف احلقيقة ،مل تعد التطورات التارخيية تشتغل بمفردات احلرب العاملية االوىل أو الثانية ،أو حتى احلرب الباردة بل أصبح لدينا اآلن مفردات أخرى ،مل نتعرف
مضموهنا حتى نصطلح عليها لفظي ًا ،لكن التجارب تنشىء مفاهيم ،من ذاهتا ،ويمكن أن تفي بالغرض املطلوب ،ما حيدث اآلن أن العاملية تقف يف وجه العوملة ،ليس الغرب وليس الرشق ،املسألة جتاوزت الرشق والغرب ألن اجلميع اآلن أخضعوا ملنطق الرأساملية التي أصبحت هي احلاكمة بأمرها عامليا ،اآلن ،الرأساملية الصينيية والرأساملية يف أمريكا واحدة متاما نفس الشكل ونفس الصورة ،وإن كانت الصني حتمل مسمى النظام الشيوعي ،إهنا قوة الرأساملية بالذات ،وأنا أرى أن الرصاع القادم هو بني العوملة والعاملية ،العاملية تعنى الربيع العريب إىل حد بعيد ،وهو يعطي رمزا هلا بالعودة إىل فلسفة احلرية فلسفة احلرية السابقة ،واملتعالية فوق كل مذهبية فلسفية أو أدبية أو دينية ،احلرية بحد ذاهتا ترتبط بكرامة االنسان وهذا ما يوحدنا مجيعا يوحد املظلومني يف العامل كليا فكرة املواطنة العاملية االن هي السيدة نحن مواطنون ضد ًا عىل الظلم واالستبداد والطغيان ،مواطنون خاضعون أو ثائرون .فمواطنتنا هي مواطنة نضالية كفاحية من أجل جعل العاملية واقع ًا إنساني ًا قاب ً ال ألن ُيعاش ما فوق حدود الدول والعروق واألخطار ،مسألة رشق وغرب مل تعد واردة اآلن ،بل الوارد اليوم فقط أن هناك ظل ًام إنساني ًا هائالً ،تقابله نزعة للحرية مل تعرفها االنسانية إالّ عىل مستوى شعوب متفرقة وأقطارها ألول مرة يف التاريخ االنساين تصبح احلرية راهنية بالنسبة إىل مجيع الفئات الشعبية أي مجيع فئات شعوب العامل .وليست حكرا عىل شعب دون أخر ،أي أنك تستطيع
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 45 أن تتفاهم اآلن حول احلرية مع الصيني والياباين واالمريكي واالورويب ،احلرية هي القوة األساسية التي تنادي هبا الفئات الثقافية الصاعدة يف كل امليادين ،لذلك فهي تتالقى ،وكذلك فالراساملية تكافح ضد هذا الطريق عرب خلق مؤسسات تزييفية تزويرية ،لكي حتول العاملية دائام إىل العادات التافهة ،إىل السلوك التافه إىل الغرائزيات ،إىل إشاعاة السلوكيات الناشزة وإغراق الناس يف مهوم صغرية وضعيفة. ـ عمران الورداين:
لقد ارشتم إىل تطابق الرأساملية الصينية واألمريكية وإن اختلفت املسميات ،وأرشتم قبل إىل أن هناك صوت ًا فلنسقط (وول سرتيت) والتي متثل الرأساملية .السؤال :يف حال سقوط (وول سرتيت) أين وضع الرأساملية بالنسبة إىل النظام االقتصادي العاملي؟ ـ مطاع صفدي:
ستظل هناك راساملية موجودة .هذا التناقض سيظل قائام الن احلرية من املعاين املطلقة ال تستطيع أن حتققها بفعل واحد، إسقاط وول سرتيت هو فعل حر عظيم، ولكنه ال ينهي إشكالية اجلدل الكبري العاملي ،حيث سيظل هناك حراك سلبي وإجيايب ،هنا فكر هيغل فكر سليم ،ولكن لالسف أهناه باصطناع أهداف أوروبية ضيقة من قبيل فكرة سيطرة العرق االبيض بينام اجلدلية هي حقيقة دائمة واآلن العاملية هي اجلو املالئم الصحي السليم من أجل أن تأخذ اجلدلية التارخيية حريتها سواء عىل مستوى االجياب أم عىل مستوى السلب.
ـ د .هالة أبومحدان
حرضتك رسمت صورة زاهرة عن الربيع العريب واعتربته خالص ًا العامل اجلديد وحتدثت عن االخوان املسلمني
بشكل سلبي بأهنم صنيعة الغرب ،ولكن كيف تفرس إفراز الربيع العريب حلكم االخوان املسلمني؟
ـ مطاع صفدي:
حركة االخوان املسلمني هي حركة
مضادة للربيع العريب ،انا كتبت مقاال هبذا
الشأن ،وهذه احلركة اجلدلية كنا نتكلم
هبا ،الربيع العريب طرح حتدياته ور ّد فعل عليه قام طرح االخوان املسلمني .واملقالة كتبتها يف جريدة القدس العريب" بعنوان " الربيع العريب والطغيان الغيبي :نقيضان
ال يلتقيان" ،هناك اآلن خوف من سقوط االستبداد السيايس واستبداله باستبداد
غيبي .ونرى أن خروج املرصيني من جديد إىل امليادين للتظاهر ضد حكم االخوان
خري دليل عىل رفض الربيع العريب حلركة االخوان .إهنا بداية عرص تنويري عريب
جديد ،من دونه لن تكتب للنهضة العربية
أية جولة جديدة الستقالهلا احلقيقي.
أرسة التحرير
املنافذ الثقايف
46ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«براءة املسلمني» في صورتني فـؤاد خليـل .Iبني الفني والسيايس
أثار فيلم براءة املسلمني امليسء إىل النبي حممد موجة واسعة من االحتجاجات الشعبية يف العاملني العريب واالسالمي. وترافقت االحتجاجات مع مواقف متباينة اختذهتا نخب فكرية وسياسية من الفيلم. وقد تراوحت مواقفها بني من قدح العمل فني ًا ونعته بأوصاف حتقريية ورأى تالي ًا أنه ال يستدعي أي احتجاج أو حترك .ومن أدان الفيلم بأقذع العبارات واعرتض عىل التحرك ،وأدان اشكاله العنفية يف الوقت عينه .ومن ذهب إىل تسييس الواقعة ودعا إىل االحتجاج ومواصلة التحرك ودرء "االعتداء الغريب" عىل املسلمني.
وجاء هذا التباين املؤمثل "الذي يستند إىل مثال" يعرب عن وجهينْ يف السيايس. فالقدح واالدانة املزدوجة خيفيان تبعية أصحاهبام إىل امريكا ،والتابع يتوسل رضا املتبوع ،وال يبغي إزعاج خاطره واحلض عىل التحرك "االمرباطوري". ّ يستبطن مناهضة دعاته المريكا ولسياستها الكولونيالية يف املنطقة .والداعية قد وحيمله ما ال حيتمل بذاته. يستثمر احلدث ّ ومع تينك احلالينْ يكون السيايس قد انزاح
بالفيلم وبام يشاكله من أعامل فنية إىل ما ليس حيمل إليه يف األصل .فـ «براءة املسلمني» ،هو المراء براء من أي قول فني فيه .ذلك أن طبقته التحتية ال ترتكز عىل املستوى الفني أي ًا تكن طبيعته ،كام ال تتأسس عىل السيايس املبارش الذي أظهرته ردود الفعل كأنه العمق الكامن وراء إنتاجه وإخراجه...
.IIنظر حفري
واحلال ،فإن النظر احلفري يف الفيلم، جيد أن طبقته التحتية حتمل إىل قضية ثقافية موصوفة ،ما زالت حارضة يف جعبة أوساط غربية واسعة من أهل الفكر والصحافة والفن واألدب .وليس عسري املنال هنا ،أن يكشف الوصف الظاهرايت أن هذه القضية ترضب جذورها يف تربة الفكر االسترشاقي ،وأن فروعها تعانق السيايس الكولونيايل يف الغرب .ويف نطاق هذا وذاك ّتولدت األنوية الغربية من حيث كوهنا رؤية يف جوهرانية األنا عند الغريب وعرضية ذات اآلخر غري الغريب.
وعىل هذا ،بنى االسترشاق مقوالته يف الزمن احلديث .ومما ورد فيها :ان الغرب
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 47 هو ذات التاريخ أو فاعله املحوري ،وإن العقل حيقق غاية صريورته يف رحابه. وهذه الغاية تتبدى يف جوانب منها يف احلرية والعلم والتقدم .فيغدو الغريب يف ضوئها متميز ًا ًبعقل حتلييل تركيبي جييد التجريد يف أبواب املعرفة كلها ،ومنطبع ًا باملبادرة العلمية وملكة التنظيم والقدرة عىل الرتاكم... ويف املقابل أوردت :أن الرشق هو موضوع التاريخ ،وهو منفعل باملجرى الذي يصنعه الفاعل ،وأن العقل فيه اليتوافر عىل صريورة غائية ،بل هو أشبه بعابر سبيل يف ديار اهلل! .وبذلك كان الرشق يتخ ّلق باالستبداد والغيب والزمن الرتاوحي ،وكان الرشقي يتم ّيز بعقل انطباعي رسدي ال حيسن التنظري والتعميم ،بل يغرق يف املحسوس واجلزئي ،وخيضع إىل الغريزة واالنفعال، ويلجأ إىل الغيب وجيانب التنظيم ويعجز عن مراكمة اخلربة والعمل.
وهكذا ،إذا كان الغرب أنا التاريخ وفاعله ،والرشق موضوعه؛ فقد حق هلذه األنا أن تعيد تشكيل موضوعها وفاق هيئتها احلضارية .أو بتعبري آخر، لقد امتلك الغريب "حق التفوق األبدي" عىل املوضوع .فأجازت له طبيعته املتفوقة أن يستعيل عىل الرشقي وأن يسيطر عليه ابتغاء متدينه أو حتضريه ،أو للدقة ابتغاء ترويضه يف خدمة مصاحله العليا .ولعل هذا ما حييل إىل األرومة اإليديولوجية لالستعامر الكالسيكي الذي صنع التدمري يف بالدنا باسم التمدين وأثقل علينا بعقل عنفي حتت عنوان التحضري... تلك
هي
النمطية
التي
بناها
االسترشاق عن اإلنسان الرشقي وحتديد ًا عن العريب واملسلم .وهذه الصورة حفظت يف خزانة الفكر االسترشاقي من ارنست مر زمن رينان إىل برنارد لويس ...ثم ّ اعتقدنا فيه بصدق أن تنميط غري الغريب يف فكره وسلوكه ،أصبح من املايض أو أن مرحلة االسترشاق الكالسيكي قد انطوت إىل غري رجعة بعد أن شهد العامل وبخاصة يف الطور الراهن للعوملة ،نتاجات نوعية يف منظومات الفكر والثقافة من مثل: التواصلية ،والتبادلية ،والنسبية الثقافية واحرتام خصوصية اآلخر املختلف يف دينه وثقافته وعرقه ،والوحدة من داخل التنوع، والتنوع من داخل الوحدة ،واملشرتكات احلضارية بني الشعوب ،وغنى البرشية يف املشرتك واملختلف بينها ،واجلدل الواسع والغني بني الكوين واملحيل ...لكن يبدو أن اعتقادنا صدر عن رشقي صدّ ق أن مياه االطليس أصبحت صافية بني ضفتيه .ثم ما لبث أن وجد أن عكرها ما زال ينرسب يف األعامق .وبلغه أخرى ،أن التنميط االسترشاقي للعريب واملسلم ما فتىء حي ًا يف مالحمه العامة ،وقد أضيفت إليه قسامت ما بعد حداثية جديدةُ .فصنّفت شعوب الرشق يف املنطق املا بعد حداثي ،قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وإثنيات، وقرت صورة العريب واملسلم يف خلد ّ دوائر ثقافية وسياسية غربية ،عىل صفات احليس والغرائزي والعدواين والفوضوي واملتطرف واإلرهايب والعنفي.. إهنا املالمح والقسامت التي استقى منها الفيلم ثقافته النمطية يف عالقته مع العريب املسلم .وهذه الثقافة هي التي
املنافذ الثقايف
48ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تسوغ امتهان مقدسات األخري وحتقريها، ّ تسوغ السيطرة املعوملة أمني ًا وعسكري ًا مثلام ّ عليه .والطريف يف هذا الباب ،إن الغرب الكولونيايل أدان الفيلم ودافع عن حرية فوته عن التعبري يف بالده يف آن .لكن ما ّ قصد أن ما يفاخر به من حريات ال يعدو عن كونه انتقائي ًا عندما يتعلق األمر بالعريب واملسلم .ذلك أن انتقائيته تصدر عن الثقافة نفسها التي طبعت مضمون "براءة املسلمني" .فمن ينظر يف حم ّيا بعض حكّام الغرب ،جيد إن برنارد لويس رسم عىل وجوههم إمارات التفوق واالستعالء عىل غري الغريب .ثم ترك عليها مسحة عميقة من غبار احلروب الصليبية...
.IIIصفحة مقابلة
ويف صفحة مقابلة ،مل يقدّ م البعض من احلركات االسالمية املعارصة ،أو ما بات يعرف اصطالح ًا باالسالم السيايس، صورة زاهية عن اإلسالم .إذ إنه أنتج إسالم ًا بكيفية منمطة يف الفكر ويف السلوك .وهي كيفية متتىلء بالتمذهب واإلقصاء وفوىض الفتاوى ومسالك التشدد والتطرف ،فإذا كان املذهب قوالً تأويلي ًا يف الدين ،وهذا قول مرشوع يتأتى عن جدل املجتمع والفكر ،وينفتح عىل االعرتاف باآلخر ،فإن التمذهب عند ذاك البعض هو قول منغلق عىل حرفية النص الديني ،ال يأخذ بجدل أو يقف عند صريورة ،بل يسكن يف القرشة ويدعي أنه يف اللب؛ األمر الذي جيعله إقصا ًء عىل املطلوب لآلخر املختلف يف الفكر والدين واملذهب .ومما قاد إليه التمذهب يف املعيش :أن ُيستظهر احلديث النبوي
دوغامئي ًا ،بأن ثمة إسالم ًا صحيح ًا حتتكره الفرقة الناجية ،وإسالم ًا منحرف ًا تُرمى به الفرق األخرى .وأن تنتعش "فرقة" فسطاطية تشطر اخللق إىل ثنائية الكفر واإليامن وتُدخله يف ديناميات التحارب البدوي .لذا ،ال يعود مستغرب ًا أن يتحول الشهرستاين والبغدادي إىل مرجعية دينية معارصة! .وأن تبقى صفني ح ّية يف أوساط ليست قليلة من املسلمني ،وأن يظل تقذيع بعض الشخصيات االسالمية التارخيية جاري ًا عىل ألسنة أوساط أخرى. أما مؤدى االنغالق الدوغامئي ،فهو انحطاط فكري وأخالقي يف رضوب "االفتاء" وموضوعاته .ففي عرص التواصل اإللكرتوين وزمن الثورة املعرفية ،ينشغل بعض اإلسالم السيايس يف فتاوى اإلرضاع وأشكال النكاح ،وعالقة املرأة باملذكر من األشياء ،وباملؤنث منها ...الخ .والغريب ٍ مفوه بعد "إفتاء" كهذا أن ينربي مفت ّ حيدثك عن حرية املرأة يف اإلسالم ،ويعظك بأن الغريب مادي وحيس وشهواينَّ ، وأن الرشقي روحاين ،وهو عىل حشمة وزهد بالغني! ثم تراه يمتدح شهوة القتل التي فتكت باحلالّج والسهروردي ..إهنا احلرفية البائسة والشكالنية الفارغة التي تستكني إىل منطق الكهف وأوهام القبيلة...
إذن ،العريب أو املسلم الذي يشمله التنميط أعاله يتميز بصفات املتمذهب واحليس واإلقصائي والفسطاطي والغرائزي .وهذه الصورة وجدت رواجها غري املسبوق يف الغرب حتت مسمى "اإلسالموفوبيا" .وقد أمكنها أن هتمش كل صورة مغايرة هلا تزيح أو أن ّ
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 49 عن االسالم ،وبخاصة صورة االصالح الديني منذ أعالمه النهوضيني حتى أعالمه املعارصين .فكان أن أزاحت حممد عبده وعبد اهلل العالييل ...الخ ،إىل اخللف، وعرضت بن الدن والظواهري شبه وحيدين عن املشهد املرشقي ...ويف اجلهة األخرى كان الغرب الكولونيايل يستدعي صورة اإلسالم التنميطي االنغالقي لكي ربر سيطرته عىل العرب واملسلمني .إذ أنه ي ّ ال يستطيع أن حيقق إشباع ًا كام ً ال لذاته من غري إخضاع اآلخر والسيطرة الكولونيالية عليه .كام كان الفكر االسترشاقي يتشوق يرسخ صورته عن العريب إليها لكي ّ ويسوغ طروحاته حول ذات واملسلم ّ التاريخ أو آنويته احلضارية. وهكذا ،تظهر صورتا االسترشاق ما بعد"احلداثي" واإلسالم التنميطي االنغالقي متكاملتني .فكل صورة منهام تشكل القفا احلقيقي لألخرى .ذلك أن مصدرمها حيمالن إىل العنف سواء الرمزي أم املادي ،ويتامثالن يف نمط التفكري الذي يتأسس عىل مسبقات أيديولوجية تقطع يف الصدق واليقني .فيزعامن امتالك احلقيقة، ويرشقان كل خمالف هلام بالزيغ والضالل. ومن يغره هذا الزعم يتجرأ عىل املعتقدات
الدينية لآلخر واليتورع عن قذف أنبيائه وحمرماته .ما جعل ثقافة االسترشاق "احلداثية" ومن ثم ثقافة الفيلم ما بعد احلداثية ،تنطويان عىل امتهان نبي العرب واملسلمني .لكن هذه اإلساءة جاءت يف ظل تقاطع اإلسالم التنميطي املعارص مع االسترشاق ما بعد احلداثي ،وبعد أن قدّ م هذا اإلسالم "إبداعاته الفكرية يف علم التمذهب واجلنسانية"! أو بمعنى آخر، عرض مقدساته نفسها للتقذيع بعد أن ّ واالمتهان... يتعرف أخري ًا ،إذا شاء أحدهم أن ّ إىل امللموس إزاء ما سبق ،فام عليه إال أن يشهد حول العالقة مع اآلخر املختلف، حوار ًا لغريب استرشاقي وآخر إلسالمي انغالقي .فمع كليهام لن جيد أي منطق متسق يف احلوار ،بل يستمع إىل لغة االعتداد األجوف بالنفس واالستعالء املريض عىل اآلخر ،وأفضلية كل منهام َ يف فهم احلق واحلقيقة واجرتاح احللول النهائية ملشاكل اخللق يف الدين والدنيا... االثنان يعرضان عن اي منطق بنائي مفتوح ،ويقيامن يف كهف فكري مظلم ال ينتج سوى التهيئة الدورية للحرب املتبادلة بني الشعوب.
فـؤاد خليـل
2012-10-7
املنافذ الثقايف
50ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الظاهر بيبرس «املغامر» الذي حرر األمة من االحتالل الفرجني وأحلق باملغول أول هزمية في تاريخهم بشـرى اخلليـل مقدمة
عندما نقرأ التاريخ ،ومع رضورة فهم املحركات الرئيسة لبواعثه وصحة تشخيصها ،ال بد من ثالثة أمور: )1قراءة احلدث التارخيي قراءة صحيحة وحيادية .. )2االطالع عىل جمريات احلدث وتفاصيله بام هو مؤكد منه ومجُ مع عليه .. )3التعامل بحس نقدي دقيق وحساس مع ما هو غري مؤكد أو غري مجُ مع عليه ..
وبمراجعة املخزون الثقايف ألمتنا يف هذه املنطقة حتديدا نجد أن إشكاالت والتباسات متعددة اعتورت أسلوهبا يف قراءة تارخيها ،ولعل أبرز أسباهبا هو عدم احليادية يف قراءة احلدث ويف تدوينه األمر الذي أدى إىل االستنسابية يف اختيار ما يمكن اإلضاءة عليه من أحداث أو التعتيم ...إىل حد أننا أحيانا نجد أنفسنا يف قراءة حدث أو نص تارخيي ما وكأننا ِ شعب أمام سرية شعبية استنبطتها أهواء وراكمت أحداثها ذاكرته بحسب ما هيوى. يف حني أن التاريخ ،وكي يمكن اإلفادة منه واستخالص الفوائد والعرب ،جيب أن يكتب بعقل علمي ..حيادي ..وأن خيضع
لضوابط وقواعد إثبات صارمة ،وإال فلن يمكننا أبدا فهم املحركات الرئيسة لبواعثه.
ففي قراءتنا لتارخينا حدث كثريا أن أضأنا عىل أحداث أكثر مما تستحق.. كذلك َحدَ ث أن عتَّمنا عىل أحداث كانت قد شكلت منعطف ًا هاما يف مصري أمتنا... كام حدث أيضا أن أخطأنا يف تقويم فقومنا إجيابا ما كان جيب تقويمه أحداث َّ سلبا والعكس صحيح . وكان أحد أكرب ضحايا هذه القراءة "الفوضوية" لتارخينا هو الظاهر بيربس.. هذا الرجل العظيم ..العظيم إنسان ًا والعظيم ثوري ًا والعظيم قائد ًا عسكري ًا والعظيم سلطان ًا ورجل دولة ..
والذي حقق خالل مسريته التي بدأت من ضابط مملوكي يف خدمة امللك الصالح أيوب إىل سلطان مرص انتصارات باهرة، ثالثة منها شكلت منعطف ًا تارخيي ًا مصريي ًا يف تاريخ مرص واألمة؛ معركة املنصورة، معركة عني جالوت ،ومرشوعه لتحرير األمة من الفرنجة.
ـ فمن هو الظاهر بيربس؟! .Iبطاقة هوية
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 51 أ) إسمه هو امللك الظاهر ركن الدين بيربس العالئي البندقداري الصاحلي النجمي.. رابع سالطني الدولة اململوكية بعد عزالدين أيبك ونور الدين عيل أيبك وسيف الدين قطز/السلطان املظفر رشيك بيربس يف نرص عني جالوت .
ب) ألقابه لق َّبه الناس بأيب الفتوح .ولق َّبه امللك الصالح أيوب سلطان مرص بركن الدين لقب نفسه وبعد وصوله إىل حكم مرص َّ بامللك الظاهر. ج) والدته ووفاته ولد عام 620هـ 1223م ،وتويف/قتل بالسم يف دمشق ودفن فيها يوم اخلميس يف 27حمرم من سنة 676هـ املوافق 1277/6/30م ،بعد أن كان قد حرر معظم املدن اإلسالمية من احتالل الفرنجة ،وبعد أن شارف االحتالل الفرنجي عىل النهاية.
د) أوصافه طويل القامة ..ضخم اجلثة ..أسمر اللون ..ذو شخصية قوية ..جهوري الصوت ..أزرق العينني ..يف إحدامها نقطة بيضاء ربام هي التي لعبت دورها عندما رصفت بعض الناس عن رشائه يف خطة من القدر كان يرسمها ليجعله يف اليد األمينة التي اختارها اهلل لتتعهده بانتظار يوم موعود لألمة اإلسالمية أراده اهلل أن يكون وعدا من وعوده الصادقة. هـ) أصله من القوقاز ..استرُ ق وهو طفل ..وقد بقيت هذه املرحلة من حياته جمهولة فال أحد يعلم كيف وصل إىل جتار الرقيق ولكن ما
هو معلوم أن أحد جتار الرقيق جاء به إىل محاة حيث جرى بيعه إىل حاكمها امللك املنصور الذي مل يعجبه بسبب تلك النقطة يف عينه فتم نقله إىل سوق الرقيق يف دمشق ور ِس َم مع قدره َقدَ ر أمة سم قدره ُ التي فيها ُر َ يف سوق الرقيق يف دمشق [وكان حينذاك عمره أربعة عرش عام ًا] جرى بيعه بثامنامئة درهم ..ولكن من اشرتاه هذه املرة أعاده أيضا لسوق الرقيق بحجة وجود عيب ُخلقي فيه ..وبإعادته كانت املصادفة التي شكلت فيام بعد منعطف ًا تارخييا أراد اهلل به أن يعيد لألمة جمدا طاملا أعاده وطاملا َض ْي َعته..
يف سوق الرقيق يف دمشق صادف جميء أحد أمراء املامليك األمري عالء الدين أيدكني البندقدار الذي أعجب به أيام إعجاب عندما رأى فيه أسدا هصورا يف جسد إنسان ..ورأى يف عينه تلك الشعلة العبقرية فاشرتاه غري آبه بتلك النقطة يف عينه ،ليلحقه باملامليك السلطانية يف مرص، ومنه أخذ بيربس اسم العالئي البندقداري. وكانت هذه أول خطوة له يف طريق املجد ..حيث انتقل إىل خدمة امللك الصالح نجم الدين أيوب فأخذ منه اسم الصاحلي النجمي ..وقد أعتقه امللك الصالح ومنحه ب ركن الدين وهو ب اإلمارة ،ثم َل َق ْ َل َق َ اللقب الذي اشتهر به عرب التاريخ فأصبح اسمه الكامل "ركن الدين بيربس العالئي البندقداري الصاحلي النجمي"
.IIملحة عن املامليك
ال شك أن أصل املامليك هو من الرقيق ..إال أن هذه التسمية انحرصت باألبيض من الرقيق ،حيث أطلقت
املنافذ الثقايف
52ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تسمية مماليك عىل أولئك الذين كان جيري إحضارهم من بالد ما وراء النهر (هنر جيحون) واملعروفة ببالد فارس القديمة وهي شبه جزيرة القرم ،ومن القوقاز والقفجاق وآسيا الصغرى وتركستان وتركيا وغريها من العرق اآلري األبيض، وكانت جتري تربيتهم وإعدادهم إعداد ًا خاصا ليكونوا حماربني أشداء وجنودا يف خدمة السالطني ،فكانت هلم مدارس خاصة يتعلمون فيها اللغة العربية والقرآن الكريم والفقه وأصوله ثم فنون احلرب وأساليبها ،فيتدربون تدريبا عاليا عىل كل أنواع األسلحة ..وكل ذلك بإرشاف السالطني املبارش ،وكانت هلم ُمدُ ٌن خاصة هبم وثكنات عسكرية خاصة بحيث يصبحون قوة عسكرية ضاربة قوية الشكيمة متفقهني باإلسالم مع َّظمني له .. وشديدي الوفاء للسلطان ..حيث كان املتميزون منهم يتدرجون يف اخلدمة إىل أن يبلغوا مرتبة األمراء ..وكان امللك الصالح سلطان مرص واحدا من ملوك األيوبيني الذين اعتنوا عناية خاصة باملامليك وكان يرشف بنفسه عىل تعليمهم وتثقيفهم وتدريبهم ..وكان من هؤالء الفتى بيربس الذي ل َّقبه امللك الصالح بعد أن كرب واشتد ساعده وملس بنفسه تفوقه ومت َّيزه عىل أقرانه وبدأ يربز كقائد متميز بـ" :ركن الدين"
أ) عرصه ولد بيربس وعاش وكرب ومات يف فرتة احتالل الفرنجة لبالدنا ،حيث كان احتالل الفرنجة قد بدأ يف العام 1097م ( )6/18وانتهى يف العام ،)6/17 ( 1291 وكانت حياة بيربس يف املئة الثانية من
احتالهلم الذي دام حوايل مئتي عام ..وقد صادفت والدته يف زمن الدولة األيوبية (بعد وفاة صالح الدين /1193 /بحوايل ثامنية وعرشين عاما) ..وكان األيوبيون يف مرص والشام قد ضعف شأهنم بعد وفاة صالح الدين وبعد انقسام الدولة بني أبنائه وإخوته ،حيث حتولت الدولة األيوبية إىل جمموعة من املاملك عىل رأس كل منها ملك أيويب؛ مملكة دمشق ،مملكة حلب ،مملكة الكرك ،مملكة بعلبك.. مملكة محص ،مملكة محاه ..ومملكة مرص (أكربهم وأقواهم طبعا) ..وقامت بينهم منافسات وحروب كثرية أشغلتهم عن مقاتلة الفرنجة ،بل ودفعت بعضهم أحيانا كثرية إىل االستعانة بالفرنجة بعضهم ضد بعض ،عدا مرص التي كانت يف حالة عداء جدي مع الفرنجة وكانت قضية حماربتهم من أولوياهتا ...وكان هذا من حسن حظ الظاهر بيربس الذي ساقه قدره وقدر األمة كام أسلفنا إىل أن يكون بملكية سلطان مرص الصالح أيوب ،وأن يدخل مدرسته لتنشئة الضباط املامليك، وأن يرتبى ويتثقف ويتعلم فنون احلرب والقتال بإرشافه ،ويتدرج ويرتقى إىل أن يصبح أحد األمراء املربزين فيطلق عليه السلطان الصالح أيوب اللقب ذا املغزى الكبري "ركن الدين". ب) ملحة تارخيية عن املئة سنة األوىل من احتالل الفرنجة: يف العام 1096كانت أوىل محالت الفرنجة إىل الرشق ،وكانت بقيادة بطرس الناسك ،حيث بدأت طالئعهم تقرتب من القسطنطينية يف أوائل متوز ،1096
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 53 ويف أوائل آب بدأوا باجتياز البوسفور حيث كانت هتافاهتم تسمع يف كل مكان بأهنم جاؤوا إلبادة املسلمني (علام أهنم هنبوا العديد من الكنائس الرومية)، وكانت أعدادهم تقدر بعرشات األلوف.. وحوايل منتصف أيلول من نفس العام كانوا حيارصون نيقية عاصمة السلطان السلجوقي قلج أرسالن (سلطان ما يعرف اليوم ب تركيا) وهو أول قائد مسلم يقع يف مواجهتهم.. يف 21ترشين األول سنة 1096كانت
اهلزيمة الساحقة التي منيت هبا محلة الفرنجة األوىل عىل يد السلطان قلج أرسالن الذي مل تسع الدنيا فرحته وهو يرى ذلك اجليش الذي طاملا ُو ِصف بأنه مرهوب اجلانب وقد أبيد عىل يده والغنائم الضخمة مكدسة حتت قدميه. يف األشهر األوىل من العام 1097
كانت احلملة الثانية للفرنجة إىل الرشق.. وكانت النتائج خمتلفة هذه املرة فقد ُمني هبا السلطان قلج أرسالن هبزيمة نكراء وخرس عاصمته نيقية التي اضطر للتنازل عنها إىل قيرص الروم ألكيس كومنني والتي كان يف األصل قد استوىل عليها السلطان سليامن والد قلج أرسالن من الروم مفضال بذلك أن يأخذها جاره ألكيس عىل أن يستويل عليها الفرنجة ،وانسحب من املنطقة كلها إىل الداخل خمتارا لنفسه عاصمة أخرى هي مدينة قونية ،ومل يعد يرى نيقية أبدا..
وكانت أسباب اهلزيمة ترتبط بمجملها بانشغال قلج أرسالن وباقي سالطني السالجقة بمقاتلة بعضهم بعض ًا.
ويف 21ترشين األول 1097فك الفرنجة حصارهم عن عاصمة قلج أرسالن بعد أن دخلها ألكيس وأصبحت تابعة له ..وواصلوا تقدمهم باجتاه أنطاكية كربى مدن بالد الشام وامجلها وأكثرها ثرا ًء ورخاء ..واحلصن املنيع ..وكانت كذلك من أكرب مدن آسيا العربية الواقعة حتت سيطرة األتراك السالجقة.
حورصت أنطاكية فاستنجد صاحبها ياغي سيان َب َم ِلك َْي دمشق وحلب الشقيقيني اللدودين املتصارعني بال هواده رضوان ودقاق ..فلبيا ..وتقدم كل منهام بجيشه لنرصة أنطاكية ولكنهام ما لبثا أن انسحبا فيام بعد من املعركة ألسباب بعضها له عالقة بعداوهتام املتبادلة.. واآلخر بسبب مواجهات مع الفرنجة ُمنيت بخسائر يف جيش كل منهام ما جعلهام يقرران االنسحاب ..وما جعل ياغي سيان يستنجد بملك املوصل كربوقا الذي لبى وجاء عىل رأس جيش كبري ..ولكن وقبل وصوله كان أحد اخلونة قد فتح ثغرة للفرنجة دخلوا منها إىل داخل احلصن املنيع ..ومل تعد تنفع بطولة احلامية وشدة بأسها بعد حصار طويل أهنك قواها.. وكان ما كان من مذبحة أنطاكية التي مل ترحم ال مسلم وال مسيحي ..فغاصت املدينة اجلميلة يف النار والدم ،وكان ذلك يف 3حزيران سنة ..1098
سقطت املدينة بأكملها إال قلعتها الشهرية ..حيث مترتس هبا شمس الدولة ابن ياغي سيان وصمد فيها رافضا كل تقديامت بوهيمند كبري زعامء الفرنجة التي عرضها عليه لتسليم القلعة والتي رفضها
املنافذ الثقايف
54ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بإباء وشمم مفضال املوت عىل التسليم. وبعدَ ما ُس ِم َي بيوم العار مل يعد يف بالد الشام من قوة قادرة عىل إعاقة تقدم الفرنجة باجتاه باقي مدن الرشق.
املعرة يف أواخر العام 1098سقطت َّ بعد جمزرة مهولة شهدت كل مظاهر الوحشية من مثل غيل الرجال يف القدور وشك األطفال يف السفافيد لشوهيم وأكلهم( ..حسبام جاء يف وصف املؤرخني الفرنجة). ويف شباط 1099سقط حصن األكراد بعد مناورات وغارات بالغة الذكاء قام هبا الفالحون أربكت الفرنجة وأوقعت هبم خسائر معقولة ولكنها مل متنع سقوطه..
وقد أثبتت واقعة حصن األكراد وبعدها واقعة مدينة عرقة أن إمكانية حتقيق نرص حاسم عىل الفرنجة كان أمرا ممكنا لوال اخلالفات احلادة التي كانت مسترشية بني سالطني املسلمني السالجقة بعضهم مع بعض ...وحتول حصن األكراد إىل املقر العام لقيادة الفرنجة بزعامة سان جيل أحد زعامء الفرنجة الذي جلس فيه بعد سقوطه يتقبل اهلدايا ورسائل الوالء من امللوك واألمراء املسلمني من املدن األخرى كحمص وطرابلس وغريها هبدف حتييد ممالكهم من املصري املظلم ألنطاكية واملعرة . ولكن هدايا عاهل مملكة طرابلس من بني عامر مل تنفع ،حيث هاجم الغزاة مدينة عرقة ثاين أكرب املدن يف مملكته بعد طرابلس وكانت حصنا منيع ًا أهنك حصاره الفرنجة ،كذلك أعجزهتم بطولة أهله حتى ُأجرب الفرنجة عىل االنسحاب
دون قيد أو رشط وتابعوا طريقهم بمحاذاة طرابلس إىل باقي مدن الساحل بإجتاه بيت املقدس .وكانت هدايا ومساعدات جالل الدين ملك طرابلس قد اهنالت عليهم مع تقديم اخلدمات من أدالء ومؤن وذخائر وكل ما يلزم وكان ذلك يف شهر نيسان ..1099
يف 19أيار 1099اجتاز الفرنجة هنر الكلب الذي كان يشكل احلدود الشاملية للدولة الفاطمية واحلد الفاصل بينهم وبني إمارة طرابلس .وكانت حينذاك الدولة الفاطمية يف آخر أيامها ،وكان الرجل القوي فيها واحلاكم املطلق هو الوزير املتنفذ األفضل شاهنشاه وهو مملوك سابق من أصل مسيحي الذي أخذ قراره بمواجهة الزحف الفرنجي منسحبا من احلدود الشاملية تاركا مدن الساحل لتدبري أمرها بنفسها حاشدا قواته يف بيت املقدس ..فاستسلمت بريوت بال مقاومة مقدمة املساعدات املطلوبة من مال ومؤن وأدالء ..وكذلك كل مدن الساحل بام فيها صور وعكا وصوال إىل مشارف بيت املقدس ..ما عدا مدينة صيدا التي استبسل أهلها يف الدفاع عنها إىل أن سقطت أخري ًا فتعرضت النتقام شديد.. ُفأتلفت بساتينها و بت مجيع القرى ِ والض َيع نهُ املحيطة هبا وكانت حالة املقاومة الوحيدة بعد مدينة عرقة .
يف 7حزيران بدأ حصار بيت املقدس ..وبعد مقاومة رشسة من حاميتها بقيادة افتخار الدولة سقطت يف أيدي الفرنجة وكان ذلك يف 23شعبان عام 492هـ املوافق 15متوز من عام 1099م ..وقد أعمل الفرنجة السيف يف رقاب أهلها
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 55 مجيعهم مسلمني ومسيحيني وهيود فقتلوا خالل أسبوع ما اليقل عن سبعني ألف (بحسب ابن األثري) ومن مجلة أفعاهلم كانت "حمرقة اليهود" ،حيث جمُ ع من بقي منهم عىل قيد احلياة يف الكنيس يف احلي اخلاص باليهود وأرضمت فيهم النار حتى مل يبق منهم أحد ..أما جيش األفضل الذي كان يف الطريق من مرص لنجدة حاميته يف بيت املقدس فقد وصل متأخر ًا عرشين يوما عىل وقوع مأساة بيت املقدس، ومل يكن يملك جيش األفضل العدة حلصار الفرنجة يف بيت املقدس فتوجه إىل عسقالن ومنها أوفد رسله إىل أمري بيت املقدس اجلديد طالبا منهم مغادرة فلسطني لقاء ضامنات للحج والزيارة.. حرك جيشه وكان رد األمري الفرنجي أن َّ عىل وجه الرسعة باجتاه عسقالن ،حيث كانت موقعة كبرية بني اجليشني اهنزم فيها اجليش املرصي وقتل منهم ماال يقل عن عرشة اآلف رجل. أما موقف اخلليفة العبايس يف بغداد املستظهر باهلل فقد كان بإبداء الكثري من احلزن واألسى عىل بيت املقدس.. وكان هذا كل ما يملكه لنرصهتا ..حيث أن السلطة املطلقة يف دار اخلالفة كانت لرجل بغداد القوي السلطان بركيارق السلجوقي ..الذي كان منشغال يف حروبه ضد شقيقه حممد سلطان شاميل فارس ،ومل يكن من املمكن لبيت املقدس أن تأخذ هلا مكانا يف سلم أولوياته ...حتى أنه مل يكن يتكلم العربية. ويف العام 1109م عاد الفرنجة واحتلوا طرابلس ..وهكذا أصبح الرشيط الساحيل
كله من أنطاكية حتى بيت املقدس ساقطأ يف يد الفرنجة ..وهكذا ..ضاعت بيت املقدس وبحسب وصف ابن األثري" :واختلف السالطني فتمكن الفرنج من البالد".
يف احلقبة املمتدة من تاريخ سقوط بيت املقدس عام 1099إىل تاريخ حتريرها عىل يد النارص صالح الدين األيويب عام 88 ( 1187عام) شهدت املنطقة اإلسالمية املحتلة من الفرنجة رصاعات كثرية ومتواصلة بني املسلمني والفرنجة يف كل مكان ..يف صور ..يف أنطاكية ..يف حلب.. يف جوار دمشق ..وشهدت حصارات مرة من الفرنجة ملدن إسالمية خارجة عن سيادهتم ومرة من املسلمني للفرنجة ..كام شهدت للمسلمني الكثري من االنتصارات والكثري من البطوالت ..كذلك شهدت للفرنجة انتصارات كثرية مضادة.. ويف فرتات كثرية كذلك كانت تشهد رصاعات مللوك املسلمني وأمرائهم بعضهم مع بعض مل تكن أقل رشاسة.. وأحيانا تشهد حتالفات لبعض أمراء املسلمني مع بعض أمراء الفرنجة ضد أمراء مسلمني آخرين ..كذلك أخذت العدوى بالفرنجة أنفسهم ..حيث تغيرَّ حاهلم عام كان عليه من وحدة داخلية متينة فبدأت نزاعاهتم الداخلية فضعفوا عام كانوا عليه إبان وصوهلم..
إال أن السمة الغالبة للحقبة واألكيدة هي الرفض التام للوجود الفرنجي من قبل عامة املسلمني وكافة سكان املنطقة (بام فيهم املسيحني واليهود ) ،األمر الذي كان ينعكس عىل األمراء واحلكام ،فكان أكثرهم حظوة واستئثارا بعواطف الناس
املنافذ الثقايف
56ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دائام أكثرهم عداء للفرنجة وأشدهم حماربة هلم ..وأبعدهم عن قلوب الناس األمري أو احلاكم املهادن للفرنجة والذي ال يسكنه هاجس حماربتهم ،وقد سجل عدد من القادة مواقف وانتصارات باهرة كأمري حلب أليغازي ثم األمري َب َل ْك الذي أصبح خالل أشهر من توليه إمارة حلب بعد أليغازي البطل الذي هتفو إليه قلوب املسلمني واملخطط اإلسرتاجتيي املحنك والشجاع والذي متكن من أرس ثالثة من أمراء الفرنجة الواحد تلو اآلخر: جوسلني أمري الرها و روجيه أمري أنطاكية و بغدوين الثاين ملك القدس الذي جاء لتحرير أمريي الرها وأنطاكية فوجد أنصار بلك بانتظاره يف كمني مل يستطع اإلفالت منه ،وقد بات امللوك الثالثة يف سجنه إىل أن اغتيل بسهم غادر فيام كان يتهيأ لنجدة مدينة صور التي كانت تقاوم حصار الفرنجة برشاسة وبطولة اعتادت عليها ..وقد سقطت بعد أن ُقتل ب َل ْك ومل يكن من نارص لألمة غريه يف ذلك الوقت، وابن اخلشاب والبوري حاكم دمشق.. واألتايك عامد الدين زنكي الذي محى بالد الشام وقىض إىل األبد عىل أحالم الفرنجة باحتالهلا والذي اشتهر بأنه أول مقاتل عظيم يف جماهدة الفرنجة ...والذي مل ينم يوما يف قرص بل قىض الثامنية عرش سنة من حكمه مفرتشا القش والطني (1132ـ ،)1150هذا من جهة بالد الشام.. أما من جهة مرص وعسقالن وأماكن الوجود الفاطمي فقد كانت احلالة شبيهة إىل ِ حد ما بام هو عليه األمر من جهة بالد الشام ،بفارق أن بالد الشام كانت حمكومة
من عدة أمراء يف حني أن الفاطميني كانوا حمكومني من قيادة واحدة متمثلة ظاهريا باخلليفة وعمليا متمثلة بالوزير املتنفذ صاحب القرار األول واألخري الذي كان يف بداية االحتالل األفضل شاهنشاه ابن الوزير القوي بدر اجلاميل والذي تبعه فيام بعد وزراء متنفذين مسيطرين سيطرة تامة عىل القرار كان آخرهم الوزير شاور يف زمن اخلليفة الشاب املريض والضعيف العاضد ...فقد كانت للمرصين محالت عديدة عىل معاقل الفرنجة وحماوالت لتحرير بيت املقدس وغريها من املدن كيافا والرملة وعكا وقد حققوا انتصارات يف بعض هذه احلمالت كقضائهم عىل عسكر بغدويني ملك القدس يف الرملة ( ..)1104ومحالت أخرى بحرية كانوا هيامجون هبا أسطول الفرنجة يف عكا.. وغريها من املواينء املحتلة ..وقد سجل التاريخ آلخر خلفاء الفاطميني العاضد (وكان يف السابعة عرشة من عمره) أنه وبالرغم من ضعف سلطته فإنه وعند مهامجة أموري ملك الفرنجة يف القدس ملرص يف ترشين األول 1168استنجد بنور الدين زنكي (طالبا منه أن خيف إلنجاد مرص) ،الذي وجدها فرصة سانحة لوضع اليد عىل مرص ...وهكذا صار وأرسل قوة بقيادة شريكوه (عم صالح الدين).. وبعد أن ُهزم الفرنجة يف مرص َقت ََل شريكوه احلاكم الفعيل ملرص الوزير شاور ليحل حمله وزير ًا للخليفة العاضد املريض والضعيف ،وليصبح سيد مرص احلقيقي، ولتنقل بعد موته يف العام 1169سيادة مرص إىل ابن أخيه يوسف/الذي عينه
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 57 اخلليفة العاضد وزيرا له مكان عمه مطلق ًا عليه لقب النارص صالح الدين..
وهكذا أصبحت مرص عمليا تابعة حلاكم بالد الشام نور الدين زنكي امللك الورع واملجاهد األعظم ..البس اخليش واألكسية اجلافة ..والذي مل يمد يده قط إىل مال خزينة الدولة فكان يرصف عىل نفسه وعىل عائلته من ثالثة دكاكني كان يملكها يف محص ،أما املال العام فقد جمرد خازن له ..وكان كان يعترب نفسه َّ نور الدين خيطط منذ البدء لالستيالء وج ْع ْل مرص وبالد الشام دولة عىل مرص َ واحدة متهيد ًا ملحارصة الفرنجة واستعادة األرايض املحتلة وحترير بيت املقدس.. وهكذا صار ،فبعد أن نجح يف توحيد مرص والشام ويف جعل املسلمني يف "الرشق العريب" قوة كبرية حققت توازن يف القوى بني املسلمني وعدوهم املركزي وقادر ًة عىل مواجهة الفرنجة ،أصبح باإلمكان احلديث عن مواجهة الفرنجة يف معركة حاسمة ..ولكن املوت مل يمهل البطل نور الدين فتابع املهمة بعد وفاته يف العام 1174نائبه صالح الدين األيويب. ج) معركة حطني كان نرص حطني نتيجة ًطبيعية لالسرتاتيجة التى رسمها وسار فيها عامد الدين زنكي وبعده نور الدين زنكي وبعدمها صالح الدين ..حيث كانت املنطقة قد ارتاحت من أمراء "املدن" و"املاملك" الصغرية املتنافرة واملتصارعة ِ واملستنز َفة لكافة اجلهود بال هوادة واألموال والطاقات ..والتي كانت بضعفها وتضعضعها السبب الرئييس يف
انتصارات الفرنجة .وحتولت هذه املاملك واإلمارات واملدن ومعها مرص إىل دولة مركزية واحدة وحتت إمرة واحدة وقائد واحد ،وكان من حسن احلظ أن الثالثة الذين توالوا عىل قيادة هذا املرشوع كانوا، باإلضافة إىل جدَّ يتهم يف "حماربة املرشوع الفرنجي" وجعله اهلدف الرئييس حلكمهم وقضيتهم املركزية ،كانوا يمتلكون مواصفات شخصية عالية كان منها، باإلضافة إىل احلنكة والشجاعة والصالبة، الزهد والتقشف وخشونة العيش وااللتصاق بحياة الناس البسطاء ،بحيث أض َف ْت حتول كل منهم إىل "سرية شعبية" ْ عليها خميلة الناس الكثري من الوهج والروعة واجلاملية ،وهذا ما جعل املرصيني يستقبلون مجاعة الشام عندما قدموا إليهم يف العام 1168بحفاوة كبرية..
لذلك كان نرص حطني الذي جاء بعد بناء قوة صلبة عسكرية وسياسية ،وبعد التطور الكبري الذي حصل يف موازين القوى ،حيث تعادلت القوى بني الطرفني تعادال جديا وصلبا ألول مرة منذ بدء الغزو قبل ثامنية وثامنني عام ،جاء نتيجة طبيعية بعد أن أضيفت إىل قوة املسلمني قدرات غري عادية لقائد شديد الدهاء ..شديد الذكاء ..واسع اخلربة عىل أكثر من صعيد.. صاحب عقل عسكري إسرتاتيجي ..يتقن املناورة ..عرف متاما كيف خيتار اللحظة املناسبة واملكان املناسب ملعركته ،وكيف يضع العدو يف حالة من الغفلة التامة فيحقق نرصا إسرتاتيجيا ضخ ًام عىل الفرنجة يف "رشك" نصبه هلم يف سهل واسع لقرية صغرية اسمها حطني قريبة من بحرية
املنافذ الثقايف
58ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طربية ...فكانت معركة باهرة النتائج جرت يف 1187/7/4جعلت باقي املاملك الفرنجية تستسلم الواحدة تلو األخرى؛ عكا ،نابلس ،حيفا ،النارصة ،دون قتال.. سوى يافا التي وقع فيها االشتباك اجلدي الوحيد مع جيش مرص بقيادة العادل شقيق صالح الدين...
ويف 1187/7/29استسلمت صيدا وبعد بضعة أيام استسلمت بريوت وجبيل ..وعاد جيش صالح الدين جنوبا بعد أن وصل إىل مشارف طرابلس دون أن يدخلها فبقيت يف طول الرشيط الساحيل اللبناين هي وصور يف يد الفرنجة ...وصل عسقالن يف 1187/9/4فاستسلمت دون مقاومة ،ويف 1187/9/20كان يرضب حصاره حول بيت املقدس حماوال دخوهلا دون سفك دماء كام فعل عمر بن اخلطاب، ولكن أمراءها أرصوا عىل القتال فأقسم أن ال يأخذها إال بالسيف ..وكان املسيحيون العرب من السكان األصليني قد تواصلوا مع صالح الدين معلنني وقوفهم إىل جانبه ..فشد ّد حصاره عليها إىل أن كان يوم 1187/9/29حيث أحدث املسلمون ثغرة يف اجلهة الشاملية من سورها ..ويف 1187/9/30وبعد أن شعر قائد القدس "باليان" أنه مل يعد من املجدي متابعة القتال طلب مقابلة صالح الدين للتفاوض..
ويف 1187/10/1قدم باليان عرضه لصالح الدين الذي كان عليه أن حينث بقسمه" :أن ال يأخذها إال بالسيف"، وكانت الوسيلة حلله من قسمه هي أن تفتح املدنية أبواهبا وختضع له بال رشوط.. وهكذا كان ..دخلها صالح الدين
واملسلمون يف 2ترشين األول ،1187 والذي صادف يوم 27رجب 583هـ ،وهو اليوم الذي حيتفل فيه املسلمون بذكرى إرساء النبي حممد عليه السالم إىل القدس.
إن تاريخ 1187/10/2مل يكن يوما عاديا عند أحد ..ال يف الرشق وال يف دوي يف الغرب ..لقد كان هلذا اليوم ٌ العامل أمجع ..حيث وبعد احتالل دام ثامنية وثامنني عاما سقطت من يد الفرنجة املدينة املقدسة ..هدفهم الرئييس وغايتهم.. وعلة مرشوعهم ..وسبب حضورهم إىل الرشق ..والتي كلفتهم آالف الضحايا.. والتي كانت دائام ،ومنذ تاريخ فتحها عىل يد املسلمني يف عهد اخلليفة عمر بن اخلطاب ،هاجسا لدى ملوك وقادة الفرنجة عىل مر التاريخ ..والتي مل ُ ختل حقبة من الزمن من حماوالت عبرَّ فيها الروم ،وبعدهم ملوك الغرب املسيحي عن طموحهم الستعادهتا من املسلمني. يف 1099/7/15سقطت بيت املقدس يف يد الفرنجة ...ويف 1187/10/2حتررت بيت املقدس عىل يد القائد صالح الدين..
د) مرحلة ما بعد حترير بيت املقدس بعد هذا النرص املؤزر واملدوي وإكامل مسرية التحرير بإجتاه بقية املدن اإلسالمية املحتلة :اللالذقية ..طرسوس ..وغريها مل ِ يبق للفرنجة سوى أنطاكية وطرابلس وصور وثالثة قالع يف بعض األنحاء.. وأمام هذا التحدي الكبري قرر الغرب أن ير ّد ..فبدأ التحضري حلمالت جديدة مستفيدا من موقع إسرتاتيجي وفائق األمهية يمكن أن جيعله رأس جرس له يف حربه اجلديدة الستعادة "املنطقة" هو
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 59 مدينة صور ..وكان صالح الدين قد شن محلة عليها فحارصها يف شهر ترشين الثاين ..1187وبعد أن فشل يف فتحها وبدأ بتكبد خسائر كبرية رفع احلصار عنها..
يقول املؤرخون املسلمون أن صالح ً خطأ إسرتاتيجي ًا كبريا عندما الدين ارتكب سمح آلالف الفرنجة الذين خرجوا من بيت املقدس وباقي املدن املحررة بالتوجه إىل مدينة صور أحصن القالع الساحلية وكذلك عندما مل يصادر األموال والذهب املكدس يف الصناديق ،وسمح هلم بنقله معهم إليها بالرغم من فراغ خزائنه من األموال ومتلمل مستشارية واملحيطني به من هذا الترصف ..حيث كان يمكن هلذه احلرب أن متأل بيت مال املسلمني بالغنائم والذهب واألموال ،األمر الذي حصل عكسه متاما ..فقد امتألت خزائن الفرنجة يف صور باألموال والذهب يف حني كانت خزائن املسلمني فارغة.. وثمة خطأ آخر إسرتاتيجي وقع فيه صالح الدين بحسب املؤرخني املسلمني ـ
وهو إطالق رساح امللك الفرنجي "غي" الذي كان قد أرسه يف حطني وأطلقه يف شهر متوز .1188حيث عاد هذا القائد ليقود يف شهر آب 1189جيوش الفرنجة التي بدأت تتجمع يف مدينة صور هبدف حصار مدينة عكا ..وبدأ املدد الفرنجي يأيت من الغرب ليتمركز فيها ..ففي نيسان 1191وصل ملك فرنسا فيليب أوغست وجيشه ..ويف حزيران من العام نفسه وصل ملك إنكلرتا ريكاردوس قلب وسفنِه وعتاد ضخم.. األسد بجيشه ُ ويف 11متوز 1191سقطت عكا
و ُذبحت حاميتها املؤلفة من ألفني وسبعامئة جندي مع ثالثامئة امرأة وطفل بعد أن ُربطوا باحلبال و َأ ْع َم َل فيهم الفرنجة سيوفهم .وكان ريكاردوس قد سخر من صالح الدين عندما أرسل له صالح الدين موفد ًا ليفاوضه عىل حترير األرسى املسلمني مذكرا إياه بامفعله قبل أربع سنوات عندما احتل بيت املقدس وأمربتحرير أرسى الفرنجة وتأمني خروجهم ساملني ،فرد ريكاردوس ساخرا بأن ال وقت لديه وأمر بذبحهم مجيعهم. بعد سقوط عكا وبعض مناطق الساحل بيد واقع جديد.. الفرنجة ُف ِر َض عىل املنطقة ٌ فبعد أن اختلت موازين القوى ملصلحة املسلمني بعد حرب التحرير الواسعة التي أنجزها جيشهم بقيادة صالح الدين فقوي املسلمون وضعف الفرنجة ،عاد ميزان القوى إىل التوازن بني اجلانبني.. وقد حصلت بعد ذلك مواجهات عديدة ومناوشات بني املسلمني والفرنجة مل تكن حاسمة ملصلحة أحد.. وكانت مبادرات للصلح ..كان آخرها عرض ريكاردوس تزويج أخته من العادل شقيق صالح الدين لقاء ترتيب وضع معني ملدينة القدس والذي مل يتم.
يف 2آذار 1192تويف صالح الدين عن مخسة ومخسني عاما ودفن يف عاصمته التي أحبها بكل جوارحه دمشق .
بشـرى اخلليـل
...يتبع يف العدد القادم
املنافذ الثقايف
60ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
املــرأة فـــــي اإلســالم ّ حق الطالق واإلرث د .هالة أبو محدان ال بدّ من حتكيم العقل إىل جانب النقل ،وجعلهام مع ًا أساس ًا للتمييز بني املفاسد واملصالح ،وبني الثابت والقابل للتغيري ،أي بني ما ال جيوز اخلروج عنه وبني ما يستوجب االجتهاد فيه حفاظ ًا عىل مصلحة الدين والنفس واألمة .وتبقى دائرة االجتهاد مرشوعة طاملا التزمت بحدود مقاصد الرشيعة وهي مقاصد يصح القول إنهّ ا تستكشف وتستنبط ّ وتستقرى من خالل استعامل العقل الذي ْ ال يغفل النقل ،ومن خالل النقل الذي ال يغفل العقل.
ويقودنا البحث إىل التساؤل حول التفرد هبذا احلق الطالق وإعطاء صالحية ّ للرجل .وقد رأينا أن العالقة الزوجية ال تستقيم إال يف حال اعتبارها رشاكة قائمة عىل التفاهم والتشاور والرشاكة والتعاون﴿ .هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها﴾(األعراف﴿ .)189:ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواج ًا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مو ّدة ورمحة﴾(الروم.)21: فالعالقة الزوجية حسب التعريف القرآين هلا هي عالقة سكنى وحمبة ،عالقة معروف
وإحسان .واذا كان ال بدّ من اعتبار الرجل رأس األرسة حفاظ ًا عىل استقرارها وصون ًا للقيم العائلية واإلنسانية ،فقد رأينا أن املقام املحفوظ لرب األرسة ال يتحول بأي شكل من األشكال إىل جيوز أن ّ تسلط واستبداد .ومن أول املبادىء التي تقوم عليها الرشاكة الصحيحة هي إعطاء ٍ كل من الفريقني إمكانية االنسحاب عندما تصل األمور إىل النقطة التي تصبح فيها إمكانية العيش املشرتك مستحيلة ،وعندما تنتفي املودة والرمحة. حق الطالق يف يد الرجل أن حرص ّ يعني إعطاءه إمكانيتني :األوىل ،إمكانية طرد املرأة ساعة يريد ،والثانية ،ح ّقه يف حبسها عىل ذ ّمته بالقدر الذي يشاء .ونطرح السؤال :أين هو املنطق يف احلالتني؟ أين هي املنفعة التي ترجى للدين واملجتمع واألرسة حني يط ّلق الرجل زوجته وهيدم مسوغ منطقي أرسته حتى لو مل يكن هناك ّ ٍ وكاف هلذا األمر ،أو حني يمنع عنها الطالق مناكفة هلا أو ألهلها أو ليمنع عنها الزواج مرة أخرى ،وهي حاالت طالت الكثري من النساء حولنا؟
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 61 توجه اخلطاب القرآين للرجل إن ّ عندما يتحدّ ث عن الطالق وكأنه يعطيه ربره هو هذا ّ احلق دون املرأة كان له ما ي ّ زمن نزول الوحي .وكام قدّ منا يف بحث آخر ،فإن األمر ال يرجع إىل أن القرآن يصنّف املرأة يف مرتبة عقلية أو نفسية أدنى من الرجل ،بالعكس فقد ك ّلفها كام ك ّلف الرجل وخاطبها بنفس خطابه. أقر بالواقع االجتامعي لكن ،كام قلناّ ، والثقايف املتخ ّلف الذي كانت حتياه املرأة والذي كان يمنعها من حسن تقدير األمور ،والذي جيعل من املنطقي وضع مصري األرسة يف يد الرجل وهو الذي كان األكثر وعي ًا واضطالع ًا ومعرفة يف ذلك الزمان .لكن ،وبالعودة دائ ًام إىل حكم العقل ومقاصد الرشيعة ومبادىء العدل واملساواة والتعاون واإلحسان ودفع الرضروحتسني أوضاع اإلنسان، ومع وصول املرأة إىل أعىل املراتب العلمية والثقافية والفكرية والسياسية مؤهلة وغريها ،هل ما زالت املرأة غري ّ لتقرير مصريها؟ هل من العدل واملساواة والتعاون واالحسان ودفع الرضر أن تتولىّ األنثى أعىل املراكز وتتّخذ أهم القرارات، ما عدا ما يتع ّلق بأكثر األمور خصوصية بالنسبة إليها ،عنيت عالقتها الزوجية؟ لقد كان لإلمام حممد عبده رأي متقدم يف هذا املجال وقد قال ":ال يمكن مهام ض ّيقنا حدود الطالق أن تنال املرأة ما تستحق من االعتبار والكرامة إال إذا منحت حق الطالق ...علينا أن نعمل
( )1األعامل الكاملة ،م ،2ص 127ـ.129
بمذهب غري مذهب احلنفية ،ألنه حرم املرأة يف كل حال من حق الطالق ،حيث قال الفقهاء من أهله" :إن الطالق منع عن النساء الختصاصهن بنقصان العقل ونقصان الدين وغلبة اهلوى" ،مع أن هذه األسباب باطلة ،ألن ذلك إن كان حال املرأة يف املايض فال يمكن أن يكون حاهلا ّ أحط يف املستقبل وألن كثري ًا من الرجال من النساء يف نقصان الدين والعقل وغلبة ()1 اهلوى.
يف املذهبني احلنفي واملالكي جيوز للمرأة أن تشرتط يف عقد الزواج النص عىل حقها يف تطليق نفسها متى شاءت .ويف حيق للمرأة أن تشرتط املذهب اجلعفريّ ، ضمن عقد الزواج ،أن تكون وكيلة عن الرجل يف تطليق نفسها وهنا نطرح سؤاالً يقرون للمرأة بحق طلب عىل الذين ال ّ الطالق يف حالة عدم اشرتاط ذلك يف عقد الزواج (كاألحناف والشيعة مثالً) :ما هو ربر هذا املنع؟ وهل اشرتاط هذا احلق يف م ّ عقد الزواج جيعله مباح ًا وعدم االشرتاط يدخله يف دائرة املحرمات؟ كيف يكون ّ احلل متوافق ًا مع العقل ومقاصد الرشيعة التي ذكرنا بعضها سابق ًا؟ بالطبع ّ احلل ال يكون بإطالق هذا احلق للرجل واملرأة عىل قدم املساواة .أن ّ امتالك أي انسان لسلطة مطلقة ،جيعله كام يقول مونتسكيو يميل إىل سوء استخدامها. لذا ،ال بدّ من وضع ضوابط وقواعد حتدّ من استخدام هذا احلق حفاظ ًا عىل متاسك األرسة ،دون منع أحد الزوجني من ح ّقه
املنافذ الثقايف
62ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حق يف طلب الطالق .فال يعود للزوج ّ التطليق دون الرجوع إىل املحكمة واستنفاذ كل وسائل الصلح وال حترم الزوجة من هذا احلق .ويف احلالني تكون املحكمة حلق الطرف اآلخر .وخري هي الضامن ّ دليل عىل تأييد القرآن لوجود هيئة حتكم ْ ﴿وإن خفتم بني الطرفني اآلية الكريمة: شقاق بينِهام فابعثوا حك ًام من أهله وحك ًام من أهلها إن يريدا إصالح ًا يوفق اهلل بينهام إن اهلل كان علي ًام خبريا﴾(النساء .)35:هذه اآلية تتحدّ ث بشكل واضح عن رضورة حماولة التوفيق بني الزوجني وهذا يستحيل يف حال كان الزوج يستطيع تطليق زوجته دون الرجوع إىل أية سلطة يستشريها يف األمر .ويرى اإلمام حممد عبده أن "ال طالق إال أمام القايض وبحضور شاهدين عىل األقل ،وذلك بعد االستمهال أسبوع ًا للتفكري ،وبعد أن يقدم احلكامن واحد من أهل الزوج وآخر من أهل الزوجة تقرير ًا للقايض باستحالة العرشة وفشلهام يف التوفيق بني الزوجني"(.)2 إن اإلسالم هو رسالة ضد القهر والظلم والعنف بكل أشكاله ،ومع حرية اإلنسان ،ذكر ًا كان أم أنثى ،هو نضال من أجل احلق واخلري .هذا هو فهمنا لرسالة خاتم النبيني ،وال يستقيم هذا املعنى إذا بقيت املرأة مقهورة ،مسلوبة اإلرادة، خاضعة لسلطة تعسفية ال حيدّ ها سوى مزاجية الرجل .لذلك ،فإن احلدّ من السلطة املطلقة املعطاة للرجل يف موضوع احلق، الطالق ،كذلك إرشاك املرأة يف هذا ّ
( )1األعامل الكاملة ،م ،2ص .125
يشكّالن ركيزة أساسية لتحقيق املقاصد من عدل ومساواة. ومن القضايا األكثر جدالً بالنسبة حلقوق املرأة واملساواة يف اإلسالم ،هي قضية اإلرث ،وإعطاء الذكر مثل حظ األنثيني .والتربيرات التي تعطى يف هذا املجال كثرية ويراها مطلقوها واملدافعون عنها منطقية ،ال بل يعتربون أهنا وضعت لصالح املرأة .فالرشع اإلسالمي ،حسب هذه احلجج ،قد أعفى املرأة من مشقات الكسب وتبعات اإلنفاق وو ّفر هلا كل عوامل األمان يف ّ ظل احلرية والكرامة ،بأن أرادها قريرة العني داخل منزهلا ،دورها األهم واألوحد داخل جدرانه .وحاجتها للامل يؤمنّها هلا الرجل وهو املسؤول عن نفقتها ونفقة األرسةُ ،يسأل عن تأمني حاجات زوجه وأوالده باإلضافة إىل والديه وإخوته ،يف حني هي غري مسؤولة عن أية نفقة مالية .وهكذا يكون الرشع احلنيف قد أعطاها فوق ما حتتاج اليه ،إذ هو مل حيرمها من مرياثها باملطلق كام تقتيض قاعدة الغنم بالغرم ،بل أورثها دون أن يك ّلفها باملقابل بأية أعباء. هذا التربير الذي يبدو يف ظاهره لصالح املرأة وتكري ًام هلا ،هو يف حقيقة ّ وحط من شأهنا .إن اعتبار األمر حتقري هلا املرأة غري مسؤولة حتى عن نفسها، مؤهلة للقيام هبذا يفرتض أهنا غري ّ الدور .وحرمان املرأة من ح ّقها يف العمل والكسب واإلنفاق ،جيعل منها كائن ًا متخ ّلف ًا ،ناقص األهلية ،ويركنها يف مرتبة
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 63 دنيا يف املجتمع ،ويمنعها من املشاركة يف البناء احلضاري العام .إن إعفاء املرأة من مسؤولياهتا جتاه أرسهتا وجمتمعها ،وحرص وظيفتها يف رعاية البيت من طهو وحياكة وحضانة وما شابه ،بحجة أهنا جوهرة ثمينة جيب حفظها وختبئتها ،هو تشبيه هلا بمقتنى ال عقل له وال دور(اجلوهرة)ّ ، حيل استعامله وبيعه وربام إعارته عند احلاجة وهذا يتناىف مع التحول العظيم الذي قام به اإلسالم يف النظرة إىل املرأة حني جعلها يف مرتبة مساوية ملرتبة الرجل عق ً ال وقيمة وتكليف ًا وعم ً ال وحساب ًا يف الدنيا واآلخرة: ﴿فاستجاب هلم رهبم أين ال أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى﴾(آل عمران.)195:
إن احرتام املرأة وتقديرها ال يكون بإخفائها وتغطيتها وإلغاء وجودها ودورها خارج جدران منزهلا .وتفسري اآليات املتعلقة باألحكام واملعامالت "الدنيوية" يفرتض األخذ بعني االعتبار إطارها التارخيي واالجتامعي .إن احلكم الذي ورد يف القرآن الكريم حول اإلرث كان يالئم بشكل كبري وضع املرأة يف القرن السابع ميالدي ،وربام ّ ظل مالئ ًام لرتتيب وضعها لفرتة طويلة بعد ذلك. أما ما وصلت إليه النساء يف عرصنا فهو يتعارض مع هذه األحكام. لقد أعطى اإلسالم املرأة حقوق ًا قانونية هامة بعد أن كان ينظر اليها يف اجلاهلية عىل أهنا خملوق غري كامل ،ال ترقى إىل مستوى العبيد .وكانت عندما يوجب هلا قصاص أو تقتل آنذاك ،ال َ دية ،وكانت حترم من املرياث بل كانت تورث ضمن مرياث الزوج .وهذا سلعة ّ
ما جاء اإلسالم ليصححه .لقد أعطاها حق املشاركة يف احلياة السياسية عن طريق ّ البيعة ،بيعتها للرسول ،وإعطاء عهد األمان واإلجارة ،وكفل هلا الذ ّمة املالية املستقلة ،وجعل ح ّقها يف املرياث حق ًا أساسي ًا وأصيالً﴿ :للرجال نصيب مما ترك الوالدان واألقربون ،وللنساء نصيب مما ترك الوالدان واألقربون مما ّ قل منه أو كثر نصيب ًا مفروض ًا﴾(النساء.)7: هذه ،إذ ًا ،هي القاعدة العامة التي عىل ضوئها جيب تفسري اآليات الفرعية األخرى .من املنايف للعقل واملنطق أن يعطي القرآن للمرأة ذمة مالية كاملة وجيعلها رشيكة للرجل مساوية له يف الثواب والعقاب ويف نفس الوقت يمنع عنها املشاركة يف أعباء األرسة .إن منع حق الكسب املادي ،واإلنفاق املرأة من ّ ّ األقل ،جيعلها عالة عىل عىل نفسها عىل أرسهتا وعىل جمتمعها ،يفقدها ثقتها بنفسها ،واحرتام اآلخرين هلا ،وجيربها عىل الطاعة صاغرة للرجل الذي يتولىّ مسؤولية اإلنفاق عليها .والطاعة التي يرضاها اخلالق العادل ملخلوقاته التي كرمها وطلب للمالئكة أن يسجدوا هلا، ّ حرة ،واعية، ليست طاعة العبيد ،بل طاعة ّ كريمة ،قائمة عىل االقتناع واملنطق﴿ .ولقد رب والبحر كرمنا بني آدم ومحلناهم يف ال ّ ّ وفضلناهم عىل ورزقناهم من الطيبات ّ (اإلرساء)70: .بمعنى كثري ممن خلقنا تفضيال﴾ أن املرأة الواعية حترتم زوجها وتعرتف بمكانته عىل رأس األرسة ،ليس غصب ًا وال قهر ًا ،وال عن حاجة مادية خوف ًا من فقداهنا ملصدر رزقها .ومتكينها من الكسب املادي
املنافذ الثقايف
64ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حيميها من عاديات الزمان ،ومن جور األقربني ،ومن استغالل حاجتها.
عز قد ُير ّد عىل هذا التحليل بأن اخلالق ّ ّ وجل هو األعلم واألحكم .ولوال علمه بام ال نعلم وأن هذا هو األصلح للبرشية، نص عليه بشكل واضح ورصيح ،ال ملا ّ حيتمل اللبس .إن مشكلة اخلطاب الديني هي أنه ينطلق دائ ًام يف مناقشة أي قضية من ثابت فكري ال يقبل النقاش ،هو مرجعية النصوص الدينية وشموهلا لكل جوانب الوجود الطبيعي واالجتامعي ،وهو املبدأ املعروف باسم "احلاكمية" .لكن هذا املنطق يتغافل عن واقع أن فهم وتفسري ّ يظل مرهون ًا بفعالية هذه النصوص عقل املخاطبني هبذا النص ،وبالسياق تتم فيه التارخيي االجتامعي للعرص الذي ّ عملية الفهم والتفسري .من هنا يمكن أن نجد تفسريات واجتهادات متباينة إىل حدّ التناقض أحيان ًا هلذه النصوص .إن استمرار التعاطي مع النصوص الدينية بمنطق الثبات واجلمود سوف يوصلنا إىل حائط مسدود ،يؤ ّدي هدمه إىل تقويض دعائم البنيان الديني وأسسه .وهذا ما نبغي جتنّبه من وراء أبحاثنا هذه .البداية املتحرك أو القابل تكون من خالل حتديد ّ النص الديني. املتحرك يف للتأويل ّ ّ واألحكام املتع ّلقة باملعامالت ،واإلرث
من بينها ،تندرج يف هذا السياق.
إن األحكام املتعلقة باإلرث هي أحكام اجتامعية ومالية بامتياز .أي أهنا متس بأي شكل أصول الدين واملعتقد ال ّ والتوحيد والنبوة وغريها من أركان اإلسالم .وهي جاءت تن ّظم أوضاع ًا اجتامعية كانت سائدة يف ذلك احلني حيث كان مبدأ توريث املرأة يعدّ ثورة بحدّ ذاته ،ورفع ًا من شأهنا ،وهي التي كان وجودها عار ًا ،تُق َّيم كأحد املقتنيات. لكن االستمرار يف تطبيق أحكام اإلرث يمس ركن ًا هام ًا من بحرفيتها ،أصبح ّ أركان الدين اإلسالمي وهو العدل .ومن استتباعات العدل اإلهلي حرية اإلرادة اإلنسانية التي يشكّل العقل مفهوم ًا مؤسس ًا هلا ،إن عىل مستوى املعرفة أو عىل مستوى الفعل .فحني تساوى الواقع االجتامعي والثقايف والعلمي واإلنتاجي بني املرأة والرجل ،أصبح منافي ًا للعدل حرماهنا من نصف مرياثها ،بعد أن أصبح باإلمكان بكل بساطة تكليفها باملشاركة باإلنفاق داخل أرسهتا وهو واقع قائم منذ زمن حيث تعمل كثري من النساء ويساعدن يف مرصوف البيت قبل زواجهن وبعده.
د .هالة أبو محدان
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 65
الشعرية قراءة في مجموعة الشاعر أحمد حافظ ّ ضوء إلاّ ُ أحداق الذئاب» «ال َ د .علـي زيتـون ال يمكننا أن نتحدّ ث عن الشعر حديثا جا ّدا إلاّ إذا أدركنا املسافة الفاصلة بني املرجعي والقصيدة ،هذه املسافة التي العامل ّ تنتجها رؤية الشاعر .ورؤية الشاعر بناء مركّب تنداح فيه ثقافة الشاعر وقناعاته ومهومه واهتامماته وانفعاالته ،حتّى ليصبح ُ املكونات مكون من هذه ّ أي ّ فصل ّ عن أخيه أمرا مستحيال .تتقارض فيه أخص ما لدى ّ كل منها املكونات هذه ّ ّ من خصائص .وال يعني ذلك ّ أن هذه القوة والتأثريواحلضور املكونات متساوية ّ ّ إن هلا عند كلّ فيام تقرضه أو تقرتضهّ . العقدي شاعر شأنا خمتلفا .والشاعر ّ املنتمي إىل حزب غري الشاعر املنتمي إىل الثقافة العا ّمة القائمة ،وذاك املنتمي إىل قض ّية غري الشاعر اخلايل الوفاض .فهل يوصلنا ّ كل هذا إىل ّ أن أمحد حافظ ،بانتامئه إىل احلزب السوري القومي االجتامعي ،قد صارت عقيدته القوم ّية االجتامع ّية السلطة العليا التي حتكم ،داخل شعره ،املكو ِ نات ّ األخرى املندرجة يف سياق رؤيته؟ ال أقيم هنا ميزانا قيم ّيا يتحدّ د عىل االبداعي، أساسه مقام الشاعر ومستواه ّ ّ عمق إلن الذي حيدّ د املقا َم واملستوى ُ
الثقافة ،والشاعرال يكون كبريا إلاّ إذا كان مثقفا كبريا .أ ّما ما أحاوله هنا فهو حتديد زاوية الرؤية الفضىل التي متكّن القارئ من النظر الدقيق إىل شعر ّية الشاعر. فشعر ّية الشاعر ليست سوى فرادته. وفرادته عني ما مكّنته ثقافته من أن يراه املرجعي ،ما ّد ِة شعره .فالشعر من العامل ّ ليس انعكاسا للواقع وال انكسارا له كام رأت مدرسة الشكل ّيني الروس .الشعر املرجعي كشف عن عمق من أعامق العامل ّ أي شاعر آخر أن يدركه بسبب اليمكن ّ اختالف الرؤى .فالرؤية بصمة اليشارك فيها أحد أحدا من خلق اهلل.أ ّما نظر ّية االنكسار فال خترج من دائرة التقن ّيات يتمرس هبا ،والشعر ليس التي جييدها من ّ كذلك .من هنا ّ فإن وضع اإلصبع عىل املكون األقوى يف رؤية الشاعر هو مفتاح ّ تعرف املقاربة العلم ّية التي متكّننا من ّ ما كشفته الرؤية من العامل ،أي تعرفِ ّ خاصة اخلاص الفريد .وإذا كانت مقاربتنا ّ ِّ بمجموعة أمحد حافظ "حيث ال ضو َء إلاّ أحداق الذئاب"ّ ، ُ فإن املطلوب منّا أن نتعرف خصوص ّية الرؤية احلافظ ّية يف هذه ّ املجموعة الشعر ّية .
املنافذ الثقايف
66ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من يعد إىل جمموعة "حيث ال ضوء تعرف ما قرأه إلاّ أحداق الذئاب" حماوال ّ الشاعر من العامل جيد خارطة ذات أفق واسع ممتدّ من التاريخ واحلضارة والثقافة يت ،مرورا الرتاث ّية ،وصوال إىل الفنّي والذا ّ والعقدي. األخالقي واالنساين، بالوطني ّ ّ ّ ّ وما رآه أمحد حافظ من هذا العامل خاص به حتّى أنّه قد مكّننا من أن الواسع، ّ نرى العامل ،وبعينه ،واضح املعامل منتميا إىل ثقافة هي عني عقيدته ،وإىل اهتاممات هي عني مهومه .وعنوان املجموعة الشعر ّية مل ِ استمالح تعبري ُينتق ترفا ،وال كان وليد جتري عليه قاعدة املجاز املرسل املعتادة يف ُ العنوان اختيار العناوين عا ّمة .وإذا قدّ م هذا ُمناخا مثقال بالظلمة واخلطر ،فإنّه قدّ م بذلك ،واىل حدّ ماُ ،مناخ املجموعة كاملة. واذا كان الضوء آية تبصرّ الوجود ،فإنّه قد صار أفخاخ موت منصوبة حني تس ّلم الرش القدر املستحكم، َ قراره الذئاب .صار ّ حتّى ليشعر القارئ مع هذا العنوان أنّه أمام استعادة ألرض إليوت اخلراب بنسخة مرشق ّية .تقدّ م اإلنسان مسحوقا حمكوما بقدر قاس ال يرحم .كان مرور ا ُملناخ املضا ّد هلذا املناخ ،يف املجموعة ،مرورا رسيعا وض ّيقا ال يشكّل حضورا متعاليا أو حتّى متعادال مع املناخ اآلخر .وهذه عالمة دا ّلة عىل طبيعة الرؤية احلافظ ّية إىل العامل اإلملاع إىل منافذ للضوء متتلك التي مل تُعدَ م َ قابل ّية التمدّ د واالتساع .ففي جوف العتمة ضوء ضئيل قيد التخ ّلق .واملجموعة ،بناء عىل ذلك ،رحلتان :األوىل حمكومة باللليل البهيم ،وقد طالت وامتدّ ت ،واألخرى مل تبدأ ،هي قيد االنبثاق.
.Iالرحلة األوىل أو رحلة اخلريف كنت ابراهيم لو ُ ت البني عن قسوة منامي. العتذر ُ ت يونس لو كن ُ ت رواية عن جوف احلوت. لكتب ُ لو كنت من أصحاب الكهف لنقشت يقيني صورا على جدرانه. لو كنت نوحا ملنعت الضباع من ركوب السفينة. لو كنت غرابا (ص)5: لدفنت قابيل.
ّ مرات يف إن تر ّدد (لو كنت) مخس ّ شعري قصري نسب ّيا ال تتجاوز أسطره نص ّ ّ العرشة سيكون ،بالنسبة إىل املتل ّقي عالمة املرة التي سيامئ ّية توحي اليه بالشكوى ّ يطلقها الشاعر ،تلك الشكوى التي ترينا غري العامل ،بعني هذا الشاعر ،عاملا مريضا َ سويّ . املتكررة عىل باب الطرقات ّ ّ إن هذه ْ اخلارطة النفس ّية الوجود ّية اإلنسان ّية للعامل هي إعالن احتجاج صارخ.
كيف لنوح الذي اوكل اليه ،من خالل ُ حفظ احلياة عىل الديني، الثقايف املوروث ّ ّ ِ الضباع األرض ،غداة الطوفان ،أن ُيصعد َ اىل سفينته؟ ّ إن حياد ّية نوح يف نقل احلياة ورشيرها ،من الزمن كام هي ،بخيرّ ها ّ السابق للطوفان اىل الزمن التايل له هي املستمر يف تاريخ أسست للخلل ّ التي ّ البرش ّية ،وبات نوح نموذج القيادة التي ال ترقى اىل مستوى ما هو مطلوب منها. ّ املبدئي الذي رفعه أمحد حافظ: إن السؤال ّ ما جدوى الطوفان اذا مل يكن قضاء عىل رشاسة الضبع وقذاراته؟ وما جدوى الثورة؟ ّ النص كامنة يف هذا لعل شعر ّية ّ املوجه اىل التظ ّلل يف أفياء السؤال الكبري ّ
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 67 موجه اىل ما ثقافة تشيع اخلدر يف األذهانّ ، يم ّثله منام ابراهيم ،وبطن حوت يونس، ورقدة أهل الكهف املؤمنني .وممّا جيدر ذكره يف هذا املقام ّ النص الذي أن سياق ّ وضع الغراب اىل جانب ٍ نوح ،واصحاب وابراهيم قدّ مه واحدا ويونس، الكهف، َ َ َ حامل رسالة مثلهم. منهم، ّ إن حياد ّية الغراب هي املسؤولة ،متاما الرش عىل األرض. كحياد ّية نوح ،عن بقاء ّ ماذا كان يمكن أن يكون لو أنّه دفن قابيل؟
حيمل ويأيت سؤال القارئ البدهي :هل ّ ّ أمحد حافظ املوروث الثقايف مسؤول ّية هذا اخللل؟ هل يرى أنّه قد زرع يف نفس الرش وسلطانه الذي االنسان يقينا بقدر ّية ّ اليقاوم فاستسلم له؟ هل أراد إبراز خلل حيتج عىل ثقافة تكويني يف اإلنسان؟ هل ّ ّ ّ رشير افرتضت أن البرش ّية من نسل قاتل ّ (قابيل) ،ورأت ّ أن هذا النسل قد تس ّلل عرب ركوب الضباع السفينة؟ هل يطلق الذئبي الذي يسود العامل رصخة يف الفضاء ّ "حيث الضوء إلاّ أحداق الذئاب"؟ عني املحوري كان سؤال الشاعر َ ُّ نصه ،فهل حرض رؤيته ،أي ّ عني شعر ّية ّ نص املجموعة هذا املناخ الذي شهدناه يف ّ التدمري؟ األول ،يف يوم الشاعر ّ ّ لم أشهدْ في الساحة اّ شلال ِ ت الفجر وال أجراس األبدْ َ ت شهيقَ نصال تُطلى ُس ّما، سمع ُ ٍ َ وفحيح القيد العاصر مهجة ز ّنو ِب ّيا َ إذ تنقش زأرتها احل ّرى (ص)9: فوق شوارع روما.
ترتكز حمور ّية هذه املقطوعة الشعر ّية
اىل ثنائ ّية (النفي "مل أشهد"/االثبات
"سمعت") .واملسافة بني هذين القطبني
ممض عند الشاعر. مسافة وجع ّ فالكلمتان الزمان ّيتان ( :الفجر) و(األبد) املنف ّي ُة مشاهدتهُ ام ترمزان اىل (الوالدة) و(االستمرار) املجهضني .قدّ مت إضافة كلمة (شلاّ الت) اىل كلمة الوالدة (الفجر) هذه الوالدة تد ّفقا يف العطاء،واخترصت رؤية أمحد حافظ اىل التجربة التدمر ّية ثم انطفأت التي شهدت رونقها مع زنوبيا ّ احلرى فوق شوارع روما( .مل مع زأرهتا ّ اشهد) نفي قدّ م اليوم التدمري زمانا حاسة البرص ,فكيف هي مفرغا بالنسبة اىل ّ حاسة السمع التي جاء احلال بالنسبة اىل ّ فعلها مثبتا؟ وماذا سمع؟ سمع (شهيقا) و(فحيحا) ،وزأرة .واذا كان الشهيق والفحيح من ح ّيز الطرف املعتدي الذي اكتسب هوية األفعى ،فان الزأرة من ح ّيز املعتدى عليه ،زنوبيا التي اكتسبت هوية اللبوءة .واذا ما ُو ِصفت تلك الزأرة باهنا (حرى) بدت زنوبيا لبوءة تعاين من ضيم ّ األرس ،يف بالد األعداء ،ما تعاين .يعني كل ذلك ّ أن التجربة التدمرية قد جاءت تصحر بعد خصب ،فهل وراء هذا اشارة ّ التصحر عود عىل بدء؟ يتساوق مع غياب ّ الشالالت ،عرب النفي ،غياب آخر عن غياب العايص. تدمر هو ُ ك ّ ف (العاصي) عن تسريح جدائله في هذه الواحة وتب ّقت أقني ٌة كندوب الواحة فوق ظهور األسرى ب ينضح ،بني األعمدة وسرا ٌ عبيد كالعرق الفائر من أكتاف ٍ حفروا باألظفا ِر (ص)10: ب األمراء. سرادي َ
املنافذ الثقايف
68ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (كف) املسند اىل العايص جاء الفعل َّ ليسبغ من عطاياه ،عىل الكلامت التي تبعته ،ما يدخلها باب الشعر ّية من باهبا فالكف عزوف بعد ممارسة. العريض. ّ وهو الذي جعل ما خ ّلفه من أقنيه ورساب يضجان بتاريخ الظلم الذي مورس ضد ّ (ندوب فوق ظهور األرسى)، االنسان. ٌ ٌ فائر من اكتاف العبيد) ،حتى و(عرق ٌ ّ لكأن العايص مهجة أخرى عرصها القيد (األفعى) الذي عرص مهجة زنوبيا ،او
حتى لكأن زنوبيا والعايص وجهان حلقيقية واحدة .وكام كان حضور زنوبيا يف تدمر رمز والدة فجرّ ، فان حضور العايص ونفي لوجود يف تلك الواحة رمز رشاكة، ٌ تصحر كف بات عالمة حدود .وهو حني ّ ّ ٍ ٍ انحالل وبروز حدود تواجه واشارة رشعية املجتمع. التدمري اىل واذا انتهى اليو ُم ُ ٍ التصحر ليس قدر ًا ،ألن ايامءة تفيد أن ّ املجلودين ،داخل املشهدية الكنائ ّية النص ،انام التارخي ّية التي قام عليها ّ يسنّون على حجر األخ مخالب نقمتهم شا ّقني بهاماتهم الزرقاء (ص)10: جليد اجلدران.
ّ فان قصيدة "هامش عىل (طبائع االستبداد)" قد اعادتنا اىل مناخ يقوم عىل ّ الرش عىل االنسان قدر حمتوم. أن حاكم ّية ّ الكواكبي أنّ االستبداد فات َّ عصي أطول من التاريخ ٌّ ُ أغلظ من اللعنات أمضى من الصواعق. ّ يهش بها الرعا ُة على القطيع املمت ّوج من دفقة الصلصال
حتى نفيرالصور.
(ص)11:
استحرض الشاعر ،من أجل ان يقرأ َ تاريخ البرشية املمتدَ بسمته األبرز ،رمزا الكواكبي من رموز مفكّري عرص النهضة َّ الشهري "طبائع االستبداد" .ولئن وكتابه َ كانت إضافة (طبائع) اىل (االستبداد) تأصل االستبداد يف شديدة الداللة عىل ّ النفس البرشية بصفته طبع ًا من طبائعها، ّ فان تعدية الفعل (فات) اىل (الكواكبي) مت َّثل اشارة تصعيد ّية عىل س ّلم املبالغة البرشي وجها كالح يف تقديم التاريخ ّ السواد .ومل يقف املشهد الذي رآه الشاعر للتاريخ عند هذه احلدود .جاءت مشاهبة (بالعيص) لتستحرض التعذيب االستبداد ّ باجللد وما فيه من اخضاع للجسد قصد الوصول اىل إخضاع الروح ،وبام يقدّ م االستبداد ،ومن خلفه ،حركة التاريخ وجهني حلقيقة واحدة. وال يكتمل املشهد هبذه املشاهبة البسيطة .يدخل التشبيه مرحلة الرتكيب (فالعيص والتكثيف عرب ّبوابة الوصف: ّ أطول ) ،وهي (أغلظ ) ،وهي (أمىض)، وصوال اىل دائرة املجاز ،حيث جيعل ُ التاريخ من (الطول) امتدادا أسطور ّيا، (اللعنات) عىل (الغلظ) ّ كل وتسبغ ُ (الصواعق السفيل ،وتعطي جحيم ّية العامل ُ ّ املضا َء) رهافة سيوف املوت الزؤام .
االستبدادي للتاريخ وال يقف املشهد ّ البرشي عند هذه احلدود .فاالستبداد ّ ُ ّ (العيص) أدخله الفعل (هيش) دائر َة ّ الديني ،مسحرضا موسى وعصاه ،آي َة ّ ّ أهش هبا عىل نبوتِه :هذي "عصاي ّ ِ النص بق ي مل التي العصا تلك غنمي"، ّ ُ
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 69 منها إلاّ ّ (اهلش) ،آلة تطويع الغنم بيرس لرغبة الراعي .هذه اآللة التي تطوي حتت والوجع ،والطاع َة العمياء. عباءتهِ ا :اجلَلدَ ، َ وإذا اتخّ ذ احلاكم ،عرب التاريخ ،هيأة والبرش مجي ُعهم هيأ َة القطيع ،جاء الراعي، ُ بالديني :من (دفقة الزمني مفعام التحديد ّ ُّ الصلصال) إشارة اىل خلق االنسان من األول" ،حتّى الطني ،يو َم شهد وجو َده ّ نفري الصور" إشارة اىل فكرة القيامة وهناية البرشي عىل األرض .ولقد حال التاريخ ّ هذا الزمان ،من خالل امساكه امتداد البرشي عىل األرض ،دون امكان ّية الوجود ّ ِ وجود مرحلة تغيب عنها (عصا) االستبداد. االستبداد قدر االنسان يف وجوده، مرة املذاق والتاريخ ،بعني شاعرنا ،حقيقة ّ مرة تستحرض عنوان املجموعة الشعر ّية ّ أخرى "حيث ال ضوء إلاّ ُ أحداق الذئاب". (احلمل/اإلسقاط) وجيزة وحترض ثنائ ّية ْ يف املجموعة من خالل قصيدة "الويمبي". ليس حتديثا للمكان وال غسال للذاكرة هو تغيي ٌر لوظيفة الرصيف بدل املقهى الذي رفع ت غزو رأس املدينة ذا َ َ ُب ِسطت (ص)89: رفو ُ ِ األحذية اللماعة. ف
فمشهد (الويمبي) الذي تقدّ مه هذه انقالب يف املقاييس، القصيدة الصغرية ٌ سقوط من علياء الرأس اىل وضاعة القدمني .ويشكّل ُ مثل هذا السقوط عالم ًة التصحر .واذا مصب تصب يف النهاية دا ّل ًة ّ َّ ّ أردنا تعبريا أكثر د ّقة قلنا :هو من قبيل احلمل .وعمل ّية االسقاط حتمل، إسقاط ْ
ضمن ما حتمله ،إشارة قو ّية اىل وجود محل) ،اىل حماولة سالفة .واإلسقاط ( ْ يضمر إمكان ّية ٍ محل ثانية .فهل حتتمل هذه القصيدة مثل هذا البعد التفاؤ ّيل؟
يبدو نفي غسل الذاكرة كأنّه نفي للسقوط من دون أن يكون تثبيتا ٌ لالنتصار .يعني أنّه عالمة مص ِّللة للوهلة األوىل .حتّى اذا عرفنا ّ أن ما أصاب رصيف الويمبي هو ما أصاب املساجد َ والكنائس الفلسطين ّية عىل يد اإلرسائيل ّيني حولوها اىل حظائر ،زالت غشاوة حني ّ التضليل .فاليد التي امتدّ ت اىل مساجد فلسطني وكنائسها هي التي امتدّ ت اىل الرصيف الذي رفع رأس املدينة .وعبارة (ذات غزو) ليست اشارة كم ّية ،اىل عدد من الغزوات ،هي اشارة نوع ّية .ما حدث لرصيف مقهى الويمبي غزو من نوع آخر. ِ فهل أبقى ُ الغزو إمكان ّية الحتامل مثل هذا مح ٍل جديد؟ ْ
.IIالرحلة الثانية أو رحلة الربيع
تأيت فلسطني ،بأسامئها احلسنى، لتشكّل وحدها بؤرة االحتقان والثورة. ويندرج يف طليعة تلك األسامء (مفتاح األسايس، النازح) .واذا محل العنوان ّ الدينيَ ،أمارات اجلامل من خالل فضائه ّ والقوة والتفاؤل ،انتقلت واحلق واخلري ّ ّ الفرعي بالبنوة اىل العنوان هذه األمارات ّ ّ "مفتاح النازح". مفتاح النازح مثال: خذ َ قد يبدو من النظرة األولى حنني يثبت الهو ّية، وش َم ٍ أيقون َة ذكرى تسمتطر املواويل،
املنافذ الثقايف
70ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صدوع املكانني: ترم َ تعويذ َة ٍ دفء مّ األصيل اخلاوي، ِ واملستعا ِر البارد. لكنّه ،أيضا ،جم ُر احلقيقة مضموما في الك ِّ ف لتسري شرار ُة الصح ِو َ من أطرا ِ قمة الرأس. ف األنامل الى ّ معد ٌن بار ٌد يلسع اجلسدَ أيمنا حلّ سوا ٌء ُع ِّلق في الصدر أم ُخ ِّبئ في اجلي ِ ب َ تدرك الروح أ ّنها عريان ٌة كي ما دامت في املنفى. استفهام مع ّلق ٌة عالم ُة ٍ متتحن البصير َة باألسئلة، (ص )39 وتفتح في اجلدران نوافذ.
عبارتان تتصالن بضمري املفتاح النص املقتطف من دالية أمسكتا هذا ّ القصيدة مها( :قد يبدو) و(لكنّه ،أيضا)، وتبادلتا الدور واحلضور .حتمل العبارة األوىل (قد يبدو) ،حيث ُت ْثقل (قد) التقليل ّية فعل التبدّ ي (يبدو) ،أبعادا سلبية؛ وإلاّ ما سبب حضور ّ كل من االستدراك (لكنّه) ذي الضمري العائد اىل املفتاح ،واملفعول املطلق (أيضا)؟
االستدراك وظيفة تصويب ّية متعدّ ية اىل (التبدّ ي) املض ِّلل ،واملفعول املطلق تأكيد صوبه االستدراك .فتبدّ ي مفتاح النازح ملا ّ أي عالمة وشام ،وأيقونة ،وتعويذة ،أو َّ ٌ مرتبط نفيس من عالمات البداوة ،هو تبدٍّ ٌّ ِ النفس الفاعلة .وحني بالنفس املنفعلة ،ال يكون املكان األصيل خاويا ،واملستعار باردا ،فمن أين لتعويذة حمتاجة اىل الدفء أن تدفئ أو تر ّمم؟ وقل األمر نفسه بالنسبة اىل الوشم واأليقونة .ويأيت املشهدُ
ُ املفعم باملجاز،ليغ ّلب املستدرك الكنائي ُ ّ رؤي َة الشاعر اىل املفتاح عىل رؤيتنا ،رؤيةِ النظرة األوىل ،وليكشف لنا عن الطبقة العميقة التي تبدّ ت لعيني الشاعر من ذلك ٌ و(معدن بارد املفتاح .فهو( :مجر احلقيقة) يلسع) و(عالم ُة استفها ٍم مع ّلق ٌة متتحن البصرية باألسئلة ،وتفتح يف اجلدران نوافذ) .صار املفتاح استاذا ومدرسة يب بالنامء ،ويدلاّ نه يتعهدان العقل العر ّ ّ اىل الطريق عرب النوافذ التي فتحاها يف اجلدران املتص ّلبة الصماّ ء.
لقد متركز الضوء جنينا يف رحم مفتاح النازح مم ّثال القض ّية الفلسطين ّية .هذه ستحرر العرب من أوهامهم القض ّية التي ّ وخوائهم ّ وكل أمراضهم. ويبقى ّ أن الشاعر قد استحرض لغة األساطري مشاهدَ تؤاخي احلقيق ُة فيها العادي األسطوري عن ويشف املجاز، ّ ّ ّ األسطوري .فاذا املجموعة والعادي عن ّ ّ الشعر ّية التي بني يدينا أسطور ٌة من أساطرينا مت ّثل قراءة عميقة لواقعنا احلا ّيل والتارخيي .وهي دليل عافية بقدر ما هي ّ دليل مرض .تبصرِّ وجدانَنا باألبواب ّ املغلق لكأن املغ ّلقة/املفتوحة .حتّى َ ٌ مسكون يف أعامق أعامقه باالنفتاح، ٌ مسكون بمخاطر االنغالق .إنهّ ا واملفتوح َ شفاؤنا من أوهامنا كام أراد هلا فارسها ِ منطلقا من ثقافته التي هي عني أن تكون عقدته ،ومن اهتامماته التي هي عني مهومه.
د .علـي زيتـون
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 71
سمييولوجية) بنيوية (ألسنية ـ قراءة ّ ّ
(*)
لقصيدة «صوت وسوط» لـ محمود درويش ـIـ د .هـدى املعـدرانـي مهاد نظري
نص ًا ونقوم بتحليله؟ ماذا يعني أن نقرأ ّ ما العالقة بني الكتابة اإلبداعية اخلالصة والكتابة التحليلية؟ هل يمكن ألحدامها االستغناء عن األخرى؟ إذا كانت اإلجابة عن السؤال األخري بالنفي فام هو التحليل؟ وماذا يقدّ م للنص اإلبداعي؟
القراءة التحليلية هي إعادة كتابة للنص اإلبداعي .هي «غري الرشح الذي قصاراه قراءة النص لغوي ًا ونحوي ًا ومضموني ًا فحسب؛ إذ املحلل ال يرضيه ذلك حتى يقرأه مجالي ًا ،وفني ًا ،وتارخيي ًا (سياقي ًا) ،وربام بنيوي ًا ،وسيامئي ًا؛ وربام اجتامعي ًا ونفسي ًا أيض ًا ،جمتهد ًا ما استطاع االجتهاد يف االقرتاب من الكتابة اإلبداعية التي حتاول ّ فك شفرات لغته،
ولتنتهي إىل تفسري رموز عنارصه األلسنية ِ أنساقها يف النص/ ومراميها الداللية َعبرْ َ املوضوع»(.)1
يبحث املبدع عن األفكار ويصوغها يف لغة يسعى أن متتاز بالفرادة الداللية. واملح ّلل هو الذي يتم ّعن يف هذه اللغة ّ وحيل ألغازها ويقرأ فيفك رموزها شيفراهتا ويتبينّ مجاليتها وأدبيتها ويظهرها للمأل .فهو يغوص يف أعامق النص ليصل إىل املعنى ويسعى إىل تأويله كي ال جيعل النص أسري وجهة نظر حتليلية واحدة. ينطلق املحلل من فكرة مفادها إمكان ّية انفتاح النص األديب عىل رشوحات متعدّ دة فيحاول املحلل إظهار اإلبداع والدالالت يف النص .وكام سعى مبدع النص إىل حتميل ُطرق من ذي قبل ،يسعى لغته أفكار ًا مل ت َ املحلل ألن يكون مبدع ًا يف قراءته للنص واكتشاف أرساره وخباياه اإلبداع ّية.
(*) ننرش يف العدد هذا هذا القسم من بحث الدكتورة لـ هدى املعدراين .وسننرش بقية البحث يف العدد القادم. ( )1عبد امللك مرتاض ،شعرية القصيدة قصيدة القراءة حتليل مركب لقصيدة أشجان يامنية ،بريوت :دار املنتخب العريب ،ط ،1994 ،1ص .16
املنافذ الثقايف
72ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذ ًا القاسم املشرتك بني اإلبداع والتحليل هو اللغة "منها ينطلقان وإليها ينتهيان مآالً"( .)2يقدّ م املبدع بنات أفكاره بوساطة اللغة ،ويقوم املحلل برشحها وتفسريها وتبيان مستوياهتا وعالقاهتا.
ومن اللغة داخل األدب ومستوياهتا وعالقاهتا ينطلق هذا البحث «فاأللسنية تنطلق من مفهوم املستويات معتربة اللغة ظاهرة متعدّ دة الرتاكيب .فمن مستوى صويت إيقاعي ،إىل مستوى رصيف يتناول خصائص املفردات التي تتألف من األصوات ،إىل مستوى اجلمل التي تتألف من املفردات إىل مستوى داليل ُيعبرّ عن املعاين ،إىل أنامط من البيان تبتعد عن النمط العام يف استعامل اللغة كوسيلة اجتامعية للتفاهم بني الناس عىل احلاجات غري اللغوية»( ،)3ألن اللغة «بنية يتم إظهارها من خالل حلظ وحداهتا األساسية»(.)4 ولكن ال تتموضع هذه الوحدات يف النص كام هي قي نظامها اللغوي ألهنا تعيش االنزياح داخل النص .واالنزياح هو خرق للنظام اللغوي املعجمي والرصيف والنحوي .وتكون نتيجة هذا اخلرق اجلدة واجلامل والفرادة ،وهذا ما يم ّيز عم ً ال أدبي ًا من آخر .لذا ستكون مقاربة النص «عىل ضوء السيامئية؛ ألننا مع النظام الشعري
نجد أنفسنا أمام عملية خروج شاملة ومتكاملة من النظام اللغوي السويرسي إىل النظام السيامئي .تضع الشعرية ك ً ال من املعجم واملستوى الرصيف واملستوى ()5 النحوي عىل احلياد».
يقوم هذا البحث بقراءة نص حممود درويش "صوت وسوط"( )6قراءة ألسنية بنيانية سيامئية بغية البحث عن اجلاملية األدبية فيه .لن يتم ذلك من خالل رشح مبسط لأللفاظ الصعبة التي حيتوهيا لغوي ّ النص أو من خالل نثر األبيات الشعرية. إنام سنعمد إىل الغوص يف أغوار هذا النص والعناية بجزئياته وتفكيكها وحتليلها ومن ثم إعادة تركيبها الكتناه أرسار مجالية النص ّ ّ ألن تعاملنا مع النص سيكون الكل ّية. بصفته بناء متكام ً ال تُبنَى داللتة بتشابك ليتكون منها اجلزئيات وترابطها وتداخلها ّ عمل ٌ ٌ كامل ال يمكن فصل أجزائه املرتابطة بعضها ببعضها اآلخر .وقد اقتضت القراءة أن تمُ َّثل حتت ست زوايا: )1قراءة تشاكلية سيامئية للعنوان. )2دراسة إيقاعية للنص. )3دراسة حيادية النظام اللغوي. )4دراسة العالقات يف النص. )5قراءة الشيفرات الثقافية والرموز. )6النص والعامل وااليديولوجيا.
( )2عبد امللك مرتاض ،شعرية القصيدة قصيدة القراءة ،مرجع سابق ،ص .18 ( )3مرتي بولس ،أبحاث يف األلسنية العربية ،لبنان :فؤاد بيبان ورشكاه ،ط ،1988 ،1ص .77 ،76 ( )4ميشال زكريا ،املدخل إىل علم اللغة احلديث ،مؤسسة نعمة للطباعة ،ط ،2002 ،1ص .366 ( )5عيل زيتون ،النص الشعري املقاوم يف لبنان البنية والداللة ،بريوت :احتاد الكتاب اللبنانيني ،ط،1 ،2001ص .125 ( )6حممود درويش ،عاشق من فلسطني قصيدة «صوت وسوط» ،1966 ،يوان حممود درويش ،املجلد األول ،ط ،1994 ،14ص 86ـ.88
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 73 .Iسيامئية العنوان
"صوت أول ما يطالعنا يف العنوان ْ وسوط" أنه مشتمل عىل شبكة من ْ العالقات األلسنية والسيامئية:
.iيلحظ القارىء تشاك ً ال بني جزئي هذه الوحدة من الناحية النحوية واملورفولوجية والرصفية واللفظية واملجازية .وتشكل هاتان الكلمتان جناس ًا غري تام ُيلتَبس من الناحة السمعية باحلناس التام.
نتلمس تشاك ً يتجسد ال آخر ّ .iiيمكننا أن ّ يف ّ أن كليهام حيدث ضجة وأثر ًا سمعي ًا .فالصوت هو "األثر السمعي الذي حتدثه متوجات ناشئة عن اهتزاز جسم ما"( ،)7أو هو "كل رضب من ()8 رضب به من الغناء" .والسوط "ما ُي َ جلد"( )9إذن للصوت والسوط أثر فيزيائي ومن ثم أثر نفيس. .iiiيربز تشاكل آخر إذ ينتمي ٌّ كل منهام إىل اإلنسان .إذا عددنا الصوت "صوت اإلنسان وغريه"( )10يكون مصدره اللسان الذي هو جزء من اجلسم وهو جزء من اجلسم البرشي يف هذا النص. وكذلك احلال بالنسبة إىل السوط .فإذا «وسمي السوط تبن ّينا سبب تسميته: ّ سوط ًا ألنه إذا سيط به إنسان أو دابة ُخ ِلط الدم باللحم»( .)11والدم واللحم
ال يكونان إال يف جسم والسوط يف هذه القصيدة سيط به اجلسم اإلنساين.
.ivيمكن أن نلحظ عالقة علة بينهام فيكون الصوت سبب السوط أو العكس .فالصوت تعبري عن دور للمتكلم ووظيفة جتعل له دور ًا فاع ً ال خترجه من دائرة اخلنوع والضعف والقبول واالحباط والصمت واالستسالم والرضوخ .هذا الصوت املدافع عن األرض واحلرية امليلء بالقوة والتفاؤل الذي يستخدمه الفلسطيني أو الذي هيتف به الشاعر يف هذا النص هو نتيجة للسوط الصهيوين الظامل القاتل الغادر.أو قد يكون السوط نتيجة للصوت فيستعمل الصهيوين السوط ضد كل من يناوئه برأيه .وهذا ما ُيربز ثقافتني :إحدامها مناونة لألخرى .ثقافة الصوت التي والتمسك باحلق والدفاع متثل املقاومة ّ عنه ورشعة احلقوق اإلنسانية .وثقافة السوط املبنية عىل القمع واالضطهاد والتعذيب والقتل. وهكذا يضعنا هذا العنوان أمام ثنائية متباينة وهي الصوت/السوط فيختزل العنوان رصاع أمة ضد العدو .الصوت وسيلة تعبري يستخدمها املظلوم ،والسوط وسيلة قمع يستخدمها الظامل .ويمثل العنوان بعد ًا رمزي ًا استعاري ًا يكشف
( )7معجم اللغة العربية ،املعجم الوجيز ،ايران :منشورات دار الثقافة ،1999 ،ص .373 ( )8ابن منظور ،لسان العرب ،باب ت ،فصل ص ،دار صادر ،ص .58 ( )9جممع اللغة العربية ،املعجم الوجيز ،مصدر سابق ،ص .328 ( )10ابن منظور ،لسان العرب ،بات ت ،فصل ص ،مصدر سابق ،ص .57 ( )11املصدر نفسه ،باب ط ،فصل س ،ص .326
املنافذ الثقايف
74ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دالالت النص فيخرج الصوت من هويته االصلية (مما يسمع) ليتل ّبس هوية فنية ال ختترص جتربة الشاعر فحسب ،لكنها ختترص جتربة األمة وهي حتاول رفع الصوت يف وجه السوط الذي يمثل العدو الصهيوين. أو قد يتلبس الصوت هوية الشاعر القادر عىل مقاومة جربوت املحتل والصدح بأشعار ّ تبث احلامسة يف نفوس املقاومني فيتساوى الشاعر واملقاوم يف مواجهة العدو مع اختالف أسلحتهام وبخاصة شعر حممود درويش القائل: أطعمـت للريـح أبيــاتي وزخــرفـها إن لم تكن كسيوف النار ..قافيتي
()12
وتُربز (الواو) العاطفة بني االسمني تالزم الصوت والسوط .وهذا يثري القارىء ويدفعه إىل السؤال إن كان هذا الصوت سيبقى أو سيخمد .فتأيت اإلجابة يف هناية القصيدة .سيتحول الصوت إىل صدى وهو صوت حارض لصوت غائب، وهو يرمز إىل كل األصوات املحمومة. ومع أن كثري ًا من الشعراء املعارصين «ال يستخدمون الصدى يف كتاباهتم الشعرية إال باملعنى التهجيني التسميجي املنرصف ،يف مألوف العادة ،إىل نحو اليأس واخليبة والضياع والفراغ»( ،)13إال أننا نلمح يف هذه القصيدة تناص ًا حيث تُستخدم العبارة نفسها لتؤدي داللة مغايرة فالصدى يف "صوت وسوط" هو صوت املقاومة الرافض للظلم ولالحتالل الذي ال
يمكن أن ينال منه سوط العدو .فالصوت معلول لعلة غائبة هي الصوت وصاحب الصوت .ما دام الشاعر موجود ًا صوته موجود وصدى هذا الصوت موجود حتى بعد غياب الشاعر وله الغلبة ألن السوط ال يستطيع أن يلحق الصدى الدّ ال عىل وجود الصوت الذي مل خيضعه السوط: واركضــوا خلف الصــدى ما دام يهتف :ال أهــاب
احل ّيز الفضائي الذي حيت ّله الصدى يتّسع ال يمكن أن يصله السوط .فيربز ال تشاكل فضائي بني الكلمتني .وبناء عىل هذا حيمل الصدى داللة التصدي واالنتشار يف حني حيمل السوط داللة االنحباس .إذن تأثري السوط حميل أما تأثري فيعم األرجاء. الصوت والصدى ّ
.IIحركة تشكل النص والنمط السائد
يقسم الصوت والسوط ،بوصفهام قوتني مناوئة إحدامها لألخرى ،النص قسمني رئيسني :قس ًام يبينّ األسباب التي دفعت الشاعر إىل تبنّي الصوت (.)25-1 وقس ًام يبينّ جربوت السوط (.)42-26 وهذا جيعل النص قائ ًام عىل معركة بني الصوت والسوط .لذا ال بدّ من حسم املعركة لصالح أحدمها فيربز قسم ثالث يكون بمثابة إعالن غلبة الصوت (.)47-43 يشكل النص وقفة مع الذات ،وتبدو
( )11حممود درويش ،ديوان حممود درويش ،املج ّلد األول ،أوراق الزيتون (والء) ،دار العوده ط،14 ،1994ص.9 ( )12عبد امللك مرتاض ،شعرية القصيدة قصيدة الشعرية ،بريوت :دار املنتخب العريب ،ط،1994 ،1 ص .245
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 75 موازين القوى متفلتة من قبضة الشاعر فيتحرر من سلطة العقل ،ويعمد إىل املناجاة املط ّعمة باخليال ليثبت يف هناية القسم األول حقيقة ذاتية .يقول: «حتى صليبي ليس لي، إني له، حتى العذاب!»
ومع ذلك ال يبدو األمر موقف ًا انفعالي ًا طارئ ًا يتّخذه الشاعر عىل عجاىل من أمره. إنام هو تقرير واقع يعيشه .يسوق الشاعر من بداية القسم األول األسباب التي تربهن النتيجة التي توصل إليها يف هنايته. فيسود هذا القسم احلوار الفردي مع اعتامد النمط الربهاين .يقدم الشاعر وصف ًا ذاتي ًا بأسلوب الرشط التقريري أو التمني االنفعايل الذي ينطوي عىل الفقد فتعادل كررها الشاعر "لو كان يل" ،الالزمة التي ّ يف هذا القسم ثامين مرات ،إقراره يف هناية هذا القسم" :ليس يل" لتتمثل مشكلة الشاعر الكربى يف غياب امللكية فتموت أمنياته يف مهدها ألنه ال يملك :ال يملك برج ًا وال أرشعة وال سالح ًا وال فرس ًا وال حق ً ال وال حمراث ًا وال عود ًا وال قدم ًا. لكن ملاذا يعيش الشاعر هذا الفقد؟
كيف ال وهو مسجون معتقل ال يملك شيئ ًا حتى ذلك الصليب الذي يجُ َلد عليه والذي اختلط دمه بخشبه ليس له .إنام احلال معكوسة فالصليب هو الذي يملك الشاعر وسيبقى الشاعر يعيش عذابات بالده مك َّب ً ال عىل ذاك الصليب .ال وجود له إال عليه ألنه ملك لذلك الصليب لذلك العذاب .فالشاعر تبنّى هذا العذاب ونذر نفسه له .إنه قبول بالعذاب بوصفه وجه ًا
من وجوه الصمود واملقاومة.
كرر ومن اجلدير بالذكر أن الشاعر ّ الالزمة "لو كان يل" .وهذا ما جعل هذا القسم يتشكّل من وحدات متداخلة جعلت منه موجات شعورية متالحقة دافقة تنطلق من مكان واحد لتستقر كل واحدة منها يف مدى يتجاوز املدى الذي وصلته سابقتها .ويمكن تقسيم هذه الوحدات كاآليت: ـ احلركة األوىل ( )3-1متنّي السيطرة عىل السحاب. ـ احلركة الثانية ( )6-4متنّي السيطرة عىل املوج واإلعصار. ـ احلركة الثالثة ( )9-7متنّي غرس الراية فوق الشمس. ـ احلركة الرابعة ( )12-10متني إطالق العنان لفرسه. ـ احلركة اخلامسة ( )15-13متني زرع األرض شعر ًا وح ّب ًا. ـ احلركة السادسة ( )18-16متني تسلية الصحاب. ـ احلركة السابعة ( )21-19متني مصارعة املوت. ـ احلركة الثامنة ( )22متنيات مفتوحة ميتة يف مهدها. ـ احلركة التاسعة ( )25-23اإلقرار بقبول العذاب. و ّلدت املناجاة يف القسم األول التي اختُتِمت بصمود الشاعر حوار ًا ثنائي ًا يف القسم الثاين .يصيح اآلخر/ اجلالد/القايض بالشاعر متعجب ًا من عدم استسالمه عىل الرغم من اإلحباط الذي يغ ّلف سعيه فينربي الشاعر ويصف
املنافذ الثقايف
76ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوضع الراهن:
«الساق تقطع ..والرقاب والقلب يطفأ لو أردمت والسحاب.. ميشي على أقدامكم»
وهذا الوصف ليس وصف ًا ثابت ًا .إنام هو وصف احلدث الذي يبغي الشاعر من خالله خلق قوة داخلية تؤدي إىل ندّ ية عسكرية تسهم يف إجياد توازن قوىّ . إن إجرام العدو وقتله وإرهابه خيرجه من ليتحول صوت الشاعر إىل دائرة الفعل ّ دائرة الفعل« :لكن صويت صاح يوم ًا: ال أهاب» ،فيعجز العدو مع كل قوته أن يسيطر عليه ،ويتحول العدو إىل دائرة االنفعال غري املجدي: «فلتجلدوه إذا استطعمت واركضوا خلف الصـدى»
الحظ أن ما يلفت االنتباه يف هذا و ُي َ تدرج العناوين تصاعدي ًا يف القسم النص ّ ثم ارتباطها تسلسلي ًا بالعناوين األول ومن ّ يف القسم الثاين فتتشكل حركة رسدية ضمنية متامسكة قائمة عىل سببية يعقدها توايل األحداث .إن التمني الذي باء باإلخفاق يف القسم األول مل ِ يثن الشاعر عن عزمه بل دفعه إىل قبول العذاب يف سبيل الوطن .بتحول هذا اإلرصار عىل الصمود يف القسم الثاين إىل صوت ثم صدى يمأل البالد كاهلامة ترفرف فوق الضحايا تذكّر القاتل بإرصار الضحية عىل األخذ بالثأر.
وهذا يعني أن الثنائية األساسية التي حتكم النص هي ثنائية (الصمود/ االستسالم) .فالرصاع األسايس عىل
صعيد البنية الداللية الكربى للقصيدة قائم بني الشعب الفلسطيني املتمسك بالقضية الفلسطينية ممث ً ال بالشاعر الذي ال يملك إال صوته هيتف بوساطته احتجاجه ومقاومته والعدو الصهيوين املغتصب لألرض الذي يملك كل مقومات اإلرهاب وإخضاع اآلخر: «والعني تُسمل ،والهضاب تـنهــار لو صحـــــمت بـهـا»
ولكن اختتام النص بالصوت هيتف "ال أهاب" داللة واضحة عىل إيامن الشاعر بقوة ذلك الصوت الذي سيتحول إىل صدى يمأل الفضاء معلن ًا الصمود الذي سيؤدي إىل االنبعاث.
.IIIدور االيقاع البنائي
يتوزع اإليقاع عىل ثالثة مستويات: ّ املستوى املقطعي ،واملستوى النربي واملستوى التنغيمي. )1اإليقاع املقطعي
شكل النسق (متفاعلن ،)○⁄⁄○⁄⁄⁄ تفعيلة بحر الكامل خيار الشاعر لبناء إيقاعية نصه .ويبدأ هذا العمق اإليقاعي بمقطعني قصريين لينتقل إىل مقطع طويل فمقطع قصري فمقطع طويل .وإذا جاء املقطع القصري الرسيع ليمثل السوط الذي ّ فإن إعتامد يمثل االستسالم واالهنيار الشاعر النسق (مستفعلن )○⁄⁄○⁄○⁄جواز بحر الكامل بنسبة % 57من األنساق يف النص و (مستفعالن )○○⁄⁄○⁄○⁄بنسبة 10 %حيسم الرصاع من الناحية اإليقاعية وبام يمثله من الناحية املرجعية لصالح البطء.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 77 ويعني هذا أن اإليقاع األساس يف النص قائم عىل النفس الطويل .وهذا يناسب موضوع النص "صوت وسوط". فقد اختار الشاعر النسق الذي يمتاز بالبطء ألنه يمثل الواقع الفلسطيني أو واقع الشاعر يف السجن حيث ُيستَقوى فيه مناخ االستسالم ،ألنه واقع قائم عىل التعذيب فيغدو االستسالم الطريق األرسع واألسهل للتخلص من العذاب .إال أن الشاعر الذي رفع الصوت عالي ًا واختار الصمود عنوان ًا لنضاله والذي عرف كيف يواجه السوط بالصوت عكس ذلك يف إيقاعه .لقد قاوم الشاعر االيقاع الرسيع الذي يرافق االستسالم بالتبطيء الذي ح ّفزه الصمود .وتبدو مقاومة الشاعر لاليقاع الرسيع يف (متفاعلن) القائم عىل نسبة [ ]3إىل [ ]1لصالح الرسعة واضحة وهادفة من خالل استخدام اجلوازات كام سبق وذكرنا وبخاصة مستفعلن ومستفعالن. وقد ورد النسق متفاعلن مع ثالث جوازات وهذا التعدّ د يف عدد األنساق يدل عىل عدم تأقلم الشاعر مع الوضع القائم ومقاومته ورفضه إ ّياه .فالشاعر مسجون ولك ّن روحه الت ّّواقة إىل احلرية الرافضة االستسالم لقضبان السجن تنشد التغيري وإن كان مداه بعيد ًا ودربه شائكة. ولن يكون هذا التغيري إال بالصمود واملقاومة وعدم االستسالم .لذا استخدم الشاعر النسق الذي يسهم يف تبطيء رسعة االهنيار واالستسالم .وهذا يطابق الواقع املرجع فاالستسالم/االهنيار سهل رسيع بينام الصمود بطيء صعب حيتاج إىل قوة
اإلرادة ومرور الوقت حتى يثبت. وقد م ّثل العنوان "صوت وسوط" داللة إيقاعية فالصوت الذي يم ّثل الصمود واملقاومة والعبور نحو احلرية ومناهضة االحتالل متصل بالبطء، والسوط الذي يم ّثل االستعباد واالستبداد والقهر والظلم متصل بالرسعة.
وتأيت دراسة املقاطع لتدعم ما سبق ولتحدّ د بشكل أكثر وضوح ًا معامل الرصاع بني الرسعة والبطء ،االستسالم والصمود .فعدد املقاطع الطويلة يف النص بأكمله 217مقطع ًاُ ،يضاف إليها التثقيل النوعي الذي حتدثه املقاطع الزائدة الطول البالغة 19مقطع ًا .وهذا ما جيعلها حواىل ضعف ونصف عدد املقاطع القصرية 147 مقطع ًا تقريب ًا .وإذا اعتمدنا النسبة املئوية لعدد املقاطع تكون كاآليت :تبلغ نسبة املقاطع الطويلة والزائدة الطول % 62 يف حني تبلغ نسبة املقاطع القصرية 38
.%ومن يتت ّبع االيقاعية املقطعية يف أقسام النص جيد أن هيمنة املقاطع الطويلة التي تعمل عىل تبطيء الرسعة قائمة يف مجيع أجزاء النص تقريب ًا. وهذا نجاح ملموس لصالح مناخي البطء والصمود والتصدي داخل النص. فربوز الصوت وحتوله إىل صدى دائم هيتف "ال أهاب" يرفع نسبة املقاطع الطويلة من % 51يف القسم الثاين إىل % 56يف القسم الثالث .وهذا يؤكّد متسك الشاعر بالنرص أو بربوز مقاومة من نوع آخر غري قائمة عىل السالح أو بعدم االستسالم .لذا تستمر السيطرة لإليقاع البطيء وذلك ألن الشاعر حياول أن يقاوم رسعة االستسالم
املنافذ الثقايف
78ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ املتمثلة باعتامد النسق متفاعلن بتبطيء طريقه وإلغائه من خالل الصمود املتمثل باعتامد اجلواز مستفعلن وسيطرة املقاطع الطويلة كام ب ّينا يف ما سبق. )2االيقاع النربي
يبلغ عدد النرب يف النص .89عدد النرب األحادي ،23وعدد النرب الثنائي 56والنرب الثالثي .10وحتويل هذه األرقام إىل نسب مئوية تكون كاآليت :نسبة النرب األحادي 26 ،%والثنائي ،% 63والثالثي .% 11ويشري هذا التوزيع إىل دور تبطيئي واضح يقوم به النربان الثنائي والثالثيّ . ولعل هذا احلضور التثقييل للنرب عائد إىل مقاومة الشاعر وصموده ورفضه لالستسالم واالهنيار الرسيع الذي يدفع العدو الشاعر جتاهه وخصوص ًا ّ أن األخري ال حول له وال قوة إال صوته .وهذا الصمود يستدعي نفس ًا طوي ً ال من الشاعر يبطىء الواقع الذي تتجلىّ فيه ترسع االستسالم. اإلغراءات التي ّ ومع إرصار الشاعر عىل الصمود يف القسم الثالث تتدنّى نسبة النرب اآلحادي ويبقى النربان الثنائي والثالثي مسيطرين ألن الصمود الذي أعلنه الشاعر والذي يتمثل بالصوت وصداه رافقه تثقيل نربي يبطىء من االهنيار الرسيع الذي يرافق االستسالم فال يأبه الشاعر للعذاب الذي ّ سيحل به: «فلتجلدوه إذا استطعمت»
ويبلغ هذا العصيان حدّ ه عندما يعلن يعزز الصمود: توحده مع العذاب الذي ّ ّ «إني له حتى العذاب»
وهكذا يالحظ أن الدور التبطيئي التثقييل الذي يقوم به النربان الثنائي والثالثي يؤ ّيد الدور التبطيئي الذي كانت تقوم به املقاطع الطويلة . )3االيقاع التنغيمي
تكرر النداء يف النص مرتني: «يا سيداتي ..سادتي! يا شامخني على احلراب!»
مرة مع االستفهام: وورد ّ
«ماذا تب ّقى أيها احملكوم؟»
تكرر ليتضمن معنى االنكار الذي ّ واالستهجان: «وتهتف :ال أهاب؟!»
وكذلك تكرر األمر:
«فلتجلدوه إذا استطعمت واركضوا خلف الصدى»
وبذلك يكون عدد اجلمل االنشائية يف النص ستة .وقد ورد يف النص ثامين ٍ مجل تبدأ بـ"لو كان يل" .وهي يف معظمها مجل مركبة طويلة .يمكننا أن نعدها إنشائية أو خربية يف آن .إن عددناها إنشائية تدخل يف باب التمني .وإن عددناها خربية تدخل يف باب النفي وتقرير واقع يعيشه الشاعر. وإننا نميل إىل املوقف الثاين .تتضمن اجلمل الرشطية التي حتمل معنى التمني ظاهري ًا معنى ضمن ّي ًا يب ّينه الشاعر يف قوله: فتتضمن "لو "حتى صليبي ليس يل" ّ األول معنى كان يل" املكررة يف القسم ّ "ليس". إذن هي مجل خربية رشطية وكذلك احلال مع باقي مجل النص فكلها خربية. ويعني هذا أن النغم الذي يرتبط بصياغة
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 79 التجربة هو الذي يطبع تنغيمة النص متفوق عىل حضور بطابعه؛ ألن حضوره ّ النغم الذي يصحب التعبري عن االنفعال. وإن كانت وظيفة اجلمل اخلربية صياغة التجربة الوجدانية فإن وظيفة اجلمل اإلنشائية التعبري عن االنفعال الذي ينتاب الشاعرّ . يدل السؤال الذي ابتدأ به القسم الثاين والذي أوردناها يف بداية هذا املقطع عىل استهجان السائل وانفعاله وتعجبه من صمود الشاعر ومتسكه بموقفه مع كل العذاب الذي يعانيه والضيق الذي يعيشه. كام ّ أن النداء الذي سبق وأثبتناه أيض ًا يعبرّ عن العاطفة اجلياشة التي وجدت متنفس ًا هلا فانربت لتقص ما يعتمر يف داخل الذات .أما اجلمل األمرية التي وردت يف هناية النص فتأيت نتيجة االنفعال الذي بلغ ذروته عند الشاعر فصار يعيش يف عامل خاص هو س ّيده .أو تدل عىل عمق األمل الذي يعيشه كأنه يقول :أمل يكفكم ما فعلتم .مل يبق إال صويت فافعلوا به ما تشاؤون لكنكم لن تستطيعوا منعه من التعبري عن حبه لوطنه ودفاعه عنه. ومما جيدر ذكره غياب االستفهام باهلمزة أو هل عن النص ،فهل يعني غياب النغم الصاعد عن أي سطر من سطور القصيدة سيادة النغم اهلابط مع هنايات السطور؟ يتكرر التضمني اثنتي عرشة مرة ،يعني أننا ،اثنتي عرشة مرة سنكون خاضعني لفعل التجاذب بني التنغيم
( )14عيل زيتون ،النص الشعري املقاوم يف لبنان البنية والداللة ،بريوت :احتاد الكتاب اللبنانيني، ط ،2001 ،1ص .170
اهلابط الذي توحي به النهايات ،والتنغيم املستوي الذي يفرضه التضمني .فإذا أضفنا إىل ذلك التضمني العكيس الذي تكرر ثالث مرات ،والتدوير اإليقاعي الذي تكرر تسع عرشة مرة أدركنا أن الشاعر يميل بقصيدته هذه لتكون دائرة مكتملة، مجلة واحدة« .و ُيشكّل هذا األمر املعلم األسايس من معامل حركة احلداثة وصوالً إىل القصيدة (الرؤيا) .ويبقى أن القصيدة اجلملة الواحدة تؤمن تنغي ًام مستوي ًا مشوب ًا بالتوتر مع هناية ّ كل سطر يطال النص بأكمله فيتساوق التنغيم مع احلقيقة التي ()14 تقوم عليها القصيدة احلديثة».
ولقد ّنوع الشاعر الروي وأكثر منه حتى بلغت السطور املنتهية به تسعة وعرشين سطر ًا .تكرر الروي [الياء] ست مرات .والروي [امليم] أربع مرات. والباء الساكنة املسبوقة بألف املد تسع عرشة مرة .وقد تدخل الروي األخري يف حتديد بنية النسق املوجود يف آخر كل سطر .فهناك عرشون نسق ًا عىل وزن مستفعالن ومتفاعالن .ويعبرّ هذا النسق عن السكون الذي تؤول إليه أي حركة. لذلك سيطر االيقاع البطيء عىل النص تعبري ًا عن الصمود الذي انتهى به القسم األول والقسم األخري من النص. وهكذا فإن موسيقية هذا النص موسيقية موظفة يف إنتاج الداللة التي أراد الشاعر إيصاهلا.
د .هـدى املعـدرانـي
املنافذ الثقايف
80ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«الطبيعة في شعر جودت فخر الدين» د .عائشــة شــكر يعالج هذا البحث "الطبيعة يف شعر جودت فخر الدين" من خالل النقاط اآلتية :مدخل نظري ،الطبيعة يف ديوان "ساموات" ،الطبيعة يف ديوان "ليس بعد"... وقفة متمهلة عند الطبيعة يف جمموعته الشعر ّية "فصول من سرييت مع الغيم". وجملة “املنافذ الثقافية” ستنرش القسم األول من هذا البحث ،وما تبقى منه سينرش يف العدد الالحق.
مدخل نظري:
أن تدركك حرفة الشعر يعني أنّك مل تعد مرغوب ًا به ،لكون الشعر مل يعد مالئ الدنيا وشاغل الناس يف العقود األخرية. فقد تراجع دوره وسط تغيرّ أنامط احلياة الفكر ّية واالجتامع ّية ،حتى ّ أن بعضهم ملمح ًا إىل دور تن ّبأ باختفائه مع الزمنّ ، التكنولوجيا التي ستحكم سيطرهتا عىل يب أكثر من غريه، العامل .والشاعر العر ّ يعيش أزمة الشعر ،خصوص ًا أن مؤشرّ كارثي ،إذ تشري يب القراءة يف العامل العر ّ ّ التقارير إىل أن كتاب ًا واحد ًا يصدر لكل يب ،وسبب ذلك 12000مواطن عر ّ أن معدّ ل القراءة ال يتجاوز % 4وفق
اإلحصاءات.
مع ذلك يبقى الشعر مالذ الشاعر، يلجأ إليه هارب ًا من واقعه ،من عامل ال يفهم معاناته ،فيمنحه هامش ًا من احلر ّية ،يعيد من خالله خلق العامل وفق رؤيته.
ويقول فرناندو بيسوا( )1إن «الشعر دليل عىل أن احلياة وحدها ليست كافية»، ماسة يف عامل املدن ّية املعقلن، فهو حاجة ّ خصوص ًا أنه خياطب احلقيقة اجلوهر ّية لإلنسان ،ويشعره بكينونته وجوهر وجوده. إنّه خلق للعامل أثناء عملية خلق اللغة (.)2
فالشاعر يلجأ إىل تعرية اللغة الكتشاف قيمتها التعبري ّية التي تقتضيها اليومي وإبراز العادات عادات االستعامل ّ اجلامل ّية( .)3وكام يقول سارتر« :يرى الكلامت من جانبها املعكوس وكأنّه من يتعرف غري عامل الناس ،فيبدو وكأنه مل ّ تعرف ًا تعرفها ّ األشياء أوالً بأسامئها بل ّ توجه نحو النوع اآلخر من صامت ًا ،ثم ّ األشياء يف نظره ،أال وهي الكلامت فأوسعها ملس ًا واختبار ًا وبحث ًا ،واكتشف
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 81 أن هلا نوع ًا من اإلشعاع اخلاص هبا، وأنهّ ا ذات صالت معينة باألرض والسامء واملاء ،وما سوى ذلك من خملوقات ،وحني أعوزته معرفة استخدام الكلامت عالمات للداللة عىل مظاهر العامل ،رأى فيها صور ًا هلذه املظاهر( .)4فاللغة الشعر ّية مل تعد مرآة العامل ،إنام حتويل دائم له ،وتغيري للواقع واإلنسان( ،)5هي كشف عن اإلمكان ()6 واملستقبل ،وهلا فعل التغيري والثورة ومهمة الشاعر الظفر بلغة اخللق ،اللغة ّ البكر التي مل يسمعها أحد حتى اليوم.. واملجاز يشحن هذه اللغة بطاقة جديدة، يضفي أسامء عىل أشياء ووقائع ليس هلا اسم يف اللغة العادية( ،)7وإذا كان هاجس الشاعر هو تغيري العامل( )8فقد صار يرصد بالرؤيا ويعبرّ بلغة خاصة ،وخيلق صور ًا هلذا العامل .وقد استعان باخليال واحللم والرؤى لكي يعانق واقعه اآلخر( .)9ولقد رأينا الكثري من الشعراء قد رضبوا املفاهيم الشعرية القديمة ليبتكروا طريقتهم اخلاصة يف التعبري ،متجاوزين ما هو قائم، فاحتني نوافذ عىل عامل الرؤى واألحالم والكشف واإلبداع .صارت القصيدة لدهيم صورة لتناغم احلياة وتداخلها، صورة لتآلف األشياء يف حاالت الوجود يف الواقع ..إذ تستحيل أشياء الواقع نفسها رموز ًا ،وتصري احلياة بشتى نواحيها، اإلطار األكرب لتلك الرموز(.)10 فقيمة الشعر قد تكون أعىل من معرفة الظواهر ،ومن ميتافيزياء الكينونة ،ذلك أهنا تبرص ما ال يبرصه العلم ،وتدرك ما حتاول الفلسفة إدراكه وال تبلغه ،مع األسف إال نادر ًا()11؛ ألنّه قفزة خارج
املفاهيم السائدة .وقد حاول شعراؤنا أن يستوعبوا تع ّقدات احلياة ومهومها وقضاياها ،وحيددوا موقفهم منها، وأرادوا اكتشاف ما مل يكتشف من جوانب الوجود وتسميتها لتصبح معرفتهم قابضة عىل حقيقة من طراز خمتلف عن احلقيقة املوضوع ّية ،أي احلقيقة الفن ّية(.)12 يب ومن هؤالء الشعراء الشاعر اجلنو ّ جودت فخر الدين ،الذي يعدّ الشعر أمجل املغامرات وأكثرها تفاؤالً ومحاسة يف القروي اهلامس، التطلع إىل املستقبل .إنّه ّ الذي مل تستطع املدينة ببهرجها أن جتذبه إليها ،فراح يغني يف قصائده الطبيعة الريف ّية ،ويكتب شعر ًا رقراق ًا ينساب، فيتغلغل يف حنايا النفس .ينسج عالقات بني الكلامت ،فريسم بوساطتها أبعاد ًا ودالالت عميقة وموحية ،حتاول سرب أغوار الكون. جودت فخر الدين يتخذ من الشعر وسيلة للعبور إىل عوامل أخرى ،إهنا طريقة خاصة يف الكشف ،يف اخللق ،يف إعادة تشكيل الوجود.
وما يثري االهتامم يف شعره ،هذا البناء اهلنديس ،الذي يزخر بكل معطيات الطبيعة ،فرتتاح لذلك التوافق اخلفي بينها وبينه ،وتأنس لتأثريها يف النفس، تنم عن فاحتة طاقة واسعة من اإلحياءّ ، عمق ثقافة الشاعر ومهومه .فالطبيعة منطلق لرؤى الشاعر وتأمالته ،تساعده يف التفكري يف ماهية هذا العامل وجوهره، إنهّ ا اليشء الوحيد الذي يثق به ،بعدما مر بتجارب أوصلته إىل عدم الثقة بأي ّ يشء وإىل احلذر من ّ كل يشء( .)13ونسمعه
املنافذ الثقايف
82ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقول« :الطبيعة حتدٍّ فاتن لنا ،تغرينا نتوهج يف حضنها كاألسئلة، وختيفنا، ّ ()14 الطبيعة أمجل التحدّ يات .
لذلك سنعمد إىل دراسة الطبيعة يف شعره ،من خالل صوره ونبينّ التأثريات املتبادلة بينهام ،وداللة اللوحات التي رسمها الشاعر يف هدأة الوحدة ،إذ اختذها مرسح ًا هلمومه ،وآالمه ،وأحالمه. تطور الطبيعة يف وسنحاول رصد ّ رس هذه العالقة شعره ،والكشف عن ّ ودالالهتا ،وعوامل التخ ّيل التي ش ّيدها، للتعبري عن عوامله الداخل ّية ومهومه الشخص ّية. هذا ك ّله بوساطة منهج أسلويب قوامه نقطتان :األوىل هي االعتقاد بالوجود املؤ ّثر لكل كلمة يف إنتاج الداللة العامة حيادي .قد للنّص إذ ال وجود ملا هو ّ توجد كلمة ما وجود ًا عفوي ًا ،ولك ّن هذا الوجود العفوي غري حيادي( .)15والنقطة الثانية هي االنطالق من الرتكيب البسيط والعالقة القائمة يف داخله؛ ّ ألن اخلروج املوضوعي هبذه العالقة عن النسق ّ فني (العالقة (العالقة الواقع ّية) إىل نسق ّ الفن ّية الفكر ّية) إنام خيرج طريف العالقة يف هويتهام املوضوع ّية احلقيق ّية إىل هو ّية فنية، أي حيدث تعدي ً ال يف مدلول الدال ،وال الفني تنتهي املسألة عند اكتشاف النسق ّ وما يؤ ّديه من داللة شعرية احتاملية .إذ ال بدّ من مراقبة ما تتبادله الرتاكيب ،فيام بينها ،من فعل إضاءة واستضاءة؛ ّ ألن وجود الرتكيب إىل جانب الرتكيب يعني تدخ ً ال حتمي ًا متبادالً يف توجيه الداللة وحتديدها .وهذا الفعل يشمل النّص
بأكمله .يعني أننا أمام شبكة مك ّثفة من العالقات .وبقدر ما نستطيع اإلمساك بخيوطها نكون قد أمسكنا بالداللة التي ّ تظل عص ّية عىل السرب بسبب طبيعة الشعر نفسه (.)16
وإذا كان الشاعر قد أنتج الكثري من املجموعات الشعرية إال ّ أن هذه الدراسة بثالث منها فقط صدرت يف أوقاتٍ ٍ معن ّية خمتلفة هي: ـ "ساموات" العام .2002 ـ "ليس بعد "...العام .2006 ـ "فصول من سرييت مع الغيم" العام .2011 ومرورنا سيكون رسيع ًا عىل املجموعتني األوىل والثانية ،لترتكّز الوقفة عند املجموعة األخرية التي كتبها الشاعر بعد أن أغلق باب اخلمسني ،وفتح باب ًا آخر عىل رشفة جديدة( )17ليلملم ما تبعثر منه، ويضعه بني دفتي كتاب. وسندخل مع ًا عامله ،لنتبينّ ما يكتنزه من دالالت تقدّ مه شاعر ًا مميز ًا ،استطاع باطمئنانه إىل الطبيعة وحماكاهتا ،أن يبني عامل ًا شعري ًا عميق ًا ،يكشف عن توتر اإلنسان أمام القضايا الكربى.
أ) الطبيعة يف جمموعة «ساموات» الشعر ّية:
ندخل ساموات الشاعر جودت فخر الدين ،فتنفتح أمامنا ساموات من اإلحياءات .فالشيفرات السيميائية ال تسلمنا بسهولة دالالهتا ،تدفعنا إىل استحضار ثقافات خمتلفة دينية ،وفلسف ّية، واجتامعية ،وأدب ّية ..لكي نلج عاملها. وما يثري االنتباه حضور الطبيعة من
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 83 أول املجموعة إىل آخرها ،تأخذ بيدنا ّ لندخل عوامل من التخ ّيل ،حتيل إىل ذات أسايس الشاعر .فهي بالرضورة طرف ّ وفاعل يف كل قصائده ،حتى عندما حترض أقرب الشخصيات إليه ،كاحلبيبة ،واالبن، واألخ ...فهذه الشخص ّيات مع غناها العاطفي ال تستطيع منع االستغراق يف ّ ّ وكأن الشاعر يبحث عن ساموات الطبيعة، خاصة به ،بعيد ًا من عامل األرض ك ّله. ويمدّ الشاعر اجلسور بينه وبني الطبيعة ،التي ينتمي إليها انتام ًء عميق ًا، فتقول عنه ما يو ّد قوله ،يف قصائد إنسانية، رقيقة ،حتاكي الروح يف جتلياهتا ،والنفس يف تساؤالهتا ،وتشري إىل تأثري الزمن يف اإلنسان روح ًا وجسد ًا. ها هو خياطب احلبيبة ،فتختلط الصور واهلويات لنكون أمام وحدة متكاملة قوامها املرأة املعشوقة والشاعر والطبيعة. رأيت ِ ُك هائم ًة يف هواء الصنوبر، ِ عطرك نحو الوهاد، ِ ووجهك يف ّ كل غيم.
تظهر احلبيبة هنا عاشق ًة الطبيعة، هائمة هبا إىل أقىص احلدود ،فدخلت معها يف عالقة من العشق الصويف ،أكسبتها أبعاد ًا قدس ّية .فكلمة (هائمة) ليست أي كلمة ،إنام هي دليل الشغف واإلفراط يف العشق .وهواء الصنوبر كذلك ليس أي هواء ،ألن شجر الصنوبر يرمز إىل االستمرار والصرب واخللود ،وله أبعاد دينية ،إذ ُيعتقد أن اهلل كافأ هذه الشجرة بجعلها دائمة االخرضار .ويمكن تسميتها شجرة احلياة .فهل قصد الشاعر أن اهليام
بالطبيعة وعشقها يمنح القوة والثبات واالستمرارية؟ ثم يأيت العطر ليخرج احلبيبة من طبيعتها اإلنسانية ،ويعطيها هوية الوردة، التي ستفيد من عطرها الوديان ،فظرف املكان (نحو) أكسبها روعة ومجاالً وهباء وامتداد ًا .وأن تكون احلبيبة وردة يعني أهنا جزء من الطبيعة ،فريى الشاعر وجهها يف ّ كل غيم ،والغيم رمز اخلري والعطاء والرفعة ،وقد أزال الشاعر احلدود بني احلبيبة والطبيعة ،ليتحدا مع ًا يف وحدة الوجود .فاحلبيبة بدأت من هواء الصنوبر، وارتقت لتصل إىل التامهي مع الغيم، فتحار يف حتديد أهيام ّ حل باآلخر ،وارتقى به إىل أسمى درجات اخللق .فالشاعر استخدم عنارص الطبيعة للوصول إىل يتوج املرأة، ذروة السمو والرفعة ،لكي ّ وكأنه يريد أن يومئ كذلك إىل أن عشق الطبيعة يكسب اإلنسان شيئ ًا من األلوهة، وجيعله يرتقي ليكتسب طابع القداسة، تتوحد التناقضات ،فتصري الوحدة إذ ّ الوجودية تامة. أريدك وحدكِ ِ ِ كالشجر. كالنساء وال ال ْ ِ كل النساء ّ أريدك ّ وكل ّ الشجر.
تتحول احلبيبة هنا إىل رمز لنوع جديد ّ من النساء ،إهنا املرأة اإلهلة التي تزاوج بني النساء والشجر ،فال تنتمي بالرضورة إىل أي منهام .فالشاعر ينفي أن تكون حبيبته كالنساء كام ينفي انتامءها إىل الشجر. واملتأمل يف هذه األبيات الشعرية،
املنافذ الثقايف
84ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يرى أن حضور النساء يساوي حضور الشجر ،كأن النساء هن الشجر والعكس صحيح .ثم يأيت النفي (ال كالنساء) (ال كالشجر) ليقلب املعادلة ويعطي هذه املرأة خصوصية ،لكن املزاوجة بينهام ِ كل النساء ّ (أريدك ّ وكل البرش) جعلت املرأة رمز ًا خيترص حكاية احلب واخلصوبة رس فكأن املرأة هنا أفروديت يكمن فيها ّ احلياة واخلصب والعطاء. ِ ِ وحدك، أريدك ِ وأنت الشجر. أنت النساء
إهنا إهلة متأل الكون خصب ًا ،وحب ًا، وأمالً ،وقد متاهت مع الشجر والنساء. فأهيام احلبيبة وأهيام النساء والشجر؟
فالشاعر الذي خلط اهلويات ،بدا عاشق ًا رومانس ًّيا ،باحث ًا عن املرأة /احللم اإلهلة فيعطيها بعد ًا إخصاب ًّيا ،وحيرص األنوثة هبا (أنت النساء) فكأنه يقول هلا ِ حتول احلب إىل ما (ال امرأة إال أنت) .فهل ّ ِ (أريدك وحدك) إهلة يش ّبه الدين؟ لذلك ِ اخلصب والنامء (أنت الشجر) .وهذه املرأة يليق هبا أي رجل ،فال بدّ من أن اإلهلة ،ال ُ ختتار رج ً ال إهل ًا لكي تستقيم العالقة بينهام. ِ هربت إليك ألنيّ عشقت اصطفاءك يل ُ ِ وارمتاءك يف وحشتي ِ وجنونك يب
يبدو الشاعر هارب ًا من املجتمع إىل هذه احلبيبة التي اصطفته حبيب ًا هلا ،فهو املصطفى ،هذا ما حييلنا إىل ما هو ديني. فكلمة (اصطفاءك) وردت كثري ًا يف القرآن الكريم يف مثل قوله تعاىل (إن اهلل اصطفى آدم ونوح ًا وآل إبراهيم وآل عمران عىل
العاملني) وال يصطفي اهلل إال من كانت نفوسهم صافية ،ليب ّلغوا الرسالة الدين ّية. فمن هو أكثر قدس ّية احلبيب أم احلبيبة هنا؟ وهل أصبح احلب «الطريق األوحد للهرب من هذا العامل»؟( .)18وال شك يف أن االصطفاء يكسبهام مع ًا طابع ًا مقدس ًا، إال أن اصطفاء املرأة للرجل يعطيها صفة الفاعل ،املؤ ّثر ،فهو إشارة قوة ورفعة وسمو .فهذه األنوثة الفاعلة كأهنا قوة ّ عبور من الوجود إىل املطلق. (عشقت) إىل وعندما يتعدى الفعل ُ (اصطفاءك) و(ارمتاءك) و(جنونك) فإنّه احلب إىل طقس من اهليام املقدّ س، حيول ّ ّ التوحد« ،فال ويرتفع باحلبيبني إىل حد ّ يقوم العاشق إال باملعشوق»( )19وهناك فعل (اصطفاء ،ارمتاء ،جنون) يقابله ردة فعل (هروب ،عشق) أدخال القارئ جزء ًا فتحول من عامل احلبيبني القائم عىل الغربة. ّ احلب بينهام إىل ما يشبه الدين ،والعشق ّ وأعطامها قابلية ذوبان أحدمها يف اآلخر. وقوله (ارمتاءك يف وحشتي) عالمة شديدة التعبري عن مشاعر الغربة والوحشة الوجودية ،التي أ ّدت بالشاعر إىل اإلحساس بعدم األمان ،وهذا ما تط ّلب تدخل احلبيبة ،لدفع الغربة عن ذاهتا وذاته وعن الوجود يف الوقت عينه.
ومتثل كاف املخاطبة (ك) من جهة وضمريي املتك ّلم (التاء والياء) من جهة أخرى ،تلك العالقة األزل ّية بني الذكورة واألنوثة ،ولك ّن سيطرة ضمري املتكلم جعلت الرجل الشاعر حمور الكالم، وجعلت املرأة/احلبيبة تدور يف فلكه لتصبح رمز ًا للطمأنينة واألمان.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 85 ِ صنوبرتان، وهنالك منا تشبان قرب سياج احلديقةِ، َ ّ تنتبهان قلي ً ال وتعتنقان كثري ًا.
أن يكون يف احلديقة صنوبرتان مها نتاج العالقة بني الشاعر واحلبيبة عالمة واضحة عىل إيامن الشاعر بوحدة الوجود. فالكنايات املوجودة هنا واالستعارات، ماهت بني اإلنسان والطبيعة ،وساوت الصنوبرتني بالبرش مما خيلط األدوار واهلو ّيات.
فالشاعر واحلبيبة قد ذابا يف روح حتولت إىل مركز للكون، الطبيعة ،التي ّ يوزع األدوار املتناغمة بني البرش والشجر، ّ فإذا بنا أمام وحدة الوجود .وقد ساعدت التحول احللولية الشاعر واحلبيبة (منّا) عىل ّ إىل جزء من الطبيعة ،له القدرة عىل اخللق ِ يتحول (صنوبرتان) إذ واإلخصاب ّ احلب بينهام من فعل حب إىل فعل خلق. وقد استعار الشاعر هلام األفعال (تش ّبان، تنتبهان ،تعتنقان) ليعطيهام هو ّية إنسان ّية، جعلت حياة األشجار/الصنوبر صورة مماثلة حلياة البرش ،وحتمل هم استمرار احلياة .فالصنوبرتان كانتا تعتنقان (كثري ًا) وال تنتبهان إال (قليالً) ألن عشق الطبيعة هو هيام دائم يفيض إىل احللول فيها وسرب رس اخللق ،وهذا ما يعطي الراحة والطمأنينة للقلوب التائهة. وشجرة الصنوبر هي شجرة قوية، التوحد صلبة ،فهل قصد الشاعر أن ّ هنائي ،يعطي استمرار ًا بالطبيعة مآل ّ وخلود ًا وقوة ومناعة وال يكرتث بالتجربة اآلن ّية؟ التصوف يلقي بظالله وإذا كان ّ
عىل هذه األسطر الشعر ّية ،فإن الطبيعة قد ظهرت حمور ًا كون ًّيا ،تدور يف فلكه الكائنات ك ّلها ،لتتبادل األرواح واألجساد واألدوار ،وتتحد يف دائرة هذا الكون. والطبيعة برموزها دخلت يف مناخات شعر ّية خاصة ،عبرّ ت عن حال نفس ّية حيياها الشاعر ،ورؤية ثقافية خاصة به. فهل كان يعد اإلنسان مادة طبيع ّية حمضة، فيلغي املسافة بينها وبني العنارص الكون ّية األخرى؟ وما هي رؤيته ملا بعد املوت؟ وعىل أي حال لقد ساعدت الطبيعة الشاعر عىل إيصال أفكاره ،وقدمت طواعية للغة بتبنيها نظام ًا من العالقات اجلديدة بني املفردات فاكتسبت هويات وحتولت إىل عالمات دا ّلة. جديدةّ ، وينتقل الشاعر ليحدّ ثنا عن ساموات خاصة به يف قصيدة "ساموات" فيقول: تعدو الساموات القريبة خلف أوهامي خطاي عىل الثرى لتحضن ما خت ّلفه َ وتعود هائمة به نحو األعايل
اعتمد الشاعر هنا عىل الصور البيان ّية شك يف ّ لتقدّ م ما يو ّد قوله .وال ّ أن حضور ديني. كلمة «ساموات» حييل إىل ما هو ّ فالساموات السبع وردت يف القرآن الكريم بوصفها فضاء ال يعلمه إال اهلل. لكن الشاعر جيعل سامواته قريبة. وهذا ما يعطيه قدرة عىل إزالة احلدود بني السامء واألرض .وإذا كانت هذه الساموات يقينية فإن كلمة (أوهامي) يب ،وغري جعلتها تعدو خلف ما هو رسا ّ يقيني .والشاعر حني يستعري الفعل (حتضن) هلذه الساموات فإنّه يعطيها هو ّية
املنافذ الثقايف
86ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ األم التي تقدّ م عطف ًا خاص ًا آلثار ومهية خاصة بالشاعر (ما خت ّلفه خطاي عىل الثرى) وكأهنا تعدّ ها شيئ ًَا مقدس ًا خاص ًا باألنبياء .وحني يسند إليها الفعل «تعدو» فإنّه يكسبها هوية اإلنسان العاشق الذي خرجت يركض وراء احلبيب .فالساموات ْ عن معجميتها لتدخل يف عالقة تقاطب مع استبدلت الثرى كونه أكثر قدس ّية منها إذ ْ هبويتها القديمة ،هوية جديدة وأضحت باحثة عن مصدر جديد للقداسة ،فوجدته عىل األرض.
التصوف ّقرب السامء وال شك يف أن ّ من األرض ،وكأن الشاعر قد أدركته احلال ،فجعل الساموات عاشقة ملا يقدّ مه من أعامل ،مضفي ًا عليها شيئ ًا إهلي ًا .وقد استعار الشاعر هلا كلامت من معجم احلب والرومانسية (حتضن ،هائمة) لتعبرّ عن العشق واإليامن العميق بوحدة العامل ،إذ ظهرت أضعف من األرض التي أصبحت مرجع ًا؛ هلا ألهنا ح ّيز لأللوهة .هذا ما التصوف مزاوج ًا بني األرض أحدثه ّ والسامء فانقلبت املفاهيم وإذا بنا أمام قداسة اإلنسان. والساموات التي كان وجودها يف هذه األسطر الشعرية وجود ًا خارج ًا عن منطق املتصوف ،الذي العقل ،ارتقت باإلنسان ّ أفاد من رمزيتها ،وما قدّ مته من دالالت شعري بامتياز. يف عامل ّ
تتحول إىل مرآة تعكس والطبيعة ّ صورة النفس وأحالمها وقلقها ،وتساعد عىل التأ ّمل: أرى بعني املوج هذا القفر ،منطرح ًا أمام شموس وحشته التي...
رثـّت وترشق ّ كل يو ٍم...
فالقفر يرمز إىل هذه األرض التي حتولت بفعل كثافة الكنايات إىل أرض ّ ذاتية غري صاحلة للعيشّ ، وحيل الشاعر يف املوج فينظر بعينه إليه .فإذا به ح ّيز للموت ٍ متالش ،ال روح فيه .واملوج رمز التغيري والوالدة واحلركة يدخل يف عالقة ضدية مع القفر اخلايل من مقومات احلياة.
فعني املوج مل تستطع أن تفعل فعلها أمام قوة الشموس التي أضيفت إليها كلمة وحشة التي شحنتها بطاقة كبرية من السلب ّية. وال يكتفي نظام العالقات اللغوية بذلك إنّام يستعري هلا فعل (رثـ ّْت) ليكتمل حتولت إىل فعل تعطيل دور الشمس التي ّ شموس لتخرج إىل دالالت قائمة عىل املوت ،واليأس ،والغرابة .فشموس كهذه يعول تكرر إرشاقها البائس كل يوم ال ّ ّ عليها ،من أجل بناء واقع جديد ،ألنهّ ا ال تستطيع أن تعطي أمالً ،فقد فقدت قدرهتا عىل اإلخصاب ،وأصبحت رمز ًا للموت. والشاعر الذي يرسم مثل هذه الصور املحبطة ،لتعبرّ عن شعوره بالغربة والوحشة الوجودي الذي "يشعر أن فيقرتب من ّ كل ما حييط به يتصف بالسخافة والال جدوى"( .)20قد خرج عن منطقية اللغة، ليعبرّ عن رؤيته هذه إىل العامل .فأحرض (شموس ًا) يائسة تناسب (ساموات) من صنعه ،فهل عنى ّ أن لكل سامء شمس ًا عىل هذه الشاكلة؟ أهلذا كانت السموات تقتفي فلسفي أثره وهتيم به؟ وإن نظرنا من منطلق ّ فإن فعل (ر ّث ْت) عندما أسند إىل الشمس، أوحى بقدم العامل وماديته ،فاإلنسان جزء
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 87 من كون كبري وقديم ،يعدّ اإلنسان فيه وسيلة وليس غاية.
وهكذا نرى أن املعاين قد كمنت وراء نظام من العالقات اجلديدة ،لتمسك برؤية نفيس الشاعر ،الذي كان ينظر من منظور ّ يمر عىل األشياء مرور إىل العامل .فنراه ال ّ الكرام ،إنام يتوقف متأ ّمالً ،حملالً ،منطلق ًا إىل أبعاد مرتبطة بعوامل غامضة وموح ّية، تدفع القارئ إىل إعامل العقل من أجل اكتناه دالالهتا. والشاعر جلأ إىل املجاز للتعبري عن رؤاه الوجود ّية والفلسفية ،فإذا صوره قائمة عىل االستعارات والكنايات والتشابيه .فهي صور هادئة ،عميقة، وموحية ،حتاول اخرتاق املحسوسات واملعقوالت ،وحتكي حكاية املعايشة الوجدانية بني النفس احلائرة وبني الطبيعة تتحول التجربة الشعورية وعنارصها إذ ّ إىل ما يشبه الذوبان فيها .فهي حارضة من أول الديوان إىل آخره ،ألهنا من أركان الشعر ومقوماته عند جودت فخر الدين، والرسول األمني الذي يب ّلغ عنه الرسالة، ليثبت أن الشعر "يقول العامل ،وهذا هو موضوعه احلق"(.)21
ب) الطبيعة يف جمموعة "ليس بعد "...الشعر ّية:
ويف ديوان "ليس بعد "...استدرج الشاعر عنارص الطبيعة للحضور يف شعره ،فقدّ م قصائد دافئة ،فيها الكثري من التأمل والتفكّر يف أجواء رومانس ّية، تستنطق عنارص الطبيعة وحتاكيها لع ّلها عيص عىل الفهم .وقد الحق تبوح بام هو ّ
الشاعر بوساطتها أحالم ًا هاربة وحاول اكتناه أرسار الكون وكأنه يصل املرئي ليتحول الشعر بالكيل ،والعابر باألبدي، ّ إىل ميتافيزياء فورية( ،)22وتأسيس للعامل باللغة والرؤية(.)23 وخيتلط صوت الشاعر بصوت الطبيعة ليكشف عن رؤية ذات بعد صويف: وجودي ّ تقول الطبيعة يف بعض أحواهلا: أهيا البرش اهلائمون، تعالوا إ ّيل ألحضنكم.
لو وقفنا عند النداء (أهيا) حلكمنا عىل نثري إال النص باخلطاب ّية وما فيها من طابع ّ ّ ّ أن األسطر الثالثة حتيلنا إىل ما هو شعري. فالشاعر استنطق الطبيعة التي ظهرت أم ًا حنون ًا للبرش ،ويف هذا نظرة رومانس ّية كأنهّ ا تشري إىل انعدام الدفء يف املجتمع، فتكون الطبيعة احلضن البديل.
وال شك يف أن كلمة "اهلائمون" أتت لتضفي مناخ ًا من العشق للطبيعة ،جيعلنا ندرك بسهولة أن هناك عالقة وجد بني اإلنسان وبينها ،شبيهة بعالقة الوجد بني اإلنسان واخلالق .ويف هذا نفحة صوفية لتتخذ الطبيعة هو ّية جديدة .إنهّ ا األم التي تنادي نوع ًا خاص ًا من الناس .إهنم اهلائمون بحبها ،السائرون عىل درهبا لبلوغ السعادة والراحة .أمل يقل السيد املسيح يف إنجيل متّى" :تعالوا إ ّيل يا أهيا املتعبون والثقييل احلمل وأنا أرحيكم"؟ حتولت الطبيعة إىل ما يشبه اإلله فهل ّ طقوس املخ ّلص الذي تمُ ارس يف حرضته ٌ خاصة ،للوصول إىل الراحة والسعادة؟ حتول الشعر إىل "نشاط صويف"()24؟ وهل ّ
املنافذ الثقايف
88ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرومنيس هييم بالطبيعة ،وينشد وإذا كان ّ العزلة يف أحضاهنا ،فيستلهمها ويستوحي أرسارها(ّ )25 فإن الصور هنا أبعد من ذلك حتول عشق الطبيعة إىل قضية ،تؤمن هبا إذ ّ النفوس التائهة. فخر ْت أومأ الشاعر للشمس ّ غارت يف الرمال. ثم ْ
(خر ْت) خترج عملية إسناد الفعلني ّ و(غارت) الشمس من هويتها املوضوعية ْ لتعطيها هو ّية املستسلمة ،اخلاضعة إذ دخلت يف شبكة عالقات جمازية نسجها الشاعر فع ّطلت هويتها املوضوعية لتعطيها هوية فن ّية .فهذان الفعالن ال يعطيان الشمس بقدر ما يعطيان الشاعر النبوة التي متكنه من إذ أكسباه رضب ًا من ّ اجرتاع املعجزات ،فإذا بالشمس تسجد له وتأمتر بأوامره ،ثم ختتفي ،ارتكاز ًا عىل اإليامءة إىل املوروث الديني الشيعي الشعبي املتع ّلق بعودة الشمس إىل اإلمام عيل لكي يصليّ واجب ًا .ويف هذا إشارة إىل ٍ متعال عىل الشمس ،ففي الشعر أن الشاعر من الطاقة والقدرة القادرة عىل تغيري العامل وقلب املوازين. فاالستعارات املتالحقة التي حشدها الشاعر يف هذين السطرين الشعريني، تعاونت من أجل الداللة عىل القدرة العجائبية للشعر والشاعر. وهو يشعر أنه وسط هنر ،جيري به، فيجري معه وخيدعه للتغرير به ،وكأنه يشري إىل العمر الذي جيري دون توقف، فيومئ إىل خداعه .هذا يستبطن داللة تشري إىل رؤية وجودية ،تؤكد الوجود الزائف لإلنسان الذي يسري به نحو املوت بوصفه
قدر ًا مؤكد ًا.
ليس بعد... كأنّك يف وسط النهر، غرر به، ّ وتظاهر بأنكام جتريان معاً، وارمق الضفتني بال جزع
مل يكن كافي ًا أن يلجأ الشاعر إىل فيتحول إىل هنر ،فاحللول فيها الطبيعة، ّ يكسب اإلنسان بعض ًا من قوهتا .وكأن الشاعر بتحرير اجلسد من ماديته ،يرتفع بالروح ويسمو ليصل إىل احللول فيتصل مبارشة بالوعي الكوين وباحلقيقة الكربى املاثلة يف الطبيعة .وإذا كان الشاعر (كأنّه يف وسط النهر) ،جيريان مع ًاّ ، فإن حضور (غرر) و(تظاهر) قد أظهر أن لكل الفعلني ّ من النهر والشاعر طبيعة خمتلفة ،فاملزاوجة (غرر به) يومئ بينهام غري كاملة ،ألن تعبري ّ إىل رغبة الشاعر بخداع النهر ليتكسب والتوحد معه ،لكن نوع ًا من التامسك ّ تطلبت نوع ًا من العالقة احلميمة بينهام ْ اخلداع والتظاهر ،ليصريا من الطبيعة نفسها . ليس بعدُ ... تق ّبل وعو َد الشتاء ٍ خجل التي تتجدّ د يف هتفت له؟ كم َ للشتاء الذي كان يأيت َ إليك، فتأيت إليه، تناد ُم ُه يف الليايل الطويلة.
أن يتق ّبل الشاعر وعود الشتاء يعني أنه مل يعد هناك من خيارات كثرية ،وآمال معقودة عىل الوعود املتجددة .فكلمة (خجل) أتت لتشري إىل ضمور هذه الوعود
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 89 التي تعاين من الضآلة وجتعلها خمتلفة عن الوعود املتوخاة .وهذا يشري إىل التوق إىل الشتاء الذي (كان).
هذا ما يستدعي فعل (هتفت) واجلار واملجرور (له) ليشري إىل عمر ،يراقبه الشاعر ،متذكر ًا العالقة االجيابية التي كانت.
فالفعل الناقص (كان) الذي أتى قبل الفعلني (يأيت) و(فتأيت) دليل عىل التحول الذي أصاب العالقة مما هو إجيايب ّ إىل ما هو سلبي .هذا ما خلق قلق ًا وحزن ًا وجودي ًا لدى الشاعر .فالتامهي بينهام أشار إىل انتامئهام إىل الطبيعة نفسها .وهذا ما سوغ عالقة الصداقة واملنادمة بينهام. ّ ففعل (تنادمه) يكشف عن عالقة محيمة وعميقة بني الشاعر والشتاء، أعطت ك ً ال منهام هوية جديدة .فصار الشاعر فص ً ال من فصول الطبيعة يتعامل معها كالشتاء عىل قدم املساواة .هذه العالقة املفعمة باإلجيابية أعاد تشكيلها فعل (تق ّبل) الذي أسس لواقع جديد أقل تفاؤالً ،وقد عضده الفعل الناقص (كان) ليشريا مع ًا إىل انطالقة جديدة وتبدّ ل يف طبيعة هذه العالقة. ِ باألمس، ذكّر الغيم واهتف ل ُه، ْ ِ لوعود الشتاء التي أصبحت تتجدّ د يف خجل كاخلريف.
يعتمد الشاعر هنا عىل املجاز ليخرج بالنظام اللغوي إىل دالالت جديدة. إذ أخرج الغيم من هويته املوضوع ّية وأعطاه هوية جديدة ذات داللة احتاملية.
واملطلوب تذكري هذا الغيم باألمس ،عرب فعل األمر (ذكّر)( .فاألمس) مطبوع يف الذاكرة ،ومؤ ّثر فيها ،يستعيده الشاعر كونه زمن ًا لالرتياح ،عص ًّيا عىل النسيان، ليحل حمل الزمن احلارض ،وهذا التع ّلق الوجودي. باملايض يضفي مناخ ًا من احلزن ّ فال عجب أن هيتف الشاعر له ،ويناديه، لكونه رمز ًا للزمن املنشود الذي تتوق إليه النفس كام سيهتف للوعود اخلجولة التي ال جديد ًا ضئي ً تأتيه مع الشتاء بوصفها أم ً ال قد يتحقق وقد ال يتحقق. وعندما يش ّبه الشاعر هذه الوعود باخلريف ،إنام ليشري إىل خريف داخل النفس ،وهذا ما يستدعي انخفاض ًا يف منسوب التفاؤل .فاخلريف يرمز إىل الزمني ،وحقبة االنتقال من زمن التحول ّ ّ التوهج والتفتح واحلياة /فصل الصيف إىل فصل االنطفاء واملوات /فصل الشتاء. وهكذا يمكن النظر إىل اخلريف عىل أنّه السلبي. التحول فصل ّ ّ هو الغيم يميض بك اآلن حيث يشاء، مصريك يشبهه.
الثقايف الصور هنا تدل عىل العمق ّ للشاعر الذي جلأ إىل احليد اللغوي لريسم مشهد ًا وجودي ًا حاد ًا .فظرف الزمان (اآلن) ّ يدل عىل أن املرحلة احلالية ال تشبه املرحلة السابقة ،وهذا ما استدعى الفعل (يميض) الذي تعدّ ى إىل اجلار واملجرور الرتكيبي إىل أن (بك) ليشري هذا البعد ّ الغيم صار طاقة توجيه ،ثم يأيت الرتكيب (حيث يشاء) ليعزز هذه الصورة/القائد مقابل استسالم كليّ للشاعر ،الذي
املنافذ الثقايف
90ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بدا وكأنّه جزء من الغيم ،وقد ّ حل به، ليشاركه رفعته وعدم استقراره وثباته، ربام سوداويته أحيان ًا .حتى أهنام تشاركا سوغ املصري نفسه (مصريك يشبهه) هذا ما ّ ترافقهام (يميض بك) وإن كان الغيم أكثر قوة .وهكذا فقد أوجد الشاعر معادلة تقوم عىل مشاهبة حياة اإلنسان بالغيم، وهذه املعادلة تؤسس لقلق وجودي، لكوهنا تشري يف الذهن فكرة املوت. ومهام يكن من أمر ،فقد كنّا يف هذه املجموعة أمام الشاعر يف تأمالته ،وتوتره، وتصوفه ،وتعاليه ،وهروبه يف عامل يعدو به ّ ()26 صوب اإلمكان املؤكد . فقصائده كانت نتاج ًا لرؤية خاصة إىل العامل أنتجت صور ًا ورموز ًا قوامها عنارص الطبيعة ،تغلغلت بوساطتها إىل عمق الكون ،لتعبرّ عن أيديولوجيا الشاعر. وقد رأينا الطبيعة مرسح ًا شاحب ًا
متصوفة ،وقد ألفكاره ،وكأنهّ ا بدورها ّ غابت عنها الورود ،والعصافري ،وكل املقومات التي ترسم صور ًا باسمة فرحة، فرشحت تأ ّمالً ،وزهد ًا. ْ
كاملتصوف الذي يرتك فهل أصبحت ّ املا ّدي وصوالً إىل منبع الطاقة (الروح)؟
والشاعر الذي صادقها ،وحاكاها ،إىل أن ّ حل فيها ،صار متصوف ًا "يعاين ما هو
غري مرئي حتى صار مرئي ًا بنور عقله"
وكأنّه يف تبادل اهلو ّيات مع النهر والغيم وأشياء الطبيعة ،يقول إن عنارص الطبيعة والبرش يتميزون باخلواص نفسها ،لذلك
هم متساوون.
فام طبيعة هذه اخلواص ومصدرها؟
مادي كام يقول أرسطو أهو ّ مادي()29؟ ّ
()28
د .عائشــة شــكر
اهلوامـش
()27
( )1شاعر برتغايل. ( )2عيل زيتون ،احلداثة الشعرية ،ص .118 يب اللبناين احلديث ،ص .377 ( )3حسام الضيقة ،الوجودية يف الشعر العر ّ ( )4جان بول سارتر :ما األدب؟ ص .9 ( )5أدونيس ،الثابت واملتحول ،ص .294 ( )6م .ن ،.ص ن.
أم غري
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 91 ( )7أدونيس ،صدمة احلداثة ،ص .297 يب ،ص .142 ( )8أدونيس ،مقدّ مة الشعر العر ّ ( )9م .ن ،.ص .120 ( )10ديزيره سقال ،حركة احلداثة ،ص .200 ( )11رينيه حبيش ،مقال :الشعر يف معركة الوجود ،جملة شعر ،عدد ،1ص .88 ( )12عيل زيتون ،الس ّياب شاعر ًا ،ص .8 ( )13جملة عرب ّيات ،عىل االنرتنت. ( )14جريدة الرأي ،حوار مع جودت فخر الدين ،قليل هو الشعر اجليد.2009 – 6 – 1 ، ( )15عيل زيتون ،الس ّياب شاعر ًا ،ص .7 ( )16م .ن ،.ص .8 ( )17موقع روافد ،عىل االنرتنت. ( )18أراغون ،لورشبونييه ،ص .180 ( )19را .أدونيس ،الصوف ّية والسوريالية ،ص .107 ( )20ألبري كامي ،أسطورة سيزيف ،ترمجة أنيس زكي حسن ،ص .22 V. Dufrenne. M. Le poétique, p. 130. ()21 (Bachlard, Gaston, Le droit de rêver, presses universtaires de France, 4e )22 edition, 1978, p. 224
( )23حممد غنيمي هالل ،الرومانتيكية ،ص .172 ( )24حسام الضيقة ،الرؤيا الصوفية يف الشعر ،وألواهنا ،ص .39 ( )25أوكتافيو باث ،الشعر والقصيدة ،ترمجة كاظم جواد ،مواقف ،ص .59 ( )26جون ماكوري ،الوجودية ،ص .283 ( )27عزيز السيد جاسم ،ديالكتيك العالقة املع ّقدة بني املثالية واملاد ّية ،ص .265 الذرة هي النقطة األوىل يف نشوء املا ّدة. ( )28ديموقريطس وأرسطو أكّدا أن ّ ( )29أنشتني أثبت أن نشوء اجلسيم من الطاقة فأرجع مصدر املا ّدي إىل الال ما ّدي.
املنافذ الثقايف
92ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التعالق النصي ودور الكلمة الشاهدة في
رواية« :السهل» لـ أحمد نصر حممـد احممد بن طاهر مقدمة
يقال :إن القيمة احلقيقية ألي دراسة علمية تتحدد يف أمرين أساسني مها: "الثغرة ،أو الثغرات ،التي تسدها يف حميط الدراسات التي ينتمي موضوعها إليها، ونوع األسئلة التي جتيب عنها ،أو املوقف املشكل الذي تتصدى ملعاجلته"(.)1 ومن هنا ،فإن الولوج إىل عمق النص الروائي عامة ،والليبي بخاصة ،وتقليب مواده ،ومتكني الكاشف منها ،بعيدا عن متثل الغائب ،مما تدعو إليه احلاجة ،ويف هذه السانحة اخرتت أن تكون مقاربتي، حول نص روائي لكاتب ليبي .هو: األستاذ (أمحد حممد نرص) أحد أبرز املبدعني من أبناء الوطن ،الذي جسد يف كتاباته مالمح التجربة اإلنسانية ،مصورا مظاهر احلياة يف بيئة زمانية ومكانية معينة، حماوال استكشاف جوانبها وما تأثرت به من أحداث. والرواية الليبية شأهنا شأن غريها من نصوص األدب الرفيع ،تستلهم نبض الناس ،وتستوحي أتراحهم وأفراحهم، وحضور التارخيي فيها جاء شاهدا باعتبار
احلال واملآل ،ولن يمس تعبريي املفاجئ، واستحضاري بعض األلفاظ ،وعدها كلامت شواهد ،النص الروائي يف يشء؛ ألين أرى الكلمة الشاهدة ـ وإن كانت عبارة حمدثة ،وتعبريا مفاجئا ـ دليال معربا عام ختتزله األوضاع االجتامعية، واالقتصادية ،واجلاملية طارئها وتالدها. ومما يدعم وجهة نظري يف مقاربتي، ٍ عدد من ألفاظ رواية (السهل) كلامت عدُّ شواهد ،هو احلاجة إىل جتريدها ،حتى يتم اإلحساس هبا ،وفهم ما وراء استعامهلا.
ويف هذا العمل ارتأيت أن تكون دراستي حول إمكانية ـ عد ألفاظ بعينها، معاين خاصة، محلها كاتب رواية السهل، َ وصوال إىل مبتغاه ـ كلامت شواهد تعرب عن احلال واملآل ،وقد اقتضاين املقام أن أحاور الكاتب حول كثري مما ورد يف النص قيد الدرس ،وقد أفادين :بأن الكلامت الشاهدة عامة ،وقبل أن تكون شاهدة، كانت خمتزلة يف الذاكرة ،تتوق إىل ولوج عامل األحياء. وفيام أرى ،فإن احلاجة إىل البحث والتنقيب عن الكلامت الشواهد يف
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 93 النصوص األدبية ،وبعث ما تنطوي عليه من معان ،مما تدعو إليه احلاجة ،بخاصة ّ أن اللغة هي األداة املعربة عن مكونات احلضارة ،ومن املعلوم "باحلس وامللكة أن اإلنسان قد يروض إحساسه ترويضا ينتهي به إىل إدراك النشوة الفنية بقطعة موسيقية غنائية يف لغة ال يفهم داللتها البتة ،لكننا ال نتصور إنسانا يصفق نشوة أو يصيح انفعاال لقصيدة أو رواية تلقى عليه يف لغة ال يفهمها ،والسبب يف ذلك أن احلدث األديب مزدوج يف غايته ازدواجه يف بنيته ،فهو حدث تكون احلواس فيه حمط رحال النشوة الفنية ،ومنافذ اإلدراك يف نفس الوقت"(.)2
هذه الدراسة وإن بدت تأرخيا ملفردات بعينها وردت يف رواية معينه، إال إهنا يف حقيقتها دراسة لغوية للمفاهيم والتصورات ـ وليست بالرضورة بحثا يف املكون الصويت ،أو البناء الرصيف ،أو الرابط النحوي ـ فهي وإن راعت مجيع ذلك ،إال إن االهتامم انصب عىل تأكيد العالقات القائمة بني املفاهيم ،واالختالف "ال يأيت من األصوات واألدلة بقدر ما يأيت من اختالف يف رؤية العامل"(.)3
وستكون دراستي ملا اخرتت من مادة بعيدة عن الفكرة املستقرة يف علم اللغة ودرسها ،فالغاية أن تدرس بوصفها ألفاظا لظاهرة إنسانية ،مع مالحظة أن صفة البنيوية يف هذا العمل ـ وإن بدا ما جيافيها ـ قائمة ،غري إهنا بنيوية منفتحة، هتتم باجلانب العميل والواقعي ،غري متشبثة بالقديم ،تشبث األعمى بعصاه البالية. ومجلة األمر ،فوصف لفظة ما بأنهّ ا
كلمة شاهدة ،ال يمثل عيبا ،وإنام يكسب فضيلة اهتزاز نمط الداللة ،وجتدد عالقاهتا.
.1الكلمة وأمهيتها
الكلمة هي أصغر وحدة من وحدات الكالم ،وهي ليست مما يكتنفه الغموض، والكلامت إنام هي أحداث هلا بعدها الزماين واملكاين ،بمعنى أن هلا بعدا ماديا ،وأن هلا معاين ترمز إليها ،وعند مولد الكلامت يف البدء كان من املمكن أن تكون مسميات أو رموزا ألية أشياء أخرى غري التي أطلقت عليها ،ولكنها حددت ملسميات خمصوصة ،ثم اكتسبت معاين إضافية أخرى من خالل االستعامل الذي استمر عرب الزمان ،وكلام نمت اللغة وتطورت أصبح من املباح استعامل كلامت جديدة لألشياء ،أو استعامل األسامء القديمة بطرق جديدة. ونظرا ألمهية املفردات اللغوية، فإنه من غري املمكن جتاهل دراستها، عند دراسة أي جمتمع من املجتمعات؛ فهي الدليل إىل فهم تارخيه وحضارته وتفسريمها ،وهي التي تذكر بامضيه ،وتنبه إىل ما حتمل طيات غده املنظور والبعيد. يقال" :ال يمكن االستمرار يف بحث تاريخ الكلامت بمعزل عن تاريخ احلضارة"(.)4
والعناية بدراسة الكلمة ليست غريبة عن البحث اللساين ،فقد كتب ستيفن أوملان كتابه (الكلامت واألشياء) باللغة اإلنجليزية ،وكتب جورج ماطوري كتابه (منهج املعجمية) بالفرنسية ،واهتمت الدراسات اللغوية احلديثة بدور الكلمة
املنافذ الثقايف
94ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يف اجلملة والنص ،وال خيلو بحث أو كتاب من اإلشارة إىل الدور الذي يؤديه اختيار الكلمة يف الرتاكيب اللغوية ،وال خيفى اهتامم من يمتهن الكتابة ويتخذها حرفة بانتقاء املفردات التي تفيض باملعاين املعربة والدالالت العميقة ،وقد كان وال يزال هذا املقام جماال خصبا للدراسات النقدية قديمها وحديثها" ،ودراسة املفردات ال يمكن القيام هبا من دون بحث املعطيات االجتامعية ،والسياسية ،والفنية، والدينية" (.)5 والكلمة كام يقول سابري "ال يمكن أن تتجزأ دون أن تنتج عن ذلك بلبلة يف املعنى ويبقى واحد من هذه األجزاء بني أيدينا وهو فاقد احلياة"(.)6
وحديثي عن الكلمة وعدها كلمة شاهدة ،نابع من أن اإلنسان هو الذي يتحكم يف لغته ،فهو سيدها ،وبحق هذه السيادة صح لإلنسان حرية التعامل مع الكلمة القديمة يف معنى جديد ،ومن هنا وكام يرى أحد الباحثني "احتياج املبدع إىل إحداث نوع من الفوىض يف العالقات اللغوية ،وحتطيم التعسف القائم بني الكلمة ومدلوهلا ،وتلك الفوىض املستحدثة تتحول لتخلق نظاما جديدا"(.)7 وقد أشار عبد القاهر اجلرجاين إىل "أن األلفاظ ليست إال رموزا للمعاين املقررة، واإلنسان يعرف مدلول اللفظ املفرد أوال، ثم يعرف هذا اللفظ الذي يدل عليه ثانيا، فاأللفاظ سامت ملعانيها"(.)8
.2معاين النحو
األلفاظ أو الكلامت ال تأيت اعتباطا،
وإنام يقع يف نفس الكاتب ما يقصد إليه، وليس هناك من سبيل إىل املكاشفة ،غري سبيل ترتيب األلفاظ ،والقصد إىل املعنى عن طريق تعليقها بام جاورها ،واهلدف من وراء القصد ،إعالم السامع والقارئ شيئا ما ،وليس املقصود بالطبع إعالم السامع أو القارئ معاين الكلامت املفردة يف منأى عن الرتكيب النحوي ،الذي يمثل نظاما فنيا متكامال. "ودراسة الكلامت يف حد ذاهتا ال متثل شيئا يف منهج العمل األديب ،بل إن الفهم ال يتمثل إال يف العالقات بني الكلامت، أي يف وحدات اللغة ،وهي بدورها تقوم عىل التسلسل بني الرتاكيب التي خيلقها النحو بإمكاناته الواسعة ..فاملبدع يرتب املعاين أوال يف نفسه ،ثم حيذو عىل ترتيبها األلفاظ"(.)9
.3الراوي والرواية
أ) الراوي:
األستاذ (أمحد حممد بن نرص) من مواليد مدينة (مرصاتة) ليبيا .عام 1941م .درس املراحل األويل بمعهد القويري الديني ،ثم سافر إىل اإلسكندرية الستكامل دراسته الثانوية ،وبعد حصوله عىل الشهادة الثانوية األزهرية عام 1963م انتقل إىل كلية دار العلوم بالقاهرة ،وحصل عىل ليسانس يف اللغة العربية وآداهبا العام 1967م. بعد رجوعه إىل الوطن عمل مدرسا وموجها بالتعليم املتوسط ،حتى تقاعد اختياريا العام 1992م. إىل جانب الكتابة بالصحف املحلية،
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 95 والدوريات الليبية ،له جمموعات قصصية، وروايات طبعت مبكرا ،وأعيد طباعتها غري مرة ،وله كتاب املراحل الذي حيكي فيه سريته الذاتية ،وقد صدر منه اجلزء األول ،وال يزال اجلزء الثاين خمطوطا، وهو بصدد كتابة اجلزء الثالث ،وهو إىل جانب ذلك مهتم بالكتابة لألطفال ،وله أعامل منشورة يف هذا املجال. ب) الرواية:
حديثي عن" السهل" سيكون ،رواية ما شافهني به مؤلفها ،فهي كام يقول: رواية واقعية ،تعطي صورة عن احلياة السياسية والنضالية لألمة ،وتشري إىل وحدة مفهوم النضال لدى الساعني إىل التحرر من القيود واحلدود ،وهي كذلك تصور حياة املجتمع البدوي يف ليبيا ،الذي متثل "جمتمعاته ركنا أساسيا يف الرتكيبة االجتامعية للمجتمع الليبي ،وأدت دورا إجيابيا يف احلوادث التي تعرض هلا الوطن، وذلك بام توفر ألفرادها من إحساس عميق باملسؤولية ،فالفرد يتعلم االعتامد عىل النفس ،ومواجهة اختاذ القرار مبكرا، وهو حمتاج ألن يكون حذرا مقداما ،جوادا خبريا ،يستقري ويستنطق املعامل واآلثار، وحيسن معرفة عامله املحيط به"(.)10 وقد امتازت هذه الرواية بام حتمله من ألفاظ ،ارتبط كثري منها بحياة الليبيني عامة ،اليشء الذي انعكس إجيابا عىل معطيات النص ،وما ترمز إليه دواله. ورواية "السهل" جاءت ضمن مرشوع أديب اختطه الكاتب لنفسه ،طاحما من خالله إىل اإلسهام يف كشف اللثام، عن بوادر الوعي املبكر للمجتمع الليبي،
حماوال يف ذات الوقت" ،اإلمساك بواقع وتاريخ النضال الذي ساد فرتة من أكثر فرتات املجتمع العريب أمهية ،تلك الفرتة املمتدة من عرشينيات القرن املايض حتى قيام ثورة 23يوليو 1952م حيث حاولت الرواية التعاطي مع أحداث تلك الفرتة احلاسمة من تاريخ النضال العريب"(.)11
هذا العمل اإلبداعي صور لنا احلال االجتامعية التي كان عليها املجتمع العريب يف حقبة زمنية معينة ،وهو هبذا جدير بالقراءة والتدبر ،سواء كان ذلك ضمن ما اختطه كاتبه لنفسه ،وما هدف إليه ،أو داخل احلقل اخلاص بام حيمله النص األديب املعارص من رؤى ،يرمز إليها بكلامت شواهد .ويمكن إمجال أفكارها يف اآليت: .iاخللوص إىل كشف مظاهر التبعية املبارشة وغري املبارشة ،وفساد النظام السيايس ،وسيطرة األجنبي عىل مقدرات الشعب ،وزرع بذور الفساد يف املجتمع املحافظ ،واستغالل ضعاف النفوس الالهثني وراء النزوات احلسية. .iiالرتكيز عىل مراعاة القيم ،واحلرص عىل املبادئ السامية ،وهي أخالق توارثها العرب ،وأكدها اإلسالم، وحث عليها أتباعه أينام كانوا وحيثام حلوا ،وكيفام كانت ظروفهم احلياتية.
.iiiعالقة الرشق بالغرب ،وكيف كان عطاؤنا للحضارة عامة ،وماذا قدموا لنا؟ .ivاستطاع الكاتب أن يرسم بريشة الفنان ،الصورة املثىل للمقاومة التي أبداها املواطن العريب ،وحرصه عىل طرد األعداء ،وعدم التسليم باألمر
املنافذ الثقايف
96ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الواقع.
.vيف الرواية يطالعنا الكاتب بتمسك العريب بحقه يف الدفاع عن وطنه ،ضد كل معتد أيا كانت جنسيته ،وأيا كان لونه.
.viاستطاع الكاتب يف نصه الروائي هذا أن يربز لنا صورة العريب يف هذا اجلزء من الكون الواسع ،وهو يناضل من أجل أن يكون حرا فوق ثرى أرض أجداده غري عابئ بام يالقي من حمن وإحن.
.viiاستطاع الكاتب أن يربز مالمح اللحمة االجتامعية بني أبناء األمة، فحسني بطل الرواية وإن مل يولد عىل ثرى ليبيا ،إال إنه وجد املأوى يف ربوع البادية الليبية ،واستطاع أن يندمج مع الليبيني.
.viiiنبه الكاتب إىل رضورة مواصلة النضال ،وعدم التسليم باألمر الواقع، والركون إىل الدعة ،ونشدان رفاهية العيش. .ixبينت نصوص الرواية أن مهوم األمة واحدة ،وأن ال تباين بني مرشق الوطن ومغربه ،فكلنا يف اهلم عرب.
.4الكلمة الشاهدة
الكلمة الشاهدة هي :التعبري الرمز املادي للعمل الروحي املهم ،فهو يمثل يف الوقت العنرص التعبريي ،والعنرص امللموس الذي جيسد عمال من األعامل احلضارية ،ولعله من الصعب وتبعا للمنهجية العلمية ،والتسلسل التارخيي عد كثري مما ورد يف رواية السهل كلامت
شواهد؛ غري أن مقتضيات العرص، وحضور اللفظ الدال عىل ما يتعلق باالتصال غري الالسلكي جعل منها كلامت شواهد لغويا وتارخييا ،ومن هنا فحسبان كلمة شاهدة جاء بناء عىل احلال واملآل، ودخول هذه الشواهد إىل جمال االستعامل. إضافة إىل أن ما يرسم مالمح الكلامت الشواهد يف النموذج املختار ال يمثل فقط قيمتها السكونية داخل جمموعتها ،ولكنه أيضا يعرب عن ديناميتها ،فالكلامت الشواهد هي :التعبري الرمز ،وهبذا يعود مفهوم الزمان ليدخل معجمية السكونية والوصفية. املهم فيام أتصوره هو أن الكلمة الشاهدة تسجل حتوال مهام يف احلقل الداليل واملعريف ،علام بأن التحديد التارخيي ألولوية ظهورها قد ال يكون سهال ،وذلك راجع لعدم توافر املعلومات الرضورية يف املعاجم التأثيلية للغة العربية.
والكلامت الشاهدة التي هبا ينتظم تسلسل املفردات داخل احلقل املفهومي كثرية جدا ،وهي فيام أزعم املفتاح الذي يتمكن من خالله الكاتب إيصال فكرته إىل قارئه ،والكلمة الشاهدة وإن مل تدل عىل مادة ،أو وسيلة ،لكنها يف حقيقتها تدل عىل كائن ،أو إحساس ،أو فكرة؛ فهي طريقة التعبري احلي ،الذي يعيش وسط املجتمع ،الذي يتوطنه النموذج واملثال. وفيام أرى فإن الكلامت الشواهد وقد خصت بدالالت متطورة ،وأصبح هلا خاصية أساسية يف بناء النص الروائي؛ فإهنا بذلك حتولت من كلمة عادية إىل كلمة مفتاح ،يتوقف عىل فهمها كثري مما
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 97 يتضمنه النص الروائي .ويف ما بني أيدينا من عمل قاربت هذا املفهوم ،مراعيا التوسط يف حتميل الكلامت الشواهد ما ارتأيته فيها من دالالت ،ساعدين يف ذلك معرفتي القريبة بالكاتب ،ودرايتي الكاملة بام يملك من أدوات. أ) الكلمة الشاهدة والتحرر الداليل:
مع ما حتمله الكلامت الشواهد من تطورات داللية ،تسهم يف إثراء املعرفة، وتشري إىل التغيري الذي يصاحب االستعامل داخل النص ،الذي غالبا ما يأيت عفويا دون سابق تفكري أو علم بام حتمله هذه الكلمة أو تلك من دوال ،تتغري حسب التلقي ،واملتلقي ،وزمان التلقي ومكانه. مع هذا كله ،فإن حتديد التاريخ الذي ملعت فيه (الكلمة الشاهدة) أمر يصعب حتديده ،اللهم إال إذا حسبنا أن ما أرسى دعائمه علامء اللغة العرب ،من اعتامدهم عىل الشاهد اللغوي أساسا لقبول القاعدة اللغوية ،هو بداية بزوغ شمس الكلمة الشاهدة .غري أن ذلك ،وإن عد شاهدا، فهو وإن اتفق مرادي معه ،يف أن كليهام شاهد؛ إال أن الكلمة الشاهدة يف مقاربتي، وإن محلت الدليل ،فهي إىل جانب ذلك جتتبي التغري الداليل الذي حيمل يف طياته غري معنى ،كذلك فام أحاول مقاربته ،ال يتعمد رسد أمثلة تؤسس لقاعدة لغوية، كام هو ديدن شواهد قواعد اللغة العربية بل هو تصور يؤدي فيه البث الفني وظائفه التأثريية.
ولعل األهم يف هذا الطرح النظري ومناقشته ،هو يف أن يتكون عند القارئ تصور امتزاج النظرية باإلجراء ،أو كيف
يرجح اإلجراء غالبا عىل النظرية يف حتديث اللغة العربية.
.5الكلمة الشاهدة يف رواية السهل
يف ضوء قراءيت الرواي َة واستبطاين نصها ،يمكنني تقديم نامذج ملا حتقق فيه تصور الكلمة الشاهدة.
.iلنبدأ من لفظ (السهل) الذي اختاره الكاتب عنوانا ،فهو لفظ أول ما يتبادر إىل الذهن ،أنه عني به :األرض املنبسطة ،أو كل ما هو يسري وممكن؛ غري أن األمر سيتغري متاما عند فراغ القارئ من قراءته؛ فـ (السهل) جاء هنا وعاء ألحداث ،ورصاعات ،ومواقف، وتاريخ، وحركات، ومشاعر، وجغرافيا ،وحياة نابعة بكل املعاين، تفيض بشتى أنواع املشاعر اإلنسانية بل واحليوانية .ومن هنا فكلمة (السهل) تعدت مدلوهلا املعجمي املتعارف عليه ،إىل كلمة عاملة ،شاملة ،واسعة االحتواء ،يمكن أن نعدها عىل املستوى العام أهم الكلامت الشاهدة يف النص.
.iiكثريا ما تأيت الكلمة لتختزل معاين كثرية ،وتعرب يف الوقت ذاته عام يعتمل يف أعامق قائلها من شجن وحزن، فمن ذلك لفظة (أماه) التي جاءت عىل لسان (حسني) بطل الرواية وهو خياطب أمه قائال" :أماه لوال ما يمأل قلبي ويسيطر عىل مشاعري ،وما يتقد يف دمي من طموحات واعدة وآفاق آملة ..لوال حبل متني يشدين لألرض ..للسامء ،للمطر القادم ما استطاعت الصحراء أن تضمني .)12("..نالحظ
املنافذ الثقايف
98ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هنا أن كلمة (أماه) جاءت بمثابة املفتاح هلذا احلوار الساخن ،النابع من أعامق قلب مكدود ،وفؤاد مكلوم، ختنقه العربات ،خياطب األم رمز احلنان ،وواحة املحروم.
مل جيد متنفسا ملا يعتلج يف صدره إال أن خياطب الوطن يف صورة األم ،فهام يشء واحد وإن اختلفا ،فاألم وطن، والوطن أم ،ومن ال وطن له ال أم له. يف ترديده كلمة (أماه) يتجرد من كل مادي ،وينبثق يف داخله نور الوعي الذي خيالج الزمان واملكان واألشياء، ويلتحم مع وهج العاطفة اجلياش املبرص ،الذي يتصور االبتسامة عىل حميا األطفال ،مع قتامة الواقع ،تبعث فيه هذه الكلمة كل معاين اإلرصار، تتقد جذوة األمل من جديد ،يستهدى نورا أطل من حميا أمه وسط لياليه الدكامء.
.iiiيف الصفحة ( )15من الرواية وردت عبارات كثرية عىل لسان حال (حسني) من بينها" :أكان حمتمال أن حيمل أثقال معدن ال يعلوه صدأ؟"( .)13فكلمة معدن جاءت كلمة شاهدة ،ومما زاد يف أمهيتها؛ أنه ليس معدنا عاديا ،وإنام معدن (ال يعلوه صدأ) ومن هنا فإن هذا التعبري وافق ما يعانيه حسني ،ويف ذات الوقت عرب عن كثري مما يعانيه الثائر بطبعه ،الذي يملك من اإلرادة ما يمكنه من جتاوز املحن ،وغض الطرف عن اإلحن ،فهو بمثابة املعدن (الذي ال يعلوه صدأ. .ivيف معرض احلديث عن السائح
األجنبي وزوجه احلسناء يقول الراوي :إن الزوجة كانت "حريصة عىل أن تظهر يف الصورة مع مجاعات القطيع ،ثم طلبت إىل زوجها أن يلتقط هلا صورة مع الراعي .)14(".. يف هذا النص املقتبس تلوح كلمة (الراعي) لتؤ ّدي دور الكلمة الشاهدة، فالسائحة األجنبية ،ستحكي قصتها لكل أصدقائها ،وستعلق صورة (حسني) الراعي عىل جدار بيتها" .أي انسحاق وأي امتهان! كنا نحن وكانوا هم ..كنا احلضور ،وكانوا الغيبة ،كنا العطاء وكنا اخلري ،كنا ومل يكونوا شيئا يذكر"(.)15
ماذا جنينا حتى نصري مجاال وصحراء، ورعاة تؤخذ لنا الصور التذكارية؟ أي حياة بائسة ،وأي عيش ال معنى له! أهذه إرادة اهلل! كال ،إنه النكوص ،إنه وهم اخلوف ،واخلوف من الوهم ،إنه إحياءات أريد هلا أن تسيطر عىل مشاعر األمة ،كي تستكني ،وتستسلم ملا د ّبر هلا األعداء.
.vيدور حوار بني (حسني) وأحد األجانب ،صادف أن التقاه يف إحدى رسواته مع قطيعه .قال (حسني) بعد حوار طويل خاطب فيه األجنبي بصوت أجش .." :أهو تفريغ ملا حيمل؟"( .)16إىل جانب ما حيمل هذا االستفهام اإلنكاري الذي استفيد من اهلمزة من دالالت ،نجد أن كلمة (تفريغ) كلمة شاهدة؛ ألهنا عربت عن خطاب حاد واجه به (حسني) األجنبي ،مفاده :أن للعرب فضال
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 99 كبريا عىل الغرب ،غري أن املكافأة مل تكن غري هذه الرشكات التي متتص دماء الشعب .وحتمل هذه الكلمة يف طياهتا كذلك ،مدى ما حيمل (حسني) من لواعج األسى واحلزن ،وهو يف وضع ال يقدر فيه عىل يشء ،وليس له غري نفثها مع حر أنفاسه الالهثة ،عىل هيئة شحنات تفريغية ،تعرب عام يعاين حر. منه كل ّ
.viيف حوار دار بني (حسني) وبني إحدى طالبات املدرسة الثانوية ،الاليت كن يقمن برحلة صحراوية ،وصادف أن كان (حسني) يرعى شياهه يف ذات املكان ،ومعه ريم ،فأراد حسني أن يامزحهن ،فكان أن اختار أن يعيد قراءة التاريخ ،ويؤ ّدي دور (قيس بن امللوح) .عندها سألته إحدى الطالبات ،هل أنت مرصي؟ فأجاب (حسني) أنا عريب ..هذه عصاي وتلك غنمي " ..وهل يكون قيس إال عربيا!"( .)17معاين كثرية تتفتق عن هذه العبارة ،والكلمة الشاهدة فيها هي كلمة (قيس) الكلمة التي حتمل يف طياهتا معنى االنتامء وتأكيد اهلوية، وفيها إىل جانب ذلك معاين الوفاء والطهر ،وصمدية احلب.
.viiيف الصفحة ( )65تطالعنا (ريم) الفتاة احلاملة ،التي عانت جتربة زواج فاشل ،ثم جاءت صحبة عائلتها، لتعيش بعيدا عن أجواء املدينة ،وما يعرتهيا من ذكريات مؤملة ،غري أهنا تواجه بام ال يزال خيالط حشا قلبها، فها هي تقول" :أكان قدري أن أرجتف
لكل هبة ريح؟"( .)18أنظر إىل كلمة (أرجتف) وما حتمل من معان تعرب عام آل إليه حال هذه الفتاة ،فإىل جانب ما تضمنه هذا االستفهام اإلنكاري ،نجد أن (ارجتف) عبرّ ت بوضوح عن عدم قدرهتا عىل مقاومة تيار اهلوى ،وهي التي مل تربأ من نتائج جتربتها األوىل. أهو قدر ال تستطيع له ردا؟
خامتة
بدا يل من خالل تصفحي للنص قيد الدرس ،أن إمكانية تعيني الكلمة الشاهدة ،لتكون إحدى سبل الوصول إىل التعبري الرمز للعمل األديب ،الذي يمثل العنرص التعبريي ،الذي بدوره جيسد عمال من األعامل احلضارية ،أمر ممكن ،وإن بدا ما خيالف ذلك. وما أدرجته وقيدته كلامت شاهدة، ال يعدو أن يكون اختيارا عشوائيا لبعض مفردات نص إبداعي ،عباراته وتراكيبه حبىل بشتى أصناف الكلامت الشاهدة، التي تيش بام يغني تراكيب اجلمل ،بمعان مضاعفة ،يف قالب بديع وأسلوب أنيق. إضافة إىل أن ما رسم مالمح الكلامت الشاهدة يف النموذج املختار ،ال يمثل فقط قيمتها السكونية داخل جمموعتها، ولكنه أيضا يعرب عن ديناميتها ،فالكلامت الشاهدة ختتزل يف طياهتا رمز التعبري، وهبذا يعود مفهوم الزمان ليدخل معجمية السكونية والوصفية. املهم فيام تصورته هو أن الكلمة الشاهدة سجلت حتوال مهام يف احلقل الداليل واملعريف .وهي إىل جانب ذلك ،ما
املنافذ الثقايف
100ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هبا ينتظم تسلسل املفردات داخل احلقل املفهومي ،وهي فيام أزعم أداة من أدوات األديب تعينه عىل إيصال فكرته إىل قارئه، والكلمة الشاهدة وإن مل تدل عىل مادة، أو وسيلة ،لكنها يف حقيقتها تدل عىل كائن ،أو إحساس ،أو فكرة؛ فهي طريقة من طرق التعبري احلي ،الذي يعيش وسط
املجتمع ،الذي يتوطنه النموذج واملثال.
وفيام أرى فإن الكلمة الشاهدة ،أصبح
هلا خاصية أساسية يف بناء النص الروائي؛ وبذلك حتولت من كلمة عادية إىل كلمة
مفتاح ،يتوقف عىل فهمها كثري مما يتضمنه النص الروائي.
حممـد احممد بن طاهر أستاذ علم اللغة العام واحلديث كلية اآلداب ـ مرصاتة
اهلوامـش
( )1عبد احلكيم رايض نظرية اللغة يف النقد العريب .مكتبة اخلانجي .القاهرة( .بال) .ص .3 ( )2عبد السالم املسدي .األسلوب واألسلوبية .الدار العربية للكتاب .1982 .ص.121 ( )3جورج ماطوري .منهج املعجمية .تر :عبد العيل الودغريي .منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية .مطبعة املعارف اجلديدة .الرباط .1993 .ص .8 ( )4ستيفن أوملان .دور الكلمة يف اللغة .تر :كامل برش .القاهرة .1997 .ص .194 ( )5منهج املعجمية .ص .23مرجع سابق. ( )6املرجع السابق .ص .29 ( )7حممد عبد املطلب .البالغة واألسلوبية .الرشكة املرصية العاملية .اجليزة .1994 .ص.68 ( )8حممد عبد املطلب .البالغة واألسلوبية ..ص .49 ( )9عبد القاهر اجلرجاين .دالئل اإلعجاز .تح :حممد التنجي .دار الكتاب العريب .بريوت .ط.1. .1995ص .407 ( )10حممد احممد بن طاهر .فصيح ألفاظ البيت البدوي ببادية مرصاتة .مطبوعات جممع اللغة العربية. .2008ص .50 ( )11حواء الشويرف .اخلصائص الشكلية والداللية يف رواية السهل .رسالة ماجستري .2007 .ص .20 ( )12أمحد نرص .رواية السهل .الدار اجلامهريية للنرش والتوزيع واإلعالن .بنغازي .1991 .ص .15 ( )13املرجع السابق ص .10 ( )14رواية السهل .ص .37 ( )15املرجع نفسه. ( )16املرجع السابق .ص .39 ( )17رواية السهل .ص .57 ( )18املرجع السابق .ص .65
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 101 املصادر واملراجع: .1أمحد حممد نرص .رواية السهل .الدار اجلامهريية للنرش والتوزيع واإلعالن .بنغازي.1991 . .2جورج ماطوري .منهج املعجمية .تر :عبد العيل الودغريي .منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية .مطبعة املعارف اجلديدة .الرباط.1993 . .3حواء الشويرف .اخلصائص الشكلية والداللية يف رواية السهل .رسالة ماجستري.2007 . .4عبد احلكيم رايض .نظرية اللغة يف النقد العريب .مكتبة اخلانجي .القاهرة( .بال). .5عبد السالم املسدي .األسلوب واألسلوبية .الدار العربية للكتاب.1982 . .6عبد القاهر اجلرجاين .دالئل اإلعجاز. .7حممد حممد بن طاهر .فصيح ألفاظ البيت البدوي ببادية مرصاتة .مطبوعات جممع اللغة العربية الليبي.2008 . .8حممد عبد املطلب .البالغة واألسلوبية .الرشكة املرصية العاملية .اجليزة.1994 .
املنافذ الثقايف
102ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى سعيد عقل في يوم تكرميه حممـد توفيـق أبـو علـي وزحل ُة ال�شعر ...قالت �إ ّنه ن�سبي
غدت � ّأمي ...بلى و�أبي ورندىل قد ْ
حلم ْ جذىل تر ّنح جنوانا على ٍ وال�شعر ي�شهد � ّأن الآل �أتعبه
ِ �رضير غدا خم�ضو�رض الهدب جدب ٍ
قد �أمرع الوقع فيه فانت�شى ثم ًال: ويا حدا ُة �صهيل اجلمر واحتن ٍا هرما قالوا بالقع �أ�ضحى ُ نب�ضنا ً َ أمطار وهاطلها قلنا القرائح � ٌ عبقر النجوى ،و�شاعرها وزحل ٌة ُ عرى ُو ْر َق دوحتنا قر العوا�صف ّ ّ �شاخت مطارف للع ّز التليد ف ُق ْم ْفودا الزمان على الأرزاء قد هرما
ويا بالدي �رضام ال�شعر م ّتق ٌد
الغيث ّ هط ٌ ال بال تعب وخطوك ُ ُ املاء للع�شب يابيد هاكي ُ َ �صداي َ
فارووا املجامر وا�سقوا جذوة اللهب ْ
رواده ال ُّن ُجب وال�شعر �أقفر من ّ ُ �شم العال ِ اخل�صب توق احلنني �إىل ّ َ يا�شعر يف يوم الوغى ال ّلجب ب�شرْاك ُ ال�صوت يف الك ُثب من الهديل ،و�ضاع ُ �شعر ْ واك ُ�س املنى من برده ال ُق ُ�شب يا ُ يهرم ومل ي�شب ده وفو ُ ُ ال�صبح مل ْ ْ ال�سغب نار ال ِقرى زحل ٌة يف يومه ّ
بع�ضا من ق�صائده ف�أقرئي الدهر ً
�شعرا يف مدى احلقب كي ينطق الدهر ً
احل�س بالأطياف عندل ًة من �أثمل ّ من باح للكون بالأ�رسار تكتمها
للح َبب؟ فباحت الك�أ�س بالأ�رسار َ
من �أيقظ احلرف من بكماء غفوته؟
و�ض ًاء على ال ُّنوب؟ من �أ�شعل ال�شعر ّ
ق�صيدةٌ ُخ ّبئت يف ِ�سدرة ا ُحل ُجب؟
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 103
بع�ضا من �أع ّنته من �أ�رسج النور ً
ف�أ�رشقت يف لظاها جمر ُة ال�شهب؟
يب�س يبق من حطب الأ�شجار ذو ٍ مل َ
حمالة احلطب ح ّتى اكتوت بالأ�سى ّ
وع ٌد يف ق�صائدنا ال�شاعر احل ْل ُم ْ ال�شاعر احللم ج ْن ٌي يف موا�سمنا
ملح الكالم ،عرو�س ال�شعر والأدب
يداك �أمرعتا ،فالغ�صن ذاكرة ٍ َ
أجدبت بي ٌد خ�صبت �أو � هم �إن ْ ْ ما ّ
يا دمية ال�شعر،يا غيث القري�ض �أال معراجنا يف زمان اجلدب �أغني ٌة �سعيد ٍ عقل ...كفى لل�شعر مفخر ًة
روح �سال يف اخل�شب للخ�صب، وال�شعر ٌ ُ ْ والرطب تطواف ُة ِ الريح بني ُالب�سرْ ِ ُّ جدب فهو الكوار ُة يف ٍ خ�صب ويف َ رف ًقا ٍ ذوت من ُع ْج َم ِة العرب ب�ضاد ْ
ال�سحب �إليك ترنو ،فيهمي حِ ْم ُ جر ُّ خط ْت له تعويذ َة ُ ميناك ّ الك َرب
حممـد توفيـق أبـو علـى
املنافذ الثقايف
104ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى الشاعر اخلالد سعيد عقل
َ القصائد سفحك العالي تنام على ُ عمـر شـبلـي وجودنـا وغـ ِّيـ ْر َ َّ حتو ْل ،و�صرِ ْ �شعراًَ ،
البو ِح يف ال�صدى فماذا الذي يبقى من ْ
ٍ العمر يانعـــ ًا و� ُّأي خريف يجعل َ فمن جارة الوادي �صدى ال�شع ِر قال:ال ْ بع�ضها أ�شعار والريح ُ ُ وهل ُ تهرم ال ُ �رسقت من الوادي هديـراً و�صغتـ ُه َ َ واخلمر �أنتمـا وزحل ُة ك� ُأ�س ال�شعر، ُ أج�ساد ق�ص َة َح ْورِهــا وتروي لنا ال ُ ْ فقل يا �أخاها � ُّأي ٍ وجد غوى بنــا
تقا�سم َت َ أنت وزحلــ ٌة قول ال�شع ِر � َ ْ
ِ لت «عبقر» ومن ت�سلـ ْ َ اململوء �شعراً َّ جتر القوايف من نوا�صي ِحرانهـا ُّ فدع ّ َ روحـ ُه ي�سقيك كر ٍم لي�س ْ كل ْ َ
ع�رصهـا وتلك ُ العناقيد التي َ طاب ُ
ال�سـماء قريبـ ٌة «�صنـ َني»، أغريت و� َ ُ ِّ
أعطـ ْي َت مثلـه �إذا ُ النهر �أعطى ثم � َ
ال�شعر من طبعـ ِه ِ َ ال�س ْح ُر ب�شعركّ � ،إن َ ُ الزهر ذبـل يقول وماذا ُ ُ العطر لو ُ الع�رص وامتنع كر ُم العم ِر �إذا َّ َ ُ جف ْ ِ الن�رش الورد� ،شيمته أنت كعطر و� َ ُ
ٍ ال�سم ُر ومزمار ُ «داود» وتلك املها ْ النهـر ال�شاعـر جيـ ًا� ،إمنا ُ ُ هدي ًال َ�ش ّ ذكر فما َّ حلـ ٍق ل�شاربهــــا ُ جف يف ْ
ال�ش ْع ُر فيا من ر�أى َح ْوراً ،وقد �أُ ْ�س ِد َل َ الكليم �أم ا َحل ْو ُر !!؟ أنت �أم الوادي �أ� َ ُ ال�شعـر والنثـر حـ ْيهما ُ حبيبان من َب ْو َ
لواديك ج ِـ ٌّنَ ، َ قيل :يف ٍ زحلة َق ُّروا!!؟
العر�س ُي ْ�س َتـ ْح َ�سنُِ ا َجل ُّـر �إىل عر�سها ،يف ِ ودع َّ ال�شعـر الي�ضيء به �شعر كل ٍ ْ ُ ُ تباهيك يف �شرَ ْ ٍب( ،)1ويبقى لك ال ُأمر فكان لها خ�رصاً ،ويحلـو لك ال َه�صرْ ُ َ النهـر قمح ال�سهلِ � ُّأيـكما ت�ساءل ُ ُ
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 105
متر على الأ�شعار ،وهي يتيم ٌة ُّ و�س ْع َق ْلـ َت( )2لبنانـ ًا ،ف� ُّأي � ٍ أريكـة َ
كتـ َك الب ِْك ُر وتغزو َ فتـ ُ بـالد ال�شع ِر ْ والدهر!!! جلو�س �أنت وال�شعر عليها ُ ٌ
حملـق ك�أ ّنك يف «�صنـ َ ّ يـن» ن�رسٌ ِّ إميا�ض على ِّ كـل �شاهــق يغاوي ِه � ٌ
الو ْك ُر جناحاه ّ ُ ميتد ِان ،والنجم ُة َ والنظر ال� ْزش ُر الفو ُق بـه ُّ ُ ي�ستبد ْ الن�رس وكيف ُ والقمـ َة ُ يخـاف ال ْأفـ َق َّ
غ�صن َّ �أخا ِّ ٍ هم ًا» ب�أر�ضنا كل «قل ّ أ�رسق جمـر ًة اليوم»ُ � ، «مرر َت ببايل َ ْ
تخف من بروقــــ ِه وعا�صفـ َت �أفق ًا مل ْ ْ
الفكر وانهزم ال�شعر، ملاذا ا�ستقال َ ُ ُ اجلمر؟ �أ« ُ �سيزيف»(� )3سرَ ّ ٌ اق؟ وخب ٌز هو ُ
أر�ض َع ِ�ص َّي ٍة أنكرت �شعـراً دون � ٍ و� َ
الن�رص يحاولُها الباغي فيخذلُـه ُ ُ احلر الرجل و�أقفر يف �أرحامنا ُّ
بال خيلِ ِ ال�شعر ما دنا �سيف الدول ِة ُ
ال�شـعر كـتـ ُب ُ من املتنبي .هكذا ُي َ ٍ وعر دربه آخر و� ُّأي احتـالل � ٍ ُ ُ
�أتدري ملَ �ست ُ كـ ْ الرايات َّ ذلـ ْت و ُن ِّ
�سـبي ًة هـزِمنا لأن ال َ ظلـ ْت ّ ُ أر�ض ّ املجد وانتحى ترجـ َل عن تاريخنا ُ َّ
وحـده أرز وطن لنا َ يحتلـه ال ُ ٌ ُّ إزار الـذي غال و� َ ألب�ست لبنان ال َ فال حبنا يفنى وال �أنـت تنتهي �سو ْت ر�ؤانا عنيـد ًة معاناتنا َّ أغ�ص ٌن نار ،وللنا ِر � ُ وكانت لنا ٌ
ويف مثل هذي النار ُ�صغنا نقاءنا
أقوياء نحنّ � ،إن قلوبنا هنا � ٌ على النور نبقى �أو على ِ املوت �شرُ َّ ع ًا
كنت واحـداً فكن النهائي ًا كما َ ّ حتبــــه ال�سفح الذي ال غفرنا لك َ ُّ
املـ ْج ُر وكان من الأ�شعار ُ ع�سكرنا َ ق�رص نتـخى قربٌ وال ُيـنتخى ُ وقد ُيـ َ
حت�سده الأُ ْز ُر ف�صارت على الأيام ُ ؤجـجهــا ِ الك ْبـ ُر كالنا به ٌ نار ي� ِّ
العمر �شاء الذي بيته ْ فع�شنا كما َ ُ يخ�رض فالغ�صن اللفح �إذا َّ ا�شتد فيها ُ ُ ُّ
البحر وما َّ �صدنا عن ن�رش �أحالمنـا ُ ٍ ناق�صة ِ�س ُرت دروع لها عن كل ٌ ِ الكفر ويف املوت ٌ ب�رصه ُ نور لي�س ُي ُ يحد َك َ والعطر الرو�ض مثل الورد ِة ُّ ُ ُ العذر طلـ َب ُ فمن خط�أ ّ القمات ال ُيـ َ
املنافذ الثقايف
106ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
� َ أغانيك كانت يف ف�ؤادي عبـاد ًة ت�شب َث �أه ُلهـا �إذا ُ مد ٌن غرقـى َّ والنار يف «طُ وى» ال�شعر ُ روح الكونُ ، هو ُ ُ�ص َّـر ٍة
نوافج ولي�ست مغـاال ًة ُ احلرف �إال ُّ حائـر ظل وجدان وما ُ ٍ ()5
ِ اختفاء جهاتـ ِه ال�ضوء َ�سباين من ُ دت يف حزين وجرحي ولهفتي تفر ُ َّ
ُّ ٍ كبيـرة وكل ِجماح ًا عربناها،
فتيــ ٌة ُ ت�شيب النوا�صي ،والأماين ّ جنوع �إىل الدنيا ونعلم �أننـا احت�س ْينا رحيقها العناقيد، ع�صرَ ْ نا َ َ وبي منك ما بال�سهلِ �سهلِ بقاعنـا كربت وقلبي فارغٌ من حطامهـا ُ وعانيت فقراً ،والغنى كان دونــه ُ ولو كان يل غري احلنيـن و�سادةٌ أيت ح�سين ًا دون ر� ٍأ�س ،ومل ْ تزل ر� ُ وما طاردتني غيـر حريتي �إىل الق�ضبان من ع�صف لهفتي تق�صفت ُ ّ
ٍ بحقـهـا أثمـ ُت �أنا من بالد ما � ْ ِّ وهاجمني ٌ خيلـه» ليل ُ َ فـ»طاعنت َ أ�شواق روحي على ال�سرُ ى وما ن�ضبت � ُ
خ�صم واجهته بطولتي أخطر و� ُ ٍ
اجلمر» ُ يزهر ُ «كالمك زهر اجلم ِر لو ُ
()4
ال�شعر إن�سان فاملـنقذُ مبا ينقـذ ال َ ُ �رض» �إليها �سعى مو�سى و�صاحبه «ا ِخل ُ ُ
تبوح مبا يخفي ِه من ع�شبِه الق ْف ُر ويزداد ْبوح ًا كلمـا � َ ال�رس أوغل ُ ُّ اجلهر ال�رس فيه هو و� ُ ُ أدركت � ّأن َّ والقهـر �شارع� ،أ�ضوا�ؤه احلزن �أنا ٌ ُ
ال�صرب ينفد متر بنا من �صبـرنا ُ ُ ُّ ولوال الأماين � ُّأي ٍ العمر!! �شيء هو ُ
ِ القبـر واجلوع من طعام لها، ُ ٌ خبزه ُ املر وبعد الرحيق اجتاحنا الهاج�س ُّ ُ
ٍ طالـها َثـ ُّر غيمة �إىل َ خ�رضاءَ ،تـ ْه ُ ال�ص ْف ُر أرخ�ص ما عندي لوامعها ُ ف� ُ ُ الفقـر فيهزمه يحد ُق يف فقري ِّ ُ ُ الهجر خلـني ُ �إىل ج�سد الدنيا لخَ َـ ْلـ َ ت�سائلني روحي :هل انت�رص ِ «ال�ش ْم ُر»؟ َ ٍ القبـر �سجن كان ي�شبهه مغاليق ُ أ�رس حتررت حتى راح ُ ُ يح�سدين ال ُ
الوعر الزمن حبـها ُ ُ ومل يثن ِـني عن ِّ ٍ ــر بخنجر �ضوء من معادنه ْ الفج ُ حـ ُّر فما َّ جف ِكبرْ ٌ كان يحم ُلـه ُ والذعـر التو�س ُل عيو ٌن بدا فيهـا ُ ُّ
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 107
ي�ستلهم الر�ؤى ال�شعر مت منك تع ّل ُ َ ُ مت �أقفا�صي بقو ِة جانحي وحطـ ُ ّ
و� َ ت�سامح أيقظ قلبي لل�صال ِة ٌ طعام من الأحزان يكفيك خبـ ُزه ٌ
والقـ ُّر فينزاح عن ُ َ احلـ ُّر َ �صحرائي َ ُّ قعـ ُر جدار حيـن فكل ٍ ُ ت�صعده ْ
والطـ ْه ُر املجدلي ُة عانـ ُق فيـه ّ ُ َتـ َ ال�رش احلقد �إذا ما ا�ستقال ُ َ وانهزم ُّ
�سعيد ،وهل هذي البالد �سعيـدةٌ ُ ُ
ظل من �شوارعهـــا ِ كل ٍّ ويف ِّ «�ش ْم ُر»
مذاهب �سعيد لقد م َّزقتنا يا ُ ٌ �سعيدَ ، واكتب لنا الذي تعال الآن، ُ ْ
احلـ ُّـر إن�سان بـه يبد�أُ ال ُ ُ والوطن ُ
ٍ ملوطن لكن � ُّأي معنى َ وحاولتْ ،
أ�سماءه ُكـ ْث ُـر مت َّز َق حتى � ّأن � َ الرقم ِ ال�ص ُفر وقد َّ �ضج من تعدادنا ُ
عمـر شـبلـي
الصويري ترشين األول 2012
( )1الشرَ ْ ب :املجتمعون عىل الرشاب ،2001ص .170 سعقلت :تركيب مزجي من سعيد عقل. ()2 َ
( )3يف األساطري اليونانية :سيزيف رسق النار من جبال األوملب ،وكانت ملك ًا لكبري اآلهلة »زوس»،
فعاقبه بحمل الصخرة إىل اجللجلة ،فكانت الصخرة تسقط عن كاهله كلام شارف القمة ،فيعود حلملها يف عذاب أبدي ال ينتهي.
( )4هذا شطر لسعيد عقل من قصيدة قاهلا يف شولوخوف بمناسبة نيله جائزة نوبل. ( )5النوافج مجع نافجة :وعاء املسك.
املنافذ الثقايف
108ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النـبـــوة وجـــه ّ و مدرج العنـقـاء إهيــاب محــادة النـبـــوة وجـــه ّ تراود هذي الك� ْآبه وكانت ُ ْ حجابه احلزن عنه �صباح ًا مكان ًا ن�ضا ْ ُ النور�سي �أخيط ال�شواطئ رم ًال و�صخرا وكنت �أنا ثوبه ُ ّ �سحابه وكانت ْ ْ تظ ّلل وج َه النبوء ِة �سطراً ف�سطرا الكتابه وجتلو ْ زندها وكنا رفيقني يف �رشفة البحر ,كان املدى ن�ص ُفه َ أقحوان والنخيل ينام على جفنها نومة ال ْ املكان وكان يخا�رص �ضوء ُ النهار ْ ويفتح بابا م�شهد الك�شف غيب ًا وزدنا اقرتابا يرانا جت ّلى لنا ُ *****
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 109
مدرج العنقاء كانت يف ذاكرتي �أذكر ك ّف ْني الريح و�أخرى ك ّف ًا تغزل وجه ِ املاء تقر�أ ما ْ كتبت قيثار ْ ِ لونني �صفحات حكايا من ْ املك�سوة �شعراًِ , ِ أ�سماء لون الأ�شكال لون ال ْ ّ درجت من حرفيه الروح عارف ما هذا يا ُ ْ الباء ٌ حرف فيه مقام ْ احلرفني امليم ،وما بني ْ وال ُ آخر فيه ُ للعنقاء املدرج خت�رص ُ ْ ُي ُ
إهيـاب محـادة
ملف الأدب املقاوم: ـ جمزرة طواها الن�سيان ـ الزمن يف «ر�أيت رام الله» بدء ال�سرد ـ �إىل غزة �شاهدة و�شهيدة ـ كفكف دموعك وان�سحب يا عنرتة ـ هواري ـ فطمت ال�سماء فطمت الأر�ض
املنافذ الثقايف
112ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قراءة في كتاب:
ً أبدا» «مجزرة طواها النسيان هي مجزرة لم تقع
(*)
د .فاتـن ا ُملـر يمسكك الكتاب من يدك ويقودك عرب أقبية الذاكرة املصبوغة باحلزن ،باخلجل،
بالشعور بالعجز ،املسكونة بتفاصيل املجزرة ..كنا صغار ًا ،واملجزرة غدت واحدة من املركبات التي نمت حوهلا شخصيتنا .كيف كان وقعها عىل طفولتنا وشبابنا؟ هل علمتنا أن ال نسكت عىل الظلم حتى لو بلغ مرحلة الوحشية التي تثري الرعب يف القلوب؟ أم علمتنا أن نتناسى ما مل نتمكن من تغيريه؟ أن نغض النظر عن بشاعة بعض املحطات ونكتم رصاخنا؟ رصاعنا هو أيض ًا رصاع مع الذاكرة، تلك التي تسعى غريزة البقاء إىل تضليلها، إىل تنويمها .عىل وقع األحداث املتسارع واملآيس املتكررة ،متيل ذاكرتنا إىل اهلرب، وإسكات أصداء الذكريات التي توقظ اآلالم .نميل إىل النسيان ،والنسيان يف بعض األحيان خطيئة ،جريمة ،إعالن اهلزيمة يف املعركة وانسحاب خارج الرصاع.
ـ لن ننسى
لن ننسى دير ياسني واحلوال واخليام وصربا وشاتيال وقانا ...وجمازر أخرى ال حتىص .ال يمكن للشعوب أن تبني تارخيها عىل الفراغ ،عىل فراغات تركتها الذاكرة اهلاربة من مسؤولياهتا .كل الشعوب تعمل عىل سرب حدود جراحها ،مسبباهتا والندوب التي خلفتها ،وتبقى اجلراح مفتوحة إىل أن يعرتف مرتكبوها بذنبهم، وإىل أن حيمل العامل مسؤوليتها هلؤالء املرتكبني ...لن ننسى لكي يبقى لنا تاريخ، ولكي نستطيع بناء املستقبل. شعوران يرافقان رحلتنا عرب الكتاب: شعور األمل القديم الذي نكتشف أنه مل يبارحنا طوال الثالثني عام ًا التي تفصلنا عن املجزرة ،وشعور الفرح اجلديد إلدراكنا أن ثمة ضامئر حية ما فتئت تشعل شمعتها وسط ظالم العامل .الصحايف (جاك ماري بورجيه) واملصور (مارك سيمون) ضمريان حيان اكتشفا املجزرة يف الصباح الذي تال الليلة التي متت خالهلا عمليات
(*) جاك ماري بورجيه ،من كتاب «صربا وشاتيال ،يف قلب املجزرة» .الصور لـ مارك سيمون ،دار إريك بونيه ،حرب الرشق.2012 ،
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 113 التصفية اجلامعية .يومها سعيا إىل لفت انتباه أكرب عدد من رجال اإلعالم وجذهبم نحو املخيم خوف ًا من أم تتمكن جرافات املرتكبني من طمر آثار اجلريمة .يومها كتبا وصورا واتصال ليوصال اخلرب ...ولكن الصوت مل يصل كام أراداه .وبعد مرور كل هذه السنني ،يعودان ليمنعا جرافات الوقت من طمر وقائع تلك الليلة الرهيبة إىل األبد فينرشان كتاهبام. كلامت بورجيه تتصف بالعمق والوعي وبمعرفة شاملة لواقع املنطقة املعقد وللسياسات التي تتالعب هبا، وحتمل سمة وجدانية تنطق بنفسية تأبى إال أن تسلك سبيل احلق .أما الصور املوقعة من مارك سيمون ،فهي تلقي الضوء عىل حقائق يعرفها اجلميع ،ينكرها البعض ويتناساها البعض اآلخر .مارك سيمون قال لرفيقه ،عندما وجدا نفسيهام وحيدين يتنقالن يف األزقة حيث تكومت اجلثث« :ال آبه للسبق الصحفي أو للصور احلرصية. جيب أن يرى العامل بأرسه ما نراه»(ص،)56 . كانت جرافة يف املخيم حتفر حفرة تدفع إليها اجلثث .ركض بورجيه إىل الطريق العام وراح يوقف السيارات ويدعو راكبيها إىل مشاهدة ما حدث ،وصودف أن أحد الركاب كان من موظفي األمم املتحدة ,وآخر كان مراس ً ال صحفي ًا...
يكتب جاك ماري بورجيه عن املجزرة ليعوض قلي ً ال عن الصمت العاملي الذي لفها بعد قرار األمم املتحدة اليتيم بإدانتها، «فالعدالة الدولية مشغولة بأولياهتا ،وهي العمل عىل شل كل القوى املعارضة للنظام الغريب» ،ويضيف« :عىل رؤوس األصابع،
كالسارق ،تسللت املجزرة من الذاكرة العاملية ،لتبلغ املدافن الكبرية حيث طمرها حفارو قبور ال مبالني ،كام يطمرون كل قضايا الظلم .كام ساهم الدور الذي لعبته إرسائيل (تسليح وحتفيز القتلة) والضغط الذي مارسته عىل حلفائها يف حمو ما كتب عىل لوح الزمن وعىل املشاركة يف تعميق (ص)12 . الصمت».
يقول إنه كتب كتابه دون أن يلجأ إىل املالحظات التي دوهنا منذ ثالثني عام ًا, إذ اختزنت ذاكرته كل تلك الوقائع التي هزته يف الصميم وأبقتها حية إىل أن جاء موعد نرشها. ذهب الصحفي واملصور إىل خميم وجتوال فيه وحتدثا إىل صربا وشاتيال َّ سكانه يف اليوم الذي سبق املجزرة .يف تلك الليلة ,قبل أن يغفو مارك سيمون يف أرس إىل رفيقه: فندق كومودور يف احلمراّ ، «عندي شعور بأن أمر ًا سيئ ًا سيحصل». يف الصباح الباكر ،عادا إىل املخيم ليكمال حتقيقهام ،سارا يف األزقة ،واجها املوت بأبشع مظاهره :جثث يف كل مكان لنساء ورجال وأطفال عذبوا قبل ان يقتلوا, تواقيع القتلة عىل احليطان ،نساء يبحثن عن قتالهن بني اجلثث ،أخريات جيلسن فوق حجارة البيوت املدمرة وقد شلتهن املأساة .يكتب بورجيه« :أنا ومارك عشنا يوم ًا سنحتفظ بآثاره إىل القرب .هنا ،اآلن, (ص)102 . فقدنا حقنا يف الالمباالة». بعد املخيم ،حمطة املدينة الرياضية حيث يستعرض اإلرسائيليون عدد ًا من الفلسطينيني ويدفعون قس ًام منهم إىل اليمني وآخر إىل اليسار حيث تنتظرهم
املنافذ الثقايف
114ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شاحنات الكتائب اللبنانية لتحملهم إىل جهة جمهولة .كام يفصح الصحايف عن واقعة أشد خطورة ،إذ خيرب كيف عاد مع املصور بعد اسبوع إىل صربا وشاتيال ليشهدا عىل جريمة أخرى :القوات الفرنسية تقوم بحامية القوات اللبنانية حتمل يف الشاحنات أعداد ًا جديدة التي ّ من الشبان الفلسطينيني .يرصخ يف وجه أحد الضباط أن من ارتكبوا اجلريمة عادوا إىل املوقع لريتكبوا جريمة جديدة هم ،أي الفرنسيون ،رشكاء فيها ،دون أن ينجح يف زحزحة اقتناعاته .ال يسكت ،يتصل، يكتب ألحد مستشاري ميرتان ليطلعه عىل
ما حدث .ال يلقى أجوبة .أما املجلة حيث يعمل ،فتفضل نرش تفاصيل مقتل غريس كييل أمرية موناكو ،ليزداد عدد مبيعاهتا.
أما هو ,فقد قرر يف النهاية نرش هذا الكتاب كوصية حق إىل العامل ،كمسامهة بسيطة يف مواجهة الظلم« .اليوم ،قطعة بعد اخرى ،خرجت احلقيقة من مدفنها: األيادي التي ارتكبت املجزرة كثرية وقد تم تسليحها وتنظيمها وإرساهلا يف تلك املهمة .ولكن ما من عدالة هتتم بمسح آثار الدماء ،وتستمر احلياة بالنسبة للقتلة بوتريهتا اهلادئة والطيبة».
د .فاتـن ا ُملـــر
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 115
ال ّزمن في« :رأيت رام الله» السرد بدء ّ سـهام أنطـون صدرت ال ّطبعة األوىل من كتاب مريد الربغوثي "رأيت رام اهلل" عن دار اهلالل سنة .1997يروي الربغوثي يف هذا الكتاب حكاية زيارته مدينة رام اهلل .وتشكّل حلظة الكاتب/الراوي هنر األردن النّقطة اجتياز ّ صفر النطالق السرّ د فيه ،فهو يقول يف األسطر األوىل من كتابه« :ها أنا أقطع هنر األردن .أسمع طقطقة اخلشب حتت قد َم ْي ()1 ورائي العامل ،وأمامي عاملي».
بقوة وال تطلق حلظة االجتياز الرسد ّ نحو احلارض،إذ ال تلبث أن تنقطع بعد سطرين أو ثالثة وترتدّ ثالثني سنة إىل الوراء ،إىل حلظة سابقة ل ّلحظة التي اجتاز فيها الكاتب اجلرس نفسه ،والتي كانت حاسمة يف حرمانه من وطنه ،هي صباح االثنني 5حزيران .1967لذلك خيتلط املايض واحلارض واملستقبل بالنّسبة إليه يف هذه ال ّلحظة :وال عجب فهي ّ تلخص عمرا كام ً ال انقىض «يف حماولة الوصول ً ( )1مريد الربغوثي ،رأيت رام اهلل ،ص .5 ( )2املصدر السابق نفسه ،ص .15 ( )3املصدر نفسه ،ص.16 ( )4املصدر نفسه ،ص .9
إليها» ،وتثري ّ كل دقيقة يعيشها الكاتب/ الراوي بعد اجتيازه اجلرس حكايات عمر مىض ،فتتشابك األزمنة وتتعدّ د احلكايات ويفارق زمن السرّ د زمن احلكاية منذ اللحظة األوىل النطالقه.
الزمن املوضوعي ويف حماولة لتحديد ّ النطالق السرّ د نشري إىل ّ الشواهد اآلتية: للمرة األوىل منذ ثالثني «اآلن أجتازه ّ صي ًفا ،صيف 1966وبعده مبارشة ودون ()2 ثم حيدد يف صفحة إبطاء صيف ّ ، »1996 أخرى أنّه جيتاز اجلرس ذات يوم حار من حزيران «هواء حزيران اليوم ،يغيل ويفور كهواء حزيران األمس»( ،)3ويقصد باألمس حزيران 1966عندما اجتاز أيضا ساعة اجلرس للمرة األخرية .وحيدد ً ّ وصوله إىل اجلرس بقوله «انطلقنا من بيتنا يف ّ صباحا والربع الشميساين يف التّاسعة ً ّ ووصلنا إىل هنا قبل العارشة»( .)4وقد انتظر الكاتب ساعات طويلة عىل اجلرس
املنافذ الثقايف
116ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قبل أن ُيسمح له باجتيازه «هل هي نوبة السعال ا ّلتي فاجأتني أثناء انتظاري يف ّ اجلانب األردين لساعات طويلة ،قبل أن يسميه رجال يسمح يل "اجلانب اآلخر" كام ّ الشرّ طة الفلسطين ّية ،بأن تالمس قدماي هذا احلدّ الفاصل بني زمنني؟» وإذا كان الصيف (حيدّ د الكاتب زمن اجتيازه للنهر ّ ّ األول صيف )1996 بقوله يف الشاهد ّ يبدأ يف بالدنا بعد 21حزيرانّ ، الزمن فإن ّ املوضوعي لبداية السرّ د هو ما بعد ظهر أحد األيام ما بني 22و 30حزيران .1996 ولكن ملاذا اختار الكاتب هذه ال ّلحظة بالتّحديد إلطالق رسده؟ وهل هلا داللة السد؟ ّ خاصة يف سياق رّ ال نالحظ أ ّية داللة خاصة هلذه ال َلحظة (حزيران ) 1996يف سياق السرّ د، مهيتها كام ذكرت ساب ًقا، ولكّنها تكتسب أ ّ من املدى (ثالثني سنة) ا ّلذي يفصلها عن السابقة ا ّلتي اجتاز فيها اجلرس ال ّلحظة ّ تتصمن أحدا ًثا للمرة األخرية ،وهي ال ّ كثرية ،بل رواها الكاتب يف أسطر معدودة الصفحات اإلحدى واألربعني مبثوثة يف ّ ا ّلتي استغرقتها رحلة عبور اجلرس والوصول إىل رام اهلل .ولكنّها حدث مك ّثف ومشحون ،داللته أكرب بكثري من الزمن املوضوعي ا ّلذي استغرقه ،تتداعى ّ فيه إىل ذهن الكاتب صور األحبة الذين ماتوا من أجل الوصول إىل هذه اللحظة، وهذه النّقطة من األرضّ . إن عبور (حدود ( )5املصدر السابق نفسه ،ص 16 ( )6املصدر نفسه ،ص.5 ( )7املصدر نفسه ،ص.5
)1967والعودة إىل "رام اهلل" هي بالنّسبة للربغوثي عودة إىل حضن األ ّم وذكريات ّ الشباب وال ّطفولة ،وكرس ولو كان كرسا ومه ّيا ومؤقتا للغربة واملوت ،وجتسيدا حللم ثالثني سنة مضت ،وهي يف الوقت احلق املستلب نفسه استعادة جلزء من ّ بالعودة وتثبيت له ،لذلك هي حلظة ذاتية وتارخي ّية وسياس ّية ...كام يقول الربغوثي: «أهي حلظة سياس ّية؟ أم عاطف ّية؟ أم اجتامع ّية؟ حلظة واقع ّية؟ رسيال ّية؟ حلظة ()5 جسد ّية؟ أم ذهن ّية؟». وال ننسى ّ أن هذه العودة مل تكن متاحة لوال اتّفاقية أوسلو ( ،)1993وإن كنّا نالحظ أن الكاتب ال يذكر ذلك أبدً ا عند انطالق السرّ د ،ور ّبام يوحي هذا بموقفه منها ومن التّطورات ا ّلتي حصلت يف "رام اهلل" بعدها .وباملقابل تربز بشكل واضح يف بداية السرّ د ويف ختامه داللة 5 حزيران 1967وتأثريها ،إذ ينقطع السرّ د، كام ذكرت ساب ًقا ،بعد أسطر معدودة من انطالقه( 7أسطر) ليعود إىل هذا التّاريخ «صباح اإلتنني 5حزيران ،1967امتحان اللغة الالتين ّية»( ،)6ويمتدّ الكالم عنه فيصور الكاتب الصفحات6 :ـ7ـ)8 ّ (يف ّ مفاعيله احلاسمة عىل حياته وعىل حياة املاليني من الفلسطينيني« ،من هنا ،من إذاعة صوت العرب ،قال يل أمحد سعيد ّ إن رام اهلل مل تعد يل وإنّني لن أعود إليها. املدينة سقطت»( ،)7وعن أثرها عىل باقي الفلسطينيني يقول «إرسائيل تسمح ملئات
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 117 الس ّن ومتنع مئات اآلالف من من كبار ّ ّ يسمينا الشبان من العودة .وصار العامل ّ ()8 "نازحني"!» ،ويعود الربغوثي إىل داللة 67وآثارها يف هناية الكتاب فيقول «هناك أرقام مع ّينة انسلخت عن معناها املحايد واملوضوعي وأصبحت تعني شي ًئا واحدا ال يتغيرّ يف الوجدان .منذ اهلزيمة يف ً حزيران 1967مل يعد ممكنًا أن أرى رقم ال ()9 67هذا إال مرتب ًطا باهلزيمة». السد لزمن إذ ًا تبدو مفارقة زمن رّ احلكاية واضحة ومبكرة يف الن ّّص .ولكن أي زمن تعود هذه احلكايات؟ إىل ّ يف النّص حكايات كثرية تعود إىل تواريخ خمتلفة ،بعضها يروي قصص النّكبة الفلسطين ّية والتشرّ د يف ّ كل زوايا األرض ،وبعضها اآلخر يعود إىل مأساة 67وإىل زمن اإلنتفاضة واحلرب األهل ّية يف بريوت أو إىل أبعد من ذلك بكثري، فبعض االسرتجاعات يعود إىل طفولة والدة الكاتب .وهناك حكايات تعود أول إىل بداية القرن العرشين مثالً« :منذ ّ القرن حتّى وفاته قبل سنوات وهو "جيول" الزيتون ويأخذه إىل بابور أبو سيف ليعرصه ّ ()10 زيتًا يمأل اجلرار». واحلكاية ال ّثانية ا ّلتي تعود إىل بداية القرن هي حكاية جدّ ة الكاتب "أ ّم عطا"، فقد عاشت اجلدّ ة تسعني عا ًما وتوفيت سنة ،1987وحكاية والدة ابنها ّ الذكر بعد وفاة زوجها ،حصلت وهي يف العرشين ( )8املصدر السابق نفسه ،ص .7 ( )9املصدر نفسه ،ص .206 ( )10املصدر نفسه ،ص .103 ( )11املصدر نفسه ،ص.118
من عمرها أي سنة 1917م( .)11وكان عمر والدة الكاتب يف هذا التّاريخ سنتني فقط.
ونجد حكايات كثرية تعود إىل هذه املرحلة ولك ّن الكاتب مل حيدد توارخيها السياق ويمكن استنتاج زمن وقوعها من ّ ومنها مث ً ال حكاية "أبو حسني" والد أ ّم غسانة" ،وحكاية أبو فخري حلام "دير ّ عديل ّ الذي انخرط يف اجليش الرتكي وغريها...
وهنا نسأل :ما هي داللة هذه املفارقات وملاذا جلأ الكاتب إليها؟
يفارق زمن السرّ د زمن احلكاية يف ّ كل رسد ّ خطي متتابع بينام الزمن ألن ّ ّ احلكايات متعدّ دة ومتداخلة لذلك فالرسد متعدّ د ،ولك ّن هلذه املفارقة أسبابا نص الربغوثي ،فعودته إىل رام إضاف ّية يف ّ اهلل هي اكتشاف للحارض الفلسطيني: ّ املستوطنات ،واحلكم الذايت املستجدّ أيضا عىل رام اهلل بعد أوسلو ...ولكنّها ً استعادة لذكرياته ا ّلتي رسقها االحتالل غسانة منه ،وعودة إىل زمن املضافة يف دير ّ األول وإىل مراهقته يف رام اهلل وإىل الكتاب ّ ا ّلذي اشرتاه من "مكتبة صندوقة"... لذلك تك ّبل االنقطاعات واالسرتجاعات الكثرية السرّ د فال يكاد يتقدّ م ،حتّى لنشعر ّ بأن الكتاب هو رواية املايض الفلسطيني أكثر مما هي رسد ألحداث تقع يف حارض الفلسطيني برأي الكاتب فالزمن الزيارةّ . ّ ّ "انقىض ومل ينقض"
املنافذ الثقايف
118ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ّ إن االسرتجاعات الكثرية كام اخلاصة، تغ ّطي أحداث حياة الكاتب ّ حتّى ليمكننا لو وصلنا بعض هذه االسرتجاعات ببعضها اآلخر بطريقة متسلسلة ومتتابعة زمن ًيا حلصلنا عىل رسد يقرب كتاب "رأيت رام حلياة الكاتب بام ّ السرية ّ الذات ّية .ولذلك يتشابك اهلل" من ّ ّ ّص الزمنان ّ املوضوعي/والذايت بشدّ ة يف الن ً كام خيالطهام الكثري من اإلشارات التّارخي ّية ومن النّامذج عىل ذلك« :أنا اآلن يف رام اهلل .دخلتها ليالً .كان ال ّطريق إليها طويالً. أول شمس أمس منذ 1967وأنا أميش .من ّ ()12 أول شمس اليوم وأنا أميش». إىل ّ والنّامذج عىل ذلك يف الكتاب كثرية أيضا الفصل ال ّثاين يف جدً ا أذكر منها ً الصفحة ،43إذ يبدأ الفصل بمشهد قصري ّ األول يتضمن ستة أسطر الصباح ّ تصور ّ ّ ّ للكاتب يف مدينة رام اهلل لينقطع املشهد رسي ًعا ويقدّ م الكاتب انطباعاته وذكرياته
عن املدينة ووصف ملا كانت عليه قبل 67
السياس ّية وحكايات باإلضافة إىل آرائه ّ تضمنها السرّ د ،ويمتدّ االنقطاع أخرى ّ عىل مدى ( 11صفحة) ،ليعود الكاتب لإلجابة عن سؤال طرحه عليه حمدّ ثه (أبو حازم) يف املشهد املنقطع ،واألمثلة عىل الشحن ّ هذا ّ الزمن ّية كثرية الشديد ل ّلحظة ّ ّص كام ذكرت ساب ًقا وسنعود إليها يف الن ّ الح ًقا يف دراستنا حلركات السرّ د. ال نعرف بشكل واضح مدّ ة استمرار فالكاتب/الراوي ال حيدّ د د/الزيارة، ّ ّ السرّ تاريخ مغادرته رام اهلل وال يذكر كم مكث فيها ويستعمل تعابري زمنية "عا ّمة" لتبيان التّقدّ م يف حارض السرّ د مثل :يف املوعد الصباح ،يف تلك الليلة ،هذه املناسب ،يف ّ ليلتي األخرية يف رام اهلل ...ولك ّن تواتر األحداث يوحي ّ الزيارة دامت أ ّيام ًا بأن ّ معدودة.
سـهام أنطـون
( )12املصدر السابق نفسه ،ص46 :
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 119
إلى َغ َّز َة شهيدة وعنيدة
(*)
الدم حدائق ّ ـ1ـ
جعفـر ابراهيـم
َر ِح ٌم ملخا�ض ال ّنعمان
ال ّليل ي�سرت جراحنا� ،أيا غز ُة
ال�صبا ،خرير ال ّنب�ض تلملم من بثينات َّ
القمم ّ والدم ،ال ي�رشق �إال يف ِ
تولد ُمهرة الأنثى ومن تلقاء �شغفها ُ
�أح�صيك طلق ًة طلق ًة
لفار�س الفجر
ِ أح�صيك وه ُدب ًا ُه ُدب ًا � ُ
حديق ٌة ل�رشايني ال ّنهار
املر و�أغني ًة تذوب كال�شهد ِّ على �شفاه قلمي
جتوبها دماء الأ�شجار
و�أحد�س :يا � َّأم ها�شم
وللأحرار عيو ٌن على عو�سج الأ�سجي ِة ِ بو�ضوء الورد، ت�ضيء َعتم ُة الأ�سحا ِر
ب�أن �صار مكتم ًال قمري
حدائق � ٍ لدم ُم َ�ص ّفى أجنحة ٍ
قد ُث ِك َل ْت �سما� ِؤك
�أيا َغ َّز ُة
ف، فيعرتيني َخ ْ�س ٌ
امل�رضج على �أكم ِة الروح �رسها ّ و�أحمل ّ
واحرتق يف َح َد ِق ال�سحاب مطري ـ2ـ و�ضاءه املُ َح ّيا خميل ٌة لِ ُن َط ٍف ُ
ندي ُة ال ُقبل ّ
جرح ُم َق َل ال ّزمان و�شوك نعمانك ُي ّ َح َم ْلت �سرِ ّ ِك �رصخ ًة وع�صفور ًة ُت�ضرْ ُِم �أغاريدها حتى انطف�أت على � ِ الدم أفنان ّ
املنافذ الثقايف
120ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرمان قناديل ّ
َح َم ْلت �سرِ َّ ِك َح ِّرريني من ج�سدي
ـ3ـ ِ َج ْم ٌر على حبلِ الوريد قمر �أحمر مل�سائها ٌ
أحرقت �آه ُت ِك ُه ُدبي �إن � ْ
وللبيارات َغ َّ�صة اجلذور ّ ودمدمة املطر
و�إىل من �ألتجىء،
من نذرك لهذا الويل؟
نارك قلمي �إذا ما َر َّم َدت ُ �أين �أختبئ من هذا العري
ِ حماريبك َمن �أَ َّم ب�أطفال
مبن �أحتمي،
و�أ�شعل ال�صالة،
وعلى �صفيحك املحموم
الرماد من عمر الورد حتى ّ من �ألب�س منديلك لون ا ِحلداد
الر�سول ويف م�سالك هذا ّ الدم ّ
ِ الدم املجتبى و�أجمع على ذرف هذا ّ
ي�سيل ج�سدي يتف ّتت قلبي؟
من مقل الهديل وغيم البالد؟
وتنوء ب�أحمالك �آيات الكتب
� ُّ أكل اجلالجل �سواء؟
ِ ب�صريتك �أال ال َعميت
أ�رضم ِك َم ْن � َ
ربنا ّ
ها�شم �أيا غ ّزة َ ِمت بغداد؟! كما �أُ�رض ْ
ال�س ُب َل، َم ِّه ِد ُّ وتقبل ِم ّنا رماد � ِ أج�سادنا ّ
و�أنت تذوبني يف �أتون الوقت
أرواح � ٍ أطفال ُز ِه َق ْت و� َ وتعرج �إىل جالجل القيام ِة
يف حطام الك�ؤو�س املُ َ�ض َّم َخ ِة الدموع بعطر ّ
لتعلن من بعد
ال�شهداء ونبيذ ّ
ال�ص ِ ليب هذا ّ
الدم �ألغ ّز َة حدائق ّ
ال�سماء قيام َة ّ
ولفل�سطني نواطري البكاء؟!
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 121
ـ6ـ
ـ4ـ �أتركوا اخليل ل ّليل
َخ ّلوا اخليل ل ّليل
ال�سنابل ّ ولل�صباح احرتاق ّ اتركوا الويل ل ّليل
ْ القنابل ولغ ّزة قهقهة
احت�ضار الأيائل ولل�صباح ّ ُ ـ5ـ َج ْم ٌر يف ُم َقلِ ِ الغروب ٍ فرا�شة الدنيا على َجنح َت ُه ّب ّ
وت�أرق لهذا الهدير الأمدية
ذبيح مل�سائها َ�س َح ٌر ٌ ْ العنادل ول�صباحها رحيل �أوقدوا الفجر للخيلِ �ألغ ّز ة
ِحمم الويل ْ اجلدائل؟ واحرتاق
يف ح�رشج ِة البالبل
�أوقدوا القلب للنب�ض
ِم ْدي ٌة ملذابح الغناء
�أوقدوا ال�صحو بالويل
فال حتتمي يف ّ الرب ظل هذا ّ
لغ ّزة َ�ص ْخ َرة املعراج �صليب القيام ِة
ِ دمعك لهيبة البحر يف ملح
مزامري البحر
حي َة �إجال ًال وت�ؤدي ال ّت ّ ّ ال�سمراء الوم ِ للط ّل ِة ْ �ض والقام ِة ّ
ِ ْ القنابل ودفء
ال�شواهق لكي تنحني ّ
ال�ص ُ هيل �ألك هذا ّ ُ الهديل وهذا
ال�سرّاب باملاء �أوقدوا َ لغ ّزة َ�صبا ال�صحراء ّ وملكة احت�ضار اخلمائل
ُ القتيل وهذا
وي�سمو النخيل للخيلِ
الدملج املك�سور وهذا ّ
لغ ّزة �صهيل ال ّنهر
وهذا اخللخال امل�صهو ِر ِ الد ِّم؟ بح َم ِم ّ ال�س ْفر اتركوا اخليل ل ّليل ولغ ّز َة مناديل َّ
و�سيف � ّأمية لأبي جعفر ال�ش ْ مائل ولبغداد ِح ُرب ّ
املنافذ الثقايف
122ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ7ـ
يا بحر
َخ ّلوا اخليل ل ّليل
ر�أيته ميتطي �رسج � ٍ أغنية
وافتحوا نوافذ القلب
الردى مم�سك ًا ب�أعنة ّ
باح ال�ص ْ ب�أكفانه �سوف يولد ّ
َهلاَّ يعود؟
ويدخل يف ملكوت ليلكم
ور�أيته ُي َد ّوي
خ ّلوا اخليل ل ّليل
مل �أ�سمع �رصخة ِ روح ِه وال�صدى
كان مزنراً بحزام من الورد ْ
ياح الر ْ على ع�صف ّ
�سالح؟ �أتراه يلج بال ْ �ضمد ر�أيت ال ّزيتون ُي ّ
ال�صدى ال يعود و� ّإن ّ
فاح جراح ال ّت ْ خ ّلوا ال ّليل ل ّليل
ـ9ـ
�رساح وغ ّزة ال تطلق للفجر ْ ـ8ـ كم عانقت ٍ ح�شبة على �رشاع بال ٍ و�شاح �أرزق بال ٍ بال مر�سى؟
ور�أيته يهوي �إىل عليائه
وغ ّزة ها�شم ِم ّنا َ البيت ِم ّنا َغ ّزة �أهل ْ
فادخلي ِ �ساء الك َ �أخت فاطم � ِ أنت
ِ ولدت رحم خديجة قد ومن ِ املخا�ض �سية ِ قد ّ
وال�سرّاب الذي ُّ البيداء يخط وهم ْ ال�شواطئ و ُن ُد ُب ّ
حلم قد يعود؟ وبال ٍ قتي ًال
البحر التي تذوي يف ملح ْ ونذور ال ّأم ِ هات
نبي ًا ّ
اجلمر لعودة �أطفالهم من �ساحات ْ احلي ِة �أنت و�سنبلة فل�سطني ّ
�شهيد اً
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 123
أحياء والطعنة ال ّنجالء يف �ضمري ال ْ �أوقدوا ال ّليل للخيل الر�ؤى تدور بك ّ
وي ْ�س َم ُع حلن ت�سابيحك يف ال ّليل ُ َي ُد ُّق �صدر النهار
العرب اال املكارم يف حوا�رض ْ � ّأواه� ،أيا غ ّزة ب�شرّ يني وال ُت ْن ِذري ب�شري يني ّ ْ زائل ب� ّأن هذا ال ّليل
العرب ال�ضوء على نوافذ وي ْق ِف ُل ّ ْ ُ ِ بالوم�ض جاهرت فال ت�ستحي �إن ِ الد ْ ليل فالربق ّ
طري ٌة للعا�صاف ِري �أجنح ٌة ّ
ِ الهبوب توغل يف غابات
طب بالر ْ و�سحابك ُمث َق ٌل ّ وال جتزعي �إن فاج�أك
نار ٍ ك�سهام من ْ ْ ال�شمائل تبدد يف الطري لك ّنها ال ّ
املخا�ض ع�سرياً
ريح فلكل ٍ
تئد فاجلاهلية �أعجز من �أن َ ّ ال�ص َب ْب جدائل َّ
جناح يلوي ُع ُن ُقها ٌ
وال ت�أبهي �إن جاهرت
قالت:
الزوابع وكل ِ
ْ البالبل ال تقدر على �أعناق
ب�صوتك عالي ًا
وقالت:
عد الر ْ َد ُّ ويك ّ ٍ عربي ُي ْ�س َت َل ْب �رشف �أبلغ من ٍ � ّأواه� ،أيا غ ّز ُة
ٍ ِف � ّإن جناح فرا�شة َير ُّ
وق�سم ًا
ما ُو ِئ َد ْت
ِ ِ العوا�صف هبوب ُي�سرّ ع يف ذبيح ع�صفور ورق�صة ٍ ٍ
ٍ �سو�سنة يف ح�ضن
كفيل بوقوع ال ّز ْ ٌ الزل جعفـر ابـراهيـم
املنافذ الثقايف
124ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كفكف دموعك وانسـحب يا عنترة
(*)
مصطفـى اجلـزار ِ وان�سح ْب يا عن َرت ْة دموع َك َك ْف ِكف َ
�ستعم َر ْة ُ فعيون عبل َة � َ أ�صبح ْت ُم َ �سقطت من ِ الع ِ َ اجلوهر ْة قد الثم ِني َ
أبيات فخر َِك �صامت ًا تبتلع � َ و ْل ْ ِ البنادق عاج ٌز وال�سيف يف وج ِه ُ
فال�شعر يف ع� ِرص القنابلِ ثرثر ْة ُ َ وال�سيطر ْة وي َة وال ُقوى َ فقد ال ُه ّ َ
فقد ترج ب�سم َة ثغرِها يوم ًاْ ، ال ُ الغا�صبني ..لي�ص َفحوا �سيوف ق ِّب ْل َ َ
فاجمع َم ِ فاخ َر َك القدمي َة ك َّلها ْ ِ العراق ت� ُّأ�ســف ًا وابعث لعبل َة يف ْ تكتبه لها كنت اكتب لها ما َ ْ ُ ِ بالعراق "تك ّلمي" دار عبل َة" "يا َ ياه ُه هل َن ْه ُر عبل َة ُت �ستباح ِم ُ ُ
ِ البيداء� ..صرِ َت فري�س ًة فار�س يا َ متطـــ ِّرفــ ًا ..متخ ِّلفـ ًا ..وخمـالِفــــ ًا �س ..تخ ّلت َ عنك ..هذا د� ُأبهم َع ْب ٌ
املعذر ْة وارج اح «ا ِخل ْز ِي» ُ واخ ِف ْ�ض َج َن َ َ
ْ قرب ْة واجعل لها ِمن ِ قاع �صدر َِك َم َ
القد�س َ الغرغر ْة قبل وابعث لها يف ِ ْ َ
ِ الظالل ،ويف الليايل املق ِم َر ْة حتت َ ات َ بابل ُمق ِف َر ْة؟ أ�صبح ْت ج ّن ُ هل � َ كوثر ْه؟ وكالب �أمريكا ُتد ِّن�س ُ َ أحقر ْه!! عبداً ذلي ًال �أ�سوداً ما � َ
َن َ�سبوا َ إرهاب� ..صرِ َت ُم َ ع�سك َر ْه لك ال َ عمــر َك ك ُّلــــها م�ستن ِف َر ْه ُح ُم ٌر لَ ُ
(*) قصيدة حجبت عن مسابقة أمري الشعراء يف أبو ظبي!!! تدافع عن رشف العروبة. ـ رفضت جلنة التحكيم يف مسابقة (أمري الشعراء يف أبو ظبي) ،قصيدة ملحمية للشاعر املرصي الشاب مصطفى اجلزار ،السبب الذي تعللت به جلنة التحكيم لرفض القصيدة هو« :أن موضوعها ال خيدم الشعر الفصيح»!!!.. ـ "املستقبل العريب" قررت نرش القصيدة الرائعة نكاية باألمريكان ،وانتصارا لعنرتة.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 125
َ وحدك قادراً كنت يف اجلاهلي ِةَ .. َ قهر ُه ت�ستطيع ال َآن لن َ وحدك َ بي �ضاع �صهي ُل ُه َ وح�صا ُن َك َ الع َر ُّ
"ه ّال �س� ِ َ ألت اخليل يا ابن َة مالِ ٍك" دافع حولَ ُه هذا ُ احل�صان يرى املَ َ كان يدري ما املحاور ُة ا�شتكى» «لو َ أعداءهم ويح ٍ يا َ عب�س� ..أ�س َل ُموا � َ ف�أتى العدو ُم�س َّلح ًا ب�شقا ِقهم ُّ وخ ِ ِ ذاقوا َو َب َ نوعهم ال ركوعهم ُ ِ يد ال ِ أوطان جتزي �أه َلها هذي ُ
ودارها �ضاعت ُع َبيل ُة.. ُ والنياقُ ...
الع ِ رب يرقد �ساكن ًا فدعوا َ َ �ضمري ُ الكالم عن الكال ِم ..وري�شتي َع َج َز ُ ُ دموعها تزال وعيون عبل َة ال ُ ُ
أ�رس ْه اجلي�ش �أن تهز َِم َ العظيم وت� َ َ ُ ممطره والقنابل موج.. فالزحف ُ ٌ َ
وبني �رصخ ِة مجُبرَ َ ْة الدوي.. بني ِّ َ َ أين ِ املقد َر ْة؟ كيف َ ُ أين � َ ال�صمود؟! و� َ مت� ِّأه ٍ بات..
والقذائف َ
ُم�ش َه َر ْة
وحذ َر ْه القطيع �صاح يف وج ِه َّ ِ و لَ َ القنطر ْة وم ُّدوا َ مفتاح خيم ِتهمَ ، َ منرب ْه ونفا ِقهم ،و�أقــام فيهــم َ والهزائم ُم َ نك َر ْة فالعي�ش ُم ّ ٌر.. ُ ُ �رشاًَ ..ي َر ْه َمن ْ يقرتف يف ح ّقها ّ نخ�رس ْه عدها كي يبق �شيء َب َ مل َ ٌ َ باملغفر ْة وادعوا ل ُه.. يف قرب ِِهْ .. َ حرب ْة مل ُتبقِ دمع ًا �أو دم ًا يف املِ َ
البعيد ..لِ َتعبرُ َ ْه َ ترت َّق ُب ا ِجل�سرْ َ
مصطفـى اجلـزار ـ مرص ـ
املنافذ الثقايف
126ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هــواري مـاجـدة ر َّيـــا ما إن تسمع خبط أقدامه ،حتى تعرف القادم ،إنّه هواري.
لقد مت ّيز بلبس ذلك احلذاء ،حتى لتخاله كأنه قطعة من قدمه الكبرية ،بلونه األسود القاتم ،وأرشطته السميكة التي ترتفع حتى نصف الساق ،فهو من نوع (الرينجر) األجنبي الصنع وهو حذاء عسكري مل حيصل عليه بسبب جتنّده باجليش ،وإنام حصل عليه من جهة يتفاخر بالتعامل معها ،ويظ ّن أهنا تريض غروره. وقد كان لثقل ذلك احلذاء ،مضاف ًا يرتج إليه عصبية ومزاجية حادة ،وقع ّ منه املكان ،وحيدث وقر ًا يف اآلذان ،التي هيتم يوم ًا بمراعاة أصحاهبا ،أو يأبه ملا مل ّ تقزز حلضوره؛ بل يثريه يف دواخلهم من ّ عىل العكس من ذلك ،إذ إنّه بإمكانك أن ترى ومضة سخرية ّ تطل من عينيه السوداوين ،وبعض اخلطوط التي ترتسم حول فمه الغليظ عىل نحافة جسمه.
فقد كان نحيل القامة ،طوي ً ال كجذع نخلة ذابل ،حتى إنك لو د ّققت النظر فيه؛ لظننته هيك ً متحرك ًا لشدّ ة ال عظمي ًا ّ نحافته ،خصوصا ك ّفا يديه اللتني حتمالن أصابع طويلة تظهر عقدها كأهنا تيش
بعقده الداخلية املسترتة ،ويعلو تلك القامة رأس فيه بضع شعريات نادرة ،ال يتذكّر أحد سبب ضآلتها ،هل هو قد ولد هكذا؟ أم أنّه قد فقد شعره لسبب آخر.
مل تكن خبطة قدمه فقط هي التي مت ّيز هبا؛ بل كانت جزء ًَا من مشية يمشيها كطاووس متغطرس ،مع أنّه ال يملك من الطاووس ال مجال ريشه وال لونه وال مكانته من الطيور.
قروا ينفر الناس من جمالسته ،دون أن ُي ّ لذلك سبب ًا واضح ًا .فهل ينفرون من منظره؟ أو من طريقة تعامله؟ أو ربام مما ُيشاع عنه هنا وهناك من أخبار ال تطمئن جتعل املرء خيشى االقرتاب منه؟ يتجول يف القرية ،معلن ًا عن وجوده، ّ والناس مستنكرون هذا الوجود ،فيسعى لفرضه عليهم ،ظنّ ًا منه أنّه إذا رضب صدى بحذائه يف األرض ،وأحدث ً لصوته؛ يمكن أن جيعل لوجوده معنى، يف الوقت الذي كان يضيع فيه الصدى منترش ًا يف األجواء دون أي أثر. عندما كانت تلك اخلبطة تتوارى ،كان الناس حيصون أنفاسهم ،ويرت ّقبون وقوع كارثة.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 127 يف ذلك اليوم الترشيني الغامض ،إذ تشوشها عىل داخل كانت السامء تعكس ّ هواري الذي جلس مكتئب ًا يتساءل يف نفسه« :لقد ّ تأخروا باالتّصال يب!».
خصصه جيلس عىل مقعده الوثري الذي ّ لالسرتخاء ،ولك ّن توتّره وعصبيته منعاه بقوة ،وخيبطها من ذلك ،فجلس ّ هيز ساقه ّ باألرض من دون أن يكون هناك أحد يسمع خبطتها سواه ،أخذ املنزل الفارغ الصدى؛ حمدث ًا يف نفسه املزيد ير ّدد وقع ّ من الوحشة. وهو يف جلسته تلك ،انبعث صوت فهب من مكانه كمن لسعته اجلهاز منادي ًا؛ ّ الكهرباء ،واتجّ ه نحوه ،بد ّقات قلب متسارعة؛ ليأتيه الصوت عرب اجلهاز بام عرف منه ما معناه: توجه إلينا حاالً». «نريد أن نراكّ ، وحدّ دوا له املكان.
متأهب حلدث ما كان جيلس كأنّه ٌّ وقد ارتدى ز ّيه املعروف ،وكان جاهز ًا لالنطالق ،لكن يف هذه املرة كان حياذر من أن حيدث أي صوت مريب ،تل ّطى من حائط إىل آخر ،ومن شجرة إىل أخرى، إىل أن أصبح خارج حدود منازل القرية؛ ثم هرول مرسع ًا؛ جمدّ ًا تن ّفس الصعداء؛ َّ ٍ للوصول ،لكي حيصل عىل غ ّلة أو مكافأة. سلك طريق ًا فرعية ش ّقتها أقدام املارة
ربية ،وهو وسط احلشائش والنباتات ال ّ هيرول بنصف انحناءة لكي ال ُيرى ،إىل أن بلغ أطراف احلُرش الذي ضرُ ب فيه املوعد. اتّسعت حدقتا عينيه دهشة واستنكار ًا وهو جيد نفسه حماط ًا بمجموعة من رجال املقاومة ،وابتسامات السخرية تعلو وجوههم ،وقد ازداد رعب ًا عندما التقت عيناه بعيني "مالك"؛ ذلك الشاب الذي كان آخر من وشى عنه للعدو الصهيوين؛ مهب الريح ،حتى فأخذ يرجتف كورقة يف ّ ُسمع رصير اصطكاك أسنانه املنخورة، وهي حتدث أزيز ًا مزعج ًا ومفرح ًا يف آن! مل يكن لديه الوقت ليفكّر ،كيف حدث ذلك؟ كيف استطاع رجال املقاومة اخرتاق جهازه والتّحدث إليه حتّى وصل إىل هنا؟ أي تقنية عالية مكّنتهم من هذا االخرتاق؟ وآالف األسئلة التي كانت ستنخر رأسه لو أنّه بقي لديه وعي ليستوعب ما حدث ،لك ّن ّ جل ما دار يف رأسه هو ضجيج لتكرار كلمة «لقد لدوي وقوع كربيائه وسمع ّ وقعت!»ُ ، املدَّ عاة صوت كالرعد القاصف اخرتق آذان ّ كل من عرفه أو مل يعرفه. اقرتب منه مالك ،طلب منه أن خيلع حذاءه ،ويميش أمامه حافي ًا ،مطأطئ ًا، عىل تراب تلك الدرب الوعرة ،حتى بلغا سجن العمالء.
مـاجـدة ر َّيـــا
2009 11 12
املنافذ الثقايف
128ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فطمت السما ُء َ ارضها و لم تعد ترسل االنبياء د.مـاجـدة غضبـان املشـلب �سماءها االر�ض فطمت ُ َ
تزاحمت الظالل..
ومل تعد تر�سل االتقياء...
ات�سعت برك الدماء..
ُفـ ِ ـطمت ال�سماء... ُفـ ِ مت الأر�ض... ـط ْ
مئات من جبال احلجارة
اكتظ امللعب كالعادة، وتنا�سى الالعبون اال ظاللهم.. ال�رشر يتطاير من حجارة تقذف من كل �صوب.. ـ �أهذه برك من الدماء؟؟؟ الظالل تن�سج من اجتماعها ليال.. وال�شم�س يف كبد ال�سماء
وماليني من العيون املفقوءة.. والليل يف ظهرية النهار يقيم..
اىل ال�صرب املعدم ه�شة ذابت يف فمي وحتت �أ�سناين... وقد جتاهلت مذاقها كل حليمات ل�ساين...
ارهقتها هجرية �آب..
اجلوع فح�سب
�سال النخيل بدموع
ادرك اهميتها
من تربزل نا�ضج..
كلقمة يتيمة منذ ايام..
وان�شغل النهر بت�رضعه اىل ال�ضفاف.. اكتظ امللعب..
دخلت معهم،
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 129
مل اهرول كما فعلوا..
على الورق،
قا�صداً �إياه ال �سواه..
ول�ست يف انتظارك..
ب�ضعة ثقوب يف ثوبي
�إمنا هناك من �رسق خطاي
كانت م�صدر ريح مزعجة
وجاء بها �إليك،
ظلت تعبث
و�أنا �أحاول ا�ستعادتها!!
بلحية ال�شيخ البي�ضاء.. ورغم انه مل يرتنح �أ�سندته بنظراتي، وهي تداعب مع�ضلته على ورقة �صغرية... (د) (د +د +د) ـ �أهذا كل �شيء؟؟؟ عيناه خاويتان
التفت إ� ّيل طفل هزيل.. وهز ر�أ�سه باملوافقة، و�أ�شار �إىل قدمي الرجل: ـ نعم �سيدي.. هي لي�ست له.. �إنها خطوات �أمي و هناك خطوات �أخرى
رمبا تعود لهذه املر�أة؟؟؟
وال �إجابة ت�ستقيم
بدا على حميا ال�شيخ
حتت قلمه املرتع�ش..
�شبح ذهول
ـ الحاجة بك تنحيني عن �سقيفتك لكي ّ �أيها ال�شيخ؟؟؟؟؟.. ل�ست مع كل داالتك املرتاكمة
مل يحت�سبه من قدموا يهرولون �إىل ال�سقيفة.. ـ �أ�رسقت خطى املر�أة يا رجل؟؟؟ ـ لقد وجدتها عارية القدمني..
املنافذ الثقايف
130ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونائمة ال تود ال�سري..
البد �أن حادي العي�س
و�أنا م�ستهلك الدروب ال�شائكة..
�شهد تفرق اجلمع
ب�ضعة دمعات على خديه فقدت �ألقها بني جتاعيد وجهه.. ارتعد وجهه اجلليل.. واعتلى �صو َته غبار رحلته وهو يغادر:
وهم يخرجون من �سقيفة تتهاوى.. التفت نحو �سيده: ـ متى افرتق القوم ابتعد املاء عن املكان
ـ �أنا �أيها الرجال
ـ �أجل
قد �أتيتكم
ورحلت كل اخلطوات القادمة
بخطى امر�أة نائمة �أي�ضا...
بعيدا عن متاهة ال�صحراء.
د.مـاجـدة غضبـان املشـلب
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 133
أعـالم احلركة الشعرية في البقاع ـ IIـ مـروان حممـد درويـش )1جودت رستم حيدر
( )2006-1905
ولد يف بعلبك ،ودرس يف اجلامعة االمريكية (بريوت) ويف ليون (فرنسا) إخصائي يف وتكساس (الواليات املتحدة) ٌّ الرتبية والتعليم .أدار «اجلامعة الوطنية» يف عاليه وكلية النجاح يف نابلس ،ثم التحق برشكة النفط العراقية وبلغ منصب مستشار الصناعة للرشق االوسط. بعد تقاعده انرصف إىل التأليف فأصدر ثالث جمموعات شعرية باالنجليزية: «أصوات» ( « ،)1980أصداء» ( ،)1988 «ظالل» ( ،)1998و«زمن» .ويف العربية صدر عنه «جودت حيدر :مشوار العمر» وجمموعة «دنيا الفكر».
حيمل وسام االستحقاق اللبناين املذهب ،ووسام الكسندر الثالث بطريرك سورية وسائر املرشق للروم االرثوذكس، ووسام كرياكوس السادس بابا االقباط، ووسام الصليب برتبة ضابط اكرب من الدولة الفرنسية ،ووسام البابا يوحنا الثالث والعرشين ،ووسام الكريس االورشليمي ،ووسام الكريس االسقفي
يف القدس ،ومنحه رئيس اجلمهورية العامد إميل حلود وسام االستحقاق من رتبة ضابط ،ورمى عليه النقاد عدد ًا من األلقاب منها :شكسبري العرب وأمري الشعراء تويف عام 2006عن عمر يناهز املائة والسنتني ودفن يف مسقط رأسه يف بعلبك.
)2حسني سعيد زغيب
(1933ـ)1994
ولد يف بلدة يونني قضاء بعلبك ،تلقى تعليمه االبتدائي واملتوسط يف املدرسة الوطنية بعاليه .قصد دمشق وتابع فيها دراسته الثانوية ،بعدها التحق باجلامعة اللبنانية وحصل منها عىل إجازة يف احلقوق. مدرسا يف مدارس بعلبك عمل ً وبريوت ،ثم مارس املحاماة حتى وفاته عام .1994
انتسب إىل مجعية آل زغيب وكان له نشاط واسع فيها ،وكان من شعراء ندوة اخلميس األسبوعية يف بعلبك .وله جمموع شعري خمطوط.
املنافذ الثقايف
134ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ )3سليم كامل عبداهلل الزركيل (1903ـ)1989
ولد يف مدينة بعلبك ،وتويف يف دمشق.
تلقى تعليمه االبتدائي يف املدرسة الرشدية يف بعلبك ،ثم انتقل عام 1918 مع أبويه السوريني إىل دمشق ،حيث تابع دراسته الثانوية ،وخترج يف دار املعلمني االبتدائية عام ،1921ومل يكمل دراسته العالية.
مدرسا بدمشق حتى بدأ حياته الوظيفية ً عام ،1936ثم نُقل إىل إدارة التعليم،وألنه جعل شعره وقف ًا عىل النضال ضد الفرنسيني فقد أوقف عن عمله مدّ ة سنتني ثم عاد إىل التدريس مدّ ة .ويف عام 1942 نُقل إىل رئاسة جملس الوزراء ،وشغل مهام أمني رس املجلس ثم رئيس ًا لديوانه ،ثم عني أول رئيس لإلذاعة عام ،1947وشغل وظائف عليا إدارية حتى أحيل إىل التقاعد عام 1963بناء عىل طلبه. كان له موقف وطني من االستعامر الفرنيس ،وقد شارك يف مقاومته ،ولوحق حتى اضطر إىل الفرار إىل األردن ألكثر من عامني .له ديوانان مها« :دنيا عىل الشام» بريوت ،1968و«نفحات شامية». له كتابان مجعت مادهتام من مقاالت خمتلفة« :نفثات قلم» و«رجاالت» ،ومها خمطوطان ،وحقق ديوان الشاعر حممد البزم (باالشرتاك) ،وهو يف جزأين.
)4سليم نجيب حيدر ( 1911ـ)1980
أديب وشاعر وحقوقي ،ولد يف مدينة بعلبك وتويف فيها ،تلقى تعليمه
املبكر يف بلدة «بدنايل» قضاء بعلبك يف رعاية عمه إذ نفي أبوه إىل تركيا ،وعاد إىل بعلبك بعودة والده من املنفى عام ،1918 ليستأنف دراسته بعدة مدارس :مدرسة املطران ،مدرسة حممد الزين ،ومدرسة اآلباء البيض ،وكان هلذه املدرسة أثر كبري يف ثقافته الفرنسية واملوسيقية ،ثم وفد إىل عاليه والتحق بمعهدها :الكلية الوطنية حيث األديب األملعي مارون عبود، ثم التحق بمدرسة الليسيه الفرنسية يف بريوت ،فحصل عىل شهادة البكالوريا، ثم التحق بجامعة السوربون باريس حيث تابع دراسته العالية فدرس احلقوق، وخترج منها بشهادة الدكتوراه يف واآلداب َّ احلقوق عام .1937 انخرط يف مجعيات نرصة القضايا العربية يف باريس فتعرف إىل أعالم الفكر والسياسة العرب هناك ،وقىض يف باريس ست سنوات عاد بعدها إىل لبنان حيث ُعينّ َ قاض ًيا يف املحكمة البدائية يف بعبدا ،ثم ُمستنطق ًا لبريوت حتى عام ،1941ثم تدرج «مستشارا يف مناصب القضاء ،إىل أن أصبح ً يف حمكمة االستئناف» يف بريوت. التحق بالسلك الدبلومايس َف ُعينّ سفريا للبنان يف إيران ،ثم عام 1946 ً املغرب،أفغانستان واالحتاد السوفييتي حتى عام ،1951حيث ُعينِّ وزير ًا للرتبية الوطنية والصحة والدفاع بني أعوام 1954-1952و ،1955كام شغل مقعدً ا يف أيضا ،ويف عام 1966 الربملان ثالث مرات ً بدأ يتفرغ ملامرسة املحاماة ،بعد ما كان يامرسها بني حني وآخر.وظل يتق َّلب بني الوزارة والنيابة حتى وفاته عام .1980
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 135 كان جييد العربية والفرنسية ،وله إملام باإلنجليزية والفارسية واألملانية والروسية ،والربتغالية.
عضوا يف املكتب الدائم ملؤمتر انتخب ً األدباء العرب وكان بيته صالونًا أدب ًيا ألهل الفكر واألدب .وزار عدة مدن يف قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا.
صدر له ثالثة دواوين هي« :آفاق» ،1946و«العدالة» مطولة شعرية صدرت يف العام «،1946ويا نافخ الثورة البيضاء» قصيدتان طويلتان يف مجال عبدالنارص قدم هلام الشاعران :بولس سالمة وعمر أبو ريشة ،وله أعامل شعرية خمطوطة بحوزة أرسته وبعض أنسبائه ،مثل« :إرشاق» مقطعات شعرية نظمها يف سريته الذاتية، جعلها عىل غرار الرباعيات وتقع يف 376 رباعية ،وله :أشواق ،وأشجان ،وألوان، ولبنان ،وأحلان ،وملحمة شعرية خمطوطة بعنوان« :اخلليقة» يف مخسة فصول حكى فيها قصة اخللق مستوح ًيا كتب الدين والتاريخ والفلسفة وعلم السالالت ،وله مرسحية شعرية فلسفية بعنوان« :ألسنة الزمان» .1956 له مؤلفات يف القانون ،واالجتامع، وحمارضات يف الرتبية والنقد األديب ،وله يف السياسة «آراء ومواقف سياسية» ( .)1969
حصل عىل أوسمة عدة أبرزها :وسام األرز الوطني من رتبة كومندور لبنان ،1949اليوبيل الذهبي لغبطة البطريرك الكسندريوس الثالث دمشق ،1955وسام العرش من الدرجة املمتازة املغرب ،1960 وسام الكفاءة الفكرية من الدرجة املمتازة املغرب ،1962ووسام اجلمهورية اللبنانية
من رتبة ضابط أكرب .1980وكُتب فيه:
ـ سليم حيدر حياته وشعره ،مهذان سليامن ،أطروحة أعدَّ ت لنيل شهادة الدكتوراه يف اللغة العربية وآداهبا، كلية اآلداب،اجلامعة اللبنانية،بريوت 1990مُ ،نشرِ ت يف دار خرض ،بريوت .1994 ـ سليم حيدر ،عيل شلق،دار املرشق، بريوت .1994
ومن شعره يف مجال عبد النارص: لأَ َّمــ ٌة أنت منهـا لـم تنم أبـد ًا ِ َ الدهر مل تن ِم فطول حبيب نم يا ُ ْ
)5سليامن داود داود ( 1888ـ)...
ولد يف راشيا الوادي ،وتويف يف الواليات املتحدة األمريكية.
درس املرحلة االبتدائية يف املدرسة اإلنجيلية يف راشيا الوادي ،ثم تابع دراسته يف معهد اإلرسالية اإليرلندية بدمشق.
يف عام 1908هاجر إىل الواليات املتحدة األمريكية فحصل عىل بكالوريوس يف العلوم من جامعة منيسوتا ،ثم إلتحق بكلية الطب بجامعة مانيسوتا ،وخترج فيها عام .1916وبعد استكامل دراسته تطوع يف اجليش األمريكي القسم الطبي وتنقل بني عدة وظائف عسكرية ومدنية وحرة ،حتى تقاعد عن العمل (هناك) عام . 1967 كان عضو ًا يف مجعية «إغاثة الرشق األوسط» يف هيوستن ،ومجعية «أصدقاء الرشق األدنى» ،ومجعية «األربعاء إلغاثة املعوزين يف البلدان العربية» ،وأنشأ
املنافذ الثقايف
136ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مؤسسة سليامن وفكتوريا لألعامل اخلريية، كام أنشأ جريدة «األمة» يف إبتداء احلرب العاملية األوىل ،واستمرت إىل عام .1916
له ديوانان« :أغاين املزرعة» و«نواح املزرعة».
)6سميح حسني محادة ( 1933ـ)2007
ولد يف مدينة اهلرمل ،وتويف فيها.
تلقى دروسه قبل اجلامعية يف مدارس بريوت ،ثم التحق باجلامعة اللبنانية ودرس يف كلية اآلداب حتى خترج منها ،ثم نال املاجستري يف عام ،1954والدكتوراه يف األدب العريب من جامعة اإلسكندرية.
رئيسا ملصلحة بدأ حياته العملية ً الصحافة يف جملس النواب اللبناين من عام رئيسا ملصلحة 1958إىل عام ،1971ثم ً النقل املشرتك التابعة لوزارة األشغال اللبنانية من العام 1971وحتى تقاعده عام .1994
رئيسا فخر ًيا ملنتدى بريوت كان ً وعضوا يف احتاد الكتاب العرب الثقايف، ً واحتاد الكتاب اللبنانيني .وشارك يف العديد من املهرجانات الثقافية واألمسيات الشعرية يف لبنان وسورية واألردن ومرص.
له ديوان شعر مطبوع بعنوان« :بقاعي من اجلنوب» ،2002وديوان خمطوط بعنوان« :جنويب من البقاع».
)7سهيل رشيد سكرية
( 1940ـ)2005
ولد يف قرية الفاكهة قضاء بعلبك، وتويف فيها.
تلقى تعليمه االبتدائي يف مدرسة قرية الفاكهة ،ثم قصد الكلية األرثوذكسية يف محص سورية فتلقى تعليمه اإلعدادي والثانوي فيها ،ثم انتسب إىل جامعة بريوت العربية وخترج من كلية احلقوق. اشتغل بالتدريس ،وعمل موظ ًفا يف لبنان ،ثم مارس املحاماة.
عضوا يف حزب البعث العريب كان ً االشرتاكي يف دمشق ولبنان.
له ديوان شعر مطبوع بعنوان« :هي وأنا واحلب» .1994
)8شاهني إبراهيم املعلوف ( 1891ـ)1953
ولد يف مدينة زحلة ،وتويف فيها.
تلقى معارفه وعلومه يف الكلية الرشقية بزحلة ،ثم هاجر إىل الربازيل وهو يف الثالثني من العمر حيث عمل يف جمال الصناعة ،ويف عام 1929عاد إىل لبنان حيث استقر فيه بقية حياته متفر ًغا ألمالكه الزراعية. عضوا منتخ ًبا لبلدية زحلة ،ثم كان ً رئيسا هلا عدة أعوام.وكان منزله مرت ًعا ً للشعراء واألدباء أمثال :سعيد عقل، ومجيل معلوف وصالح لبكي ،وغريهم من شعراء ذلك الزمان.
أورد له كتاب« :التجديد يف شعر املهجر» عد ًدا من املقطوعات الشعرية، ونرشت له صحف عرصه أمثال جملة الرشق عد ًدا من القصائد.
)9شبل ناصف َد ّموس
(كان حي ًا عام )1916
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 137 من شعراء املهجر يف أمريكا .نرشت له قصائد يف جملة :رسكيس ،ويف جملة النفائس العرصية .واملتاح من شعره قليل ولكنه ذو ٍ جودة عالية.
)10شفيق عيسى اسكندر املعلوف ( 1905ـ)1977
شاعر وصحفي ،ولد يف زحلة وتويف يف سان باولو (الربازيل).
تلقى دروسه االبتدائية والثانوية يف الكلية الرشقية يف زحلة .ثم دأب عىل املطالعة وتثقيف نفسه باآلداب والشعر والتاريخ واحلضارة ،وقد وفرت له أرسته اجلو املالئم لرعاية مواهبه واستعداده. فنبغ يف األدب كبقية أفراد أرسته.
بدأ حياته الوظيفية كات ًبا يف حمكمة،ثم انتقل إىل دمشق وتوىل حترير جريدة «ألف سنوات،وحرر زاوية باء» فيها مدة ثالث َّ "مباءة نحل" وكان يو ّقعها أحيان ًا بإمضاء غسان"،وأحيان ًا بإمضاء زحلة، "فتى ّ أندليس ومتعب.
هاجر إىل الربازيل عام 1926ومارس التجارة وصناعة احلرير إىل جانب شقيقه فوزي وأخواله.وتبلورت عىل يديه النهضة أسس مع جمموعة األدبية يف املهجر حيث َّ من الشعراء "العصبة األندلسية" يف املهجر رئيسا هلا ،ثم اجلنويب وانتخب عام ً 1933 رئيس ًا لتحرير جملتها «العصبة» ،ورفدها بعلمه وأدبه وماله طيلة مخسة عرش عا ًما.
له من الدواوين« :أحالم» نظمه يف دمشق ،وكان يف الثامنة عرشة من عمره، نرش مقطوعات منه يف جريدة ألف باء وغريها من الصحف وصدر يف عام 1926
قبل أن هياجر إىل الربازيل ،و«لكل زهرة عبري» :بريوت ،1951و«نداء املجاذيف» بريوت ،1952و«عيناك مهرجان» بريوت ،1960و«سنابل دراغوث» بريوت ،1961 و«ستائر اهلودج»( :شعر ونثر) غوسطا ،1975و«شموع يف الضباب» (خمطوط) و«عىل سندان اخلليل» :شعر معرب (خمطوط) ،كام نرشت له قصائد يف جمالت: «العصبة األندلسية» ،و«املكشوف»، و«الربق» ،و«الرسالة» ،و«العرفان» ،وله ملحمة «عبقر» ملحمة شعرية (طبعة أوىل) 1936يف ستة أناشيد (طبعة ثانية) 1945يف اثني عرش نشيدً ا( .قدم والده للطبعة األوىل، وقدم هو للطبعة الثانية بدراسة مطولة) وقد صدرت للملحمة طبعات أخرى كثرية، وترمجت إىل عدة لغات أجنبية. صدر له« :رشارة وقصص أخرى» (جمموعة قصصية) بريوت ،1964و«ليىل األخيلية» :رواية (خمطوطة) ،و«حبات زمرد»( :آراء يف الشعر واألدب) دمشق ،1966و«حكايات ألف ليلة وليلة»: (دراسات وطرائف رشقية).
حصل عىل جائزة الشعر مرتني يف املهجر ،وأقيم له حفالن تكريميان يف دمشق ويف بريوت ،كام توىل هو ترمجة أشعار برازيلية إىل العربية ،ترجم جورج سلمون عضو املجمع الربازييل العلمي بعض قصائده .كام ترمجت بعض قصائده إىل اللغات :اإلسبانية والفرنسية والربتغالية واإليطالية والربوسية واألملانية .وكُتِ َبت فيه العديد من الدراسات واألبحاث. ومن مجيل شعره من قصيدة حني رفع الستار عن متثال أخيه فوزي املعلوف:
املنافذ الثقايف
138ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ِ يـدان فوزي ،ومايل يف اخلطوب
ِ يلتقيـان!!! أوهكـذا األخــوان َ
أقـع قدَّ ْم ُ ـت نفسـي للعناق فلم ْ حـجـر مـن الصـــوانِ ٍ إالّ عىل ّ
)11صادق حسني زغيب
(1852ـ)1911
ولد يف قرية يونني قضاء بعلبك ،وتويف فيها .تلقى تعليمه األويل يف لبنان ،وجهز نفسه للسفر إىل العراق لطلب العلم ،غري أن مرض عينيه أعاقه عن ذلك. له ديوان شعري ،ولكنه فقد ،ومل يتوفر له إال بعض األبيات من بضع قصائد نُرشت يف أعيان الشيعة وروائع الشعر العاميل. نظم ألفية يف علم النحو.وما توافر من شعره وسلم من الضياع قصائد معدودة، منها :يف مدح أمري املؤمنني عيل بن أيب طالب ،وأخرى عىل مذاق أهل التصوف، وكلتامها تدالن عىل شاعر متمكن من أصول القصيدة وبنيتها الرتاثية.
)12عباس حممد عباس زغيب (1857ـ)1886
ولد يف قرية يونني قضاء بعلبك، وتويف فيها ،وملا جياوز ذروة شبابه.
تلقى تعليمه األويل يف بلدته عن والده؛ فقرأ عليه القرآن الكريم ،وتعلم اخلط ،ثم التحق بمدرسة قريبه حسني زغيب؛ فدرس النحو والرصف والفقه، ورحل إىل مدينة النجف عام 1877إلكامل دراسته ،غري أنه مل يتمكن من املواصلة بسبب مرضه وضعفه ،فعاد إىل قريته.
وانحرص عمله يف ممارسة األعامل الدينية والقيام بمهامه الرشعية.
له قصائد يف كتاب «أدب الطف»، وكتاب «أعيان الشيعة» ،وله ديوان شعر خمطوط.
)13عبد اللطيف حممد اخلشن ()1986-1904
ولد يف قرية سحمر البقاع الغريب، بادره الدّ هر منذ صغره بوفاة والده فسارت به أ ّمه نحو دمشق حيث أودعته لدى املجتهد األكرب "السيد حمسن األمني" الذي ر ّباه ورعاه يف مدرسته اخلاصة يف دمشق "املحسن ّية " ،ومنها انتقل إىل مدرسة "عنرب" و َد َر َس فيها عامني. يف الرابعة عرشة من العمر استدعته ِ ً للخدمة ،وليعود بعد سنة خطأ ترك ّيا مشي ًا عىل األقدام من بعلبك إىل دمشق، ليستقر هاجر إىل األرجنتني عام ،1924 ّ يف عاصمتها بوينس آيريس الحق ًا بشقيقه، وانرصف إىل مزاولة الصحافة العربية ٍ َ كمحرر يف صحيفة " الفطرة " لدى فعمل الر ّحال "، األديب املرصي "سيف الدين َ ولكن سهام املرض بادرت األخري فأسلم راية رئاسة حترير "الفطرة" عام 1928لعبد اللطيف اخلشن لتبدأ معها مسريته يف حقل الصحافة. بعد مخس سنوات من حترير صحيفة "الفطرة " انطلق مع زوجته الثانية لتأسيس جريدته اخلاصة "العلم العريب" باللغتني العربية واإلسبانية عام 1934ووضع فيها كل جهده وفنه فعاشت وراجت وأحدثت دو ّي ًا ترامى من املهاجر إىل األوطان.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 139 وبني عامي 1951-1949أسس مع
رفاقه األدباء يف األرجنتني "الرابطة األدبية" ،وواضبوا عىل االجتامع يف منزل الشاعر جورج صيدح مساء األربعاء من كل أسبوع ،ولكن هذه الرابطة مل تدم أكثر من عامني كاملني وانحلت بأسلب غري طبيعي عام ،1951كان نذير ًا بأن أجل األدب العريب يف األرجنتني قريب. وجا َء عام 1958ليتل ّقى عبد اللطيف اخلشن دعو ًة من ِق َب ْل احلكومات العربية بعد أن وصل صدى "العلم العريب" إىل كل أنحاء العامل العريب .فجاء أوالً إىل مرص ونزل ضيف ًا عىل حكومتها ملدة 72يوم ًا،ثم انتقل إىل اململكة العربية السعودية لينزل ضيف ًا عىل حكومتها أيض ًا ملدة 42يوم ًا،ثم استضافته احلكومة العراقية مدة 40يوم ًا وذلك يف عهد امللك فيصل ،ثم استضافته احلكومة السورية مدة 42يوم ًا نال خالهلا أعىل وسام يف الدولة وهو وسام " ُأم ّية ذو الرصيعة".وكان يف استقباله يف رحالته ّ هذه األدباء والسياسيون. ثم حرض إىل لبنان ونزل ضيف ًا عىل حكومته ملدة 42يوم ًا ،ق ّلده خالهلا رئيس الوزراء اللبناين سامي الصلح وسام االستحقاق الوطني اللبناين .وحني وصل إىل لبنان ذهب إىل قريته سحمر حيث استقبل من أهلها استقبال األبطال امليامني.
ويف عودته هذه إىل البالد العربية بعد هجرها 34سنة شاهد للمرة األوىل ولده كامل الذي كان قد تركه صغري ًا مع أمه يف سوريا يوم سفره.
وبعد رحلته هذه إىل البالد العربية عاد عبد اللطيف اخلشن إىل األرجنتني،
ليواصل عمله الصحايف وليكتب صدى رحالته يف كتاب أطلق عليه اسم "أربعني عام ًا يف دنيا الغربة وأربعة عرش شهر ًا يف دنيا العرب" وقد تويف ويف نفسه ٌ أمل بإصداره.
مؤلفاته :أصفار عىل اليسار ديوان شعر طبع يف بوينس آيريس األرجنتني ،1968كتاب اإلسالم دين الوحدة باللغة اإلسبانية قدّ مت مجيع نسخه هدايا ألقطاب العلم والسياسة من األجانب، كتاب عروة االحتاد يف أهل اجلهاد باللغتني العربية واإلسبانية نفدت مجيع نسخه. وهذا الكتاب هو جمموعة مقاالت ألمري البيان شكيب إرسالن كان يرسلها إىل عبد اللطيف اخلشن ،كتاب باللغتني العربية واإلسبانية عنوانه «رصيد أربعني سنة يف املهجر وأربعة عرش شهر ًا يف الوطن» (غري ٍ مخس ومخسني جم ّلد ًا مطبوع) ،إضافة إىل من جريدة "العلم العريب".هذه اجلريدة حتولت اآلن عىل يد حفيده إىل جملة التي ّ أسبوعية،وهي حماربة من أكثر األنظمة العربية. تويف يف بوينس آيريس األرجنتني
)14عبداهلل حممد املوسوي (1938ـ)2001
ولد يف بلدة النبي شيت قضاء بعلبك، وفيها تويف.
تلقى تعليمه االبتدائي يف مدرسة بلدته حيث حصل عىل الشهادة االبتدائية، بعدها التحق باملدرسة العاملية بريوت ونال الشهادة املتوسطة ،ثم حصل عىل شهادة البكالوريا ،وتابع دراسته اجلامعية
املنافذ الثقايف
140ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يف اللغة العربية وآداهبا حتى خترجه عام .1963
توىل إدارة مدرسة اإلمام الصادق، وعمل مرش ًفا ومراق ًبا للربامج الفنية واللغوية باإلذاعة اللبنانية ،وقدم برنامج «فقه اللغة» عد ًدا من السنوات إىل جانب تقديمه لعدد من الربامج منها« :دقة املهباج» .عمل بتعليم اللغة الفارسية واللغة الرسيانية ،وتوىل إدارة مدرسة النبي شيت الرسمية. له قصائد نرشت يف جملة «الكلمة الطيبة» تصدر عن املجلس البلدي يف النبي شيت ،وله ديوان خمطوط ( 120قصيدة)، ومرسحية شعرية« :عروس املعبد» أعدت للعرض يف قلعة بعلبك.
حصل عىل عدد من اجلوائز ،منها جائزة اإلذاعة اللبنانية ،وجائزة مطران الطائفة الرسيانية يف سورية ،وجائزة مهرجان جربان خليل جربان الشعري عام ،1964 وجائزة األزهر يف مسابقة الفقه اللغوي والديني عام ،1966وجائزة مسابقة احلرم اآلمن العاملية التي أقامتها وزارة الثقافة واإلرشاد يف إيران عام .1987
(15عجاج اهليامين ()1919-1892
ولد يف بلدة القرعون قضاء البقاع الغريب ،ثم إنتقل مع أهله إىل دمشق حيث ثم انتقل إىل تل ّقى تعاليمه األوىل فيهاّ ، ال ُقدس والتَحق باملدرسة الصالحية فيها وأجاد الرتكية والفرنسية. َع ِم َل ضابط ًا باجليش العثامين ا ُملرابط ثم عاد إىل دمشق حيث يف مدينة بعلبكَّ ،
سكن فيها وأصدر أعداد ًا من جريدة مدرس ًا للتاريخ ّ سماّ ها "االنقالب".و ُعينِّ واجلغرافية يف إحدى مدارسها .تويف يافع ًا عام .1919 شاعر ُم ّ قل ،مل متهله احلياة لرعاية ٌ وإبراز قدراته وموهبته الشعرية ،له ديوان ٍ شعر خمطوط .و ُنشرِ ت بعض قصائده يف تفرقة من جريدة "الفيحاء" اليومية أعداد ُم ِّ الدمشق ّية لصاحبها قاسم اهليامين عام .1925
عساف ال َك ّفـوري ّ )16 ( 1882ـ)1915
ومرب وشاعر .ولد أديب وصحفي ٍّ يف قرية كفر زبد قضاء زحلة ،خترج يف الكلية الرشقية يف مدينة زحلة ،ثم التحق بكلية الصيدلة باجلامعة األمريكية يف بريوت . عمل بالتدريس يف الكلية الرشقية ملدّ ة أربعة عرش عام ًا ،ثم يف الكلية العلامنية الفرنسية ،ويف اجلامعة األمريكية يف بريوت ،ثم إنرصف إىل الكتابة يف الصحافة حمر ًرا يف جريدة «املهذب» اللبنانية ،فكان ِّ الزحلية ،وجملة «الرابطة» البريوتية. تويف يف ريعان شبابه عام .1915
من مؤلفاته :احلالة احلارضة، األسريات ،شارل وإميل ،وك ّلها روايات مرسح ّية مرتمجة .وله ديوانان :جني النحل ورطب النخل .وله أيض ًا يف التاريخ :هتاين اإليكونو موسى يوسف الكفوري ،النفحة العطرية يف اليوبيلني الفضية والذهبية، الدولة العثامنية ،األرسة الكفورية والرهبنة احلناوية الشويرية.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 141 وله كتاب مدريس يف مخسة أجزاء هو: وأد العلم يف العمل.
معظم مؤلفاته والسيام الدواوين الشعرية مفقودة.
)17عيل النقي حسني حممد زغيب
(1865ـ)1937
ولد يف بلدة يونني قضاء بعلبك ،وتويف فيها .تلقى معارفه األوىل يف مدرسة والده الشيخ حسني زغيب الدينية ،ويف قرية حنويه اجلنوبية ،ثم انتقل إىل مدرسة الفرج اخلطيب يف دمشق ،ثم عاد إىل بعلبك.
مدرسا يف قرية يونني ،ثم عني عمل ً مفتي ًا جعفر ًيا للطائفة الشيعة يف مدينة بعلبك عام 1926إبان االنتداب الفرنيس التعصب .وكان و ُع ِرف بالنزاهة وعدم ّ ٍ أول مفت للطائفة آنذاك ،ويف عام 1927 عني قاض ًيا للطائفة نفسها. عمل عىل إنشاء جملس شيعي أعىل عىل مستوى لبنان .له ديوان غري منشور متنوعة يضم جمموعة من القصائد الشعرية ّ األغراض واملواضيع .قام بتحقيقه حممد عيل السعيد يف رسالة أعدَّ ها ونال هبا شهادة دبلوم الدراسات ال ُعليا يف اللغة العربية وآداهبا يف اجلامعة اللبنانية الفرع الرابع زحلة .1992
)18عيل حممد زين (1875ـ)1963
ولد يف قرية قليا (قالّيا) البقاع الغريب، تلقى تعليمه يف مدرسة القرية البدائية، فاقترصت علومه عىل القراءة والكتابة ومبادئ احلساب.
وما أن بلغ س ّن الشباب حتى فقد والده ،فشعر باملسؤولية ا ُمللقاة عىل عاتقه اجتاه نفسه واجتاه أ ّمه وأخوته سيام وأنه البِكر فيهم ،ففكَّر أول ما فكَّر يف كسب عيشه وعيش العائلة التي أصبح مسؤوالً تفرض عىل املواطنني عنها .وكانت تركيا ُ مجلة رضائب ،منها رضيبة ال ُعرش التي كانت تُفرض عىل ا ُملنتجات الزراعية بطريقة ا ُملزايدة بالظرف املختوم .فأخذ الشيخ عيل يلتزم األعشار ،فح َّقق لنفسه أرباح ًا ج ّيدة استثمرها يف رشاء العقارات يف بلدته قليا ويف فتح داره لألصدقاء وأصحاب احلاجات وال ُق َّصاد من خمتلف املناطق ،وقد ظ َّلت داره مفتوحة دائ ًام للرائح والغادي وبخاص ًة أثناء املجاعة عمت لبنان يف زمن اإلستعامر التي َّ الرتكي .وكذلك مت َّلك مطحنة ٍ قمح مائ ّية عىل الضفة الرشقية لنهر الليطاين بني قريتي الدالّفة و ُبر ُغز .ومل يمتهن يف حياته عم ً ال سوى الزراعة. وكانت قد تيسرَّ ت له ثقافة دين ّية ال بأس هبا ،فعمل عىل إغنائها عن طريق ا ُملطالعة و ُمراجعة كبار علامء الدين. بحيث أصبح املرجع الديني لغالبية القرى الشيعية يف البقاع الغريب واجلنوب ،عضو ًا يف "رابطة أدباء جبل عامل".
صداقات محيمة بالكثري وكانت تربطه ٌ من زعامات وشعراء ووجهاء وعلامء ذلك الزمان والسيام الشاعر رشيد بك نخلة احتجاج عىل تسمية وكان للشيخ عيل ٌ شحرور الوادي خليف ًة له يف إمارة الزجل، والشاعر حليم د ّموس وموسى بك نمور والياس بك طعمة سكاف والوجيه
املنافذ الثقايف
142ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سليامن بك طرابليس والكثريين غريهم وبخاصة الشاعر توفيق عبد الكريم الص ّباح الذي كانت تربطه به عالقة و ٍّد ٍ وشعر عميقة دامت زمن ًا طوي ً ال إىل أن واىف األجل الشيخ عيل ،بحيث كانا يتزاوران ويتبادالن الرسائل الشعرية ،وقد جمُ ِعت معظم مراسالهتام الشعرية التي امتدَّ ت من العام 1930إىل العام 1959يف ديوان الشاعر توفيق عبد الكريم الص ّباح .تويف يف قريته قليا ودفن فيها. له ديوان شعر خمطوط.
)19عيسى ميخائيل سابا (1900ـ)1978
ولد يف بلدة راشيا الوادي ،وتويف يف بلدة القليعات.
تلقى تعليمه األويل يف مدرسة مار منصور دي بول يف بريوت ،ثم انتقل إىل مدرسة مار لويس يف غزير ،ثم إىل إكلرييكية يف دير سيدة البلمند،
واصل دراسته بعد انتهاء احلرب العاملية األوىل يف مدرسة اإلخوة املسيحيني يف بريوت ،وفيها تعلم الفرنسية ،ثم إلتحق باجلامعة األمريكية وخترج فيها عام 1941 حاص ً ال عىل بكالوريوس يف األدب العريب وتارخيه.
مديرا ملركز الربق والربيد يف عمل ً مدرسا للعربية بعد عودته إىل اهلرمل ،ثم ً بريوت ،وبعد عامني عني معلماً يف الكلية العلامنية (الالييك).
كان يقوم بتدريس اللغة العربية يف اجلامعة األمريكية أثناء دراسته هبا حتى خترج عام ،1941وكان قد تعلم الفرنسية
من قبل بنفس الطريقة إبان قيامه بالتدريس بمدرسة اإلخوة املسيحيني.
شارك يف العديد من املناسبات القومية ،والثقافية واالجتامعية .له قصائد متفرقة ،نرش معظمها يف جملة «األديب» البريوتية ،وله مرسحيات منها:أمرية العفاف ،1924وثعلبة اجلاحد ،1932 وهكذا قضت األحوال ،1934ومعاوية ومروان بن احلكم .وله العديد من املقاالت ،منها :شعراء اخلمر يف األدب العريب ،واملرأة يف األدب ،ومدينة صور اجلبارة ،وله أعامل مرتمجة ،منها :إنجيل بوذا ،واعرف عدوك ،،وأنا ٍ آت من الصني ،وله مؤلفات منها :وحي الغاب، ورشح ديوان احلطيئة ،وشعر السموأل (حتقيق ورشح) ،واملغنيات يف األدب.
)20غنطوس إبراهيم الرامي
(1910ـ)1994
ولد يف بلدة تربل قضاء زحلة وتويف فيها.
تلقى مرحلته التعليمية االبتدائية يف بلدة فالوغا ،ثم انتقل إىل مدرسة احلكمة يف بريوت التي حصل منها عىل شهادته الثانوية.
مدرسا يف مدرسة احلكمة مدة عمل ً انتقل بعدها إىل اإلذاعة اللبنانية ليعمل قارئًا للنرشات اإلخبارية ،وظل يف وظيفته هذه حتى رأس دائرة األخبار، وكان قد زاول مهنة الصحافة؛ فكتب يف جريديت «النهار ولسان احلال» وغريمها من الصحف .يعد واحدً ا من مؤسيس إذاعة لبنان الرسمية.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 143 له ديوانان« :سمر» بريوت ،1943 و«سمر »..بريوت 1986م ،ونرشت له جملة األديب بعض أشعاره. له عدد من املؤلفات منها« :شهرورد» جمموعة قصصية ،و«األمري الصغري» أنطون سانت أكسيربي (ترمجة). حصل عىل وسام االستحقاق اللبناين املذهب ،كام حصل عىل وسام فارس من الرئيس اللبناين إلياس اهلراوي.
)21فوزي عيسى اسكندر املعلوف
(1899ـ)1930
شاعر وكاتب ،ولد يف مدينة زحلة، وفيها نشأ وتلقى علومه األوىل ،ثم انتسب إىل الكلية الرشقية يف مدينة زحلة ،فأخذ عنها العربية والشعر العريب ،ثم التحق أخوة املدارس املسيحية بعدها بمدرسة َّ «الفرير» يف بريوت عام ،فتعلم اللغة العربية وآداهبا ،واللغة الفرنسية وآداهبا، وأتقنهام ،وبرزت شاعريته يف هذه املدّ ة، وكان والده يتمتع بشهرة واسعة يف ووجهه. األوساط األدبية ،فتعهده وع ّلمه ّ أكب عىل املطالعة والدرس بعد ّ نشوب احلرب العاملية األوىل عام 1914ـ
فوجد يف مكتبة جدّ ه ووالده من الكتب ومن الوثائق التارخيية ودواوين الشعر للقدامى واملحدثني ما يلبي رغبته.
بدأ اهتاممه باألدب منذ أن كان طال ًبا، فأسس «جملة األدب» يف مدرسة «الفرير» ونرش فيها بواكري قصائده.
تاجرا للحبوب يف مدينة زحلة عمل ً بعد أن أغلقت مدرسة «الفرير» أبواهبا إىل جانب عكوفه عىل املطالعة والدرس،
ثم عمل أمينًا لصندوق دار املعلمني يف دمشق عام ،1918ثم كات ًبا ألرسار عميد املعهد الطبي العريب هبا .ويف عام 1921 متوجها إىل مدينة ساو باولوـ غادر لبنان ً الربازيل ،حيث أخوه وأخواله الذين اهنمك معهم يف عامل التجارة والصناعة فأصاب نجاح ًا ،غري أنه مل ينقطع عن مزاولة نشاطاته األدبية ،ونظم الشعر. فأنشأ «املنتدى الزحيل» يف «سان باولو» رئيسا له. بالربازيل عام ،1922وكان ً وأسهم يف العديد من املرشوعات اإلنسانية واالجتامعية واألدبية.
تويف وهو يف ريعان الشباب مغرت ًبا يف ريو دي جانريو (الربازيل) عام .1930إثر عملية جراحية أجريت له و ّملا يبلغ الثانية والثالثني من عمره .وقد أقيمت له العديد من حفالت التأبني والتكريم يف الوطن العريب وخارج الوطن العريب.
مؤلفاته« :ديوان فوزي املعلوف» طبعة أوىل بريوت ( 1957مجعه شقيقه ونرشه)، ونرشت قصائده يف العديد من صحف عرصه ،ومنها :جملة األدب ،وجملة اآلثار، وجملة الرشق الربازيلية ،وجملة الرسالة املخلصية .وله ملحمة شعرية عنواهنا «عىل بساط الريح» طبعت للمرة األوىل يف مدينة ريودي جانريو الربازيل ،1929والطبعة ثانية يف سان باولو الربازيل ،والطبعة الثالثة يف بريوت ،1958ومتت ترمجتها إىل اللغات :اإلسبانية والربتغالية واألملانية والروسية واإلنجليزية والفرنسية .وله «مرسحية ابن حامد أوسقوط غرناطة» وشعرا، نثرا ً سان باولو .1952وقد كتبها ً متأثرا بام أورده اإلسبان عن الدولة العربية ً
املنافذ الثقايف
144ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يف األندلس من كتابات.
وله عدد من الرتمجات ،منها ترمجته لرواية «الوديعة الصغرية» ،و«نكبات احلروب» ،و«العصفور األبيض» ،أللفرد موسيه ،و«كتاب جرمينال».
وقد نرشها يف جملة اآلثار التي أنشأها والده ،وله عدد من املقاالت ،ومنها« :عىل ضفاف بردى» جريدة حرمون الدمشقية، و«شاعر إسباين» جملة الرشق الربازيلية ،1929و«ملباطحان» جملة الرشق الربازيلية ،1930وله عدد من املؤلفات الشعرية املخطوطة هي:أغاين األندلس، تأوهات الروح ،من قلب السامء ،جمموعة الشعر الوطني والفكاهي ،صفحات غرام ،عىل ضفاف الكوثرُ ،شعلة العذاب واحلاممة يف القفص.
حصل عىل وسام االستحقاق اللبناين املذهب بعد وفاته ،وقد أزيح الستار عن ّ متثاله الربونزي املنصوب يف مدينة زحلة يف سبتمرب .1937وكُتيت فيه الكثري من الدراسات واألبحاث .ومن مجيل شعره يف ملحمة "عىل بساط الريح": طيـــر ما أنــا إالّ ال ختـافـي يا ُ
شـاعر تطـرب الطيور لشــعر ْه ٌ ِ فـرارك عنـها فــر عـن أرضـه َّ من أذى أهلها وتنكيـل دهـره
ومن شعره الرائع:
قس ًام يـأهلـي مل أفارق عن رضـى أهيل وهم ذخري ورك ُن عمـادي
أنفت بأن أعيـش بموطنـي لك ْن ُ ِ األســــياد عبـد ًا ،وكنت به من
نصور )22فياض شحادة ّ (1916ـ)1998
شاعر وأديب ،ولد يف الفاكهة قضاء بعلبك وتويف فيها.
تلقى دراسته االبتدائية يف الكلية األرثوذكسية بحمص ،ونال منها الشهادة االبتدائية ثم توقف عن الدراسة .عمل بالتجارة ،وكان له حمل لبيع األحذية يف شارع رفيق رزق س ّلوم يف محص. أولع بالشعر منذ الصغر ,وحفظ الكثري منه ,وبدأ ينظم الشعر يف سن مبكرة ,ونرش قصائده يف عدد من الصحف السورية واللبنانية. مؤلفاته الشعرية :أشجان املساء 1981تراتيل لقلب 1987لعينيك أغني ،1992وله رواية بعنوان" :هند".
)23فيىض صقر محادة (1944ـ)1999
ولد يف مدينة اهلرمل ،وتويف فيها.
تلقى تعليمه األويل يف مسقط رأسه، وتابع الدراسة املتوسطة يف معهد الرسل يف جونيه ،والثانوية يف ثانوية الريزة ،ثم التحق بجامعة بريوت العربية حيث نال اإلجازة يف اللغة العربية وآداهبا. عمل موظ ًفا يف وزارة السياحة، ثم توىل رئاسة دائرة الربامج يف وزارة مستشارا لوزير الرتبية يف الداخلية ،وعني ً حكومة رشيد الصلح ( 1974ـ.)1975 توىل منصب نائب رئيس حترير جملة «األمن» الصادرة عن قوى األمن الداخيل ،وتوىل منصب مدير إذاعة صوت
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 145 لبنان العريب إبان األحداث اللبنانية يف
السبعينيات من القرن العرشين.
عضوا يف املجلس الثقايف ملدينة كان ً
اهلرمل ( 1995ـ.)1999
له ديوان :أقاحية الدَّ راب دار الندوة اجلديدة بريوت (د.ت).
وله عدد من الربامج اإلذاعية كتبها إلذاعتي :ديب ،وأبوظبي بعنوان :حكايا الليل ،والعطر املسمى.
مـروان حممـد درويـش
املنافذ الثقايف
146ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من األدب العاملي:
ساقى نامه
بيا �ساقى �آن مى كه حال اورد
كرامــــت فزايد كمــــال �آورد حافـظ الشـريازي
�ساقي ِ تهـ ُب الر�ضا اجلب َ اخلمر التي َ
ُ و�رشبـها والكمال، فيها الكرام ُة ُ *
ِ منهـ ٌك هات اعطني خمراً ف�إين َ
هيـا ا�سقنيها ،غار قلبي يف الأ�سى ّ *
�ساقي َ ِ خالل زجاجهـا تعال فمن تق�ص ل�شرَ ْ ب ِـهـا عجماء ناطق ٌة ُّ ُ *
أنبئـ َك عن مع حلن ٍ ناي �أ�سق ِـني � ْ هـم �أحوالهـمُ � ، أخبارهـم ،وم� ُآلـ ْ *
ِ إن�ســــان إن�سانيــ َة ال وتـــزيــد � ُ َّ ي�سمو بنا عن حم�أة ال ِ أدران
*
*
*
*
ٌ ِ بهــوان ب مت�ســـاقط متجلـب ِـ ٌ ْ ِ اثنــان �سار ُ وخ�رست عمري ،فا َخل ُ أخبـار الأ ْمم حتكي لنا ُ ال�صهباء � َ
*
*
و«جم» يف ك�أ�سها � َ أخبار «كيخ�رسو» ْ
()1
*
الكا�س «جم�شيد» عن «كاوو�س» عرب ِ َ َ
ُتـجلى بت�أث ِري ِ الرا�س الطال يف ِ *
َ تعال فتلك خمرتك التي �ساقي
الروح كيمياء يف الفتح �صارت ِ َ
أح�س ب�أنني أ�رشبـها � ُّ �أنا حني � ُ
ٍ «نوح» «قارون» وفرت ُة يل كن ُز ِ
*
هيـا اعطني هم �سوف يفتتحون با ّ والعمر يف فيها تكون هناءتي، ُ *
*
*
*
*
ِ هات اعطني خمراً من الك� ِأ�س التي قد كان عرب زجاجها و�شعاع ِـها *
ِ ثان كـ ٍر َب احلان ثاني ًة ُل�س ْ ِ ()2 �أرجائها �أف�ضى مع اطمئنان عاقرها ف�صار ب�صريا «جم�شيد» ُ َ
*
ِ الكون وامل�ستورا يجلو خفايا *
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 147
و�أنا بت� ٍ أييد من الك� ِأ�س التي «جم�شيد» يجلو ما اختفى فك�أنني ُ *
واق�ص�ص حكاي َة ذلك الزمنِ الذي ْ احلديث عن ِ َو�ص ِـلِ ق�ضوا َ امللوك وقد ْ *
ٌ الوجود ،و�إمنا منزل هذا هو ُ أقدار ْ فقل يل من ر�أى دتـه � ٌ � ْأر ْ *
الكبار بحكمهم وبر�أيهم �أين ُ قل يل �إذن �أين انتهوا بل �أين *
وحدهما وال إيوان ال َ الق�رص وال ُ ُ ُّ غدوا وال أدراج الرياح الكل � َ ْ *
وال�صحراء يف �أمدائها اجلي�ش ُ ُ يكن �إن �ضاع يف البيداء ٌ جي�ش مل ْ *
َ �ساقي اعطني خمراً خالل زجاجها ــربها عجمــاء ناطقـــ ٌة ُّ ُ تق�ص َل�ش ْ *
*
*
*
*
�ساقي َ بدت نار قد ْ تعال فتلك ٌ حتت الرثى زرد�شت كان يريدها *
*
م�ســـريتـه مع الأقــدا ِر طـالت ُ ذهبوا ،وما تركوا �سوى الأخبا ِر *
هو � ٌ ِ خلراب آيل مهما احتوى إيوان � ْأفـ َر ْ�س ِ ياب» َ بعد الردى «� َ *
للجي�ش ِ
*
*
*
*
*
جراراً ّ
بيو ِم
ِ عوان
ِ اللمعان الرتكي ذي خنجر ذلك ُ ِّ *
ما � َ َ القول الذي قد قاله أجمل حبـ ًة ال لي�س ُ يف�ضـ ُل من �شعريٍ ّ
غدوت ب�صريا عاقرها ُ ُ «جم�شيد» َ �رساً خافي ًا مطمورا ويذيع ُ ّ
َّ وال�رسداب ظــل تابوتـه قد ُ ُ إياب ُيـرجى لهم بعد الرحيل � ُ �سيـان يف العا�صفات ويف الرخـا ّ
التـ َيـ ِ هان �إ ّال كما البيداء يف َ *
أخبار الأ ْمم حتكي لنا ُ ال�صهباء � َ و»جم» أخبار «كيخ�رسو» يف ك�أ�سها � َ ْ *
ِ املال رب رب ُ ِ التاج ُّ جم�شيد ُّ *
*
منيـــف � ٌ ِ لزوال آيـــل ق�صـــر ٌ ٌ *
تخمــد وهـاج ًة ال ُ يف ك�أ�ســـها ّ والنـــار يف �صهبـــائها تتوقــد ُ *
املنافذ الثقايف
148ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ِ تعار�ض هات ا�سقني خمراً فلي�س ٌ
مذهب ملعربدين �سكارى يف ٍ
ولهوها ما بني من عبدوا احليا َة َ
يعبد نارا أ�رص وراح ُ �أو من � َّ
*
َ َ مغمور �أتى فذاك تعال �ساقي ٌ دائم مقر �سكران كان له َ ٌّ ٌ *
هات ا�سقني فل�سوف � ُ ِ أجعل �سمعتي ألومـها خربتني ُ �أنا َّ اخلمر �سوف � ُ *
َ نارها �ساقي تعال فتلك ٌ ماءُ ، لو ذاقها �أ�س ٌد لأحرق غاب ًة *
أت�صيـ َد �ساقي ا�سقني خمراً لكي � َّ
املـ ِ�س َّن جلعل ِـه أهاجم َ و� ُ الذئب ُ *
َ ِعت �ساقي خمر �أُ ْتـر ْ تعال فتلك ٌ يـنهــم فيـــها مالئـكـ ٌة ب ِـع ِـ ّلـ ِّيـ ْ *
هيـا اعطني خمراً لأ�شع ِـ َل يف اللظى ّ
احلكيم ُّ حتى �شذا العقلِ يظل يف ِ * يقد ُمـها لنا �ساقي اعطني خمراً ِّ ي�شـــهد �أنها الآن قلبي �ســوف ُ *
أرجع طاهراً هيـا اعطني خمري ل َ ّ ُ �صعـ ُدها على �أغوارها ُمـ َتـعي �أ ِّ *
*
*
*
*
ِ للحان هو ُم ْبـك ِـ ٌر يف �سعي ِه ٌ ِ ِ مكان بطيب نازل منه هو �سيئ ًة ولن �أتراجعا يف النا�س ّ ألوم ك�أ�س ًا بالإ�ساء ِة م َرتعا و� ُ
*
*
*
*
ٌ حر ُق عقل م�سها �سليم ُيـ َ ٌ لو َّ وت�سحق ت�شب من نارها فيه ُ ُّ غ�ضنفر الأقدا ِر اله�صور أ�سد ال َ َ َ الفخ م�أ�سوراً بقو ِة ناري يف ِّ ّ
*
*
*
*
*
اجلنـ ِ ات ب�شميم م�سك ا ُحلو ِر يف ِ ّ ِ �صفات خري �سكبوا بتلك اخلم ِر َ نافـــح وبخـــورا طيــب أعواد ٍ � َ ٍ طيب ويبقى يف الوجود دهورا ٍ *
ٌ ملك ،ومــــا ُم َّ�س ْت بــــــ� ِّأي �أثا ِم *
*
ُّ أيــــــــا ِم �ستظل طاهر ًة مدى ال ّ *
ُ ال�سيـ ِ وجترف ئات تزيل عني ُ ّ قرقف الف وترد يل طهري ُ�س ٌ ُ ُّ *
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 149
اخلـ َلـ ِ �صاء يل �أنا حني � ْ أ�ضحت ْ رو�ض ُة ُ
فل ِـ َم ارتباطي بالقيود على الرثى *
ِ ور َّ احلظ الذي هات اعطني خمراً َ َ ور الكن َز الذي خر ْبـني َ وتعال ِّ *
�أنا ذلك الرائي �إذا ما الك� َأ�س يف أب�رص َّ كل مــا يف تلكـ ُم املر�آ ِة � ُ ُ *
يروق يل كـ ِر اللذيذ ُ يف حلظ ِة ُ ال�س ْ أجمع «خ�رسوي» و� ُ حو ٍل ل َ أكون ذا ْ *
ِ ت�سطيع �أن ال�سكران ال مع ذلك ُ ُ َ أ�رسار يف ذاتك إنكار � ُ يجعل ال َ *
ُ ال�سكران يف «حافظ» جتلـى ُ و�إذا ّ ال�شعر الذي فل�سوف ت�شدو «ال ُزهر ُة» َ *
ْ �صوت النه ِر من مغنـي �أين ُ قل يا ِّ
حـ ْلـم ًا نائي ًا الن�شيد ذاك ُ ُ يعيد ُ *
مت�شـوق ًا مولـهـ ًا أكـــون حتى � َ ِّ َّ الرق�ص اجنذاب ًا للر�ؤى أمار�س َ �س� ُ *
َّ واحلظ الذي والتاج �أعطي الغنى َ َّ ٍ بفاكهــة على الكـــل �أعطيـــ ِه *
*
*
*
*
العالـ ِم الروحاين �سكـن ًا بدار َ َ أعود للج�سد الأ�س ِري الفاين و� ُ *
يبدو على وجهي ِّ و�ضوح بكل ِ
خبـ� ُأتـه يف روحي هو حكم ٌة ّ *
ِ ب�صفـاء و�ش ْفـ ُتــها كفـي � أخـذت ُ ُ ّ يخفى بهذا الكون من � ِ أ�شياء *
ِّ بكــل ت�سـا ِم إعــالن مملكتــي � ُ واملعدم العايف بنف�س اجلا ِم َ
()4
*
ِ ٍ الذات حكمة يف جواهر تخفي َ ِ الكلمات و�ض ٍح ،و�إن خف ِـيت على َ
*
*
*
*
*
()3
ِ ِ بذكاء و�صوغ ِه الن�شيد �صنع ِ ْ ِ ُ غناء �ســيل ويكون قد �صاغه، ُ ِ الرائع «اخل�رسوي» الن�شيد ذاك ِّ ِ ووقائـــع مب�صائــــر وت� ُّأمــــ ًال ٍ ِ * وي�صري وجدي حا�رضاً بالكاملِ َ
*
*
وبخرقتـــي �ألهــو لي�سمو داخلي *
ِ املنــزل علـــو يعطي بدنيــانا َّ ِ أ�صـلِ �شجر اخللود وملك ِـ ِه املت� ِّ *
املنافذ الثقايف
150ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو يف �أريكت ِـه غدا َ ملك الرثى
�ســلطـان ِّ ِ زمـــان كــل وبعزمـــ ِه َ
برج ال�سعاد ِة والغنى قمر على ِ ٌ
ـق يف نــيل ِّ كل � ِ أمـــان وموفـ ٌ َّ
*
املـــ ُ ب ب�إبائــ ِه لك منـــه جملبـ ٌ ُ َ والطري يف ُو ُكـنات ِـها �أ ِم َنـ ْت به ُ *
ا�سرت�شادهم للمقبلني �إليه يف ْ ِ ِ ميدها أ�صحاب أرواح � القلوب ُّ � ُ *
طري ال�سعاد ِة والهنا ها �أنت يا َ �أنت
ُ املالك
ٌ مبارك
إلهامه � ُ *
الدر يف �أ�صداف ِه لك م�شب ِـ ٌه ال ُّ وغدا «فريدو ٌن» و«جم�شي ٌد» بال *
واحر�ص ب�أن تبقى زمان ًا طائ ًال ْ واك�شف لنا َ ِ وكن بها حال ْ القلوبْ ، *
ميـا ًال �إىل ما زال هذا ُ الدهر ّ ٍ بفتــنة كـري واقعـان ف�أنــا ُ و�س ْ *
*
*
*
*
*
*
*
*
ن�شيدنا اللحن � ّإن مغنـي ْ َ َ فاعزف ّ ال�رس الذي أخ�صام لنا وا�رشح ل ٍ ْ َّ *
نـور � ٍ ِ عيون و�ضوء أفئـدة هو ُ ُ ِ املخـــزون بنعيــ ِم ِه ،وب�ضـوئــ ِه *
العنقاء بظلـها أ�سعدتـ َك �إذ � ُ ْ ِّ النعــماء اقرتنت بهــا أخبــار َك � ْ ُ ُ *
يف الكون �إنك فوق ِّ كل جواه ِر خـ َلـ ٍف �شبيه ِـ َك� ،أنت فوق الآخ ِر َ *
موقع «الإ�سكندرِ» متمكـن ًا يف ِ ِّ وكن يف حال ِة امل�ستب� ِرص �أدرىْ ،
*
*
*
*
�ســيفـه يجـــر ُد والدهـــر �أحيــان ًا ِّ َ
ويكون حينــ ًا را�ســـم ًا لـــه َّ خط ًة
ِ اجلـــاه عظيـــم وبلون ِه ،وغــدا َ أ�سماك يف ال ِ وكذلك ال ُ أمواه
ف ِـ َتـ ٍن ،وين�صب يل بها �أ�رشاكا ِ احلبيب هالكا عني ُتـزجي بها ُ ال�شيء الذي يبغي ِه ليحقـ َق َ ِّ عنـا في ِه كي ينج َز َ املكتوب ّ
*
*
*
*
جديد مذهب يف العاملني هو ُ ٌ ِ عيد ي�رسي وي ُ بجدول حلن ِه ُ
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 151
�ستكون عاقبتي انت�صاراً حا�سم ًا ُ علي من ال�سما فب�شارةٌ ْ هبطت َّ *
اللحن الذي مطرب وا�صنع لنا يا َ ُ ْ ِ الغزل الذي واجعلـ ُه يحكي ق�ص َة ْ *
� ُ دتـني للرثى أحمال ّ قيـ ْ غـمـي َّ املكان بع ّز ٍة ودع هذا ِط ْر بيْ ، َ *
ا�صدح بالن�شيد مر ِّدداً مطرب يا ْ ُ قل ِ ْ ٍ من�شداً مبهارة واعزف لنا ْ *
أ�صحاب الر�ؤى أرواح � ِب �أويل ال ِ َ �أطر ْ و«بار َبـ ْد» العظيم واذكر «� ْأبروي َز» َ ْ َ *
وا�ستوح ر�سم ًا يا مغني موحي ًا ِ ٍ خمتف وانظر �إىل ما راح يروي ْ *
أمد ْد بلحنك من�شداً بل هكذا � ُ العـليا �إىل حتى َّ ت�شد «ال ُزهرةَ» ُ *
*
*
ابتدع حلن ًا لنا وال�صنج بالدف ِّ ِ ْ الغناء و� ِ أعطنا وامزج مع اللحن ْ َ *
*
ونطرب ال�رسور يجتاحنا منه ُ ُ خلـ ُب تهفو له ُمـ َهـ ُج الأنا ِم ُ وتـ َ
*
*
*
*
*
*
*
*
�صوفيـ ًا بدا وبـ ْح ،لو � ّأن ْ وا�صدح ُ ّ
متـحرراً ي�أتيك من ِعرفان ِه ِّ
ِ وكيده وغرور ِِه العدو �ضد َّ ِّ ٌ قاتل ل�رشور ِِه � ّأن انت�صاري
طت من �أقدامي خـ ِّيـ ْ فك� ّأنـني ُ ْ واحفظ بذاك مبادئي ومقامي ِ اجلدول �صوتـ َك يف خري ِر ولي� ِأت ُ ِ اخل�رسوي الأكملِ الن�شيد حلن ِّ َ *
ْ أرواح وادخل �إىل م�ستودع ال ِ ِ ُّ ألواح حـ ِملوا على ال ِ فالكل قد ُ *
ِ العالـ ِم حجاب هذا وراء عمـا َ َ ّ ٍ قامت كون �رس بحجاب ِه عن ِ ِّ *
يا مطرب ًا واعزف على الأوتا ِر ٍ حلن من القيثا ِر رق�ص على ٍ *
يف *
*
ٍ ن�شوة
وبحالة
ِ الع ِ رفان
لو راح يح�سو ن�شو َة ال ِ أحلان *
أرواح يا مطــرب ًا تهفــو لـه ال ُ ترتـاح أرواحــــنا ُ فنــــ ًا لــه � ُ ّ *
املنافذ الثقايف
152ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ي�شدنا بخداع ِه الوجود هذا ُّ ُ فانظر �إذا ما ُ ِ الليل َ ب�رسد ِه طال ْ *
مللت ُفر َّد يل مغنـي قد ُ �أنا يا ّ متفــــرداً ب�أدائــه وبلحنـــ ِه ِّ *
ٌ ممـا �أرى ذاهل �أنا متعجـ ٌ ب ّ ِّ طـمه الرثى ما ُ �سيحـ ُ عدت �أدري ما ْ *
لو � َ املجو�سي اللظى ال�شيخ أ�شعل ُ ُّ ي�صمد �ضو� ُؤه امل�صباح ف�إىل متى ُ ُ *
يف هذه الدا ِر التي ت�صحو على �أن ْرث من الإبريقِ والك� ِأ�س ِ الطال *
مب�شــــراً للمنت�شني ال�شاربيــن ِّ وابعث �سالم ًا للذين م�ضوا وقد ْ *
*
ـــة جذّ ٍ ق�صـ ٍ بت�شـــو ِق ابـــة ُّ يف ّ تتحقـقِ هذي احلكايا وهي مل ّ *
ب�شدو منك حلن ًا ثانيا �شوقي ٍ فاعزف ،وبال ِ أحلان ِّفرج ما بيا ْ
*
*
*
*
*
*
*
*
ِ أفــالك متفكـــراً فــي دور ِة ال ِّ ِ فينا غداً هالك رهن وي�صري َ ُ احلاذق والذكي املحنـ ُك وهو ُ ُّ َّ الواثق �سواي �أنا ل�ست �أدري ،هل َ ُ ِ الدماء ،وال ُّ متل من الد ِم ن ِرث ودع الإ�ساء َة يف الزمان املجر ِم ِ *
� ْ بالراح أر�ســل ن�شـــيــداً عابقــ ًا ِ ِ الزمان املاحي كانوا الأحبة يف *
ترمجــة :عمـر شـبيل
( )1كيخرسو وجم أي"مجشيد" ملكان فارسيان. ( )2أفىض :أوسع (َ )3ر :فعل األمر من رأى. ( )4جام :كلمة فارسية تعني الكأس.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 153 من األدب العاملي:
تقومي سنوي بال تاريخ مـاروش
عندما يرق�ص ال�سالح
ما عندك حكاية تهدهد نومك
على نغم الدم
فلقد �ضاعت احلكايات
والب�سمات املت�أنقة
حني ُح�شرِ ت الألغام يف الأ�شجار
ُتـتبادل التهاين بحرارة ع�سكري
كل ما عندك هو �إم �سك�ستني
يف الثالثة ع�رشة من عمره
زينوا �أخم�صه ّ بطوالت قومك لتكون ُ
ما يف جيوبك لعب مك�سورة
مقرونة با�سمك ح�سب العادة
�أو دوامة
ما عندك من تلعب معه
وما عندك �أيام معينة
فرفيق لعبك الوحيد
للدر�س والعطلة
هو املوت
وما عندك بابا نوئيل
ي�رضب م�ستخفي ًا دائم ًا
قناع �أ�سود وح�سب، عندك ٌ
«�أنا �ألعب يف الغابة
و�ضعوه �أمام روحك
الذئب هنا» حني ال يكون ُ
ال يعرف ملاذا يقاتل
(*) شاعرة أرمنية
(*)
املنافذ الثقايف
154ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لعبت لكنني ُ
تبتعد ال ال ...ال ْ
حني كان هناك
كنت �أريد �أن �أبكي،
وطرحت �س�ؤ ً اال:
ماذا �أفعل بالألغام؟
«ذئب ...ذئب ...يا ذئب
�سخروا من �أمي
�أين �أنت؟»
ما كنت حم�صوراً للتبول ّ
فبان منت�شي ًا
ليتني كنت رامبو
الوجوه ال�شاحبة ي�أكل َ
واح ٌد من رفاقي
املقطـعة والأع�ضاء ّ *
*
*
�أر�سلت يل �أمي فاكهة مل �آك ْلها،
كان �أي�ض ًا يريد �أن يكون رامبو كانوا قد عر�ضوا لنا فيلمه التبول ذهب �إىل ُّ
فك�رسوا �ساقيه
هم �أكلوها و�سخروا مني
لو ح�صل يل ذلك �أنا �أي�ض ًا
�أردت �أن �أبكي،
ف�س�أعود �إىل �أمي
للتبول طلبت �إذن ًا ّ
تبتعد ال ْ
� ٍ أياد خفية �أخذت منك كل �شيء حتى �أمك،
ف�أنت تعلم ما قد يح�صل
فقد �أن�سوك لذة احللم بها.
كنت �أريد �أن �أبكي،
�أنت ت�ؤمن
لكني �أحمل �سالح ًا
�أنك ب�ساعديك ال�ضعيفني
�أخم�ص ُه ق�صري،
ت�ستطيع �أن حتمي ترابك،
ن�رشوه كي يالئم طويل
�أو ت�شرتي تراب ًا بدمك
توجد �ألغام.
�أما �أولئك الذين دفعوك �إىل اللعبة
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 155
فهم ال ي�ؤمنون
وتربد حتت الرتاب
�سوف تذهب
لكي يكون خبز الآخرين
�سوف تذهب �إىل ال�سماوات
�أكرث �سخونة
حيث �أتيت �سوف تذهب والظلمة يف عينيك ال تفهم ملاذا �أتيت �سوف تذهب بج�سم نحيل ال�صور يختزن فل�سفة دقيقة ْ ويوم ًا بعد يوم بد ًال من �إميانك �سوف حتت�ضن
�سوف تذهب لتح�رش يف حفرة �ضيقة لكي يكون مكان الآخرين �أكرث �سعة �سوف تذهب وال�شوق �إىل �أمك يف عينيك لكي تكون ابت�سامات �أمهاتهم �أكرث عر�ض ًا ول�سوف تذهب
الفراغ املميت
ومتلأ بج�سمك
�سوف تذهب
حفرة نتنة كبرية.
ترمجــة :نـزار خـلـيـلـي
املنافذ الثقايف
156ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«الوحدة االسالمية: الفهم ،املعوقات واآلفاق» غريبـي مـراد متهيد:
كل عاقل يف األمة ٌ وكل من األحبة العلامء واملفكرين واملثقفني العاملني املهتمني بأمور املسلمني كافة ومستقبل األمة ،يدرك متام اإلدراك أن موضوع "الوحدة اإلسالمية" من املواضيع ال أقول احلساسة ولكنها العظيمة يف املعنى واملبنى ألهنا أمجل تعبري واقعي عن اإلسالم إذا استطاع املسلمون حتقيقها وجتسيدها، وعىل حد تعبري حكيم اإلسالم (ع) عن معادلته الرائعة( :وما من حركة إال وأنت حمتاج فيها إىل معرفة)... بادئ ذي بدء ،الوحدة اإلسالمية كمفهوم عانت وال تزال تعاين من التهافت الفكري الفلسفي وكذا اإلعالمي والسيايس ،ناهيك عن اجلداالت البيزنطية العقيمة التي أربكت العقل اجلمعي اإلسالمي ،ليس بخصوص هذا املفهوم فقط عرب الزمن اإلسالمي كله وإنام حتى مفهوم التقريب بني املذاهب (هذا املفهوم الذي أعتربه مدخ ً ال ملفهوم الوحدة وأحد مسهالته املنهجية) هلذا نجد مفهوم الوحدة انقلب من وضوحه وواقعيته إىل
يوتوبيا يف الواقع اإلسالمي ،ألن واقعنا الثقايف مريض حتى النخاع،فبنية تصوراتنا الذهنية للوحدة ال تزال هزيلة وضيقة يف إطار الذات واجلهة ومل ترق ملستوى الرحابة االسالمية كام ترشد الرشيعة اإلسالمية إىل ذلك...
ملاذا؟ ألن رشف اإلنسان يف معادلة الكرامة الوجودية ،ال يزال ضعيفا يف واقعنا احليايت ككل،أال وهو العقل، وعليه حتديدنا للوحدة اإلسالمية يفتقر نوعا ما للتأصيل الصحيح ،ألن الوحدة التي أصلها السابقون من الصدر األول لإلسالم وحتى القرن املايض ،ال أقول كانت خاصة بزماهنم ،ولكن البعض منها بحاجة الكتشاف جديد وقراءة أوسع، فالعلم بذاته حتصييل تراكمي ،ويف تطوره واستثامره جديل موضوعي.. ال مناص من أن سؤال الوحدة اإلسالمية حسب املنطق اإلسالمي ويف األصول بلحاظ آفاق اآليات واألحاديث الرشيفة ،والعقل يدل عىل ذلك أيضا، يؤرش إىل أن األمة التي تسعى للربوز احلضاري والقوة احلضورية يف العامل،
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 157 البد أن ختلق حالة روحية وواقعية لدى أهلها تدعى "التكامل الذايت" التي تعني الوحدة .واألمة اإلسالمية ليست بدعا من األمم ،فالتاريخ يشهد عىل ذلك ،حيث اخلطاب الوحدوي كان يساير الربوز احلضاري للمسلمني ،أما عن اآليات فالقرآن مملوء بدالئل وجوب الوحدة ومنطق الوحدة وثقافة الوحدة وأهداف الوحدة وآفاقها ،لكن العجيب والغريب يف األمر أننا نتحدث عن الوحدة البنائية (أو) املوضوعية يف القرآن الكريم دون االلتفات ملفهوم الوحدة االجتامعية للمسلمني يف خزائن القرآن الكريم، ربام ذلك مرده لضيق األفق واالبتسار يف التدبر لآليات من خالل احلال املعاشة للمسلمني ،وهلذا أذكر بعض اآليات التي تربز معامل الوحدة امليدانية يف القرآن، ونرتك التوسع يف تدبر اآليات لفرص أخرى بإذن اهلل تعاىل وتوفيقه: ﴿وا ْعت َِص ُموا بِ َح ْب ِل اللهَِّ جمَ ِي ًعا َولاَ َ ِ ِ َ ْ َ ْ ُ َت َف َّر ُقوا َواذك ُُروا ن ْع َمة اللهَِّ َعل ْيك ُْم إذ كنْت ُْم ف َبينْ َ ُق ُلوبِك ُْم َف َأ ْص َب ْحت ُْم بِنِ ْع َمتِ ِه َأعْدَ ا ًء َف َأ َّل َ إِ ْخ َوانًا َو ُكنْت ُْم َعلىَ َش َفا ُح ْف َر ٍة ِم ْن الن ِ َّار للهَّ َلك ُْم آ َياتِ ِه َف َأ ْن َق َذك ُْم ِمن َْها ك ََذلِ َك ُي َبينِّ ُ ا ُ َ (آل عمران )103 َل َع َّلك ُْم تهَ ْتَدُ ون﴾ ﴿وإِ َّن ه ِذ ِه ُأم ُتكُم ُأم ًة و ِ احدَ ًة َو َأنَا َ َّ ْ َّ َ َ ِ (املؤمنون )52 َر ُّبك ُْم َفا َّت ُقون﴾ ِ ﴿والَ َتكُونُو ْا كَا َّلذي َن َت َف َّر ُقو ْا َو ْ اخ َت َل ُفو ْا َ ِ ِ (آل عمران )105 َـات﴾ اءه ُم ا ْل َب ّين ُ من َب ْعد َما َج ُ َّ ﴿إن اللهَّ حيب الذين يقاتلون يف سبيله (الصف )4 ٌ بنيان مرصوص﴾ ص ّف ًا كأهنم َـاز ُعو ْا ﴿و َأطِي ُعوا اهلل َو َر ُسو َل ُه َوالَ َتن َ َ (األنفال )46 ِ ْ ْ حيك ُْم﴾ ر ب ه َذ ت و ا َف َت ْف َش ُلو َ َ َ ُ
﴿و َأ َّن َه َذا صرِ َ اطِي ُم ْست َِقيماً َفاتَّبِ ُعو ُه َ ولاَ َتتَّبِعوا السب َل َف َت َفر َق بِكُم َعن سبِ ِيلهِ ُّ ُ ُ َ ْ ْ َ َّ َ (األنعام )153 َذلِك ُْم َو َّصاك ُْم بِ ِه َل َع َّلك ُْم َت َّت ُقون﴾ أما عن السنة ،فصحاح األحاديث اخلاصة بالعالقات بني املسلمني ،ال تعد والحتىص نذكر منها عىل سبيل املثال ال احلرص: (مثل املؤمنني يف توادهم وترامحهم وتعاطفهم مثل اجلسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر اجلسد بالسهر واحلمى ) صحيح مسلم ،ج ،4ص .1999 (عليكم باجلامعة وإياكم الفرقة ) سنن الرتمذي ،ج ،4ص .466
وكلمة أمري املؤمنني اإلمام عيل بن أيب طالب (ع)« :وخشيت إن أنا مل أنرص اإلسالم وأهله أن أرى فيه ثلام أو هدما تكون املصيبة به عيل أعظم من فوت واليتكم التي إنام هي متاع أيام قالئل يزول منها ما كان كام يزول الرساب وكام ينقشع السحاب فنهضت يف تلك األحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه(»...هنج البالغة) ،إىل ما هنالك من الروايات الكثرية التي تتضمنها كتب احلديث لدى السنة والشيعة مروية عن النبي األكرم تشري لفريضة الوحدة بني املسلمني .أما عن مفهوم الوحدة يف راهن املسلمني ،فأقل ما يقال عنه أنه ال يزال فكرة ثلة من املفكرين والعلامء املسلمني ،عرب التخطيط والعمل من أجل نزوهلا للواقع، لكي تصبح ثقافة اجتامعية وسياسية واقتصادية بني املسلمني يف العامل ،ولعل انعدام الروح الوحدوية بني األطياف اإلسالمية يف الزمن املعارص مرده لكون
املنافذ الثقايف
158ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ املسلمني أصال ال حيملون هم الوحدة بجد واجتهاد وعفة وسداد ،واهلم يعني شعور املسلم بمسؤوليته اإلصالحية النابعة من إيامنه بنقض الفوىض والتخلف والظلم من حوله وكذا التحديات الكبرية التي خترتق العامل اإلسالمي وهتدد مستقبله، ويمكننا اجلزم ،أن العقل اإلسالمي يعيش حالة استقالة إال من رحم ريب!...
ـ مدخل منهجي
ال يزال املشهد الثقايف اإلسالمي حبيس معضلة املفاهيم ،حيث األمم األخرى ال تستغرق يف هذا النفق كثريا، ألن قضية املفهوم ترتبط بمقاصد الوجود ،فأي مسمى هو ألجل التمييز والتحديد ،حيث تبقى اللغة والكتابة والتعبري وسائل لبلوغ غايات عظيمة يف وجود األمم واإلنسان حتديدا يف مضامر احلضارة واإلبداع ،بينام أمة العرب واملسلمني ،كلام ختلصت من حمنة مفهوم سقطت يف آخر ،تقام له املؤمترات وتشعل له الشموع وتشتد حوله الرصاعات ويتشتت بسببه املشتت ،هكذا أصبحنا ال نقدر عىل جتاوز معوقات تعترب ضمن ثانويات املنهج التدبريي لألمم يف بناء حضاراهتا ،لألسف ال نزال نعاين من عادة إعطاء األمور واألشخاص والوقائع فوق قدرها ،ألن التقدير عندنا معاناته مرتبطة بمسألة نظام التفكري ،حيث نستغرق يف اجلزئيات وال ننظر بعني املصلح الذي يراعي املدخالت واملخرجات ويستثمر املعطيات وحيافظ قدر اإلمكان عىل نظام املوضوع ،كي ال يزيد اخلرق عليه كام يقال
وبالتايل ضاعت القضايا واملشاريع احليوية يف املستقبل اإلسالمي يف فوىض التعامل مع املفاهيم...وهبذا الصدد كمقاربة مع رؤيتنا ملفهوم الوحدة ،حيث نحن بحاجة لفقه األولويات ،أقصد الصحة والفعالية، بحيث ال نقدم املوضوع املهم عىل األهم أو البسيط عىل املركب هذا من جهة. من خالل هذه النظرة للواقع املوجع، جاءت فكرة هذه املقالة حتت عنوان: «الوحدة االسالمية :الفهم ،املعوقات واآلفاق» حتى نؤسس لوعي اسالمي مشرتك ،وتعرف تصورات املذاهب هلذا املفهوم ،حتى ننتقل باملرشوع الوحدوي من املجاملة إىل اجلد ،ومن أضعف اإليامن إىل االجتهاد واحلركة العملية ،وأيضا تكون فعالياتنا الثقافية متابعة ومواجهة لتحديات الواقع :الطائفية والتكفري واالستكبار العاملي... ألن مفهوم الوحدة إىل اآلن لدى إنساننا املسلم يعاين من الضبابية ،وال يمكن له أن ينطلق يف الواقع ما دام وعيه متباين َا بني األطياف اإلسالمية ،الوحدة التي نعنيها تقوم عىل ثالث أركان قيمية: ـ الصدق يف التعارف واللقاء واحلوار. ـ الرمحة يف التعامل ،التسامح والتعايش بني املذاهب. ـ اإلنصاف والتعاون
ـ نحو الفهم االسرتاتيجي للوحدة
من املستهجن أن تكون أمة عمالقة مثل أمتنا اإلسالمية بكل ثرواهتا وتارخيها وقوهتا الديمغرافية وثقلها احلضاري وعظمة ثقافتها ،أمة عىل اهلامش العاملي،
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 159 وعىل حد قول الفقيه الدستوري واملفكر االسالمي املرصي د.كامل أبواملجد إهنا «أمة تُرى وال تَرى» وكل مسلم مهتم بأمور املسلمني يستشعر االستقالة العاملية خلري أمة أخرجت للناس ،ولعل األسباب معروفة عند القايص والداين من املسلمني وغريهم ،لكن النكسة املركزية والتي تنحدر منها كل اإلخفاقات هي التمزق والترشذم والنزاع التارخيي ،الذي جعلنا أمة ميتة يف التاريخ ،تابعة يف احلارض، مستقيلة عن املستقبل!!...
لقد فقدت أمتنا عرب التذبذبات التارخيية صعودا ونزوال أهم معامل يف عاملية األمم ،وهي حقيقة الوحدة عىل أساس املشرتك ،هذا العنوان الذي يعترب إدارة لسنة االختالف بام يغني األمم بألوان الطيف فيها ،وال جدال حول التنوعي الذي تتميز به أمتنا وال الغنى ّ ريب أنه كان رس الوجاهة والعظمة للحضارة اإلسالمية ،إال أن هذا كله ال يزال حمل جدال وخالف بني املسلمني بكل تنوعاهتم ،رغم كل االجتهادات العاملية لألمم األخرى التي ترى يف اإلسالم مهددا لكل أطامعها الواضحة يف إعادة إحياء االستعامر واالستدمار وما هنالك من أشكال السيطرة واالضطهاد واالستعباد للشعوب االسالمية حتى تبقى تابعة وليست قائدة كام يريد منها كتاهبا املقدس القرآن العظيم ...والريب أن أمتنا ال ينقصها يشء سوى انطالق الروحية الوحدوية من جديد ،لتستعيد نظامها وتألقها بني األمم وتسرتد دورها احلضاري يف نزع األغالل الفرعونية عن
اإلنسانية مجعاء ،هذه األمة علة استقالهلا بيد علامئها األحرار ،ألهنا أمة تستمد قوهتا من روح التقوى التي جيسدها العلامء العظام بجمع الكلمة ورص الصفوف وحقن الدماء وترشيد الناس لسبل السالم ،ومهام حاول أي عضو يف جسم هذه األمة تربير فردانيته ،فإن احلقيقة الوحيدة أن هذه األمة بحاجة لكل أبنائها وأطيافها وعقوهلا ،لقد مرت علينا الويالت عرب التاريخ كله ،ولدينا موروث رصني نابع من الكتاب والسنة يؤكد عىل أن الوحدة قلب هنضة هذه األمة ،ذلك املوروث الذي تركه العلامء واملفكرون لألجيال القادمة بعدها ،وحتى وقتنا هذا ال يزال العلامء املخلصون للحق والنبي األكرم يرفعون أقالمهم وأصواهتم للحث عىل مجع الكلمة ومواجهة العدو املرتبص بحارض ومستقبل األمة االسالمية ،خصوصا يف هذا الزمن الراهن الذي بدأت فيه الشعوب اإلسالمية تثور عىل الظلم والظالم لتشعل شموع الوحدة والنهضة والكرامة والعزة ،وما أحوجنا ملثل تلك املواقف من قبل جل القامات العلامئية يف أمتنا اإلسالمية لتقي شعوبنا الفتن والتخلف والترشذم والشتات من جديد وتعرب هبا نحو شاطئ الوعي والنباهة والتعارف والتسامح والتعايش والتعاون مع بعض من أجل بناء املستقبل االسالمي املرشق باحلق...
ـ سؤال الوحدة يف الواقع االسالمي
إن دور إحياء الوحدة االسالمية يف جمتمعاتنا ،متوقف عىل حتمل النخب
املنافذ الثقايف
160ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدينية والقومية واإلعالمية والثقافية والسياسية النزهية منها ،مسؤوليتها يف غرس قيم اإلسالم األصيلة ومواجهة اخلطط الفتنوية الطائفية وسد الثغرات التي يستغلها الكفر العاملي إلضعاف األمة بصب الزيت عىل مواقع اخلالف وتوجيه الناس نحو االستغراق يف الرصاعات ،بينام الغرب من حولنا يزداد تعاونا من أجل احلفاظ عىل مصاحله عندنا وإذاللنا أكثر... إن الغرب ما سنحت له الفرصة لذلك إال عندما تأكد من أن هناك إمكانية جديدة لتشتيتنا أكثر بعد سايس بيكو ،واملشكل ليس يف أننا شعوب وقبائل ومذاهب وأحزاب ولكن مأزق وحدتنا أننا ال نريد أن نفهم اإلسالم ،لنعيشه برحابة كام جسده النبي األكرم وكل العظامء عرب التاريخ االسالمي ،وعليه تنوعنا ضمن عنوان وحدة اإلسالم هو أساس عزة أمتنا ،ومن املنبهات القرآنية أن آيتي الوحدة وردتا يف سورتني (األنبياء )92/و(املؤمنون)52/ حيث اآلية األوىل ختمت باألمر لعبادة ربنا عزوجل واألخرى باألمر لتقوى اهلل... وعليه من مل يتحرك للوحدة اإلسالمية الكريمة لألسف مل يفهم بعد رسالة األنبياء وحقيقة العبادة يف اإلسالم وأيضا هو تائه عن منهاج املؤمنني الزاهر بالتقوى...
ـ نرصة فلسطني قلب الوحدة
مرشوع الوحدة االسالمية الذي شهد عىل طول الزمن اإلسالمي احلديث ،وال يزال يشهد انعطافات عديدة ومشكالت عميقة ،حالت دون حتقق معامله يف تفاصيل حياة املسلمني عرب العامل إال ما ندر ،يف
بعض املجاالت الضيقة التي تعترب ثانوية، بل لعل القضية الوحيدة التي حافظت عىل وحدة املسلمني هي فلسطني املحتلة ،تلك األرض املباركة التي فرضت الوحدة عىل أطياف املسلمني وجعلت حقيقة الوحدة أن نسلم بعضنا لبعض بدال من االستسالم للعدو...
ما دون ذلك ،ال تزال مؤمترات الوحدة لقاءات جماملة لدى بعض الناس أو تكتيك ًا مذهبي ًا لدى آخرين ،حتى ال نحاكم نوايا اجلميع وال نبخس أهدافها الرسالية، أما السمة الغالبة عىل غالبية املؤمترات الوحدوية أهنا أضعف االيامن حلفظ ماء الوجه أمام ضغط األمانة الرسالية عىل قيادات األمة يف جماالت الدين والسياسة والثقافة واالقتصاد واالجتامع...
وعىل الرغم من األجواء الغائمة عىل مستوى التضامن االسالمي وحقائقه ،من حوار بنّاء بني التنوعات املذهبية والثقافية وكذا برامج التواصل والتسامح واللقاء للتعاون فيام خيدم مصلحة األمة ،إال أن التفكر يف مرشوع الوحدة يبقى أساس انجالء غياهب الفرقة والنزاع والترشذم وما هنالك من عناوين ختترص يف واقع املرض الطائفي العابر للحال االسالمية بكل آفاقها وأبعادها الوجودية... بينام املتابعة الدقيقة والقراءات احلصيفة للواقع السيايس العريب واالسالمي يف عالقته مع قضية فلسطني املحتلة من شأهنا أن تكشف عن املحنة املتعاظمة التي يمر هبا العقل اإلسالمي يف رصاعه مع الكيان الصهيوين واالستكبار العاملي ،حيث سلوكيات ومسلكيات
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 161 بعض املسلمني مع القضية الفلسطينية هي املعيار املبدئي املصغر للخبال السيايس العريب واالسالمي...؟! هناك عدة صور تدل عىل اخلنوع العريب املمثل بالواقعية السياسية املزيفة، األوىل :استمرار العدوان املبارش املتعمد عىل الفلسطينيني يف القدس وغزة وهدم املساجد بالضفة الغربية من قبل املستوطنني حتت محاية من أزالم االحتالل الصهيوين ،والثانية :التسوية عىل حساب احلقوق اإلنسانية والتحرير والنرصة للقضية الفلسطينية.
ـ املعامل الذايت
االختالف يف وعي التوحيد االسالمي
مسألة الوحدة هي النواة املركزية للبناء اإلسالمي وتنبع من قلب اإلسالم/ التوحيد ،/حيث نفهم أن الوحدة إحدى جتليات التوحيد يف واقع املسلمني وانعدامها يعني ضمور هذا العنرص يف الذات اإلسالمية (إنسان ًا وجمتمع ًا) ،فمن ال يؤمن بالوحدة فتوحيده مشوه ،وبام أن التوحيد ذو عالقة بكل آفاق اإلسالم يف احلياة نجد الوحدة أيضا اآللية املثىل لصالح احلركة اإلسالمية يف احلياة ،من هنا نفهم أن أول عقبات الوحدة هو االختالف يف وعي التوحيد يف اإلسالم، والتوحيد يف العرص األول لإلسالم كان مفهوما لكن مع الزمن ودخول األمة يف هوس سيايس طائفي وجتريد احلراك اإلسالمي من أخالقياته وترشيعاته الصحيحة تعرض مفهوم التوحيد للتمويه وتم التعامل معه عىل أساس إيديولوجي
ال من خالل املعطى العقائدي اإلسالمي الرصيح يف القرآن والسنة ،وبام أن الوحدة إحدى جتليات التوحيد تعرضت بالتعدي لسوء الفهم واللغط والتشكيك ،حتى أصبح من حياول بحث الوحدة يشكك يف نواياه ويوسم بالنفاق ،ألن مفهوم التوحيد أصال لدى أولئك املتعاملني يعاين من التشوه واللغط وما هنالك من سيئات األحادية الفكرية ...هذا عن العقبة الفكرية العقائدية ،وأراها منشأ جل العقبات بخصوص مسألة أو مطلب الوحدة يف واقع املسلمني...
ـ التشدّ د املذهبي
يف ظل اهلذيان املذهبي االسالمي، هناك مأزق خطري ،يعترب نتيجة ملسبب وحيد تعاين منه العديد من القامات املذهبية والطائفية يف بناء نظرهتا لآلخر املسلم وما يستتبع ذلك من ختندق طائفي لألتباع ،عرب التعبئة للتصارع من أجل حفظ بيضة املذهب والطائفة واجلامعة واحلزب ،غافلني عن آثار ذلك عىل أمن األمة ومستقبلها ،حيث تفاعل التنوعات االسالمية يفتقر للتأصيل االسالمي ،فبدال من هتذيب التصورات بيننا كمسلمني من خالل حتديد مواطن االتفاق الرئيسية عىل مجيع الصعد املعرفية االسالمية (العقيدة والرشيعة واألخالق) ،نركز عىل نفخ الذات املذهبية يف قبال اآلخر املذهبي، مما خلق نوعا من النكوص املذهبي لدى الكنتونات املذهبية االسالمية ،فال ترى إال نفسها وحتاول جاهدة يف بناء ذاهتا من خالل استعداء اآلخر املذهبي ،وتشييد
املنافذ الثقايف
162ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هالة من القداسة املوهومة لكل تراثها املذهبي ،رافضة كل معاين التجديد واالصالح أو التنقية أو التمحيص للموروثات والرؤى املذهبية حول الذات واآلخر واحلياة والوحدة واالختالف..
أضف إىل ذلك واقع الرتبية املذهبية؛ ألنّنا لو تأ ّملنا يف ّ كل دوائرنا التعصبية الطائفية ،لرأينا أهنا جاهلية يف أساليبها، إلغائ ّية يف حركتها ،ال تربيّ أتباعها كيف تعرب عن ذواهتا ،وكيف تتفاعل مع اآلخرين؟؟ إن هذا الواقع الطائفي الكاسح لربوع العامل االسالمي ،أوجد ديانات ومهية داخل الدين االسالمي ،التحفت بعنوان ملكية احلقيقة االسالمية ،إما لتاليف اختبار الرحابة االسالمية أو لتمويه احلقائق أو لالستقواء عىل األفرقاء داخل احلال االسالمية العامة ،غري آهبة بمدى رشعية أساليبها إسالميا يف املواجهة مع املذاهب األخرى ،يف حني ملكية احلقيقة املفروض أهنا تدفع صاحبها لدعوة اآلخر أيا كان ،للقاء واحلوار والنقاش علمي ًا، من موقع متكنه املعريف وثقته بحججه وإحاطته بمعامل احلقيقة االسالمية وليس العكس ،ألن اإللغاء والتهميش واإلقصاء واالضطهاد لآلخر ،هو يف الواقع ثقافة الطغاة والفراعنة املفعمني باخلوف والقلق والشك ،هلذا كانت غالبية املذاهب االسالمية البائدة واملستمرة عرب التاريخ ارهاصات لرصاع اإلرادة بني العقل االسالمي واألهواء السياسية ...إن الواقع املذهبي ال يزال إىل يومنا هذا ـ يقيم حواجز نفسية وسدود ثقافية،
تثري العصبيات والنعرات الطائفية داخل جمال احلال االسالمية ،فاخلطاب املذهبي والسلوك املذهبي واملوقف املذهبي، تنطلق كلها يف الغالب األعم من التقسيم العنرصي ملكونات احلال االسالمية، فاملجتمعات املسلمة ينظر إليها بثقافة املذهبة (السنة ،الشيعة ،اإلباضية ...إلخ) وأحيانا تصل التقسيامت إىل مستوى النانو مذهبية ،يعني حتى داخل املذهب الفرعي داخل الطائفة الواحدة حيصل التقسيم، ألن الرهاب املذهبي الغالب عىل رواد الطائفية عرب الزمن االسالمي كله ،هو نتاج رصاع االرادة بني العقل الديني اخلالص مع اهلوى املذهبي السيايس املارد، مما جعل مرشوع الوحدة يف خماض عسري داخل احلال االسالمية... حيث نتساءل بكل شفافية ووضوح: ما مدى التزامنا بالقيم االسالمية العامة قبال هيامنا يف األوهام الطائفية؟ بل أكثر من ذلك ،يصبح املسلم املنتمي ملذهب مغاير ملذهب البعض ،غريب ًا وال جيد مكانا تأوي روحه إليه بجرأة!! يف ظل هذه العنرصية املذهبية ،جيب أن يدق ناقوس اخلطر بخصوص الثقافة الطائفية التي جعلت من املذهب املتمرد عنوان االنتامء لإلسالم واالجتهاد والتصنيف، يف حني احلقيقة االسالمية من خالل الكتاب والسنة ،مل تنطلق يف الواقع من خالل العصبيات وااللغاء والتهميش والعنرصيات القبلية والطائفية ،بل رسمت أروع لوحة للتنوع يف ظل الوحدة وجسدت أمجل صور التثاقف الفقهي والثقايف واالجتامعي عرب التاريخ البرشي
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 163 الديني ،بينام جل الرصاعات الطائفية العنرصية هي نتاج االستكبار الطائفي واهلوى السيايس والتنكر للحقائق الساطعة يف الكتاب والسنة...
ويف ذات السياق ال ننسى تلك الثلة من علامئنا األبرار من كل املذاهب االسالمية، رواد الوحدة والتسامح والتنسيق من أجل إحياء األمة االسالمية الواحدة الشاخمة بتنوعاهتا والصامدة بتعاون كل
مذاهبها ومدارسها األصولية والفقهية
والفكرية ،الذين أغنوا أصالة الوحدة يف الوعي االسالمي بالبحث والتأسيس والتثقيف ،لكن تبقى معضلة واقعنا تتحدد يف تراوح الواقع املذهبي بني العقالنية االسالمية والعنرصية الطائفية...
وبني املذهبة واألسلمة ،يف ظل االحتقان املذهبي والنكوص والرهاب، كأعراض للحال االسالمية التائهة بخصوص مرشوع الوحدة ،تثار العديد من عالمات االستفهام ،لتستزيد من دقة التفكر إلدارة أزمة الواقع املذهبي واالرتقاء إىل إجياد احللول العملية للمشاكل االسالمية التي متثل عائقا أمام وحدة املذاهب االسالمية ،كل ذلك من أجل الرقي بحاالت التعارف والتسامح والتعايش والتعاون ...ثم إن النرجسية املذهبية املتفاقمة عرب الزمن االسالمي، أدت إىل اضمحالل ظاهرة التعارف بني املذاهب وتغطية حقائق وحدة األصول وانتفاء معامل االجتهاد وحقائقه ومقاصده يف التفاعل املذهبي ... هناك رهاب مذهبي حقيقي وواقعي، فكل جهة مذهبية تسعى لإلشهار
بآرائها وتصوراهتا وفتاواها ورجاالهتا ومرجعياهتا ،حيث لكل إشهار (تصور وهدف وأسلوب) ،ولكن الغموض الذي يكتنف هذا املثلث هو الذي جعل املذاهب االسالمية خترج من العقالنية إىل العنرصية ،مما جيعلنا أمام واقع مذهبي بحاجة لفتح نوافذه عىل اهلواء الطلق االسالمي ،بدال من البقاء داخل غرف الطائفية ،التي تفقد العقل الديني تركيزه وجتعل القامات املذهبية تستغرق يف اهلوى املذهبي الضيق...
ـ الطائفية :املفهوم واحلصاد
إن الطائفية عنوان تطالعنا به الصحف والفضائيات والكتب واألفالم واملرسحيات وصفحات النت ،وكل ما هنالك من وسائل اإلعالم والثقافة واالتصال ،إن هذا املصطلح أخذ مدى بعيد ًا وعميق ًا جدا يف جغرافيتنا العربية واإلسالمية حتى اكتسب احلصانة القومية والقداسة الدينية ،فأصبح تداول مقوماته يف أوساطنا أكثر من حمددات األخوة القومية واإلسالمية اجلامعة لكل املتنوع الشعبي والقبيل ،هذا الواقع مل يأت من فراغ طبعا فهناك مسببات ومسهالت وأجندات دقيقة تتعلق بموضوع الطائفية، وإال لكانت جمتمعاتنا األكثر متدنا وتعايشا وتساحما وإنسانية من غريها بالرجوع خلصائص االجتامع اإلسالمي.
ال مناص أن احلديث حول الطائفية هو بالعمق ليس حديث االجرتار للهم االجتامعي والسيايس والغبن الثقايف يف تفاصيل احلياة العربية واإلسالمية
املنافذ الثقايف
164ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ املعارصة ،وإنام هو حديث غرضه التفكري يف تنمية شبكة العالقات العامة بني مكونات ظاهرة الطائفية والتي تتمثل يف الطوائف املتغايرة واملتوجس بعضها من بعض داخل املجال اجلغرايف والسيايس واالجتامعي واالقتصادي الواحد وحتى الديني ،وهذه التنمية التي نستهدفها صورهتا الشاملة "األمة" وحركتها املبتغاة "التعايش" ،يعني ملاذا نتحدث عن الطائفية من خالل التفكري الرجعي الضيق وهل الطائفية كظاهرة إنسانية وجدت لغاية االصطفاف أم ألمر آخر؟ هذه أسئلة أساسية وحمورية يف مرشوع وعي مفهوم الطائفية ،ولعل من مسببات شيوع التفكري الرجعي يف الطائفية أكثر من التفكري االسرتاتيجي هو معضلة عقدة القابلية للجمود يف داخل العنرص الطائفي ،حيث الطائفة التي تعمل عىل فتح جماالهتا عىل اهلواء الطلق تعترب بمرتبة أسمى وأكثر حضارية يف وعي ماهية الطائفية يف عمقها الوجودي أما العكس فيرتتب عىل ارهتاهنا لعقدة اجلمود، عدوانية عنرصها البرشي واضمحالل مقدراهتا اإلنسانية لدرجة االنتقام الطائفي النابع من خمزون االكتئاب داخل الطائفة اجلامدة وتراكم حاالت التعصب من جراء التخمر وانعدام التهوية الفكرية والثقافية واإلنسانية ،وهذه املقاربة ملفهوم الطائفية يف شقيه اجلامد واحلركي ،يمكن وعي تفاصيلها بالعودة لنظرية الثقافة عند املفكر مالك بن نبي وحتديدا عامل األفكار يف العامل االسالمي وثقافة التعايش ،بصيغة مبسطة هناك سقوط اجتامعي حاصل لدى
الطائفة التي حتجب طائفيتها عن احلاالت الطائفية األخرى القريبة واملتداخلة معها يف العديد من جماالت احلياة...
فالطائفية سلعة رائجة هذه األيام، هناك من يعرب عنها يف سياق خطاباته االنفعالية وآخر يوظفها يف طبخاته املصلحية والباقي جيسدها أكمل جتسيد عرب العجب املذهبي والبهرجة االعالمية والفوىض السياسية ،حيث ال أحد يقبل أن يوصف هبا إال أولئك الذين بال نرياهنا ال تأثري هلم (سياسيا أو اعالميا أو مذهبيا)...
الطائفية يف تعريفها البسيط ،هي الكذب عىل الذات واجلامعة عرب ارباك الواقع باملتناقضات بام حيقق التأزيم اهلادف لفرض العصبية ،والطائفية هي نتاج بروز حالة التهاب بالعقل اجلمعي العام، وخطورهتا ملا ترتبط بالسياسة والدين، ودعائمها األساسية هي االستبداد بشكل عام يف شتى جماالت احلياة ،وكلام دققنا يف حيثياهتا الفنية والعملية ،وجدناها أفيون الشعوب ،ألهنا تفسد العقل اجلمعي فال يلتفت إىل السبل واملناهج واألدوات احلضارية العادلة للوصول لالستقرار السيايس واالجتامعي ،والطائفية ال يمكنها أن تعيش يف واقع قائم عىل ثقافة احلوار والتعارف والتسامح والتعايش والتعاون والتشاور والتواصل والوحدة وما هنالك من قيم التمدن والتحرض، لذلك من مؤرشات تفيش الطائفية يف أي جمتمع ،أن جتد بعض أفراده ال يستحون من رضب االعراف واألخالق والقيم االجتامعية ،عرب الرتويج للعصبيات اجلاهلية وتضخيم املشاكل والتشكيك يف
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 165 النوايا والتعامل عىل أساس االنتامءات الذاتية واحلزبية واجلهوية...هذا من جهة.
ومن جهة أخرى ،نكتشف الطائفية ككذب يف بعدها الواقعي ،حيث ما بني السياسة الرشعية واألحكام السلطانية، بون شاسع كالذي بني املرشق واملغرب، وحديث السياسة الرشعية هذه األيام نراه متكاثر باإلعالم بجل أشكاله وبخاصة باملنابر الدينية ،ألن األحكام السلطانية التهمت كل احلقيقة وجعلت الضحية جالدا وخائنا وعميال ...وخطورة الكذب ليست كونه كذب فقط ولكن عندما ال يتوب عنه صاحبه ويتامدى يف نسج األكاذيب وتلفيق التهم وطرز املؤامرات ،يف هذه احلال يتعاظم األمر ويصبح هذا الكذاب مريضا نفسيا لدرجة اإلجرام ،ألن الكذب قد سيطر عىل كل كيانه فدخل مرتبة الشيطنة يصدق باحلقيقة بامتياز ،حيث ال يمكنه أن ْ ألن الكذب صار يف وعيه صدقا!... ثم حتى لو حاول الصدق َّ كذبه عود الناس الكذب فال ُينتظر الناس ،كونه ّ منه الصدق أبدا... هذا عىل املستوى الفردي ونفس املعطى نلحظه يف االجتامع السيايس ابتداءا من السيايس املحتال والنائب اخلداع واحلاكم املراوغ وصوال إىل النظام السيايس ككل ،ومن هنا تولد األحكام السلطانية ،يعني حسب طبيعة النظام إما مزيفة أو حقيقية ،بينام السياسة الرشعية فهي التأسيس النظري للحكم السيايس يف املجتمع الديني (بحسب رشيعة هذا الدين) لكن هذا التعبري عرف بأدبيات التاريخ السيايس اإلسالمي ،وغاية
املطلوب أن نخلص السياسة الرشعية من استثامرات األحكام السلطانية...
إذن الطائفية هي من منتجات األحكام السلطانية وليست من السياسة الرشعية، حيث احلالل بني واحلرام بني ،وكل من يتعرض لثورات الشعوب بالتحليل الطائفي يصنف ضمن كتاب الزيت كام اسامهم الشاعر أمحد مطر أو علامء السلطان وإعالميو البالط وما أكثرهم هذه األيام حيث يتسابق الليرباليون املتدينون(!!) لتزيني الصحف والفضائيات بكذبات النجوم واألهلة... والطائفية هي الدجل اإلعالمي والتنكيل السلطاين بالشعوب حتت مسمى الواجب الرشعي جتاه املذهب ومحايته، والرشيعة السمحة براء من الطائفية املقيتة، ألن السيناريو املعد هلا قديم جدا ،راهن عليه األغبياء ونكصوا ،أما مساحيق الكذب فلن تنفع يف متريره وتربيره ،ومهام حاول القائمون عليه بالبورصة واإلعالم والفتوى ،فإنه حمكوم عليه بالفشل ،ألن القرار اإلهلي حاسم وليس بعد احلق إال الضالل...
من لألسف كل ما نشهده الربوتوكوالت والتحليالت والقراءات والسجاالت حول الوحدة بعقلية الطائفية ،هي يف العمق ال تساوي شيئا سوى نكوص جديد وخطري يمر به العامل اإلسالمي بكل مكوناته املرممة ،مما جعل اإلنسان املسلم يف وسط سيناريو رهيب ومربمج بمؤامرة حمبوكة بدقة عالية ،وتيار هذا التحدي املامثل ألفالم هوليود ،خلط األوراق كلها بمسمى "الفوىض اخلالقة"،
املنافذ الثقايف
166ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعدما أفرغت األجيال من عناوين األصالة اإلسالمية ،بمباركة من األنظمة املتوجسة عىل عروشها وغفلة من جمتمعات بأسها بينها شديد ضمن الفتات القبيلة واملذهب والدين واحلزب ،لدرجة أصبحت مباراة بطوالت كرة القدم األوروبية أو العاملية تستقطب ماليني الشباب والشابات املفتونني بالعب أرجنتيني أو فنان(/ة) تركي(/ة) أو مطرب(/ة)!!!... ترى هل مشكلتنا سياسية فقط أم هي يف العمق استقالة اجتامعية من الواجب الديني احلر ؟
املأزق السيايس هو صورة هلشاشة ثقافية يف عظام اجتامعنا االسالمي العام ليس السيايس فقط بالعكس مفهوم املدنية الذي وظفناه سلبيا سمح للسياسة أن حيركها املصلحي واملنافق وما هنالك من الظاملني ألنفسهم ولألمة واألجيال الصاعدة ،كام فرطنا يف املنرب النبوي أن يصعد وخيطب عليه من هب ودب ممن ال يتقي اهلل يف األمة ووحدهتا فيدخل للجنة أو النار من يشاء عىل شاكلة صكوك الغفران لكن بأسلوب التمويه املذهبي، وانتهينا إىل صناعة التباغض املذهبي يف أحشاء شعوبنا بدال عن التعارف املذهبي، حتى صارت الدعوة للتعايش والتسامح واجب إثباهتا بينام الطائفية فهي العرف السائد!!!... فام نراه يف البحرين وليبيا وسوريا واليمن ومرص وتونس وبالسودان ويف
لبنان كالعادة ،ما هو إال حصاد مواسم من الطائفية بكل أشكاهلا املذهبية والدينية واالثنية...التي أهلكت الزرع والنسل، وال نزال نتجادل ونتبادل التهم والتكفري والتهجري والتنكيل والتهميش بينام من لن يرىض عنا حتى نتبع ملته ،يتفنن يف التكتل والتخطيط والتنظيم والرتشيد ملجتمعاته ويزداد تركيزا لثقافات التعايش واحلوار والتسامح والتواصل والتكافل والتعاون...ألسنا أحق باالستقامة من غرينا ،ويبقى خري اهلدي هدي اهلل أحكم احلاكمني﴿ :إِ َّن ا َّل ِذي َن َقا ُلو ْا َر ُّبنَا اللهَُّ اس َت َقا ُمو ْا َف َ ف َع َل ْي ِه ْم َوالَ ُه ْم ال َخ ْو ٌ ُث َّم ْ (األحقاف)13: يحَ ْ َزن َ ﴿و َأ َّل ِو ُون﴾ وقوله تعاىلَ : ِ َاهم َّمآ ًء اس َت َقا ُمو ْا َعلىَ ال َّط ِري َقة ألَ ْس َق ْين ُ ْ (اجلن)16: . َغدَ قا﴾ الطائفية يف واقعنا االسالمي مفهوم يتحرك يف فوىض الثقافة ،لذلك مل يتمكن من االرتقاء إىل ظاهرة التعايش أو العيش املشرتك القائم عىل روح األمة الواحدة وثقافة األخوة والتسامح ،نأمل أن يتم وعي الطائفية من خالل االطراد الفكري والعميل للجمود ثم استثامر املخزون الطائفي بعد تنقيته يف بناء رصح الوحدة اإلسالمية... التكفري وانفجار اهلوية(:)1
بني الفينة واألخرى تطلع علينا بعض النكرات العلمية والفكرية والسياسية عرب اإلعالم لتنفث سموم التعصب والتكفري والالتسامح بني أطياف األمة اإلسالمية،
( )1كثري من الباحثني الغربيني الذين راقبوا تفجر الرصاعات القومية واملذهبية بعد تفكك االحتاد السوفيتي عام ،1991مالوا اىل تفسريها كتعبري عام وصفوه بانفجار اهلوية.
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 167 متوسلة بأرقى تقنيات ومنظومات احلداثة وأهبى نتاجات الرتاث الديمقراطي الليبريايل ،لكن كل ذلك يف شقه السلبي والالأخالقي ،حيث تبنيها للديمقراطية ليس مبدئي ًا ولكنه برغاميت ألجل التعطيل والتأزيم والنفعية...
فالتكفري كمفهوم هو مأزق خطري إذا حل بأي جمتمع فيعني أن ثقافة اجلاهلية الحقة به ،وهذا يعني أن االستقرار السيايس واالجتامعي مهدد ،واألخطر من هذا كله أن يلج التكفري حتت غطاء الديمقراطية ليغدر هبا يف الطريق ويعلن ملكيته احلقيقة املطلقة ثم يصبح املجتمع حتت رمحة الديكتاتورية الطائفية التي حتتمي بني السياسة والدين...
واحلديث عن التكفري يدفعنا للتساؤل: هل لدينا أزمة هوية أم ماذا؟؟ الوقائع واألحداث املتالحقة يف حياتنا اليومية بخصوص العالقات واملعامالت وما هنالك من حتديات داخلية ،تعرب عن أزمة هوية حقيقية لدى إنساننا وبخاصة لدى نخبنا الثقافية والسياسية والدينية، فحضور الرصاعات التي يرفضها الرشع اإلسالمي احلنيف واحلس املدين ومبنى التطلع التنموي كلها دليل دامغ عىل هذه األزمة... وأزمة اهلوية تظهر وتتبلور عندما يصبح اخلطاب السيايس والطائفي االثني والديني واالجتامعي لبني األمة الواحدة ،هو خطاب تعبوي طائفي جيعل اهلوية ضبابية الوعي وأول ضحية من ضحايا رصاع اإلرادات السياسية واملذهبية ،ولعل الدليل األكرب أن هناك
أزمة هوية لدى غالبية الرموز والقيادات يف املجال السيايس والديني الطائفي ،هو اخللل املنهجي يف التوفيق بني التوظيف الديمقراطي للرمزية الذاتية عرب حق االختالف ،فاملعضلة الكربى يف رصاع اإلرادات السياسية والطائفية ضمن جمال اجتامعي عام متعاقد عىل الديمقراطية كإطار لتعايش الرموز مع احلرية ،يتمثل يف تعبري اخلصوصية السياسية والدينية املذهبية عن آرائها وانتقاداهتا عرب قناة التطرف وبخطاب التكفري!!... هناك هواجس وظيفية يف جمال الثقافة السياسية والدينية اإلسالمية ،انبثقت من أزمة الرتاث وسلطة التطرف بدال عن احلوار والشورى ،مما أنتج تشوهات يف اهلوية اتسعت وجتذرت عرب الطائفية املتوسلة بالتكفري والناشطة بني السياسة والدين واملتوسلة بتكنولوجيات اإلعالم احلديثة... هذه األزمة أو هذا املأزق املتعلق باهلوية يف نظري فكري معريف النشأة وتتجىل آثاره يف مفهوم التكفري وخطاباته التي تطعن كل اإلمكانات الواقعية العملية لبناء أشكال من التكامل والتشاور والتسامح والتعايش ،وعىل هذا األساس نفهم أن هذه األزمة هي يف العمق أزمة مفهوم الرتكيب بني اخلصوصية والوحدة يف احلراك الوجودي للفرد أو اجلامعة... واحلديث عن أزمة هوية ليس بالرضورة حديث عن هناية االنتامء، بل هو دعوة إلدارة األزمة عرب تناول املكونات واملرتكزات بالبحث والتوظيف احلضاري ،ألن اهلوية هي أول عنوان
املنافذ الثقايف
168ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نتحسسه عند الشعور بأن هناك خطر ًا حمدق ًا بمصرينا ،واليوم لألسف هناك جهات وطوائف عدة تئن من أزمة اهلوية بشكل هستريي ،ومغزى ذلك كله أهنا هترب نحو خداع الذات اخلصوصية بخلق عدو ومهي حتى ال تواجه العدو احلقيقي الذي هيدد هويتها اإلسالمية أال وهو االستكبار العاملي... وعليه فإن سؤال اهلوية من خالل أزمتها النابعة من ثقافة التكفري املستكربة، تتم اإلجابة عليه وفق معادلة حيرض فيها الرتاث والتجديد واملستقبل وكل تيارات األمة اإلسالمية بكل تنوعاهتا ،ألن العوملة الثقافية اآلن ال تفرق بني سني وشيعي أو عريب وتركي وإيراين ،حيث اهلروب منها ال يعني اخلالص بل هو صميم االستعباد االمربيايل ،ألن الرصاعات داخل اهلوية الواحدة يفشلها وجيعلها أضعف أمام التحديات االستكبارية الراهنة والقادمة. ثقافة التقديس وتوظيفها الطائفي:
ال مناص أنه من بني مسببات الرجعية والتخلف واجلمود عن الوحدة االسالمية بجل أبعادها ،ظاهرة التقديس يف فضاءات الثقافة والدين والسياسة واالجتامع، بالرغم من أن هذا املفهوم بينّ واضح يف لغتنا العربية وثقافتنا اإلسالمية ،ولكن الرتاكم التارخيي وجتذر التقليد والتقوقع من جهة ،باإلضافة لشيوع ثقافة التعميم التي تنتج التعصب يف شبكاتنا االجتامعية والسياسية ،ناهيك عن اجلهل واالستبداد واالستغراق السلبي يف املايض مع تضييع احلارض ودمار املستقبل... هكذا مع انتشار ظاهرة التقديس يف
جمتمعاتنا بشكل غري موضوعي وال علمي حصيف ،نتج يف املقابل مفهوم التدنيس، بحيث حدث انقالب يف حياتنا ،متظهر يف صور تقديس غري املقدس ،مما شوش الوعي اإلسالمي!...
مسألة املقدس أو املدنس من املسائل التي تتداول يف التعقيدات الفلسفية والكالمية الدينية ،ولعل هذه املسألة ليست من املمنوعات ولكنها ككل املسائل العالقة بحاجة الشتغال علمي معريف ومالمستها بمنهج نقدي متكامل، يغني الوعي الديني يف البعدين االجتامعي والسيايس ملفهوم القداسة الصحيح، ويكشف عن التمويه الذي طال صور املقدس وجعلها من عائلة املدنس ،ال أطمح من هذه السطور التنكر ملبدأ املقدس يف حياة املسلمني ولكن االستثامر الكمي والكيفي للمقدس يف حتصيل مبتغيات األهواء غري الرشعية ،فهذا ما يتعارض مع وعينا اإلسالمي الذي يلتقي باملقدس وفق عقيدة التوحيد ،أي منشؤه من اهلل، وتقديس غري اهلل ،هو بمقدار قرب هذا اآلخر من اهلل وليس مزاجيا واعتباطيا، واإلنسان الذي نعطيه القداسة فبدرجة املؤهالت املتفق عليها عقلي ًا واملحصلة لديه ،أما األزمنة واألمكنة فذاك بحسب ما احتوته من معنى روحي يعطي لإلنسان نباهة بمسؤوليته الوجودية احلضارية... ليس احلديث عن ثقافة التقديس عامة يف جل أبعادها ،وإنام إرهاصة بخصوص ثقافة التقديس البعيدة عن روح الرشيعة ودعامة العقل من جهة ،واملستغرقة يف املصالح واألهواء ورصاع اإلرادات من
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 169 جهة أخرى ،والتي تضيع يف ظلها احلقيقة واملوضوعية فكريا وثقافيا ،ويعطل بسببها التسامح والتعايش والتعاون اجتامعيا وسياسيا ...إن ثقافة التقديس تصبح مهدِّ َدة حلارض ومستقبل املجتمعات اإلسالمية، عندما تتحكم يف العقل السيايس ،بحيث ينحرس االشتغال السيايس يف تسجيل النقاط بني املتفاعلني سياسيا ،وملا يبدأ العقل يبتكر يف املقدسات واصطناع املدنسات ،وتتطور الظاهرة لتنزل لدى أتباع التيارات السياسية ،وتتشابك خيوط األزمة السياسية من خالل وهم قداسة الرؤية لدى السياسيني ،وتضيع قضايا
األمة من مواطنة وتنمية يف وسط سجال نابع من ثقافة التقديس املزاجية ،التي ال
حصاد منها سوى العجب الطائفي واحلقد
التعصبي والفتنة والتخلف عن ركب التمدن والتحرض ...ثم إن ثقافة التقديس
االعتباطي وتوظيفها سياسيا لفرض اآلراء واملواقف واملشاريع واألشخاص،
يشكل تالعبا بمصالح الناس ومستقبل األمة ووحدهتا وهنضتها ،مما يربز حاجة
أمتنا لتحديد املقدس يف مشوار التطلع احلضاري...
وللبحث تتمة يف العدد القادم
غريبـي مـراد
املنافذ الثقايف
170ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اإلســالم والغـــرب صراع أم حوار علـي أيـوب مقدمة:
بدأت عالقة اإلسالم بالغرب منذ زمن بعيد ،وألسباب عديدة أمهها :حالة اجلوار التارخيية واجلغرافية بينهام ،لقد كان البحر املتوسط تارخي ًا وجغرافية بني الرشق والغرب ،واستطاع الرشق بعد امتطاء البحر نقل معجزات الرشق إىل الغرب ،لقد نقلوا احلرف والصنعة والوعي ،فكان الرشق بجدارة منذ فجر التاريخ أستاذ ًا للغرب .لقد كان البحر األبيض قناة ورشيان ًا لنقل نور الرشق إىل ظلموت الغرب ،ولقد كانت األندلس كتاب الرشق يف الغرب ،لقد كان الفتح العسكري العريب اإلسالمي لألندلس أقل آثار الفتوحات ،فالفتح األكرب كان فتح ًا معرفي ًا بشهادة الغربيني أنفسهم .لقد كان هذا الفتح سنة سبع مئة وإحدى عرشة للميالد .نقول الفتح العريب لألندلس وليس الغزو ،ألن وجود العرب هناك كان بمثابة إشعال الضوء يف أنفاق مظلمة. ثم تلت مرحلة ضعف الدولة اإلسالمية ،وأصبحت هذه البالد عرضة للغزو األورويب الغريب ،املتمثل باحلروب التي كان أوهلا احلمالت الصليبية،
وصوالً إىل االستعامر الغريب ملعظم البالد اإلسالمية ،وذلك بعد احلرب العاملية األوىل .واجلدير بالذكر هنا أن االستعامر الغريب كان اهلدف منه إلغاء الشخصية العربية املسلمة ،وحتويلها تبع ًا له خلدمة اسرتاتيجيته االقتصادية ،والتي ال يمكن إنجاز مرشوعها إال بتدمري الروح العربية املسلمة وسلبها كل قدراهتا املقاومة املعتزة برتاثها اإلنساين اخلصب ،ولكن اخلطط الغربية االستعامرية حاولت التقدم بأساليب ناعمة أحيان ًا كثرية كالسم يف الدسم .فحملة نابليون بونابرت والتي محلت معها العلامء واملطبعة كانت هتدف إىل إقناع الرشق املسلم بضمور حضارته ورضورة استبداهلا باحلضارة األوروبية اجلديدة ،لقد كانت محلة ذكية هادفة.
الدخول العريب املسلم إىل إسبانيا مل هيدف إىل إلغاء اآلخر بل نمـّى وعيه وتثاقف معه .ورغم كل هذا الرصاع التارخيي ما بني اإلسالم والغرب ،ورغم خروج العرب من إسبانيا فقد ظلت آثار املعرفة الرشقية واضحة املعامل يف هنضة الفكر األورويب الذي كانت هنضته والدة مرشقية ،فابن رشد كان صاحب املنهج العقيل الذي استند إليه العقل األورويب يف
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 171 النهوض من سباته املزمن ،وابن خلدون كانت نظريته يف احلكم والعمران من أسس النهضة األوروبية ،ويف األدب كان التأثري املرشقي واسع ًا يف النتاج األديب والفكري يف الغرب ،فالكوميديا اإلهلية لدانتي هي يف حقيقتها استلهام من رسالة الغفران أليب العالء املعري .وكل النتاج املعريف الغريب يعرتف بالفيوضات املعرفية التي هنلها من ينابيع الرشق الغزيرة العطاء. ومل ُ خيل العامل اإلسالمي من تأثريات احلضارة الغربية رغم كل آثامها ،فقد نشطت اإلرساليات التبرشية ومحلت للرشق معرفة ،كان الرشق من مصدرهيا عىل مبدأ "هذه بضاعتنا ردت إلينا" ،لقد نشطت اإلرساليات التبشريية وبخاصة يف مرحلة احلكم العثامين ،والتزال قائمة اىل يومنا هذا .ولكن تدهور العالقة ما بني العامل اإلسالمي والعامل الغريب ازداد يف تارخينا املعارص ،وسبب هذا التدهور هو اجلشع الغريب لنهب بالدنا واملوقف املرتاب من الفكر املرشقي الذي يأبى اخلضوع واالنقالب عىل تراثه الويضء ،وكانت البالد العربية ذات الرتبية اإلسالمية اإلنسانية املحتوى ،قد حورصت عرب االستعامر العثامين الذي دام أكثر من أربعة قرون عجاف.
.Iاإلسالم والغرب بني احلوار والرصاع إشكالية املصطلح:
«دخل مصطلح اإلسالم والغرب قاموس السياسة األوروبية منذ عقدين من الزمن تقريب ًا .وتزامن ظهوره مع العديد من التسميات واملصطلحات ،التي برزت
من خالل العقود األخرية :كاإلسالم السيايس ،األصولية اإلسالمية ،اإلرهاب اإلسالمي ،والسلفية اجلهادية ...وغريها من التعابري اللغوية التي تشري إىل ظاهرة اإلسالم املعارص بحسب املفهوم الغريب له .فاملصطلح رغم أنه يتضمن اجلمع بني شيئني غري قابلني للمقارنة ،الختالف طبيعة كل منهام ّ ظل لصيق ًا بالفكر الغريب الذي اعترب اإلسالم مساوي ًا لإلرهاب، وكان هذا مقصود ًا كسالح غريب مادي ضد روحانية الرشق كلها وألقها املتناقض مع مادية احلضارة الغربية ،فاإلسالم دين اهلي ونظام حياة حيوي قي ًام حمددة ومستقرة ،ومفاهيم حضارية تتطور مع الزمن ،ويتجاوز احلدود اجلغرافية ،تعتنقه شعوب خمتلفة وإثنيات متعددة ،جتمع كل ()1 معتنقيه "الثقافة اإلسالمية املوحدة». «بينام لفظة الغرب تعني جمتمعات إنسانية ذات ثقافة م ّعينة متغرية ومتحركة، تعيش هذه املجتمعات يف أقاليم جغرافية معروفة ،وال يشكّل الدين املسيحي اهلوية احلضارية لتلك املجتمعات .فالغرب اآلن ليس مرادف ًا للمسيحية ،وال املسيحية تعني الغرب ،فاملسيحية دين قادم من الرشق، وحيمل مالمح الثقافة الرشقية ،واإلسالم حفظ املسيحية يف موطنها ،وتعامل املسلمون معها بمنأى عن الغرب ،وهي أقرب اليهم من الكيان الغريب القومي ()2 العلامين الالديني». «فالتشكيل احلضاري اإلسالمي جماور للتشكيل احلضاري الغريب (املسيحي) .وعرب التاريخ كان اتساع رقعة العامل اإلسالمي يتم عىل حساب التشكيل احلضاري الغريب
املنافذ الثقايف
172ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ املسيحي والعكس صحيح .ويالحظ تشابه العقيدتني اإلسالمية واملسيحية يف كثري من الوجوه .ولكن املفارقات أن نقاط التشابه هذه قد تشكّل مصدر توتر ،ألن البعض يف العامل الغريب جيد صعوبة يف تصنيف اإلسالم كعقيدة مستقلة هلا رؤيتها املستقلة للكون، ويصنّفه عىل أنّه جمرد هرطقة مسيحية وانحراف عن اجلوهر الديني الصحيح أي املسيحية ،ويفعل بعض املسلمني اليشء نفسه ،إذ يصنّفون اإلنجيل عىل أنه كتاب حمرف ،وأن اإلسالم هو الدين مقدس ّ ()3 الصحيح«. وخيتزن مصطلح اإلسالم والغرب، العديد من القضايا التي جيدوهلا املجتمع واحلكومات الغربية ضمن أجندته يف رؤيته ومعاجلاته لشؤون املسلمني العامة ،مثل ذوبان أو اندماج اجلاليات املسلمة املتزايدة ،وتفاقم التمييز الديني والعنرصي ،والتباين الثقايف والقيمي، واملوقف من حركات اإلسالم السيايس يف الرشق ،وامتداداهتا يف البلدان الغربية.
وربام هدف واضعو املصطلح إىل اإلشارة حلركة اإلسالم وتأثريه يف البالد الغربية ،أو عالقة الغرب بالعامل اإلسالمي حكومات وشعوب ًا وحركات إسالمية، ومؤسسات املجتمع املدين اآلخذة يف التطور. «فهذا املفهوم وهبذه الصورة ،يؤجج مشاعر احليطة والتوجس عند الغربيني، بأن اخلطر القادم إنام هو اإلسالم ومعتنقوه املسلمون .كام راج وتعزز بعد هجامت احلادي عرشمن أيلول ،ضمن سياسة تبناها بعض الغربيني ،تستهدف إقناع
جمتمعهم بوجود تناقض مع اإلسالم، وتتمثل يف تبشيع اإلسالم ،وتصويره كمصدر للرشور وكهادم للحضارة الغربية .ويؤدي تشويه اإلسالم إىل عزل اجلاليات املسلمة يف الغرب ويدفع هبذه األقليات أن تعيش يف "غيتو" منعزلة عن ويكرس اخلوف املجتمعات احلاضنة هلا ّ من اإلسالم .وتصنع هذه الرؤية قوى إسالمية متشددة ،تستغل مناخات احلرية وحسنات الليربالية ،لالنتظام يف قوى ()4 معادية للغرب». إذ ًا فمصطلح اإلسالم والغرب، مصطلح متطور عرب مراحل التاريخ ومطاطي حيتمل عدة تفسريات ونظريات متعاكسة مابني التفسري الغريب لإلسالم، والتفسري اإلسالمي للغرب ،مما جيعلنا ندخل يف حلقة مفرغة ،تفرض أحيان ًا رصاع ًا وأحيان ًا أخرى حوار ًا .ويظل هاجس الغرب السيطرة عىل خريات بالدنا وتشويه حضارتنا املتنكرة ملادية التفكري الغريب يف كل يشء.
.IIاإلسالم والغرب
الصورة والعالقات واألزمات الراهنة أ) صورة العالقة ما بني اإلسالم والغرب «تبدي الندوات واملؤمترات والبحوث يف موضوع العالقة ما بني الغرب والعامل اإلسالمي تشعبات كثرية ،وخمتلفة يف تفسري هذه العالقة،مثل العداء بني الرشق والغرب ،والشامل واجلنوب،والتناقضات األساسية والثقافية "صدام احلضارات" هو تفسري يضع العامل اإلسالمي والغرب
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 173 قطبني متعارضني و متناقضني عىل الدوام، وهيمل احلقيقة الثابتة األساسية التي تقول إن الثقافات واملجتمعات ليست كيانات ثابتة ودائمة ،ولكنها يف حالة تغري دائم، كام يتجاهل اخللط واملزج الذي جيري بني ()5 الثقافات». «فالغرب مل يعد عامل ًا مقترص ًا عىل األوروبيني والرتاث املسيحي ،فيوجد يف الغرب اليوم عرشات املاليني من املسلمني الذين حيملون جنسيات دول الغرب، واستوعبوا نمط احلياة الغربية،وكان هلم أيض ًا تأثريهم عىل املجتمعات الغربية،فقد أصبحت تقاليدهم وفنوهنم من العنارص الثقافية يف احلياة اليومية الغربية .وكان العامل اإلسالمي مه ًام يف حفظ واستيعاب الرتاث اليوناين الفلسفي واحلضاري، باإلضافة إىل علومهم وحضارهتم التي أبدعوها ،وكانت مدخ ً ال أساسي ًا يف النهضة األوروبية املعارصة ،ويف املقابل أيض ًا مل يعد ثمة جمتمع إسالمي خيلو من املؤمترات الغربية ،وقد أ ّدت وسائل االتصال احلديثة إىل دخول التأثري الغريب إىل املجتمعات ()6 اإلسالمية ،وحتى املحافظة منها». ب) االزمات الراهنة ّ إن مأزق احلضارية الغربية مع اإلسالم يف الوقت الراهن ،بني عىل سياسات عدائية ،وكان لإلدارة األمركية السبق يف رسم خطوطها العريضة ،ولكن اخلالف ال يتمثل يف اختالف القيم الدينية بني حضارتني متباينتني (اإلسالم واملسيحية)، إنام اخلالف األسايس يدور حول املشاكل السياسية يف العاملني العريب واإلسالمي، والتي صنع جزء منها االستعامر الغريب (بناء
الكيان الصهيوين عىل أرض فلسطني). واجلزء اآلخر يتحمله الفشل الذريع للمشاريع السياسية للدول العربية ،وعىل أثر هذين العاملني برز اإلسالم السيايس، ليس بوصفه احتجاج ًا ضدّ األوضاع القائمة يف الوطن العريب فقط ،وإنام بوصفه خطاب ًا يامرس السياسة من خالل العودة إىل الق ّيم الدينية الشعبية ،التي هي من صميم احلياة اليومية عند الناس.
"صموئيل احلضارات فصدام هنتنغتون" الذي راج بقوة بعد أحداث احلادي عرش من أيلول ،وقبله مصطلح االستبداد الرشقي ،واألصولية اإلسالمية، ترسخت وال زالت كلها تؤكد عىل حقيقة ّ يف الذهنية الثقافية الغربية أال وهي أن اإلسالم متخلف يف بنيته األصولية ،فهذا عىل سبيل املثال دانييل بايبس يصل إىل قناعة بأن اإلسالم كله أصويل ومتطرف. وهذا ما يشكل إشكالية كربى تشوب العالقة مابني الغرب واإلسالم. وتنطوي النظرة الغربية للعامل اإلسالمي عىل تعميم غري منصف، وحتول وسائل إعالمه إىل تصورات نمطية ّ وحتيزات ضارة ،وهو األمر الذي يؤجج املشاعر العنرصية والعدائية نحو كل من ينتمون إىل العامل اإلسالمي دون متييز بني من يعتمدون أسلوب العنف ،وبني من يعانون من عواقبه عىل املستوى املحيل. وبذلك فإن األزمات املتعاقبة ما بني العامل اإلسالمي والغرب ليست جديدة، فهي مستمرة عىل امتداد التاريخ ،ولكن ما زاد من حدهتا يف عرصنا الراهن هو التقنيات احلديثة املستخدمة يف اإلتصال،
املنافذ الثقايف
174ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأبرزها اإلنرتنت مما سهل وصول األخبار إىل العامة (املسلمة والغربية) ،مما زاد من تأجيج اخلالف ما بني هاتني احلضارتني.
.IIIاإلسالم والغرب
معيقات احلوار
«أمجعت ّ جل النقاشات التي جرت داخل اجلمعية العامة لألمم املتحدة منذ سنة 1998إىل حدود سنة ،2001بصدد احلضارات اإلنسانية ،عىل إجيابية التنوع الثقايف كعامل حموري يف إغناء تطور وتقدم اإلنسانية ،ورضورة تفعيل احلوار بني خمتلف هذه احلضارات .وجاء إعالن اجلمعية العامة لألمم املتحدة بأن سنة 2001 سنة للحوار والتعايش بني احلضارات، وقد اعتربت معظم القوى الدولية والشعوب املحبة للسالم والتسامح هذا اإلعالن بمثابة ر ّد عميل صارم من جانب املجتمع الدويل عىل كل اخلطابات التي تدعي وتشجع وتتبنى الرصاع والصدام بني خمتلف احلضارات اإلنسانية .غري أنه ويف الوقت الذي كانت اجلهود الدولية واإلقليمية جتري فيه عىل قدم وساق نحو تعزيز احلوار بني احلضارات املحلية واإلقليمية والدولية ،وخلق جو مناسب لذلك أعادت أحداث نيويورك وواشنطن بتاريخ احلادي عرش من أيلول 2001نظرية ()7 صدام احلضارات بقوة اىل الواجهة». أ) موقع اإلسالم ضمن نظرية صدام احلضارات «ظهرت نظرية صدام احلضارات مرة يف مقالة للباحث األمريكي ألول ّ (صاموئيل هانتينغتون) ،ضمن عدد
ملجلة الشؤون اخلارجية صيف ،1993 قبل أن يطورها عىل شكل كتاب ،صدرله سنة ،1996وقد حاول من خالهلا حتديد مالمح الرصاع الدويل القائم بعد هناية احلرب الباردة،ففي هذه النظرية يرى الباحث أن الرصاعات الدولية يف عامل ما بعد احلرب الباردة ستكون رصاعات بني األمم واملجموعات الثقافية واحلضارية املختلفة ال بني الدول ،وهو بذلك يؤكد عىل العنرص الثقايف كمحور أسايس لالنقسامات بني الشعوب ،وخصوص ًا مع تنامي وبروز اهلوية الثقافية أمام ما يشهده ()8 العامل من حتديث وتنمية إقتصادية». «وبخصوص مكانة اإلسالم ضمن هذه النظرية ،فهانتينغتون يرى أن (التكتل احلضاري اإلسالمي) ،قد يواجه التكتالت احلضارية املجاورة له( ،املسيحية الغربية، الكتلةالسالفية املسيحية األرتوذوكسية، والكتلة اإلفريقية ،والكتلة اهلندوسية)، ويف سبيل تربير وتأكيد هذا الطرح األخري، يتقدم الباحث بمجموعة من احلجج ،فهو يذكر أن الكتلة اإلسالمية مشتتة ،وال متتلك مركز ًا قوي ًا مؤثر ًا وقادر ًا عىل التحكّم يف ضبط القوى اإلسالمية يف رصاعات مع حضارات أخرى( ،الشيشان ،البوسنة، كشمري ،فلسطني )...والغريب يف األمر أن هذه احلجة التي تطرح يف الواقع مظاهر ضعف الدول اإلسالمية ،وعدم قدرهتا احلالية عىل حتدي الغرب ،تتناقض ومقولته هاته التي تقر بخطورة االسالم عىل باقي احلضارات .ويضيف بأن هناك حاالت عديدة من العنف تورط فيها املسلمون يف العامل عىل امتداد التاريخ البرشي القديم
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 175 واحلديث ،أكثر من أية حضارة أخرى، بالشكل الذي يزعم معه بأن اإلسالم دين مواجهة وحروب ،وهو ال يميز يف ذلك بني احلاالت التي كان خالهلا املسلمون ()9 مظلومني أو جناة».
تعددت وتناولت ردود الباحثني العرب واملسلمني والغربيني أيض ًا عىل هذه النظرية ،فهناك من شكك يف مصداقيتها بناء عىل أن العامل يشهد حالي ًا رصاعات تنطوي عىل خلفيات وأبعاد سياسية واقتصادية واضحة املعامل أيض ًا بني خمتلف الدول، يف حني الحظ البعض أن هناك صدامات خطرية جتري داخل املجال احلضاري الواحد وليس بني حضارات خمتلفة ،بينام اعترب آخرون أن تصور (هانتينغتون) للحضارات والثقافات سطحي للغاية، فيام أشار أحدهم أن الغرب بإرصاره عىل الصدام يطلب املواجهة.
«وبالرجوع إىل موقع اإلسالم ضمن تصور (هانتينغتون) لصدام احلضارات , ّ أكّد العديد من الباحثني العرب واملسلمني عىل الطبيعة التواصلية واحلوارية لإلسالم وحضارته من جهة ،فيام أكّد بعضهم عىل الصفة العدوانية والتي طبعت احلضارة الغربية سواء يف مرحلتها املسيحية أو ()10 العلامنية من جهة أخرى». ويبدو مما سبق أن هذه النظرية وخاصة يف هتويلها ومبالغتها يف تصوير احلضارة اإلسالمية كحضارة خطرية وعدوانية ,تنم عن تش ّبع صاحبها باألفكار التي محلتها بعض الدراسات االسترشاقية املغرضة التي وسمت بمواقفها االستعالئية واالحتقارية جتاه العرب واملسلمني احلضارة اإلسالمية
بالقتل والعنف والتخلف....
ب) الصورة النمطية لإلسالم يف الغرب وبعض تداعياهتا منذ فرتة الفتوحات اإلسالمية األوىل، والعالقات بني اإلسالم والغرب يشوهبا نوع من االلتباس والغموض والفهم اخلاطىء ،حيث ظل اإلسالم يف نظر العديد من الغربيني ذلك اآلخر الرببري الغازي احلاقد واملحارب ...ولذلك نجد عدة دراسات استرشاقية استهدفت منذ عدة عصور وإىل اآلن االسالم وتوخت تشويه صورته يف الغرب والعامل.
«إرتبط سوء فهم الغرب لإلسالم من خالل عدم التمييز بني ما هو من صلب الدين ،وما هو ناتج عن الظروف االجتامعية والسياسية واالقتصادية. ويتمظهر هذا الفهم الضيق واملنحرف لإلسالم من خالل وضع اإلسالم ضمن إطار ما يعرف (باالستبداد الرشقي) وتعميم التشدد والقسوة والتعصب و(اإلرهاب) والالعقالنية والتخلف عىل ()11 الثقافة اإلسالمية برمتها». «وبعد سقوط االحتاد السوفيايت يف بداية التسعينات من القرن املايض ،برز تيار فكري يف الغرب جيعل من اإلسالم عدو ًا للغرب بدي ً ال من الشيوعية ،ويف نفس السياق تم تداول عدة مصطلحات، وتم ربطها باإلسالم من قبيل (التعصب اإلسالمي)( ،التطرف اإلسالمي)، (اإلرهاب اإلسالمي)( ،اخلطر االسالمي) ()12 و(اخلطراألخرض).»... «ورغم ّ أن معظم أنظمة البلدان اإلسالمية تربطها عالقات و ّدية مع
املنافذ الثقايف
176ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الغرب ،ورغم املشاكل السياسية واالجتامعية واالقتصادية التي تعيشها معظم هذه البلدان ،فإن هناك داخل الغرب من يبالغ يف إثارة اخلوف والقلق من (اخلطر اإلسالمي) عرب استنتاجات خاطئة ،تضفي طابع التطرف والتشدد ومعاداة الغرب عىل كل مسلم أينام كان بناء عىل سلوكيات استثنائية يقدم عليها بعض األشخاص أو اجلامعات .ومن خالل ما سبق ،يمكن القول ّ إن رصاع الغرب مع اإلسالم هو واقع ،وجار يف امليدان عىل خمتلف الوجهات ،ومن خالل السياسات التعسفية التي تستهدف حمارصة اإلسالم، والتضييق عىل املسلمني يف كل مكان، وهي السياسات التي تغطيها الترصحيات الرسمية املزيفة الداعية للحوار والتعايش، وهي سياسات تنطوي عىل خلفيات ()13 اقتصادية وسياسية وعسكرية». وأخري ًا ّ إن األصل يف عمق وطبيعة احلضارات ،هو التحاور والتشابك والتواصل ،ولذلك ّ فإن الرصاع حتى وإن اختذ مظهر ًا ثقافي ًا غالب ًا ما تكون وراءه دوافع سياسية واقتصادية أكثرمنها ثقافية، وهي اخللفيات التي طاملا عكّرت صفو احلوار بني احلضارات .ولقد شهد املجتمع الدويل تداخ ً ال وتعدد ًا يف العالقات بني خمتلف الشعوب واألمم يف شتى املجاالت وامليادين بالشكل الذي جيعلنا نستبعد كلي ًا نظريات املواجهة أو القطيعة حلساب التواصل ،لكن الترصحيات والسلوكيات املستفزة االستثنائية التي تصدر من حني آلخر عن بعض اجلهات التي تعتقد أهنا متثل اإلسالم واملسلمني ،ويمكن
أن تشوش عىل هذا التواصل واحلوار الرضوريني واحلتميني هي ضد اإلسالم نفسه وليست دفاع ًا عنه.
.IVاحلواجز االجتامعية والثقافية
بني اإلسالم والغرب وطرق إزالتها
تعددت احلواجز االجتامعية والثقافية بني اإلسالم والغرب من خالل ظهور ثقافة العداء املتبادل بني العاملني الغريب واإلسالمي ،وتعود فكرة العداء املتبادل بني العاملني الغريب واإلسالمي إىل مراحل تارخيية متعددة ,حيث يكشف التاريخ العالقة ما بني الغرب والعامل اإلسالمي عن مواجهة عسكرية ،وعن تبادل سلمي وثقايف للفوائد املشرتكة ،ولكن يبدو أن الوعي التارخيي للعالقة تشكّل عرب فرتات املواجهة ،فبالنسبة للمسلمني يصعب حمو الذكريات التارخيية التي خ ّلفها الصليبيون, فقد أصبحت (الصليبية) مصطلح ًا مشحون ًا بالغزو واملذابح واهليمنة والتعصب الديني .وكان لالستخدام غري املوفق ملصطلح (احلملة الصليبية) من قبل الرئيس االمريكي السابق جورج بوش للداللة عىل حربه ضد ما يعتربه إرهاب ًا أثر يعيد املعاين والذكريات نفسها للحروب الصليبية السيئة الذكر بالنسبة للمسلمني. ّ «فإن املسلمني كانوا ويف املقابل يمثلون العدو للغرب منذ معركة بواتيه عام 732م عىل حدود فرنسا وحتى هزيمة العثامنيني عام 1673م يف فيينا وشكّلوا هتديد ًا كبري ًا .وكانت الفرتة التي أعقبت سقوط القسطنطينية عام 1453م بيد األتراك العثامنيني واالجتياح من قبل تركيا
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 177 املسلحة ذات أثر عدائي حتى أصبحت كلمة تركي مصطلح ًا يطلق عىل املسلمني ()14 يف الغرب».
كل هذه األحداث التي مرت عرب التاريخ إىل يومنا هذا ثبتت ثقافة العداء بني اإلسالم والغرب ،مما يشكّل حاجز ًا كبري ًا بني العاملني اإلسالمي من جهة والغريب من جهة أخرى .ولكن وعىل هامش هذه احلروب ،كان ال بدّ من تواصل إجيايب حدث بني العاملني من خالل التبادل الثقايف والعلمي ،حيث كان الطالب األوروبيون الذين درسوا يف اجلامعات اإلسالمية بإسبانيا يف العصور الوسطى يمثلون حالة شبيهة بالطالب الذين هياجرون اليوم إىل الغرب للدراسة يف جامعاهتا .وهذا يدل عىل إجيابية يف التواصل ما بني اإلسالم والغرب. ولعبت ثقافة اإلسترشاق دور ًا كبري ًا يف بناء حاجز بني اإلسالم والغرب من املشوهة التي نقلها عن خالل الصور ّ اإلسالم .فكان االسترشاق بمثابة املورد الفكري الرئييس إلنتاج وتناول الصور املشوهة عن اإلسالم ويستخدم الغرب ّ هذه الصور بوصفها أداة لتربير اهليمنة عىل العامل اإلسالمي.
وباملقابل «ختضع الرؤية اإلسالمية للغرب لتمييزنمطي مرتبط يف الذاكرة اجلامعية بكل التداعيات السلبية املمكن حصوهلا حلالة اهليمنة واالحتالل التي مارسها الغرب بحق العامل اإلسالمي. وظهرت يف الوعي اإلسالمي اجلامعي ()15 النظريات التآمرية ،وعدم الثقة بالغرب». أما من الناحية االجتامعية فهناك فرق
شاسع ما بني العامل اإلسالمي املحافظ و العامل الغريب املتفتح اجتامعي ًا عىل أمور كثرية من خالل القوانني الوضعية التي حتكم وتتحكم باملجتمع الغريب.
بينام ترتكز يف العامل اإلسالمي عىل تعاليم الدين اإلسالمي وإن كان هذا يتفاوت ما بني دولة وأخرى .فالغرب يواجه مشاكل عديدة من خالل هذا االنفتاح واحلرية الشخصية التي تؤدي إىل تفكك أرسي حتت شعار حرية كل فرد يف املجتمع يف حني تبقى األرسة املسلمة حمافظة عىل وحدهتا أكثر ،وإن كان قد بدأ يترسب يشء من احلياة االجتامعية الغربية إىل املجتمع املسلم من خالل وسائل االتصال احلديثة وبخاصة األنرتنت الذي سهل التواصل ما بني املجتمعات وأسقط كافة احلواجز .إال ّ أن هذا الترسب حيدث تدرجيي ًا ألن املجتمع املسلم غري قادر عىل تقبل العادات االجتامعية الغربية دفعة واحدة ،فإذا استعرضنا رسيع ًا الوضع اإلجتامعي للدول اإلسالمية فنجدها تتغري وتتجه نحو تقليد الغرب ولكن بخطى بطيئة جد ًا فإذا أخذنا مث ً ال عمل املرأة الذي كان يف املجتمعات املسلمة مرفوض َا أصبح اآلن ويف أغلب املجتمعات اإلسالمية مقبوالً مع ذكر أن هناك جمتمعات إسالمية أكثر حتفظ ًا من غريها فتمنع املرأة حتى من قيادة السيارة أو االنتخاب. وكثرية هي املفاهيم التي خيتلف يف تفسريها ما بني الغرب واإلسالم كاحلرية التي يفرسها الغرب بأن يكون اإلنسان حر ًا يف حياته من دون قيد سوى القوانني والدساتري الوضعية اخلاصة بالدولة يف
املنافذ الثقايف
178ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حني يفرسها اإلسالم بأن اإلنسان حر ضمن رشوط الدين اإلسالمي ،ويوجد دول إسالمية بدأت تنحو منحى الغرب، غري أن هناك دول إسالمية ال يوجد فيها قوانني وضعية ودساتري وتعتمد يف حكمها عىل الرشع اإلسالمي الذي يتوافق بعض األحيان مع القوانني الغربية ويتعارض معها يف البعض اآلخر مما يطرح إشكالية إزالة احلواجز بني املجتمعني الغريب واإلسالمي؟. ومن أهم طرق إزالة احلواجز ما بني املجتمع الغريب واملجتمع اإلسالمي ما يتجىل يف احلوار اهلادف إىل التعرف عىل األمر من خالل التواصل السلمي بني العاملني بعد فشل احلروب املتبادلة يف فرض قبول اآلخر ،بل عىل العكس ثبتت عداء مطلق ًا بينهام.
وكام يقول العالمة السيد حممد حسني فضل اهلل «لذلك علينا أن ننتج جمتمع ًا يتقبل احلوار مع اآلخر ،واذا أردنا أن ندخل يف احلوار مع اآلخر ،فإن علينا أن نقبله وأن نستمع إىل وجهة نظره يف ما يفكر فيه لنناقشه ونحاوره يف القضية من خالل وجهة نظرنا ،وأن نرتكه يتحدث عن وجهة نظره لنحاوره يف ذلك ،كام نتحدث ()16 عن وجهة نظرنا ليحاورنا فيها». ويضيف ّ «إن املشكلة يف كثري مما نعيشه, هو أننا نتحدث مع اآلخر من خالل ما يتحول نحن ال من خالل ما هو لذلك ّ احلوار اىل ما يشبه حوار الطرشان ،ولعل من أعظم رشوط احلوار هو أن تعرتف باآلخر ،وعدم االعرتاف باآلخر هي ()17 مسألة غري إنسانية وغري واقعية».
أما فيام خيص رشوط وظروف احلوار احلقيقي بني اإلسالم والغرب ،فثمة من يرى أن هناك موروثات تارخيية متنع احلوار ,وتتمثل هذه يف حمطتني أساسيتني احلروب الصليبية ،واجلهاد و لذلك ال يتحقق احلوار من دون االتفاق أو الً عىل إعالن هناية احلروب الصليبية واجلهاد يف ذلك يقول سامحة العالمة السيد حممد حسني فضل اهلل« :من رشوط احلوار اهلادف إىل الوصول إىل قاعدة الفهم املتباد ل ,هو أن ال تكون هناك رشوط مسبقة يفرضها أحد الطرفني عىل اآلخر، من خالل إصدار حكم عليه بشكل حازم ال يقبل أية مناقشة .وعىل ضوء هذا، فإننا نبدأ من احلروب الصليبية التي ربام يتخيل للبعض أهنا متثل عقبة يف واقعية ()18 احلوار بني الغرب واإلسالم».
نحن نعتقد أن احلروب الصليبية كانت منطلقة من ظروف معينة ختتزن يف داخلها الرغبة الدينية املسيحية يف حترير األرايض املقدسة للمسيحيني يف القدس ،والتي يعتربها املسيحيون حمتلة من قبل املسلمني, إضافة إىل بعض الظروف السياسية والداخلية املوجودة يف الغرب أو خارجه يف هذا املجال .ولذلك ،ال نعترب احلروب الصليبية التي عاشت يف مرحلة زمنية معينة وانتهت بجميع مفاعلها ومؤثراهتا ال سيام بعد حترير فلسطني من اإلحتالل الصليبي ،أهنا متثل عقدة لدى املسلمني, ألن الغربيني يف هذه املرحلة ،كام املسلمني, ال يعيشون حركية هذه احلروب باملعنى الديني إال ما قد يعيشه بعض الناس من مشاعر سلبية أو إجيابية ،كام يعيش البعض
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 179 التاريخ السلبي أو اإلجيايب يف جماالهتم.
أما مسألة اجلهاد ،فإن الغرب قد حيملها ما حتتمل ،ألن اجلهاد يف اإلسالم ّ بقاعدته الوقائية والدفاعية ،ال خيتلف عن أي حرب يثريها أي فريق يف العامل ال يؤمن بالعدوان عىل الناس اآلخرين ,فاإلسالم يمنع املسلمني من أن يعتدوا عىل أي إنسان مسامل ال يريد هلم حرب ًا وال يضطهدهم أو ّ وجل يقول: خيرجهم من بالده ،فاهلل عز ()19 ﴿وال تعتدوا أن اهلل ال حيب املعتدين﴾. إن إعطاء كلمة اجلهاد معنى عدواني ًا, بحيث خييل لآلخرين أن املسلم يمسك سيف ًا فوضوي ًا عدواني ًا حياول من خالله أن يرضب أي إنسان غري مسلم ليقهره عىل الدين ،هو أمر غري واقعي ،وال يمت للحقيقة بصلة. وهنا ال بدّ من أن نتخطى واقع العداء بني اإلسالم والغرب من خالل تقريب وجهات النظر ومن خالل احلوار العلمي املجدي للوصول اىل حل لألزمات املوروثة أو املستحدثة بني الغرب واإلسالم.
.Vمستقبل العالقات
بني اإلسالم والغرب
ّ إن احلديث عن مستقبل العالقة بني اإلسالم والغرب ال يمكن فصله متام ًا عن املايض الذي ما زالت ذكرياته عالقة يف األذهان وال عن احلارض الذي تتكون من أحداثه املتالحقة مالمح املستقبل. ّ إن تصور عالقة جيدة بني اإلسالم والغرب ال يمكن أن تقوم بدور جالء املفهوم احلقيقي لإلسالم .وهو عمل كبري ال تقترص مسؤوليته عىل جانب دون
اآلخر .ففي الغرب ،شاعت عن اإلسالم صورة غري حقيقية ،كام أهنا غري متكاملة. ومل تستطع حركة االسترشاق التي يصل عمرها إىل أكثر من قرنني أن تقوم بدور فعال يف بيان حقيقة اإلسالم كدين ساموي يزود اإلنسان بالطمأنينة ،وحيسن عالقته ّ بربه وبالناس وبالطبيعة. ّ فإن اإلسالم هبذه املبادئ وهكذا والتعاليم ال يتصادم مع القيم العليا للحضارة الغربية يف يشء ما عدا ماديتها املتنكرة للروح .ولعل كثري ًا من أوجه االلتقاء تتضح إذا ما جتاوزنا مستوى املصطلحات اللغوية إىل اجلوهر احلقيقي للمعاين .فليست الديموقراطية يف أعىل أشكاهلا وأسمى تطبيقاهتا إالّ الشورى اإلسالمية .وليست حقوق اإلنسان التي توصلت إليها املنظامت الدولية بعد عناء شديد سوى جمموعة احلقوق التي أعلنها اإلسالم منذ أربعة عرش قرن ًا .ومن املالحظ أن وضع اإلسالم يف الغرب قد أصبح أفضل كثري ًا عن ذي قبل. ويتبني ذلك من ردود األفعال اإلجيابية التي يقابل هبا علامء املسلمني الذين خياطبون الغرب بلغة العقل واملنطق, وأسلوب احلجة والربهان ،دون تر ّفع أو مغاالة ،وبال تشنج أو إنفعال. نقر ّ بأن عالقة لكن ال يمكننا «أن ّ اإلسالم بالغرب سوف تتحسن بمجرد الرشح والبيان ،وإنام ال بدّ إىل جانب ذلك أن يبذل املسلمون فيام بينهم جهود ًا متواصلة من أجل أن يكونوا مسلمني حقيقيني .فال يدعون إىل التسامح وهم متفرقون ،وال يرفعون شعار التآخي وهم
املنافذ الثقايف
180ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ متخاصمون .وباملقابل ينبغي عىل الغرب أن يبذل من جانبه جهد ًا حقيقي ًا من أجل التعايش مع اإلسالم .وأن يتخىل عن نظرة العداء واالستعال ،وأن يتقبل وجهات النظر املخالفة ,والثقافات األخرى بروح ()20 أكثر تفتح ًا وسامحة».
ّ وإن الطريق إىل إقامة عالقة طيبة بني اإلسالم والغرب مل يعد مسدود ًا كام كان يف املايض ،بل العك ،أصبحت فيه منافذ كثرية ووجدت عىل الساحة وسائل متعددة يأيت يف مقدمتها اإلعالم الذي جعل من العامل قرية يقف أهلها عىل ما حيدث يف أي ركن فيها فور وقوعه. «وال شك ّ أن اإلعالم يستطيع أن يعرض الصورة احلقيقية لكل طرف لدى اآلخر ،كام يمكنه أن يقيم جسور ًا من التواصل بل وتقريب وجهات النظر املتباعدة .كذلك فإن التعليم له دور ف ّعال يف تأكيد احلقائق لدى األجيال اجلديدة التي ينبغي أن تنشأ عىل املوضوعية وحسن اإلصغا ،واحرتام وجهات النظر املختلفة, وأخري ًا ّ فإن الدبلوماسية اهلادئة يمكنها أن تقوم بدور هام يف أحداث التقارب املنشور بني الدول ،والتعايش السلمي بني ()21 الشعوب». ومن هنا ال بد من تثاقف احلضارتني أو الثقافتني االسالمية والغربية من أجل بناء مستقبل آمن خال من أي رصاعات مبنية عىل عدم قبول اآلخر أو احلوار معه ومن أجل الوصول اىل حل ملختلف النزاعات سلمي ًا بعيد ًا عن العنف ،وبذلك ينعم العامل باالستقرار واالزدهار املنشودين.
خامتة:
العالقة بني اإلسالم والغرب عالقة جدلية ،تتجاذهبا رصاعات مابني تيارين متناقضني ،تيار يضمر العداء لآلخر وتيار يؤمن باحلوار كحل هلذه اجلدلية، وهذا االنقسام موجود داخل كل فريق. فالتاريخ يورد لنا حوادث صدام بني اإلسالم والغرب ،وهي يف غالبيتها ليست ألسباب ثقافية أو حضارية ،إنام ألسباب سياسية واقتصادية ،وإن كانت قد تركت بعض األثر الثقايف أو احلضاري كاآلثار اإلسالمية يف إسبانيا ،أو البعثات العلمية يف البالد اإلسالمية ،غري ّ أن احلروب والصدامات مل تأت بنتائج إجيابية تذكر عىل صعيد العالقة ما بني اإلسالم والغرب، كرست بل زاد األمر سوء ًا وتعقيد ًا ،حيث ّ العداء املتبادل بني الطرفني.
وهنا انربى جمموعة من املثقفني الغربيني واملسلمني ،إىل التنادي لعقد مؤمترات وقمم حوارية ،تبحث يف تقريب البون الشاسع مابني اإلسالم والغرب، ولقد بدأت هذه املؤمترات من أكرب منظمة دولية عنيت بذلك اجلمعية العامة لألمم املتحدة ،التي أعلنت سنة 2001سنة للحوار والتعايش بني احلضارات. فاحلوار ما بني اإلسالم والغرب ،طرح بقوة كبرية وخاصة بعد فشل احلروب التي شنت عىل مناطق اعتربها الغرب إرهابية، وبعد استنزاف الغرب من خالل تفجريات استهدفته هنا وهناك،كلفت اجلميع ثمن ًا كبري ًا يف األرواح واملاديات. فاحلوار ال يعني إهناء قطعي للحروب والعداء مابني اإلسالم والغرب ،وإنّام
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 181 يساعد عىل معرفة اآلخر واالعرتاف به ومناقشته وإقناعه أو االقتناع برأيه .ويف ظل تقدّ م وتطور وسائل اإلعالم ،من فضائيات وإنرتنت ،مما ّقرب املسافة ما بني اإلسالم والغرب ،حيث يمكن أن ّتوعي وتعرف بعضها عىل بعض ،مما الشعوب ّ يزيل بعض التشنج يف العالقة بني اإلسالم والغرب ،وإن كان عىل صعيد الشعوب ألن اإلنسان عدو ما جيهل.
ويف النهاية ،البدّ من احلوار العلمي
اهلادف إىل إزالة أي التباس يف العالقة ما بني اإلسالم والغرب واليسعني إلاّ ان أختم باآلية الكريمة حيث يقول رب
العاملني يف القرآن الكريم ﴿يا أهيا الناس
انّا خلقنـكم من ذكروأنثى وجعلنـكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند اهلل
أتقـاكم ّ إن اهلل عليم خبري﴾(.)22
علـي أيـوب
املصادر واملراجع: ()1غانم جواد .باحث وكاتب يف قضايا حقوق االنسان ،االسالم والغرب اشكالية WWW.BBC.ARABIC.COM املصطلح والعالقة بني الطرفني. ()2غانم جواد .مصدر نفسه.
()3عبد الوهاب املسريي .كاتب مرصي.
( )4غانم جواد .باحث وكاتب يف قضايا حقوق االنسان ،مصدر سابق.
www.aljazeera.net
( )5سلوى بكر وغريها .الغرب والعامل االسالمي .املانيا ،معهد احلوار والتفاهم ،طبعة اوىل، 2004ميالدي. ( )6سلوى بكر وغريها .مصدر نفسه.
املنافذ الثقايف
182ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( )7ادريس الكريني .االسالم والغرب ومعيقات احلوار .دراسات حول املوضوع ،مركز الرشق العريب. ( )8ادريس الكريني .مصدر نفسه. ( )9ادريس الكريني .مصدر سابق. ( )10ادريس الكريني .مصدر سابق. ( )11ادريس الكريني .مصدر سابق. ( )12ادريس الكريني .مصدر سابق. ( )13ادريس الكريني .مصدر سابق. ( )14سلوى بكر وغريها .الغرب والعامل االسالمي.مصدر سابق. ( )15سلوى بكر وغريها .مصدرسابق. ( )16السيد حممد حسني فضل اهلل .احلوار مع الغرب منطلقات وافاق.حمارضة يف عاليه10 ، مجادي االوىل 1425هـ 28/حزيران 2004م. ( )17السيد حممد حسني فضل اهلل .مصدر نفسه. ( )18السيد حممد حسني فضل اهلل .مصدر سابق . ( )19القرآن الكريم .سورة البقرة .اآلية .190 ( )20مفيد شهاب .املؤمتر التاسع ،االسالم والغرب مستقبل العالقة .مرص www.Islamic-council.com
( )21مفيد شهاب .مصدر نفسه. ( )22القرآن الكريم .سورة احلجرات .اآلية . 13
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 183
طربوش (أبو جهاد) جـوزيـف سـمعان رزق كأنه انحباس الغسق يف حمور أفق متوقف .شعاعه عمودية إنسان متوقف بوقوفه .ماهيته هبا ٌء وهراء .أما وجوديته فنفور هائم يف العبث .ونتوء شاخص ٌ يف الدهشة والريبة .وانبثاق عدمي يف توصيف املعامل املشخصة ،وتورية ملا هو أهبى وأزهى من مهالك الوجود العابق باهلمود والركود واهلالك. ٍ منصة هو الراسخ القاعد عىل متحركة ،يلوح وينوح دون أن يبوح ٍ بعزة نافقة. امتالؤه بالفراغ .يتمخرت تيه ًا يف مؤخرته حلي ٌة تتاميل وتتأرجح وفق ًا ملعايري ومقادير احلراك املتفاوت االيقاع. جتمر ينحبس فيه اخلجل ليرتاءى وكأنه ٌ ٍ لتنور وقد استعارت أحطابه خشية وختمر ٌ ٍ من الرتمد ،وانفعاالً بألسنة ٍ هليب طارىء. يتفوق عىل الرأس، ينخرط يف شكيمته ع ّله ّ ليشتد فيه غروره ،حتى يكاد أن يظن أنه الرأس يلتحف مججمة األمراء املرشئبة حتى ينتفخ خواؤه يف وعائه .ويصدح عواؤه يف فراغه ،فال يعي إال وقد لبس التباسه ،وارتدى رداءته ،وصار بحجم ٍ جفاف قاحل، السحب الشاردة يف فضاء ألنه انتفاخ قد ُصمم بحجم غرور رأس، ٍ مججمة ليس لدهيا ما يتحف وعىل قياس
ويبهر إال ما هو ٍ باد وظاهر.
لكنه يكابد بتكتم ،وينصاع يتكور، ويمتثل بتكدّ ر ،رغم إحياءاته العلنية بأنه دنوه سيد القرار ،يعارك العلو باعتالئه ّ املنتصب ،ع ّله حيظى بشكيمة املدى، وتتألق معامله يف لعبة التناسق ،هو املعتيل برشاقة الشاق ،ليس له حبال املشيئة ،وال سامت التفوق ،لكن له بشائر رأس مل يقنعه حجمه ،فجاء ليزيد حجمه من خالل ٍ وزن دون إضافة خمزون ،ودون إضافة اإلفادة من صالحية العقل وماهيته!!
غرضوف خمروطي تكدست فيه إنه ٌ مباهج الزهو وتعالت بسامته عىل بشائر الوجه ،واستبد يف التشاوف حتى تلعثمت ألسنة أوجاره يف حفر املجد األجوف، فانحنى ال إجالالً لعظمة الفكر بل ذبوالً ويغرد بام ليس فيه وله ،وصار يرتاقص ّ اندالع لرضاوة الربهة ،ثم يتحفظ كأنه ٌ ٍ أساس من كي ال توقعه ركاكة الركائز يف ٍ لعاب فائز ،ثم يتهاوى رضوخ ًا ملشيئته
يف املشية ،لكنه بغبائه املعهود الصارخ ال يتوانى أن يعلن تفوقه عىل الرأس رغم شغوره من عنارص احلياة... وهو العواء املجاين عىل تالل ورشفات
املنافذ الثقايف
184ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العبث ،يرتل صداه عىل أوتاره املحاكة بلعاب فم ساذج يف سيمفونية الفراغات ٍ بزهد مصطنع. املحشوة األنني ،واملكسوة انقباض ملعامل يف مضارب يتأرجح كأنه ٌ األهواء املصادرة ،حتى يصاب بدواره األرعن فيقع يف مواته رغم جتذره بأليافه مرة وخصوبته بوفائه ،فيحزن مرتنيّ : عىل حاله التي ليس فيها عنارص احلس، ومرة ألنه لبس احلس دون أن يعرتيه، ّ ٍ فوهة ضيقٍ فريكن بعد أن يزفر أواهه من مستفحل ،ليقول ما أمجلني دون حياة كي ال أموت ذات يوم! وما أهباين وأزهاين وأنا أعتيل مهوم ومشاكل الرأس دون أن أقع يف اخلطيئة وتعرتيني مكائد ومهالك احلساب وأخطار الدينونة.
ٌ طربوش أنا أعزي نفيس بام قد تفوهته. أحب وال أتأمل قد ال أحزن وال أتأثر ،وال ّ ٍ حراك أو أبكى ،فوجوديتي قائمة عىل مائت .أنا حزي ٌن حزي ٌنٍ :آه كم كنت أمتنى لو كنت الرأس رغم علمي اليقني بعذابه ٍ حياة ال وهالكه ،لكن يا إهلي!! ما جدوى تعرف وال تدرك وال تشعر بأهنا ح ّية؟ وما جدوى حياة ال تعيش حياهتا؟ أعذرين يا رب فمعظم الناس مثيل دون أن يدروا. طرابيش قد نالت اهلوية ،وحصلت عىل رشف االنتامء فقط ألهنا ُولدت وتنتمي لعنرص البرش .املشاعر صارت ألياف ًا ٍ إجازة حتى والبشائر ستائر .واملشاعر يف ٍ يوم اآلخرة .واحلنان يف نزهة عىل أرصفة املزور واملصطنع. اجلفاء والرخاء ّ
جـوزيـف سـمعان رزق
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 185 مقابلة:
الفنان عبد الكرمي إمامة
الفنان عبد الكريم إمامة من بلدة "جمدل عنجر" تلك البلدة البقاعية التي كان هلا و ّملا ْ يزل حضور كبري يف تاريخ لبنان وصنع جمده واستقالله ،وحني تذكر هذه البلدة الشماّ ء ينتصب أمامك حصنها العظيم الذي بدأت منه كرامة لبنان ومعركة حتريره عىل يد األمري فخر الدين املعني الثاين «حارب وانترص بعنجر» .من يومها مل ختلع جمدل عنجر عزهتا وكرامتها ،وما زالت حتمل أصالة العرب وأنفتهم وكرامتهم. إهنا بلدة األصالة والعزة ،وهي منذورة لكل كبرية ترفع اسم لبنان عالي ًا ،ألنه عىل قدر أهل العزم تأيت العزائم ،ونحن نردد قول الشاعر عمر ُ شبيل يف هذه البلدة اخلالدة:
ِ َ األحرار يا حصـ َن العـىل جمـدل يا بنت فخر الدين تيهي وافخـري يا َ موكـب يف كل يـوم من إبائـــك ٌ األعصـر يميش اختياالً فـوق ها ِم ُ
الفنان عبد الكريم إمامة حاز عىل كثري من األوسمة وامليداليات والدروع التكريمية وشهادات التقدير ،وأحبها إىل قلبه الدرع املقدم من فخامة رئيس اجلمهورية اللبنانية ،ومن قيادة اجليش اللبناين ،وكثري غريمها ،وأقيم له أكثر من معرض ،وآخرها املعرض الذي ضم اللوحات عرشات البديعة يف اليونسكو.
ـ ملحة عن تاريخ فن االرسم بالفسيفساء
هذا عرف الفن منذ القدم عند الفينيقيني والرومان والبيزنطيني والعرب الحق ًا ،ونحن حتى اليوم نرى آثار هذا الفن يف املسجد األموي يف دمشق ويف مسجد القبة يف القدس ،ويف الكنائس واألديرة وبعض اآلثار الفينيقية يف صيدا ومعظم اآلثار اللبنانية. وفناننا املوهوب عبد الكريم إمامة بانتامئه األصيل هلذا الفن الذي ورثه عن
املنافذ الثقايف
186ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مالحظاته النافذة لتلك اآلثار اجلميلة، وليس من الكتب رغم أنه تدرب يف معاهد
وجداين بشكل قوي ،ومما ّ غذاه رؤيتي املبكرة لآلثار األموية املوجودة يف قريتنا
فنية صقلت موهبته العالية ،إنه فنان موهوب بالفطرة .لقد أهلمته آثار بني أمية حس ًا فني ًا ترى املالصقة لقريته يف عنجر ّ تأثرياته النافذة يف نفسك وأنت تراقب لوحاته املتعددة املوضوعات واملنثورة يف داره بأسلوب الفنان الالمبايل .ولد عبد الكريم إمامة يف جمدل عنجر وعاش فيها وملا يزل جزء ًا منها /سنة . 1961وكان ملجلة املنافذ الثقافية لقاء مع هذا الفنان املبدع ،وأجاب عىل أسئلتها:
وجوارها ،وكنت أقف أمام احلصن العظيم يف ذروة بلدتنا مأخوذا بدالالته الوجدانية ،وكنت أختيل نفيس سامع ًا مححامت خيول األمري فخر الدين الذي ابتدأ معنى لبنان يتكون عىل صهيل خيلة وملعان سالحه يف معركة احلرية، كان الصوت والصورة مع ًا يتجسدان يف وجداين رؤى ومشاعر وأحاسيس، وكنت أطمح إلخراجها ألرهيا للناس بشكل مجيل ،وعىل درب اخلطأ والصواب استطعت تعبيد طريقي اململوء بالفتوحات اجلميلة كام أعتقد .وكنت كلام أنتجت لوحة أحس بأنني أضع شيئ ًا مني فيها، إهنا حتمل بصامت روحي وتطلعات أناميل لرصف أحاسييس يف لوحات مجيلة متثل حاالً من حتواليت الداخلية ومن انعكاس
مكوناتك الفنية التي جعلتك ـ ما هي ّ تنحو هذا املنحى يف فن قليل من ركب متنه اليوم؟ كان يف داخيل منذ طفولتي ٌ ميل ُحول اإلحساس للفنون التجسيدية التي تـ ّ إىل كتلة ،وراح هذا اإلحساس ينمو يف
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 187 بصرييت وبرصي فيام أرصف.كنت أشعر عيل حماولة نقل باالختناق حني تستعيص َّ ذايت إىل اللوحة.
ـ كيف كنت تقيم العالقة بني اللوحة شكل فيها واأللوان والفكرة املهيمنة عىل وجدانك؟
لأللوان عالقة حقيقية بمشاعرنا الداخلية ،فاألمحر له دالالت خمتلفة تنطلق من وردة اجلوري احلمراء إىل اجلرح النازف من جسد مقاوم ،إىل املشاعر الداخلية املتحفزة لالنتقام ممن ورشد أهلنا يف فلسطني. رسق أحالمنا ّ واللون األبيض له داللة عىل النقاء والسالم ،وله داللة عىل العمى أيض ًا حني تصبح األلوان كلها لون ًا واحد ًا وهكذا لكل لون دالالته التي ترتجم وعينا وحسنا ومكنوناتنا العميقة التي تعجز الكلامت عن محلها ،وتظهر موهبة الفنان يف قدرته عىل نقل اإلحساس من الالمرئي إىل املرئي. أما الفكرة فهي جمردة ما مل ختامر اإلحساس العميق يف داخل الفنان ،وال يمكن للفكرة أن تصبح لوحة فنية بمعزل عن التوهج الداخيل واجلذب الوجداين املتنقل بني احلس والفكرة .وهبذا خيتلف الفن عن أشكال التعبري األخرى ،ومن
هنا تنبع أمهيته ،ومن هنا أيض ًا يضمن لنفسه اخللود .فالفن يف النهاية يظل أقوى من املوت ،ألنه متصل باخللود بينام املوت هو الفناء ،ومها نقيضان ال يلتقيان.
يف واللوحة النهاية هي الفنان نفسه أثناء إنجازها، هي حتكيه بمقدار ما هو حيكيها .وهي اإلنساين اجلزء الذي يقيم عالقة صادقة بني داخل الفنان وخارجه. فاإلبداع هو أرقى حاالت احلضور سمو اإلنساين ألنه ٌّ عىل اجلسد اآلين الذي حتدده مسافة الزمن بينام اآلثار الفنية اخلالدة فهي توق اإلنسان للتغلب عىل املوت بموت املوت ،وهي خالدة ألهنا متخلصة أساس ًا من الطني ومن عنارصه الفانية. ـ ماهي املواضيع التي جتذبك أكثر؟
أنا فنان ملتزم بقضايا وطني وأمتي، وأنتمي إىل حضارة وارفة الظالل أثـّرت يف مسرية اإلنسانية صعد ًا وأثـ َْرتـْها ،وأنا فخور بتجربة أمتي احلضارية وممتلئ هبا، وانجذايب إليها انجذاب املحب امللتزم واملنحاز إليها ظامل ًة ومظلومة ،ولذلك تناولت شخصيات أمتي التارخيية والتي تركت آثارها السامية يف املجتمعات البرشية ،وتناولت لبنان احلارض باستمرار يف نبيض ويف نسكي وحمياي ،واخلافق يف
املنافذ الثقايف
188ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صدري ،وما آثاره اخلالدة سوى امتداد لتكويني وانتامئي ،أقف بخشوع وأنا أتأمل آنية فخارية عليها نقوش فينيقية،
إهنا تتكلم ،وختترص الزمن حتى لكأن املوت غري موجود ،أنا ابن هذه األرض ولذلك ستبقى مادة فني مستوحاة منها.
أجرت احلوار أرسة "املنافذ الثقافية"
ِ َ األحرار يا حصـ َن العـىل جمـدل يا
موكــب يف كل يـوم من إبائـــك ٌ
بنت فخر الدين تيهي وافخـــري يا َ األعصــر يميش اختياالً فــوق ها ِم ُ
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 189
املنافذ الثقايف
190ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في كتاب «احملاكاة» لألستاذ خالد كموني عمـر شـبيل ـIـ
كتاب املحاكاة لألستاذ خالد كموين كتاب جدير بالقراءة ،وجيد ،وأعتقد أن سيكون له مكان يف املكتبة العربية ،إنه كتاب منهجي ووثائقي ،ومنهجيته ترحيك فيه يف االنتقال من موضوع إىل موضوع دون أن تشعر بوهن املتابعة ونقص الرضورة .وهذا ال يعني عدم ترابط عناوينه املؤلِفة له ،بل هي أشبه بالسالسل املرتابطة شك ً ال ومضمون ًا ،ويفاحتك يف الكتاب كثرة االستشهاد حول املوضوع الذي يبحث فيه خالد كموين ،وكثرة االستشهاد ال تلغي وجود املؤلف فيام يؤلف ،بل هو يتبنى ويرفض بثقة ووعي، وال بد من التأكيد عىل أن كثرة االستشهاد تعني استيعاب املوضوع وإغنائه ومناقشة املؤلفني السابقني فيام ذهبوا إليه من آراء، وهم عىل ما هم عليه من حضور مؤكد يف حمتويات املكتبة العربية التي ال غنى عن فرائدها اخلالدة. وأعتقد أن هناك بعض التفاصيل كان جيب إضافتها للكتاب ليصبح أغنى، وكنت أمتنى لو فـ ُِصل موضوع املحاكاة عن احلرف املكتوب رغم القربى بني
احلالني ،ألن موضوع انتقال الصوت إىل التصوير الشكيل له حيتاج بحث ًا منفرد ًا. ومع ذلك يبقى لكتاب املحاكاة لألستاذ خالد كموين حضوره الرضوري يف املكتبة العربية ،وذلك بسبب النسب التكويني بني اللغة العربية وإنساهنا الذي هبا سام وهبا أقام عالقة مضيئة بني السامء واألرض.
كانت اللغة/كل لغة /دليل إنساهنا املتكلم هبا ،وصورة عنه ،وترمجة ملخزونه احلضاري ،وهي كاإلنسان نفسه ترتقى من تقليد الصوت يف الغابة إىل اإلفصاح عن أعمق ما الوجود من جتليات ومظاهر وغيبيات ،فهي تكون إشارات حني يكون الوعي مضمر ًا يف مرحلة ما قبل الوعي، ثم ترتقى إىل مستوى الصوت الذي هو مرحلة متقدمة عىل اإلشارة ،ألن دالالت اإلشارة تتعلق باحليس املرئي ،والصوت يذهب أبعد يف تعاطيه مع احلال األعمق للتعبري عن مكنونات الذات البرشية. وللصوات ألوان حيسها املستمع ،وحيكم عىل مدى عالقتها بذات املتكلم.
واإلشارة نوع من اللغة ،وإن مل يكن مصدرها اللسان ،وإن كانت اللغة انتقاالً
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 191 منها إىل إىل اللسان ومرحلة الصوت متنامية مع تقدم العقل اإلنساين ،ولذلك ارتبط الصوت باملعلوم ،وكان سابق ًا للحرف الذي هو مرحلة اختزان متقدم لدالالت األصوات ،وارتباط الصوت باملعلوم واضح معنى وتطور ًا وداللة يف اآلية ٌ الكريمة " :وع َّلم آدم األسامء كلها" ،وقطع ًا ال تـُفهـ َُم اآلية عىل ظاهرها .واملحاكاة يف هذه اآلية مرتبطة بالوعي والدربة أعني العلم ،البد من التأويل للربط بني داللة اآلية واملحاكاة التي هي رس وجود اللغة، وهنا البد من فهم اآلية عىل معنى االنتقال من الفردوس إىل األرص وتعلم آدم أصواهتا من املحاكاة .ونضج لسان الطفل لغوي ًا مرتبط بنمو ما يرتبط به فيزيولوجي ًا وعقلي ًا من اجلسد ،وكلام تقدم الوعي تقدم معه الصوت وأعني اللغة املحكية امللفوظة بدالالهتا القصدية. ويبدو أن اللغة يف أصواهتا املحكية كانت تقليد ًا متقدم ًا للطبيعة وأصواهتا، ويف ذلك يقول ابن عبد ربه" :اللغة فضل يف املنطق ،مل يقدر اللسان عىل استخراجه، فاستخرجته الطبيعة باألحلان عىل الرتجيع ال عىل التقطيع" ،ولذا كانت بدايات التقعيد اللغوي مادية ومستجيبة لتأثر اإلنسان بالصوت الوافد من اخلارج واملختزن يف الذات ،وإذا أخذنا مثاالً كلمة َ جير َّ القش أو "شدَّ " ختيـَّلـْنا إنسان الغابة ّ احلطب خلفه يف الغابة فيبدأ حرف الشني يصدر عن عملية اجلر والسحب ،ويكون الصوت كام ييل" :شششششش" ؤيكون تكرار الشني استمرار ًا لعملية السحب فإذا ارتطمت عقد احلطب أو القش
باحلجر برز صوت الدال تالي ًا لصوت الشني املتكرر "دددددد" وتكون َ الشدّ ة ترقية حلرف الدال صعود ًا سمعي ًا بعد شأشأة الشني املسحوبة صوت ًا ،وهبذا تكون "املحاكاة" صدى لصوت القش املسحوب أو احلطب ،والعملية الثانية تكون رسوخ هذا الصوت يف أعامق إنسان الغابة األول، واللغات كلها حماكاة وإن بدا االختالف يف ظواهرها وتطوراهتا عرب إنساهنا .وقد وعى األستاذ خالد كموين هذه احلقيقة بنظرة ثاقبة حني قال مستشهد ًا بقول زكي عرف األصوات بكوهنا": األرسوزي حني ّ صدى وجداهنا يف النفس" ،ويضيف خالد كموين قائالً ":األمر الذي جعلنا نسهب يف عرض فكرته عن الربط الوجداين بني الطبيعة واإلنسان ،وانعكاس أثر هذه العالقة يف اللغة ،وبالنتيجة يف القيم اإلنسانية واألخالقية التي حتملها هذه اللغة"( .)1إن هذا الكالم يعرب بدقة عن صدور اللغة عن نمو الوعي اإلنساين وقضاياه املتعلقة باملرئي والالمرئي من األشياء .وقد بدأت اللغة تتطور كاإلنسان نفسه ،وبدأت خترج من ماديتها للولوج يف الفكر واإلحساس ،وإعطائها معنى أبعد من دالالهتا ،فلفظة الصالة واجلهاد والزكاة والركوع والسجود وما ال حيىص من األلفاظ بدأت تأخذ معنى داللي ًا أبعد من حسيـَّتها وماديتها األوىل ،ونرضب مث ً ال عىل ذلك من األصمعي حني أراد أن يعطي معنى دقيق ًا لكلمة "تبارك" يف قوله تعاىل" :تبارك الذي بيده امللك" ،وكان أن رأى يف البادية صغار ًا يلعبون ،وانتبه لقول طفلة صغرية حني تركت أتراهبا ،وصعدت
املنافذ الثقايف
192ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فوق كومة من احلجارة ،وقالت ألتراهبا: َوت عليك ّن، ُ "تباركت عليك ّن" بمعنى علـ ُ يت اللفظة حسي ًا وقتها ربط بني دالال ْ ومعنوي ًا ،ومن الشواهد سؤال أيب عمر بن العالء ألعرايب كان يطوف باملسجد احلرام: ُ اخليل خيالً؟" فأجاب األعرايب ميت "مل َ ُس ْ برسعة دون أن يلتفت لسائله" :أال ترى أهنا تسري العرضنى واخليالء!!" .إن ثورة اإلسالم جعلت اللغة العربية حتدث ثورة فيها أيض ًا بفعل إنساهنا وانتقاله من الوثنية احلسية إىل اإليامن باملطلق الذي "ليس كمثله يشء" .فاللغة وليدة ذات إنساهنا واستيعابه الواعي للكلامت ودالالهتا املتطورة باستمرار. وال ينسى األستاذ خالد كموين اإلشارة إىل املخزون الثقايف الداليل الذي وصلت إليه اللغة العربية يف فرتة ما قبل اإلسالم ـ وأنا أعرتض عىل تسميتها العرص اجلاهيل كام ذكر األستاذ خالد كموين ألن تلك الفرتة مل تكن فرتة جاهلية ـ
بفعل تطور الفكر العريب كمقدمة للتطور األعمق الذي قامت به ثورة اإلسالم يف الوجود .يقول خالد كموين مصيب ًا" :إن اللفظة العربية يف تلك الفرتة أصبحت تؤدي دورها الثقايف الشامل ،أي أهنا مل تعد مقترصة عىل طاقتها االنفعالية البدئية ،بل تطورت لتكون لغة الشعر واألدب ،ما يشري إىل أن العالقة اجلدلية بني املحسوس واملعقول يف عملية الداللة تفعل فعلها يف مصاقبة األلفاظ للمعاين التي تسدّ حاجات الناطقني هبا ،بام جيسد الواقع احلقيقي للفعل اللغوي ،أو للعالقة ()2 الدائمة بني اإلنسلن واألشي ْاء".
ويبدو أن لكل لغة يف أصوات تكوينها األوىل ما يالئم بيئتها اجلغرافية، ولكن اختالفها الينفي حماكاهتا األوىل للطبيعة كلها ،ولقد أجاد خالد كموين يف اختيار هذا العنوان من بني كل العناوين التي أعطيت لنشأة اللغة .وسمعت منذ أيام الدراسة اجلامعية يف فقه اللغة رواية ألستاذنا يف هذه املادة حممد مبارك ال أذكر اسم ذلك العامل الذي كان ال يفقه من العربية شيئ ًا ،وكان قد طلب أن حيكوا هلا كالم ًا عربي ًا لصيق ًا بنشأهتا املادية فقيلت له ٌ مجل استطاع من خالل ارتطام أصواهتا أن يعطي معنى تقريبي ًا هلا ،ألن للغة ارتطام ًا صوتي ًا تأخذه من نشأهتا األوىل وحماكاهتا ملا صدرت عنه ،ويف هذا يلتقي األستاذ خالد كموين مع نظرية "ابن جني" يف نشأة اللغة حيث يرى ابن جني أن اللغة وجدت ٍ بفعل طبيعي حماكايت ،وهو خيتلف ونشأت مع أيب عيل الفاريس حول كون اللغة إهلام ًا استناد ًا إىل قوله تعاىل ﴿وعلم آدم األسامء كلها﴾ ،وي ِ دخل ُ هذا يف باب التأويل .والذي جيب توكيده هنا هو أن رأي ابن جني أدق وأقرب إىل التعليل العلمي لكل الظواهر التي حار اإلنسان يف اجلزم بتفسريها .يقول ابن جني" :وذهب بعضهم إىل أن أصل اللغات كلها إنام هو من األصوات املسموعات، كدوي الريح وحنني الرعد وخرير املاء... ونعيق الغراب ...ونحو ذلك .ثم ولدت اللغات عن ذلك فيام بعد .وهذا عندي وجه صالح ومذهب مقتبل"( ،)3يلتقي هذا التعليل مع الرأي املعمق ألفالطون الذي فسرّ املوجودات كلها استناد ًا إىل نظرية
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 193 املثـُل عند أفالطون كام أشار إىل ذلك خالد كموين" :مابني املحسوس واملعقول تقوم عالقة معرفة ..عالقة املعرفة هذه هي فعل املحاكاة"( ،)4ويثبت رأيه بقول أفالطون: "إن كل أشكال املحاكاة يف النظام املادي (األريض) قد ردته العودة املحاكاتية للروح إىل املثل العليا"( ،)5ويرى أرسطو عكس ما يرى أفالطون والرواقيون حني يقول أرسطو " :إن ما خيرج بالصوت ٌّ دال عىل اآلثار التي يف النفس ...وهي املعاين، توجد أيض ًا وحدة للجميع"(.)6
ويشري خالد كموين إىل نظرية عبد اهلل
العالييل "إرادة املحاكاة" ،ومنهج العالييل
يف فهم املحاكاة" :جعله يتدرج يف فهم تطورها احلركي وفق تطورها الزمني ،إذ يبدو لنا أن االنتقال من الصوت الطبيعي
يمر بمرحلة حتولية هامة هي إىل احلرف ّ احلركات..ويقصد هبا احلروف األوىل
واجتامعها....وهنا تبدو عملية النطق حمكومة بإرادة داخلية تنظم عالقة اإلنسان
بالطبيعة ،وهي إرادة املحاكاة".
()7
ـ IIـ
ومن الفصول اجليدة واألصيلة يف كتاب "املحاكاة" لألستاذ خالد كموين هو اندغامه مع املفكر الرائع زكي األرسوزي يف فهم أصالة اللغة العربية عرب ِقدَ مها "واالستمرار يف احلياة من ناحية أخرى" ،ويرى خالد كموين صوابية فكرة املفكر زكي األرسوزي عرب ربطه بني أصالة اللغة العربية وأصالة اإلنسان العريب الذي حفظ تارخيه وصان جتربته احلضارية عرب هذه اللغة ذات الرسالة األرض بالسامء ،إهنا إفصاح عن املوصلة َ الفيوضات احلضارية التي أقامت العالقة بني الصوت العريب والصوت اهلابط عىل غار حراء مفصح ًا عن ذات األمة الواعدة برسالتها احلضارية واإلنسانية يف آن .يقول خالد كموين" :إن زكي األرسوزي قد أضاف طابع ًا فلسفي ًا هلذه الظاهرة اللغوية عن طريق ربطه بني النشاة الفطرية الطبيعية للسان العريب
واملاهية الوجودية لتي جيسدها اإلنسان العريب يف أمته احلضارية"( ،)8وهذا الكالم ألمهيته ينقل هذه الظاهرة املتجلية يف لغة العرب إىل املعنى األعمق الرتباط ظاهرة اللغة بظاهرة الكونية اإلنسانية املتجلية يف اللغة العربية ونتاجها الغزير واستمرار هذه اللغة يف حضورها اإلبداعي رغم كل مظاهر التخلف التي حلقت بالعرب عرب تارخيهم اململوء بالصيال واجليال واحلصار واالستعامر بكل أشكاله املادية والروحية. أما كالم األستاذ خالد كموين عن الصويف املنهج استخدام زكي األرسوزي َ َّ يف تعليل وجود اإلنسان العريب احلضاري بالربط بني وجوده املادي وأدائه الروحي فإين أعتقد أن السمو باللغة داللة وإحيا ًء يدخل يف باب اإلرشاق والتأويل ،ال يف مهج الصوفية املعتمد عىل الشطح واالقرتاب من السوريالية يف كثري من تعبرياته ورؤاه ،فقد كان سطوع اإلرشاق
املنافذ الثقايف
194ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الروحي يف الذات العربية يف حقبة ما قبل اإلسالم باديا يف تراثهم املعرب بصدق عن مكنونات تلك النفس القلقة الباحثة عن تأويل لكينونتها يف لغة متقدمة إرشاقية ولعل شعر أمية بن الصلت خري معرب عن شوق انتظار هبوط السامء إىل األرص لتغدو األرض سامء "ما جاوزهتا سامء" ،إن رقي اللغة العربية كانت تعبري ًا عن سمو الروح العربية الظمأى للسفر أبعد وراء ماهيتها املحدودة ،وما تعلقها باألرقى إال التفسري احلقيقي لقول الرسول العريب: "إنام بعثت ألمتم مكارم األخالق" ـ وإن كان األستاذ عبداهلل العالييل يرص عىل "كرم األخالق" يف احلديث وليس مكارم األخالق" وقد يكون مفهوم التأويل هو األجدى يف هذا املجال ،حيث تكمن قيمة التأويل يف اسبطان املعنى للوصول إىل مرحلة معنى املعنى ،وربام اإلضافة إىل أبعد مما
يراه صاحب النص األصيل ،وهكذا يكون التأويل كتابة ثانية للنص اإلبداعي ،وهو أبعد من نظرية حماكاة املعنى تفسري ًا، فالتأويل يف غايته القصوى احتامالت بال هناية ،وهي ال تأيت إال بعد مرحلة التفسري املبسط للنص يف استدالالته املبارشة .ويكون يف بعض مراميه حتويل املعنى إىل حال ،ويف هذا التأويل تكون األمة قد بلغت مستوى متقدم ًا من النصج احلضاري ،وكانت آيته التأويل الروحي للقرآن ،أومل يقل اإلمام عيل ألصحابه حني أرادوا إقامة احلجة عىل اخلوارج" :ال جتادلوهم بالقرآن ،فالقرأن محـّال وجوه". وتظل اللغة رضورية رغم ضعف قدرهتا عىل اإلحاطة بالتأويل مع أهنا وعاؤه يف الوقت نفسه. وأخري ًا ،أقول إن هذا الكتاب جيد ورضوري ،وكنت أمتنى لو أعطاه حبيبنا خالد جهد ًا صياغي ًا أكثر.
عمـر شـبيل
( )1املحاكاة /ص / 18خالد كموين. ( )2خالد كموين /املحاكاة /ص .21 ( )3خالد كموين\املحااكاة \ص .119 ( )4املحاكاة ص\ 98خالد كموين. ( )5مجهورية أفالطون :ترمجة حنا خباز .بريوت .دار القلم. 204 . ( )6أرسطو طاطاليس ،كتاب العبارة ،نقل إسحاق بن حنني ،وكالة املطبوعات ،بريوت دار القلم ،1980 ،ص .99 ( )7خالد كموين /املحاكاة ص .210 ( )8خالد كموين /املحاكاة /ص 2.47
ملف ال�شباب ـ ن�شيد املقاوم ـ خواطر ـ فو�ضى هذا ال�شارع تزعجني ـ ر�سالة الدامناركـ هواري
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 197
نشــيد املقـاومـة زيـنب فـايـز راضـي
ع�شية ن�رصي وقبل ان اريح �سالحي او اكل خبزي او اذكر اهلي او يربد جرحي �أعاهد �أن �أبقي امللح فوق جراحي و�أن يكون يف جيوب الريح مكاين وفوق تالل الكون يبقى و�شاحي �أبقي خيرب ّ وذل عدوي ملك مييني �أ�سداً �أبقى �أحمي عر�ضي �أحمي عريني هذا بيتي هذا طفلي هذي دمائي �سوف اقاوم ولكل مقاوم/كل وفائي �سالحي �سيبقى وبقاء �سالحي/يعني بقائي
زيـنب فـايـز راضـي
املنافذ الثقايف
198ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خــواطــر عمـران الوردانـي
الفرح الالفح جل�ست عند املغيب
�إنك تت�أمل روحك
م�ستند اً ....
يف اندماج املوج
لإحدى �صخور ال�شاطئ
وتك�سرُّ ِه الالمتناهي... ولي�س عقلك بهاوية
مل مي�ض على وجودي
� ّ أقل مرارةً...
هنيهة .....
�إنك تتم ّتع بالغو�ص
حني �أح�س�ست
�إىل �صميم �صورتك
ب�صوت يناديني....
فال تكن غارق ًا...
يناديني
غارق ًاعند امل�ساء،
من �أعماق الأمواج املتالطمة
طوي ًال
املتك�رسة عند �أقدامي
بال�سكنى �إىل �أحزانك
قائ ًال يل:
بل �أغرق �صباحك
مت�أم ًال �شارداً.....
�أيها اجلال�س مع نف�سه كئيب ًا �شارد بالفرح اخلالق... الذهن
ٍ اخلالق ل ٍ ندية أجواء
البحر مر�آتك:
من �أفكارك الالفحة...
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 199
ا مل�ستبد �آه كم �أمتنى.....
وحملتك
لوكان ال�سحر
مت�شبثة بعنقي
خامت ًا يف �إ�صبعي
ت�رصخني
وكان القرار يل �إىل الأبد لكنت جعلت منك �أمرية الن�ساء وع�شرتوت احلب و�أقمت �سوراً
يف �أذين فوق ال�سحاب يف عنان ال�سماء يا لك من جمنون
بينك
�أع�شقك
وبني الرجال!!!....
�أيها امل�ستبد
عمـران الوردانـي املنارة ـ البقاع الغريب
املنافذ الثقايف
200ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قصة قصيرة ً جدا:
فوضى هذا الشارع تزعجني فـرح حممـد ديـاب
فو�ضى هذا ال�شارع تزعجني روائح اخليانة التي تفوح من جدران الأبنية حتوك �أوتاداً من خيوط العناكب بني روحي وج�سدي كل التماثيل مت�شي بقناع عنرتة... ك ّلهم عنرتة � ّأما �أنا� ،أحمل كتابه يف يدي و�أعرف �أ ّنه ال يعي�ش �إ ّال يف هذا الكتاب و�أعرف � ّأن كل هذه الأقنعة من غبار، مع �أنني ال �أجيد قراءة عيون التماثيل. ومازلت يف ذلك ال�شارع �أ�سري... �أم�سح رائحة اجلدران عن ثيابي و�أنف�ض غبار الأقنعة عن وجهي... حممد دياب ق�صة ق�صرية ّ ّ جدا ل فرح ّ فـرح حممـد ديـاب
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 201 الشاعرة فادية كمال اخلشن
شعب الشعر املختار ..وجمع املؤنث العاشق مـروان حممـد درويـش ربان دمي.. «�أنا ّ ي�شتعل � ُ ُ أ�شتعل.. وحيث ما �أنا �شعب ال�شعر املختار.. �أنا فريق العاطفة.. اقرتبت من ٍ رف�ضت �سجنها.. قامة ك ّلما ُ ُ �أنا مو�سوعة �أ�سمائي و�شاهد ع ّفتي.. �أنا حاملة مفاتيحي و�أبواب كنوزي.. ابتعدت بالزمن �أتولَّ ُد م ّني.. ك ّلما ُ بال�شعر �أ�صنع ع�شق ًا وفرادي�س وق�صائد وحرية.. و�أ�سئلة كثرية و�سخرية ّ
هو ملكي وملكتي ومملكتي.. هو غزوي وفتوحاتي ونظام حكمي.. هو قلبي املفتوح..
أحر ُر الأنا من نرج�سه به � ِّ أحر ُر زمن ًا وكون ًا وحلم ًا قا�سي ًا.. و� ِّ
أحر ُر ال�ضوء ال�سجني» وبه � ِّ
إهنا األديبة املم ّيزة وشاعرة لبنان املهاجرة فادية كامل اخلشن.. كثريون هم الذين هاجروا من أوطاهنم واستثمروا غربتهم استثامر ًا ج ّيد ًا،فلم يتوقفوا عند عوائق احلياة يف املجتمعات اجلديدة،بل واصلوا رحلة البحث عن التقدُّ م واالزدهار ،وبخاص ًة ا ُملبدعني الذين نقشوا أسامءهم يف بالد ٍ بأحرف من نور وحفظ هلم التاريخ املهجر العريب قيمهم األدبية والفنية ،وما زالت قصائد بعضهم ومدارسهم الشعرية مادة أساسية يف املناهج األدبية العربية.
فادية اخلشن واحدة ممن افرتستهم الغربة ،تقول يف إحدى قصائدها« :أنا والغربة ..حسنا ٌء ووحش". وأحيان ًا ترى أن الغربة أخرجتها من حالة الرتابة الباردة والرت ُّقب اجلامد والتأهب واملراوحة،إىل حالة االنطالق ُّ حيث اآلفاق الواسعة الرحبة والعوامل ولونت خياالهتا األكثر تفتُّح ًا وانفتاح ًاَّ ، وأمدَّ هتا برؤى أكثر غنى ،وزودهتا بلغةٍ ّ ٍ ٍ جديدة ف َعز َفت عىل ناياهتا كثري ًا من شعرية قصائدها. تقول" :يل فلسفتي اخلاصة للغربة، أقول يف إحدى قصائدي" :السؤال
املنافذ الثقايف
202ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منفى واألجوبة وطن" .فالغربة عندي هي السؤال الذي ال يلقى جواب ًا؛ لذا ٍ بوجدان حارض، تراين الراكضة أبد ًا واملاضية إىل ما ال هناية وراء خيط النور ّ وظل الشمس الضاحك طارق ًة األبواب بيد اخلَيال ،مسافر ًة أبد ًا بتوق القصيدة وبكل املسافات واألمكنة ِّ وكل األزمان، اب آفاق، جو ُ ّ كذا الشاعر سندباد متبصرِّ أ ّما غربتي املكان ّية ،فشأهنا شأن الثلج، هي غرب ٌة عابر ٌة ورهينة الطقس النفيس وهجامت احلنني ،جت ِّففني أحيان ًا وتر ُبت عىل كتفي حين ًا آخر ،أميض هبا منقاد ًة بجرس الضباب؛ حيث أن الغربة ال تلدُ إالّ الغربة واملنايف ،فالشمس يف الغربة رس ًا برائحة ّ ممزقة التيجان ،والفراغ يرمتي ّ اجلسد". والغربة أحيان ًا مت ِّث ُل هلا هاجس ًا مؤمل ًا يف قصائدها فتقول: اجلغرايف العارفُ ..د َّلني "أيهُّ ا الطري ّ عىل الدولة األوسع من حضن أ ّمي!!".
فادية كامل اخلشن ،لبنانية اهلو ّية والكيان ،من بلدة سحمر ـ البقاع الغريب. حفيدة الشاعر والصحايف املهجري عبد اللطيف اخلشن،وشقيقة الشاعرة وفاء كامل اخلشنُ ..ولِدت يف دمشق ،ودرست وخترجت من يف مدارسها وجامعتها، َّ ك ّلية اآلداب قسم اللغة العربية .عملت يف الصحافة السورية طوال سنوات، ونرشت قصائدها يف خمتلف املجالّت والصحف السورية واللبنانية .متأهلة من الشاعر والروائي العراقي أسعد اجل ّبوري، وهلام ثالثة أوالد ،وتُقيم مع عائلتها يف الدانامرك حيث عملت مديرة حترير جم ّلة
"طقوس" التي تصدر باللغتني العربية واإلنكليزية،والتي يتولىّ زوجها مسؤولية رئاسة حتريرها. تقول" :أنا وأسعد زم ٌن كامل ال ٌ ليل يرض نور تتبعه ظلمة..ال يتبعه نور وال ٌ ُّ نجمي لو خفق نجمه وال خيفت ضوئي ٍ التفات إىل لو سطع ضوؤه ،نميض دون ا ُملقارنات والنقد املؤدلج املصنوع بمعامل الشلل ّية النقد ّية ،نميض وأساطرينا بني جوانحنا وأحالمنا يف أغلفتنا ،ما زال ثمرنا الشعري يانع ًا وما زالت ورود ح ّبنا ٍ بشفاه ند ّية ،وما محراء ،وهاك أقالمنا زلنا يف حرك ّية الشعر األكثر نقا ًء .مع ًا يف احلب ومع ًا يف مشاوير العاطفة تواليات ّ ومع ًا يف االنسياب الشعري اجلميل الذي نهُ ِّش ُم بحرارته رأس الغربة ونكرس اجلليد رب اهلم الوطني خ ٌ اإلسكندنايف .كالنا يف ّ ٍ كشاعر وصحاف ّية عاجل .مع ًا بدأنا وصحايف وشاعرة.كتبنا القصائد ا ُملشرتكة وأضعناها ورسق ناقدٌ يقط ُن يف السويد أمجل قصائدنا فحزنّا عليها ومتنّينا لو ّ كل تتحول إىل رسقة قصائد الرسقات يف العامل ّ فقط .مارسنا العبث الطفو ّيل اجلميل.. ركضنا يف الشوارع ..مع ًا مجعت الطرقات ِ وتراضينا ..ودائ ًام ضحكاتنا ..خصامنا بحب األصدقاء واحرتامهم. كنّا نحظى ّ احتضنّا مع ًا قلق الشاعر وفهمنا أمزجته. هندي مجيلٌّ .. كل مضينا مع ًا يف فيل ٍم ٍّ منّا ترنّم جلديد اآلخر الشعري وح ّفزه، وكانت أمجل اهلدايا بيننا قصيدة جديدة ،مل نأبه للزمن وال للجيب الفارغ ،أزماننا كنّا نصنعها عىل الورق العاشق الذي سكبنا فوقه قصائدنا توق ًا وشغف ًا .هكذا خلقنا
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 203 أكواننا ومناخاتنا التي ال تتحدّ د بفرتة ٍ ٍ ٍ زفاف قران أو زواج ،ومع ًا يف خطبة أو دائم ،وال أدري كيف ُرزقنا بثالثة أقامر".
القصة جمموعة "أحالم صدر هلا يف ّ َ الق ّطة البيضاء" ،وهي جمموعة قصصية موجه ٌة للطفل ،تقول عنها" :لقد كانت ّ اهتمت بالتقنية الكتابية ة ي عفو جتربة ّ ّ واللغة السهلة واأللفاظ السلسة دون أن تُق ِّل ُل من الدور الرتبوي ،إضافة إىل والتسلية.قصة "أحالم الق ّطة دور اللعب ّ ِ الرسام ا ُملبدع البيضاء" ُأرف َقت برسوم ّ أمحد معال ،التي بدورها قدّ مت متعة فنّية ضمت يف ط ّياهتا من هبجة اللون خالصة ملا َّ بهج نفس الطفل ومجال اللوحات ،مما ُي ُ ويغمرها بالتفاؤل والسعادة ،كانت جتربة إنسانية ،اهلدف منها املسامهة يف ٍ نتاج ثقايف يتوجه لطفل اليوم رجل الغد ،فعامل ُ الطفل ّ عامل ٌ بال ضفاف قابل لالندهاش ،وبالتايل َّ ب مهارة العبي فإن تشكيل ثقافته تتط َّل ُ السريك .إن الكتابة للطفل منغمس ٌة يف عامل اإلثارة واخليال العلمي أو كتابات تفرش الورود يف طريقه وتُبعده عن الواقع ،أو كتابات إنشائية مدرسية ال تُساهم يف رفع ٌ مستوى كيانه الوجداين واإلدراكي ،ومن ُ نلحظ شغفه بأفالم الكرتون و ُمتابعته هنا لألفالم أسو ًة بالكبار" .وهلا رواية بعنوان ِ "عرق السواحل" صدرت يف دمشق عام .2011 أ ّما يف الشعر ،فقد أثرت الشاعرة ٍ بعدد من فادية اخلشن الساحة الثقافية دواوين:نار ا ُملنجزات الشعرية هي مخسة ٌ احلب منك تتبعني،املستأنس بينابيعه، ُّ زحف ُمقدّ س ،مجع املؤنث العاشق، ٌ
نصوص والسمكة اهلاربة بداية بحر .وهلا ٌ ومقاالت أدبية منشورة يف العديد شعرية ٌ من املواقع اإللكرتونية منها :اإلمرباطور، جهة الشعر ،جنون ،ا ُملغرتب ،تريز ،جم ّلة ميدوزا ومبدعون عرب .وهي عضو يف احتاد الصحفيني ،وعضو احتاد الكتّاب الدانامركيني.
للشاعرة فادية اخلشن مرشوعها الشعري ا ُملتنامي ،وتسعى إىل حتقيقه عرب العمل بأدواهتا اللغوية اخلاصة بتجربتها ٍ مقامات من ٍ نور والتي تقول عنها" :عىل بذهنية متموسقة وبرقة الطائر الشغوف أنفلت من بحار الضجيج اليومي إىل منارات القصيدة إىل صور مشحونة برنني احلب واحلياة أتقلب بذاك االستشفاف القابع وراء الرؤية الصافية املتسلل إىل الروح بخفة أنغام الكون ضد قفص املكان وديكتاتورية الزمان أميض كام املاء الزالل ،يزخرف اخلرائط أكون سندباد أكون سندريال وأكون به "أوليس" يف بلد العجائب الشعر ،وبه أسرب مطاوي الذات وبلغته أكرب تارة وأراهق أخرى ،وبخياله أنصف آدميتي .هو غزوي وفتوحايت ،هو توأمي الذي تربى معي وترعرع،هو حينا قطتي وحينا الكون ،أتقلب به كثريا وأنزح بعيد ًا ،هو األريج الذي حيبو يف رشاييني،به أميض إىل ما لست أعرف ،هو حبي وسعاديت أتنفسه ويتنفسني ،هو جزعي وتوقي شكّي وسخريتي ،هو طائر التوق العمالق ،هو الذي ال ينعم باالكتفاء وبه أصل إىل القمر ،هو العامل املعقم والفائض يف غمرة احلروب واخلرائط هو قرصي وصوجلاين ملكي ومملكتي
املنافذ الثقايف
204ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ودستور حكمي واخلارج عن دساتريه مطرود إىل غبار الثكنات ،هو صاحب اجلاللة به أدخل احلياة وبه أستعيص عىل الفناء ،الشعر نبض بيدي ،هو املكتمل بعدالته ،هو الريح حني تكون غزالً كوني ًا والطبيعة حني تكون أبجدية اآلهلة،هو أرض وسامء وبينهام شوكة اإلنسان ،هو الطري حني يكون استطالة عشق ،والقبلة حني تكون عىل الشفاه تفاحة كاملة ،هو الروح املتعرشة عىل كتف الوحش الزمني، هو زهرة اللؤلؤ الساقطة من عني حب بكر،هو قارع أبواب الشوك ،هو الرحيق املتضوع من اللغة والرغبة الصارخة يف معابر الدم احلار،هو الكيان املغتسل من الدخان والنوم الكاريكاتوري ،هو حارس الدهشة الباكي النطفاء حجر، هو العطر اختزال كل ربيع ،هو منجل السؤال وبوسرت االحتامالت ،هو عني من سامئها يستنسل الرحيق ،هو امللح عىل أريض املليئة بالرباكني ،هو ذوق اآلهلة وحلوى الشفاه ،هو الباشق الذي يعلو مع رذاذ املوج ليقطف احلب من وهج الشمس،هو الغواص الذي يعيد للبحار ابتساماهتا املغتصبة ،هو الشوارع البيضاء املفتوحة القلب عىل عامل السمو،هو الذي حيرر الضوء السجني ،هو اهلازيء من قدع األيام،وطن يتأرشف يف العني ،هو قاتيل حلظة التجيل العظيم ،هو حلم ودم وغزل وحب يتجول بوروده وشذاه يتضوع برذاذه فوق كل مجال ،هو الكالم املتقافز غزل إىل ٍ من ٍ غزل فوق املجالس والقرارات واألوراق واألوسمة ،وهو النور املنبعث من أرض احللم ،به نصنع للوطن عل ًام
متخ ًام باالنتصارات،وهو الشارع حني يكون قلب ًا مفتوح ًا ،هو اإلنسان اختزال الكون،هو اجلسد حني يصري روح ًا ال تنعم بالسكينة ال فوق ألواح احلكمة وال يف شفافية الرباءة ،هو من يكرب به العامل واإلنسان ،هو األوكسجني املنشط لأليام،هو املنهمر عيل من براق ظميء، هو ملح عىل أريض الدافئة ،هو جند بال أسلحة ،هو شعويب الكثرية.
وعن رسالتها تقول" :رسالتي أالّ تنغمس القصيدة يف ِدبق الشعارات أو تغرق يف التقليد األعمى .رسالتي أن تبقى حرة ال تقبل املكوث يف العزلة القصيدة ّ بحرية وال ترتيض دور اخلَ َفر ،أن تنتقل ّ ٍ ب ،تُغامر، من عرص إىل عرص ،تغضب وتحُ ّ حتتج وتتجنَّح ،ترصخُّ ، تدك عروش ًا وتبني ُّ تخُ ً بحرية إنسان بلدانا ،ترصخ و اطب العامل ّ ما قبل احلدود طارق ًة األبواب والعوامل، تتحو ُل إىل ٍ يقرع طبل مقتحم ًة اآلفاق كيال ُ ّ يف حرضة املال ،أن تكون ذات فضاءاتٍ تقفز من وأحالم ،وأن تكون نبض ًا ُمش ّع ًا ُ ٍ ٍ توقف زمن إىل زمن، قمة ومن ُ قمة إىل ّ ّ ً احلب وتقتل وتسترشف الغد ،تُعل ُن حروبا ُ َّ الربد العاملي،أن تكون درع ًا وقائي ًا ضد أسلحة الفراغ واإلبادة الذهنية الدعائية. أنا ال أستسيغ االستنساخ وأسعى ِّ لكل تتلون قصائدي ،وأن يكون أن َّ ٍ اخلاصة،وأعتقد أنني قصيدة هالتها ّ يف جتاريب الشعر ّية ماضي ٌة يف الطريق ٍ ثقايف بمخزون الصحيح،متس ِّلح ٌة ِ جامعي ،حيث َّ أن الشعر مل يأت إ ِّيل بالصدفة وال باألمنيات والرغائب،كام أنّه ليس بالسرية الذات ّية ،وأنا حريصة
املنافذ الثقايف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 205 عىل أن أبقى خارج الضبابية ّ اهلشة التي تدعو لالرتياب ،والشعر هو يف حقيقة ُ األمر روحي السابعة ،وهو العصيان ضدّ التعليب والتغريب والتغييب والتمومؤ كر يف ت ّفاحة الكون التي الس ُ والتو ُّثن ،وهو ُ ال تسقط بأ ّية جاذبية ،هو حلوى للشفاه. ولعليّ أو ّفق باستخدام اللغة الرشيقة الزاخرة باملعاين واإلحياءات واملتزاوجة مع املخزون املعريف واملتضافرة مع ملكة الشعر والبعيدة عن التك ُّلف والصنعة. وما يمكنني أن أقوله عن قصيديت أهنا غري مستعبدة لذاكرة وال ظ ًّ ال ألحد ،تتجدَّ د فيها األسئلة حماول ًة فتح األبواب،خارج ًة متلمس ًة طريقها وسط ركا ٍم من عن العادةّ ، العتمة بحث ًا عن بصيص إنسان حيث ما ٍ خالص فردي دت يوم ًا أن أبحث عن تعم ُ َّ ٍ ٍ وطن أو فكرة أو مجاليات عىل حساب أو ف ٍّن ،وال عىل حساب ُرفات الشعر أو أتعمد أن أخالف كي رفات الوطن .فأنا مل ّ أحول قصيديت إىل عرف،وال حاولت أن ِّ ُأ َ فيلم بورنو كي أشدَّ إليها األعناق ،وال رضيت أن تكون تابع ًا أيديولوج ّي ًا أعمى ُ أردت بأن ال تتس َّلع وال أن حيصد اجلوائز، ُ تتبضع ،وعىل هذا أقول أنا عىل ٍ يقني بأنني َّ عىل الطريق الصحيح .والزم ُن خري غربال. حل ُلم فهو سام ُد القصيدة،حيث ال أ ّما ا ُ ٍ ٍ أرض ُمفرغة من األحالم حييا الشاعر يف وإن كان الواقع وعر ًا صعب املراس، فاحللم فردوس القصيدة ونورها اجلامح، ُ نتج مجال ّيات القصيدة ،أ ّما رصدُ سامت ُي ُ احللم فهو دكتاتور ّي ٌة ُمضاعف ٌة؛ حيث جيوز حتديد مالمح احللم وسامته؛ ال ُ ألن احللم هو خصوبة القصيدة وفائض
اإلنسان وجزؤه املجنّح الطائر".
وعن األدب النسائي تقول" :جمتمعنا عموم ًا ما زال يقيم احلوارات حول املرأة ال التعرف معها ،وما زالت هناك عوائق متنع ّ مت عن عىل آفاقها الفكرية،فمنذ أن َر ْ كاهلها ُبردة الصمت وموروثات الوأد إىل يومنا هذا ونتاجها األديب ال ُي َق َّوم إال وفق مقاييس املنجز اإلبداعي للرجال ،حتى يف النقد األكاديمي ال توجد بنود ًا أخذت بعني اإلعتبار خاص ّية املرأة بحيث كان يرت َّدد عىل األلسن األدب النسائي وأدب ّ وكأن لألدب أعضا ٌء تناسلية الرجال ٍ يعمل هبا أو عضالت حيتمي حتت ظالهلا. هل يمكن أن يتحقق احللم النسائي بردم الفراغ اللغوي وردم اهلاوية عىل صعيد الذاكرة واللغة؟ وهل سيتح ّقق هلا ذلك؟ ٌ خملوق بغريه وهي ما زالت تُعامل عىل أنهّ ا ال بذاته ،وما زلنا نقول عن زوجته زوجه، وما زال االسم العريب املؤنث شأنه شأن ممنوع من الرصف. االسم العجمي ٌ
�أيها الطري اجلغرايف العارف. دلني على الدولة الأو�سع من �صدر �أمي. الأكرث دفئ ًا من خيارات البدء وحرارته. �أنا مثلك ال ادري من �أين �أبد�أ وال �أين �أحط. فال�ضباب كثيف كثيف..
املنافذ الثقايف
206ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتجاذب �أطراف العقل.
�أيها الطري..
والتعاريج تراك�ضني
دلني على دولة
�أفعى بجال جل و�أجرا�س.
ال حتط ثقلها الفكري
فيما الق�صور ت�ؤرخ ذاتها
فوق فراغ ُم ّلحن.
واملال بهلوان يتدلل ب�أ�ساطريه
دولة لي�ست ك�أ�شباح الدول
واملتعرق املحكوم ّ بالعزلة والعقاب.
وال كما الدول الأ�شباح. ال يعبث �أثريها يف الذهن النقي،
كبدنا امل�رشح
حافراً يف نقيق العظام.
حتت مظلة التعومل.
فها هو اللحم يتخلل املكان،
�أيها الطري اجلغرايف العارف
والزمن خال�سي القرار.
دلني على دولة
�أيها الطري
ترتهل ال َّ
دلني على دولة
خممورة
ل�ست م�ضطرة �أن �أ�سميها
كفرا�سخ املوج امللوث بالغرق.
خ�شية �أن يتقطر منها الرتاب
وال تلهج ب�سوء الطالع.
�أو تربح عنها الأيام.
دولة ال حتمل حروبها معها.
دولة ال يرعى الوهم بها الوهم.
وال حتوم كنوار�س البحر
وال يودي التيه فيها
فوق �شهوة الدم.
�إىل التيه الأكرب.
حاورها مـروان حممـد درويـش