manafez

Page 1

‫املنافذ الثقافية‬ ‫جملة ثقافية ف�صلية تعنى ب�أحوال الثقافة والفكر والأدب‬

‫رئي�سا التحرير‬ ‫العدد الثاين‬

‫عمــر حممـــد �شــــبلي ‬

‫شتاء ‪2013‬‬

‫د‪ .‬علي مهدي زيتون‬

‫الهيئة الإدارية‬ ‫د‪ .‬هالـة أبــو محـدان‬ ‫د‪ .‬راغــدة املصــري‬ ‫الـر ْمــح‬ ‫د‪ .‬نــــدى ُ‬ ‫د‪ .‬باسمة زين الديـن‬ ‫د‪ .‬أيــلـي أنـــطـون‬

‫جوزيف سمعان رزق‬ ‫رفـعـــت فــارــس‬ ‫عــلـي أيـــــــوب‬ ‫مــــروان درويــش‬

‫املجلة َّ‬ ‫حمكمة‬ ‫د‪ .‬ديـزيـريـه ســـ َّقال‬ ‫د‪ .‬حممـــد فـرحــات‬ ‫د‪ .‬فــــاتــن ا ُملـــــر‬

‫ِّ‬ ‫املحكمة‬ ‫اللجنة‬

‫د‪ .‬حممـــد طــاهــــر‬

‫د‪ .‬علـي مهـدي زيتون‬ ‫د‪ .‬فــــؤاد خـلـيــــل‬ ‫العـريــبي‬ ‫د‪ .‬حممـــد ُ‬

‫ت�صميم الغالف‬

‫املدير امل�س�ؤول‪:‬‬

‫ح�سني عنقا‬

‫علي حمود‬


‫اإلشتراكات السنوية‪:‬‬ ‫لبنان‪:‬‬ ‫ ‬

‫لألفراد ‪ 50 000‬ل‪.‬ل‪.‬‬

‫ للمؤسسات ‪ 60 000‬ل‪.‬ل‪.‬‬

‫باقي الدول العربية‪:‬‬ ‫ ‬

‫لألفراد ‪ 50‬دوالر‬

‫ للمؤسسات ‪ 60‬دوالر‬

‫للمراسالت‪:‬‬ ‫‪chebli_omar@hotmail.com‬‬ ‫‪a.m.zaitoun@hotmail.com‬‬

‫عنوان املجلة‪ :‬لبنان ـ بريوت ‪ ،‬كورنيش املزرعة‪ ،‬بناية الريفيريا سنرت‪( ،‬دار العودة)‪،‬‬

‫الطابق اخلامس‪ .‬هاتف‪70871193 / 70848961 :‬‬ ‫رقم احلساب املصرفي‪:‬‬ ‫‪IBN: LB06 0028 0000 0000 0063 7525 3201‬‬


‫احملت ـويـ ات‬

‫ ‬ ‫ـ الكتابة واملوقف‪...................................................‬عمر شبيل‬

‫‪5‬‬

‫ـ فطرة املرأة يف الشعر «تشييء الذات وتبخيس النفس»‬ ‫سعاد الصباح أنموذج‪.....................................‬د‪ .‬رياض عثام ن‬ ‫ ‬

‫‪21‬‬

‫ـ «براءة املسلمني» يف صورتني‪......................................‬د‪.‬فؤاد خليل ‬

‫‪46‬‬

‫مكونات املجتمع الدويل يف القرن الواحد والعرشين‪...............‬رغيد الصلح ‬ ‫ـ ِّ‬

‫ـ شخصية العدد‪« :‬مطاع صفدي»‪...................................‬أرسة التحرير ‬

‫ـ الظاهر بيربس‪ ....................................................‬برشى اخلليل ‬

‫ـ املرأة يف اإلسالم‪ :‬حق اإلرث والطالق ‪ ...........................‬د‪.‬هالة أبو محدان ‬

‫ـ قراءة يف جمموعة الشاعر أمحد حافظ الشعرية‪:‬‬ ‫«ال ضوء إال أحداق الذئاب»‪ ..............................‬د‪.‬عيل زيتون ‬ ‫ ‬

‫ـ قراءة بنيوية (ألسنية ـ سيميولوجية)لقصيدة صوت وسوط‬ ‫لـ حممود درويش‪..........................................‬د‪ .‬هدى املعدرا ‬ ‫ين‬ ‫ ‬ ‫ـ «الطبيعة يف شعر جودت فخر الدين»‪.............................‬د‪ .‬عائشة شكر ‬

‫‪13‬‬

‫‪32‬‬

‫‪50‬‬

‫‪60‬‬

‫‪65‬‬ ‫‪71‬‬ ‫‪80‬‬

‫ـ التعالق النيص ودور الكلمة الشاهدة يف‪:‬‬ ‫رواية‪« :‬السهل» لـ أمحد نرص‪ ...............................‬حممد احممد بن طاهر ‪92‬‬ ‫ ‬ ‫ـ إىل سعيد عقل يف يوم تكريمه‪ ......................................‬د‪ .‬حممد أبو عيل ‬

‫‪102‬‬

‫ـ وجه النبوة‪........................................................‬إهياب محادة ‬

‫‪108‬‬

‫ ‬ ‫ـ عىل سفحك العايل تنام القصائد‪...................................‬عمر شبيل‬

‫* ملف األدب املقاوم‪:‬‬

‫ ‬

‫ ‬ ‫ـ جمزرة طواها النسيان‪.....................................‬د‪ .‬فاتن املر‬

‫‪104‬‬

‫‪112‬‬


‫ ‬

‫ ‬ ‫ـ الزمن يف "رأيت رام اهلل" بدء الرسد ‪......................‬سهام أنطون‬

‫ ‬

‫ـ إىل غزة شاهدة وشهيدة‪...................................‬جعفر إبراهيم ‬

‫ ‬

‫ ‬ ‫ـ هواري‪...................................................‬ماجدة ريـّا‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ـ كفكف دموعك وانسحب يا عنرتة‪.......................‬مصطفى اجلزار ‬

‫‪115‬‬

‫‪119‬‬

‫‪124‬‬

‫‪126‬‬

‫ـ فطمت السامء فطمت األرض‪.............................‬د‪ .‬ماجدة غضبان املشلب ‪128‬‬

‫ـ أعالم احلركة الشعرية يف البقاع‪.....................................‬مروان درويش ‬

‫‪133‬‬

‫* من األدب العاملي‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ـ ساقي نامه لـ حافظ الشريازي ‪.............................‬ترمجة‪ :‬عمر شبيل ‪146‬‬ ‫ـ تقويم سنوي بال تاريخ للشاعرة األرمنية‪ :‬ماروش ت ‬

‫‪153‬‬

‫ـ الوحدة اإلسالمية‪..................................................‬غريبي مراد ‬

‫‪156‬‬

‫ـ طربوش «أبو جهاد» ‪...............................................‬جوزيف رزق ‬

‫‪183‬‬

‫ ‬ ‫ـ قراءة يف كتاب (املحاكاة) لـ خالد كموين‪............................‬عمر شبيل‬

‫‪190‬‬

‫ ‬ ‫ـ اإلسالم والغرب رصاع أم حوار‪...................................‬عيل أيوب‬

‫ـ مقابلة مع الفنان عبد الكريم إمامة‪..................................‬أرسة املجلة ‬

‫‪170‬‬

‫‪185‬‬

‫* ملف الشباب‬

‫يض ‪197‬‬ ‫ـ نشيد املقاوم‪...............................................‬زينب فايز را ‬ ‫ ‬ ‫ين ‪198‬‬ ‫ـ خـواطر‪...................................................‬عمران الوردا ‬ ‫ ‬ ‫ـ فوىض هذا الشارع تزعجني‪...............................‬فرح حممد دياب ‪200‬‬ ‫ ‬ ‫‪201‬‬ ‫ـ «شعب الشعر املختار» و«مجع املؤنث العاشق»‪.............‬فادية اخلش ‬ ‫ن‬ ‫ ‬ ‫«رسالة الدانامرك»‬ ‫ ‬

‫اعتذار‪:‬‬

‫نعتذر من الشاعر املفكر اإلنسان املبدع حممود نون عن بعض ما ورد يف املقابلة‬ ‫معه يف العدد األول من جملتنا‪ ،‬آملني بالتعاون املستمر يف سبيل خدمة إنساننا‬ ‫التواق للتواصل بإنسانيته اململوءة بقيم التاريخ التي محلها أهلنا يف رحلتنا الفكرية‬ ‫املخصبة‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪5‬‬

‫الكتابة واملواقف‬ ‫عـمـر شــــبلـي‬ ‫«عار عىل من يغني وروما حترتق»‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫يستيطع املثقف أن يكون مثقف ًا معروف ًا‬ ‫بعمق ثقافته‪ ،‬ويستطيع الشاعر أن يكون‬ ‫شاعر ًا بموهبة ساطعة‪ ،‬ولكن األفضل‬ ‫من كل ْيهام أن يكون املثقف مثقف ًا رشيف ًا‬ ‫ومناضالً‪ ،‬وأن يكون الشاعر شاعر ًا رشيف ًا‬ ‫ومناضالً‪ ،‬فإذا كان األدب‪ ،‬وحتديد ًا‬ ‫َ‬ ‫الداخيل لتحوالت النفس‬ ‫التاريخ‬ ‫الشعر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬وإذا كان األدب بالتزامه‬ ‫تأسيس ًا للوجود األفضل‪ ،‬فإنه مطالـَب‬ ‫بجامليته اللصيقة بنفس املتلقي أن يكون‬ ‫هادف ًا وذا وظيفة أخالقية واجتامعية‬ ‫ووجودية‪ ،‬وذلك بسبب قوة تأثريه‪،‬‬ ‫وترسب هذا التأثري يف الذات األخرى‬ ‫التي تتلقى االنفعال اجلاميل والتحرييض‬ ‫بنهم غري متوفر يف الكتابات األخرى‪،‬‬ ‫وليس املقصود بالوظيفة األخالقية أن‬ ‫يكون الشاعر واعظ ًا وأن يكون املثقف‬ ‫واعظ ًا‪ ،‬وإنام مهمة الشاعر الرشيف‬ ‫املناضل واملثقف امللتزم املناضل خلخلة‬ ‫البنى املهرتئة والتحديق باألرقى وختفيف‬ ‫غربة اإلنسان املحارص بالتقاليد البالية‪،‬‬ ‫وإلغاء املنايف الروحية املسطرية عىل عاملنا‬ ‫املعارص‪ ،‬وخلق األمل العنيد يف الذات‬ ‫البرشية‪ .‬مهمة الشاعر واملثقف واملفكر‬

‫المارتني‬

‫أن يقتلوا "إخوة يوسف" الذين يسقطون‬ ‫ب‪ ،‬ويسجنون األنبياء‬ ‫جل ِّ‬ ‫الفكر يف ا ُ‬ ‫والثوار‪ .‬جيب أن تكون الكلامت حرائق‬ ‫مشتعلة يف هشيم العقل اجلاهل‪ .‬وعىل‬ ‫هليب الفكر والشعر امللتزمينْ تعود اخلرضة‬ ‫ألشجار أعامرنا اليابسة‪.‬‬ ‫نحن أمة عىل شفا اهلاوية‪ ،‬ومهمة الفكر‬ ‫والشعر حتديد ًا إنقاذ األمة قبل سقوطها يف‬ ‫غياهب النسيان‪ ،‬ولذا عىل املثقف وعىل‬ ‫الشاعر حتديد ًا بسبب سريورة الشعر أن‬ ‫يواجه املأساة بوضوح جارح‪ ،‬وأالّ يتهرب‬ ‫إىل اإلغراق يف الرمز‪ ،‬وأنا لست ضد الرمز‬ ‫اختزان ًا وتكثيف ًا للمشاعر الغائصة يف‬ ‫أدغال كوامننا الداخلية وعىل الرمز يف حالة‬ ‫وجوده أن يكون أكثر داللة وأكثرحضور ًا‬ ‫من الوضوح نفسه‪ .‬إن التخفي وراء‬ ‫الرمز خوف ًا من القمع يـُلجئ الشاعر إىل‬ ‫شتم كافور األخشيدي مث ً‬ ‫ال للتهرب من‬ ‫الوضوح يف فضح متسلط جمهول االنتامء‬ ‫سيئ املحتوى‪ ،‬فيغيب دور الشعر‪ ،‬ويصبح‬ ‫ٍ‬ ‫نخبة‪ ،‬قد تكون‬ ‫أقرب إىل اهلمس وخماطبة‬ ‫هي نفسها بحاجة إىل التحرير‪ .‬ومهام‬ ‫كانت داللة الرمز التارخيي فقد يكون‬ ‫اللجوء إليه خروج ًا من التاريخ‪ ،‬وخروج ًا‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 6‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫من اجلغرافية حني يغرق الشاعر يف رماده‬ ‫تارك ًا مجر الفجيعة جيتاح شعبه‪ .‬والغريب‬ ‫أن هذا التخفي اجلبان جيعل الشاعر مقبوالً‬ ‫من السلطة اجلائرة يف وطنه‪ ،‬وعىل عداء مع‬ ‫حكام عربوا وزالوا‪ .‬إن احلاكم الظامل اليوم‬ ‫يقبل أن تفرغ قهرك عىل رأس احلجاج بن‬ ‫كنت يف أعامقك‬ ‫يوسف الثقفي‪ ،‬حتى ولو َ‬ ‫تريد صب غضبك عىل احلاكم الذي يظلم‬ ‫فرتتك التارخيية كلها‪ ،‬ويستعمر التاريخ‬ ‫واجلغرافية مع ًا‪ .‬وقد هيجو الشاعر املعارص‬ ‫حاك ًام يف بلد عريب جماور ومعارص وال‬ ‫ِ‬ ‫يتكلم عىل حاك ِم متسلط عىل ِ‬ ‫وروحه‬ ‫عقله‬ ‫وشعبِه‪ .‬من هنا عىل الشاعر أن خيلع قبـَّعة‬ ‫اإلخفاء وثوب املهرج والواعظ ليكون‬ ‫مناض ً‬ ‫ال يف خندق املواجهة األول‪ ،‬علينا أن‬ ‫نُسقط الشعر املنافق والثقافة املنافقة‪ ،‬حتى‬ ‫ولو كان الشعر مجيل الصياغة‪ ،‬ولو كلفنا‬ ‫ذلك ما ك ّلف‪.‬‬ ‫ويف رأي "سان جون بريس" أن الشعر‬ ‫أقرب‬ ‫إذا مل يكن املطلق احلقيقي فإنه‬ ‫ُ‬ ‫ما يكون إليه"‪ ،‬وكان الشاعر الصيني‬ ‫"لوتيش" يقول‪" :‬نحن الشعراء نصارع‬ ‫الالوجود لنجربه عىل أن يمنح وجود ًا‪،‬‬ ‫ونقرع الصمت لتجيئنا املوسيقى‪ ،‬إننا‬ ‫نأرس املساحات التي ال حدَّ هلا يف قدم‬ ‫مربع من الورق‪ ،‬ونسكب طوفان ًا من‬ ‫القلب الصغري بقدر بوصة" وهكذا‬ ‫يتحول الشعر إىل جدول يتدفق يف‬ ‫صحارى األرواح القاحلة‪ ،‬ألن"الصحراء‬ ‫ال زمن فيها" كام يقول غراهام غرين‪،‬‬ ‫ولكن الشعر هيبها الزمن والنضارة كام‬ ‫فعل الشعر العريب يف صحارانا‪ .‬وأهم‬ ‫صفة للزمن أنه متغري‪ ،‬والغوص يف أعامق‬

‫هذا املتغري خلدمة قضايا اإلنسان هي‬ ‫مهمة األديب واملثقف واملناضل‪ ،‬يقول‬ ‫ناظم حكمت‪" :‬املهارة تكمن يف اإلمساك‬ ‫باملتغري ويف التوغل إىل قلبه‪ ،‬والعمل عىل‬ ‫سهم‬ ‫تغيريه‪ ،‬حذار من التوهم أن املتغري‬ ‫ٌ‬ ‫منطلق عىل هواه دون قانون أو نظام"‬ ‫ومن هنا تتجلىّ أمهية االلتزام يف األدب‬ ‫أكثر من الكتابات األخرى‪ ،‬فاألدب‬ ‫يصوغ الوجدان اجلمعي وحيرضه‪ ،‬وينمي‬ ‫الوعي بسبب اختامر التجربة البرشية يف‬ ‫ذات األديب وصدورها عنه مصبوغة‬ ‫بأحاسيسه‪ ،‬وهكذا تكون مهمة األدباء‬ ‫تطوير البرشية والتعامل الضوئي مع العامل‬ ‫اجلواين يف النفس اإلنسانية‪ ،‬وهذا يغذي‬ ‫ّ‬ ‫العقل بدفء يكتسب صفة الديمومة‪،‬‬ ‫وجيعله أكثر حضور ًا وتأثري ًا يف املتلقي‪.‬‬ ‫وهلذا كان األدب أكثر العلوم نفع ًا لتعامله‬ ‫مع الوجدان والوعي يف آن‪ ،‬ونفعية األدب‬ ‫ليست مادية يف جوهرها‪ ،‬ولكن تأثرياته يف‬ ‫املجتمع تصبح إنجاز ًا روحي ًا ومادي ًا‪ ،‬وهذا‬ ‫ما ينقذ اجلنس البرشي من االنقراض‪،‬‬ ‫وهيبه املناعة ضد عنارص التحلل والتاليش‬ ‫التي تصيب املخلوقات األخرى‪ .‬ونفعية‬ ‫األدب ليست آنية‪ ،‬ويستمر حضورها‬ ‫بمقدار ما ختتزنه من عنارص اإلبداع‬ ‫واجلامل‪ .‬إن رس خلود األدب هو انبثاقه‬ ‫من معاناة إنسانية واحتكاك خشن‬ ‫باألشياء وانسكاب هذه املعاناة يف صياغة‬ ‫فنية راقية‪ .‬فالشاعربتجربته يستبطن العامل‬ ‫ثم يعيد خلقه مصبوغ ًا بالوجدان الساطع‬ ‫يف الكلامت‪ ،‬وحتَدَّ د قيمة النتاج األديب‬ ‫بمقدار القيم اإلنسانية الساطعة فيه‪ ،‬ومن‬ ‫هذا الفهم لألدب تتجىل قيمته األخالقية‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪7‬‬ ‫إن الرشط األول للمثقف امللتزم‬ ‫واألديب امللتزم هو أن يكون املثقف أو‬ ‫األديب حر ًا‪ ،‬وأن جياهر باحلقيقة‪ ،‬حتى‬ ‫ولو كان يف جمتمع مستع َبد‪ ،‬واحلرية هي‬ ‫التي متنح املثقف واألديب عصمة ضد‬ ‫الزوال‪ ،‬ومتنحه معنى تكاملي ًا منسج ًام مع‬ ‫سريورة الزمن اإلبداعي‪ ،‬ألن إلغاء احلرية‬ ‫هي إلغاء للزمن نفسه‪ ،‬وبذلك تتجمد‬ ‫مفاصل احلضارات‪ ،‬والتي هي فعل ثقايف‬ ‫وأديب قبل كل يشء‪ ،‬واحلرية جيب أن تكون‬ ‫موقف ًا يتخذه املثقف ألن انعدامها إلغاء‬ ‫إلنسانية اإلنسان‪ ،‬واملوقف ينقذ احلرية‬ ‫من مفهومها العام الذي يساء تفسريه‬ ‫أحيان ًا كثرية‪ ،‬ال بد للحرية يف املثقف أن‬ ‫ممارس قبل كل يشء‪.‬‬ ‫تتجسد يف موقف َ‬ ‫ومن الطبيعي أن نؤكد أن قوة االلتزام‬ ‫جيب أن تنبع من عواطف نبيلة‪ ،‬ألن‬ ‫اهلدف النهائي للفعل الثقايف هي إزاحة‬ ‫الفساد عن طريق اإلنسانية يف سريها إىل‬ ‫األمام‪ .‬ووجود العواطف النبيلة يف املثقف‬ ‫امللتزم تتمرد عىل السكونية‪ ،‬وعليها أن‬ ‫متارس فعلها األخالقي مهام كان االشتباك‬ ‫بالقيم املتدنية عنيد ًا ومكلف ًا‪ ،‬ومعلوم‬ ‫أن االشتباك من سامت العواطف ألهنا‬ ‫متأججة يف صدر من حيملها‪ .‬إهنا بمثابة‬ ‫مادة متفجرة داخل املثقف امللتزم‪ ،‬سواء‬ ‫أكان مفكر ًا أم أديبا‪.‬‬ ‫ورسالة املثقف امللتزم تكمن يف قدرته‬ ‫عىل تغيري الواقع وتغيري العامل أيض ًا‪ ،‬ولضامن‬ ‫حرية األديب التي هي أول مداميك البناء‬ ‫احلضاري جيب ابتعاد األديب واملثقف عن‬ ‫االنخراط يف أي نوع من أنواع السلطة‪،‬‬ ‫سواء أكانت هذه السلطة سياسية أم ثقافية‬

‫أم اقتصادية‪ ،‬هذا ما يراه سارتر وما يراه‬ ‫إدوارد سعيد الحق ًا‪ ،‬ولعل يف هذا املنحى‬ ‫ضامن ًا حلرية النتاج اإلبداعي‪ ،‬ولك َّن‬ ‫هناك أدباء ومفكرين أغلوا حرياهتم عىل‬ ‫وجودهم يف السلطة‪ ،‬وجعلوا سلوكهم‬ ‫عم ً‬ ‫ال تصحيحي ًا للسلطة نفسها‪ ،‬ولعل هذا‬ ‫أرفع حاالت املقاومة الفكرية للسلطات‬ ‫التي حتاول تعليب األديب واملثقف وفق‬ ‫مجودية ختدم استمرارها‪ ،‬ألن اإلبداع هو‬ ‫حركة تصاعدية ومؤرشة باجتاه املستقبل‪،‬‬ ‫بينام السلطات تريد مجود الفعل الثقايف‬ ‫ليظل أسري رؤيتها السلطوية‪ .‬لقد كان‬ ‫ستالني يقول‪" :‬الفنانون واألدباء هم‬ ‫مهندسو البرشية"‪ ،‬ومع ذلك كان جيربهم‬ ‫عىل االنخراط بنتاجهم يف مفهوم "الواقعية‬ ‫االشرتاكية" بمعناها السلطوي‪ ،‬والذي‬ ‫يرفض هذا التوجه اإللزامي مصريه‬ ‫معروف!!‪ .‬ومن هنا يبدو االرتباط وثيق ًا‬ ‫بني النتاج احلر والشهادة‪ ،‬فالكاتب‬ ‫امللتزم يف سلطة جائرة هو مرشوع شهيد‬ ‫باستمرار‪ ،‬ألن ثقافته تتحول فع ً‬ ‫ال سلوكي ًا‪،‬‬ ‫وهكذا جيب أن تكون‪ .‬وهكذا يكون‬ ‫االلتزام فع ً‬ ‫ال أخالقي ًا يف النهاية حني يصعد‬ ‫باإلنسان وال هيبط به‪ .‬إن االلتزام هو‬ ‫خوض معركة حقيقية‪ ،‬رصاصها الكلامت‪.‬‬ ‫ومن املستخ َلص من جتربة التاريخ‬ ‫اإلنساين أن املجتمعات البرشية حني متر‬ ‫بمراحل طويلة من االستقرار النسبي تسود‬ ‫فيها مذاهب فكرية ودينية وسياسية تنحو‬ ‫منحى ثابت ًا‪ ،‬وينجم عن ذلك كالسيكية‬ ‫غامرة يف السياسة واألدب وخمتلف مناحي‬ ‫احلياة االجتامعية‪ ،‬وقتها يصعب عىل‬ ‫األديب واملثقف اخلروج عىل هذه املفاهيم‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 8‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الثابتة‪ ،‬وينحرص دوره يف صياغة املعاين‬ ‫السائدة وتقليبها عىل أوجهها احلصورة‬ ‫يف الوعي اجلامعي الثابت دون أية إضافة‪،‬‬ ‫وقتها يدخل الفكر يف مرحلة السبات‪،‬‬ ‫ألن قوة السلطة وقتها ال تكون حمصورة‬ ‫يف السلطة السياسية‪ ،‬وإنام تتكون هناك‬ ‫سلطات أخرى اجتامعية ودينية‪ ،‬ويكاد‬ ‫ينحرص التجديد وقتها يف الصياغة‪ .‬وهذا‬ ‫ال يمكن اخلالص منه إال باحلرية‪ ،‬ولو‬ ‫غال ثمنها‪ .‬فالتقليد واجلمودية والتكلس‬ ‫تنسحب عىل القارئ أيض ًا‪ ،‬وقد قرأنا يف‬ ‫أدبنا نامذج حول هذا عند أيب متام مث ً‬ ‫ال‬ ‫حني سأله أحدهم‪" :‬لمِ َ ُ‬ ‫تقول ما ال يـُفهـ َُم"‬ ‫فأجابه أبو متام‪" :‬ولمِ َ ال تفهم ما يقال"‪ ،‬هذا‬ ‫التغري كان خارج الذوق املجتمعي رغم‬ ‫انحصاره يف الصياغة‪ ،‬وحني نصل إىل أيب‬ ‫العالء املعري يصبح ثمن االلتزام أعىل‬ ‫وأغىل‪ .‬إن مصلحة السلطات السياسية‬ ‫والدينية واالجتامعية تتطلب سكونية كل‬ ‫يشء‪ ،‬وهذا ما يناقض حركة التاريخ التي‬ ‫ال تقبل الفراغ وال السكونية‪ ،‬إن التاريخ‬ ‫كالطبيعة املادية متام ًا متحول باستمرار‬ ‫"إنك ال تدخل يف النهر مرتني"‪.‬‬

‫ومل تكن احلركة الرومانسية التي‬ ‫ثارت عىل وقار كالسيكية القرن السابع‬ ‫عرش وهيمنتها بأفضل حاالً‪ ،‬ألن األديب‬ ‫يف هذه املرحلة من القرن الثامن عرش‬ ‫انسحب إىل داخله‪ ،‬وصار نتاجه بكـَّا ًء‪،‬‬ ‫وقد قرأنا فيام بعد لعبد القادر املازين يف نقد‬ ‫املنفلوطي حني سماّ ه‪":‬احلانويت الندّ ابة"‪،‬‬ ‫هكذا كانت الرومانسية‪ ،‬ويف أفضل‬ ‫حاالهتا كانت نجاوى وصلوات داخلية‬ ‫ال عالقة هلا هبموم الناس وأحالمهم‬

‫وأمانيهم‪ .‬وكانت أوضاع أمتنا تنتظر أدب ًا‬ ‫ملتزم ًا ومتمرد ًا ملقارعة االستعامر والظلم‬ ‫وسكونية احلياة االجتامعية‪ ،‬وكانت أمتنا‬ ‫مهيـّأة للتخلص من األدب املجاين املسيل‬ ‫والبعيد عن الناس وقضاياهم‪ ،‬واألدب‬ ‫امللتزم يف حقيقته يكون باحث ًا عن معنى‬ ‫أفضل للحياة‪ ،‬وهذا املعنى يكون جتاوزي ًا‬ ‫ومؤرش ًا باجتاه املستقبل‪ ،‬وليس باجتاه‬ ‫املايض الراكد‪.‬‬

‫وال بد من التأكيد عىل أن أخالقية‬ ‫السلوك عند املثقف امللتزم ال تعفيه من‬ ‫االنحدار حني تكون فنية نتاجه متدنية‪،‬‬ ‫ال بد من توفر العنرص اإلبداعي يف النتاج‬ ‫امللتزم‪ ،‬ألن مجالية اإلبداع يف النص‬ ‫املنتـَج ال تقل تأثري ًا يف النفوس املتلقية‬ ‫عن االلتزام نفسه‪ ،‬ويف شعرنا العريب كان‬ ‫النتاج األكثر فنية أكثر حضور ًا يف اآلخر‪،‬‬ ‫وليس يف زمن الشاعر وحده‪ ،‬بل يف األزمنة‬ ‫الالحقة‪ ،‬وستستمر أدبية النص حضور ًا‬ ‫بسبب ألقها اإلبداعي احلامل مهوم النفس‬ ‫اإلنسانية وأشواقها وآالمها وآماهلا‪.‬‬

‫ومن أزمات املثقف املبدع وجوده يف‬ ‫جمتمع متخلف‪ ،‬وقتها تكون مسؤوليته‬ ‫مضاعفة للتوفيق بني فنية النتاج وقبول‬ ‫جمتمعه املتخلف له‪ ،‬وقتها عليها أن يتوكأ‬ ‫عىل فنية الرتاكم املعريف عرب الزمن للتواصل‬ ‫مع جمتمعه‪ ،‬ورغم صعوبة هذا املنحى فإنه‬ ‫الطريق الوحيد النخراط املتلقي يف نتاجه‪،‬‬ ‫وهنا تتدخل املهارة والذكاء واستعامل‬ ‫الرموز التارخيية الدالـّة عىل املعاصرَ ة‪ ،‬لقد‬ ‫"التصالح" للشاعر املبدع‬ ‫كانت قصيدة‬ ‫ْ‬ ‫"أمل دنقل" أقوى رد ثقايف عىل "اتفاقية‬ ‫كامب ديفد"‪ ،‬لقد حرض تراكم الفعل‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪9‬‬ ‫التارخيي املؤثر يف إيقاظ الدم العريب النائم‬ ‫يف "كامب" السياسة املذلة‪ .‬وهكذا يصبح‬ ‫األدب امللتزم غاية‪ ،‬ألن غايته اإلنسان‪،‬‬ ‫فهو ال يتسم باملرحلية واآلنية‪ ،‬وال بد‬ ‫لعمر األدب امللتزم أن يكون طويالً‪،‬‬ ‫وطوي ً‬ ‫ال بطول هواجس اإلنسان وأحالمه‬ ‫وتطلعاته‪ .‬وال بد يف الثقافة امللتزمة من‬ ‫إخضاع الوسيلة للغاية‪ ،‬أي إخضاع مجالية‬ ‫الصياغة لغايتها األخالقية التحريكية‬ ‫اهلادفة‪ ،‬ولكن جيب هنا أن نؤكد أن مهمة‬ ‫األديب والشاعر ختتلف عن مهمة رجل‬ ‫الدين الوعظية‪ ،‬مهمة األديب هي خلق‬ ‫اجلامل املوحي واملؤثر‪ ،‬والذي يمكن أن‬ ‫نسميه فع ً‬ ‫ال ثوري ًا بامتياز‪ ،‬ألنه يتعامل مع‬ ‫قلق النفس البرشية املتطلعة باستمرار إىل‬ ‫ما ليس ثابت ًا وهنائي ًا‪ ،‬وما أروع املتنبي حني‬ ‫عرب عن ذلك بقوله‪:‬‬

‫عىل ٍ‬ ‫الريح حتتي‬ ‫قلق كأن‬ ‫َ‬ ‫أرصفـُها جنوب ًا أو َشامال‬ ‫ِّ‬

‫هذا القلق املستبد هو الذي هيدد‬ ‫سكونية العامل والسلطان حتديد ًا‪ .‬إنه قوة‬ ‫مؤثرة‪ ،‬والذي يملك قوة التأثري هو املنقذ‬ ‫من الرشور ومن احلروب وويالهتا‪ ،‬وإذا‬ ‫كانت السلطات السياسية تريد بناء اإلنسان‬ ‫فاألدب متقدم عليها‪ ،‬ودليل هلا ألنه يقنع‬ ‫الوجدان اجلمعي‪ ،‬وإذا كانت نفعية السلطة‬ ‫حمصورة باملادة‪ ،‬فهي متناقضة مع نفعية‬ ‫األدب‪ ،‬وهذا يعني أن األديب املبدع هو‬ ‫الذي يبتعد عن تلوث السلطة وإغراءاهتا‬ ‫وعن النفعية املادية باعتباره حامل رسالة‪،‬‬ ‫وعند أصحاب الرسالة تكون الرسالة‬ ‫أهم من النجاح نفسه‪ ،‬فاألديب املبدع‬ ‫نقيض للسلطة‪ .‬ولذا حتاول السلطات أن‬

‫تلزم األديب باالنحياز هلا‪ ،‬وإذا استجاب‬ ‫األديب لرتغيب السلطة وترهيبها فقدَ‬ ‫معنى وجوده‪ ،‬وانتقل من حال االلتزام‬ ‫إىل حال اإللزام‪ ،‬وأبرز نامذج هذه احلال‬ ‫املرحلة الستالينية وأدجلة األدب‪ ،‬وإذا كان‬ ‫البد من انحياز األديب فانحيازه املؤدلج‬ ‫جيب أن يكون طوعي ًا‪ ،‬وخارج كل رقابة‬ ‫سلطوية‪ ،‬وجيب أن تكون األيديولوجيا‬ ‫انحياز ًا لقضايا اإلنسان األوىل‪ ،‬وأن تكون‬ ‫الحقة لالنحياز الداخيل يف اإلنسان‪ .‬إن‬ ‫مرحلة تعليب الفكر باأليديولوجيا من‬ ‫اخلارج تقتل اإلبداع‪ ،‬حتى ولو كانت هذه‬ ‫األيديوجيا إنسانية املنطلق وكونية الغايات‪،‬‬ ‫فااللتزام ال يمكن فرضه من اخلارج‪ ،‬وقد‬ ‫انتبه النقاد منذ القدم هلذا فقال األصمعي‬ ‫يف شعر حسان بن ثابت األنصاري‪":‬حسان‬ ‫ٌ‬ ‫فحل من فحول اجلاهلية‪ ،‬فلام جاء اإلسالم‬ ‫سقط شعره"‪ ،‬هذا مع ما للعقيدة اإلسالمية‬ ‫من أبعاد إنسانية وروحية‪ .‬إذ ال يمكن‬ ‫وضع حراس ملنع مترد الروح عىل اجلدران‬ ‫واألبواب املوصدة السميكة‪ .‬إن حرص‬ ‫املوهبة قتل هلا‪ ،‬وأعىل االلتزام ما سطع‬ ‫من الداخل‪ ،‬وسمت به األيديولوجية ألنه‬ ‫مبرش هبا ونذير‪.‬‬

‫إن املوقف الفكري امللتزم هو فعل‬ ‫مسبق وإضايف‪ ،‬ويصبح تارخيي ًا بمقدار‬ ‫حضوره يف املستقبل‪ ،‬وإذا كانت روعة‬ ‫الفكر امللتزم أو األدب امللتزم تنبع من‬ ‫يتحول سالح ًا من‬ ‫إنسانيته وأخالقيته‪ ،‬فإنه‬ ‫َّ‬ ‫أسلحة التدمري الشامل حني يكون التزامه‬ ‫عنرصي ًا وشوفيني ًا استعالئي ًا‪ ،‬إن النازية‬ ‫نفسها كانت نتيجة فكر نازي عنرصي‪،‬‬ ‫وكذلك الصهيونية التي تنظـِّر ألفضلية‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 10‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫جمموعة برشية عىل غريها تكويني ًا‪ ،‬وقتها‬ ‫يصبح الفكر مرض ًا‪ ،‬وااللتزام به دمار ًا‪،‬‬ ‫وهذا ما أنتجته النازية والصهيونية من‬ ‫ويالت وحروب وظلم واستبداد‪ ،‬كل‬ ‫ذلك حصاد فكر متطرف يؤدي إىل فعل‬ ‫متطرف تعاين منه احلضارة اإلنسانية‪ .‬ومع‬ ‫أن الصهيونية تقول‪ :‬إن النازية كانت سبب ًا‬ ‫ملآيس الشعب اليهودي‪ ،‬فإهنا متارس ضد‬ ‫الشعب الفلسطيني ما مارسته النازية‪ ،‬إهنا‬ ‫سفاح ٍ‬ ‫فكر‬ ‫الختتلف أبد ًا عن النازية‪ ،‬إهنام‬ ‫ُ‬ ‫ِّف السكني بدالً‬ ‫واحد متعصب راح ينظـ ُ‬ ‫من تنظيف اجلرح‪.‬‬

‫ومع أن اهلوة ال تزال شاسعة بني‬ ‫مفهوم االلتزام يف الرشق والغرب تبع ًا‬ ‫لظروف كل منهام‪ ،‬ولنظرة كل منهام هلموم‬ ‫واقعه وتكوينه الفكري والروحي‪ ،‬ولكن‬ ‫قضية اإلنسان يف العمق ُّ‬ ‫تظل واحدة‪.‬‬ ‫ولعل ثورة االتصاالت احلديثة وما نتج‬ ‫عنها من تواصل كوين ومعريف وتقارب يف‬ ‫فهم مشكالت العامل‪ ،‬كل ذلك جعلنا اليوم‬ ‫مطالبني بجعل الفكر اإلنساين واألدب‬ ‫اإلنساين متحد ْين يف نضاهلام ضد العوملة‬ ‫اجلشعة اآلكلة حلم الشعوب الضعيفة‬ ‫باسم تعميم احلضارة الكونية‪ ،‬مع ًا جيب‬ ‫أن نقاوم اسرتاتيجية الرشكات االحتكارية‬ ‫التي حولت اإلنسان إىل رقم استهالكي‪،‬‬ ‫ومع ًا جيب أن نقاوم رشكات اإلرهاب التي‬ ‫أوجدهتا اإلمربيالية الغربية التي تدعي أهنا‬ ‫حتارب اإلرهاب‪ ،‬ولنقاوم احلروب التي‬ ‫تستنفد موارد الطبيعة وجتعلها لألقوياء‪،‬‬ ‫ومع ًا جيب أن نتصدى للتغيري املناخي‬ ‫الذي سببه جشع الرشكات االحتكارية‪،‬‬ ‫واالنفجار السكاين الذي بدأ يطغى عىل‬

‫قدرة الطبيعة يف حفظ توازهنا وحكمتها‪،‬‬ ‫وال بد من حماربة التطرف الديني املتناقض‬ ‫مع روح الدين السمحاء‪ .‬وال بد من ختليص‬ ‫احلضارة الغربية من ماديتها التي ال ترى يف‬ ‫اإلنسان غري سلعة يف السوق‪ ،‬والتي حتجر‬ ‫قلبها فأعملت قوهتا يف قتل روح اإلنسان‬ ‫املعارص واملتاخم هلا عىل هذا الكوكب‬ ‫الذي يكاد يشيخ من كثرة األثقال التي‬ ‫ألقيت عىل كاهله‪ ،‬البد من مقاومة ذلك‬ ‫اإلعالم األجوف اخلايل من اإلحساس‬ ‫بفعل انحيازه للطغيان والظلم واالحتكار‪.‬‬

‫إن االلتزام وقتئذ بقضايا اإلنسان‬ ‫الكربى يغدو تأسيس ًا جديد ًا للوجود‪،‬‬ ‫ولعل األديب والشاعر حتديد ًا مطالبان‬ ‫أكثر من غريمها بالوقوف يف وجه هذا‬ ‫الطغيان املعومل اجلشع‪ ،‬إن رسالة األديب‬ ‫تتجىل يف انحيازه الكامل لنرصة القضايا‬ ‫العادلة‪ ،‬وجيب أن نكون بالتزامنا مطمئنني‬ ‫لتوجه العامل للطيبة والسالم قبل أن‬ ‫نغادره‪ .‬هذه هي رسالة االلتزام الفكري‪،‬‬ ‫يقول األديب الرويس تشيخوف كالم ًا‬ ‫ال يف هذا االجتاه‪" :‬ال ْ‬ ‫مجي ً‬ ‫تقل يل كم هو‬ ‫القمر ميضء‪ ،‬بل أرين وميض ًا من الضوء‬ ‫عىل زجاج حمطـَّم"‪ ،‬إن هذا انحياز لقوة‬ ‫احلق عند الشعوب التي تكالب عليها‬ ‫االستعامر واالحتكار‪ ،‬إنني أقبل أحيان ًا‬ ‫كتابة فيها ٌ‬ ‫خلل معريف‪ ،‬ولكنني ال يمكن‬ ‫أبد ًا أن أقبل كتابة فيها خلل أخالقي‪،‬‬ ‫مطالب باستمرار‬ ‫وهذا يعني أن األديب‬ ‫ٌ‬ ‫أالّ يغرتب عن قلبه وروح جمتمعه‪.‬‬ ‫وااللتزام جيب أن يكون دائ ًام مقرتن ًا‬ ‫باألمل بانتصار القيم اجلميلة‪ ،‬ولذا عىل‬ ‫األديب أن َّ‬ ‫يظل حام ً‬ ‫ال شمسه اخلاصة به‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪11‬‬ ‫حتى ولو كان يف جوف زنزانة مظلمة‪ ،‬هبذا‬ ‫وحده يستطيع األديب امللتزم أن يساعدنا‬ ‫عىل اخلروج من ظلامتنا‪ ،‬ويبقى األمل هو‬ ‫الزمن املستقبيل يف اإلنسان‪ ،‬وهو القادر‬ ‫عىل نرش الواحات يف صحارى أعامرنا‬ ‫القاحلة‪.‬‬ ‫وعىل األديب امللتزم أن يتدخل "فيام ال‬ ‫يعنيه" كام يقول سارتر‪ ،‬ألن كل يشء يعنيه‬ ‫يف النهاية باعتباره رسوالً يتلقى وحيه من‬ ‫قم ُع األديب‪،‬‬ ‫آالم ذاته وآالم جمتمعه‪ ،‬وقد ُي َ‬ ‫وقد يدفع عمره ثمن ًا ملوقفه‪ ،‬وقد ُيرمى‬ ‫بالزندقة‪ ،‬ويقتل‪ ،‬ولكن عمره احلقيقي‬ ‫يمتد يف موقفه ليكون يف النهاية أكثر‬ ‫حضور ًا من كثري من األحياء احلارضين‬ ‫الغائبني‪ .‬لألدباء امللتزمني قدرة وجدانية‬ ‫عالية عىل إلغاء احلروب‪ ،‬واألصوات‬ ‫العالية تصبح أندى عىل اإليصال يف زمن‬ ‫َّ‬ ‫قل فيه االلتزام وقلـ َّْت فيه األخالق‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫وبشكل حمموم‪،‬‬ ‫تثار يف هذه األيام‪،‬‬ ‫فكرة‪ ،‬كانت و ّملا ْ‬ ‫تزل مدار نقاش بني‬ ‫الفئات التي اختذت الكتابة مهنة وسالح ًا‬ ‫وغاية‪ ،‬هل غاية النتاج األديب السفر إىل‬ ‫الساموات العىل‪ ،‬وانقطاعه عن حبل رسته‬ ‫الذي يشده باستمرار إىل أصوله التكوينية‪،‬‬ ‫وهل يكفي أن يكون هذا النتاج للنخبة‪،‬‬ ‫أم املطلوب أن يغوص األديب يف وحل‬ ‫جمتمعه وقضايا أمته‪ ،‬وهل النتاج الثقايف‬ ‫اإلنساين اخلالد الذي تربينا عىل غائيته‬ ‫كان بعيد ًا عن قضايا اإلنسان الكربى !!‬ ‫فإذا كانت الثقافة فع ً‬ ‫ال إنساني ًا‪ ،‬فاإلنسان‬ ‫غايتها يف النهاية‪ ،‬إننا نكتب لإلنسان‬ ‫أوالً وأخري ًا‪ ،‬وهذا يعني أن كل كتابة‬ ‫هادفة‪ ،‬وهلذا عليها أن تكون لصيقة أكثر‬

‫بالقضايا التي تسمو بإنسانية اإلنسان‪ .‬إن‬ ‫شعبك بحاجة إليك أكثر مما أنت بحاجة‬ ‫لعامليتك‪ ،‬ولن تصل إىل عامليتك إال عرب‬ ‫التصاقك بقضايا شعبك أوالً‪.‬‬

‫إننا أمة موتورة‪ ،‬وخنادقها مطمورة‬ ‫بالشهداء‪ ،‬وقضيتنا عادلة‪ ،‬إننا نريد أن‬ ‫نكون أحرار ًا يف أفكارنا وأعاملنا دون‬ ‫أن نعتدي إال عىل من اعتدى علينا‪ ،‬ومع‬ ‫ذلك تُسلـَب أحالمنا‪ ،‬وتصنع أقدارنا‬ ‫عىل موائد الرشكات االحتكارية اجلشعة‪،‬‬ ‫ُغتصب أوطاننا‪ ،‬وحتكمنا أصنام جتربنا‬ ‫وتـ َ‬ ‫عىل السجود هلا‪ ،‬ألهنا ترى نفسها معصومة‬ ‫عن الزلل والزوال رسمدية ال حتول وال‬ ‫تزول‪ ،‬حتيي ومتيت‪ ،‬وتتناسل تناس ً‬ ‫ال‬ ‫استخباراتي ًا حييل اإلنسان رق ُام يف الزنازين‬ ‫واألقبية املرعبة‪ ،‬ودمنا يتحول نفط ًا تـُمأل‬ ‫به أجواف الطائرات التي تقصف أهلنا يف‬ ‫غزة واجلنوب اللبناين والعراق‪ ،‬كل هذا‬ ‫وكثري من أدبائنا ومفكرينا ينسون هذا‬ ‫ألهنم مهتمون بنيل جوائز من قتلونا‪،‬‬ ‫ويذهبون إليهم طامعني وطاحمني‪ ،‬ياملئون‬ ‫السكني التي تذبحنا لنيل أوسمة وجوائز‬ ‫يعجز املتخمون من اجلوع والظلم والقهر‬ ‫عن إحصاء أرقامها املالية املرسوقة من‬ ‫دمنا وخبز أطفالنا‪ ،‬هذه الفئة من املفكرين‬ ‫واألدباء هي أخطر من االحتالل نفسه‪،‬‬ ‫ألهنا تسخـِّر أقالمها لتعميق جراحنا‪،‬‬ ‫ولتامرس دور الساحر واملهرج‪ ،‬إهنا تدافع‬ ‫عن الشيطان بحجة أنه مالك‪ ،‬وبحجة أننا‬ ‫متخلفون‪ ،‬ومل يعد يف األرض سبب لبقائنا‬ ‫أحياء نُرزق‪.‬‬ ‫تثار هذه القضية يف زمن اجلوائز‬ ‫العاملية التي يتهافت عليها األدباء والكتاب‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 12‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الكبار‪ ،‬وأعني كتابنا‪ ،‬ومفكرينا وشعراءنا‪،‬‬ ‫مل نعد بحاجة إلبداعهم‪ ،‬لقد علمتنا‬ ‫جراحنا عىل كتابة الشعر‪ ،‬وعلمتنا الزنازين‬ ‫عىل عشق الشمس‪ ،‬وعلمنا السلطان‬ ‫عىل انتعاله والبصاق عليه‪ .‬لقد علمنا‬ ‫السوط عىل رفع الصوت‪ ،‬وسنتعلم أكثر‬ ‫كلام ازداد وعي أطفالنا‪ ،‬إننا بحاجة إىل‬ ‫جوائز نحصل عليها من عيون أطفال غزة‬ ‫املحارصة بالغيم األمحر والظلم وأحذية‬ ‫الغزاة والصمت العريب املخزي‪ ،‬إننا‬ ‫بحاجة للكتابة عن أولئك الذين يبيتون يف‬ ‫العراء حتت العصف والثلج ونباح الكالب‬ ‫اجلائعة كأطفاهلم‪ .‬إننا بحاجة للبحث عن‬ ‫كثري الضامدات الروحية التي حتتاجها‬

‫أرواحنا املكلومة من سهام الصهيونية‬ ‫والنفاق الغريب املنحاز هلا يف عرص بدت فيه‬ ‫سوءات احلضارة املادية بأوضح صورها‪.‬‬ ‫إننا نرفض األقالم املنحازة لتربئة الذئب‬ ‫من أشالء الضحية‪ .‬كيف نقبل جائزة‬ ‫التنحاز ألطفال غزة وجوع أهلها‪ ،‬كيف‬ ‫ننحاز جلائزة ال تدين الصهيونية والغرب‬ ‫املتآمر معها عىل أحالمنا املطمورة يف‬ ‫الزنازين واألقبية‪ .‬اجلائزة ال تكون إنسانية‬ ‫إال إذا انحازت لإلنسان املظلوم دون‬ ‫النظر لدينه أو عرقه أو فكره‪.‬هكذا نفهم‬ ‫االلتزام‪ ،‬وهكذا مارسناه‪ ،‬وهكذا سنظل‬ ‫نامرسه‪ ،‬وسننترص عىل الظلم ألنه نقيض‬ ‫احلياة وعدوها‪.‬‬

‫عـمـر شــبلـي‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪13‬‬

‫مكونات املجمتع الدولي في القرن الواحد والعشرين‬ ‫رغيــد الصـلح‬ ‫يستأثر موضوع نشوء وتطور القومية‬ ‫يف العامل باهتامم كبري بني علامء السياسة‬ ‫واالجتامع‪ .‬وخيتلف هؤالء اختالفا واسعا‬ ‫حول هذه القضية‪ .‬وتعددت أوجه هذا‬ ‫االختالف فانصب أحيانا عىل تاريخ‬ ‫القومية وتطورها‪ .‬اتفق أكثر هؤالء عىل‬ ‫حتديد حمطة االنطالق التارخيية للقومية‬ ‫يف العامل‪ ،‬ولكن لكي ينقسموا بعدها اىل‬ ‫مدرستني سوف نتوقف عندمها الحقا‪.‬‬

‫متى بدأ عرص القوميات؟‬

‫يتفق أكثر املعنيني باملسألة القومية‪،‬‬ ‫مثل املؤرخ الربيطاين البارز اريك‬ ‫هوبزبوم الذي تويف قبل أشهر قليلة‪،‬‬ ‫عىل أن ما يدعى بعرص القوميات بدأ يف‬ ‫منتصف القرن التاسع عرش تقريبا‪ .‬ولقد‬ ‫تنوعت احلركات واملشاريع القومية التي‬ ‫نشأت خالل هذه املرحلة‪ .‬فهناك مشاريع‬ ‫رمت إىل ترسيخ «الوحدة القومية» يف دول‬ ‫كانت موجودة أصال‪ .‬وهناك مشاريع‬ ‫هدفت إىل حتقيق الوحدة القومية بني دول‬ ‫متعددة‪ ،‬وهناك مشاريع جلامعات كانت‬ ‫تريد االنسالخ عن دول وإمرباطوريات‬ ‫موجودة لكي تؤسس دولتها القومية‪.‬‬ ‫النموذج األول عرفناه يف فرنسا‬

‫حيث كانت املحطة األوىل يف الرحلة‬ ‫القومية هي انتخاب لويس نابليون‬ ‫الثالث رئيسا للجمهورية الفرنسية عام‬ ‫‪ ،1848‬ثم تتوجيه امرباطورا عىل فرنسا‪.‬‬ ‫وخالل حكمه سعى نابليون إىل ترسيخ‬ ‫مركزية الدولة الفرنسية عىل حساب‬ ‫الرصاعات االجتامعية احلادة التي طبعت‬ ‫احلياة العامة‪ .‬واختذت عملية «القومنة»‬ ‫طابعا مماثال يف دول أخرى عندما سارت‬ ‫بدفع من حوافز مشاهبة ومشرتكة اال‬ ‫وهي تنظيم املجتمعات والدول عىل‬ ‫أساس املبدأ القومي الذي يشدد عىل‬ ‫اهلوية ووحدة الكيان واالرض والتامثل‬ ‫املجتمعي والثقايف‪ .‬فروسيا كانت موحدة‬ ‫ولكنها مل تكن تشكل جمتمعا متامسكا‬ ‫وقويا قادرا عىل توظيف كافة طاقاته‬ ‫يف توفري احلامية للروس‪ .‬انكشفت هذه‬ ‫الثغرات خالل حرب القرم التي نشبت‬ ‫يف منتصف القرن التاسع عرش بني روسيا‬ ‫من جهة وفرنسا وبريطانيا واالمرباطورية‬ ‫العثامنية ورسدينيا‪ ،‬من جهة اخرى‪ .‬ومنذ‬ ‫ذلك الوقت حاول حكام روسيا تعزيز‬ ‫مركزية الدولة وحتديثها بحيث ينطبق‬ ‫عليها توصيف الدولة القومية‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 14‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫وعرفنا النموذج الثاين من املشاريع‬ ‫القومية يف املحطات األهم لرحلة القوميات‬ ‫التي جتلت يف ايطاليا واملانيا‪ .‬فقد حقق‬ ‫البلدان وحدهتام القومية خالل ربع قرن‬ ‫تقريبا وأكمال عملية االندماج القومي‬ ‫بحلول عام ‪ .1870‬وعرفت الواليات‬ ‫املتحدة هنجا قوميا يشبه ذاك الذي طبع‬ ‫احلركتني القوميتني يف ايطاليا واملانيا‪ .‬فهي‬ ‫كانت تتأرجح بني كيان كونفدرايل يضم‬ ‫عدة دول مستقلة جتمعها رابطة تعاون‪،‬‬ ‫وبني كيان فدرايل يف شامل البالد االمريكية‬ ‫يضم واليات متتلك استقالال ذاتيا ولكنها‬ ‫خاضعة لسلطة فدرالية‪ ،‬وما لبثت احلرب‬ ‫االهلية االمريكية أن حسمت االمر فأنشأت‬ ‫الدولة االحتادية «القومية»‪.‬‬ ‫وشهدنا النموذج الثالث يف العديد‬ ‫من دول اوروبا التي كانت تضمها‬ ‫االمرباطوريات الكربى ولكنها مل تلبث أن‬ ‫استقلت وأعلنت دولتها القومية‪ .‬من هذه‬ ‫الدول كانت اليونان التي بدأت إرهاصات‬ ‫احلركة القومية فيها خالل عام ‪ 1814‬لكي‬ ‫تتحول إىل ثورة ضد االمرباطورية العثامنية‬ ‫وحتقق هدفها االستقاليل بدعم من الدول‬ ‫االوروبية الكربى يف عام ‪.1832‬‬

‫انتهت مرحلة التحول القومي خالل‬ ‫احلرب العاملية االوىل‪ ،‬كام يقول هوبزبوم‬ ‫يف كتابه الشهري‪" ،‬األوطان والقوميات منذ‬ ‫‪ "1780‬لكي تبدأ بعدها مرحلة "الذروة‬ ‫القومية" خالل عام ‪ .1918‬ولقد افتتح‬ ‫الرئيس االمريكي وودرو وليسون هذه‬ ‫املرحلة عندما تبنى فكرة حق الشعوب يف‬ ‫تقرير مصريها‪ ،‬وحاول إرساءها كأساس‬ ‫للنظام الدويل اجلديد الذي انبثق من حطام‬

‫احلرب العاملية االوىل‪.‬وأبدى ويلسون‬ ‫يف مرشوعه الذي دعي "بالنقاط األربع‬ ‫عرشة" اهتامما بمصري األرايض والشعوب‬ ‫التي كانت تابعة لالمرباطوريات ومنها‬ ‫االمرباطورية العثامنية‪ .‬ومل يدع ويلسون‬ ‫إىل التحرير الفوري للشعوب والقوميات‬ ‫التي كانت جزءا من هذه االمرباطوريات‪،‬‬ ‫إال أنه دعا إىل حتقيق هذه الغاية بصورة‬ ‫متدرجة يف البالد التي نمت فيها حركات‬ ‫قومية أصيلة‪ .‬فضال عن ذلك فقد اقرتح‬ ‫يف مرشوعه اآلليات والطريق املفضية‬ ‫إىل إمتام األهداف القومية بام يف ذلك‬ ‫إنشاء أجهزة ملراقبة مدى تقيد الدول‬ ‫املنتدبة بتطبيق النقاط االربع عرشة‪ .‬ولقد‬ ‫ضاعف من أمهية هذه الفكرة ومن مغزاها‬ ‫يف العالقات الدولية تبني لينني الزعيم‬ ‫السوفيايت هلا أيضا‪.‬‬ ‫اعترب تبني الزعيمني‪ ،‬االمريكي يف‬ ‫الغرب والسوفيايت يف الرشق‪ ،‬للحق يف‬ ‫تقرير املصري دعام قويا للفكرة القومية‪،‬‬ ‫وإيذانا بتوسيع انتشارها وحتقيق أهدافها‬ ‫ومشاريعها عىل نطاق دويل واسع‪ .‬وعلقت‬ ‫شعوب اآلمال العريضة عىل هذا املوقف‬ ‫الدويل املشرتك الذي تبنته دولتان من دول‬ ‫العامل الكربى‪ .‬وكان العرب من بني هذه‬ ‫الشعوب خاصة بعد أن عمل ويلسون‬ ‫عىل تشكيل جلنة كينغ كرين لتقيص‬ ‫احلقائق يف املرشق العريب‪ .‬ولقد أوصت‬ ‫اللجنة بتبني الدعوة اىل حتقيق املرشوع‬ ‫العريب الوحدوي‪ ،‬كام جاء يف تقريرها‬ ‫نقض رصيح لوعد بلفور الذي اعترب انه‬ ‫من املمكن تنفيذ املرشوع الصهيوين بدون‬ ‫انتهاك حقوق اجلامعات الدينية االخرى‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪15‬‬ ‫يف فلسطني‪ .‬لقد جزم التقرير بأن املرشوع‬ ‫الصهيوين لن يطبق إال بقوة السالح وعىل‬ ‫حساب هذه اجلامعات الدينية‪ .‬وكان‬ ‫هذا التدخل املبارش من الرئيس ويلسون‬ ‫جتاه القضايا العربية نموذجا للسياسات‬ ‫التي كان من املتوقع أن يطبقها عقب‬ ‫جتديد واليته الرئاسية‪ .‬ولكن االنتكاسة‬ ‫السياسية التي أصابت ويلسون واحلصار‬ ‫السيايس الذي رضب عىل روسيا بعد‬ ‫انتصار البالشفة فيها أديا إىل نتائج خمالفة‬ ‫هلذه التوقعات‪.‬‬ ‫رغم االنتكاسة الكربى التي أصابت‬ ‫احلركات القومية يف العامل نتيجة الرتاجع‬ ‫الذي اصاب االحتاد السوفيايت والتيار‬ ‫الليربايل األممي ممثال بوودرو ويلسون‬ ‫يف الواليات املتحدة فان «عرص الذروة‬ ‫القومية» استمر حتى منتصف القرن‬ ‫العرشين حيث متكن العديد من احلركات‬ ‫القومية من حتقيق هدف إقامة ’الدولة‬ ‫القومية‘ املستقلة سواء أكان ذلك عن‬ ‫طريق النضال السيايس أم العسكري أم‬ ‫االثنني معا‪ .‬ولقد كانت حرب السويس‬ ‫ضد مرص عام ‪ 1956‬والنتائج التي‬ ‫متخضت عنها مفصال تارخييا حاسام يف‬ ‫هناية االمرباطوريات يف العامل التي لبثت‬ ‫العائق األهم أمام حتقيق أهداف احلركات‬ ‫القومية يف العامل‪.‬‬

‫تاريخ مشرتك لإلمربيالية والقومية؟‬

‫بينام يتفق الكثريون من املؤرخني‬ ‫وعلامء السياسة واالجتامع‪ ،‬كام أرشنا‬ ‫أعاله‪ ،‬عىل أمهية الدور الذي لعبته‬ ‫احلركات القومية خالل املراحل التارخيية‬

‫التي امتدت بني منتصف القرن التاسع‬ ‫عرش والقرن العرشين‪ ،‬فإهنم خيتلفون‬ ‫عىل مصري القومية بعد حرب السويس‪،‬‬ ‫فاهنم ينقسمون إىل مدرستني رئيسيتني‪:‬‬ ‫واحدة اعتربت أن باب السياسة العاملية‬ ‫الذي انفتح أمام القومية خالل مراحل‬ ‫تارخيية معينة ما لبث أن أوصد بحيث أن‬ ‫احلركات القومية التي ختلفت عن دخول‬ ‫الباب يف حينه فوتت عىل نفسها‪ ،‬إىل األبد‪،‬‬ ‫فرصة تأسيس دولتها القومية‪ .‬والثانية‪،‬‬ ‫اعتربت أن الباب الذي انفتح حلظة ولوج‬ ‫القوميات املرسح العاملي ال يزال مفتوحا‬ ‫حتى تارخينا هذا‪.‬‬

‫مدرسة «هناية عرص القوميات»‪.‬‬ ‫إن حرب السويس مل متهد إىل خروج‬ ‫االمرباطوريات من مرسح التاريخ فحسب‪،‬‬

‫وانام سامهت أيضا يف إخراج احلركات‬ ‫القومية منه ايضا‪ .‬بتعبري آخر‪ ،‬كان‬ ‫للقوميات عرصها وزماهنا يف املرحلة التي‬ ‫بدأت بمنتصف القرن التاسع عرش يف‬ ‫أوروبا مع صعود البورجوازية واضطالعها‬ ‫بتحقيق الثورات الصناعية وتوسيع السوق‬ ‫الداخلية عن طريق الوحدات القومية‪.‬‬

‫أما خارج اوروبا فقد اقرتن صعود‬ ‫احلركات القومية بانبثاق حركات النضال‬ ‫من اجل االستقالل القومي التي وحدت‬ ‫طبقات وفئات اجتامعية وسياسية ضد‬ ‫االستعامر واالنتداب وأنظمة احلامية‬ ‫ومشاريع اإلحلاق‪.‬‬ ‫متيز هذه الفكرة بني نوعني من احلركات‬ ‫القومية‪ :‬واحد متكن‪ ،‬بفضل ظروف ذاتية‬ ‫وخارجية مناسبة من حتقيق أهدافه‪ ،‬وآخر‬ ‫مل يستطع حتقيق تلك االهداف‪ .‬هكذا‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 16‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫فان احلركات التي فاهتا القطار وعجزت‬ ‫عن حتقيق مشاريعها القومية‪ ،‬توحيدا او‬ ‫انفصاال‪ ،‬خرست الفرصة اىل األبد‪ ،‬وبات‬ ‫عليها أن تبحث عن هدف جديد حيرك‬ ‫خميلتها ويلهم منارصهيا‪.‬‬ ‫مقابل هذه املدرسة‪ ،‬فان املدرسة الثانية‬ ‫التي تعتقد باستمرارية القومية كالعب‬ ‫وفاعل أسايس عىل املرسح الدويل تعتقد‬ ‫بان نظرة املدرسة االوىل خاطئة‪ ،‬ويذهب‬ ‫البعض من القائلني باستمرارية القومية‬ ‫إىل القول إن القرن الواحد والعرشين‬ ‫هو جتديد لعرص القوميات‪ .‬وكام كان‬ ‫األمر خالل عرص القوميات االول‪ ،‬يرى‬ ‫أصحاب هذه النظرية أن القومية اليوم‬ ‫تتجىل بأكثر من وجه‪ .‬فهي تشكل حافزا‬ ‫إىل االنقسام واالنفصال احيانا‪ .‬باملقابل‬ ‫فإهنا تشكل حافزا إىل الوحدة‪ ،‬أو حافزا‬ ‫إىل ترسيخ اهلوية واملصالح القومية للبلد‬ ‫املعني‪ .‬وفيام يالحظ هؤالء وغريهم من‬ ‫متتبعي تطور الظاهرة القومية ارتفاع عدد‬ ‫املنظامت واالحزاب العنرصية املتطرفة التي‬ ‫ترتدي اللباس القومي مثل اجلبهة القومية‬ ‫بزعامة لوبن يف فرنسا أوحزب احلرية‬ ‫بزعامة خريت ويلدرز يف هولندا التي‬ ‫تبقى مهام تفاقم أمرها ظواهر طارئة عىل‬ ‫احلياة العامة يف البلدان املعنية‪ .‬فان الذين‬ ‫يؤكدون أمهية الظاهرة القومية يف القرن‬ ‫الواحد والعرشين ال يتوقفون كثريا عند‬ ‫هذه االحزاب واحلركات‪ ،‬وانام يشددون‬ ‫عىل أمهية ما يدعى ’القومية املؤسسية‘‬ ‫املتجذرة يف النخب احلاكمة‪،‬والتي تعرب‬ ‫عن مشاعر االكثرية من املواطنني عرب‬ ‫مروحة واسعة من االحزاب التي تنتمي‬

‫اىل اليمني والوسط واليسار‪.‬‬

‫ويعتقد قسم من هؤالء أن الدليل‬ ‫األبلغ عىل صواب هذه النظرة هو جتليات‬ ‫النهج االنفصايل للقومية املؤسسية يف دول‬ ‫اوروبا الرشقية والوسطى‪ .‬فأكثر هذه‬ ‫الدول كان ينتمي إىل املعسكر االشرتاكي‬ ‫الذي كان يستلهم األممية‪ ،‬ويرى يف القومية‬ ‫عقبة أمام خالص البرشية من املظامل‬ ‫االجتامعية واحلروب‪ ،‬ويتوقع حتمية‬ ‫زوال هذه العقبة‪ .‬ولكن هذه التوقعات مل‬ ‫تتحقق‪ ،‬فاهنار املعسكر االشرتاكي وكانت‬ ‫العصبية القومية السبب األهم يف اهنياره‬ ‫كام اكد زعامء االحتاد السوفيايت السابق‪.‬‬ ‫وامتدت اآلثار االنفصالية لصعود‬ ‫القومية‪ ،‬كام يالحظ الذين يؤكدون أمهيتها‬ ‫يف القرن الواحد والعرشين إىل يوغوسالفيا‬ ‫وتشيكوسلوفاكيا اللتني انقسمتا اىل عدة‬ ‫دول عىل االساس القومي‪.‬‬ ‫باملقابل فإن الصعود القومي خالل‬ ‫املرحلة اجلديدة برز أحيانا عرب االندماج‬ ‫التوحيدي كام حصل يف االملانيتني بعد‬ ‫سقوط جدار برلني وانضامم املانيا الرشقية‬ ‫إىل املانيا الفدرالية الغربية‪ .‬بذلك حتقق‬ ‫احللم االملاين القومي القديم يف حتقيق‬ ‫الوحدة االملانية ويف حتول املانيا إىل كربى‬ ‫دول اوروبا وقاطرة حتوالهتا التارخيية‪.‬‬ ‫أما صعود الظاهرة القومية عرب ترسخها‬ ‫وتأكيد حضورها يف سياسات الدول‬ ‫وخياراهتا فقد برز يف الواليات املتحدة‬ ‫والصني اللتني تتنافسان عىل الزعامة‬ ‫الدولية اليوم‪.‬‬ ‫ويتلمس بعض علامء السياسة‬ ‫واالجتامع ظاهرة تزايد التعصب القومي‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪17‬‬ ‫عرب دراسة سلوك بعض اجلامعات الناشئة‬ ‫حديثا مثل املحافظني اجلدد او حفلة‬ ‫الشاي‪ ،‬باملقابل فإن بعض األكاديميني‬ ‫يدرسون هذه الظاهرة عرب متابعة جذورها‬ ‫االقتصادية فيؤكد كل من جيمس روبنسون‬ ‫من جامعة هارفرد وتيريي فريدييه من كلية‬ ‫باريس لالقتصاد ودارون عاصم اوغلو‬ ‫من جامعة ام‪ .‬آي‪.‬يت عىل اخلصوصية‬ ‫القومية للواليات املتحدة عرب التصنيف‬ ‫االقتصادي الذي يقدمونه لدول العامل‪.‬‬ ‫يف هذا التصنيف تربز استثنائية النظام‬ ‫املجتمعي للواليات املتحدة التي تستلهم‪،‬‬ ‫دون غريها‪ ،‬نموذجا حادا للرأساملية‪.‬‬ ‫يشكل هذا النموذج الذي يعيش فيه‬ ‫املواطن حتت «ضغط املنافسة القاسية مما‬ ‫حيفزه اىل االبتكار واإلبداع‪ ،‬الذي يعترب‬ ‫املعلم االكرب للقومية االمريكية اليوم»‪.‬‬

‫ال حيتاج املرء اىل التفتيش كثريا‬ ‫عن مظاهر قومنة النظام يف الصني‪،‬‬ ‫فهذه الظاهرة منترشة عىل كل صعيد‬ ‫ويف كل حدث مثل املؤمتر الثامن عرش‬ ‫للحزب الشيوعي الصيني‪ .‬الذي سبقته‬ ‫محالت توعية وتثقيف حول االنبعاث‬ ‫القومي الصيني‪ .‬وينظر البعض اليوم اىل‬ ‫الشيوعية كعقيدة صينية ختتلط تعاليمها‬ ‫مع الكونفوشيوسية أكثر مما ينظرون إىل‬ ‫الصني كبلد شيوعي‪ .‬وعندما يبحث‬ ‫املختصون يف الدراسات الصينية مثل‬ ‫جان بيري كابيستان من اجلامعة املعمدانية‬ ‫يف هونغ كونغ شؤون الدولة العظمى‬ ‫القادمة عىل الطريق فإن مدار النقاش ال‬ ‫يكون ما إذا كانت الصني اليوم هي قومية‬ ‫أم ال‪ .‬يف أكثر احلاالت يكون النقاش‬

‫هو أي هنج قومي تعتمده الصني‪ :‬هل‬ ‫هو القومية الديمقراطية الذي ينصح به‬ ‫كابيستان؟ ام هو القومية الفاشية اجلذور‬ ‫التي حتذر منها ديدي كريستني تاتلو‪،‬‬ ‫املعلقة يف صحيفة اهلريالد تريبيون الدولية‬ ‫(‪.)2012/11/1‬‬

‫القرن الواحد والعرشين وظاهرة‬ ‫النيو قومية‬

‫هل تعني هذه الظواهر وغريها من‬ ‫الظواهر املشاهبة الكثرية أننا امام عرص‬ ‫النيو قومية؟ أم أننا أمام نوع االنتعاش‬ ‫املؤقت للمشاعر القومية معرض للزوال‬ ‫الرسيع بعد إعادة تشكيل النظام الدويل‬ ‫عىل أسس جديدة اقرب إىل واقع اخلريطة‬ ‫السياسية يف العامل؟ جوابا عىل هذا‬ ‫السؤال‪ ،‬وبعد متابعة تطور النظام الدويل‬ ‫الراهن واملتغريات الدولية يمكننا التوصل‬ ‫إىل املالحظات التالية‪:‬‬

‫األوىل‪ ،‬هي أن العصبيات القومية‬ ‫تتعمق وتتفاقم‪ .‬وليس املقصود هنا تلك‬ ‫العصبيات التي تعرب عنها أحزاب وحركات‬ ‫اليمني املتطرف يف بعض املجتمعات‬ ‫الصناعية بصورة خاصة‪ .‬ولكن املقصود‬ ‫هنا هي "القومية املؤسسية" املرتسخة بني‬ ‫النخب احلاكمة يف بعض الدول الصناعية‬ ‫أو يف بعض الدول الصناعية احلديثة‪.‬‬ ‫ثانيا‪ ،‬جنبا إىل جنب مع انتشار هذه‬ ‫الظاهرة يف جمتمعات كثرية‪ ،‬فإنه يمكن‬ ‫القول إن الدولة القومية‪ ،‬أو باألحرى دولة‬ ‫األحادية القومية‪ ،‬مل تعد أساسا حرصيا‬ ‫النظام الدويل‪ .‬فهناك اكثر من منافس‬ ‫للقومية عىل حيازة هذه املكانة العاملية‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 18‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫ويعزو البعض تراجع هذه املكانة احلرصية‬ ‫للقومية إىل ثغرة رئيسية فيها أال وهي أهنا‬ ‫مل تتمكن من تقديم تفسري مقنع ومتامسك‬ ‫لنشوء الدول ولتكوين املجتمعات البرشية‪.‬‬ ‫قدمت تفسريات معقولة لنمو الظاهرة‬ ‫القومية عندما ربطت بينها وبني عامل‬ ‫اللغة كعنرص أساس يف تكوين املجتمعات‬ ‫البرشية‪ ،‬ولكنها مل تقدم تفسريا مقنع ًا عندما‬ ‫أعلنت أنه ينبغي أن يكون لكل قومية دولة‬ ‫مستقلة ولكل دولة مستقلة قومية واحدة‬ ‫تنهض عليها‪.‬‬

‫ثالثا‪ ،‬إن العوملة هي أول املرشحني‬ ‫وأبرزهم ملنافسة الدولة القومية بحيث‬ ‫عادت إىل التداول اليوم األحاديث التي‬ ‫راجت خالل احلرب العاملية الثانية حول‬ ‫قيام احلكومة العاملية والربملان العاملي‪.‬‬ ‫ورغم أن البعض دعوا إىل إحياء هذه‬ ‫األفكار توخوا الوصول من خالهلا إىل‬ ‫متكني شعوب العامل من املشاركة يف صنع‬ ‫واقعها ومستقبلها‪ ،‬إال أن الواقع يقول إنه‬ ‫جرى توظيف مثل هذه الدعوات يف خدمة‬ ‫نزعات اهليمنة يف العالقات الدولية مما‬ ‫أدى إىل إضعاف هذه الدعوات وتراجعها‪.‬‬

‫رابعا‪ ،‬مع تراجع وتعثر العوملة‪،‬‬ ‫بدت مشاريع التكتل االقليمي األقلمة‬ ‫كمنافس أكثر صدقية للدولة القومية عىل‬ ‫مكانتها كركن وحيد للنظام الدويل‪ .‬إن‬ ‫هذه التكتالت‪ ،‬وخاصة االقتصادي منها‪،‬‬ ‫تسري يف خط تصاعدي مستمر ليس عىل‬ ‫حساب املكون القومي للكيانات الدولية‬ ‫فحسب‪ ،‬وإنام أيضا عىل حساب مشاريع‬ ‫العوملة كام يالحظ ريتشارد بولدوين أستاذ‬ ‫االقتصاد الدويل واملستشار االقتصادي‬

‫السابق يف إدارة جورج بوش األب‪.‬‬

‫يعزو البعض تطور التكتالت‬ ‫اإلقليمية عىل حساب الدولة القومية أو‬ ‫الدولة الرتابية يف النظام الدويل اجلديد إىل‬ ‫مجلة عوامل يأيت يف مقدمتها ما ييل‪:‬‬

‫‪ )1‬التطور الكبري عىل صعيدي االقتصاد‬ ‫واملواصالت‪ .‬فاالسواق تتوسع‬

‫باستمرار حتت ضغط التنافس وبحث‬ ‫املنتجني عن زبائن جدد لتسويق‬ ‫منتجاهتم‪ ،‬وتلبية هلذه احلاجات يأيت‬ ‫التطور يف املواصالت ومد شباكها‬ ‫بحيث تتجاوز الدولة الرتابية‪ .‬هذا ما‬ ‫تعتزم دول جملس التعاون اخلليجي عىل‬ ‫سبيل املثال ال احلرص حتقيقه بإنفاق ما‬ ‫يقارب مئة بليون دوالرا خالل العقد‬ ‫الراهن عىل بناء حوايل ‪ 6000‬آالف‬ ‫كلم‪ .‬من السكك احلديدية والطرق‬ ‫الرسيعة التي تربط دول املجلس بعضها‬ ‫بالبعض اآلخر فتسهل التنقل والتجارة‬ ‫بني وعرب دوهلا‪.‬‬

‫‪ )2‬املنافع املالية التي حتققها السلطات‬ ‫الرسمية واألفراد معا‪ .‬فالكيانات‬ ‫الكربى‪ ،‬حتى ولو مل تكن دولة‬ ‫موحدة‪ ،‬تتمكن يف ختفيض نفقاهتا عرب‬ ‫االستغناء عن العديد من اإلدارات‬ ‫واألعباء واملهام املرتاكمة واملتكررة‬ ‫التي تتطلبها الوحدات التي تتكون‬ ‫منها هذه الكيانات‪ .‬مقابل توفري املبالغ‬ ‫اهلائلة يف النفقات‪ ،‬قد تربز هنا وهناك‬ ‫نفقات إضافية بسبب تأسيس التكتالت‬ ‫اإلقليمية‪ .‬فميزانية االحتاد االورويب‬ ‫السنوية تصل اىل ما يفوق املئة بليون‬ ‫يورو‪ .‬هذا يعني أنه عىل كل مواطن‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪19‬‬ ‫ومواطنة اورويب دفع ما يقارب ‪220‬‬

‫يورو إىل االحتاد‪ .‬ولكن هذه الرضيبة‬ ‫تشكل مبلغا ضئيال باملقارنة باملنافع‬ ‫الكثرية التي حيصل عليها االوروبيون‬ ‫من جراء قيام االحتاد‪ ،‬وباملقارنة أيضا مع‬ ‫النفقات الكربى التي يمكن االستغناء‬ ‫عنها مع كل خطوة ختطوها دول االحتاد‬ ‫عىل طريق التكامل والتكتل‪.‬‬

‫‪ )3‬إن التكتالت اإلقليمية تقدم ضامنة أكرب‬ ‫لقيام النظم الديمقراطية واستقرارها‪.‬‬ ‫يف رشحه ألفضلية الكيانات الكربى عىل‬ ‫الصغرى‪ ،‬قال جيمس ماديسون‪ ،‬زعيم‬ ‫الفدراليني األمريكيني يف رده عىل دعاة‬ ‫االنفصال والتفكك إن "األكثرية يف‬ ‫املجتمعات الصغرية او حتى املتوسطة‬ ‫احلجم قد جتنح‪ ،‬بحكم عدد سكاهنا‬ ‫ومواطنيها إىل انتهاك حقوق األقليات‪،‬‬ ‫أما يف املجتمعات الكبرية فانه سوف‬ ‫يكون من األصعب عىل هذه األكثرية‬ ‫أن تكتشف قوهتا العددية وأن تترصف‬ ‫كعصبة موحدة ضد األقلية الضعيفة‬ ‫وأن تسلبها بالتايل حقوقها وحرياهتا"‪.‬‬ ‫يضاف اىل هذه احلقيقة املوضوعية أن‬ ‫قيام التكتالت اإلقليمية رافقه اهتامم‬ ‫رصيح من قبل هذه التكتالت بدعم‬ ‫مشاريع التحول الديمقراطي داخل‬ ‫اإلقليم‪ .‬بدأ هذا املسار مع السوق‬ ‫االوروبية املشرتكة التي متكنت من نرش‬ ‫هذا التحول يف سائر الدول االوروبية‬ ‫رشقا وجنوبا‪ .‬بموازاة ذلك‪ ،‬حتولت‬ ‫املنظامت اإلقليمية يف امريكا الالتينية‬ ‫وجنوب رشق آسيا وأخريا افريقيا إىل‬ ‫أدوات لتعميم الديمقراطية والتطور‬

‫السيايس السلمي حيث تدخلت قوات‬ ‫االحتاد االفريقي او قوات املنظامت‬ ‫اإلقليمية الفرعية انتصارا للسلطات‬ ‫الرشعية املنتخبة‪.‬‬

‫‪ )4‬سامهت التكتالت االقليمية يف محاية‬ ‫الدول األعضاء من مشاريع اهليمنة‬ ‫الدولية‪ .‬هذا ما يلمسه املرء بوضوح‬ ‫يف امريكا الالتينية حيث قدمت سوق‬ ‫امريكا اجلنوبية (مريكوسور) شبكة أمان‬ ‫سيايس واقتصادي للدول األعضاء‬ ‫لكي تتمكن من ولوج طريق التنمية‬ ‫الرسيعة والتحول الديمقراطي‪ .‬كذلك‬ ‫سامهت هذه التكتالت يف حتقيق سالم‬ ‫إقليمي بني الدول األعضاء وحتى عىل‬ ‫املستوى اإلقليمي األشمل‪ .‬اإلنجاز‬ ‫األهم عىل هذا الصعيد كان عىل مستوى‬ ‫القارة االوروبية التي لبثت لقرون بؤرة‬ ‫للحروب الدولية‪ .‬بيد أن هذا اإلنجاز‬ ‫مل يقترص عىل االوروبيني فحسب‪،‬‬ ‫وإنام تكرر يف امريكا الالتينية ورشق‬ ‫آسيا حيث وجدنا رايات السالم ختيم‬ ‫عىل العالقات بني دول كانت منخرطة‬ ‫يف احلروب ورصاعات عنيفة مثل‬ ‫اندونيسيا وفيتنام وماليزيا وسنغافورة‪.‬‬ ‫إن الواقع العريب الراهن يسري يف‬ ‫خط معاكس للمسار الدويل املتمثل يف‬ ‫هنوض التكتالت اإلقليمية يف العامل‪.‬‬ ‫فبينام أعيد تكوين النظام الدويل بعد‬ ‫احلرب العاملية الثانية عىل أساس ترسيخ‬ ‫التكتالت اإلقليمية يف العامل‪ ،‬وبينام بدأ‬ ‫العرب يف تأسيس نظامهم اإلقليمي‬ ‫الرائد قبل قيام النظام الدويل وقبل قيام‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 20‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫العديد من التكتالت الدولية بام فيها‬ ‫السوق االوروبية املشرتكة‪ ،‬وبينام تتوفر‬ ‫يف املنطقة العربية األسس املتينة لقيام‬ ‫تكتل إقليمي راسخ وناهض‪ ،‬نجد أن‬ ‫النظام االقليمي العريب يف تراجع مستمر‬ ‫وأن القوى الكربى واملتوسطة غري العربية‬ ‫تتطلع إىل الدول العربية كمجال حيوي‬ ‫لكي تتبضع فيه ما يطيب هلا من املغانم‬ ‫السياسية واالقتصادية ومن بسط النفوذ‬

‫واهليمنة عىل حساب مشاريع التكتل‬ ‫العريب‪ .‬هذا الواقع ال يتناىف مع املصالح‬ ‫العربية فحسب‪ ،‬وإنام يتناىف أيضا مع مسار‬ ‫السياسة الدولية التي تؤكد بصورة متزايدة‬ ‫عىل أمهية التكتالت اإلقليمية وعىل أن هذه‬ ‫الكيانات ال تنشأ من فراغ ولكنها تتأسس‬ ‫استنادا إىل مقومات موضوعية منها ما هو‬ ‫جغرايس ومنها ما هو اقتصادي مصلحي‬ ‫ومنها ما هو ثقايف لغوي‪.‬‬

‫رغيــد الصـلح‬

‫كانون الثاين‪/‬يناير ‪2013‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪21‬‬

‫فطرة املرأة في الشعر‪:‬‬ ‫تشييئ الذات وتبخيس النفس (دراسة نفسية)‬ ‫سعاد الصباح‬ ‫تعمد هذه الدراسة إىل الدخول يف نفسية‬ ‫املرأة من خالل ِّ‬ ‫الشعر املكتوب وفلتات‬ ‫النفس‪ ،‬عرب االهتامم باألشياء والترصفات‬ ‫والتعابري العفوية واالنفعاالت‪ ،‬باالرتكاز‬ ‫النفيس عند علامء‬ ‫عىل معطيات التحليل‬ ‫ّ‬ ‫النفس وتزاوجها مع النقد األديب يف حتليل‬ ‫تطبيقي لدى الشاعرة الكويتية سعاد‬ ‫الصباح يف بعض دواوينها‪ ،‬حيث م ّثلت‬ ‫أشعارها‪ ،‬من وجهة نظر هذه الدراسة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫خري مثال عىل إسقاطات نفس الشاعرة‬ ‫الثرة‪ ،‬والدالئل‬ ‫عىل الورقة‪ ،‬لتأمني املادة ّ‬ ‫الوفرية‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬تتضمن الدراسة مصطلحات‬ ‫خمتصة بعلم النفس‪ ،‬فت َُو َّظف مفاهيمها يف‬ ‫تقسيامت‬ ‫سرب مضامني األدب‪ ،‬وتراعي‬ ‫ُ‬ ‫مباحثها عناوي َن تتصل باألمرين معا‪:‬‬ ‫التحليل النفيس والنقدي‪ ،‬يف مسرية شعرية‬ ‫من املرحلة اجلنينية حتى املرحلة الرشجية‬ ‫فالفمية‪ ،‬إىل مرحلة النكوص حيث تتمثل‬ ‫ظاهرة تشييء املرأة وتبخيسها صدقا يف‬ ‫جلوة الروح أو انكامشها‪ ،‬بحيث هتدف‬ ‫تلك الظاهرة إىل ترشيح النفس البرشية‬ ‫بطريقة علمية بعيدة عن املحاباة أو مراعاة‬

‫(‪)1‬‬

‫«أمنوذج»‬

‫د‪.‬رياض عثـامن‬

‫(‪)2‬‬

‫املنحى اجلاميل يف الشعر‪ ،‬فهي دراسة‬ ‫أردهتا أال تكون عادية أو مألوفة عن سعاد‬ ‫الصباح‪ ،‬وعن املرأة عامة ‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬فإن نقاط البحث تتمحور حول‬ ‫املباحث التالية‪ :‬االنشطار وفصل الروح‬ ‫عن اجلسد‪ ،‬واملرحلة اجلنينية وأثرها يف‬ ‫عالقة املرأة االجتامعية‪ ،‬وصوال إىل املرحلة‬ ‫الفمية‪ ،‬ثم إىل احلديث عن قانون العشق‬ ‫وعالقة األب باجلنني لدى البنت‪ ،‬فاحلديث‬ ‫عن اجلسد املش ّيأ‪ ،‬ثم تربير الشعور بالغبن‬ ‫النسائي الذي مصدره تبخيس الذات‪،‬‬ ‫وصوال إىل النكوص والتمسك بالعودة‬ ‫واحلنني إىل مرحلة تطهري الذات وسموها‪.‬‬ ‫فلامذا سعاد الصباح؟‬ ‫سعاد الصباح شاعرة اخليمة املكشوفة‬ ‫نصفها يف البحر ونصفها يف الصحراء‪،‬‬ ‫النصف املنفتح عىل العامل‪ ،‬واآلخر‬ ‫املتمسك باألصول واألعراف‪ .‬حاولت‬ ‫الشاعرة أن تستمد مادهتا الشعرية من‬ ‫أنوثتها وأحاسيسها يف جمتمع كان ينظر إىل‬ ‫املرأة نظرة خمتلفة ‪.‬‬

‫ـ فصل الروح عن اجلسد‬

‫(‪ )1‬شاعرة كويتية مواليد ‪ .1942‬راجع معجم البابطني للشعراء املعارصين حرف السني‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أستاذ حمارض يف اجلامعة اللبنانية‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 22‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫من خالل نظرة يف ديوان ْيها "فتافيت‬ ‫امرأة" و"يف البدء كانت األنثى" تربز امليول‬ ‫الفطرية الواعية والالواعية للمرأة العربية يف‬ ‫عرصنا احلارض‪ .‬لذلك تبدو شاعرتنا امتدادا‬ ‫لبنات جنسها الاليت يعانني من جرح اخلروج‬ ‫من رحم األم‪ ،‬والتك ّيف مع العامل اجلديد‪،‬‬ ‫العامل اخلارجي‪ ،‬متفادية بذلك املرحلة‬ ‫األوديبيةالتي جاءهتا متأخرة عن أخيها‬ ‫الصبي‪ ،‬لتصاب بانشطار بني روح وجسد‪،‬‬ ‫" فالبنت بنظر األم لطيفة ومجيلة وهادئة‪،‬‬ ‫ولكنها ليست موضوعا جنسيا لرغبة‪ .‬هي ال‬ ‫جنسية ال يشء‪ ،‬وعبارة "ستصبحني امرأة"‬ ‫التي يقوهلا هلا األقرباء واألصحاب للفتاة‪،‬‬ ‫بليغة يف هذا االجتاه"(‪.)3‬‬

‫فهويتها دوما مسلوبة ومعيار حقيقتها‬ ‫ُ‬ ‫دوما مستعار‪ ،‬إذا حاولت أن تصارع لكي‬ ‫تصري صبيا مثل أخيها(‪ ،)4‬ما أدى هبا إىل‬ ‫شعورها باحلسد جتاه أمها(‪ ،)5‬وجتاه بنات‬ ‫جنسها ‪:‬‬ ‫أسميك حتى أغيظ النساء‬ ‫حبيبي‬ ‫وحتى أغيظ عقول الصفيح‬ ‫حبيبي‬ ‫وأعرف أن القبيلة تطلب‬ ‫رأيس‬ ‫وأن الذكور سيفتخرون‬ ‫بذبحي‬ ‫ُ‬ ‫وأن النساء سريق ْص َن‬

‫حتت صليبي ‪...‬‬

‫(يف البدء كانت األنثى)ص ‪.28‬‬

‫إذ ًا‪ ،‬مثل هذه احلاالت جديرة‬ ‫بالدراسة يف تسلسل مسرية فطرة النساء‪،‬‬ ‫وحتديدا املرأة الشاعرة‪.‬‬

‫ـ املرحلة اجلنينية وعالقة املرأة‬ ‫االجتامعية‬

‫للمرحلة اجلنينية التي متر هبا البنت‪،‬‬ ‫وملرحلة الطفولة حتى مرحلة النضج‪،‬‬ ‫وقعها اخلاص يف نفس املرأة بعامة‪ ،‬ويف‬ ‫نفس سعاد الصباح بخاصة‪ ،‬فحسدها مل‬ ‫يكن من النساء وحدهن‪ ،‬بل تُصوره ّن هن‬ ‫اللوايت يضمرن احلسد فضال عن الرجال يف‬ ‫القبيلة الرازحة حتت نري العادات والتقاليد‬ ‫‪" ...‬إهنا امرأة قتلتها الغرية والفضول‪ ،‬هي‬ ‫تفضل أن تكون املرأة األخرية و املعركة‬ ‫األخرية يف حياة الرجل"(‪ ،)6‬يعترب حمللو‬ ‫الدراسات النفسية أن ال َغرية واحلسد‬ ‫واالنتقام هي سامت ط ْب ِع ّية نمطية للمرحلة‬ ‫تنس يف بداية‬ ‫السادية الرشجية(‪ ،)7‬فهي مل َ‬ ‫قصيدهتا التي عنواهنا " إىل واحد ال يسمى"‬ ‫أن تشدّ أنظار الرجل املعارص بكلمة عذبة‪،‬‬ ‫ومظهر الئق‪ ،‬بدافع هذه الغيرْ ة ‪:‬‬ ‫اسميك ‪...‬‬ ‫تسمى‬ ‫رغم اقتناعي بأنّك لست ّ‬ ‫حبيبي‬ ‫عيل‬ ‫وأعرف أن اللغات تضيق ّ‬ ‫عيل‬ ‫وأن قمييص يضيق ّ‬

‫(‪ )3‬يف النقد األديب والتحليل النفيس ‪ :‬خريستو نجم‪ ،‬ص‪.119‬‬ ‫(‪ )4‬أنثى ضد األنوثة‪ :‬جورج طرابييش‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫(‪ )5‬يف النقد األديب والتحليل النفيس‪ :‬خريستو نجم‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫(‪ )6‬مقالة بعنوان‪ :‬سعاد الصباح؛ مصطلحات عاطفية وأبعاد شعرية‪ ،‬حممود عثامن جريدة الديار‪ ،‬بريوت‬ ‫السبت ‪ 29‬حزيران ‪ 1991‬م‪ .‬ص‪.7‬‬ ‫(‪ )7‬ينظر أنثى ضد األنوثة‪ :‬جورج طرابييش‪ ،‬ص‪.49‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪23‬‬ ‫وأن مجيع املعاجم‬ ‫من دون جدوى‬ ‫وأن حرويف مرضجة‬

‫باللهيب ‪...‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص ‪26‬‬

‫وهي تقول يف ن َّصها املفتوح‪:‬‬ ‫أهم ما ْ‬ ‫فيك‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫تتعامل معي‬ ‫أنك ال‬ ‫كقصيدة منتهية‬ ‫وإنام تتعامل معي‬ ‫كنص مفتوح‬

‫عىل احلرية (‪)...‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص ‪119‬‬

‫ّ‬ ‫حررها من ضغط‬ ‫لعل‬ ‫ّ‬ ‫احلب الذي ّ‬ ‫الوجود الكثيف‪ ،‬وضغط املكان والزمان‬ ‫يعكس عندها توقا إىل حرية بال حدود(‪.)8‬‬ ‫إال أهنا مل خترج عن ف ّن التمثيل املستمر‬ ‫بشخصية األنثى التي شعرت باحلسد جتاه‬ ‫أمها وجتاه بنات جنسها كام سبقت اإلشارة‬ ‫إنام حاولت أن تقوم بدور املرأة التي هتتم‬ ‫بمظهرها‪ ،‬كي تلفت أنظار الرجل وتنال‬ ‫إعجاب اآلخر‪ ،‬لتجذبه بمفاتنها املخادعة‪،‬‬ ‫كيام " تدفعه إىل هاوية الشبق‪ ،‬فإهنا متيل إىل‬ ‫اإلغراء الذي يرضم نار الرغبة فتقلب‬ ‫األشياء إىل عكسها وباألخص يف امليدان‬ ‫اجلنيس" (‪.)9‬‬ ‫غري أن حماولة الشاعرة ختطي املرحلة‬ ‫الفمية‪ ،‬حيث "تتشبث الشخصية عىل‬ ‫هذه املرحلة فيصبح املرء اتكاليا يميل‬ ‫إىل ال ِّط ْفلية (التلذذ بالطفولة) يف عالقاته‪،‬‬ ‫جيب أن يتلقى أكثر مما يعطي أو يبادر"(‪،)10‬‬

‫تتخطاها بأال تبدو مهتمة بشؤون املطبخ‪،‬‬ ‫إال بالقهوة التي شدّ هتا يف غري موضع‬ ‫لتتخذها وسيلة بينها وبني شفتيها‪ .‬وليس‬ ‫يف تكرار لفظة "قهوة" يف قصائدها إال‬ ‫داللة عىل هذه العالقة الفمية التي ت ِ‬ ‫ُظهر‬ ‫الشاعرة ّتواقة إىل االنفتاح‪ ،‬ملا يف القهوة‬ ‫من انجذاب للشفاه والكالم‪ ،‬وملا يف‬ ‫أحاسيسها‪ ،‬من حاجة إىل سامع كلامت‬ ‫احلب يف اللحظة احلميمية"(‪ .)11‬أليست‬ ‫هي القائلة‪ ،‬يف قصيدة "ملاذا فمي"‪:‬‬ ‫إذا كنت ال أستطيع‬ ‫أن أرشب القهوة ْ‬ ‫معك‬ ‫وإذا كنت ال أستطيع‬ ‫أن أرصخ أحبك‬ ‫نفسه‪ ،‬ص ‪58‬‬ ‫فام جدوى فمي ‪ ...‬؟؟‬

‫وهي القائلة‪:‬‬

‫أستعيد أيامي الواقعة‬ ‫ْ‬ ‫سلطتك‬ ‫حتت‬ ‫وفمي املحارص‬ ‫(فتافيت امرأة) ص ‪90‬‬ ‫ْ‬ ‫شفتيك ‪...‬‬ ‫بني‬

‫تظهر املرحلة الفمية عندها‪ ،‬وتتجىل‬ ‫أكثر عندما يبقى فمها‪ ،‬منبع الكالم حبيس‬ ‫فمه‪ ،‬ولن ُيفك حصارها وحصار فيها‪،‬‬ ‫ولو توسلت إليه بنرجسية تظهر صفاء‬ ‫وجهها‪:‬‬ ‫أتوسل ْ‬ ‫إليك‬ ‫ووجهي‬ ‫أال تقف بني مرآيت ‪...‬‬ ‫ْ‬ ‫بني قامتي وظيل‬ ‫بني أصابعي وورقتي‬ ‫بني فنجان القهوة ‪...‬‬

‫(‪ )8‬و(‪ )9‬لغة التامس‪ ،‬مطالعة يف شعر سعاد الصباح‪ :‬حممود حيدر‪ ،‬ص ‪.73‬‬ ‫(‪ )10‬سيكولوجية اإلنسان املقهور‪ :‬مصطفى حجازي‪ ،‬ص ‪.273‬‬ ‫(‪ )11‬النقد األديب والتحليل النفيس‪ ،‬خريستو نجم‪ ،‬ص‪.16‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 24‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫شفتي ‪..‬‬ ‫وبني‬ ‫ّْ‬

‫(فتافيت امرأة)‪ ،‬ص ‪62‬‬

‫أن هذا الرجل ّ‬ ‫إال ّ‬ ‫ظل يرتاد جمامر‬ ‫احلوة‬ ‫شفتيها ليقف ما بني القهوة و‪-‬بني ّ‬ ‫العربية ذات اللعس التي يمر هبا قانون‬ ‫األرض‪:‬‬ ‫أنا اخلليجية‬ ‫التي يمر من شفتيها‬ ‫نفسه‪ ،‬ص‪51‬‬ ‫خط االستواء‪..‬‬

‫حيول الزمن إىل‬ ‫فشفاهها املكان الذي ّ‬ ‫حيس ٍ‬ ‫ونار أبد ّية ‪:‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ليس معقوال بأن تبقى مقيام‬ ‫نفسه‪ ،‬ص‪40‬‬ ‫شفتي‪..‬‬ ‫سنة كاملة يف‬ ‫ْ‬

‫إىل أن تأخذ الشفة عندها معاين احلرية‪،‬‬ ‫حرية القول‪ ،‬وحرية احلب التي حرمتها‬ ‫منها أ ّمها وعشريهتا وعاداهتا‪ ...‬كأن تقول‪:‬‬ ‫إن ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل امرأة حتتاج أحيانا‬ ‫صديق‬ ‫كف‬ ‫ْ‬ ‫إىل ِّ‬ ‫وكالم طيب تسمع ْه‬ ‫وإىل خيمة دفء‬ ‫كلامت‬ ‫نعت من‬ ‫ْ‬ ‫ُص ْ‬ ‫ال إىل عاصفة‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص‪9‬‬ ‫قبالت‪..‬‬ ‫من‬ ‫ْ‬

‫املرة ّ‬ ‫أدل عىل حالوة‬ ‫فح ّبها للقهوة ّ‬ ‫املرحلة الفمية‪ ،‬وما تعانيها من إطباق‬ ‫شفة‪ ،‬وتلذذ بالقهوة التي لونتها بلون‬ ‫العروبة!‪:‬‬ ‫أنا الناي والربابة‬ ‫والقهوة املرة‬

‫(فتافيت امرأة)‪ ،‬ص‪56‬‬

‫وكذلك املوسيقى (الناي والربابة)‬

‫التي تعيدها إىل احلالة النفسية (اهلدهدة)‬ ‫إىل طفولتها مع موسيقى أمها‪ ،‬إيامغو‬ ‫األمومة‪.‬‬

‫ـ اضطهاد مجيل‬

‫تركت املرحلة الفمية آثارها يف قصائد‬ ‫الصباح‪ ،‬من إنشاد (الناي) وسامع عذب‬ ‫(الربابة) وتلذذ (القهوة) وبخاصة يف ديوان‬ ‫فتافيت امرأة‪ ،‬هذا العنوان الذي يستوحى‬ ‫املجهزة للقضم(‪ .)12‬قال‬ ‫منه تلك اللقيامت‬ ‫ّ‬ ‫الن تأخذ اليشء بإصبعك‪ ،‬فتصريه ُفتاتا‬ ‫أي دقاقا‪ ،‬فهو مفتوت وفتيت‪ .‬وفتات‬ ‫العهن والصوف ما تساقط منه‪ ،‬والفتيت‬ ‫والفتوت‪ :‬اليشء املفتوت وقد غلب عىل‬ ‫فت من اخلبز‪ .‬الفتيت‪ :‬اليشء يسقط فيقع‬ ‫ٍّ‬ ‫(‪)13‬‬ ‫ويتفتت ‪. "...‬‬

‫أما «فتافيت امرأة» فتدل عىل تلك‬ ‫الروح التي أحست باضطهادها ما جيعل‬ ‫منها امرأة تواقة إىل قول الكلمة احللوة‬ ‫وسامعها من الرجل وفقدان الشحنات‬ ‫النرجسية الرضوورية لنامئها‪ ،‬ألن البنت‬ ‫لشعورها بغياب األم منذ حلظتها األوىل‬ ‫حتس باملسافة الفاصلة بينها وبني أمها‪ ،‬لذا‬ ‫جتد نفسها مضطرة إىل ردم الفجوة وملء‬ ‫هذا الفراغ بغية الوصول إىل أمل‪ .‬من هنا‬ ‫كانت البنت أرسع إىل النطق من الصبي(‪.)14‬‬ ‫وإن كان من مستلزمات التحليل‬ ‫النفيس معرفة بعض تفاصيل حياة‬ ‫الشخصية املعنية بالدراسة (طفولتها‪،‬‬

‫(‪ )12‬لسان العرب‪ :‬ابن منظور ف ت ت‪ ،‬واجلمع ُفتات‪ ،‬ولفظة فتافيت لفظة عامية وظفتها الشاعرة‬ ‫ملعنى االنشطار‪.‬‬ ‫(‪ )13‬لسان العرب‪ :‬ابن منظور ف ت ت‪ ،‬ص‪ 169‬و ‪. 170‬‬ ‫(‪ )14‬يف النقد األديب والتحليل النفيس‪ ،‬خريستو نجم‪ ،‬ص‪.16‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪25‬‬ ‫حياهتا صباها)‪ ،‬فإين أجد هذا يف أشعارها‬ ‫كشاهد عىل هذه امليول ؛ ألن الرجل "يلجأ‬ ‫إىل عدو الزمن إىل املرأة التي تعرف رس‬ ‫جلوئه إليها‪ ،‬فتحتضنه باحلنان‪ ،‬وتقذفه‬ ‫نحو األبدية بكالم عذب مجيل"(‪:)15‬‬ ‫ملاذا الرجل الرشقي ينسى‬ ‫حني يلقى امرأة‬ ‫(يف البدء كانت األنثى) ص‪14‬‬ ‫نصف الكال ْم؟‬

‫وتقول‪:‬‬

‫إن كل امرأة يف األرض‬ ‫حتتاج إىل صوت‬ ‫نفسه‪ ،‬ص‪11‬‬ ‫وعميق‬ ‫ذكي‬ ‫ْ‬

‫"رس نسائي" حيث أيقنت‬ ‫جليا يف قصيدة ّ‬ ‫رس املرأة وسحرها‪:‬‬ ‫أن الكالم اجلميل ّ‬ ‫قل يل‪ :‬أحبك‬ ‫قل يل أحبك‬ ‫التكرار‬ ‫أعرف أنك تكره‬ ‫ْ‬ ‫وأعرف رأيك‬ ‫الصامت‬ ‫يف الكالم‬ ‫ْ‬ ‫يتكلم‬ ‫ويف الصمت الذي‬ ‫ْ‬ ‫ولكنني كامرأة‬ ‫أحب من ّ‬ ‫حيك‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص ‪81‬‬ ‫جلد أنوثتي‪...‬‬

‫وتوضح يف قصيدة ‪:‬‬

‫لكنني خنت قوانني األنثى‬ ‫(نفسه)‬ ‫الكلامت ‪...‬‬ ‫واخرتت مواجهة‬ ‫ْ‬

‫يتولد من ذلك االضطهاد استسالم‬ ‫آخر للروح وانسيابية سامع الكالم العذب‬ ‫الذي حيك مشاعرها‪ ،‬وينمي األحاسيس‪.‬‬ ‫فعىل الرشقي أال ينسى نصف الكالم‪ ،‬وأن‬

‫يكون صوته ذكيا وعميقا‪ ،‬يربطها بصوت‬ ‫القوة‪.‬‬ ‫األب وحنّوه‪ ،‬حيث تستمدّ ّ‬

‫ـ قانون العشق وعالقة األب باجلنني‬

‫يتأثر اجلنني يف بطن أمه كام أثبت‬ ‫علميا بمحيطه اخلارجي فيسمعه‪ ،‬ويشعر‬ ‫به‪ ،‬هبذا نجد أن هذا املفهوم ُيترَ جم عند‬ ‫البنت إىل قاعدة "واألذن تعشق قبل العني‬ ‫أحيانا"(‪ ،)16‬ألن املرأة ُفطرت عىل سامع‬ ‫ختتص هبا ربام فقدهتا مقارنة بأخيها‬ ‫لغة‬ ‫ّ‬ ‫الصبي كام سبق إال أهنام اتفقا معا عىل سامع‬ ‫احلب واحلنان يف املرحلة اجلنينية‬ ‫تفاصيل‬ ‫ّ‬ ‫اجلنني صوت أبويه فينعم به‪،‬‬ ‫حيث يسمع‬ ‫ُ‬ ‫وإن سمعه غاضبا فينفر‪ ،‬ويكتسب الوليد‬ ‫قلقا‪.‬‬

‫من هنا يف هذه املرحلة‪ ،‬مرحلة السبعة‬ ‫أشهر من احلمل‪ ،‬وجب عىل األب أن‬ ‫يالمس بطن األم ويالطفه كي يشعر‬ ‫اجلنني بطمأنينة األب وعاطفته‪ .‬ولعل‬ ‫ولع الشاعرة بالكلمة احللوة اآلرسة ناتج‪،‬‬ ‫إىل جانب حرماهنا يف املرحلة الفمية‪،‬‬ ‫عن إحساسها العميق بمرور الزمن‪،‬‬ ‫فهي تقتنص الزمن الذي ينسكب عليها‬ ‫انسكاب الربق ‪ ...‬ألن جسدها املسطح‬ ‫يذكّرها دائام برضورة االنتظار‪ ،‬ويدفعها‬ ‫إىل أن حتيا بالروح ال باجلسد(‪ .)17‬هذا‬ ‫يف احلاالت العادية‪ ،‬حاالت الرخاء‬ ‫والطمأنينة‪ ،‬فكيف يفرس هذا الشعور‬ ‫بالزمن الذي امتأل بنوبات احلزن اخلامد‪،‬‬ ‫ورصخات األمل املكبوتة يف موائد الشعور‬

‫(‪ )15‬قصيدة الغزل العربية بني احللم والواقع‪ :‬عبد احلميد جيده‪ ،‬ص ‪.121‬‬ ‫(‪ )16‬ديوان بشار بن برد‪ ،‬عجز البيت الذي صدر يا قوم أذين لبعض احلي عاشقة‪.‬‬ ‫(‪ )17‬يف النقد األديب والتحليل النفيس‪ ،‬ص ‪.18‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 26‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫؟ففي جسدها‪ ،‬كام يف جسد كل امرأة هزها‬ ‫الوجد واجلزل‪ ،‬يكمن ذلك املؤرش الذي‬ ‫يرمز إىل فناء األشياء وهتدّ هلا ‪:‬‬

‫من ذلك العرص الذي‬ ‫يعترب املرأة‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص‪10‬‬ ‫متثال رخام ‪...‬‬

‫فالرجل الذي يبتعد عن حب اجلسد هو‬ ‫املثقف برأهيا ‪:‬‬

‫دعوت اهلل‬ ‫أن حيررين من حبك‬ ‫وحو لني‬ ‫ّ‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص ‪79‬‬ ‫حجر‪...‬‬ ‫إىل‬ ‫ْ‬

‫أنا يف حالة حب ليس منها شفا ْء‬ ‫أنا املقهورة يف جسدي‬ ‫(فتافيت امرأة)‪ ،‬ص ‪26‬‬ ‫كماليني النسا ْء ‪...‬‬

‫أنت أول مثقف عرفته‬ ‫ال تعترب اجلنس مطلبا قوميا‬ ‫وال يتخذ من الرسير‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص ‪87‬‬ ‫منربا للخطاب ْه ‪...‬‬

‫لذا فهي تظهر مدى ارتياحها وتقديرها‬ ‫للرجل الذي حياول إعانتها عىل مأزقها‬ ‫كامرأة عربية كان فوها عرضة حلصار‬ ‫تارخيي‪ ،‬وعقلها سجينا يف غرفة األطفال‬ ‫حتت وسادة من الرمل حيث ُيطمر‬ ‫جسدها‪ ،‬نجدها تقول ‪:‬‬ ‫عندما تتحدث‬ ‫عم مأزق املرأة العربية‬ ‫ورضورة فك احلصار التارخيي‬ ‫عن فمها‬ ‫وعقلها‬ ‫وجسدها املطمور‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص‪87‬‬ ‫حتت الرمل ‪....‬‬

‫هذا اجلسد الذي ش ّيأه الرجل باهتامماته‬ ‫الشكلية يف أغلب األحيان ‪:‬‬ ‫فلامذا أهيا الرشقي‬ ‫هتتم بشكيل‬ ‫وملاذا تبرص‬ ‫(يف البدء كانت األنثى) ص ‪104‬‬ ‫الكحل بعيني؟‬

‫ويف قصيدة ‪:‬‬ ‫أنا متعبة‬

‫مترضعة‪ ،‬إىل تشييء نفسها كذلك‪،‬‬ ‫لتهرب‬ ‫ّ‬ ‫حتى حتررها من ربقة احلب اجلسدي‪:‬‬

‫ـ غبن نسائي مصدره التبخيس‬

‫انطالقا من نقاط إمهال الروح‬ ‫وتقديس اجلسد‪ ،‬تعود الشاعرة لتُظهر‬ ‫صورة تبخيسها يف جمتمعها‪ ،‬لتتفاداها‬ ‫معلنة أمهية انتقاهلا اجلسدي من العامل‬ ‫املادي املثقل‪ ،‬إىل عامل خفيف كأجنحة‬ ‫املالئكة يف أعايل السامء‪:‬‬ ‫أنا مشدودة األعصاب‬ ‫لوتنفخ يف داخل أذين‬ ‫لتطايرت‬ ‫ُ‬ ‫(فتافيت امرأة)‪ ،‬ص‪20‬‬ ‫دخانا يف اهلوا ْء‬

‫إال أن هذا التبخيس الذي جعل‬ ‫الرجل سيدا واملرأة بخسا يف جمتمع قبيل‬ ‫شدّ ته العادات‪:‬‬ ‫وإن الرجال هم الشعرا ْء‪...‬‬ ‫فكيف ستولد شاعرة‬ ‫(فتافيت امرأة)‪ ،‬ص‪)84‬‬ ‫يف القبيله‪..‬‬

‫ُيميل ترشيطا اجتامعيا كي تألفه‪ ،‬وتظل‬ ‫رهينة له‪ ،‬ما يو ّلد عندها إحباطا مصدره‬ ‫احلقد واالضطهاد الذي حاق باملرأة‬ ‫العربية يف إطار الغبن املفروض‪:‬‬ ‫عيل كثريا‬ ‫فال تض ّيق الدائرة ّ‬ ‫ألنني أريدك حبيبي‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص‪88‬‬ ‫سجاين‪...‬‬ ‫ال ّ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪27‬‬ ‫فاالضطهاد سار يف اجتاهني‪ :‬أما األول‬ ‫فصب العدوانية عىل اآلخر بأنه قاهر‬ ‫ُّ‬ ‫وظامل‪ ،‬وأما الثاين فهو أن تستسلم وتقع‬ ‫ضحية عدواهنم‪ ،‬مثال األول‪:‬‬ ‫العرص‬ ‫يا هوالكو هذا‬ ‫ْ‬ ‫القهر‬ ‫إرفع عني سيف‬ ‫ْ‬ ‫سوداوي‬ ‫إنّك رجل‬ ‫ّ‬ ‫مأساوي‬ ‫ّ‬ ‫عدواين‬ ‫ّ‬ ‫دماي‬ ‫بني‬ ‫تفرق‬ ‫لست‬ ‫ْ‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص ‪30‬‬ ‫رب‪.‬‬ ‫وبني نقاط احل ْ‬

‫وهي التي عانت وتعاين منه دائام‪ ،‬ومن‬ ‫امتيازاته ‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫الرجال‬ ‫إن الكالم امتياز‬ ‫فال تنطقي‬ ‫وإن التغزل فن الرجال‬ ‫(فتافيت امرأة)‪ ،‬ص ‪19‬‬ ‫تعشقي ‪...‬‬ ‫فال‬ ‫ْ‬

‫فلم تكتف الشاعرة بعرض معاناهتا‬ ‫هبذه املشاعر‪ ،‬إنام أكدهتا بعدد من األلفاظ‬ ‫ذات الداللة االستبدادية‪ :‬تذبحني‪ ،‬هتمة‬ ‫الذبح عيل‪ ،‬إرفع سيف إرهابك عني‪ ،‬فال‬ ‫تنطقي‪ ،‬فال تعشقي‪ ،‬فال تغرقي ‪...‬‬

‫كل هذه األفعال الرافضة والناهية‬ ‫حتمل ياء املخاطبة فهي تكرس أحد‬ ‫األمرين‪ :‬إما أن تصب عليهم جا ّم غضبها‪،‬‬ ‫وإما أن تقع ضحية عدواهنم‪.‬‬ ‫لكنها بحنكة األنثى وفطرة األمومة‪،‬‬ ‫وجدت نفسها واقعة يف مطب التناقض‪،‬‬ ‫حيث عاشت حلظتني متناقضتني يف آن‪:‬‬ ‫فهي الناقمة وهي اخلاضعة‪ .‬ناقمة ثائرة‬ ‫أمام عالقاهتا الثقافية وانفتاحاهتا الشعرية‪،‬‬ ‫وهي ضحية كرمى ألمومتها التي جعلتها‬ ‫تفرح بلقائه‪:‬‬

‫ْ‬ ‫بلقائك‬ ‫فرحي‬ ‫كالرضبة األوىل للجنني‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص ‪65‬‬ ‫الرحم‬ ‫عىل جدران‬ ‫ْ‬

‫وهي هبذه الرضبة عىل جدران الرحم‬ ‫قد ميزت أنوثتها‪ ،‬وأعطتها لذة األمومة‬ ‫التي مل يستطع أي شاعر صور نفسية املرأة‪،‬‬ ‫أن يدخل إىل نشوهتا هذه التي عاشتها‬ ‫وشعرت هبا وأفهمتها دورها كأم تتحمل‬ ‫مسؤولياهتا ‪:‬‬ ‫ال أستطيع أن أقول لك‪ :‬ال‬ ‫و ال أستطيع أن أقف يف وجه‬ ‫نزواتك الصغري ْه ‪...‬‬ ‫فأنت تستغل طفولتك بذكا ْء‬ ‫وأنا أدفع ثمن‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪84 ،‬‬ ‫أمومتي‪...‬‬ ‫فتحولت هذه املسؤولية إىل استسالم له‬ ‫جعلت الرجل أمجل املستعمرين ‪:‬‬ ‫ولكنني منذ عرفتك‬ ‫نسيت حقوقي‬ ‫ومل أعد متحمسة‬ ‫لرحيلك عني‬ ‫يا أمجل‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص ‪84‬‬ ‫املستعمري ْن‪...‬‬ ‫أصبح املستعمر الدائم الذي حل هبا‪،‬‬ ‫سيدَ ها‪ ،‬وحمرر كل النساء‪ ،‬وملك احلب‪:‬‬ ‫يا ملك احلب ‪ ....‬ويا حمرر النسا ْء‬ ‫إليك قد جلأت كي تلمني‬ ‫من قسوة األنوا ْء‬ ‫وعندمارأيتني‬ ‫مكسورة مقهورة‬ ‫حولت أجزائي إىل أجزا ْء‬ ‫وبعدها تركتني ضائعة‬ ‫كذرة الغبار‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 28‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫بني األرض والسام ْء‪..‬‬

‫(يف البدء كانت األنثى)‬

‫وهنا ظهر الرصاع‪ ،‬أمام ارجل‪ ،‬بني‬ ‫الصغري والكبري‪ ،‬بني ذرة الغبار والكرة‬ ‫الكبرية‪ ،‬لتقوقع نفسها يف مأزق يعرتيه‬ ‫االحباط ‪ ،...‬ولكنها عادت لتربر هذا‬ ‫االستسالم للرجل‪ ،‬وهلذا االضطهاد‪ ،‬إىل‬ ‫إرجاعه إىل طفولة كامنة فيه‪ ،‬وأهنا تقدّ ر‬ ‫طفال يف داخل الرجل‪ ،‬حيب دائام أن يلعب‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫كلامتك‬ ‫كلام جرحتني بسكاكني‬ ‫تقول يل‪ :‬اغفر يل طفولتي‬ ‫فإىل متى تستغل‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص ‪44‬‬ ‫أمومتي؟‪...‬‬

‫لعل احلقد واالضطهاد مظهران من‬ ‫مظاهر االحباط الذي حيرك عواطف‬ ‫العدوانية يف ال وعيها املكبوت‪ ،‬فتتوجه‬ ‫حينا عىل شكل ثورة عاصفة‪ ،‬فهي "امرأة‬ ‫هتاجم الرجل الرشقي البليد الشهرياري‬ ‫النزعة صاحب العقلية السلفية‪،‬‬ ‫والنرجسية التارخيية الذي يتعامل مع‬ ‫املرأة كدمية أو متثال من الرخام‪ ،‬وهيتم‬ ‫باجلنس واملظاهر فقط‪ ،‬ويؤمن بالتملك‬ ‫واالقطاعية والتعددية النسائية"(‪.)18‬‬ ‫لذلك توجه خطاهبا إىل عريب عاشق‪:‬‬ ‫مشكلتك الكربى يا صديقي‬ ‫أنك ختتزن يف ذاكرتك‬ ‫ّ‬ ‫كل األفكار السلفي ْه‬ ‫وكل الكلامت املأثورة‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫أجدادك‬ ‫وكل ما ورثته عن‬ ‫من نزعات التم ّلك‬ ‫(يف البدءكانت األنثى)‬ ‫والتعدد ّية النسائ ّي ْه ‪...‬‬

‫لكنها حتدد عالقتها‪ ،‬وحتدد أي الرجال‬ ‫ختاطب‪:‬‬

‫ْ‬ ‫أسفارك‬ ‫ورغم كثرة‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‬ ‫ْ‬ ‫خيمتك‬ ‫فإنك مل تبارح‬

‫هذه النزعة العدوانية التي تظهر‬ ‫تبخيسا لآلخر جعلها تضع الرجل يف‬ ‫مصاف اآللة التي ال تتطور‪ ،‬بل تردد كل‬ ‫ما حفظته ذاكرهتا لرت ّد عدوانيتها بتشييء‬ ‫الرجل‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫فإن آخر اهتاممايت‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‬ ‫كمبيوتر‬ ‫أن حي ّبني‬ ‫ْ‬

‫جعلها هذا العدوان املشرَ ْ َعن أن متتطي‬ ‫صهوة احلروف وجتمح نحو البحر لتمخر‬ ‫عبابه بأسطول ثورهتا الصارخة الصادحة‬ ‫يف وجه القهر والظلم‪ ،‬كي تعيش بأحالمها‬ ‫املتيقظة‪ .‬هذه األحالم التي تدفعها رغبة‬ ‫االطمئنان ورغبة احلرية؛ ألن الرغبة‬ ‫تنبعث يف التغلب عىل الكراهية عندما مل‬ ‫يشعر املرء يف احللم بفظاعة ما(‪ ،)19‬حيث‬ ‫"جتتمع مجيع املصادر القادرة عىل إحداث‬ ‫حالة وجدانية معينة"(‪ .)20‬هلذا تلجأ سعاد‬ ‫الصباح إىل احللم‪ ،‬ألن احللم حتقيق رغبة‬ ‫كام يرى فرويد(‪ ،)21‬فكان حلمها األول‪:‬‬ ‫أمس‬ ‫حلمت ليلة ْ‬ ‫بأنني أصبحت سنبل ْه‬ ‫ْ‬ ‫صدرك‬ ‫يف براري‬ ‫احللم‬ ‫خفت أن أقص عليك‬ ‫ْ‬ ‫حتى ال تأخذين إىل خباز املدين ْه‬ ‫فيحولني إىل رغيف ساخ ْن‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‬ ‫وتأكلني‪...‬‬

‫(‪ )18‬سعاد الصباح مصطلحات عاطفية وأبعاد شعرية‪ ،‬حممود عثامن‪ ،‬جريدة الديار‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫(‪ )19‬تفسري األحالم‪ ،‬فرويد‪ ،‬ترمجة مصطفى صفوان‪ .‬ص ‪.457‬‬ ‫(‪ )20‬املصد السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.459‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪29‬‬ ‫ـ نكوص وعودة إىل احلنني‬

‫إزاء هذا الواقع‪ ،‬نرى أن األمور التي‬ ‫سلفت تولد عندها نكوصا وحنينا إىل املاء‬ ‫الذي كانت تنعم به داخل الرحم ألن فرويد‬ ‫ينطلق "من فكرة أن الوالدة هي انفصال‬ ‫وقحط‪ .‬فاجلنني يف بطن أمه حماط بغشاء‬ ‫السابياء‪ ،‬وهو موجود يف وسط مائي‪ ،‬وهو‬ ‫كالسمكة يف املاء الذي يامثلها يف الرىض‪،‬‬ ‫فبطن األم يؤلف خالل احلمل وسطا مائيا‬ ‫مغذيا‪ ،‬هو بحر داخيل يريد وحياول اإلنسان‬ ‫العودة إليه طيلة حياته"(‪.)22‬‬

‫زادها‪ ،‬وملهم خواطرها ؛ ألن البحر‬ ‫هو أنثى وهو أم وإخصاب‪ ،‬فهو حامل‬ ‫الرغبات ومساحاته الواسعة‪ ،‬إسقاط‬ ‫مكان الرصاع للتأمالت واألفكار‪ ،‬البحر‬ ‫كاتم األرسار‪ ،‬وهو رطوبة وموت‪ ،‬وهو‬ ‫انعاش وفتوة‪ ،‬جامع التناقضات من املياه‬ ‫الطاهرة إىل املبتذلة(‪ .)24‬كام البحر فإن‬ ‫الرجل بالنسبة إليها هو املجهول مكمن‬ ‫األرسار‪ ،‬تدرك أمامه قدرهتا عىل اكتناه‬ ‫األشياء ودرس مكنوناهتا بني يديه‪:‬‬ ‫عندما أصبحت امرأ ْه‬ ‫ْ‬ ‫حبك‬ ‫ودخلت بحر‬ ‫عرفت لذة الغوص‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‬ ‫ْ‬ ‫املجهول‪...‬‬ ‫يف‬

‫يتجسد هذا املفهوم الفطري عند‬ ‫سعاد الصباح عندما جتد نفسها سمكة يف‬ ‫أعامق البحار أو ذرة ماء يف آفاق السامء‬ ‫نزفت جدوال رقراقا بعذوبته إىل األعامق؛‬ ‫ألن البحر «يعترب أفضل تعبري عن اصل‬ ‫احلياة وديناميتها‪ .‬فكل يشء خيرج من‬ ‫البحر وكل يشء يعود إليه‪ .‬فهو مكان‬ ‫الوالدات والتحوالت‪ ،‬والوالدات من‬ ‫جديد‪ ،‬البحر عطاء‪ ،‬حركته الدائمة ترمز‬ ‫إىل حالة انتقالية بني املمكن‪ ،‬ووضعية‬ ‫الشك والالقرار»(‪ ،)23‬فاتركها تقل‪:‬‬

‫أميش كل خريف‬ ‫يف الغابات‬ ‫ألغسل وجهي‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪33 ،‬‬ ‫باألمطار ‪...‬‬ ‫ْ‬

‫لعلها تولد من جديد عندما تعشق‪،‬‬ ‫وبإمكاهنا أن تتحدى املخاطر بقرب‬ ‫عشيقها الرجل لتعود إىل البحر حمطة‬

‫أخشى جدا أال يبقى غيم‬ ‫مطر‬ ‫أال يبقى ْ‬ ‫أال تبقى أشجار الغابات‬

‫ٍ‬ ‫عشق‬ ‫حني أكون بحالة‬ ‫أشعر أن العامل أضحى وطني‬ ‫وبإمكاين أن أجتاز البحر‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‬ ‫األهنار‪.‬‬ ‫وأعرب آالف‬ ‫ْ‬

‫ـ توبة وطهارة‬

‫أما مياهها املفضلة‪ ،‬فهي أمواه طاهرة‬ ‫نقية كوثرية تثمن قيمة اإلنسان طهرا‬ ‫وبركة‪ ،‬إذا ما اغتسل هبا‪:‬‬

‫وألن املياه العذبة تظهر كرمز للنقاوة‪،‬‬ ‫وتظهر الشاعرة بشكل املاء الذي يتخذ‬ ‫شكل اإلناء‪ ،‬إذ اإلناء بام فيه نضاح‪ ،‬فرتيده‬ ‫جف املطر‪:‬‬ ‫كام حتب أن تكون هي‪ ،‬إذا ما ّ‬

‫(‪ )21‬املصد السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.457‬‬ ‫(‪ )22‬شاعرية املاء واحلياة النفسية‪ ،‬زهري مناصفي‪ ،‬جملة الفكر العريب‪ .‬م ‪.‬س‪ ،‬ص ‪.156‬‬ ‫(‪ )23‬تفسري األحالم‪ ،‬فرويد‪ ،‬ص ‪.457‬‬ ‫(‪ )24‬املصد السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.457‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 30‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫ولذا أرجو‬ ‫أن تزرعني‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص‪5‬‬ ‫الكلامت‪..‬‬ ‫مابني‬ ‫ْ‬

‫إال أن مياهها تكرج يف دواوينها‬ ‫معرض البحث وتسيل عذوبة رقراقة‪،‬‬ ‫أو ماحلة جبارة‪ ،‬فال تعرف الركود‪ ،‬اتعب‬ ‫منها حركة واستمرارا دائمني يف احلياة‬ ‫واألفكار‪ .‬فأشعارها ال تعرف النوم كام‬ ‫ماؤها؛ ألن "املياه الراكدة تطلق العنان‬ ‫لفكرة املوت واملوتى‪ ،‬كون املياه الراكدة‬ ‫مياها نائمة"(‪.)25‬‬ ‫وإذا وجدنا ماء يف إحدى قصائد‬ ‫الصباح‪ ،‬حتيطها اليابسة من جوانبها‪ ،‬ما‬ ‫هي إال عودة اليابسة األرض إىل أصلها‬ ‫األم إىل البحر بداية تكوين الكون ‪.‬‬

‫وما بحرية الليامن التي يف قصيدة‬ ‫"نسخة ثانية" إال تذكري بنرجس الذي‬ ‫وجد نفسه عائام عىل صفحات املاء النقية‪،‬‬ ‫فهي كذلك جتد نفسها عىل صفحات ذلك‬ ‫الرجل الذي أرادته‪ ،‬فعال‪ ،‬بتوجيهاته‬ ‫وأفكاره جتاه املرأة‪ ،‬فوجدت يف ظله‬ ‫نرجسيتها‪:‬‬ ‫ال متش إىل جانبي‬ ‫عىل ضفاف‬ ‫ْ‬ ‫الليامن‬ ‫بحرية‬ ‫حتى ال تظ ّن البحرية‬ ‫أنني نسختك‬ ‫(يف البدء كانت األنثى)‪ ،‬ص‪91‬‬ ‫الثاني ْه‪...‬‬

‫ثم تعود بعد ذلك إىل خيمتها ظافرة بمعامل‬ ‫احليوية نصفها سمكة ونصف عاشق‬ ‫ش ّفها الوجد‪ ،‬ودفعها؛ ألن تثور يف وجه‬ ‫العادات لتعلن قاموس مفردات العشق‬ ‫الفطرية عند املرأة العربية هبذه اجلرأة‪.‬‬

‫اخلالصة‬

‫توصلت الدراسة إىل أن فلتات اللسان‬ ‫الشعرية تعطي متتبعي املنهج النفيس‬ ‫مادة كافية‪ ،‬جترد نفس الشاعر بعيدا عن‬ ‫املحاباة‪ ،‬وتسلط الضوء عىل أشياء بسيطة‬ ‫هتم‬ ‫قد ال يلقي الدارس هلا باال‪ ،‬وقد ال ّ‬ ‫متّبع الوظيفة اجلاملية يف حتليل الشعر‪،‬‬ ‫بل هي جمرد حمطات فطرية اشرتكت فيها‬ ‫سعاد الصباح مع املرأة العربية بشكل عام‪،‬‬ ‫متثلت باهتامماهتا الشكلية واجلوهرية‪ ،‬وما‬ ‫تطلبه من الرجل مع حتديد ما حتبه منه وما‬ ‫ٍ‬ ‫كاف للتناقضات‬ ‫تكرهه فيه‪ ،‬مع تربير‬ ‫الفطرية التي متر هبا املرأة العاشقة‪ .‬وطرح‬ ‫فلسفة جديدة ملفهوم احلرية كام تراها هي‪،‬‬ ‫ال كام يراها دعاة التحرر من أصحاب‬ ‫الفكر غري العريب‪.‬‬

‫وهبذا تبدو فطرة املرأة ّتواقة إىل‬ ‫اللجوء إىل اهتاممات تشغلها ترجو أن‬ ‫تكون ّ‬ ‫حمل تقدير الرجل بلغة واضحة‬ ‫رصحية منفتحة داعية إىل احلوار‪ :‬حوار‬ ‫العواطف والرغبات واملشاعر‪ ،‬وحوار‬ ‫الذات التي تنعكس عىل مرآة النفس‬ ‫بعيدة عن التصنّع‪ ،‬أو حماولة تصوير نفسية‬ ‫املرأة عىل لسان الرجل مهام بلغ من الدقة‬ ‫واحلساسية‪ ،‬فإنه لن يصل إىل التحدث‬ ‫بلسان املرأة أو التعبري عن مشاعرها‬ ‫بلساهنا‪ ،‬بأبسط تعبري عن لذة النشوة من‬ ‫وجود اجلنني يف بطن املرأة‪ ،‬أو رضبات‬ ‫روحه عىل جدران الرحم‪،‬التي هي مرحلة‬ ‫فطرية من مراحل األمومة ‪.‬‬ ‫وعليه فإن هروب املرأة من واقعها‪،‬‬ ‫من أحاسيسها ناجم من تشييء الذات‪،‬‬ ‫حتى ال تدفع رضيبة رقة مشاعرها‪ ،‬وحتى‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪31‬‬ ‫التنقلب عليها أحاسيسها فتخدش‪ .‬لذلك‬ ‫تلجأ إىل تشييء نفسها‪ ،‬بأن مت ّثل نفسها‬ ‫بريشة خلفتها ورقتها‪ ،‬أو غبار متطاير‪ ،‬أو‬ ‫متثال‪ ،‬أو صخرة‪ .‬ثم تلجأ ّ‬ ‫لتبخس نفسها‬ ‫بأن تدعو عىل نفسها‪ ،‬أو أن تتمنى بأن‬ ‫ال تكون موجودة عىل األرض‪ ،‬فتنقلب‬ ‫دعوهتا إىل تبخيس الرجل بجعله ال يشء‬

‫وبال قيمة إذا خالف فطرهتا‪ .‬فالكلمة‬ ‫احللوة أسمى ما دعت إليه الشاعرة‪ ،‬لتكرب‬ ‫روحها وتنمو مشاعرها وإال فتشييؤها‬ ‫أوىل من تبخيسها ‪.‬‬

‫ريـاض عثـامن‬ ‫مصطلحات وردت في البحث‬

‫إحباط‪ ،‬اضطهاد‪ ،‬إعجاب‪ ،‬إسقاط‬ ‫النفس‪ ،‬انشطار‪ ،‬انتظار‪ ،‬ألسنية‪ ،‬تبخيس‪،‬‬ ‫التلحيل النفيس‪ ،‬التحوالت‪ ،‬ترشيط‪ ،‬تشييء‪،‬‬ ‫التكيف‪ ،‬التمثيل‪ ،‬جنيس‪ ،‬حرمان‪ ،‬حقد‪،‬‬ ‫حلم‪ ،‬رحم األم‪ ،‬رشعنة‪ ،‬رصاع الصغري‬ ‫الكبري‪ ،‬عدوانية‪ ،‬الغبن املفروض‪ ،‬الفطرة‪،‬‬

‫املراجع‬

‫فلتات النفس‪ ،‬ماء السابياء‪ ،‬املرحلة األوديبية‪،‬‬ ‫مرحلة البلوغ‪ ،‬املرحلة اجلنينية‪ ،‬املرحلة الفمية‪،‬‬ ‫الرشجية‪ ،‬مرحلة الطفولة‪ ،‬مرحلة النضوج‪،‬‬ ‫املنهج التحلييل‪ ،‬امليول الفطرية‪ ،‬نرجسية‪،‬‬ ‫نكوص‪ ،‬الواعية والالواعية‪ ،‬الوالدات ‪.‬‬

‫‪.1‬أنثى ضد األنوثة‪ :‬جورج طرابييش دار الطليعة بريوت ‪1995‬‬ ‫‪.2‬تفسري األحالم فرويد ترمجة مصطفى صفوان‪ .‬دار املعارف بمرص ال تا‬ ‫‪.3‬ديوان بشار بن برد‪ ،‬عجز البيت الذي صدر يا قوم أذين لبعض احلي عاشقة‬ ‫‪.4‬سعاد الصباح‪ :‬مصطلحات عاطفية وأبعاد شعرية‪ :‬حممود عثامن جريدة الديار بريوت السبت‬ ‫‪ 29‬حزيران ‪ 1991‬م‪ .‬ص‪7‬‬ ‫‪.5‬سيكولوجية اإلنسان املقهور‪ :‬مصطفى حجازي‪ ،‬معهد اإلنامء العريب‪1980 ،‬‬ ‫‪.6‬شاعرية املاء واحلياة النفسية زهري مناصفي جملة الفكر العريب العدد ‪82‬السنة ‪ 16‬معهد اإلنامء‬ ‫العريب خريف ‪ 1995‬ص ‪156‬مؤسسة سعاد الصباح ط ‪1989 ،5‬‬ ‫‪.7‬يف النقد األديب والتحليل النفيس‪ :‬خريستو نجم مكتبة السائح طرابلس لبنان ‪1991‬‬ ‫‪.8‬فتافيت امرأة‪ :‬سعاد الصباح‪ ،‬الصفاة الكويت‬ ‫‪.9‬يف البدء كانت النثى‪ :‬سعاد الصباح الديوان دار رياض الريس ال ط‪ ،‬ال تا‪.‬‬ ‫‪.10‬قصيدة الغزل العربية بني احللم والواقع‪ :‬عبد احلميد جيده‪ .‬دار الشامل طرابلس لبنان ‪. 1987‬‬ ‫‪.11‬لسان العرب‪ :‬ابن منظور دار إحياء الرتاث العريب ط ‪.،1993 3‬‬ ‫‪.12‬لغة التامس مطالعة يف شعر سعاد الصباح‪ ،‬مؤسسة دار الكتاب احلديث‪1995 ،‬‬ ‫‪.13‬لغة التامس مطالعة يف شعر سعاد الصباح‪ :‬حممود حيدر دار الكتاب احلديث‪1995 ،‬‬ ‫‪.14‬نقد جمتمع الذكور‪ :‬روجيه غارودي وغريه‪ .‬ترمجة هنرييت عبودي‪ ،‬دار الطليعة بريوت ‪1982‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 32‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫شخصية العدد‪:‬‬

‫مقابلة مع األستاذ مطاع صفدي‬ ‫أجرى املقابلة‪ :‬د‪ .‬هالة أبو محدان‬ ‫عـمـر شــــبلـي‬ ‫عمران الوردانـي‬ ‫ســام أبـو نــوح‬ ‫من الصعب أن تضع تعريف ًا حمدد ًا‬ ‫للشخصية الفكرية والثقافية التي تسكن‬ ‫يف وجدان األستاذ مطاع صفدي وعقله‪،‬‬ ‫هو بحر معريف بال سواحل‪ ،‬أمواجه‬ ‫ترضب يف كل االجتاهات‪ ،‬هو فيلسوف‬ ‫منهمك يف الغوص يف استجالء الذات‬ ‫الكونية املغلقة والتي انطوى فيها "العامل‬ ‫األكرب"‪ ،‬قرأ فلسفة الرشق يف أعالمها‬ ‫الكبار‪ ،‬ودخل فيهم وخرج منهم مضيف ًا‬ ‫وحاذف ًا حام ً‬ ‫ال حرية عقله العنيد‪ ،‬وأحاط‬ ‫بالفلسفة الغربية م َّطلع ًا ومرتمج ًا وناقد ًا‬ ‫ومتميز ًا‪ ،‬وكانت احلرية أستاذه الوحيد‬ ‫يف كل الدروب املعرفية التي سلكها‬ ‫باحث ًا ومتقصي ًا ورائي ًا‪ .‬هو أديب مل تستطع‬ ‫الفلسفة بكل حضورها فيه أن تطفئ‬ ‫حرارة وجدانه امللتهب واملنفعل بقضايا‬ ‫أمته‪ ،‬كان أستاذنا يف بداية الستينيات‪،‬‬ ‫وقرأنا له رواية (جيل القدر)‪ ،‬وكانت‬ ‫حتمل أحالمنا مجيع ًا‪ ،‬أحالم جيل عرويب‬ ‫مؤمن برسالة أمته الكونية‪ ،‬وحني بزغ‬ ‫فجر الوحدة‪ ،‬الوحدة بني سورية ومرص‬ ‫كان احللم يبدو حقيقة يف قبضات اجلامهري‬

‫وهتافاهتا‪ ،‬وكانت اآلمال يومه ًا نقيض ًا‬ ‫لآلالم‪ ،‬وحني ُذبِحت الوحدة وقف ذائد ًا‬ ‫عنها وناقد ًا بقلم يرعف أمل ًا لتقصف هذا‬ ‫احللم الذي انتظرناه طويالً‪ .‬واستمر‬ ‫مطاع صفدي حام ً‬ ‫ال قلمه ولسانه‪ ،‬كاتب ًا‬ ‫وحمارض ًا ومتجوالً يف قلوب الش ّبان العرب‬ ‫الذين ظ ّلوا مؤمنني برسالة أمتهم‪ .‬وها هو‬ ‫اآلن يربو عىل الثامنني ومل يسأم‪ ،‬وال يزال‬ ‫إيامنه بأمته كام كان‪ .‬ومل يزل ذهنه متوقد ًا‬ ‫وحارض ًا‪ ،‬وعطاؤه مستمر ًا‪ ،‬ومل ينضب‬ ‫ألن حريته وهبته كل سامهتا اجلميلة‪ .‬وها‬ ‫أنا ألقاه بعد واحد ومخسني عام ًا عجاف ًا‪،‬‬ ‫ومل أزل تلميذه يف مدرسة التجهيز األوىل‬ ‫تلك املدرسة التي انطلق منها احلس‬ ‫العرويب الصادق‪ ،‬وها هو يتذكر تلك‬ ‫األيام بشغف احلضور يف القول والفعل‪.‬‬ ‫ـ عمر شبيل‪:‬‬

‫أستاذ مطاع‪ ،‬سنبدأ من العام ‪1961‬‬

‫عندما كلفتني‪ ،‬وكنت أستاذنا يف ثانوية‬ ‫"ابن خلدون التجهيز األوىل"‪ ،‬بتلخيص‬ ‫كنت تعتقد‬ ‫رواية (جيل القدر)‪ ،‬إذ‬ ‫َ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪33‬‬ ‫ّ‬ ‫أن جيلنا يومها هو جيل احللم العريب‪،‬‬ ‫وسؤالنا اليوم‪ :‬ماذا حتقق من هذا احللم‪،‬‬ ‫وكنت ترى أن الوحدة بني سورية ومرص‬ ‫كانت نتيجة هذا احللم‪ ،‬لذا فإن مدخلنا إىل‬ ‫احلديث سيكون يف السؤال‪:‬‬

‫ـ ماذا بقي من هذا احللم اجلميل وما‬ ‫تأثري حال االنكسار العريب العام ‪1967‬‬ ‫وما تالها إىل الربيع العريب راهن ًا‪ ،‬وأنا‬ ‫كنت قد استمعت إىل حمارضتك السابقة‬ ‫يف األونيسكو ولكنك مل تتطرق إىل هذه‬ ‫املسألة بالذات‪ .‬وباختصار إىل أين نسري‬ ‫بعد رحيل ذاك اجليل املشبع باملعنويات‬ ‫والروح اخلالصية؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫املسألة ليست جمرد حلم‪ ،‬بل كان‬ ‫هناك توقع أن اخلالص من املشكالت‬ ‫التي حدثت يف مرحلة ما بعد االستقالل‬ ‫الوطني أي ما بعد فرتة االستعامر الغريب‬ ‫املبارش سيكون بداية ملراحل حتتاج نضاالً‬ ‫من نوع آخر‪ .‬كان ال بدّ من أن تتفتح‬ ‫قضايا الشعب العريب الداخلية املتعلقة‬ ‫بمصريه الذايت‪ ،‬بغض النظر عن سلطة‬ ‫أجنبية تتدخل بشؤونه اخلاصة‪ ،‬كان‬ ‫الواقع احلدثي آنذاك قد أبرز ببساطة‬ ‫أن االستقالل الوطني كان بداية لظهور‬ ‫قضايا من الدرجة الثانية مل تكن مثارة‬ ‫أثنا َء مرحلة الكفاح الوطني ضد االستعامر‬ ‫وحتديد ًا القضايا االجتامعية واالقتصاد‬ ‫والتنمية والسلطة والعالقة ما بني القمة‬ ‫والقاعدة‪ ،‬وكل هذه القضايا التي كانت‬ ‫حمجوبة وراء فكرة الرتكيز عىل النضال ضد‬ ‫االستعامر املبارش‪ ،‬ولكن خروج االحتالل‬ ‫األجنبي مل يكن سوى نقطة انطالق نحو‬

‫أشكال أخرى من االحتالل عن طريق ما‬ ‫يسمى قدي ًام حتت مصطلح املؤمترات‬ ‫كان ّ‬ ‫الدولية واللقاءات التي كانت حتدث بني‬ ‫شخصيات كان من املفرتض أهنا وطنية‬ ‫يف جمتمعنا العريب‪ ،‬ولكنها كانت عىل صلة‬ ‫وثيقة باالستعامر القديم من هنا بدأنا‬ ‫يسمى باالستعامر اجلديد‪ ،‬بدالً‬ ‫نواجه ما َّ‬ ‫من االستعامر املبارش للقوى العسكرية‬ ‫املحتلة احتالالً مبارش ًا للوطن‪ .‬أصبحنا‬ ‫نعاين من االستعامر الشفاف الذي يتحاشى‬ ‫الظهور املادي لقواه مستخدم ًا صنف ًا أخر‬ ‫من الرجال الذين كانوا يـُحسبون من‬ ‫الرعيل الوطني الثاين‪ .‬كانوا يستخدموهنم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بطرق‬ ‫بطرق خمتلفة لينفذوا مشاريع الغرب‬ ‫غري واضحة املعامل للجمهور‪ ،‬فقد تط ّلب‬ ‫ذلك نوع ًا جديد ًا من النضال‪ ،‬كان هذا‬ ‫هو مبعث التغيري لشكل النضال العريب‬ ‫آنذاك من الرصاع املبارش مع االستعامر‬ ‫إىل الرصاع املبارش مع ما كان يسمى آنذاك‬ ‫بعمالء االستعامر يف تلك احلقبة‪ ،‬إذ كان‬ ‫هؤالء املتعاملون ممثلني خاصني باالنظمة‬ ‫الوطنية احلاكمة باسم االستقالل‪ ،‬ولكنها‬ ‫يف الواقع كانت تناور عىل هذا االستقالل‪،‬‬ ‫وحتاول أن تسلبه إمكانياته املطلوبة أو‬ ‫املنتظرة من مجاهري الشعب‪ .‬وهكذا دخلنا‬ ‫يف مرحلة أخرى من التعقيد والتشابك‬ ‫بني العاملة الداخلية يف الصفوف العربية‬ ‫والقوة الوجدانية الطاحمة الستمرار‬ ‫ٍ‬ ‫واضحة‬ ‫سلطاهنا‪ ،‬ولكن بوسائل غري‬ ‫املعامل بصورة تستفز الشعوب جمدد ًا‪ ،‬فكان‬ ‫ال بد من حتول النضال من وجهه السابق‬ ‫إىل وجه آخر يتطلب ثقافة جديدة هي‬ ‫بداية ثقافة النهضة االستقاللية احلقيقية‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 34‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫وظهرت آنذاك األحزاب الوطنية ذات‬ ‫الطابع القومي التي كانت ترى أن مشكلة‬ ‫االستقالل القطري الضيق أنه ال يمكن أن‬ ‫يأيت باحللول النهائية‪ ،‬إذن ال بد من حتقيق‬ ‫االستقالل القومي‪ ،‬الذي يعني االنتقال‬ ‫من املرحلة الضيقة إىل املرحلة األوسع‬ ‫حيثام يمكن أن تستعيد االمة مفهوم‬ ‫وجودها بالتئام عنارص وحدهتا‪.‬‬ ‫كان عىل إمكانيات أمة عربية جديدة‬ ‫صاعدة مستقلة ألول مرة يف التاريخ‬ ‫احلديث‪ ،‬وقادرة عىل أن تقود شؤوهنا‬ ‫بنفسها‪ ،‬وتفسح يف املجال أمام أجياهلا‬ ‫الصاعدة اجلديدة لتصبح العملية‬ ‫االستقاللية عملية هنضوية بكل معنى‬ ‫الكلمة‪.‬‬ ‫ـ عمر شبيل‪:‬‬

‫ـ انكسار الوحدة أمل يكن انكسار ًا هلذا‬ ‫احللم؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫هذا ما كنت أعبرّ عنه باحللم العريب‪،‬‬ ‫احللم العريب هو االستقالل القطري الذي‬ ‫جيب أن يكون مرحلة أولية‪ ،‬ليس غاية يف‬ ‫ذاته‪ ،‬بل طريقة السرتجاع االمة كيانهَ ا‬ ‫الكامل والشامل املعروف يف التاريخ‪،‬‬ ‫والذي أثبت يف ماضيه أنه قادر عىل إنتاج‬ ‫حضارة كونية يقر هبا العامل املتقدم يف كل‬ ‫مناسبة‪.‬‬ ‫ـ عمر شبيل‪:‬‬

‫كنت من‬ ‫ـ دكتور مطاع يف الستينيات َ‬ ‫املعجبني جد ًا بالفيلسوف الفرنيس «جان‬ ‫بول سارتر» وبفلسفته الوجودية‪ ،‬وكنت‬ ‫ترى أن جوهر هذه الفلسلفة هو تركيز‬

‫سارتر عىل حرية االنسان‪ ،‬وأن معنى وجود‬ ‫االنسان مرتبط بحريته فإذا ما ألغيت حرية‬ ‫االنسان ألغيت كينونته بوصفه إنسان ًا‬ ‫متحرض ًا‪ .‬وهذا الفهم الوجودي أثر يف‬ ‫عامل الثقافة اإلنسانية وأثر يف جيل سارتر‬ ‫حتديد ًا‪ ،‬وقد ترجم فلسفته إىل مواقف‬ ‫سياسية‪ ،‬ولديه كام نعرف خطبة شهرية‬ ‫ألقاها يف جملس النواب الفرنيس واسمها‬ ‫"عارنا يف اجلزائر"‪ ،‬خطبة حوايل تسعني‬ ‫صفحة‪ .‬ولكن الحق ًا نالحظ أن سارتر‬ ‫أتى إىل إرسائيل ورآها واحة حضارية‪،‬‬ ‫هنا السؤال هو كيف تفرس مواءمة سارتر‬ ‫ملوقفه يف احلرية عرب هجومه عىل االحتالل‬ ‫الفرنيس يف اجلزائر من جهة‪ ،‬وإشادته‬ ‫بدولة «إرسائيل» املحتلة ألرض ليست‬ ‫هلا‪ .‬السؤال هو كيف يمكن لفيلسوف‬ ‫بمقام سارتر أن يزاوج بني هذين املوقفني‬ ‫املتناقضني من وجهة نظرك‪ ،‬كيف يمكن‬ ‫لذلك أن حيدث؟؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫هذه مشكلة هلا أوجه خمتلفة بحسب‬ ‫البيئة الثقافية التي يمكن أن تثار عواملها‬ ‫داخل تناقضاهتا اخلاصة‪ ،‬فاملرحلة التي‬ ‫كان يعيشها سارتر يف فرنسا كانت أقرب‬ ‫إىل مرحلة التحرر الوطني بالنسبة إىل‬ ‫جمتمعاتنا‪ ،‬إذ ال ننسى أن فرنسا كانت‬ ‫حمتلة من النازية اهلتلرية خالل احلرب‬ ‫العاملية الثانية‪ ،‬وكانت مشكلة اليهود هي‬ ‫الذريعة التي متسكت هبا النازية من أجل‬ ‫شن حروهبا ضد معظم دول أوربا‪ ،‬وهي‬ ‫التي تضم جاليات هيودية كبرية ومتنفذة‪،‬‬ ‫ومن املعروف أن النازية تعتقد أن فشل‬ ‫أملانيا يف احلرب العاملية األوىل سببه اليهود‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪35‬‬ ‫وكأن احلرب الثانية هي نوع من االنتقام‬ ‫من األنظمة األوروبية احلاكمة‪ ،‬التي‬ ‫كانت متآلفة إىل حد ما مع بقية مكوناهتا‬ ‫ومن مجلتها املكون اليهودي‪ .‬وبالنسبة‬ ‫إىل اليسار الفرنيس الذي انخرط بجدية‬ ‫يف املقاومة الرسية ضد االحتالل النازي‬ ‫يف فرنسا ويف خمتلف االقطار االوروبية‬ ‫التي احتلتها النازية كان العنرص اليهودي‬ ‫عاملاً فاعلاً وجزء ًا منه وكذلك بالنسبة‬ ‫إىل حركات املقاومة األوربية آنذاك‪ .‬من‬ ‫هذا املنطق مل يكن سارتر قادرا عىل الفصل‬ ‫بني الشعب اليهودي الذي عانى من‬ ‫االضطهاد النازي‪ ،‬يف الوقت الذي سادت‬ ‫فيه الشعارات العنرصية املتطرفة التي‬ ‫استخدمتها النازية‪ ،‬فقد كانت بمثابة حتدّ‬ ‫مبارش للوجدان الثقايف األورويب‪ .‬ما جعل‬ ‫كرس نفسه فيلسوف ًا للحرية‪،‬‬ ‫سارتر الذي ّ‬ ‫فهو ينتمي إىل هذا اخلط‪ ،‬خط املقاومة‬ ‫التحريري يف أوروبا‪ ،‬ولكنه مل يستطع‬ ‫أن يغدو جزء ًا من هؤالء التحرريني (؟)‬ ‫قد اندفعوا من اليهودية املضطهدة إىل‬ ‫اليهودية التي ستضطهد سواها يف أرض‬ ‫العرب وتستويل عىل ما ليس هلا حق فيه‪،‬‬ ‫وتتس ّبب يف طرد شعب كامل من اراضيه‬ ‫ومن تارخيه ومن مواقعه الطبيعية‪.‬‬ ‫ـ عمر شبيل‪:‬‬ ‫حسن ًا استاذ‪ ،‬كيف يمكن لنا أن نفهم‬ ‫هذا من فيلسوف مثل سارتر؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫هذه إشكالية‪ ،‬وكنا قد دخلنا معه‬ ‫آنذاك يف نقاشات مبارشة‪ ،‬برفقة العديد‬ ‫من مثقفني الشباب العريب يف باريس‪.‬‬

‫كان الرجل هو أيض ًا بأزمة وجدانية حادة‬ ‫إزاء هذه املسألة‪ ،‬لكن اجلو الثقايف العام‬ ‫آنذاك املوصوف باحلرية واالشرتاكية‬ ‫والتقدمية بتاممه كان متعاطف ًا جد ًا يف‬ ‫املجتمع الفرنيس مع اليهود‪ ،‬ويرى أن هلم‬ ‫حق ًا يف جزء من ارض لتصبح وطن ًا هلم‪،‬‬ ‫لكن املسألة مل تكن تنظر يف اجلانب اآلخر‬ ‫من املوضوع‪ ،‬وهي أن هذه االرض ملن‬ ‫ستؤول وملاذا ستصبح ملكا ملن ليس له‬ ‫حق فيها‪.‬‬ ‫إذا املسألة هي مسألة جو ثقايف عام‬ ‫معني‪ ،‬كان سارتر متزعام فيه‪ ،‬وكان‬ ‫العنرص اليهودي نافذ ًا يف خمتلف املجاالت‬ ‫الثقافية املكتوبة واملذاعة واملنشورة‪،‬‬ ‫والتي كانت تصبغ جيال كام ً‬ ‫ال من الشبيبة‬ ‫الفرنسية الصاعدة‪ ،‬هذا كان حرج ًا كبريا‬ ‫لسارتر‪ ،‬واضطره إىل أن يتنازل عن كثري‬ ‫من الوضوح الفكري يف ما يتعلق باملسألة‬ ‫اليهودية يف فلسطني‪.‬‬ ‫ـ عمر شبيل‪:‬‬

‫ممكن أن يكون هذا أحد أسباب خالفه‬ ‫مع "ألبري كامي"‪ ،‬فقد نادى كامي باحلرية‬ ‫املطلقة‪ ،‬و أعلن أنه ال يسطيع أن يكون‬ ‫تقدمي ًا إذا مل يؤمن بتحرر كافة الشعوب‬ ‫املقهورة واملضطهدة‪ ،‬هل هذا من أسباب‬ ‫االفرتاق بالرؤية بني الفيلسوفني؟؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫إن اخلالف بني سارتر وكامي كان‬ ‫عىل عدة قضايا فلسفية (هنا عمر شبيل‬ ‫مقاطع ًا‪ :‬إن تلك القضايا اخلالفية تتعلق‬ ‫بالوجودية واحلرية ‪ )...‬أعني أهنا مسألة‬ ‫تتطلب طروحات منها أن كامي مل يكن‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 36‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫مفكرا يساري ًا باملعنى املطابق للكلمة‪،‬‬ ‫كان يف احلقيقة أديبا متحررا وهو أقرب‬ ‫إىل الثقافة االدبية منه إىل الثقافية الفكرية‬ ‫وقد اختلف مع املنهج الوجودي بشكل‬ ‫عام من حيث أن احلرية ال تتحدد فحسب‬ ‫باملسائل السياسية والرصاع السلطوي‬ ‫الذي طبع تلك املرحلة‪ .‬كان كامي يرى‬ ‫أن احلرية هي حقيقة إنسانية‪ ،‬والسياسة‬ ‫هي ظرف طارىء‪ .‬يف حني أن سارتر كان‬ ‫متمسكا يف نظرته حول االلتزام‪ ،‬ويرى‬ ‫أن احلرية جيب أن تظهر دائام عرب مواقف‬ ‫جمسدة واقعية‪ ،‬وليست فقط نزوة عاطفية‬ ‫أو مثالية جمردة‪.‬‬ ‫ـ عمر شبيل‪:‬‬

‫إذن‪ ،‬أنت تعني بإجابتك أن كامي‬ ‫أقرب إىل احلرية من سارتر؟ أي أقرب إىل‬ ‫احلال االنسانية؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫نعم هو مفكر أديب أكثر منه مفكر‬ ‫فلسفي وسيايس‪ ،‬اخلالف بني كامي‬ ‫وسارتر‪ ،‬بدأ حول املشكلة اجلزائرية‬ ‫بالذات‪ ،‬ففي احلني الذي كان سارتر‬ ‫يرى أن حل مشكلة اجلزائر ال تكون إال‬ ‫باخلالص من االحتالل الفرنيس‪ ،‬فإن‬ ‫كامي كان ال يقدر أن يتصور انفصال‬ ‫اجلزائر عن فرنسا‪ ،‬وهذا يشكل أحد‬ ‫االسباب العميقة للخالفات بينها‪.‬‬ ‫ـ د‪ .‬هالة أبومحدان‬

‫استاذ مطاع‪ :‬قلت إن االستقالل‬ ‫القطري هو مرحلة انتقالية للعبور نحو‬ ‫الوحدة‪ ،‬ولكن أال تعتقد أن االستقالل‬ ‫القطري ملدّ ة طويلة قد يشوه مفهوم وحدة‬

‫األمة؟ وقد تتحول هذه االقطار إىل عدة‬ ‫أمم فقد اصبحنا اليوم أمام مفاهيم جديدة‬ ‫االمة اللبنانية واألمة التونسية واالمة‬ ‫املرصية‪ ،‬وهذا ما يعني بروز ظاهرة‬ ‫الوطنيات التي أفرزت مفاهيم جديدة‬ ‫لألمة الشوفينية‪ ،‬فبدالً من أن يكون لدينا‬ ‫أمة واحدة أصبحنا أمم ًا شتى؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫القطرية عندما تطول تتجذر وتنتج‬ ‫فعال شعور ًا خمتلفا عن اجلار بأشياء صغرية‬ ‫ثم تصبح كبرية مع الزمن‪ ،‬ويمكن أن‬ ‫تولد قوة فكرية معينة النشاء كيان كامل‬ ‫ومستقل ويصبح القطر غاية يف ذاته‪ ،‬كام‬ ‫هي احلال السائدة اليوم‪.‬‬ ‫ـ د‪ .‬هالة أبومحدان‪:‬‬

‫نعم هذا صحيح وهذا ما نشاهده‬ ‫اليوم يف عاملنا العريب املعارص!!‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫وهذا الذي حدث خالل العقود‬ ‫مرحلتي االستقالل‬ ‫الطويلة التي مرت عىل‬ ‫ْ‬ ‫الوطني وما تاله‪ ،‬فبقينا نفهم ونعيش قطري ًا‬ ‫ودخلت عوامل التنافس بني هذه األقطار‪،‬‬ ‫وكأهنا بلدان غريبة‪ ،‬بسبب ظهور طبقات‬ ‫اجتامعية هلا مصالح معينة يف هذا القطر أو‬ ‫ذاك وهذه الطبقات هي التي أصبحت تقود‬ ‫يف لبنان وسوريا والعراق‪ ...‬أي أصبح‬ ‫هناك أنظمة سياسية مرتبطة بتشكيل طبقي‬ ‫جديد له مصلحة كبرية يف احلفاظ عىل‬ ‫الكيان القطري واالستفادة منه (أي تشكل‬ ‫طبقة الكمربادور) وبخاصة عندما ظهرت‬ ‫الثروات النفطية التي حولت جمتمعات قبلية‬ ‫بدائية إىل دول وأوطان قائمة بذاهتا‪ ،‬وهذا‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪37‬‬ ‫كان من غرائب العرص العريب اجلديد‪ ،‬عرص‬ ‫النهضة العربية‪ ،‬إننا االن نعيش يف ظل ‪22‬‬ ‫دولة عربية بدال من أن نعيش يف ظل دولة‬ ‫عربية واحدة فالقطريات أصبحت كيانات‬ ‫سياسية ساعدت عىل تشكيل كيانات‬ ‫اجتامعية خاصة هبا‪ ،‬وهذه العوامل جمتمعة‬ ‫أنشأت فعال ما يشبه االمة فأصبحنا نقول‬ ‫أمة عراقية أمة جزائرية‪ ...‬وخاصة عندما‬ ‫تستويل فئات ذات نزاعات فئوية وسياسية‬ ‫ضيقة ومؤقتة‪ .‬عىل أقطارها وتصبح هي‬ ‫أكرب عقبة يف وجه االلتقاء واملصاحلة‬ ‫املتبادلة بني الشعوب‪ .‬وقد عمل االستعامر‬ ‫اجلديد بكل قوته عل منع اتصال حقيقي‬ ‫شعبي ومجاهريي بني االقطار العربية‪ .‬فقد‬ ‫مرت حقبة طويلة خالهلا مث ً‬ ‫ال كان عىل‬ ‫املسافر اجلزائري الذاهب إىل املغرب أن‬ ‫يمتطي الطائرة املسافرة أوالً إىل باريس قبل‬ ‫أن تتابع نحو املغرب‪ ،‬هذه صورة عجيبة‪،‬‬ ‫ومن ذلك الوقت وحتى االن ال يزال‬ ‫اهلدف الرئيس للغرب هو منع التقاء بعض‬ ‫القوى العربية مع بعضها اآلخر‪ ،‬وجاءت‬ ‫إرسائيل يف الواقع كاخلازوق يف جسد األمة‬ ‫العربية‪ ،‬مهمة هذا الكيان املصطنع هي‬ ‫خلق الفواصل النهائية فيام بني أبناء األمة‬ ‫العربية‪ ،‬أي منع أي تواصل بني األقطار‬ ‫العربية إىل درجة أصبحت بلدان عربية‪،‬‬ ‫حيارب بعضها بعضا‪ .‬ونسينا مث ً‬ ‫ال إرسائيل‪،‬‬ ‫إننا اآلن منشغلون باالنقالبات الداخلية‬ ‫بالثورات الداخلية باحلروب الذاتية فيام‬ ‫بيننا‪ ،‬وننسى أن احلرب االساسية هي حرب‬ ‫ضد الغازي الغريب عىل االرض والوطن‪،‬‬ ‫والذي يسكن بيننا‪ ،‬يف وطننا ويفرق بيننا‬ ‫باستمرار‪ .‬والذي هو العدو الصهيوين‪.‬‬

‫ـ عمر شبيل‪:‬‬

‫بالنسبة إىل كتاب "الرش املحض"‬ ‫وأنت مؤلفه‪ ،‬تقول يف الكتاب إن‬ ‫االستعامر يف املايض كان عبارة عن عسكر‬ ‫جيثم عىل صدورنا وحيكمنا بالسياسة عرب‬ ‫عمالئه‪ ،‬واالن تقول إن االستعامر املعارص‬ ‫يف عرصالعوملة‪ ،‬والتي تسميها األمركة‬ ‫ليس مضطر ًا لالستعامر املبارش‪ ،‬إذ يستطيع‬ ‫أن يستعمرنا عرب وسائله التكنولوجية‬ ‫عرب أنامط حياهتا وسلعها االستهالكية‪،‬‬ ‫ونحن بتصديرها إلينا نصبح أرسى‬ ‫تلك املنتجات‪ ،‬وال نستطيع الفكاك من‬ ‫تسلطها‪ ،‬ولكن مع ذلك ال بد من التخلص‬ ‫سميت هذا النوع من االستعامر‬ ‫منها‪ ،‬ملاذا‬ ‫َ‬ ‫الرش املحض بالضبط؟؟؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫الرش املحض هو تعبري عن احلال التي‬ ‫تصبح فيها مفاعيل الرش أكرب بكثري من‬ ‫أسباهبا‪ ،‬يعني أن الرش بحد ذاته هو نتيجة‬ ‫فعل سلبي معني‪ ،‬ولكنه مع استمرار‬ ‫سطوته تكاد أسبابه تُنسى‪ ،‬ويصبح فعله‬ ‫السبب والنتيجة يف وقت‬ ‫هو يف حد ذاته‬ ‫َ‬ ‫واحد‪ .‬من هنا نجد أن الغرب جيدد وسائل‬ ‫التعبري عن نوايا الرش الكامنة فيه حتى من‬ ‫خالل ابتكاراته وإبداعاته التي ليس هلا‬ ‫هدف تطوير االنسانية وحتررير االنسان‬ ‫أكثر فاكثر من حتميات الطبيعة ونواقصه‬ ‫االجتامعية‪ .‬إن هدف هذه اإلبداعات هو‬ ‫إهلاء هذه الشعوب عن مشاكلها األساسية‬ ‫وإغراقها يف تفاصيل ال اول هلا وال آخر‪.‬‬ ‫لكن هي يف حد ذاهتا هلا قيمة معرفية ال‬ ‫َ‬ ‫طرق‬ ‫يمكن نسياهنا‪ ،‬بيد أن استخدا َمها‬ ‫ِ‬ ‫تعميمها يستفيد منها القوي دائام من أجل‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 38‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫استمرار مذهبه يف السيطرة واالستغالل‪.‬‬ ‫أنظر مثال اآلن إىل انتشار وسائل‬ ‫التواصل األلكرتونية‪ ،‬وهو آخر اخرتاع‬ ‫اكتشفته الراساملية االمريكية‪ ،‬وعممته‬ ‫عىل العامل‪ ،‬وهي يف الواقع استطاعت من‬ ‫خالله إىل حد كبري أن تؤجل افالسها‬ ‫املادي واالقتصادي‪ .‬اآلن تعدّ جتارة هذه‬ ‫الوسائل هي من أكثر التجارات املربحة‬ ‫وتدر عىل أمريكا أمواال طائلة جتبيها من‬ ‫مجيع أنحاء العامل ونالحظ هذا التنافس‬ ‫الذي حيدث بني رشكاهتا من سنة إىل أخرى‬ ‫حتت تصور أهنا تطور وتقدم باآلالت من‬ ‫أجل أن يظل هناك استهالك دائم هلا‪ .‬اآلن‬ ‫ال نستطيع أن نستغني عنها‪ ،‬ويف الوقت‬ ‫ذاته نعرف ُأهليات (لإلهلاء) أكثر منها ذات‬ ‫منافع مبارشة وحقيقية لإلنسانية‪ ،‬وليس‬ ‫فقط لقضايانا الوطنية والذاتية واالقتصاد‬ ‫اخلاص هبا‪.‬‬ ‫ـ عمر شبيل‪:‬‬

‫أنت تقصد االفالس املادي‬ ‫واالقتصادي‪ ،‬ولكنك مل ترش إىل إفالسها‬ ‫الروحي الذي أصبح يبدو ظاهرا للعيان‪،‬‬ ‫مع تقدمها العلمي واملادي‪ ،‬ولكن أال ترى‬ ‫أن غياب هذه املسألة الروحية قد يكون‬ ‫السبب وراء خراب احلضارة الغربية وهو‬ ‫املقتل الذي سيصيبها ؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫مسألة اإلفالس الروحي واإلفالس‬ ‫املادي مسألة حتتاج إىل نقاش فلسفي‬ ‫عميق‪ ،‬ولكن يمكن برسعة أن نقول إن‬ ‫أمريكا استطاعت خالل تقدمها الصناعي‪،‬‬ ‫هنا نالحظ أن خمتلف الصناعات الكربى‬

‫هي أمريكية باألساس‪ ،‬يعني أول املستفدين‬ ‫من اكتشاف البرتول هي امريكا وأول من‬ ‫أنتج السيارات هي امريكا‪ ،‬التلفزيون‬ ‫أمريكي‪ ،‬وسائل النقل والتواصل أمريكية‪،‬‬ ‫إذن‪ ،‬امريكا قلبت حياة االنسان راسا عىل‬ ‫عقب‪ ،‬وقد تسميها تطور ًا وتقدم ًا‪ ،‬لكن‬ ‫يف الوقت ذاته هي إفقار روحي لكل‬ ‫البرشية‪ ،‬وامريكا التي مل تستطع ّ‬ ‫ضخ ٍ‬ ‫روح‬ ‫لذاهتا وخاصة هبا أفقرت البيئة اإلنسانية‬ ‫وجردهتا من شخصيتها الذاتية‪ ،‬وعممت‬ ‫أشكاالً من االستخدامات غري املبارشة‬ ‫التي يصبح فيها البرش عبيد املوارد التي‬ ‫يستخدموهنا‪ ،‬وليسوا أسيادا عليها‪ ،‬هناك‬ ‫اآلن وحدة العوملة‪ ،‬وهي جاءت لكي ترض‬ ‫بمفهوم العاملية الراهن يف التاريخ‪ .‬العاملية‬ ‫تعني وصول العامل بتطوره الذايت اإلنساين‬ ‫إىل حال االنفتاح بعضه عىل بعضه اآلخر‪،‬‬ ‫وأن يتعايش وأن يتجاوز االستغالل‬ ‫وأن يكون فعال عامل أحرار‪ ..‬عامل للبرش‪،‬‬ ‫منفتح ًا عىل اجلميع‪ ،‬لكن جاءت العوملة‬ ‫لتقيض عىل هذا الراهن التارخيي الوجودي‬ ‫إذ حتاول تغيري هذا العامل ومفاهيمه‬ ‫وأهدافه وجعل االنسانية أداة العوملة‪،‬‬ ‫وليست سيدة عىل أدواهتا‪.‬‬ ‫ـ عمر شبيل‪:‬‬

‫استاذ‪ ،‬أنت تقول يف معظم كتاباتك‬ ‫أن هذه االمرباطوريات الكربى التي‬ ‫انترشت يف العامل سابق ًا هي شكل من‬ ‫أشكال العوملة أو العاملية وكانت حتمل‬ ‫مفهوما سلبي ًا بسيطرة أمة عىل أمة‪ ،‬يعني‬ ‫سيادة املفهوم الرشير الذي يساوي حجم‬ ‫احلال املعارصة‪ ،‬وكانت موجودة منذ‬ ‫القدم عند الرومان واليونان‪ ،‬كان هذا‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪39‬‬ ‫نوعا من العوملة وحتى العرب الذين محلوا‬ ‫قيام روحية عندما خرجوا عن حدودهم‬ ‫االقليمية محلوا عامليتهم معهم؟‬

‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫إن العوملة ليست حديثة‪ ،‬العوملة‬ ‫ختتلف عن العاملية‪ ،‬العاملية هي املحصلة‬ ‫النهائية النتقال احلضارات املغلقة إىل‬ ‫مرحلة املدنية‪ ،‬فاالنسانية تنتقل اآلن من‬ ‫احلضارات املغلقة إىل احلضارات املدنية‬ ‫الشاملة إذ تصبح القيم االنسانية هي‬ ‫السائدة وموجودة فوق القيم املحلية‪،‬‬ ‫ويصبح املحيل جزء ًا من العاملي الشامل‪،‬‬ ‫وليس نقيض ًا له‪ ،‬أو خمتلف ًا عنه فهذه العاملية‬ ‫هي باملفهوم الفلسفي هي الراهنية اآلن‪،‬‬ ‫يعني كان من املفرتض أن حتقق اإلنسانية‬ ‫ما نسميه بالكوسموبوليتي‪ ،‬أي العاملي‪،‬‬ ‫أي السياسة العاملية احلقيقية‪ ،‬عندما تصبح‬ ‫األمم عبارة عن أعضاء متكاملني يف‬ ‫العائلة اإلنسانية الواحدة‪ .‬ذلك أن تطور‬ ‫العقل يف االنسانية كان جيب أن يوصلنا‬ ‫إىل مثل هذه احلال‪ ،‬لوال االستغالل‪ ،‬لوال‬ ‫االستعامر اجلديد الذي هو استعامر عاملي‬ ‫اآلن‪ ،‬هو ليس استعامر ًا ضد العرب فقط‬ ‫فالعوملة كأهناهي نوع من استعامر أمريكي‬ ‫للعامل‪ ،‬بالسيادة عىل اقتصاده‪ ،‬فهي متنع‬ ‫العامل أن يصبح حرا يف ذاته‪ ،‬وذلك ألجل‬ ‫أن تبقى أمريكا هي املستفيد من خريات‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬باحتكارها لإلبداعات الكربى‬ ‫يف التكنولوجيا‪ ،‬مثال األنرتنت كان معروف ًا‬ ‫عند اجليش االمريكي وذلك قبل أن تعممه‬ ‫الصناعة الرأساملية كان اجليش االمريكي‬ ‫يستخدمه يف نطاق عملياته اخلاصة‪،‬‬ ‫وضمن وحداته ومل يكن عندها االنرتنت‬

‫صناعة مرئية حتى الوقت الذي قررت فيه‬ ‫امريكا إخراجه من النطاق العسكري إىل‬ ‫النطاق العلني لكي تستفيد من الثروات‬ ‫اهلائلة التي تدرها عليها صناعة االنرتنت‬ ‫واملعلوماتية‪ ،‬يعني بدال من أن نتحدث عن‬ ‫أرقام املئات واالالف واملاليني أصبحنا‬ ‫نتكلم اآلن بلغة املليارات والرتيليونات‪،‬‬ ‫هذا الواقع يوصلنا إىل فكرة "استبضاع‬ ‫االنسان" أي االنسان أصبح هو بضاعة يف‬ ‫حد ذاته أي سلعة‪ ،‬وهي بضاعة املستفيد‬ ‫االول منها‪ ،‬أن اسمي هذا "خصخصة‬ ‫الكيل " ملصلحة اخلاص‪ ،‬اي ان تستويل‬ ‫عىل ما هو كيل ملصلحتك أنت وليس فقط‬ ‫أن ترتكه لفائدة االنسانية‪.‬‬ ‫ـ د‪ .‬هالة أبومحدان‪:‬‬

‫أنا سأعود إىل مسألة االفالس‬ ‫الروحي الذي حتدثت عنه‪ ،‬طبعا نعود إىل‬ ‫أن الغرب يعيش مرحلة ما قبل احلداثة‬ ‫وأن طرح مسالة اإلفالس الروحي هي‬ ‫مسالة تطرح يف نطاق فكر مابعد احلداثة‪،‬‬ ‫ولكن هل تعتقد أن العودة إىل األصولية‬ ‫الدينية حتى يف امريكا والفكر املسيحي‬ ‫سببه الشعور باإلفالس الروحي‪ ،‬وهل أن‬ ‫العودة إىل االصولية يف الغرب سببه هذا‬ ‫االفالس؟ هذا ما يتم طرحه يف سياق عقل‬ ‫ما بعد احلداثة‪ ،‬أي أن الفراغ الروحي قاد‬ ‫إىل االحتامء باألصول الدينية؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫بالنسبة إىل الغرب املشكلة هي انقطاع‬ ‫صلته بالدين إذ مل يستطع ان يعوض عن‬ ‫هذا النقص بفكر جديد وذلك بسبب‬ ‫الرأساملية‪ ،‬فعندما تطور العقل الغريب إىل‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 40‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫درجة مل يعد يؤمن بالقوى الغيبية وعمم‬ ‫هذا بسلوك جديد‪ ،‬وليس جمرد اعتقاد‪،‬‬ ‫يعني اآلن أن الكنائس فارغة‪ ،‬واملتدينني‬ ‫ما زالوا أعداد ًا قليلة جدا واصبح هناك‬ ‫انفصال‪ ،‬وليس االنفصال عن الدين‬ ‫الرسمي فقط‪ ،‬بل ايضا انفصال املجتمع‬ ‫عن الدين‪ ،‬وهذا االنفصال الكبري شكل‬ ‫فراغا روحيا وكان من املفرتض أن متأله‬ ‫ثقافة احلقيقة وحدها‪ ،‬أي االيامن بالفكر‬ ‫املوضوعي وتأمني رشوط احلرية للجميع‬ ‫حقيق ًة‪ ،‬والذي حدث أن الليربالية اجلديدة‬ ‫حالت دون جتذير هذا التطور املدين‪،‬‬ ‫حتويله اىل سلوك انساين جديد يصبح‬ ‫هو مصدر الروحانية املطلوبة‪ ،‬روحانية‬ ‫واقعية وعملية‪ ،‬وليست روحانية غيبية‬ ‫وغري منظورة‪.‬‬ ‫ـ د‪ .‬هالة أبومحدان‪:‬‬

‫ولكننا نشهد عند الغرب أصولية‬ ‫دينية جديدة مثل الربوتستانتية اجلديدة‬ ‫والصهيونية املسيحية‪.‬‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬هذا التغيري املتوجه‬ ‫نحو االصولية هو ليس تعبري ًا عن‬ ‫اإلفالس الروحي فقط‪ ،‬بل هو تعبري‬ ‫عن عجز احلضارة الغربية عن االبتكار‬ ‫والتعويض عن هذا االفالس‪ ،‬ولذلك‬ ‫تصبح االحتجاجات الدينية هي التعبري‬ ‫عن تعويض مريض وليس عن تعويض‬ ‫عقيل‪ .‬لذلك تالحظني أن املتدينني‬ ‫الربوتستانت خيرتعون افكار ًا غريبة‬ ‫وعجيبة ويقيمون طقوس ًا هلا من أجل‬ ‫املحافظة عىل نخبويتهم فقط‪ ،‬باعتبارهم‬ ‫ما زالوا يقودون عامل اليوم‪ ،‬الربوتستانت‬ ‫هم املسيطرون عىل امريكا التي تسيطر‬

‫هي بدورها عىل شبكيات املوارد احليوية‬ ‫للعامل‪ ،‬ويف أمريكا ذاهتا يسود التمييز‬ ‫العنرصي الذي حياول عنرصه األبيض‬ ‫الربوتستانتي خاصة أن يظل هو املتملك‬ ‫واملستفيد االول من الصناعات احلربية‬ ‫خاصة وتوابعها من الطاقة واملعلوماتية‪.‬‬ ‫هذه الصناعات هي عامد القوة االمريكية‪،‬‬ ‫لذا فاإلرادة االمرييكة تؤمن بأنه جيب‬ ‫أن تبقى احلروب حمرك ًا دائ ًام ومستمر ًا يف‬ ‫العامل‪ ،‬كأهنم يعملون عىل توليد رشوطها‬ ‫التعجيزية يف العامل العريب والعامل الثالث‪،‬‬ ‫الحظي أن احلروب ُحرصت يف هذه‬ ‫تم تعجيز شعوهبا عن نيل‬ ‫املنطقة بعد أن َّ‬ ‫احلرية احلقيقية يف إدارة شئون استقالهلا‬ ‫الوطني والقومي‪ ،‬فتظل هي الضحية‬ ‫املستدامة‪ .‬احلروب انتهت اليوم بني‬ ‫الدول االوروبية‪ ،‬ولكنها حتولت إىل‬ ‫حروب يف العامل الثالث‪ ،‬العامل االفريقي‬ ‫والعريب‪ ،‬حتى إهنا تراجعت نوع ًا ما‬ ‫يف افريقيا واستمرت يف الوطن العريب‬ ‫واإلسالمي‪ ،‬واآلن العرب واإلسالم‬ ‫يشكلون آخر احلضارات التي ما زالت‬ ‫ضحية هذه االنفعاالت الغريزية التي‬ ‫تتغذى بشتى الطرق‪ ،‬مثال اآلن ما الداعي‬ ‫إىل حركات اإلسالم السيايس‪ ،‬والتي‬ ‫تقرص االهتامم بقضايا تفصيلية خاصة‬ ‫باالفراد‪ ،‬واستبدلت السلوك االجتامعي‬ ‫العام والشأن السيايس املصريي بالتدخل‬ ‫يف حريات األشخاص وتكبيل الترصف‬ ‫الفردي بالنمذجات العقدية والطقسية‪،‬‬ ‫وراحت ظاهرة أحزاب االسالم السيايس‬ ‫تصب اهتاممها االول عىل مسالك األفراد‬ ‫وأفكارهم الذاتية‪ ،‬حسب طقوس معينة‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪41‬‬ ‫حتى تصبح هي البديل عن قضايا الشعب‬ ‫الكربى والتحريرية مثل التنمية والتقدم‬ ‫والوحدة واالمن القومي واالستقالل‬ ‫الداخيل ومنع التدخل األجنبي والعدالة‬ ‫االجتامعية‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫ـ عمر شبيل‪:‬‬

‫استاذ مطاع كام نعرف أن حرضتك‬ ‫أديب وفيلسوف يف الوقت ذاته‪ ،‬السؤال‬ ‫هو كيف استطعت أن توفق بني األدب‬ ‫والفلسفة مع أن هناك صعوبة يف االلتقاء‬ ‫بني هذين االجتاهني‪ ،‬فاألدب كام تعلم‬ ‫حيتاج لغة وصياغة بينام الفلسفة فكر حمض‬ ‫وقاس‪ ،‬فالفلسفة تستخدم تعابري معقدة‬ ‫وصعبة أحيانا‪ ،‬ربام القارىء العادي‬ ‫قد ال يستسيغها لذا فالسؤال‪ :‬هو كيف‬ ‫استطاع مطاع صفدي أن يوفق بني األديب‬ ‫والفيلسوف؟ فمثال رواية "جيل القدر"‬ ‫هي رواية‪ ،‬وصحيح أهنا حتمل مه ًا فكري ًا‪،‬‬ ‫ولكنها حتمل أدب ًا!! لقد كتبتها بلغة أدب‬ ‫البلغة فلسفة ‪.‬‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫ليس هناك فرق نوعي بني االدب‬ ‫والفلسفة‪ ،‬هناك فرق إجرائي باألحرى‬ ‫عندما نكتب أدب َا معمق ًا إىل حد ما يصبح‬ ‫فلسفة‪ ،‬االدب والفلسفة وجهان لإلبداع‬ ‫الفكري فالرواية والبحث الفلسفي‬ ‫اخلاص بالفلسفة احلديثة واملعارصة‬ ‫متآلفان متاما‪ .‬أحدمها يؤدي إىل االخر‪،‬‬ ‫مثال سارتر هو روائي كبري وناقد ويكاد‬ ‫يكون شاعرا ومرسحي ًا‪ ،‬لقد كان قادرا‬ ‫عىل حتويل الفكرة الفلسفية إىل مرسحية و‬ ‫بالعكس‪ ،‬مل يكن يعاين أي عناء يف االنتقال‬

‫من الفكر إىل االدب‪ ،‬ومن االدب إىل‬ ‫الفكر‪ ،‬وكذلك قام بدراسات معمقة يف‬ ‫األدب‪ ،‬يف هذه الدراسات نالحظ عبقرية‬ ‫سارتر الذي استطاع أن يكتشف معاين‬ ‫اإلنتاجات االدبية االكبرية املعارصة له‪،‬‬ ‫ويعيد حتليلها يف ضوء املنهج الوجودي‪،‬‬ ‫أصبحت تقرأ بروحية جديدة‪ ،‬مثال عندما‬ ‫كان يتناول األديب األمريكي "فوكلنر" مل‬ ‫يكن معروفا يف أوروبا ومل يقرأه أحد من‬ ‫قبله‪ ،‬كان روائيا أمريكيا قام سارتر بالكتابة‬ ‫عنه فرتمجت أعامله إىل الفرنسية واالملانية؛‬ ‫الفكر االنساين املتحرر‪،‬‬ ‫ألنه اكتشف يف أدبه‬ ‫َ‬ ‫وكيف يتحرر االنسان من العبوديات‬ ‫األمريكية اجلديدة‪ ،‬فقد نشأ هذا الروائي يف‬ ‫مرحلة خاصة صاحبت ما يسمى "بالكساد‬ ‫العظيم" عام ‪ ،1929‬يف تلك املرحلة‬ ‫حدثت أكرب هزيمة اقتصادية للرأساملية‬ ‫حتول املجتمع إىل جيوش من العاطلني عن‬ ‫العمل‪ ،‬مهددين باملوت جوع ًا‪ ،‬يصطفون‬ ‫يف شوارع نيويورك للحصول عىل كوب‬ ‫من احلساء مع قطعة من اخلبز‪.‬‬ ‫فوكلنر‪ ،‬كان من االدباء الذين‬ ‫عايشوا تلك احلقبة وكتبوا عنها‪ ،‬وكان‬ ‫لسارتر فضل التنويه بنوع االلتزام اجلديد‬ ‫يف الرواية األمريكية لثالثينيات القرن‬ ‫املايض‪ .‬فال فرق يف العمل الفكري االصيل‬ ‫بني الفلسفة واالدب وكالمها يؤدي إىل‬ ‫اآلخر‪ ،‬فمثال ميشيل فوكو الذي قمت‬ ‫برتمجة أعامله كان يعدّ من أكرب االسلوبيني‬ ‫الفكريني يف اللغة الفرنسية‪ ،‬ونالحظ أن‬ ‫الكتب الفلسفية عندما تنزل يف لغاهتا تغيرّ‬ ‫من االدب وتغنيه بمصطلحات جديدة‪،‬‬ ‫مثال فكرة احلرية مذهب االلتزام أصبحا‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 42‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫من بدهييات الثقافة العاملية املعارصة‪ ،‬ومنذ‬ ‫سارتر حتى اليوم مل تتغري التيارات األدبية‬ ‫ومل تبتعد عن هذه املنطلقات‪ ،‬وأصبح‬ ‫االلتزام يف األدب أمر ًا طبيعي ًا‪ ،‬كان هذا يف‬ ‫املايض حيسب نوع ًا من التعدي عىل األدب‬ ‫من أجل السياسة‪ ،‬بينام االلتزام استطاع أن‬ ‫يظهر أن احلرية ليست مسألة سياسية بل‬ ‫مسألة وجودية‪ ،‬واملواقف السياسية هي‬ ‫نتاج املعاناة الوجودية وليس العكس‪.‬‬ ‫ـ عمر شبيل‪:‬‬

‫بالنسبة إىل الربيع العريب أنت تسميه‬ ‫"البحر اهلائج" وما تسميه ثورة عربية‬ ‫تراه حاالً سطحية للتغيري العميق يف‬ ‫املجتمعات العربية‪ ،‬أي أنت تشري إىل أن‬ ‫هذه احلال الثورية تالمس سطح احلدث‪،‬‬ ‫وأن التغيري يف العمق أمر قادم حتمي ًا‪،‬‬ ‫وأنت تقول‪" :‬التغيري أصبح مثل اخلضم‬ ‫اهلائج وما يسمى بالثورة ال ختترصه إنه‬ ‫أشبه بسفينة باخرة عباب اهليجان األعظم‬ ‫من حتتها ومن حوهلا وال تعني الثورة أكثر‬ ‫من مصطلح اجرائي لبعض ظواهرها"‪،‬‬ ‫والسؤال هل الربيع العريب سائر هبذا‬ ‫االجتاه؟؟ فهل سيالمس األعامق أم سيبقى‬ ‫عىل السطح بتقديرك؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫الربيع العريب حقيقة راهنية‪ ،‬أعني‬ ‫حتى الربيع العريب أصبح له مرتادفات‬ ‫بني األمم االخرى وأصبحنا نقول هناك‬ ‫ربيع أورويب وربيع فرنيس‪ ،‬أي صار حاال‬ ‫عاملية‪ .‬والعرب هلم فضل ألهنم كانوا‬ ‫هم رواد هذا التغيري الذي جاءهم دون‬ ‫أن يدروا‪ ،‬إذ أنه انبثق هكذا من حدث‬

‫بسيط جدا يف تونس إىل أن أصبح اآلن‬ ‫راهني ًا‪ ،‬اذ ال مفر اآلن من التغيري اجلذري‪،‬‬ ‫أنا أفهم الربيع العريب بكونه دعوة إىل‬ ‫العودة بالفكر االنساين إىل التغيري اجلذري‬ ‫العميق‪ ،‬وليس التغيري السطحي‪ ،‬وليس‬ ‫التغيري العابر‪ ،‬اآلن االنسان أصبح إما‬ ‫أن يستسلم إىل حتويله إىل جمرد بضاعة يف‬ ‫أيدي جتار االنسانية أويسرتد سيادته عىل‬ ‫ذاته‪ .‬إذا صح القول جاء الربيع كأنه هو‬ ‫الرد الفعيل عىل ظاهرة العوملة‪ ،‬طبعا هذه‬ ‫مفارقة مفاجئة‪ ،‬ولكنها اآلن صارت‬ ‫شاهدة يف قلب نيويرك‪ ،‬هناك حركة‬ ‫يسموهنا حركة إلغاء " وول سرتيت"‪،‬‬ ‫"الشعب يريد إهناء وول سرتيت"‪ ،‬وكبار‬ ‫املثقفني األمريكيني ينزلون إىل الشارع يف‬ ‫نيويرك بشكل دوري ويتظاهرون ضد‬ ‫وول سرتيت‪ ،‬وول سرتيت ماذا تعني‬ ‫هي رمز الليربالية‪ ،‬العوملة رمز االستعامر‬ ‫االقتصادي للعامل وليس فقط لألمريكان‬ ‫من هنا نستطيع أن نرى الربيع العريب كأنه‬ ‫بداية عرص ربيع إنساين جديد‪.‬‬ ‫ـ سام أبو نوح‪:‬‬

‫لقد جبتم يف رحاب العقل الغريب‪،‬‬ ‫لكن سؤايل هو يف إطار العقل العريب‪،‬‬ ‫وكام نقرأ لكم أنتم من دعاة نقد العقل‬ ‫العريب‪ ،‬وإعامل النقد يف هذا العقل بام‬ ‫هو األداة الصانعة واملنتجة للمعرفة‬ ‫كام نعلم‪ ،‬هناك فئة تدعو إىل نقد العقل‬ ‫العريب بأدوات معرفية تراثية‪ ،‬وهناك من‬ ‫يدعو إىل نقد العقل العريب بأدوات معرفية‬ ‫حداثية مأخوذة من الغرب‪ ،‬برأيك وأنت‬ ‫الفيلسوف الناقد إذا ما قمنا باستخدام‬ ‫أدوات املعرفة الغربية األوروبية‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪43‬‬ ‫ومناهجها حتديد ًا من قبيل املنهج التارخيي‬ ‫والوضعي والديموقراطية والسيميائية‬ ‫واأللسنية‪ ...‬أال تشعر معي أنه ربام قد‬ ‫نصل إىل نتائج غري بريئة قد ترضب يف‬ ‫أس الرتاث الفكري العريب أو قد تقودنا‬ ‫إىل مفاهيم مغلوطة ختالف ما اتفقت عليه‬ ‫الكتابات التارخيية العربية‪ ،‬أو قد متس‬ ‫بقدسية املعارف االسالمية؟‬

‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬ ‫يف احلقيقة ّ‬ ‫إن العقل الغريب قد ارتقى‬ ‫إىل مستوى العقل الكوين‪ ،‬إن العقل الغريب‬ ‫بشكل عام فقد صفته املحلية‪ ،‬أنا أرى‬ ‫كلمة غريب ال تستطيع أن ختترص طبيعة‬ ‫هذا العقل الغريب‪ .‬لقد أصبح عقال كونيا‬ ‫وجتربته وكفاحه ضد املفاهيم هي جتربة‬ ‫للعقل االنساين بشكل عام‪ .‬أنظر مثال‬ ‫إىل الفارق بني العرب والغرب فالعرب‬ ‫غابوا عن التاريخ ألف سنة‪ .‬خالل ألف‬ ‫سنة خرجت حضارة الغرب وتطور العقل‬ ‫الغريب كام لو كان عق ً‬ ‫ال لكل إنسان يف ذات‬ ‫الوقت‪ ،‬وليس خاص ًا باالنسان الغريب‬ ‫وحده‪ ،‬العقل الغريب ُيساء استعامله من‬ ‫فئة معينة يف املجتمع الغريب‪ ،‬لكن العقل‬ ‫الغريب هو يف حد ذاته يعطي حقائقه لكي‬ ‫تصبح حقائق صاحلة للفهم والتعامل عىل‬ ‫مستوى التجارب االنسانية‪ ،‬من هنا نقد‬ ‫العقل الغريب جيب أن يكون جزءا من نقد‬ ‫العقل العام‪ ،‬العقل العام جتربته الكربى‬ ‫كام حدثت يف التاريخ هي جتربة العقل‬ ‫الغريب‪ ،‬وكان العقل العريب قد ساهم‬ ‫مسامهة أساسية يف تكوين هذا العقل‬ ‫الغريب‪ ،‬يعني ما نسميه بالعقل الغريب‬ ‫فعليا هو تطور للعقل العريب اإلسالمي‪،‬‬

‫والغربيون يعرتفون بذلك فلوال ابن رشد‬ ‫ملا كان للغرب أن يتطور‪ ،‬ابن رشد جاء يف‬ ‫حلظة اخلمود بالنسبة إىل احلضارة العربية‬ ‫وأصبح هو يف حلظة اليقظة للعقل الغريب‪،‬‬ ‫فاستفاد هذا الفائدة الكربى يف حني‬ ‫دمرنا االجتياح املغويل‪ ،‬هذه حقيقة‬ ‫نحن َ‬ ‫تارخيية‪ ،‬كان يمكن للعرب أن يتطوروا ما‬ ‫بعد فكر أبن رشد لو استطاعوا أن حيتفظوا‬ ‫باستقالهلم السيايس‪ ،‬لقد فقدوا استقالهلم‬ ‫السيايس وأضاعوا حضارهتم‪ ،‬الن‬ ‫االجتياح املغويل مل يكن اجتياحا سياسيا‬ ‫بل اجتياحا بدائيا قىض عىل الثقافة العربية‬ ‫واحلضارة االسالمية قىض عىل كل يشء له‬ ‫عالقة باالدب والفكر‪ .‬وما زلنا حتى اآلن‬ ‫نعيش حتت أعباء ذلك احلدث التارخيي‬ ‫املهول وتداعياته‪.‬‬ ‫العقل الغريب انا أراه جتربة للعقل‬ ‫الذي حترر من دون أن نربطه هبوية ما عقل‬ ‫غريب عقل رشقي‪ .‬ولكن اصطالحا نسميه‬ ‫العقل الغريب‪ ،‬يف حني أن احلقيقة هو عقل‬ ‫إنساين‪ ،‬ومن هنا نالحظ أن الراساملية‬ ‫حتاول أن جتعل نتائج هذا العقل يف خدمتها‬ ‫فهي أوال املستفيد األكرب من كنوزه‪،‬‬ ‫بينام متنع فائدته عن بقية شعوب العامل‪،‬‬ ‫أي متنع التحرر‪ ،‬كل اجلهد االستعامري‬ ‫يف بالدنا أمريكيا وصهيونيا هو إلبقائنا‬ ‫ندور يف عرص االنحطاط العريب الذي هو‬ ‫مستمر إىل اآلن‪ .‬هذه النكسات الدينية يف‬ ‫عاملنا العريب‪ ،‬هي أبرز صورة الستمرار‬ ‫االنحطاط وديمومته‪ ،‬نحن نسميه اآلن‬ ‫االنحطاط املعارص وليس االنحطاط‬ ‫التارخيي‪ ،‬لنعرتف أننا اليوم نعيش عرص‬ ‫انحطاط عريب مستديم ومعارص‪ ،‬لعل‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 44‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫ثورات الربيع العريب سوف تنقض عىل هذا‬ ‫رشط أن يفهمه املثقفون اآلن‪،‬‬ ‫االنحطاط‪ْ ،‬‬ ‫وهذا من واجبكم أنتم جيل الشباب‪ ،‬عىل‬ ‫جيلكم أن يتفهم فعال أن الثورة العربية‬ ‫احلقيقة هي ثورة حترر عقيل أوال‪ ،‬وإذا‬ ‫مل نبدأ من هذه النقطة فسنبقى ندوريف‬ ‫احللقات املفرغة ذاهتا ونكرر انحطاطنا‬ ‫حتت صور خمتلفة‪ ،‬أي أن معركتنا ثقافية‪،‬‬ ‫وليست سياسية بالدرجة األوىل‪.‬‬ ‫ـ عمران الورداين‪:‬‬

‫أستاذنا الكريم لقد أرشتم يف‬ ‫سياق حديثكم إىل العوملة وإىل التطور‬ ‫التكنولوجي‪ ،‬وقلتم إن الرصاع مل يعد‬ ‫عسكري ًا‪ ،‬وإنام أصبح يف مكان آخر‪ ،‬لقد‬ ‫رأينا يف بداية التسعينيات أن ما سمي‬ ‫باحلرب العاملية الثالثة هي حرب باردة‬ ‫اقتصادية‪ ،‬اما اآلن وبوجود العوملة‬ ‫واحلرب االلكرتونية فقد رأينا ما يسمى‬ ‫باملعسكر االشرتاكي عاد بالذات من نفس‬ ‫البوابة التي خرج منها فقد خرج اقتصاديا‬ ‫وعاد الكرتونيا واقتصاديا‪ ،‬هل هذه‬ ‫العودة يمكن أن نعدّ ها هناية بالنسبة إىل‬ ‫امريكا أم هي بداية رصاع بني املعسكرين‬ ‫الرشقي والغريب؟ وأين نحن كام أرشتم‬ ‫بوصفنا أرضية خصبة للرصاعات إذ مل‬ ‫يبق غرينا من كافة أنحاء العامل نعيش وقع‬ ‫الرصاعات واحلروب والنزاعات؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫يف احلقيقة‪ ،‬مل تعد التطورات التارخيية‬ ‫تشتغل بمفردات احلرب العاملية االوىل أو‬ ‫الثانية‪ ،‬أو حتى احلرب الباردة بل أصبح‬ ‫لدينا اآلن مفردات أخرى‪ ،‬مل نتعرف‬

‫مضموهنا حتى نصطلح عليها لفظي ًا‪ ،‬لكن‬ ‫التجارب تنشىء مفاهيم‪ ،‬من ذاهتا‪ ،‬ويمكن‬ ‫أن تفي بالغرض املطلوب‪ ،‬ما حيدث اآلن‬ ‫أن العاملية تقف يف وجه العوملة‪ ،‬ليس‬ ‫الغرب وليس الرشق‪ ،‬املسألة جتاوزت‬ ‫الرشق والغرب ألن اجلميع اآلن أخضعوا‬ ‫ملنطق الرأساملية التي أصبحت هي احلاكمة‬ ‫بأمرها عامليا‪ ،‬اآلن‪ ،‬الرأساملية الصينيية‬ ‫والرأساملية يف أمريكا واحدة متاما نفس‬ ‫الشكل ونفس الصورة‪ ،‬وإن كانت الصني‬ ‫حتمل مسمى النظام الشيوعي‪ ،‬إهنا قوة‬ ‫الرأساملية بالذات‪ ،‬وأنا أرى أن الرصاع‬ ‫القادم هو بني العوملة والعاملية‪ ،‬العاملية تعنى‬ ‫الربيع العريب إىل حد بعيد‪ ،‬وهو يعطي رمزا‬ ‫هلا بالعودة إىل فلسفة احلرية فلسفة احلرية‬ ‫السابقة‪ ،‬واملتعالية فوق كل مذهبية فلسفية‬ ‫أو أدبية أو دينية‪ ،‬احلرية بحد ذاهتا ترتبط‬ ‫بكرامة االنسان وهذا ما يوحدنا مجيعا‬ ‫يوحد املظلومني يف العامل كليا فكرة املواطنة‬ ‫العاملية االن هي السيدة نحن مواطنون ضد ًا‬ ‫عىل الظلم واالستبداد والطغيان‪ ،‬مواطنون‬ ‫خاضعون أو ثائرون‪ .‬فمواطنتنا هي مواطنة‬ ‫نضالية كفاحية من أجل جعل العاملية واقع ًا‬ ‫إنساني ًا قاب ً‬ ‫ال ألن ُيعاش ما فوق حدود‬ ‫الدول والعروق واألخطار‪ ،‬مسألة رشق‬ ‫وغرب مل تعد واردة اآلن‪ ،‬بل الوارد اليوم‬ ‫فقط أن هناك ظل ًام إنساني ًا هائالً‪ ،‬تقابله‬ ‫نزعة للحرية مل تعرفها االنسانية إالّ عىل‬ ‫مستوى شعوب متفرقة وأقطارها ألول‬ ‫مرة يف التاريخ االنساين تصبح احلرية‬ ‫راهنية بالنسبة إىل مجيع الفئات الشعبية أي‬ ‫مجيع فئات شعوب العامل‪ .‬وليست حكرا‬ ‫عىل شعب دون أخر‪ ،‬أي أنك تستطيع‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪45‬‬ ‫أن تتفاهم اآلن حول احلرية مع الصيني‬ ‫والياباين واالمريكي واالورويب‪ ،‬احلرية‬ ‫هي القوة األساسية التي تنادي هبا الفئات‬ ‫الثقافية الصاعدة يف كل امليادين‪ ،‬لذلك‬ ‫فهي تتالقى‪ ،‬وكذلك فالراساملية تكافح‬ ‫ضد هذا الطريق عرب خلق مؤسسات‬ ‫تزييفية تزويرية‪ ،‬لكي حتول العاملية دائام‬ ‫إىل العادات التافهة‪ ،‬إىل السلوك التافه إىل‬ ‫الغرائزيات‪ ،‬إىل إشاعاة السلوكيات الناشزة‬ ‫وإغراق الناس يف مهوم صغرية وضعيفة‪.‬‬ ‫ـ عمران الورداين‪:‬‬

‫لقد ارشتم إىل تطابق الرأساملية‬ ‫الصينية واألمريكية وإن اختلفت‬ ‫املسميات‪ ،‬وأرشتم قبل إىل أن هناك‬ ‫صوت ًا فلنسقط (وول سرتيت) والتي متثل‬ ‫الرأساملية ‪.‬السؤال‪ :‬يف حال سقوط (وول‬ ‫سرتيت) أين وضع الرأساملية بالنسبة إىل‬ ‫النظام االقتصادي العاملي؟‬ ‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫ستظل هناك راساملية موجودة‪ .‬هذا‬ ‫التناقض سيظل قائام الن احلرية من املعاين‬ ‫املطلقة ال تستطيع أن حتققها بفعل واحد‪،‬‬ ‫إسقاط وول سرتيت هو فعل حر عظيم‪،‬‬ ‫ولكنه ال ينهي إشكالية اجلدل الكبري‬ ‫العاملي‪ ،‬حيث سيظل هناك حراك سلبي‬ ‫وإجيايب‪ ،‬هنا فكر هيغل فكر سليم‪ ،‬ولكن‬ ‫لالسف أهناه باصطناع أهداف أوروبية‬ ‫ضيقة من قبيل فكرة سيطرة العرق االبيض‬ ‫بينام اجلدلية هي حقيقة دائمة واآلن العاملية‬ ‫هي اجلو املالئم الصحي السليم من أجل‬ ‫أن تأخذ اجلدلية التارخيية حريتها سواء عىل‬ ‫مستوى االجياب أم عىل مستوى السلب‪.‬‬

‫ـ د‪ .‬هالة أبومحدان‬

‫حرضتك رسمت صورة زاهرة عن‬ ‫الربيع العريب واعتربته خالص ًا العامل‬ ‫اجلديد وحتدثت عن االخوان املسلمني‬

‫بشكل سلبي بأهنم صنيعة الغرب‪ ،‬ولكن‬ ‫كيف تفرس إفراز الربيع العريب حلكم‬ ‫االخوان املسلمني؟‬

‫ـ مطاع صفدي‪:‬‬

‫حركة االخوان املسلمني هي حركة‬

‫مضادة للربيع العريب‪ ،‬انا كتبت مقاال هبذا‬

‫الشأن‪ ،‬وهذه احلركة اجلدلية كنا نتكلم‬

‫هبا‪ ،‬الربيع العريب طرح حتدياته ور ّد فعل‬ ‫عليه قام طرح االخوان املسلمني‪ .‬واملقالة‬ ‫كتبتها يف جريدة القدس العريب" بعنوان "‬ ‫الربيع العريب والطغيان الغيبي‪ :‬نقيضان‬

‫ال يلتقيان"‪ ،‬هناك اآلن خوف من سقوط‬ ‫االستبداد السيايس واستبداله باستبداد‬

‫غيبي‪ .‬ونرى أن خروج املرصيني من جديد‬ ‫إىل امليادين للتظاهر ضد حكم االخوان‬

‫خري دليل عىل رفض الربيع العريب حلركة‬ ‫االخوان‪ .‬إهنا بداية عرص تنويري عريب‬

‫جديد‪ ،‬من دونه لن تكتب للنهضة العربية‬

‫أية جولة جديدة الستقالهلا احلقيقي‪.‬‬

‫أرسة التحرير‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 46‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫«براءة املسلمني» في صورتني‬ ‫فـؤاد خليـل‬ ‫‪ .I‬بني الفني والسيايس‬

‫أثار فيلم براءة املسلمني امليسء إىل‬ ‫النبي حممد موجة واسعة من االحتجاجات‬ ‫الشعبية يف العاملني العريب واالسالمي‪.‬‬ ‫وترافقت االحتجاجات مع مواقف متباينة‬ ‫اختذهتا نخب فكرية وسياسية من الفيلم‪.‬‬ ‫وقد تراوحت مواقفها بني من قدح العمل‬ ‫فني ًا ونعته بأوصاف حتقريية ورأى تالي ًا أنه‬ ‫ال يستدعي أي احتجاج أو حترك‪ .‬ومن‬ ‫أدان الفيلم بأقذع العبارات واعرتض عىل‬ ‫التحرك‪ ،‬وأدان اشكاله العنفية يف الوقت‬ ‫عينه‪ .‬ومن ذهب إىل تسييس الواقعة ودعا‬ ‫إىل االحتجاج ومواصلة التحرك ودرء‬ ‫"االعتداء الغريب" عىل املسلمني‪.‬‬

‫وجاء هذا التباين املؤمثل "الذي يستند‬ ‫إىل مثال" يعرب عن وجهينْ يف السيايس‪.‬‬ ‫فالقدح واالدانة املزدوجة خيفيان‬ ‫تبعية أصحاهبام إىل امريكا‪ ،‬والتابع يتوسل‬ ‫رضا املتبوع‪ ،‬وال يبغي إزعاج خاطره‬ ‫واحلض عىل التحرك‬ ‫"االمرباطوري"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يستبطن مناهضة دعاته المريكا ولسياستها‬ ‫الكولونيالية يف املنطقة‪ .‬والداعية قد‬ ‫وحيمله ما ال حيتمل بذاته‪.‬‬ ‫يستثمر احلدث‬ ‫ّ‬ ‫ومع تينك احلالينْ يكون السيايس قد انزاح‬

‫بالفيلم وبام يشاكله من أعامل فنية إىل‬ ‫ما ليس حيمل إليه يف األصل‪ .‬فـ «براءة‬ ‫املسلمني»‪ ،‬هو المراء براء من أي قول‬ ‫فني فيه‪ .‬ذلك أن طبقته التحتية ال ترتكز‬ ‫عىل املستوى الفني أي ًا تكن طبيعته‪ ،‬كام ال‬ ‫تتأسس عىل السيايس املبارش الذي أظهرته‬ ‫ردود الفعل كأنه العمق الكامن وراء‬ ‫إنتاجه وإخراجه‪...‬‬

‫‪ .II‬نظر حفري‬

‫واحلال‪ ،‬فإن النظر احلفري يف الفيلم‪،‬‬ ‫جيد أن طبقته التحتية حتمل إىل قضية‬ ‫ثقافية موصوفة‪ ،‬ما زالت حارضة يف‬ ‫جعبة أوساط غربية واسعة من أهل الفكر‬ ‫والصحافة والفن واألدب‪ .‬وليس عسري‬ ‫املنال هنا‪ ،‬أن يكشف الوصف الظاهرايت‬ ‫أن هذه القضية ترضب جذورها يف تربة‬ ‫الفكر االسترشاقي‪ ،‬وأن فروعها تعانق‬ ‫السيايس الكولونيايل يف الغرب‪ .‬ويف نطاق‬ ‫هذا وذاك ّتولدت األنوية الغربية من‬ ‫حيث كوهنا رؤية يف جوهرانية األنا عند‬ ‫الغريب وعرضية ذات اآلخر غري الغريب‪.‬‬

‫وعىل هذا‪ ،‬بنى االسترشاق مقوالته يف‬ ‫الزمن احلديث‪ .‬ومما ورد فيها‪ :‬ان الغرب‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪47‬‬ ‫هو ذات التاريخ أو فاعله املحوري‪ ،‬وإن‬ ‫العقل حيقق غاية صريورته يف رحابه‪.‬‬ ‫وهذه الغاية تتبدى يف جوانب منها يف‬ ‫احلرية والعلم والتقدم‪ .‬فيغدو الغريب يف‬ ‫ضوئها متميز ًا ًبعقل حتلييل تركيبي جييد‬ ‫التجريد يف أبواب املعرفة كلها‪ ،‬ومنطبع ًا‬ ‫باملبادرة العلمية وملكة التنظيم والقدرة‬ ‫عىل الرتاكم‪...‬‬ ‫ويف املقابل أوردت‪ :‬أن الرشق هو‬ ‫موضوع التاريخ‪ ،‬وهو منفعل باملجرى الذي‬ ‫يصنعه الفاعل‪ ،‬وأن العقل فيه اليتوافر عىل‬ ‫صريورة غائية‪ ،‬بل هو أشبه بعابر سبيل‬ ‫يف ديار اهلل!‪ .‬وبذلك كان الرشق يتخ ّلق‬ ‫باالستبداد والغيب والزمن الرتاوحي‪ ،‬وكان‬ ‫الرشقي يتم ّيز بعقل انطباعي رسدي ال حيسن‬ ‫التنظري والتعميم‪ ،‬بل يغرق يف املحسوس‬ ‫واجلزئي‪ ،‬وخيضع إىل الغريزة واالنفعال‪،‬‬ ‫ويلجأ إىل الغيب وجيانب التنظيم ويعجز عن‬ ‫مراكمة اخلربة والعمل‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬إذا كان الغرب أنا التاريخ‬ ‫وفاعله‪ ،‬والرشق موضوعه؛ فقد حق‬ ‫هلذه األنا أن تعيد تشكيل موضوعها‬ ‫وفاق هيئتها احلضارية‪ .‬أو بتعبري آخر‪،‬‬ ‫لقد امتلك الغريب "حق التفوق األبدي"‬ ‫عىل املوضوع‪ .‬فأجازت له طبيعته املتفوقة‬ ‫أن يستعيل عىل الرشقي وأن يسيطر عليه‬ ‫ابتغاء متدينه أو حتضريه‪ ،‬أو للدقة ابتغاء‬ ‫ترويضه يف خدمة مصاحله العليا‪ .‬ولعل‬ ‫هذا ما حييل إىل األرومة اإليديولوجية‬ ‫لالستعامر الكالسيكي الذي صنع التدمري‬ ‫يف بالدنا باسم التمدين وأثقل علينا بعقل‬ ‫عنفي حتت عنوان التحضري‪...‬‬ ‫تلك‬

‫هي‬

‫النمطية‬

‫التي‬

‫بناها‬

‫االسترشاق عن اإلنسان الرشقي وحتديد ًا‬ ‫عن العريب واملسلم‪ .‬وهذه الصورة حفظت‬ ‫يف خزانة الفكر االسترشاقي من ارنست‬ ‫مر زمن‬ ‫رينان إىل برنارد لويس‪ ...‬ثم ّ‬ ‫اعتقدنا فيه بصدق أن تنميط غري الغريب‬ ‫يف فكره وسلوكه‪ ،‬أصبح من املايض أو أن‬ ‫مرحلة االسترشاق الكالسيكي قد انطوت‬ ‫إىل غري رجعة بعد أن شهد العامل وبخاصة‬ ‫يف الطور الراهن للعوملة‪ ،‬نتاجات نوعية‬ ‫يف منظومات الفكر والثقافة من مثل‪:‬‬ ‫التواصلية‪ ،‬والتبادلية‪ ،‬والنسبية الثقافية‬ ‫واحرتام خصوصية اآلخر املختلف يف دينه‬ ‫وثقافته وعرقه‪ ،‬والوحدة من داخل التنوع‪،‬‬ ‫والتنوع من داخل الوحدة‪ ،‬واملشرتكات‬ ‫احلضارية بني الشعوب‪ ،‬وغنى البرشية يف‬ ‫املشرتك واملختلف بينها‪ ،‬واجلدل الواسع‬ ‫والغني بني الكوين واملحيل‪ ...‬لكن يبدو‬ ‫أن اعتقادنا صدر عن رشقي صدّ ق أن مياه‬ ‫االطليس أصبحت صافية بني ضفتيه‪ .‬ثم‬ ‫ما لبث أن وجد أن عكرها ما زال ينرسب‬ ‫يف األعامق‪ .‬وبلغه أخرى‪ ،‬أن التنميط‬ ‫االسترشاقي للعريب واملسلم ما فتىء حي ًا‬ ‫يف مالحمه العامة‪ ،‬وقد أضيفت إليه قسامت‬ ‫ما بعد حداثية جديدة‪ُ .‬فصنّفت شعوب‬ ‫الرشق يف املنطق املا بعد حداثي‪ ،‬قبائل‬ ‫وعشائر وطوائف ومذاهب وإثنيات‪،‬‬ ‫وقرت صورة العريب واملسلم يف خلد‬ ‫ّ‬ ‫دوائر ثقافية وسياسية غربية‪ ،‬عىل صفات‬ ‫احليس والغرائزي والعدواين والفوضوي‬ ‫واملتطرف واإلرهايب والعنفي‪..‬‬ ‫إهنا املالمح والقسامت التي استقى‬ ‫منها الفيلم ثقافته النمطية يف عالقته مع‬ ‫العريب املسلم‪ .‬وهذه الثقافة هي التي‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 48‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫تسوغ امتهان مقدسات األخري وحتقريها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تسوغ السيطرة املعوملة أمني ًا وعسكري ًا‬ ‫مثلام ّ‬ ‫عليه‪ .‬والطريف يف هذا الباب‪ ،‬إن الغرب‬ ‫الكولونيايل أدان الفيلم ودافع عن حرية‬ ‫فوته عن‬ ‫التعبري يف بالده يف آن‪ .‬لكن ما ّ‬ ‫قصد أن ما يفاخر به من حريات ال يعدو‬ ‫عن كونه انتقائي ًا عندما يتعلق األمر‬ ‫بالعريب واملسلم‪ .‬ذلك أن انتقائيته تصدر‬ ‫عن الثقافة نفسها التي طبعت مضمون‬ ‫"براءة املسلمني"‪ .‬فمن ينظر يف حم ّيا بعض‬ ‫حكّام الغرب‪ ،‬جيد إن برنارد لويس رسم‬ ‫عىل وجوههم إمارات التفوق واالستعالء‬ ‫عىل غري الغريب‪ .‬ثم ترك عليها مسحة‬ ‫عميقة من غبار احلروب الصليبية‪...‬‬

‫‪ .III‬صفحة مقابلة‬

‫ويف صفحة مقابلة‪ ،‬مل يقدّ م البعض‬ ‫من احلركات االسالمية املعارصة‪ ،‬أو ما‬ ‫بات يعرف اصطالح ًا باالسالم السيايس‪،‬‬ ‫صورة زاهية عن اإلسالم‪ .‬إذ إنه أنتج‬ ‫إسالم ًا بكيفية منمطة يف الفكر ويف‬ ‫السلوك‪ .‬وهي كيفية متتىلء بالتمذهب‬ ‫واإلقصاء وفوىض الفتاوى ومسالك‬ ‫التشدد والتطرف‪ ،‬فإذا كان املذهب قوالً‬ ‫تأويلي ًا يف الدين‪ ،‬وهذا قول مرشوع يتأتى‬ ‫عن جدل املجتمع والفكر‪ ،‬وينفتح عىل‬ ‫االعرتاف باآلخر‪ ،‬فإن التمذهب عند‬ ‫ذاك البعض هو قول منغلق عىل حرفية‬ ‫النص الديني‪ ،‬ال يأخذ بجدل أو يقف‬ ‫عند صريورة‪ ،‬بل يسكن يف القرشة ويدعي‬ ‫أنه يف اللب؛ األمر الذي جيعله إقصا ًء‬ ‫عىل املطلوب لآلخر املختلف يف الفكر‬ ‫والدين واملذهب‪ .‬ومما قاد إليه التمذهب‬ ‫يف املعيش‪ :‬أن ُيستظهر احلديث النبوي‬

‫دوغامئي ًا‪ ،‬بأن ثمة إسالم ًا صحيح ًا حتتكره‬ ‫الفرقة الناجية‪ ،‬وإسالم ًا منحرف ًا تُرمى‬ ‫به الفرق األخرى‪ .‬وأن تنتعش "فرقة"‬ ‫فسطاطية تشطر اخللق إىل ثنائية الكفر‬ ‫واإليامن وتُدخله يف ديناميات التحارب‬ ‫البدوي‪ .‬لذا‪ ،‬ال يعود مستغرب ًا أن يتحول‬ ‫الشهرستاين والبغدادي إىل مرجعية دينية‬ ‫معارصة!‪ .‬وأن تبقى صفني ح ّية يف أوساط‬ ‫ليست قليلة من املسلمني‪ ،‬وأن يظل تقذيع‬ ‫بعض الشخصيات االسالمية التارخيية‬ ‫جاري ًا عىل ألسنة أوساط أخرى‪.‬‬ ‫أما مؤدى االنغالق الدوغامئي‪ ،‬فهو‬ ‫انحطاط فكري وأخالقي يف رضوب‬ ‫"االفتاء" وموضوعاته‪ .‬ففي عرص التواصل‬ ‫اإللكرتوين وزمن الثورة املعرفية‪ ،‬ينشغل‬ ‫بعض اإلسالم السيايس يف فتاوى اإلرضاع‬ ‫وأشكال النكاح‪ ،‬وعالقة املرأة باملذكر من‬ ‫األشياء‪ ،‬وباملؤنث منها‪ ...‬الخ‪ .‬والغريب‬ ‫ٍ‬ ‫مفوه‬ ‫بعد "إفتاء" كهذا أن ينربي مفت ّ‬ ‫حيدثك عن حرية املرأة يف اإلسالم‪ ،‬ويعظك‬ ‫بأن الغريب مادي وحيس وشهواين‪َّ ،‬‬ ‫وأن‬ ‫الرشقي روحاين‪ ،‬وهو عىل حشمة وزهد‬ ‫بالغني! ثم تراه يمتدح شهوة القتل التي‬ ‫فتكت باحلالّج والسهروردي‪ ..‬إهنا احلرفية‬ ‫البائسة والشكالنية الفارغة التي تستكني‬ ‫إىل منطق الكهف وأوهام القبيلة‪...‬‬

‫إذن‪ ،‬العريب أو املسلم الذي يشمله‬ ‫التنميط أعاله يتميز بصفات املتمذهب‬ ‫واحليس‬ ‫واإلقصائي‬ ‫والفسطاطي‬ ‫والغرائزي‪ .‬وهذه الصورة وجدت‬ ‫رواجها غري املسبوق يف الغرب حتت‬ ‫مسمى "اإلسالموفوبيا"‪ .‬وقد أمكنها أن‬ ‫هتمش كل صورة مغايرة هلا‬ ‫تزيح أو أن ّ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪49‬‬ ‫عن االسالم‪ ،‬وبخاصة صورة االصالح‬ ‫الديني منذ أعالمه النهوضيني حتى‬ ‫أعالمه املعارصين‪ .‬فكان أن أزاحت حممد‬ ‫عبده وعبد اهلل العالييل‪ ...‬الخ‪ ،‬إىل اخللف‪،‬‬ ‫وعرضت بن الدن والظواهري شبه‬ ‫وحيدين عن املشهد املرشقي‪ ...‬ويف اجلهة‬ ‫األخرى كان الغرب الكولونيايل يستدعي‬ ‫صورة اإلسالم التنميطي االنغالقي لكي‬ ‫ربر سيطرته عىل العرب واملسلمني‪ .‬إذ أنه‬ ‫ي ّ‬ ‫ال يستطيع أن حيقق إشباع ًا كام ً‬ ‫ال لذاته من‬ ‫غري إخضاع اآلخر والسيطرة الكولونيالية‬ ‫عليه‪ .‬كام كان الفكر االسترشاقي يتشوق‬ ‫يرسخ صورته عن العريب‬ ‫إليها لكي‬ ‫ّ‬ ‫ويسوغ طروحاته حول ذات‬ ‫واملسلم‬ ‫ّ‬ ‫التاريخ أو آنويته احلضارية‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬تظهر صورتا االسترشاق‬ ‫ما بعد"احلداثي" واإلسالم التنميطي‬ ‫االنغالقي متكاملتني‪ .‬فكل صورة منهام‬ ‫تشكل القفا احلقيقي لألخرى‪ .‬ذلك أن‬ ‫مصدرمها حيمالن إىل العنف سواء الرمزي‬ ‫أم املادي‪ ،‬ويتامثالن يف نمط التفكري الذي‬ ‫يتأسس عىل مسبقات أيديولوجية تقطع يف‬ ‫الصدق واليقني‪ .‬فيزعامن امتالك احلقيقة‪،‬‬ ‫ويرشقان كل خمالف هلام بالزيغ والضالل‪.‬‬ ‫ومن يغره هذا الزعم يتجرأ عىل املعتقدات‬

‫الدينية لآلخر واليتورع عن قذف أنبيائه‬ ‫وحمرماته‪ .‬ما جعل ثقافة االسترشاق‬ ‫"احلداثية" ومن ثم ثقافة الفيلم ما بعد‬ ‫احلداثية‪ ،‬تنطويان عىل امتهان نبي العرب‬ ‫واملسلمني‪ .‬لكن هذه اإلساءة جاءت يف‬ ‫ظل تقاطع اإلسالم التنميطي املعارص مع‬ ‫االسترشاق ما بعد احلداثي‪ ،‬وبعد أن قدّ م‬ ‫هذا اإلسالم "إبداعاته الفكرية يف علم‬ ‫التمذهب واجلنسانية"! أو بمعنى آخر‪،‬‬ ‫عرض مقدساته نفسها للتقذيع‬ ‫بعد أن ّ‬ ‫واالمتهان‪...‬‬ ‫يتعرف‬ ‫أخري ًا‪ ،‬إذا شاء أحدهم أن‬ ‫ّ‬ ‫إىل امللموس إزاء ما سبق‪ ،‬فام عليه إال أن‬ ‫يشهد حول العالقة مع اآلخر املختلف‪،‬‬ ‫حوار ًا لغريب استرشاقي وآخر إلسالمي‬ ‫انغالقي‪ .‬فمع كليهام لن جيد أي منطق‬ ‫متسق يف احلوار‪ ،‬بل يستمع إىل لغة‬ ‫االعتداد األجوف بالنفس واالستعالء‬ ‫املريض عىل اآلخر‪ ،‬وأفضلية كل منهام‬ ‫َ‬ ‫يف فهم احلق واحلقيقة واجرتاح احللول‬ ‫النهائية ملشاكل اخللق يف الدين والدنيا‪...‬‬ ‫االثنان يعرضان عن اي منطق بنائي‬ ‫مفتوح‪ ،‬ويقيامن يف كهف فكري مظلم‬ ‫ال ينتج سوى التهيئة الدورية للحرب‬ ‫املتبادلة بني الشعوب‪.‬‬

‫فـؤاد خليـل‬

‫‪2012-10-7‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 50‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الظاهر بيبرس‬ ‫«املغامر» الذي حرر األمة من االحتالل الفرجني‬ ‫وأحلق باملغول أول هزمية في تاريخهم‬ ‫بشـرى اخلليـل‬ ‫مقدمة‬

‫عندما نقرأ التاريخ‪ ،‬ومع رضورة‬ ‫فهم املحركات الرئيسة لبواعثه وصحة‬ ‫تشخيصها‪ ،‬ال بد من ثالثة أمور‪:‬‬ ‫‪ )1‬قراءة احلدث التارخيي قراءة صحيحة‬ ‫وحيادية ‪..‬‬ ‫‪ )2‬االطالع عىل جمريات احلدث وتفاصيله‬ ‫بام هو مؤكد منه ومجُ مع عليه ‪..‬‬ ‫‪ )3‬التعامل بحس نقدي دقيق وحساس‬ ‫مع ما هو غري مؤكد أو غري مجُ مع عليه ‪..‬‬

‫وبمراجعة املخزون الثقايف ألمتنا‬ ‫يف هذه املنطقة حتديدا نجد أن إشكاالت‬ ‫والتباسات متعددة اعتورت أسلوهبا‬ ‫يف قراءة تارخيها‪ ،‬ولعل أبرز أسباهبا هو‬ ‫عدم احليادية يف قراءة احلدث ويف تدوينه‬ ‫األمر الذي أدى إىل االستنسابية يف اختيار‬ ‫ما يمكن اإلضاءة عليه من أحداث أو‬ ‫التعتيم‪ ...‬إىل حد أننا أحيانا نجد أنفسنا‬ ‫يف قراءة حدث أو نص تارخيي ما وكأننا‬ ‫ِ‬ ‫شعب‬ ‫أمام سرية شعبية استنبطتها أهواء‬ ‫وراكمت أحداثها ذاكرته بحسب ما هيوى‪.‬‬ ‫يف حني أن التاريخ‪ ،‬وكي يمكن اإلفادة‬ ‫منه واستخالص الفوائد والعرب‪ ،‬جيب أن‬ ‫يكتب بعقل علمي‪ ..‬حيادي‪ ..‬وأن خيضع‬

‫لضوابط وقواعد إثبات صارمة‪ ،‬وإال فلن‬ ‫يمكننا أبدا فهم املحركات الرئيسة لبواعثه‪.‬‬

‫ففي قراءتنا لتارخينا حدث كثريا أن‬ ‫أضأنا عىل أحداث أكثر مما تستحق‪..‬‬ ‫كذلك َحدَ ث أن عتَّمنا عىل أحداث كانت‬ ‫قد شكلت منعطف ًا هاما يف مصري أمتنا‪...‬‬ ‫كام حدث أيضا أن أخطأنا يف تقويم‬ ‫فقومنا إجيابا ما كان جيب تقويمه‬ ‫أحداث َّ‬ ‫سلبا والعكس صحيح ‪.‬‬ ‫وكان أحد أكرب ضحايا هذه القراءة‬ ‫"الفوضوية" لتارخينا هو الظاهر بيربس‪..‬‬ ‫هذا الرجل العظيم‪ ..‬العظيم إنسان ًا‬ ‫والعظيم ثوري ًا والعظيم قائد ًا عسكري ًا‬ ‫والعظيم سلطان ًا ورجل دولة ‪..‬‬

‫والذي حقق خالل مسريته التي بدأت‬ ‫من ضابط مملوكي يف خدمة امللك الصالح‬ ‫أيوب إىل سلطان مرص انتصارات باهرة‪،‬‬ ‫ثالثة منها شكلت منعطف ًا تارخيي ًا مصريي ًا‬ ‫يف تاريخ مرص واألمة؛ معركة املنصورة‪،‬‬ ‫معركة عني جالوت‪ ،‬ومرشوعه لتحرير‬ ‫األمة من الفرنجة‪.‬‬

‫ـ فمن هو الظاهر بيربس؟!‬ ‫‪ .I‬بطاقة هوية‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪51‬‬ ‫أ) إسمه‬ ‫هو امللك الظاهر ركن الدين بيربس‬ ‫العالئي البندقداري الصاحلي النجمي‪..‬‬ ‫رابع سالطني الدولة اململوكية بعد‬ ‫عزالدين أيبك ونور الدين عيل أيبك‬ ‫وسيف الدين قطز‪/‬السلطان املظفر رشيك‬ ‫بيربس يف نرص عني جالوت ‪.‬‬

‫ب) ألقابه‬ ‫لق َّبه الناس بأيب الفتوح‪ .‬ولق َّبه امللك‬ ‫الصالح أيوب سلطان مرص بركن الدين‬ ‫لقب نفسه‬ ‫وبعد وصوله إىل حكم مرص َّ‬ ‫بامللك الظاهر‪.‬‬ ‫ج) والدته ووفاته‬ ‫ولد عام ‪ 620‬هـ ‪ 1223‬م‪ ،‬وتويف‪/‬قتل‬ ‫بالسم يف دمشق ودفن فيها يوم اخلميس‬ ‫يف ‪ 27‬حمرم من سنة ‪ 676‬هـ املوافق‬ ‫‪1277/6/30‬م‪ ،‬بعد أن كان قد حرر معظم‬ ‫املدن اإلسالمية من احتالل الفرنجة‪ ،‬وبعد‬ ‫أن شارف االحتالل الفرنجي عىل النهاية‪.‬‬

‫د) أوصافه‬ ‫طويل القامة‪ ..‬ضخم اجلثة‪ ..‬أسمر‬ ‫اللون‪ ..‬ذو شخصية قوية‪ ..‬جهوري‬ ‫الصوت‪ ..‬أزرق العينني‪ ..‬يف إحدامها‬ ‫نقطة بيضاء ربام هي التي لعبت دورها‬ ‫عندما رصفت بعض الناس عن رشائه يف‬ ‫خطة من القدر كان يرسمها ليجعله يف اليد‬ ‫األمينة التي اختارها اهلل لتتعهده بانتظار‬ ‫يوم موعود لألمة اإلسالمية أراده اهلل أن‬ ‫يكون وعدا من وعوده الصادقة‪.‬‬ ‫هـ) أصله‬ ‫من القوقاز‪ ..‬استرُ ق وهو طفل‪ ..‬وقد‬ ‫بقيت هذه املرحلة من حياته جمهولة فال أحد‬ ‫يعلم كيف وصل إىل جتار الرقيق ولكن ما‬

‫هو معلوم أن أحد جتار الرقيق جاء به إىل‬ ‫محاة حيث جرى بيعه إىل حاكمها امللك‬ ‫املنصور الذي مل يعجبه بسبب تلك النقطة‬ ‫يف عينه فتم نقله إىل سوق الرقيق يف دمشق‬ ‫ور ِس َم مع قدره َقدَ ر أمة‬ ‫سم قدره ُ‬ ‫التي فيها ُر َ‬ ‫يف سوق الرقيق يف دمشق [وكان حينذاك‬ ‫عمره أربعة عرش عام ًا] جرى بيعه بثامنامئة‬ ‫درهم‪ ..‬ولكن من اشرتاه هذه املرة أعاده‬ ‫أيضا لسوق الرقيق بحجة وجود عيب‬ ‫ُخلقي فيه‪ ..‬وبإعادته كانت املصادفة التي‬ ‫شكلت فيام بعد منعطف ًا تارخييا أراد اهلل به أن‬ ‫يعيد لألمة جمدا طاملا أعاده وطاملا َض ْي َعته‪..‬‬

‫يف سوق الرقيق يف دمشق صادف‬ ‫جميء أحد أمراء املامليك األمري عالء الدين‬ ‫أيدكني البندقدار الذي أعجب به أيام‬ ‫إعجاب عندما رأى فيه أسدا هصورا يف‬ ‫جسد إنسان‪ ..‬ورأى يف عينه تلك الشعلة‬ ‫العبقرية فاشرتاه غري آبه بتلك النقطة يف‬ ‫عينه‪ ،‬ليلحقه باملامليك السلطانية يف مرص‪،‬‬ ‫ومنه أخذ بيربس اسم العالئي البندقداري‪.‬‬ ‫وكانت هذه أول خطوة له يف طريق املجد‬ ‫‪ ..‬حيث انتقل إىل خدمة امللك الصالح‬ ‫نجم الدين أيوب فأخذ منه اسم الصاحلي‬ ‫النجمي‪ ..‬وقد أعتقه امللك الصالح ومنحه‬ ‫ب ركن الدين وهو‬ ‫ب اإلمارة‪ ،‬ثم َل َق ْ‬ ‫َل َق َ‬ ‫اللقب الذي اشتهر به عرب التاريخ فأصبح‬ ‫اسمه الكامل "ركن الدين بيربس العالئي‬ ‫البندقداري الصاحلي النجمي"‬

‫‪ .II‬ملحة عن املامليك‬

‫ال شك أن أصل املامليك هو من‬ ‫الرقيق‪ ..‬إال أن هذه التسمية انحرصت‬ ‫باألبيض من الرقيق‪ ،‬حيث أطلقت‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 52‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫تسمية مماليك عىل أولئك الذين كان جيري‬ ‫إحضارهم من بالد ما وراء النهر (هنر‬ ‫جيحون) واملعروفة ببالد فارس القديمة‬ ‫وهي شبه جزيرة القرم‪ ،‬ومن القوقاز‬ ‫والقفجاق وآسيا الصغرى وتركستان‬ ‫وتركيا وغريها من العرق اآلري األبيض‪،‬‬ ‫وكانت جتري تربيتهم وإعدادهم إعداد ًا‬ ‫خاصا ليكونوا حماربني أشداء وجنودا‬ ‫يف خدمة السالطني‪ ،‬فكانت هلم مدارس‬ ‫خاصة يتعلمون فيها اللغة العربية‬ ‫والقرآن الكريم والفقه وأصوله ثم فنون‬ ‫احلرب وأساليبها‪ ،‬فيتدربون تدريبا عاليا‬ ‫عىل كل أنواع األسلحة‪ ..‬وكل ذلك‬ ‫بإرشاف السالطني املبارش‪ ،‬وكانت هلم‬ ‫ُمدُ ٌن خاصة هبم وثكنات عسكرية خاصة‬ ‫بحيث يصبحون قوة عسكرية ضاربة قوية‬ ‫الشكيمة متفقهني باإلسالم مع َّظمني له ‪..‬‬ ‫وشديدي الوفاء للسلطان‪ ..‬حيث كان‬ ‫املتميزون منهم يتدرجون يف اخلدمة إىل أن‬ ‫يبلغوا مرتبة األمراء‪ ..‬وكان امللك الصالح‬ ‫سلطان مرص واحدا من ملوك األيوبيني‬ ‫الذين اعتنوا عناية خاصة باملامليك وكان‬ ‫يرشف بنفسه عىل تعليمهم وتثقيفهم‬ ‫وتدريبهم ‪ ..‬وكان من هؤالء الفتى بيربس‬ ‫الذي ل َّقبه امللك الصالح بعد أن كرب واشتد‬ ‫ساعده وملس بنفسه تفوقه ومت َّيزه عىل أقرانه‬ ‫وبدأ يربز كقائد متميز بـ‪" :‬ركن الدين"‬

‫أ) عرصه‬ ‫ولد بيربس وعاش وكرب ومات يف‬ ‫فرتة احتالل الفرنجة لبالدنا‪ ،‬حيث كان‬ ‫احتالل الفرنجة قد بدأ يف العام ‪1097‬م‬ ‫( ‪ )6/18‬وانتهى يف العام ‪،)6/17 ( 1291‬‬ ‫وكانت حياة بيربس يف املئة الثانية من‬

‫احتالهلم الذي دام حوايل مئتي عام‪ ..‬وقد‬ ‫صادفت والدته يف زمن الدولة األيوبية‬ ‫(بعد وفاة صالح الدين ‪ /1193 /‬بحوايل‬ ‫ثامنية وعرشين عاما)‪ ..‬وكان األيوبيون‬ ‫يف مرص والشام قد ضعف شأهنم بعد‬ ‫وفاة صالح الدين وبعد انقسام الدولة‬ ‫بني أبنائه وإخوته‪ ،‬حيث حتولت الدولة‬ ‫األيوبية إىل جمموعة من املاملك عىل رأس‬ ‫كل منها ملك أيويب؛ مملكة دمشق‪ ،‬مملكة‬ ‫حلب‪ ،‬مملكة الكرك‪ ،‬مملكة بعلبك‪..‬‬ ‫مملكة محص‪ ،‬مملكة محاه‪ ..‬ومملكة مرص‬ ‫(أكربهم وأقواهم طبعا)‪ ..‬وقامت بينهم‬ ‫منافسات وحروب كثرية أشغلتهم عن‬ ‫مقاتلة الفرنجة‪ ،‬بل ودفعت بعضهم‬ ‫أحيانا كثرية إىل االستعانة بالفرنجة‬ ‫بعضهم ضد بعض‪ ،‬عدا مرص التي كانت‬ ‫يف حالة عداء جدي مع الفرنجة وكانت‬ ‫قضية حماربتهم من أولوياهتا‪ ...‬وكان هذا‬ ‫من حسن حظ الظاهر بيربس الذي ساقه‬ ‫قدره وقدر األمة كام أسلفنا إىل أن يكون‬ ‫بملكية سلطان مرص الصالح أيوب‪ ،‬وأن‬ ‫يدخل مدرسته لتنشئة الضباط املامليك‪،‬‬ ‫وأن يرتبى ويتثقف ويتعلم فنون احلرب‬ ‫والقتال بإرشافه‪ ،‬ويتدرج ويرتقى إىل أن‬ ‫يصبح أحد األمراء املربزين فيطلق عليه‬ ‫السلطان الصالح أيوب اللقب ذا املغزى‬ ‫الكبري "ركن الدين"‪.‬‬ ‫ب) ملحة تارخيية عن املئة سنة األوىل‬ ‫من احتالل الفرنجة‪:‬‬ ‫يف العام ‪ 1096‬كانت أوىل محالت‬ ‫الفرنجة إىل الرشق‪ ،‬وكانت بقيادة بطرس‬ ‫الناسك‪ ،‬حيث بدأت طالئعهم تقرتب‬ ‫من القسطنطينية يف أوائل متوز ‪،1096‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪53‬‬ ‫ويف أوائل آب بدأوا باجتياز البوسفور‬ ‫حيث كانت هتافاهتم تسمع يف كل مكان‬ ‫بأهنم جاؤوا إلبادة املسلمني (علام أهنم‬ ‫هنبوا العديد من الكنائس الرومية)‪،‬‬ ‫وكانت أعدادهم تقدر بعرشات األلوف‪..‬‬ ‫وحوايل منتصف أيلول من نفس العام‬ ‫كانوا حيارصون نيقية عاصمة السلطان‬ ‫السلجوقي قلج أرسالن (سلطان ما يعرف‬ ‫اليوم ب تركيا) وهو أول قائد مسلم يقع‬ ‫يف مواجهتهم‪..‬‬ ‫يف ‪ 21‬ترشين األول سنة ‪ 1096‬كانت‬

‫اهلزيمة الساحقة التي منيت هبا محلة‬ ‫الفرنجة األوىل عىل يد السلطان قلج‬ ‫أرسالن الذي مل تسع الدنيا فرحته وهو‬ ‫يرى ذلك اجليش الذي طاملا ُو ِصف بأنه‬ ‫مرهوب اجلانب وقد أبيد عىل يده والغنائم‬ ‫الضخمة مكدسة حتت قدميه‪.‬‬ ‫يف األشهر األوىل من العام ‪1097‬‬

‫كانت احلملة الثانية للفرنجة إىل الرشق‪..‬‬ ‫وكانت النتائج خمتلفة هذه املرة فقد ُمني‬ ‫هبا السلطان قلج أرسالن هبزيمة نكراء‬ ‫وخرس عاصمته نيقية التي اضطر للتنازل‬ ‫عنها إىل قيرص الروم ألكيس كومنني والتي‬ ‫كان يف األصل قد استوىل عليها السلطان‬ ‫سليامن والد قلج أرسالن من الروم‬ ‫مفضال بذلك أن يأخذها جاره ألكيس‬ ‫عىل أن يستويل عليها الفرنجة‪ ،‬وانسحب‬ ‫من املنطقة كلها إىل الداخل خمتارا لنفسه‬ ‫عاصمة أخرى هي مدينة قونية‪ ،‬ومل يعد‬ ‫يرى نيقية أبدا‪..‬‬

‫وكانت أسباب اهلزيمة ترتبط بمجملها‬ ‫بانشغال قلج أرسالن وباقي سالطني‬ ‫السالجقة بمقاتلة بعضهم بعض ًا‪.‬‬

‫ويف ‪ 21‬ترشين األول ‪ 1097‬فك‬ ‫الفرنجة حصارهم عن عاصمة قلج‬ ‫أرسالن بعد أن دخلها ألكيس وأصبحت‬ ‫تابعة له ‪ ..‬وواصلوا تقدمهم باجتاه أنطاكية‬ ‫كربى مدن بالد الشام وامجلها وأكثرها‬ ‫ثرا ًء ورخاء‪ ..‬واحلصن املنيع ‪ ..‬وكانت‬ ‫كذلك من أكرب مدن آسيا العربية الواقعة‬ ‫حتت سيطرة األتراك السالجقة‪.‬‬

‫حورصت أنطاكية فاستنجد صاحبها‬ ‫ياغي سيان َب َم ِلك َْي دمشق وحلب‬ ‫الشقيقيني اللدودين املتصارعني بال هواده‬ ‫رضوان ودقاق‪ ..‬فلبيا ‪ ..‬وتقدم كل منهام‬ ‫بجيشه لنرصة أنطاكية ولكنهام ما لبثا‬ ‫أن انسحبا فيام بعد من املعركة ألسباب‬ ‫بعضها له عالقة بعداوهتام املتبادلة‪..‬‬ ‫واآلخر بسبب مواجهات مع الفرنجة‬ ‫ُمنيت بخسائر يف جيش كل منهام ما جعلهام‬ ‫يقرران االنسحاب‪ ..‬وما جعل ياغي سيان‬ ‫يستنجد بملك املوصل كربوقا الذي لبى‬ ‫وجاء عىل رأس جيش كبري‪ ..‬ولكن وقبل‬ ‫وصوله كان أحد اخلونة قد فتح ثغرة‬ ‫للفرنجة دخلوا منها إىل داخل احلصن‬ ‫املنيع ‪ ..‬ومل تعد تنفع بطولة احلامية وشدة‬ ‫بأسها بعد حصار طويل أهنك قواها‪..‬‬ ‫وكان ما كان من مذبحة أنطاكية التي‬ ‫مل ترحم ال مسلم وال مسيحي‪ ..‬فغاصت‬ ‫املدينة اجلميلة يف النار والدم‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫يف ‪ 3‬حزيران سنة ‪..1098‬‬

‫سقطت املدينة بأكملها إال قلعتها‬ ‫الشهرية‪ ..‬حيث مترتس هبا شمس الدولة‬ ‫ابن ياغي سيان وصمد فيها رافضا كل‬ ‫تقديامت بوهيمند كبري زعامء الفرنجة التي‬ ‫عرضها عليه لتسليم القلعة والتي رفضها‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 54‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫بإباء وشمم مفضال املوت عىل التسليم‪.‬‬ ‫وبعدَ ما ُس ِم َي بيوم العار مل يعد يف‬ ‫بالد الشام من قوة قادرة عىل إعاقة تقدم‬ ‫الفرنجة باجتاه باقي مدن الرشق‪.‬‬

‫املعرة‬ ‫يف أواخر العام ‪ 1098‬سقطت َّ‬ ‫بعد جمزرة مهولة شهدت كل مظاهر‬ ‫الوحشية من مثل غيل الرجال يف القدور‬ ‫وشك األطفال يف السفافيد لشوهيم‬ ‫وأكلهم‪( ..‬حسبام جاء يف وصف املؤرخني‬ ‫الفرنجة)‪.‬‬ ‫ويف شباط ‪ 1099‬سقط حصن األكراد‬ ‫بعد مناورات وغارات بالغة الذكاء قام هبا‬ ‫الفالحون أربكت الفرنجة وأوقعت هبم‬ ‫خسائر معقولة ولكنها مل متنع سقوطه‪..‬‬

‫وقد أثبتت واقعة حصن األكراد‬ ‫وبعدها واقعة مدينة عرقة أن إمكانية‬ ‫حتقيق نرص حاسم عىل الفرنجة كان أمرا‬ ‫ممكنا لوال اخلالفات احلادة التي كانت‬ ‫مسترشية بني سالطني املسلمني السالجقة‬ ‫بعضهم مع بعض‪ ...‬وحتول حصن األكراد‬ ‫إىل املقر العام لقيادة الفرنجة بزعامة سان‬ ‫جيل أحد زعامء الفرنجة الذي جلس فيه‬ ‫بعد سقوطه يتقبل اهلدايا ورسائل الوالء‬ ‫من امللوك واألمراء املسلمني من املدن‬ ‫األخرى كحمص وطرابلس وغريها‬ ‫هبدف حتييد ممالكهم من املصري املظلم‬ ‫ألنطاكية واملعرة ‪.‬‬ ‫ولكن هدايا عاهل مملكة طرابلس‬ ‫من بني عامر مل تنفع‪ ،‬حيث هاجم الغزاة‬ ‫مدينة عرقة ثاين أكرب املدن يف مملكته‬ ‫بعد طرابلس وكانت حصنا منيع ًا أهنك‬ ‫حصاره الفرنجة‪ ،‬كذلك أعجزهتم بطولة‬ ‫أهله حتى ُأجرب الفرنجة عىل االنسحاب‬

‫دون قيد أو رشط وتابعوا طريقهم بمحاذاة‬ ‫طرابلس إىل باقي مدن الساحل بإجتاه بيت‬ ‫املقدس‪ .‬وكانت هدايا ومساعدات جالل‬ ‫الدين ملك طرابلس قد اهنالت عليهم مع‬ ‫تقديم اخلدمات من أدالء ومؤن وذخائر‬ ‫وكل ما يلزم وكان ذلك يف شهر نيسان‬ ‫‪..1099‬‬

‫يف ‪ 19‬أيار ‪ 1099‬اجتاز الفرنجة هنر‬ ‫الكلب الذي كان يشكل احلدود الشاملية‬ ‫للدولة الفاطمية واحلد الفاصل بينهم وبني‬ ‫إمارة طرابلس‪ .‬وكانت حينذاك الدولة‬ ‫الفاطمية يف آخر أيامها‪ ،‬وكان الرجل‬ ‫القوي فيها واحلاكم املطلق هو الوزير املتنفذ‬ ‫األفضل شاهنشاه وهو مملوك سابق من أصل‬ ‫مسيحي الذي أخذ قراره بمواجهة الزحف‬ ‫الفرنجي منسحبا من احلدود الشاملية تاركا‬ ‫مدن الساحل لتدبري أمرها بنفسها حاشدا‬ ‫قواته يف بيت املقدس‪ ..‬فاستسلمت بريوت‬ ‫بال مقاومة مقدمة املساعدات املطلوبة‬ ‫من مال ومؤن وأدالء‪ ..‬وكذلك كل مدن‬ ‫الساحل بام فيها صور وعكا وصوال إىل‬ ‫مشارف بيت املقدس‪ ..‬ما عدا مدينة صيدا‬ ‫التي استبسل أهلها يف الدفاع عنها إىل أن‬ ‫سقطت أخري ًا فتعرضت النتقام شديد‪..‬‬ ‫ُفأتلفت بساتينها و بت مجيع القرى ِ‬ ‫والض َيع‬ ‫نهُ‬ ‫املحيطة هبا وكانت حالة املقاومة الوحيدة‬ ‫بعد مدينة عرقة ‪.‬‬

‫يف ‪ 7‬حزيران بدأ حصار بيت املقدس‬ ‫‪ ..‬وبعد مقاومة رشسة من حاميتها بقيادة‬ ‫افتخار الدولة سقطت يف أيدي الفرنجة‬ ‫وكان ذلك يف ‪ 23‬شعبان عام ‪ 492‬هـ‬ ‫املوافق ‪ 15‬متوز من عام ‪1099‬م‪ ..‬وقد‬ ‫أعمل الفرنجة السيف يف رقاب أهلها‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪55‬‬ ‫مجيعهم مسلمني ومسيحيني وهيود فقتلوا‬ ‫خالل أسبوع ما اليقل عن سبعني ألف‬ ‫(بحسب ابن األثري) ومن مجلة أفعاهلم‬ ‫كانت "حمرقة اليهود"‪ ،‬حيث جمُ ع من بقي‬ ‫منهم عىل قيد احلياة يف الكنيس يف احلي‬ ‫اخلاص باليهود وأرضمت فيهم النار حتى‬ ‫مل يبق منهم أحد‪ ..‬أما جيش األفضل الذي‬ ‫كان يف الطريق من مرص لنجدة حاميته يف‬ ‫بيت املقدس فقد وصل متأخر ًا عرشين‬ ‫يوما عىل وقوع مأساة بيت املقدس‪،‬‬ ‫ومل يكن يملك جيش األفضل العدة‬ ‫حلصار الفرنجة يف بيت املقدس فتوجه‬ ‫إىل عسقالن ومنها أوفد رسله إىل أمري‬ ‫بيت املقدس اجلديد طالبا منهم مغادرة‬ ‫فلسطني لقاء ضامنات للحج والزيارة‪..‬‬ ‫حرك جيشه‬ ‫وكان رد األمري الفرنجي أن َّ‬ ‫عىل وجه الرسعة باجتاه عسقالن‪ ،‬حيث‬ ‫كانت موقعة كبرية بني اجليشني اهنزم فيها‬ ‫اجليش املرصي وقتل منهم ماال يقل عن‬ ‫عرشة اآلف رجل‪.‬‬ ‫أما موقف اخلليفة العبايس يف بغداد‬ ‫املستظهر باهلل فقد كان بإبداء الكثري‬ ‫من احلزن واألسى عىل بيت املقدس‪..‬‬ ‫وكان هذا كل ما يملكه لنرصهتا‪ ..‬حيث‬ ‫أن السلطة املطلقة يف دار اخلالفة كانت‬ ‫لرجل بغداد القوي السلطان بركيارق‬ ‫السلجوقي‪ ..‬الذي كان منشغال يف حروبه‬ ‫ضد شقيقه حممد سلطان شاميل فارس‪ ،‬ومل‬ ‫يكن من املمكن لبيت املقدس أن تأخذ هلا‬ ‫مكانا يف سلم أولوياته‪ ...‬حتى أنه مل يكن‬ ‫يتكلم العربية‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1109‬م عاد الفرنجة واحتلوا‬ ‫طرابلس ‪ ..‬وهكذا أصبح الرشيط الساحيل‬

‫كله من أنطاكية حتى بيت املقدس ساقطأ يف‬ ‫يد الفرنجة‪ ..‬وهكذا‪ ..‬ضاعت بيت املقدس‬ ‫وبحسب وصف ابن األثري‪" :‬واختلف‬ ‫السالطني فتمكن الفرنج من البالد"‪.‬‬

‫يف احلقبة املمتدة من تاريخ سقوط‬ ‫بيت املقدس عام ‪ 1099‬إىل تاريخ حتريرها‬ ‫عىل يد النارص صالح الدين األيويب عام‬ ‫‪ 88 ( 1187‬عام) شهدت املنطقة اإلسالمية‬ ‫املحتلة من الفرنجة رصاعات كثرية‬ ‫ومتواصلة بني املسلمني والفرنجة يف كل‬ ‫مكان‪ ..‬يف صور‪ ..‬يف أنطاكية‪ ..‬يف حلب‪..‬‬ ‫يف جوار دمشق‪ ..‬وشهدت حصارات مرة‬ ‫من الفرنجة ملدن إسالمية خارجة عن‬ ‫سيادهتم ومرة من املسلمني للفرنجة‪ ..‬كام‬ ‫شهدت للمسلمني الكثري من االنتصارات‬ ‫والكثري من البطوالت‪ ..‬كذلك شهدت‬ ‫للفرنجة انتصارات كثرية مضادة‪..‬‬ ‫ويف فرتات كثرية كذلك كانت تشهد‬ ‫رصاعات مللوك املسلمني وأمرائهم‬ ‫بعضهم مع بعض مل تكن أقل رشاسة‪..‬‬ ‫وأحيانا تشهد حتالفات لبعض أمراء‬ ‫املسلمني مع بعض أمراء الفرنجة ضد‬ ‫أمراء مسلمني آخرين‪ ..‬كذلك أخذت‬ ‫العدوى بالفرنجة أنفسهم‪ ..‬حيث تغيرَّ‬ ‫حاهلم عام كان عليه من وحدة داخلية‬ ‫متينة فبدأت نزاعاهتم الداخلية فضعفوا‬ ‫عام كانوا عليه إبان وصوهلم‪..‬‬

‫إال أن السمة الغالبة للحقبة واألكيدة‬ ‫هي الرفض التام للوجود الفرنجي من‬ ‫قبل عامة املسلمني وكافة سكان املنطقة‬ ‫(بام فيهم املسيحني واليهود )‪ ،‬األمر الذي‬ ‫كان ينعكس عىل األمراء واحلكام‪ ،‬فكان‬ ‫أكثرهم حظوة واستئثارا بعواطف الناس‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 56‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫دائام أكثرهم عداء للفرنجة وأشدهم‬ ‫حماربة هلم‪ ..‬وأبعدهم عن قلوب الناس‬ ‫األمري أو احلاكم املهادن للفرنجة والذي‬ ‫ال يسكنه هاجس حماربتهم‪ ،‬وقد سجل‬ ‫عدد من القادة مواقف وانتصارات باهرة‬ ‫كأمري حلب أليغازي ثم األمري َب َل ْك الذي‬ ‫أصبح خالل أشهر من توليه إمارة حلب‬ ‫بعد أليغازي البطل الذي هتفو إليه قلوب‬ ‫املسلمني واملخطط اإلسرتاجتيي املحنك‬ ‫والشجاع والذي متكن من أرس ثالثة‬ ‫من أمراء الفرنجة الواحد تلو اآلخر‪:‬‬ ‫جوسلني أمري الرها و روجيه أمري أنطاكية‬ ‫و بغدوين الثاين ملك القدس الذي جاء‬ ‫لتحرير أمريي الرها وأنطاكية فوجد‬ ‫أنصار بلك بانتظاره يف كمني مل يستطع‬ ‫اإلفالت منه‪ ،‬وقد بات امللوك الثالثة يف‬ ‫سجنه إىل أن اغتيل بسهم غادر فيام كان‬ ‫يتهيأ لنجدة مدينة صور التي كانت تقاوم‬ ‫حصار الفرنجة برشاسة وبطولة اعتادت‬ ‫عليها‪ ..‬وقد سقطت بعد أن ُقتل ب َل ْك ومل‬ ‫يكن من نارص لألمة غريه يف ذلك الوقت‪،‬‬ ‫وابن اخلشاب والبوري حاكم دمشق‪..‬‬ ‫واألتايك عامد الدين زنكي الذي محى‬ ‫بالد الشام وقىض إىل األبد عىل أحالم‬ ‫الفرنجة باحتالهلا والذي اشتهر بأنه أول‬ ‫مقاتل عظيم يف جماهدة الفرنجة‪ ...‬والذي‬ ‫مل ينم يوما يف قرص بل قىض الثامنية عرش‬ ‫سنة من حكمه مفرتشا القش والطني‬ ‫(‪1132‬ـ‪ ،)1150‬هذا من جهة بالد الشام‪..‬‬ ‫أما من جهة مرص وعسقالن وأماكن‬ ‫الوجود الفاطمي فقد كانت احلالة شبيهة‬ ‫إىل ِ‬ ‫حد ما بام هو عليه األمر من جهة بالد‬ ‫الشام‪ ،‬بفارق أن بالد الشام كانت حمكومة‬

‫من عدة أمراء يف حني أن الفاطميني كانوا‬ ‫حمكومني من قيادة واحدة متمثلة ظاهريا‬ ‫باخلليفة وعمليا متمثلة بالوزير املتنفذ‬ ‫صاحب القرار األول واألخري الذي كان‬ ‫يف بداية االحتالل األفضل شاهنشاه ابن‬ ‫الوزير القوي بدر اجلاميل والذي تبعه فيام‬ ‫بعد وزراء متنفذين مسيطرين سيطرة تامة‬ ‫عىل القرار كان آخرهم الوزير شاور يف‬ ‫زمن اخلليفة الشاب املريض والضعيف‬ ‫العاضد‪ ...‬فقد كانت للمرصين محالت‬ ‫عديدة عىل معاقل الفرنجة وحماوالت‬ ‫لتحرير بيت املقدس وغريها من املدن‬ ‫كيافا والرملة وعكا وقد حققوا انتصارات‬ ‫يف بعض هذه احلمالت كقضائهم عىل‬ ‫عسكر بغدويني ملك القدس يف الرملة‬ ‫( ‪ ..)1104‬ومحالت أخرى بحرية كانوا‬ ‫هيامجون هبا أسطول الفرنجة يف عكا‪..‬‬ ‫وغريها من املواينء املحتلة‪ ..‬وقد سجل‬ ‫التاريخ آلخر خلفاء الفاطميني العاضد‬ ‫(وكان يف السابعة عرشة من عمره) أنه‬ ‫وبالرغم من ضعف سلطته فإنه وعند‬ ‫مهامجة أموري ملك الفرنجة يف القدس‬ ‫ملرص يف ترشين األول ‪ 1168‬استنجد بنور‬ ‫الدين زنكي (طالبا منه أن خيف إلنجاد‬ ‫مرص)‪ ،‬الذي وجدها فرصة سانحة لوضع‬ ‫اليد عىل مرص‪ ...‬وهكذا صار وأرسل‬ ‫قوة بقيادة شريكوه (عم صالح الدين)‪..‬‬ ‫وبعد أن ُهزم الفرنجة يف مرص َقت َ​َل‬ ‫شريكوه احلاكم الفعيل ملرص الوزير شاور‬ ‫ليحل حمله وزير ًا للخليفة العاضد املريض‬ ‫والضعيف‪ ،‬وليصبح سيد مرص احلقيقي‪،‬‬ ‫ولتنقل بعد موته يف العام ‪ 1169‬سيادة‬ ‫مرص إىل ابن أخيه يوسف‪/‬الذي عينه‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪57‬‬ ‫اخلليفة العاضد وزيرا له مكان عمه مطلق ًا‬ ‫عليه لقب النارص صالح الدين‪..‬‬

‫وهكذا أصبحت مرص عمليا تابعة‬ ‫حلاكم بالد الشام نور الدين زنكي امللك‬ ‫الورع واملجاهد األعظم‪ ..‬البس اخليش‬ ‫واألكسية اجلافة‪ ..‬والذي مل يمد يده قط‬ ‫إىل مال خزينة الدولة فكان يرصف عىل‬ ‫نفسه وعىل عائلته من ثالثة دكاكني كان‬ ‫يملكها يف محص‪ ،‬أما املال العام فقد‬ ‫جمرد خازن له‪ ..‬وكان‬ ‫كان يعترب نفسه َّ‬ ‫نور الدين خيطط منذ البدء لالستيالء‬ ‫وج ْع ْل مرص وبالد الشام دولة‬ ‫عىل مرص َ‬ ‫واحدة متهيد ًا ملحارصة الفرنجة واستعادة‬ ‫األرايض املحتلة وحترير بيت املقدس‪..‬‬ ‫وهكذا صار‪ ،‬فبعد أن نجح يف توحيد‬ ‫مرص والشام ويف جعل املسلمني يف "الرشق‬ ‫العريب" قوة كبرية حققت توازن يف القوى‬ ‫بني املسلمني وعدوهم املركزي وقادر ًة‬ ‫عىل مواجهة الفرنجة‪ ،‬أصبح باإلمكان‬ ‫احلديث عن مواجهة الفرنجة يف معركة‬ ‫حاسمة ‪ ..‬ولكن املوت مل يمهل البطل‬ ‫نور الدين فتابع املهمة بعد وفاته يف العام‬ ‫‪ 1174‬نائبه صالح الدين األيويب‪.‬‬ ‫ج) معركة حطني‬ ‫كان نرص حطني نتيجة ًطبيعية‬ ‫لالسرتاتيجة التى رسمها وسار فيها‬ ‫عامد الدين زنكي وبعده نور الدين زنكي‬ ‫وبعدمها صالح الدين ‪ ..‬حيث كانت‬ ‫املنطقة قد ارتاحت من أمراء "املدن"‬ ‫و"املاملك" الصغرية املتنافرة واملتصارعة‬ ‫ِ‬ ‫واملستنز َفة لكافة اجلهود‬ ‫بال هوادة‬ ‫واألموال والطاقات‪ ..‬والتي كانت‬ ‫بضعفها وتضعضعها السبب الرئييس يف‬

‫انتصارات الفرنجة‪ .‬وحتولت هذه املاملك‬ ‫واإلمارات واملدن ومعها مرص إىل دولة‬ ‫مركزية واحدة وحتت إمرة واحدة وقائد‬ ‫واحد‪ ،‬وكان من حسن احلظ أن الثالثة‬ ‫الذين توالوا عىل قيادة هذا املرشوع كانوا‪،‬‬ ‫باإلضافة إىل جدَّ يتهم يف "حماربة املرشوع‬ ‫الفرنجي" وجعله اهلدف الرئييس حلكمهم‬ ‫وقضيتهم املركزية‪ ،‬كانوا يمتلكون‬ ‫مواصفات شخصية عالية كان منها‪،‬‬ ‫باإلضافة إىل احلنكة والشجاعة والصالبة‪،‬‬ ‫الزهد والتقشف وخشونة العيش‬ ‫وااللتصاق بحياة الناس البسطاء‪ ،‬بحيث‬ ‫أض َف ْت‬ ‫حتول كل منهم إىل "سرية شعبية" ْ‬ ‫عليها خميلة الناس الكثري من الوهج‬ ‫والروعة واجلاملية‪ ،‬وهذا ما جعل املرصيني‬ ‫يستقبلون مجاعة الشام عندما قدموا إليهم‬ ‫يف العام ‪ 1168‬بحفاوة كبرية‪..‬‬

‫لذلك كان نرص حطني الذي جاء بعد‬ ‫بناء قوة صلبة عسكرية وسياسية‪ ،‬وبعد‬ ‫التطور الكبري الذي حصل يف موازين‬ ‫القوى‪ ،‬حيث تعادلت القوى بني الطرفني‬ ‫تعادال جديا وصلبا ألول مرة منذ بدء الغزو‬ ‫قبل ثامنية وثامنني عام‪ ،‬جاء نتيجة طبيعية‬ ‫بعد أن أضيفت إىل قوة املسلمني قدرات‬ ‫غري عادية لقائد شديد الدهاء‪ ..‬شديد‬ ‫الذكاء‪ ..‬واسع اخلربة عىل أكثر من صعيد‪..‬‬ ‫صاحب عقل عسكري إسرتاتيجي‪ ..‬يتقن‬ ‫املناورة‪ ..‬عرف متاما كيف خيتار اللحظة‬ ‫املناسبة واملكان املناسب ملعركته‪ ،‬وكيف‬ ‫يضع العدو يف حالة من الغفلة التامة‬ ‫فيحقق نرصا إسرتاتيجيا ضخ ًام عىل‬ ‫الفرنجة يف "رشك" نصبه هلم يف سهل واسع‬ ‫لقرية صغرية اسمها حطني قريبة من بحرية‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 58‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫طربية‪ ...‬فكانت معركة باهرة النتائج‬ ‫جرت يف ‪ 1187/7/4‬جعلت باقي املاملك‬ ‫الفرنجية تستسلم الواحدة تلو األخرى؛‬ ‫عكا‪ ،‬نابلس‪ ،‬حيفا‪ ،‬النارصة‪ ،‬دون قتال‪..‬‬ ‫سوى يافا التي وقع فيها االشتباك اجلدي‬ ‫الوحيد مع جيش مرص بقيادة العادل شقيق‬ ‫صالح الدين‪...‬‬

‫ويف ‪ 1187/7/29‬استسلمت صيدا‬ ‫وبعد بضعة أيام استسلمت بريوت‬ ‫وجبيل‪ ..‬وعاد جيش صالح الدين جنوبا‬ ‫بعد أن وصل إىل مشارف طرابلس دون أن‬ ‫يدخلها فبقيت يف طول الرشيط الساحيل‬ ‫اللبناين هي وصور يف يد الفرنجة‪ ...‬وصل‬ ‫عسقالن يف ‪ 1187/9/4‬فاستسلمت دون‬ ‫مقاومة‪ ،‬ويف ‪ 1187/9/20‬كان يرضب‬ ‫حصاره حول بيت املقدس حماوال دخوهلا‬ ‫دون سفك دماء كام فعل عمر بن اخلطاب‪،‬‬ ‫ولكن أمراءها أرصوا عىل القتال فأقسم أن‬ ‫ال يأخذها إال بالسيف‪ ..‬وكان املسيحيون‬ ‫العرب من السكان األصليني قد تواصلوا‬ ‫مع صالح الدين معلنني وقوفهم إىل‬ ‫جانبه‪ ..‬فشد ّد حصاره عليها إىل أن كان‬ ‫يوم ‪ 1187/9/29‬حيث أحدث املسلمون‬ ‫ثغرة يف اجلهة الشاملية من سورها‪ ..‬ويف‬ ‫‪ 1187/9/30‬وبعد أن شعر قائد القدس‬ ‫"باليان" أنه مل يعد من املجدي متابعة القتال‬ ‫طلب مقابلة صالح الدين للتفاوض‪..‬‬

‫ويف ‪ 1187/10/1‬قدم باليان عرضه‬ ‫لصالح الدين الذي كان عليه أن حينث‬ ‫بقسمه‪" :‬أن ال يأخذها إال بالسيف"‪،‬‬ ‫وكانت الوسيلة حلله من قسمه هي أن‬ ‫تفتح املدنية أبواهبا وختضع له بال رشوط‪..‬‬ ‫وهكذا كان‪ ..‬دخلها صالح الدين‬

‫واملسلمون يف ‪ 2‬ترشين األول ‪،1187‬‬ ‫والذي صادف يوم ‪ 27‬رجب ‪ 583‬هـ‪ ،‬وهو‬ ‫اليوم الذي حيتفل فيه املسلمون بذكرى‬ ‫إرساء النبي حممد عليه السالم إىل القدس‪.‬‬

‫إن تاريخ ‪ 1187/10/2‬مل يكن يوما‬ ‫عاديا عند أحد‪ ..‬ال يف الرشق وال يف‬ ‫دوي يف‬ ‫الغرب‪ ..‬لقد كان هلذا اليوم‬ ‫ٌ‬ ‫العامل أمجع‪ ..‬حيث وبعد احتالل دام ثامنية‬ ‫وثامنني عاما سقطت من يد الفرنجة املدينة‬ ‫املقدسة‪ ..‬هدفهم الرئييس وغايتهم‪..‬‬ ‫وعلة مرشوعهم‪ ..‬وسبب حضورهم إىل‬ ‫الرشق‪ ..‬والتي كلفتهم آالف الضحايا‪..‬‬ ‫والتي كانت دائام‪ ،‬ومنذ تاريخ فتحها‬ ‫عىل يد املسلمني يف عهد اخلليفة عمر‬ ‫بن اخلطاب‪ ،‬هاجسا لدى ملوك وقادة‬ ‫الفرنجة عىل مر التاريخ‪ ..‬والتي مل ُ‬ ‫ختل‬ ‫حقبة من الزمن من حماوالت عبرَّ فيها‬ ‫الروم‪ ،‬وبعدهم ملوك الغرب املسيحي‬ ‫عن طموحهم الستعادهتا من املسلمني‪.‬‬ ‫يف ‪ 1099/7/15‬سقطت بيت املقدس‬ ‫يف يد الفرنجة‪ ...‬ويف ‪ 1187/10/2‬حتررت‬ ‫بيت املقدس عىل يد القائد صالح الدين‪..‬‬

‫د) مرحلة ما بعد حترير بيت املقدس‬ ‫بعد هذا النرص املؤزر واملدوي وإكامل‬ ‫مسرية التحرير بإجتاه بقية املدن اإلسالمية‬ ‫املحتلة‪ :‬اللالذقية‪ ..‬طرسوس‪ ..‬وغريها‬ ‫مل ِ‬ ‫يبق للفرنجة سوى أنطاكية وطرابلس‬ ‫وصور وثالثة قالع يف بعض األنحاء‪..‬‬ ‫وأمام هذا التحدي الكبري قرر الغرب‬ ‫أن ير ّد‪ ..‬فبدأ التحضري حلمالت جديدة‬ ‫مستفيدا من موقع إسرتاتيجي وفائق‬ ‫األمهية يمكن أن جيعله رأس جرس له يف‬ ‫حربه اجلديدة الستعادة "املنطقة" هو‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪59‬‬ ‫مدينة صور‪ ..‬وكان صالح الدين قد شن‬ ‫محلة عليها فحارصها يف شهر ترشين الثاين‬ ‫‪ ..1187‬وبعد أن فشل يف فتحها وبدأ‬ ‫بتكبد خسائر كبرية رفع احلصار عنها‪..‬‬

‫يقول املؤرخون املسلمون أن صالح‬ ‫ً‬ ‫خطأ إسرتاتيجي ًا كبريا عندما‬ ‫الدين ارتكب‬ ‫سمح آلالف الفرنجة الذين خرجوا من‬ ‫بيت املقدس وباقي املدن املحررة بالتوجه‬ ‫إىل مدينة صور أحصن القالع الساحلية‬ ‫وكذلك عندما مل يصادر األموال والذهب‬ ‫املكدس يف الصناديق‪ ،‬وسمح هلم بنقله‬ ‫معهم إليها بالرغم من فراغ خزائنه من‬ ‫األموال ومتلمل مستشارية واملحيطني به‬ ‫من هذا الترصف‪ ..‬حيث كان يمكن هلذه‬ ‫احلرب أن متأل بيت مال املسلمني بالغنائم‬ ‫والذهب واألموال‪ ،‬األمر الذي حصل‬ ‫عكسه متاما‪ ..‬فقد امتألت خزائن الفرنجة‬ ‫يف صور باألموال والذهب يف حني كانت‬ ‫خزائن املسلمني فارغة‪..‬‬ ‫وثمة خطأ آخر إسرتاتيجي وقع فيه‬ ‫صالح الدين بحسب املؤرخني املسلمني ـ‬

‫وهو إطالق رساح امللك الفرنجي‬ ‫"غي" الذي كان قد أرسه يف حطني وأطلقه‬ ‫يف شهر متوز ‪ .1188‬حيث عاد هذا القائد‬ ‫ليقود يف شهر آب ‪ 1189‬جيوش الفرنجة‬ ‫التي بدأت تتجمع يف مدينة صور هبدف‬ ‫حصار مدينة عكا‪ ..‬وبدأ املدد الفرنجي‬ ‫يأيت من الغرب ليتمركز فيها ‪ ..‬ففي نيسان‬ ‫‪ 1191‬وصل ملك فرنسا فيليب أوغست‬ ‫وجيشه‪ ..‬ويف حزيران من العام نفسه‬ ‫وصل ملك إنكلرتا ريكاردوس قلب‬ ‫وسفنِه وعتاد ضخم‪..‬‬ ‫األسد بجيشه ُ‬ ‫ويف ‪ 11‬متوز ‪ 1191‬سقطت عكا‬

‫و ُذبحت حاميتها املؤلفة من ألفني‬ ‫وسبعامئة جندي مع ثالثامئة امرأة وطفل‬ ‫بعد أن ُربطوا باحلبال و َأ ْع َم َل فيهم‬ ‫الفرنجة سيوفهم‪ .‬وكان ريكاردوس قد‬ ‫سخر من صالح الدين عندما أرسل له‬ ‫صالح الدين موفد ًا ليفاوضه عىل حترير‬ ‫األرسى املسلمني مذكرا إياه بامفعله قبل‬ ‫أربع سنوات عندما احتل بيت املقدس‬ ‫وأمربتحرير أرسى الفرنجة وتأمني‬ ‫خروجهم ساملني‪ ،‬فرد ريكاردوس ساخرا‬ ‫بأن ال وقت لديه وأمر بذبحهم مجيعهم‪.‬‬ ‫بعد سقوط عكا وبعض مناطق الساحل بيد‬ ‫واقع جديد‪..‬‬ ‫الفرنجة ُف ِر َض عىل املنطقة‬ ‫ٌ‬ ‫فبعد أن اختلت موازين القوى ملصلحة‬ ‫املسلمني بعد حرب التحرير الواسعة‬ ‫التي أنجزها جيشهم بقيادة صالح الدين‬ ‫فقوي املسلمون وضعف الفرنجة‪ ،‬عاد‬ ‫ميزان القوى إىل التوازن بني اجلانبني‪..‬‬ ‫وقد حصلت بعد ذلك مواجهات عديدة‬ ‫ومناوشات بني املسلمني والفرنجة مل تكن‬ ‫حاسمة ملصلحة أحد‪..‬‬ ‫وكانت مبادرات للصلح‪ ..‬كان‬ ‫آخرها عرض ريكاردوس تزويج أخته‬ ‫من العادل شقيق صالح الدين لقاء ترتيب‬ ‫وضع معني ملدينة القدس والذي مل يتم‪.‬‬

‫يف ‪ 2‬آذار ‪ 1192‬تويف صالح الدين عن‬ ‫مخسة ومخسني عاما ودفن يف عاصمته التي‬ ‫أحبها بكل جوارحه دمشق ‪.‬‬

‫بشـرى اخلليـل‬

‫‪ ...‬يتبع يف العدد القادم‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 60‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫املــرأة فـــــي اإلســالم‬ ‫ّ‬ ‫حق الطالق واإلرث‬ ‫د‪ .‬هالة أبو محدان‬ ‫ال بدّ من حتكيم العقل إىل جانب‬ ‫النقل‪ ،‬وجعلهام مع ًا أساس ًا للتمييز بني‬ ‫املفاسد واملصالح‪ ،‬وبني الثابت والقابل‬ ‫للتغيري‪ ،‬أي بني ما ال جيوز اخلروج عنه‬ ‫وبني ما يستوجب االجتهاد فيه حفاظ ًا عىل‬ ‫مصلحة الدين والنفس واألمة‪ .‬وتبقى‬ ‫دائرة االجتهاد مرشوعة طاملا التزمت‬ ‫بحدود مقاصد الرشيعة وهي مقاصد‬ ‫يصح القول إنهّ ا تستكشف وتستنبط‬ ‫ّ‬ ‫وتستقرى من خالل استعامل العقل الذي‬ ‫ْ‬ ‫ال يغفل النقل‪ ،‬ومن خالل النقل الذي ال‬ ‫يغفل العقل‪.‬‬

‫ويقودنا البحث إىل التساؤل حول‬ ‫التفرد هبذا احلق‬ ‫الطالق وإعطاء صالحية ّ‬ ‫للرجل‪ .‬وقد رأينا أن العالقة الزوجية‬ ‫ال تستقيم إال يف حال اعتبارها رشاكة‬ ‫قائمة عىل التفاهم والتشاور والرشاكة‬ ‫والتعاون‪﴿ .‬هو الذي خلقكم من نفس‬ ‫واحدة وجعل منها زوجها ليسكن‬ ‫إليها﴾(األعراف‪﴿ .)189:‬ومن آياته ان خلق‬ ‫لكم من أنفسكم أزواج ًا لتسكنوا اليها‬ ‫وجعل بينكم مو ّدة ورمحة﴾(الروم‪.)21:‬‬ ‫فالعالقة الزوجية حسب التعريف القرآين‬ ‫هلا هي عالقة سكنى وحمبة‪ ،‬عالقة معروف‬

‫وإحسان‪ .‬واذا كان ال بدّ من اعتبار الرجل‬ ‫رأس األرسة حفاظ ًا عىل استقرارها‬ ‫وصون ًا للقيم العائلية واإلنسانية‪ ،‬فقد‬ ‫رأينا أن املقام املحفوظ لرب األرسة ال‬ ‫يتحول بأي شكل من األشكال إىل‬ ‫جيوز أن‬ ‫ّ‬ ‫تسلط واستبداد‪ .‬ومن أول املبادىء التي‬ ‫تقوم عليها الرشاكة الصحيحة هي إعطاء‬ ‫ٍ‬ ‫كل من الفريقني إمكانية االنسحاب عندما‬ ‫تصل األمور إىل النقطة التي تصبح فيها‬ ‫إمكانية العيش املشرتك مستحيلة‪ ،‬وعندما‬ ‫تنتفي املودة والرمحة‪.‬‬ ‫حق الطالق يف يد الرجل‬ ‫أن حرص ّ‬ ‫يعني إعطاءه إمكانيتني‪ :‬األوىل‪ ،‬إمكانية‬ ‫طرد املرأة ساعة يريد‪ ،‬والثانية‪ ،‬ح ّقه يف‬ ‫حبسها عىل ذ ّمته بالقدر الذي يشاء‪ .‬ونطرح‬ ‫السؤال‪ :‬أين هو املنطق يف احلالتني؟ أين‬ ‫هي املنفعة التي ترجى للدين واملجتمع‬ ‫واألرسة حني يط ّلق الرجل زوجته وهيدم‬ ‫مسوغ منطقي‬ ‫أرسته حتى لو مل يكن هناك ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وكاف هلذا األمر‪ ،‬أو حني يمنع عنها‬ ‫الطالق مناكفة هلا أو ألهلها أو ليمنع عنها‬ ‫الزواج مرة أخرى‪ ،‬وهي حاالت طالت‬ ‫الكثري من النساء حولنا؟‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪61‬‬ ‫توجه اخلطاب القرآين للرجل‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫عندما يتحدّ ث عن الطالق وكأنه يعطيه‬ ‫ربره‬ ‫هو هذا ّ‬ ‫احلق دون املرأة كان له ما ي ّ‬ ‫زمن نزول الوحي‪ .‬وكام قدّ منا يف بحث‬ ‫آخر‪ ،‬فإن األمر ال يرجع إىل أن القرآن‬ ‫يصنّف املرأة يف مرتبة عقلية أو نفسية‬ ‫أدنى من الرجل‪ ،‬بالعكس فقد ك ّلفها‬ ‫كام ك ّلف الرجل وخاطبها بنفس خطابه‪.‬‬ ‫أقر بالواقع االجتامعي‬ ‫لكن‪ ،‬كام قلنا‪ّ ،‬‬ ‫والثقايف املتخ ّلف الذي كانت حتياه املرأة‬ ‫والذي كان يمنعها من حسن تقدير‬ ‫األمور‪ ،‬والذي جيعل من املنطقي وضع‬ ‫مصري األرسة يف يد الرجل وهو الذي‬ ‫كان األكثر وعي ًا واضطالع ًا ومعرفة يف‬ ‫ذلك الزمان‪ .‬لكن‪ ،‬وبالعودة دائ ًام إىل‬ ‫حكم العقل ومقاصد الرشيعة ومبادىء‬ ‫العدل واملساواة والتعاون واإلحسان‬ ‫ودفع الرضروحتسني أوضاع اإلنسان‪،‬‬ ‫ومع وصول املرأة إىل أعىل املراتب‬ ‫العلمية والثقافية والفكرية والسياسية‬ ‫مؤهلة‬ ‫وغريها‪ ،‬هل ما زالت املرأة غري‬ ‫ّ‬ ‫لتقرير مصريها؟ هل من العدل واملساواة‬ ‫والتعاون واالحسان ودفع الرضر أن تتولىّ‬ ‫األنثى أعىل املراكز وتتّخذ أهم القرارات‪،‬‬ ‫ما عدا ما يتع ّلق بأكثر األمور خصوصية‬ ‫بالنسبة إليها‪ ،‬عنيت عالقتها الزوجية؟‬ ‫لقد كان لإلمام حممد عبده رأي‬ ‫متقدم يف هذا املجال وقد قال‪ ":‬ال يمكن‬ ‫مهام ض ّيقنا حدود الطالق أن تنال املرأة‬ ‫ما تستحق من االعتبار والكرامة إال إذا‬ ‫منحت حق الطالق‪ ...‬علينا أن نعمل‬

‫(‪ )1‬األعامل الكاملة‪ ،‬م ‪ ،2‬ص ‪127‬ـ‪.129‬‬

‫بمذهب غري مذهب احلنفية‪ ،‬ألنه حرم‬ ‫املرأة يف كل حال من حق الطالق‪ ،‬حيث‬ ‫قال الفقهاء من أهله‪" :‬إن الطالق منع‬ ‫عن النساء الختصاصهن بنقصان العقل‬ ‫ونقصان الدين وغلبة اهلوى"‪ ،‬مع أن هذه‬ ‫األسباب باطلة‪ ،‬ألن ذلك إن كان حال‬ ‫املرأة يف املايض فال يمكن أن يكون حاهلا‬ ‫ّ‬ ‫أحط‬ ‫يف املستقبل وألن كثري ًا من الرجال‬ ‫من النساء يف نقصان الدين والعقل وغلبة‬ ‫(‪)1‬‬ ‫اهلوى‪.‬‬

‫يف املذهبني احلنفي واملالكي جيوز‬ ‫للمرأة أن تشرتط يف عقد الزواج النص‬ ‫عىل حقها يف تطليق نفسها متى شاءت‪ .‬ويف‬ ‫حيق للمرأة أن تشرتط‬ ‫املذهب اجلعفري‪ّ ،‬‬ ‫ضمن عقد الزواج‪ ،‬أن تكون وكيلة عن‬ ‫الرجل يف تطليق نفسها وهنا نطرح سؤاالً‬ ‫يقرون للمرأة بحق طلب‬ ‫عىل الذين ال ّ‬ ‫الطالق يف حالة عدم اشرتاط ذلك يف عقد‬ ‫الزواج (كاألحناف والشيعة مثالً)‪ :‬ما هو‬ ‫ربر هذا املنع؟ وهل اشرتاط هذا احلق يف‬ ‫م ّ‬ ‫عقد الزواج جيعله مباح ًا وعدم االشرتاط‬ ‫يدخله يف دائرة املحرمات؟‬ ‫كيف يكون ّ‬ ‫احلل متوافق ًا مع العقل‬ ‫ومقاصد الرشيعة التي ذكرنا بعضها‬ ‫سابق ًا؟ بالطبع ّ‬ ‫احلل ال يكون بإطالق هذا‬ ‫احلق للرجل واملرأة عىل قدم املساواة‪ .‬أن‬ ‫ّ‬ ‫امتالك أي انسان لسلطة مطلقة‪ ،‬جيعله كام‬ ‫يقول مونتسكيو يميل إىل سوء استخدامها‪.‬‬ ‫لذا‪ ،‬ال بدّ من وضع ضوابط وقواعد حتدّ‬ ‫من استخدام هذا احلق حفاظ ًا عىل متاسك‬ ‫األرسة‪ ،‬دون منع أحد الزوجني من ح ّقه‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 62‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫حق‬ ‫يف طلب الطالق‪ .‬فال يعود للزوج ّ‬ ‫التطليق دون الرجوع إىل املحكمة واستنفاذ‬ ‫كل وسائل الصلح وال حترم الزوجة من‬ ‫هذا احلق‪ .‬ويف احلالني تكون املحكمة‬ ‫حلق الطرف اآلخر‪ .‬وخري‬ ‫هي الضامن ّ‬ ‫دليل عىل تأييد القرآن لوجود هيئة حتكم‬ ‫ْ‬ ‫﴿وإن خفتم‬ ‫بني الطرفني اآلية الكريمة‪:‬‬ ‫شقاق بينِهام فابعثوا حك ًام من أهله وحك ًام‬ ‫من أهلها إن يريدا إصالح ًا يوفق اهلل بينهام‬ ‫إن اهلل كان علي ًام خبريا﴾(النساء‪ .)35:‬هذه اآلية‬ ‫تتحدّ ث بشكل واضح عن رضورة حماولة‬ ‫التوفيق بني الزوجني وهذا يستحيل يف‬ ‫حال كان الزوج يستطيع تطليق زوجته‬ ‫دون الرجوع إىل أية سلطة يستشريها يف‬ ‫األمر‪ .‬ويرى اإلمام حممد عبده أن "ال‬ ‫طالق إال أمام القايض وبحضور شاهدين‬ ‫عىل األقل‪ ،‬وذلك بعد االستمهال أسبوع ًا‬ ‫للتفكري‪ ،‬وبعد أن يقدم احلكامن واحد من‬ ‫أهل الزوج وآخر من أهل الزوجة تقرير ًا‬ ‫للقايض باستحالة العرشة وفشلهام يف‬ ‫التوفيق بني الزوجني"(‪.)2‬‬ ‫إن اإلسالم هو رسالة ضد القهر‬ ‫والظلم والعنف بكل أشكاله‪ ،‬ومع حرية‬ ‫اإلنسان‪ ،‬ذكر ًا كان أم أنثى‪ ،‬هو نضال من‬ ‫أجل احلق واخلري‪ .‬هذا هو فهمنا لرسالة‬ ‫خاتم النبيني‪ ،‬وال يستقيم هذا املعنى إذا‬ ‫بقيت املرأة مقهورة‪ ،‬مسلوبة اإلرادة‪،‬‬ ‫خاضعة لسلطة تعسفية ال حيدّ ها سوى‬ ‫مزاجية الرجل‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن احلدّ من‬ ‫السلطة املطلقة املعطاة للرجل يف موضوع‬ ‫احلق‪،‬‬ ‫الطالق‪ ،‬كذلك إرشاك املرأة يف هذا ّ‬

‫(‪ )1‬األعامل الكاملة‪ ،‬م ‪ ،2‬ص ‪.125‬‬

‫يشكّالن ركيزة أساسية لتحقيق املقاصد‬ ‫من عدل ومساواة‪.‬‬ ‫ومن القضايا األكثر جدالً بالنسبة‬ ‫حلقوق املرأة واملساواة يف اإلسالم‪ ،‬هي‬ ‫قضية اإلرث‪ ،‬وإعطاء الذكر مثل حظ‬ ‫األنثيني‪ .‬والتربيرات التي تعطى يف هذا‬ ‫املجال كثرية ويراها مطلقوها واملدافعون‬ ‫عنها منطقية‪ ،‬ال بل يعتربون أهنا وضعت‬ ‫لصالح املرأة‪ .‬فالرشع اإلسالمي‪ ،‬حسب‬ ‫هذه احلجج‪ ،‬قد أعفى املرأة من مشقات‬ ‫الكسب وتبعات اإلنفاق وو ّفر هلا كل‬ ‫عوامل األمان يف ّ‬ ‫ظل احلرية والكرامة‪ ،‬بأن‬ ‫أرادها قريرة العني داخل منزهلا‪ ،‬دورها‬ ‫األهم واألوحد داخل جدرانه‪ .‬وحاجتها‬ ‫للامل يؤمنّها هلا الرجل وهو املسؤول عن‬ ‫نفقتها ونفقة األرسة‪ُ ،‬يسأل عن تأمني‬ ‫حاجات زوجه وأوالده باإلضافة إىل‬ ‫والديه وإخوته‪ ،‬يف حني هي غري مسؤولة‬ ‫عن أية نفقة مالية‪ .‬وهكذا يكون الرشع‬ ‫احلنيف قد أعطاها فوق ما حتتاج اليه‪ ،‬إذ‬ ‫هو مل حيرمها من مرياثها باملطلق كام تقتيض‬ ‫قاعدة الغنم بالغرم‪ ،‬بل أورثها دون أن‬ ‫يك ّلفها باملقابل بأية أعباء‪.‬‬ ‫هذا التربير الذي يبدو يف ظاهره‬ ‫لصالح املرأة وتكري ًام هلا‪ ،‬هو يف حقيقة‬ ‫ّ‬ ‫وحط من شأهنا‪ .‬إن اعتبار‬ ‫األمر حتقري هلا‬ ‫املرأة غري مسؤولة حتى عن نفسها‪،‬‬ ‫مؤهلة للقيام هبذا‬ ‫يفرتض أهنا غري‬ ‫ّ‬ ‫الدور‪ .‬وحرمان املرأة من ح ّقها يف العمل‬ ‫والكسب واإلنفاق‪ ،‬جيعل منها كائن ًا‬ ‫متخ ّلف ًا‪ ،‬ناقص األهلية‪ ،‬ويركنها يف مرتبة‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪63‬‬ ‫دنيا يف املجتمع‪ ،‬ويمنعها من املشاركة يف‬ ‫البناء احلضاري العام‪ .‬إن إعفاء املرأة من‬ ‫مسؤولياهتا جتاه أرسهتا وجمتمعها‪ ،‬وحرص‬ ‫وظيفتها يف رعاية البيت من طهو وحياكة‬ ‫وحضانة وما شابه‪ ،‬بحجة أهنا جوهرة‬ ‫ثمينة جيب حفظها وختبئتها‪ ،‬هو تشبيه هلا‬ ‫بمقتنى ال عقل له وال دور(اجلوهرة)‪ّ ،‬‬ ‫حيل‬ ‫استعامله وبيعه وربام إعارته عند احلاجة‬ ‫وهذا يتناىف مع التحول العظيم الذي قام‬ ‫به اإلسالم يف النظرة إىل املرأة حني جعلها‬ ‫يف مرتبة مساوية ملرتبة الرجل عق ً‬ ‫ال وقيمة‬ ‫وتكليف ًا وعم ً‬ ‫ال وحساب ًا يف الدنيا واآلخرة‪:‬‬ ‫﴿فاستجاب هلم رهبم أين ال أضيع عمل‬ ‫عامل منكم من ذكر وأنثى﴾(آل عمران‪.)195:‬‬

‫إن احرتام املرأة وتقديرها ال يكون‬ ‫بإخفائها وتغطيتها وإلغاء وجودها‬ ‫ودورها خارج جدران منزهلا‪ .‬وتفسري‬ ‫اآليات املتعلقة باألحكام واملعامالت‬ ‫"الدنيوية" يفرتض األخذ بعني االعتبار‬ ‫إطارها التارخيي واالجتامعي‪ .‬إن احلكم‬ ‫الذي ورد يف القرآن الكريم حول اإلرث‬ ‫كان يالئم بشكل كبري وضع املرأة يف‬ ‫القرن السابع ميالدي‪ ،‬وربام ّ‬ ‫ظل مالئ ًام‬ ‫لرتتيب وضعها لفرتة طويلة بعد ذلك‪.‬‬ ‫أما ما وصلت إليه النساء يف عرصنا فهو‬ ‫يتعارض مع هذه األحكام‪.‬‬ ‫لقد أعطى اإلسالم املرأة حقوق ًا‬ ‫قانونية هامة بعد أن كان ينظر اليها يف‬ ‫اجلاهلية عىل أهنا خملوق غري كامل‪ ،‬ال‬ ‫ترقى إىل مستوى العبيد‪ .‬وكانت عندما‬ ‫يوجب هلا قصاص أو‬ ‫تقتل آنذاك‪ ،‬ال‬ ‫َ‬ ‫دية‪ ،‬وكانت حترم من املرياث بل كانت‬ ‫تورث ضمن مرياث الزوج‪ .‬وهذا‬ ‫سلعة ّ‬

‫ما جاء اإلسالم ليصححه‪ .‬لقد أعطاها‬ ‫حق املشاركة يف احلياة السياسية عن طريق‬ ‫ّ‬ ‫البيعة‪ ،‬بيعتها للرسول‪ ،‬وإعطاء عهد‬ ‫األمان واإلجارة‪ ،‬وكفل هلا الذ ّمة املالية‬ ‫املستقلة‪ ،‬وجعل ح ّقها يف املرياث حق ًا‬ ‫أساسي ًا وأصيالً‪﴿ :‬للرجال نصيب مما ترك‬ ‫الوالدان واألقربون‪ ،‬وللنساء نصيب مما‬ ‫ترك الوالدان واألقربون مما ّ‬ ‫قل منه أو كثر‬ ‫نصيب ًا مفروض ًا﴾(النساء‪.)7:‬‬ ‫هذه‪ ،‬إذ ًا‪ ،‬هي القاعدة العامة التي‬ ‫عىل ضوئها جيب تفسري اآليات الفرعية‬ ‫األخرى‪ .‬من املنايف للعقل واملنطق أن‬ ‫يعطي القرآن للمرأة ذمة مالية كاملة‬ ‫وجيعلها رشيكة للرجل مساوية له يف‬ ‫الثواب والعقاب ويف نفس الوقت يمنع‬ ‫عنها املشاركة يف أعباء األرسة‪ .‬إن منع‬ ‫حق الكسب املادي‪ ،‬واإلنفاق‬ ‫املرأة من ّ‬ ‫ّ‬ ‫األقل‪ ،‬جيعلها عالة عىل‬ ‫عىل نفسها عىل‬ ‫أرسهتا وعىل جمتمعها‪ ،‬يفقدها ثقتها‬ ‫بنفسها‪ ،‬واحرتام اآلخرين هلا‪ ،‬وجيربها‬ ‫عىل الطاعة صاغرة للرجل الذي يتولىّ‬ ‫مسؤولية اإلنفاق عليها‪ .‬والطاعة التي‬ ‫يرضاها اخلالق العادل ملخلوقاته التي‬ ‫كرمها وطلب للمالئكة أن يسجدوا هلا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حرة‪ ،‬واعية‪،‬‬ ‫ليست طاعة العبيد‪ ،‬بل طاعة ّ‬ ‫كريمة‪ ،‬قائمة عىل االقتناع واملنطق‪﴿ .‬ولقد‬ ‫رب والبحر‬ ‫كرمنا بني آدم ومحلناهم يف ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫وفضلناهم عىل‬ ‫ورزقناهم من الطيبات‬ ‫ّ‬ ‫(اإلرساء‪)70:‬‬ ‫‪ .‬بمعنى‬ ‫كثري ممن خلقنا تفضيال﴾‬ ‫أن املرأة الواعية حترتم زوجها وتعرتف‬ ‫بمكانته عىل رأس األرسة‪ ،‬ليس غصب ًا وال‬ ‫قهر ًا‪ ،‬وال عن حاجة مادية خوف ًا من فقداهنا‬ ‫ملصدر رزقها‪ .‬ومتكينها من الكسب املادي‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 64‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫حيميها من عاديات الزمان‪ ،‬ومن جور‬ ‫األقربني‪ ،‬ومن استغالل حاجتها‪.‬‬

‫عز‬ ‫قد ُير ّد عىل هذا التحليل بأن اخلالق ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجل هو األعلم واألحكم‪ .‬ولوال علمه‬ ‫بام ال نعلم وأن هذا هو األصلح للبرشية‪،‬‬ ‫نص عليه بشكل واضح ورصيح‪ ،‬ال‬ ‫ملا ّ‬ ‫حيتمل اللبس‪ .‬إن مشكلة اخلطاب الديني‬ ‫هي أنه ينطلق دائ ًام يف مناقشة أي قضية من‬ ‫ثابت فكري ال يقبل النقاش‪ ،‬هو مرجعية‬ ‫النصوص الدينية وشموهلا لكل جوانب‬ ‫الوجود الطبيعي واالجتامعي‪ ،‬وهو املبدأ‬ ‫املعروف باسم "احلاكمية"‪ .‬لكن هذا‬ ‫املنطق يتغافل عن واقع أن فهم وتفسري‬ ‫ّ‬ ‫يظل مرهون ًا بفعالية‬ ‫هذه النصوص‬ ‫عقل املخاطبني هبذا النص‪ ،‬وبالسياق‬ ‫تتم فيه‬ ‫التارخيي االجتامعي للعرص الذي ّ‬ ‫عملية الفهم والتفسري‪ .‬من هنا يمكن أن‬ ‫نجد تفسريات واجتهادات متباينة إىل‬ ‫حدّ التناقض أحيان ًا هلذه النصوص‪ .‬إن‬ ‫استمرار التعاطي مع النصوص الدينية‬ ‫بمنطق الثبات واجلمود سوف يوصلنا إىل‬ ‫حائط مسدود‪ ،‬يؤ ّدي هدمه إىل تقويض‬ ‫دعائم البنيان الديني وأسسه‪ .‬وهذا ما‬ ‫نبغي جتنّبه من وراء أبحاثنا هذه‪ .‬البداية‬ ‫املتحرك أو القابل‬ ‫تكون من خالل حتديد‬ ‫ّ‬ ‫النص الديني‪.‬‬ ‫املتحرك يف‬ ‫للتأويل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واألحكام املتع ّلقة باملعامالت‪ ،‬واإلرث‬

‫من بينها‪ ،‬تندرج يف هذا السياق‪.‬‬

‫إن األحكام املتعلقة باإلرث هي‬ ‫أحكام اجتامعية ومالية بامتياز‪ .‬أي أهنا‬ ‫متس بأي شكل أصول الدين واملعتقد‬ ‫ال ّ‬ ‫والتوحيد والنبوة وغريها من أركان‬ ‫اإلسالم‪ .‬وهي جاءت تن ّظم أوضاع ًا‬ ‫اجتامعية كانت سائدة يف ذلك احلني‬ ‫حيث كان مبدأ توريث املرأة يعدّ ثورة‬ ‫بحدّ ذاته‪ ،‬ورفع ًا من شأهنا‪ ،‬وهي التي‬ ‫كان وجودها عار ًا‪ ،‬تُق َّيم كأحد املقتنيات‪.‬‬ ‫لكن االستمرار يف تطبيق أحكام اإلرث‬ ‫يمس ركن ًا هام ًا من‬ ‫بحرفيتها‪ ،‬أصبح‬ ‫ّ‬ ‫أركان الدين اإلسالمي وهو العدل‪ .‬ومن‬ ‫استتباعات العدل اإلهلي حرية اإلرادة‬ ‫اإلنسانية التي يشكّل العقل مفهوم ًا‬ ‫مؤسس ًا هلا‪ ،‬إن عىل مستوى املعرفة أو‬ ‫عىل مستوى الفعل‪ .‬فحني تساوى الواقع‬ ‫االجتامعي والثقايف والعلمي واإلنتاجي‬ ‫بني املرأة والرجل‪ ،‬أصبح منافي ًا للعدل‬ ‫حرماهنا من نصف مرياثها‪ ،‬بعد أن أصبح‬ ‫باإلمكان بكل بساطة تكليفها باملشاركة‬ ‫باإلنفاق داخل أرسهتا وهو واقع قائم منذ‬ ‫زمن حيث تعمل كثري من النساء ويساعدن‬ ‫يف مرصوف البيت قبل زواجهن وبعده‪.‬‬

‫د‪ .‬هالة أبو محدان‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪65‬‬

‫الشعرية‬ ‫قراءة في مجموعة الشاعر أحمد حافظ‬ ‫ّ‬ ‫ضوء إلاّ‬ ‫ُ‬ ‫أحداق الذئاب»‬ ‫«ال‬ ‫َ‬ ‫د‪ .‬علـي زيتـون‬ ‫ال يمكننا أن نتحدّ ث عن الشعر حديثا‬ ‫جا ّدا إلاّ إذا أدركنا املسافة الفاصلة بني‬ ‫املرجعي والقصيدة‪ ،‬هذه املسافة التي‬ ‫العامل‬ ‫ّ‬ ‫تنتجها رؤية الشاعر‪ .‬ورؤية الشاعر بناء‬ ‫مركّب تنداح فيه ثقافة الشاعر وقناعاته‬ ‫ومهومه واهتامماته وانفعاالته‪ ،‬حتّى‬ ‫ليصبح ُ‬ ‫املكونات‬ ‫مكون من هذه‬ ‫ّ‬ ‫أي ّ‬ ‫فصل ّ‬ ‫عن أخيه أمرا مستحيال‪ .‬تتقارض فيه‬ ‫أخص ما لدى ّ‬ ‫كل منها‬ ‫املكونات‬ ‫هذه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من خصائص‪ .‬وال يعني ذلك ّ‬ ‫أن هذه‬ ‫القوة والتأثريواحلضور‬ ‫املكونات متساوية ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن هلا عند كلّ‬ ‫فيام تقرضه أو تقرتضه‪ّ .‬‬ ‫العقدي‬ ‫شاعر شأنا خمتلفا‪ .‬والشاعر‬ ‫ّ‬ ‫املنتمي إىل حزب غري الشاعر املنتمي إىل‬ ‫الثقافة العا ّمة القائمة‪ ،‬وذاك املنتمي إىل‬ ‫قض ّية غري الشاعر اخلايل الوفاض‪ .‬فهل‬ ‫يوصلنا ّ‬ ‫كل هذا إىل ّ‬ ‫أن أمحد حافظ‪ ،‬بانتامئه‬ ‫إىل احلزب السوري القومي االجتامعي‪ ،‬قد‬ ‫صارت عقيدته القوم ّية االجتامع ّية السلطة‬ ‫العليا التي حتكم‪ ،‬داخل شعره‪ ،‬املكو ِ‬ ‫نات‬ ‫ّ‬ ‫األخرى املندرجة يف سياق رؤيته؟‬ ‫ال أقيم هنا ميزانا قيم ّيا يتحدّ د عىل‬ ‫االبداعي‪،‬‬ ‫أساسه مقام الشاعر ومستواه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عمق‬ ‫إلن الذي حيدّ د املقا َم واملستوى‬ ‫ُ‬

‫الثقافة‪ ،‬والشاعرال يكون كبريا إلاّ إذا كان‬ ‫مثقفا كبريا‪ .‬أ ّما ما أحاوله هنا فهو حتديد‬ ‫زاوية الرؤية الفضىل التي متكّن القارئ‬ ‫من النظر الدقيق إىل شعر ّية الشاعر‪.‬‬ ‫فشعر ّية الشاعر ليست سوى فرادته‪.‬‬ ‫وفرادته عني ما مكّنته ثقافته من أن يراه‬ ‫املرجعي‪ ،‬ما ّد ِة شعره‪ .‬فالشعر‬ ‫من العامل‬ ‫ّ‬ ‫ليس انعكاسا للواقع وال انكسارا له كام‬ ‫رأت مدرسة الشكل ّيني الروس ‪.‬الشعر‬ ‫املرجعي‬ ‫كشف عن عمق من أعامق العامل‬ ‫ّ‬ ‫أي شاعر آخر أن يدركه بسبب‬ ‫اليمكن ّ‬ ‫اختالف الرؤى‪ .‬فالرؤية بصمة اليشارك‬ ‫فيها أحد أحدا من خلق اهلل‪.‬أ ّما نظر ّية‬ ‫االنكسار فال خترج من دائرة التقن ّيات‬ ‫يتمرس هبا‪ ،‬والشعر ليس‬ ‫التي جييدها من ّ‬ ‫كذلك‪ .‬من هنا ّ‬ ‫فإن وضع اإلصبع عىل‬ ‫املكون األقوى يف رؤية الشاعر هو مفتاح‬ ‫ّ‬ ‫تعرف‬ ‫املقاربة العلم ّية التي متكّننا من ّ‬ ‫ما كشفته الرؤية من العامل‪ ،‬أي تعرفِ‬ ‫ّ‬ ‫خاصة‬ ‫اخلاص الفريد‪ .‬وإذا كانت مقاربتنا‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫بمجموعة أمحد حافظ "حيث ال ضو َء‬ ‫إلاّ‬ ‫أحداق الذئاب"‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫فإن املطلوب منّا أن‬ ‫نتعرف خصوص ّية الرؤية احلافظ ّية يف هذه‬ ‫ّ‬ ‫املجموعة الشعر ّية ‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 66‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫من يعد إىل جمموعة "حيث ال ضوء‬ ‫تعرف ما قرأه‬ ‫إلاّ أحداق الذئاب" حماوال ّ‬ ‫الشاعر من العامل جيد خارطة ذات أفق‬ ‫واسع ممتدّ من التاريخ واحلضارة والثقافة‬ ‫يت‪ ،‬مرورا‬ ‫الرتاث ّية‪ ،‬وصوال إىل الفنّي والذا ّ‬ ‫والعقدي‪.‬‬ ‫األخالقي‬ ‫واالنساين‪،‬‬ ‫بالوطني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وما رآه أمحد حافظ من هذا العامل‬ ‫خاص به حتّى أنّه قد مكّننا من أن‬ ‫الواسع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نرى العامل‪ ،‬وبعينه‪ ،‬واضح املعامل منتميا إىل‬ ‫ثقافة هي عني عقيدته‪ ،‬وإىل اهتاممات هي‬ ‫عني مهومه‪ .‬وعنوان املجموعة الشعر ّية مل‬ ‫ِ‬ ‫استمالح تعبري‬ ‫ُينتق ترفا‪ ،‬وال كان وليد‬ ‫جتري عليه قاعدة املجاز املرسل املعتادة يف‬ ‫ُ‬ ‫العنوان‬ ‫اختيار العناوين عا ّمة‪ .‬وإذا قدّ م هذا‬ ‫ُمناخا مثقال بالظلمة واخلطر‪ ،‬فإنّه قدّ م‬ ‫بذلك‪ ،‬واىل حدّ ما‪ُ ،‬مناخ املجموعة كاملة‪.‬‬ ‫واذا كان الضوء آية تبصرّ الوجود‪ ،‬فإنّه‬ ‫قد صار أفخاخ موت منصوبة حني تس ّلم‬ ‫الرش القدر املستحكم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قراره الذئاب‪ .‬صار ّ‬ ‫حتّى ليشعر القارئ مع هذا العنوان أنّه‬ ‫أمام استعادة ألرض إليوت اخلراب بنسخة‬ ‫مرشق ّية‪ .‬تقدّ م اإلنسان مسحوقا حمكوما‬ ‫بقدر قاس ال يرحم‪ .‬كان مرور ا ُملناخ‬ ‫املضا ّد هلذا املناخ‪ ،‬يف املجموعة‪ ،‬مرورا‬ ‫رسيعا وض ّيقا ال يشكّل حضورا متعاليا أو‬ ‫حتّى متعادال مع املناخ اآلخر‪ .‬وهذه عالمة‬ ‫دا ّلة عىل طبيعة الرؤية احلافظ ّية إىل العامل‬ ‫اإلملاع إىل منافذ للضوء متتلك‬ ‫التي مل تُعدَ م‬ ‫َ‬ ‫قابل ّية التمدّ د واالتساع‪ .‬ففي جوف العتمة‬ ‫ضوء ضئيل قيد التخ ّلق‪ .‬واملجموعة‪ ،‬بناء‬ ‫عىل ذلك‪ ،‬رحلتان‪ :‬األوىل حمكومة باللليل‬ ‫البهيم‪ ،‬وقد طالت وامتدّ ت‪ ،‬واألخرى مل‬ ‫تبدأ‪ ،‬هي قيد االنبثاق‪.‬‬

‫‪ .I‬الرحلة األوىل أو رحلة اخلريف‬ ‫كنت ابراهيم‬ ‫لو ُ‬ ‫ت البني عن قسوة منامي‪.‬‬ ‫العتذر ُ‬ ‫ت يونس‬ ‫لو كن ُ‬ ‫ت رواية عن جوف احلوت‪.‬‬ ‫لكتب ُ‬ ‫لو كنت من أصحاب الكهف‬ ‫لنقشت يقيني صورا على جدرانه‪.‬‬ ‫لو كنت نوحا‬ ‫ملنعت الضباع من ركوب السفينة‪.‬‬ ‫لو كنت غرابا‬ ‫(ص‪)5:‬‬ ‫لدفنت قابيل‪.‬‬

‫ّ‬ ‫مرات يف‬ ‫إن تر ّدد (لو كنت) مخس ّ‬ ‫شعري قصري نسب ّيا ال تتجاوز أسطره‬ ‫نص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العرشة سيكون‪ ،‬بالنسبة إىل املتل ّقي عالمة‬ ‫املرة التي‬ ‫سيامئ ّية توحي اليه بالشكوى ّ‬ ‫يطلقها الشاعر‪ ،‬تلك الشكوى التي ترينا‬ ‫غري‬ ‫العامل‪ ،‬بعني هذا الشاعر‪ ،‬عاملا مريضا َ‬ ‫سوي‪ّ .‬‬ ‫املتكررة عىل باب‬ ‫الطرقات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن هذه ْ‬ ‫اخلارطة النفس ّية الوجود ّية اإلنسان ّية للعامل‬ ‫هي إعالن احتجاج صارخ‪.‬‬

‫كيف لنوح الذي اوكل اليه‪ ،‬من خالل‬ ‫ُ‬ ‫حفظ احلياة عىل‬ ‫الديني‪،‬‬ ‫الثقايف‬ ‫املوروث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الضباع‬ ‫األرض‪ ،‬غداة الطوفان‪ ،‬أن ُيصعد‬ ‫َ‬ ‫اىل سفينته؟ ّ‬ ‫إن حياد ّية نوح يف نقل احلياة‬ ‫ورشيرها‪ ،‬من الزمن‬ ‫كام هي‪ ،‬بخيرّ ها‬ ‫ّ‬ ‫السابق للطوفان اىل الزمن التايل له هي‬ ‫املستمر يف تاريخ‬ ‫أسست للخلل‬ ‫ّ‬ ‫التي ّ‬ ‫البرش ّية‪ ،‬وبات نوح نموذج القيادة التي‬ ‫ال ترقى اىل مستوى ما هو مطلوب منها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املبدئي الذي رفعه أمحد حافظ‪:‬‬ ‫إن السؤال‬ ‫ّ‬ ‫ما جدوى الطوفان اذا مل يكن قضاء عىل‬ ‫رشاسة الضبع وقذاراته؟ وما جدوى‬ ‫الثورة؟ ّ‬ ‫النص كامنة يف هذا‬ ‫لعل شعر ّية‬ ‫ّ‬ ‫املوجه اىل التظ ّلل يف أفياء‬ ‫السؤال الكبري‬ ‫ّ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪67‬‬ ‫موجه اىل ما‬ ‫ثقافة تشيع اخلدر يف األذهان‪ّ ،‬‬ ‫يم ّثله منام ابراهيم‪ ،‬وبطن حوت يونس‪،‬‬ ‫ورقدة أهل الكهف املؤمنني‪ .‬وممّا جيدر‬ ‫ذكره يف هذا املقام ّ‬ ‫النص الذي‬ ‫أن سياق‬ ‫ّ‬ ‫وضع الغراب اىل جانب ٍ‬ ‫نوح‪ ،‬واصحاب‬ ‫وابراهيم قدّ مه واحدا‬ ‫ويونس‪،‬‬ ‫الكهف‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫حامل رسالة مثلهم‪.‬‬ ‫منهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إن حياد ّية الغراب هي املسؤولة‪ ،‬متاما‬ ‫الرش عىل األرض‪.‬‬ ‫كحياد ّية نوح‪ ،‬عن بقاء ّ‬ ‫ماذا كان يمكن أن يكون لو أنّه دفن قابيل؟‬

‫حيمل‬ ‫ويأيت سؤال القارئ‬ ‫البدهي‪ :‬هل ّ‬ ‫ّ‬ ‫أمحد حافظ املوروث الثقايف مسؤول ّية هذا‬ ‫اخللل؟ هل يرى أنّه قد زرع يف نفس‬ ‫الرش وسلطانه الذي‬ ‫االنسان يقينا بقدر ّية ّ‬ ‫اليقاوم فاستسلم له؟ هل أراد إبراز خلل‬ ‫حيتج عىل ثقافة‬ ‫تكويني يف اإلنسان؟ هل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رشير‬ ‫افرتضت أن البرش ّية من نسل قاتل ّ‬ ‫(قابيل)‪ ،‬ورأت ّ‬ ‫أن هذا النسل قد تس ّلل‬ ‫عرب ركوب الضباع السفينة؟ هل يطلق‬ ‫الذئبي الذي يسود العامل‬ ‫رصخة يف الفضاء‬ ‫ّ‬ ‫"حيث الضوء إلاّ أحداق الذئاب"؟‬ ‫عني‬ ‫املحوري‬ ‫كان سؤال الشاعر‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫نصه‪ ،‬فهل حرض‬ ‫رؤيته‪ ،‬أي ّ‬ ‫عني شعر ّية ّ‬ ‫نص املجموعة‬ ‫هذا املناخ الذي شهدناه يف ّ‬ ‫التدمري؟‬ ‫األول‪ ،‬يف يوم الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لم أشهدْ في الساحة اّ‬ ‫شلال ِ‬ ‫ت الفجر‬ ‫وال‬ ‫أجراس األبدْ‬ ‫َ‬ ‫ت شهيقَ‬ ‫نصال تُطلى ُس ّما‪،‬‬ ‫سمع ُ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫وفحيح القيد العاصر مهجة ز ّنو ِب ّيا‬ ‫َ‬ ‫إذ تنقش زأرتها احل ّرى‬ ‫(ص‪)9:‬‬ ‫فوق شوارع روما‪.‬‬

‫ترتكز حمور ّية هذه املقطوعة الشعر ّية‬

‫اىل ثنائ ّية (النفي "مل أشهد"‪/‬االثبات‬

‫"سمعت")‪ .‬واملسافة بني هذين القطبني‬

‫ممض عند الشاعر‪.‬‬ ‫مسافة وجع‬ ‫ّ‬ ‫فالكلمتان الزمان ّيتان ‪( :‬الفجر) و(األبد)‬ ‫املنف ّي ُة مشاهدتهُ ام ترمزان اىل (الوالدة)‬ ‫و(االستمرار) املجهضني‪ .‬قدّ مت إضافة‬ ‫كلمة (شلاّ الت) اىل كلمة الوالدة (الفجر)‬ ‫هذه الوالدة تد ّفقا يف العطاء‪،‬واخترصت‬ ‫رؤية أمحد حافظ اىل التجربة التدمر ّية‬ ‫ثم انطفأت‬ ‫التي شهدت رونقها مع زنوبيا ّ‬ ‫احلرى فوق شوارع روما‪( .‬مل‬ ‫مع زأرهتا ّ‬ ‫اشهد) نفي قدّ م اليوم التدمري زمانا‬ ‫حاسة البرص‪ ,‬فكيف هي‬ ‫مفرغا بالنسبة اىل ّ‬ ‫حاسة السمع التي جاء‬ ‫احلال بالنسبة اىل‬ ‫ّ‬ ‫فعلها مثبتا؟ وماذا سمع؟ سمع (شهيقا)‬ ‫و(فحيحا)‪ ،‬وزأرة‪ .‬واذا كان الشهيق‬ ‫والفحيح من ح ّيز الطرف املعتدي الذي‬ ‫اكتسب هوية األفعى‪ ،‬فان الزأرة من ح ّيز‬ ‫املعتدى عليه‪ ،‬زنوبيا التي اكتسبت هوية‬ ‫اللبوءة‪ .‬واذا ما ُو ِصفت تلك الزأرة باهنا‬ ‫(حرى) بدت زنوبيا لبوءة تعاين من ضيم‬ ‫ّ‬ ‫األرس‪ ،‬يف بالد األعداء‪ ،‬ما تعاين‪ .‬يعني‬ ‫كل ذلك ّ‬ ‫أن التجربة التدمرية قد جاءت‬ ‫تصحر بعد خصب‪ ،‬فهل وراء هذا‬ ‫اشارة‬ ‫ّ‬ ‫التصحر عود عىل بدء؟ يتساوق مع غياب‬ ‫ّ‬ ‫الشالالت‪ ،‬عرب النفي‪ ،‬غياب آخر عن‬ ‫غياب العايص‪.‬‬ ‫تدمر هو‬ ‫ُ‬ ‫ك ّ‬ ‫ف (العاصي) عن تسريح جدائله‬ ‫في هذه الواحة‬ ‫وتب ّقت أقني ٌة كندوب الواحة‬ ‫فوق ظهور األسرى‬ ‫ب ينضح‪ ،‬بني األعمدة‬ ‫وسرا ٌ‬ ‫عبيد‬ ‫كالعرق الفائر من أكتاف ٍ‬ ‫حفروا باألظفا ِر‬ ‫(ص‪)10:‬‬ ‫ب األمراء‪.‬‬ ‫سرادي َ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 68‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫(كف) املسند اىل العايص‬ ‫جاء الفعل‬ ‫َّ‬ ‫ليسبغ من عطاياه‪ ،‬عىل الكلامت التي‬ ‫تبعته‪ ،‬ما يدخلها باب الشعر ّية من باهبا‬ ‫فالكف عزوف بعد ممارسة‪.‬‬ ‫العريض‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وهو الذي جعل ما خ ّلفه من أقنيه ورساب‬ ‫يضجان بتاريخ الظلم الذي مورس ضد‬ ‫ّ‬ ‫(ندوب فوق ظهور األرسى)‪،‬‬ ‫االنسان‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫فائر من اكتاف العبيد)‪ ،‬حتى‬ ‫و(عرق‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫لكأن العايص مهجة أخرى عرصها القيد‬ ‫(األفعى) الذي عرص مهجة زنوبيا‪ ،‬او‬

‫حتى لكأن زنوبيا والعايص وجهان‬ ‫حلقيقية واحدة‪ .‬وكام كان حضور زنوبيا يف‬ ‫تدمر رمز والدة فجر‪ّ ،‬‬ ‫فان حضور العايص‬ ‫ونفي لوجود‬ ‫يف تلك الواحة رمز رشاكة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫تصحر‬ ‫كف بات عالمة‬ ‫حدود‪ .‬وهو حني ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫انحالل وبروز حدود تواجه‬ ‫واشارة‬ ‫رشعية املجتمع‪.‬‬ ‫التدمري اىل‬ ‫واذا انتهى اليو ُم‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫التصحر ليس قدر ًا‪ ،‬ألن‬ ‫ايامءة تفيد أن‬ ‫ّ‬ ‫املجلودين‪ ،‬داخل املشهدية الكنائ ّية‬ ‫النص‪ ،‬انام‬ ‫التارخي ّية التي قام عليها ّ‬ ‫يسنّون على حجر األخ‬ ‫مخالب نقمتهم‬ ‫شا ّقني بهاماتهم الزرقاء‬ ‫(ص‪)10:‬‬ ‫جليد اجلدران‪.‬‬

‫ّ‬ ‫فان قصيدة "هامش عىل (طبائع‬ ‫االستبداد)" قد اعادتنا اىل مناخ يقوم عىل‬ ‫ّ‬ ‫الرش عىل االنسان قدر حمتوم‪.‬‬ ‫أن حاكم ّية ّ‬ ‫الكواكبي أنّ االستبداد‬ ‫فات‬ ‫َّ‬ ‫عصي أطول من التاريخ‬ ‫ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫أغلظ من اللعنات‬ ‫أمضى من الصواعق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يهش بها الرعا ُة على القطيع املمت ّوج‬ ‫من دفقة الصلصال‬

‫حتى نفيرالصور‪.‬‬

‫(ص‪)11:‬‬

‫استحرض الشاعر‪ ،‬من أجل ان يقرأ‬ ‫َ‬ ‫تاريخ البرشية املمتدَ بسمته األبرز‪ ،‬رمزا‬ ‫الكواكبي‬ ‫من رموز مفكّري عرص النهضة‬ ‫َّ‬ ‫الشهري "طبائع االستبداد"‪ .‬ولئن‬ ‫وكتابه‬ ‫َ‬ ‫كانت إضافة (طبائع) اىل (االستبداد)‬ ‫تأصل االستبداد يف‬ ‫شديدة الداللة عىل ّ‬ ‫النفس البرشية بصفته طبع ًا من طبائعها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فان تعدية الفعل (فات) اىل (الكواكبي)‬ ‫مت َّثل اشارة تصعيد ّية عىل س ّلم املبالغة‬ ‫البرشي وجها كالح‬ ‫يف تقديم التاريخ‬ ‫ّ‬ ‫السواد‪ .‬ومل يقف املشهد الذي رآه الشاعر‬ ‫للتاريخ عند هذه احلدود‪ .‬جاءت مشاهبة‬ ‫(بالعيص) لتستحرض التعذيب‬ ‫االستبداد‬ ‫ّ‬ ‫باجللد وما فيه من اخضاع للجسد قصد‬ ‫الوصول اىل إخضاع الروح‪ ،‬وبام يقدّ م‬ ‫االستبداد‪ ،‬ومن خلفه‪ ،‬حركة التاريخ‬ ‫وجهني حلقيقة واحدة‪.‬‬ ‫وال يكتمل املشهد هبذه املشاهبة‬ ‫البسيطة‪ .‬يدخل التشبيه مرحلة الرتكيب‬ ‫(فالعيص‬ ‫والتكثيف عرب ّبوابة الوصف‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫أطول )‪ ،‬وهي (أغلظ )‪ ،‬وهي (أمىض)‪،‬‬ ‫وصوال اىل دائرة املجاز‪ ،‬حيث جيعل‬ ‫ُ‬ ‫التاريخ من (الطول) امتدادا أسطور ّيا‪،‬‬ ‫(اللعنات) عىل (الغلظ) ّ‬ ‫كل‬ ‫وتسبغ‬ ‫ُ‬ ‫(الصواعق‬ ‫السفيل‪ ،‬وتعطي‬ ‫جحيم ّية العامل‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫املضا َء) رهافة سيوف املوت الزؤام ‪.‬‬

‫االستبدادي للتاريخ‬ ‫وال يقف املشهد‬ ‫ّ‬ ‫البرشي عند هذه احلدود‪ .‬فاالستبداد‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫(العيص) أدخله الفعل (هيش) دائر َة‬ ‫ّ‬ ‫الديني‪ ،‬مسحرضا موسى وعصاه‪ ،‬آي َة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أهش هبا عىل‬ ‫نبوتِه‪ :‬هذي "عصاي‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫النص‬ ‫بق‬ ‫ي‬ ‫مل‬ ‫التي‬ ‫العصا‬ ‫تلك‬ ‫غنمي"‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪69‬‬ ‫منها إلاّ‬ ‫ّ‬ ‫(اهلش)‪ ،‬آلة تطويع الغنم بيرس‬ ‫لرغبة الراعي‪ .‬هذه اآللة التي تطوي حتت‬ ‫والوجع‪ ،‬والطاع َة العمياء‪.‬‬ ‫عباءتهِ ا‪ :‬اجلَلدَ ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وإذا اتخّ ذ احلاكم‪ ،‬عرب التاريخ‪ ،‬هيأة‬ ‫والبرش مجي ُعهم هيأ َة القطيع‪ ،‬جاء‬ ‫الراعي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بالديني‪ :‬من (دفقة‬ ‫الزمني مفعام‬ ‫التحديد‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الصلصال) إشارة اىل خلق االنسان من‬ ‫األول‪" ،‬حتّى‬ ‫الطني‪ ،‬يو َم شهد وجو َده‬ ‫ّ‬ ‫نفري الصور" إشارة اىل فكرة القيامة وهناية‬ ‫البرشي عىل األرض‪ .‬ولقد حال‬ ‫التاريخ‬ ‫ّ‬ ‫هذا الزمان‪ ،‬من خالل امساكه امتداد‬ ‫البرشي عىل األرض‪ ،‬دون امكان ّية‬ ‫الوجود‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫وجود مرحلة تغيب عنها (عصا) االستبداد‪.‬‬ ‫االستبداد قدر االنسان يف وجوده‪،‬‬ ‫مرة املذاق‬ ‫والتاريخ‪ ،‬بعني شاعرنا‪ ،‬حقيقة ّ‬ ‫مرة‬ ‫تستحرض عنوان املجموعة الشعر ّية ّ‬ ‫أخرى "حيث ال ضوء إلاّ‬ ‫ُ‬ ‫أحداق الذئاب"‪.‬‬ ‫(احلمل‪/‬اإلسقاط) وجيزة‬ ‫وحترض ثنائ ّية‬ ‫ْ‬ ‫يف املجموعة من خالل قصيدة "الويمبي"‪.‬‬ ‫ليس حتديثا للمكان‬ ‫وال غسال للذاكرة‬ ‫هو تغيي ٌر لوظيفة الرصيف‬ ‫بدل املقهى الذي رفع‬ ‫ت غزو‬ ‫رأس املدينة ذا َ‬ ‫َ‬ ‫ُب ِسطت‬ ‫(ص‪)89:‬‬ ‫رفو ُ‬ ‫ِ‬ ‫األحذية اللماعة‪.‬‬ ‫ف‬

‫فمشهد (الويمبي) الذي تقدّ مه هذه‬ ‫انقالب يف املقاييس‪،‬‬ ‫القصيدة الصغرية‬ ‫ٌ‬ ‫سقوط من علياء الرأس اىل وضاعة‬ ‫القدمني‪ .‬ويشكّل ُ‬ ‫مثل هذا السقوط عالم ًة‬ ‫التصحر‪ .‬واذا‬ ‫مصب‬ ‫تصب يف النهاية‬ ‫دا ّل ًة‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫أردنا تعبريا أكثر د ّقة قلنا ‪ :‬هو من قبيل‬ ‫احلمل‪ .‬وعمل ّية االسقاط حتمل‪،‬‬ ‫إسقاط‬ ‫ْ‬

‫ضمن ما حتمله‪ ،‬إشارة قو ّية اىل وجود‬ ‫محل)‪ ،‬اىل حماولة سالفة‪ .‬واإلسقاط‬ ‫( ْ‬ ‫يضمر إمكان ّية ٍ‬ ‫محل ثانية ‪.‬فهل حتتمل هذه‬ ‫القصيدة مثل هذا البعد التفاؤ ّيل؟‬

‫يبدو نفي غسل الذاكرة كأنّه‬ ‫نفي للسقوط من دون أن يكون تثبيتا‬ ‫ٌ‬ ‫لالنتصار‪ .‬يعني أنّه عالمة مص ِّللة للوهلة‬ ‫األوىل‪ .‬حتّى اذا عرفنا ّ‬ ‫أن ما أصاب‬ ‫رصيف الويمبي هو ما أصاب املساجد‬ ‫َ‬ ‫والكنائس الفلسطين ّية عىل يد اإلرسائيل ّيني‬ ‫حولوها اىل حظائر‪ ،‬زالت غشاوة‬ ‫حني ّ‬ ‫التضليل‪ .‬فاليد التي امتدّ ت اىل مساجد‬ ‫فلسطني وكنائسها هي التي امتدّ ت اىل‬ ‫الرصيف الذي رفع رأس املدينة‪ .‬وعبارة‬ ‫(ذات غزو) ليست اشارة كم ّية‪ ،‬اىل عدد‬ ‫من الغزوات‪ ،‬هي اشارة نوع ّية‪ .‬ما حدث‬ ‫لرصيف مقهى الويمبي غزو من نوع آخر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فهل أبقى ُ‬ ‫الغزو إمكان ّية الحتامل‬ ‫مثل هذا‬ ‫مح ٍل جديد؟‬ ‫ْ‬

‫‪ .II‬الرحلة الثانية أو رحلة الربيع‬

‫تأيت فلسطني‪ ،‬بأسامئها احلسنى‪،‬‬ ‫لتشكّل وحدها بؤرة االحتقان والثورة‪.‬‬ ‫ويندرج يف طليعة تلك األسامء (مفتاح‬ ‫األسايس‪،‬‬ ‫النازح)‪ .‬واذا محل العنوان‬ ‫ّ‬ ‫الديني‪َ ،‬أمارات اجلامل‬ ‫من خالل فضائه‬ ‫ّ‬ ‫والقوة والتفاؤل‪ ،‬انتقلت‬ ‫واحلق‬ ‫واخلري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفرعي‬ ‫بالبنوة اىل العنوان‬ ‫هذه األمارات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫"مفتاح النازح"‪.‬‬ ‫مفتاح النازح مثال‪:‬‬ ‫خذ‬ ‫َ‬ ‫قد يبدو‬ ‫من النظرة األولى‬ ‫حنني يثبت الهو ّية‪،‬‬ ‫وش َم ٍ‬ ‫أيقون َة ذكرى تسمتطر املواويل‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 70‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫صدوع املكانني‪:‬‬ ‫ترم‬ ‫َ‬ ‫تعويذ َة ٍ‬ ‫دفء مّ‬ ‫األصيل اخلاوي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫واملستعا ِر البارد‪.‬‬ ‫لكنّه‪ ،‬أيضا‪ ،‬جم ُر احلقيقة‬ ‫مضموما في الك ِّ‬ ‫ف‬ ‫لتسري شرار ُة الصح ِو‬ ‫َ‬ ‫من أطرا ِ‬ ‫قمة الرأس‪.‬‬ ‫ف األنامل الى ّ‬ ‫معد ٌن بار ٌد‬ ‫يلسع اجلسدَ أيمنا حلّ‬ ‫سوا ٌء ُع ِّلق في الصدر‬ ‫أم ُخ ِّبئ في اجلي ِ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫تدرك الروح أ ّنها عريان ٌة‬ ‫كي‬ ‫ما دامت في املنفى‪.‬‬ ‫استفهام مع ّلق ٌة‬ ‫عالم ُة‬ ‫ٍ‬ ‫متتحن البصير َة باألسئلة‪،‬‬ ‫(ص ‪)39‬‬ ‫وتفتح في اجلدران نوافذ‪.‬‬

‫عبارتان تتصالن بضمري املفتاح‬ ‫النص املقتطف من دالية‬ ‫أمسكتا هذا‬ ‫ّ‬ ‫القصيدة مها‪( :‬قد يبدو) و(لكنّه‪ ،‬أيضا)‪،‬‬ ‫وتبادلتا الدور واحلضور‪ .‬حتمل العبارة‬ ‫األوىل (قد يبدو)‪ ،‬حيث ُت ْثقل (قد)‬ ‫التقليل ّية فعل التبدّ ي (يبدو)‪ ،‬أبعادا‬ ‫سلبية؛ وإلاّ ما سبب حضور ّ‬ ‫كل من‬ ‫االستدراك (لكنّه) ذي الضمري العائد اىل‬ ‫املفتاح‪ ،‬واملفعول املطلق (أيضا)؟‬

‫االستدراك وظيفة تصويب ّية متعدّ ية اىل‬ ‫(التبدّ ي) املض ِّلل‪ ،‬واملفعول املطلق تأكيد‬ ‫صوبه االستدراك‪ .‬فتبدّ ي مفتاح النازح‬ ‫ملا ّ‬ ‫أي عالمة‬ ‫وشام‪ ،‬وأيقونة‪ ،‬وتعويذة‪ ،‬أو َّ‬ ‫ٌ‬ ‫مرتبط‬ ‫نفيس‬ ‫من عالمات البداوة‪ ،‬هو تبدٍّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫النفس الفاعلة‪ .‬وحني‬ ‫بالنفس املنفعلة‪ ،‬ال‬ ‫يكون املكان األصيل خاويا‪ ،‬واملستعار‬ ‫باردا‪ ،‬فمن أين لتعويذة حمتاجة اىل الدفء‬ ‫أن تدفئ أو تر ّمم؟ وقل األمر نفسه‬ ‫بالنسبة اىل الوشم واأليقونة‪ .‬ويأيت املشهدُ‬

‫ُ‬ ‫املفعم باملجاز‪،‬ليغ ّلب‬ ‫املستدرك‬ ‫الكنائي‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫رؤي َة الشاعر اىل املفتاح عىل رؤيتنا‪ ،‬رؤيةِ‬ ‫النظرة األوىل‪ ،‬وليكشف لنا عن الطبقة‬ ‫العميقة التي تبدّ ت لعيني الشاعر من ذلك‬ ‫ٌ‬ ‫و(معدن بارد‬ ‫املفتاح‪ .‬فهو‪( :‬مجر احلقيقة)‬ ‫يلسع) و(عالم ُة استفها ٍم مع ّلق ٌة متتحن‬ ‫البصرية باألسئلة‪ ،‬وتفتح يف اجلدران‬ ‫نوافذ)‪ .‬صار املفتاح استاذا ومدرسة‬ ‫يب بالنامء‪ ،‬ويدلاّ نه‬ ‫يتعهدان العقل العر ّ‬ ‫ّ‬ ‫اىل الطريق عرب النوافذ التي فتحاها يف‬ ‫اجلدران املتص ّلبة الصماّ ء‪.‬‬

‫لقد متركز الضوء جنينا يف رحم مفتاح‬ ‫النازح مم ّثال القض ّية الفلسطين ّية‪ .‬هذه‬ ‫ستحرر العرب من أوهامهم‬ ‫القض ّية التي‬ ‫ّ‬ ‫وخوائهم ّ‬ ‫وكل أمراضهم‪.‬‬ ‫ويبقى ّ‬ ‫أن الشاعر قد استحرض لغة‬ ‫األساطري مشاهدَ تؤاخي احلقيق ُة فيها‬ ‫العادي‬ ‫األسطوري عن‬ ‫ويشف‬ ‫املجاز‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األسطوري‪ .‬فاذا املجموعة‬ ‫والعادي عن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشعر ّية التي بني يدينا أسطور ٌة من‬ ‫أساطرينا مت ّثل قراءة عميقة لواقعنا احلا ّيل‬ ‫والتارخيي‪ .‬وهي دليل عافية بقدر ما هي‬ ‫ّ‬ ‫دليل مرض‪ .‬تبصرِّ وجدانَنا باألبواب‬ ‫ّ‬ ‫املغلق‬ ‫لكأن‬ ‫املغ ّلقة‪/‬املفتوحة‪ .‬حتّى‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫مسكون يف أعامق أعامقه باالنفتاح‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مسكون بمخاطر االنغالق‪ .‬إنهّ ا‬ ‫واملفتوح‬ ‫َ‬ ‫شفاؤنا من أوهامنا كام أراد هلا فارسها‬ ‫ِ‬ ‫منطلقا من ثقافته التي هي عني‬ ‫أن تكون‬ ‫عقدته‪ ،‬ومن اهتامماته التي هي عني مهومه‪.‬‬

‫د‪ .‬علـي زيتـون‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪71‬‬

‫سمييولوجية)‬ ‫بنيوية (ألسنية ـ‬ ‫قراءة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫(*)‬

‫لقصيدة «صوت وسوط» لـ محمود درويش‬ ‫ـ‪I‬ـ‬ ‫د‪ .‬هـدى املعـدرانـي‬ ‫مهاد نظري‬

‫نص ًا ونقوم بتحليله؟‬ ‫ماذا يعني أن نقرأ ّ‬ ‫ما العالقة بني الكتابة اإلبداعية اخلالصة‬ ‫والكتابة التحليلية؟ هل يمكن ألحدامها‬ ‫االستغناء عن األخرى؟‬ ‫إذا كانت اإلجابة عن السؤال األخري‬ ‫بالنفي فام هو التحليل؟ وماذا يقدّ م للنص‬ ‫اإلبداعي؟‬

‫القراءة التحليلية هي إعادة كتابة‬ ‫للنص اإلبداعي‪ .‬هي «غري الرشح‬ ‫الذي قصاراه قراءة النص لغوي ًا ونحوي ًا‬ ‫ومضموني ًا فحسب؛ إذ املحلل ال يرضيه‬ ‫ذلك حتى يقرأه مجالي ًا‪ ،‬وفني ًا‪ ،‬وتارخيي ًا‬ ‫(سياقي ًا)‪ ،‬وربام بنيوي ًا‪ ،‬وسيامئي ًا؛ وربام‬ ‫اجتامعي ًا ونفسي ًا أيض ًا‪ ،‬جمتهد ًا ما استطاع‬ ‫االجتهاد يف االقرتاب من الكتابة‬ ‫اإلبداعية التي حتاول ّ‬ ‫فك شفرات لغته‪،‬‬

‫ولتنتهي إىل تفسري رموز عنارصه األلسنية‬ ‫ِ‬ ‫أنساقها يف النص‪/‬‬ ‫ومراميها الداللية َعبرْ َ‬ ‫املوضوع»(‪.)1‬‬

‫يبحث املبدع عن األفكار ويصوغها‬ ‫يف لغة يسعى أن متتاز بالفرادة الداللية‪.‬‬ ‫واملح ّلل هو الذي يتم ّعن يف هذه اللغة‬ ‫ّ‬ ‫وحيل ألغازها ويقرأ‬ ‫فيفك رموزها‬ ‫شيفراهتا ويتبينّ مجاليتها وأدبيتها ويظهرها‬ ‫للمأل‪ .‬فهو يغوص يف أعامق النص ليصل‬ ‫إىل املعنى ويسعى إىل تأويله كي ال جيعل‬ ‫النص أسري وجهة نظر حتليلية واحدة‪.‬‬ ‫ينطلق املحلل من فكرة مفادها إمكان ّية‬ ‫انفتاح النص األديب عىل رشوحات متعدّ دة‬ ‫فيحاول املحلل إظهار اإلبداع والدالالت‬ ‫يف النص‪ .‬وكام سعى مبدع النص إىل حتميل‬ ‫ُطرق من ذي قبل‪ ،‬يسعى‬ ‫لغته أفكار ًا مل ت َ‬ ‫املحلل ألن يكون مبدع ًا يف قراءته للنص‬ ‫واكتشاف أرساره وخباياه اإلبداع ّية‪.‬‬

‫(*) ننرش يف العدد هذا هذا القسم من بحث الدكتورة لـ هدى املعدراين‪ .‬وسننرش بقية البحث يف العدد‬ ‫القادم‪.‬‬ ‫(‪ )1‬عبد امللك مرتاض‪ ،‬شعرية القصيدة قصيدة القراءة حتليل مركب لقصيدة أشجان يامنية‪ ،‬بريوت‪ :‬دار‬ ‫املنتخب العريب‪ ،‬ط‪ ،1994 ،1‬ص ‪.16‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 72‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫إذ ًا القاسم املشرتك بني اإلبداع‬ ‫والتحليل هو اللغة "منها ينطلقان وإليها‬ ‫ينتهيان مآالً"(‪ .)2‬يقدّ م املبدع بنات أفكاره‬ ‫بوساطة اللغة‪ ،‬ويقوم املحلل برشحها‬ ‫وتفسريها وتبيان مستوياهتا وعالقاهتا‪.‬‬

‫ومن اللغة داخل األدب ومستوياهتا‬ ‫وعالقاهتا ينطلق هذا البحث «فاأللسنية‬ ‫تنطلق من مفهوم املستويات معتربة اللغة‬ ‫ظاهرة متعدّ دة الرتاكيب‪ .‬فمن مستوى‬ ‫صويت إيقاعي‪ ،‬إىل مستوى رصيف يتناول‬ ‫خصائص املفردات التي تتألف من‬ ‫األصوات‪ ،‬إىل مستوى اجلمل التي تتألف‬ ‫من املفردات إىل مستوى داليل ُيعبرّ عن‬ ‫املعاين‪ ،‬إىل أنامط من البيان تبتعد عن النمط‬ ‫العام يف استعامل اللغة كوسيلة اجتامعية‬ ‫للتفاهم بني الناس عىل احلاجات غري‬ ‫اللغوية»(‪ ،)3‬ألن اللغة «بنية يتم إظهارها‬ ‫من خالل حلظ وحداهتا األساسية»(‪.)4‬‬ ‫ولكن ال تتموضع هذه الوحدات يف النص‬ ‫كام هي قي نظامها اللغوي ألهنا تعيش‬ ‫االنزياح داخل النص‪ .‬واالنزياح هو‬ ‫خرق للنظام اللغوي املعجمي والرصيف‬ ‫والنحوي‪ .‬وتكون نتيجة هذا اخلرق اجلدة‬ ‫واجلامل والفرادة‪ ،‬وهذا ما يم ّيز عم ً‬ ‫ال أدبي ًا‬ ‫من آخر‪ .‬لذا ستكون مقاربة النص «عىل‬ ‫ضوء السيامئية؛ ألننا مع النظام الشعري‬

‫نجد أنفسنا أمام عملية خروج شاملة‬ ‫ومتكاملة من النظام اللغوي السويرسي‬ ‫إىل النظام السيامئي‪ .‬تضع الشعرية ك ً‬ ‫ال‬ ‫من املعجم واملستوى الرصيف واملستوى‬ ‫(‪)5‬‬ ‫النحوي عىل احلياد»‪.‬‬

‫يقوم هذا البحث بقراءة نص حممود‬ ‫درويش "صوت وسوط"(‪ )6‬قراءة ألسنية‬ ‫بنيانية سيامئية بغية البحث عن اجلاملية‬ ‫األدبية فيه‪ .‬لن يتم ذلك من خالل رشح‬ ‫مبسط لأللفاظ الصعبة التي حيتوهيا‬ ‫لغوي ّ‬ ‫النص أو من خالل نثر األبيات الشعرية‪.‬‬ ‫إنام سنعمد إىل الغوص يف أغوار هذا النص‬ ‫والعناية بجزئياته وتفكيكها وحتليلها ومن‬ ‫ثم إعادة تركيبها الكتناه أرسار مجالية النص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألن تعاملنا مع النص سيكون‬ ‫الكل ّية‪.‬‬ ‫بصفته بناء متكام ً‬ ‫ال تُبنَى داللتة بتشابك‬ ‫ليتكون منها‬ ‫اجلزئيات وترابطها وتداخلها‬ ‫ّ‬ ‫عمل ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫كامل ال يمكن فصل أجزائه املرتابطة‬ ‫بعضها ببعضها اآلخر‪ .‬وقد اقتضت القراءة‬ ‫أن تمُ َّثل حتت ست زوايا‪:‬‬ ‫‪ )1‬قراءة تشاكلية سيامئية للعنوان‪.‬‬ ‫‪ )2‬دراسة إيقاعية للنص‪.‬‬ ‫‪ )3‬دراسة حيادية النظام اللغوي‪.‬‬ ‫‪ )4‬دراسة العالقات يف النص‪.‬‬ ‫‪ )5‬قراءة الشيفرات الثقافية والرموز‪.‬‬ ‫‪ )6‬النص والعامل وااليديولوجيا‪.‬‬

‫(‪ )2‬عبد امللك مرتاض‪ ،‬شعرية القصيدة قصيدة القراءة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫(‪ )3‬مرتي بولس‪ ،‬أبحاث يف األلسنية العربية‪ ،‬لبنان‪ :‬فؤاد بيبان ورشكاه‪ ،‬ط‪ ،1988 ،1‬ص ‪.77 ،76‬‬ ‫(‪ )4‬ميشال زكريا‪ ،‬املدخل إىل علم اللغة احلديث‪ ،‬مؤسسة نعمة للطباعة‪ ،‬ط‪ ،2002 ،1‬ص ‪.366‬‬ ‫(‪ )5‬عيل زيتون‪ ،‬النص الشعري املقاوم يف لبنان البنية والداللة‪ ،‬بريوت‪ :‬احتاد الكتاب اللبنانيني‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫‪ ،2001‬ص ‪.125‬‬ ‫(‪ )6‬حممود درويش‪ ،‬عاشق من فلسطني قصيدة «صوت وسوط»‪ ،1966 ،‬يوان حممود درويش‪ ،‬املجلد‬ ‫األول‪ ،‬ط‪ ،1994 ،14‬ص ‪86‬ـ‪.88‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪73‬‬ ‫‪ .I‬سيامئية العنوان‬

‫"صوت‬ ‫أول ما يطالعنا يف العنوان‬ ‫ْ‬ ‫وسوط" أنه مشتمل عىل شبكة من‬ ‫ْ‬ ‫العالقات األلسنية والسيامئية‪:‬‬

‫‪ .i‬يلحظ القارىء تشاك ً‬ ‫ال بني جزئي‬ ‫هذه الوحدة من الناحية النحوية‬ ‫واملورفولوجية والرصفية واللفظية‬ ‫واملجازية‪ .‬وتشكل هاتان الكلمتان‬ ‫جناس ًا غري تام ُيلتَبس من الناحة‬ ‫السمعية باحلناس التام‪.‬‬

‫نتلمس تشاك ً‬ ‫يتجسد‬ ‫ال آخر‬ ‫ّ‬ ‫‪ .ii‬يمكننا أن ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫أن كليهام حيدث ضجة وأثر ًا‬ ‫سمعي ًا‪ .‬فالصوت هو "األثر السمعي‬ ‫الذي حتدثه متوجات ناشئة عن اهتزاز‬ ‫جسم ما"(‪ ،)7‬أو هو "كل رضب من‬ ‫(‪)8‬‬ ‫رضب به من‬ ‫الغناء" ‪ .‬والسوط "ما ُي َ‬ ‫جلد"(‪ )9‬إذن للصوت والسوط أثر‬ ‫فيزيائي ومن ثم أثر نفيس‪.‬‬ ‫‪ .iii‬يربز تشاكل آخر إذ ينتمي ٌّ‬ ‫كل منهام إىل‬ ‫اإلنسان‪ .‬إذا عددنا الصوت "صوت‬ ‫اإلنسان وغريه"(‪ )10‬يكون مصدره‬ ‫اللسان الذي هو جزء من اجلسم وهو‬ ‫جزء من اجلسم البرشي يف هذا النص‪.‬‬ ‫وكذلك احلال بالنسبة إىل السوط‪ .‬فإذا‬ ‫«وسمي السوط‬ ‫تبن ّينا سبب تسميته‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫سوط ًا ألنه إذا سيط به إنسان أو دابة‬ ‫ُخ ِلط الدم باللحم»(‪ .)11‬والدم واللحم‬

‫ال يكونان إال يف جسم والسوط يف هذه‬ ‫القصيدة سيط به اجلسم اإلنساين‪.‬‬

‫‪ .iv‬يمكن أن نلحظ عالقة علة بينهام‬ ‫فيكون الصوت سبب السوط أو‬ ‫العكس‪ .‬فالصوت تعبري عن دور‬ ‫للمتكلم ووظيفة جتعل له دور ًا فاع ً‬ ‫ال‬ ‫خترجه من دائرة اخلنوع والضعف‬ ‫والقبول‬ ‫واالحباط‬ ‫والصمت‬ ‫واالستسالم والرضوخ‪ .‬هذا الصوت‬ ‫املدافع عن األرض واحلرية امليلء‬ ‫بالقوة والتفاؤل الذي يستخدمه‬ ‫الفلسطيني أو الذي هيتف به الشاعر‬ ‫يف هذا النص هو نتيجة للسوط‬ ‫الصهيوين الظامل القاتل الغادر‪.‬أو قد‬ ‫يكون السوط نتيجة للصوت فيستعمل‬ ‫الصهيوين السوط ضد كل من يناوئه‬ ‫برأيه‪ .‬وهذا ما ُيربز ثقافتني‪ :‬إحدامها‬ ‫مناونة لألخرى‪ .‬ثقافة الصوت التي‬ ‫والتمسك باحلق والدفاع‬ ‫متثل املقاومة‬ ‫ّ‬ ‫عنه ورشعة احلقوق اإلنسانية‪ .‬وثقافة‬ ‫السوط املبنية عىل القمع واالضطهاد‬ ‫والتعذيب والقتل‪.‬‬ ‫وهكذا يضعنا هذا العنوان أمام ثنائية‬ ‫متباينة وهي الصوت‪/‬السوط فيختزل‬ ‫العنوان رصاع أمة ضد العدو‪ .‬الصوت‬ ‫وسيلة تعبري يستخدمها املظلوم‪ ،‬والسوط‬ ‫وسيلة قمع يستخدمها الظامل‪ .‬ويمثل‬ ‫العنوان بعد ًا رمزي ًا استعاري ًا يكشف‬

‫(‪ )7‬معجم اللغة العربية‪ ،‬املعجم الوجيز‪ ،‬ايران‪ :‬منشورات دار الثقافة‪ ،1999 ،‬ص ‪.373‬‬ ‫(‪ )8‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬باب ت‪ ،‬فصل ص‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫(‪ )9‬جممع اللغة العربية‪ ،‬املعجم الوجيز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.328‬‬ ‫(‪ )10‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬بات ت‪ ،‬فصل ص‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.57‬‬ ‫(‪ )11‬املصدر نفسه‪ ،‬باب ط‪ ،‬فصل س‪ ،‬ص ‪.326‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 74‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫دالالت النص فيخرج الصوت من هويته‬ ‫االصلية (مما يسمع) ليتل ّبس هوية فنية ال‬ ‫ختترص جتربة الشاعر فحسب‪ ،‬لكنها ختترص‬ ‫جتربة األمة وهي حتاول رفع الصوت يف‬ ‫وجه السوط الذي يمثل العدو الصهيوين‪.‬‬ ‫أو قد يتلبس الصوت هوية الشاعر القادر‬ ‫عىل مقاومة جربوت املحتل والصدح‬ ‫بأشعار ّ‬ ‫تبث احلامسة يف نفوس املقاومني‬ ‫فيتساوى الشاعر واملقاوم يف مواجهة‬ ‫العدو مع اختالف أسلحتهام وبخاصة‬ ‫شعر حممود درويش القائل‪:‬‬ ‫أطعمـت للريـح أبيــاتي وزخــرفـها‬ ‫إن لم تكن كسيوف النار‪ ..‬قافيتي‬

‫(‪)12‬‬

‫وتُربز (الواو) العاطفة بني االسمني‬ ‫تالزم الصوت والسوط‪ .‬وهذا يثري‬ ‫القارىء ويدفعه إىل السؤال إن كان هذا‬ ‫الصوت سيبقى أو سيخمد‪ .‬فتأيت اإلجابة‬ ‫يف هناية القصيدة‪ .‬سيتحول الصوت إىل‬ ‫صدى وهو صوت حارض لصوت غائب‪،‬‬ ‫وهو يرمز إىل كل األصوات املحمومة‪.‬‬ ‫ومع أن كثري ًا من الشعراء املعارصين‬ ‫«ال يستخدمون الصدى يف كتاباهتم‬ ‫الشعرية إال باملعنى التهجيني التسميجي‬ ‫املنرصف‪ ،‬يف مألوف العادة‪ ،‬إىل نحو‬ ‫اليأس واخليبة والضياع والفراغ»(‪ ،)13‬إال‬ ‫أننا نلمح يف هذه القصيدة تناص ًا حيث‬ ‫تُستخدم العبارة نفسها لتؤدي داللة مغايرة‬ ‫فالصدى يف "صوت وسوط" هو صوت‬ ‫املقاومة الرافض للظلم ولالحتالل الذي ال‬

‫يمكن أن ينال منه سوط العدو‪ .‬فالصوت‬ ‫معلول لعلة غائبة هي الصوت وصاحب‬ ‫الصوت‪ .‬ما دام الشاعر موجود ًا صوته‬ ‫موجود وصدى هذا الصوت موجود حتى‬ ‫بعد غياب الشاعر وله الغلبة ألن السوط ال‬ ‫يستطيع أن يلحق الصدى الدّ ال عىل وجود‬ ‫الصوت الذي مل خيضعه السوط‪:‬‬ ‫واركضــوا خلف الصــدى‬ ‫ما دام يهتف‪ :‬ال أهــاب‬

‫احل ّيز الفضائي الذي حيت ّله الصدى‬ ‫يتّسع ال يمكن أن يصله السوط‪ .‬فيربز‬ ‫ال تشاكل فضائي بني الكلمتني‪ .‬وبناء‬ ‫عىل هذا حيمل الصدى داللة التصدي‬ ‫واالنتشار يف حني حيمل السوط داللة‬ ‫االنحباس‪ .‬إذن تأثري السوط حميل أما تأثري‬ ‫فيعم األرجاء‪.‬‬ ‫الصوت والصدى ّ‬

‫‪ .II‬حركة تشكل النص والنمط‬ ‫السائد‬

‫يقسم الصوت والسوط‪ ،‬بوصفهام‬ ‫قوتني مناوئة إحدامها لألخرى‪ ،‬النص‬ ‫قسمني رئيسني‪ :‬قس ًام يبينّ األسباب التي‬ ‫دفعت الشاعر إىل تبنّي الصوت (‪.)25-1‬‬ ‫وقس ًام يبينّ جربوت السوط (‪.)42-26‬‬ ‫وهذا جيعل النص قائ ًام عىل معركة بني‬ ‫الصوت والسوط‪ .‬لذا ال بدّ من حسم‬ ‫املعركة لصالح أحدمها فيربز قسم ثالث‬ ‫يكون بمثابة إعالن غلبة الصوت (‪.)47-43‬‬ ‫يشكل النص وقفة مع الذات‪ ،‬وتبدو‬

‫(‪ )11‬حممود درويش‪ ،‬ديوان حممود درويش‪ ،‬املج ّلد األول‪ ،‬أوراق الزيتون (والء)‪ ،‬دار العوده ط‪،14‬‬ ‫‪ ،1994‬ص‪.9‬‬ ‫(‪ )12‬عبد امللك مرتاض‪ ،‬شعرية القصيدة قصيدة الشعرية‪ ،‬بريوت‪ :‬دار املنتخب العريب‪ ،‬ط‪،1994 ،1‬‬ ‫ص ‪.245‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪75‬‬ ‫موازين القوى متفلتة من قبضة الشاعر‬ ‫فيتحرر من سلطة العقل‪ ،‬ويعمد إىل‬ ‫املناجاة املط ّعمة باخليال ليثبت يف هناية‬ ‫القسم األول حقيقة ذاتية‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫«حتى صليبي ليس لي‪،‬‬ ‫إني له‪،‬‬ ‫حتى العذاب!»‬

‫ومع ذلك ال يبدو األمر موقف ًا انفعالي ًا‬ ‫طارئ ًا يتّخذه الشاعر عىل عجاىل من أمره‪.‬‬ ‫إنام هو تقرير واقع يعيشه‪ .‬يسوق الشاعر‬ ‫من بداية القسم األول األسباب التي‬ ‫تربهن النتيجة التي توصل إليها يف هنايته‪.‬‬ ‫فيسود هذا القسم احلوار الفردي مع‬ ‫اعتامد النمط الربهاين‪ .‬يقدم الشاعر وصف ًا‬ ‫ذاتي ًا بأسلوب الرشط التقريري أو التمني‬ ‫االنفعايل الذي ينطوي عىل الفقد فتعادل‬ ‫كررها الشاعر‬ ‫"لو كان يل"‪ ،‬الالزمة التي ّ‬ ‫يف هذا القسم ثامين مرات‪ ،‬إقراره يف هناية‬ ‫هذا القسم‪" :‬ليس يل" لتتمثل مشكلة‬ ‫الشاعر الكربى يف غياب امللكية فتموت‬ ‫أمنياته يف مهدها ألنه ال يملك‪ :‬ال يملك‬ ‫برج ًا وال أرشعة وال سالح ًا وال فرس ًا وال‬ ‫حق ً‬ ‫ال وال حمراث ًا وال عود ًا وال قدم ًا‪.‬‬ ‫لكن ملاذا يعيش الشاعر هذا الفقد؟‬

‫كيف ال وهو مسجون معتقل ال يملك‬ ‫شيئ ًا حتى ذلك الصليب الذي يجُ َلد عليه‬ ‫والذي اختلط دمه بخشبه ليس له‪ .‬إنام‬ ‫احلال معكوسة فالصليب هو الذي يملك‬ ‫الشاعر وسيبقى الشاعر يعيش عذابات‬ ‫بالده مك َّب ً‬ ‫ال عىل ذاك الصليب‪ .‬ال وجود له‬ ‫إال عليه ألنه ملك لذلك الصليب لذلك‬ ‫العذاب‪ .‬فالشاعر تبنّى هذا العذاب ونذر‬ ‫نفسه له‪ .‬إنه قبول بالعذاب بوصفه وجه ًا‬

‫من وجوه الصمود واملقاومة‪.‬‬

‫كرر‬ ‫ومن اجلدير بالذكر أن الشاعر ّ‬ ‫الالزمة "لو كان يل"‪ .‬وهذا ما جعل هذا‬ ‫القسم يتشكّل من وحدات متداخلة‬ ‫جعلت منه موجات شعورية متالحقة‬ ‫دافقة تنطلق من مكان واحد لتستقر كل‬ ‫واحدة منها يف مدى يتجاوز املدى الذي‬ ‫وصلته سابقتها‪ .‬ويمكن تقسيم هذه‬ ‫الوحدات كاآليت‪:‬‬ ‫ـ احلركة األوىل (‪ )3-1‬متنّي السيطرة عىل‬ ‫السحاب‪.‬‬ ‫ـ احلركة الثانية (‪ )6-4‬متنّي السيطرة عىل‬ ‫املوج واإلعصار‪.‬‬ ‫ـ احلركة الثالثة (‪ )9-7‬متنّي غرس الراية‬ ‫فوق الشمس‪.‬‬ ‫ـ احلركة الرابعة (‪ )12-10‬متني إطالق‬ ‫العنان لفرسه‪.‬‬ ‫ـ احلركة اخلامسة (‪ )15-13‬متني زرع‬ ‫األرض شعر ًا وح ّب ًا‪.‬‬ ‫ـ احلركة السادسة (‪ )18-16‬متني تسلية‬ ‫الصحاب‪.‬‬ ‫ـ احلركة السابعة (‪ )21-19‬متني مصارعة‬ ‫املوت‪.‬‬ ‫ـ احلركة الثامنة (‪ )22‬متنيات مفتوحة ميتة‬ ‫يف مهدها‪.‬‬ ‫ـ احلركة التاسعة (‪ )25-23‬اإلقرار بقبول‬ ‫العذاب‪.‬‬ ‫و ّلدت املناجاة يف القسم األول‬ ‫التي اختُتِمت بصمود الشاعر حوار ًا‬ ‫ثنائي ًا يف القسم الثاين‪ .‬يصيح اآلخر‪/‬‬ ‫اجلالد‪/‬القايض بالشاعر متعجب ًا من عدم‬ ‫استسالمه عىل الرغم من اإلحباط الذي‬ ‫يغ ّلف سعيه فينربي الشاعر ويصف‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 76‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الوضع الراهن‪:‬‬

‫«الساق تقطع‪ ..‬والرقاب‬ ‫والقلب يطفأ لو أردمت‬ ‫والسحاب‪..‬‬ ‫ميشي على أقدامكم»‬

‫وهذا الوصف ليس وصف ًا ثابت ًا‪ .‬إنام‬ ‫هو وصف احلدث الذي يبغي الشاعر‬ ‫من خالله خلق قوة داخلية تؤدي إىل ندّ ية‬ ‫عسكرية تسهم يف إجياد توازن قوى‪ّ .‬‬ ‫إن‬ ‫إجرام العدو وقتله وإرهابه خيرجه من‬ ‫ليتحول صوت الشاعر إىل‬ ‫دائرة الفعل‬ ‫ّ‬ ‫دائرة الفعل‪« :‬لكن صويت صاح يوم ًا‪:‬‬ ‫ال أهاب»‪ ،‬فيعجز العدو مع كل قوته أن‬ ‫يسيطر عليه‪ ،‬ويتحول العدو إىل دائرة‬ ‫االنفعال غري املجدي‪:‬‬ ‫«فلتجلدوه إذا استطعمت‬ ‫واركضوا خلف الصـدى»‬

‫الحظ أن ما يلفت االنتباه يف هذا‬ ‫و ُي َ‬ ‫تدرج العناوين تصاعدي ًا يف القسم‬ ‫النص ّ‬ ‫ثم ارتباطها تسلسلي ًا بالعناوين‬ ‫األول ومن ّ‬ ‫يف القسم الثاين فتتشكل حركة رسدية‬ ‫ضمنية متامسكة قائمة عىل سببية يعقدها‬ ‫توايل األحداث‪ .‬إن التمني الذي باء‬ ‫باإلخفاق يف القسم األول مل ِ‬ ‫يثن الشاعر‬ ‫عن عزمه بل دفعه إىل قبول العذاب يف‬ ‫سبيل الوطن‪ .‬بتحول هذا اإلرصار عىل‬ ‫الصمود يف القسم الثاين إىل صوت ثم‬ ‫صدى يمأل البالد كاهلامة ترفرف فوق‬ ‫الضحايا تذكّر القاتل بإرصار الضحية عىل‬ ‫األخذ بالثأر‪.‬‬

‫وهذا يعني أن الثنائية األساسية‬ ‫التي حتكم النص هي ثنائية (الصمود‪/‬‬ ‫االستسالم)‪ .‬فالرصاع األسايس عىل‬

‫صعيد البنية الداللية الكربى للقصيدة‬ ‫قائم بني الشعب الفلسطيني املتمسك‬ ‫بالقضية الفلسطينية ممث ً‬ ‫ال بالشاعر الذي ال‬ ‫يملك إال صوته هيتف بوساطته احتجاجه‬ ‫ومقاومته والعدو الصهيوين املغتصب‬ ‫لألرض الذي يملك كل مقومات‬ ‫اإلرهاب وإخضاع اآلخر‪:‬‬ ‫«والعني تُسمل‪ ،‬والهضاب‬ ‫تـنهــار لو صحـــــمت بـهـا»‬

‫ولكن اختتام النص بالصوت هيتف‬ ‫"ال أهاب" داللة واضحة عىل إيامن الشاعر‬ ‫بقوة ذلك الصوت الذي سيتحول إىل‬ ‫صدى يمأل الفضاء معلن ًا الصمود الذي‬ ‫سيؤدي إىل االنبعاث‪.‬‬

‫‪ .III‬دور االيقاع البنائي‬

‫يتوزع اإليقاع عىل ثالثة مستويات‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫املستوى املقطعي‪ ،‬واملستوى النربي‬ ‫واملستوى التنغيمي‪.‬‬ ‫‪ )1‬اإليقاع املقطعي‬

‫شكل النسق (متفاعلن ‪،)○⁄⁄○⁄⁄⁄‬‬ ‫تفعيلة بحر الكامل خيار الشاعر لبناء‬ ‫إيقاعية نصه‪ .‬ويبدأ هذا العمق اإليقاعي‬ ‫بمقطعني قصريين لينتقل إىل مقطع طويل‬ ‫فمقطع قصري فمقطع طويل‪ .‬وإذا جاء‬ ‫املقطع القصري الرسيع ليمثل السوط الذي‬ ‫ّ‬ ‫فإن إعتامد‬ ‫يمثل االستسالم واالهنيار‬ ‫الشاعر النسق (مستفعلن ‪ )○⁄⁄○⁄○⁄‬جواز‬ ‫بحر الكامل بنسبة ‪ % 57‬من األنساق يف‬ ‫النص و (مستفعالن ‪ )○○⁄⁄○⁄○⁄‬بنسبة ‪10‬‬ ‫‪ %‬حيسم الرصاع من الناحية اإليقاعية وبام‬ ‫يمثله من الناحية املرجعية لصالح البطء‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪77‬‬ ‫ويعني هذا أن اإليقاع األساس يف‬ ‫النص قائم عىل النفس الطويل‪ .‬وهذا‬ ‫يناسب موضوع النص "صوت وسوط"‪.‬‬ ‫فقد اختار الشاعر النسق الذي يمتاز‬ ‫بالبطء ألنه يمثل الواقع الفلسطيني أو‬ ‫واقع الشاعر يف السجن حيث ُيستَقوى‬ ‫فيه مناخ االستسالم‪ ،‬ألنه واقع قائم عىل‬ ‫التعذيب فيغدو االستسالم الطريق األرسع‬ ‫واألسهل للتخلص من العذاب‪ .‬إال أن‬ ‫الشاعر الذي رفع الصوت عالي ًا واختار‬ ‫الصمود عنوان ًا لنضاله والذي عرف كيف‬ ‫يواجه السوط بالصوت عكس ذلك يف‬ ‫إيقاعه‪ .‬لقد قاوم الشاعر االيقاع الرسيع‬ ‫الذي يرافق االستسالم بالتبطيء الذي‬ ‫ح ّفزه الصمود‪ .‬وتبدو مقاومة الشاعر‬ ‫لاليقاع الرسيع يف (متفاعلن) القائم عىل‬ ‫نسبة [‪ ]3‬إىل [‪ ]1‬لصالح الرسعة واضحة‬ ‫وهادفة من خالل استخدام اجلوازات‬ ‫كام سبق وذكرنا وبخاصة مستفعلن‬ ‫ومستفعالن‪.‬‬ ‫وقد ورد النسق متفاعلن مع ثالث‬ ‫جوازات وهذا التعدّ د يف عدد األنساق‬ ‫يدل عىل عدم تأقلم الشاعر مع الوضع‬ ‫القائم ومقاومته ورفضه إ ّياه‪ .‬فالشاعر‬ ‫مسجون ولك ّن روحه الت ّ​ّواقة إىل احلرية‬ ‫الرافضة االستسالم لقضبان السجن تنشد‬ ‫التغيري وإن كان مداه بعيد ًا ودربه شائكة‪.‬‬ ‫ولن يكون هذا التغيري إال بالصمود‬ ‫واملقاومة وعدم االستسالم‪ .‬لذا استخدم‬ ‫الشاعر النسق الذي يسهم يف تبطيء رسعة‬ ‫االهنيار واالستسالم‪ .‬وهذا يطابق الواقع‬ ‫املرجع فاالستسالم‪/‬االهنيار سهل رسيع‬ ‫بينام الصمود بطيء صعب حيتاج إىل قوة‬

‫اإلرادة ومرور الوقت حتى يثبت‪.‬‬ ‫وقد م ّثل العنوان "صوت وسوط"‬ ‫داللة إيقاعية فالصوت الذي يم ّثل‬ ‫الصمود واملقاومة والعبور نحو احلرية‬ ‫ومناهضة االحتالل متصل بالبطء‪،‬‬ ‫والسوط الذي يم ّثل االستعباد واالستبداد‬ ‫والقهر والظلم متصل بالرسعة‪.‬‬

‫وتأيت دراسة املقاطع لتدعم ما‬ ‫سبق ولتحدّ د بشكل أكثر وضوح ًا معامل‬ ‫الرصاع بني الرسعة والبطء‪ ،‬االستسالم‬ ‫والصمود‪ .‬فعدد املقاطع الطويلة يف النص‬ ‫بأكمله ‪ 217‬مقطع ًا‪ُ ،‬يضاف إليها التثقيل‬ ‫النوعي الذي حتدثه املقاطع الزائدة الطول‬ ‫البالغة ‪ 19‬مقطع ًا‪ .‬وهذا ما جيعلها حواىل‬ ‫ضعف ونصف عدد املقاطع القصرية ‪147‬‬ ‫مقطع ًا تقريب ًا‪ .‬وإذا اعتمدنا النسبة املئوية‬ ‫لعدد املقاطع تكون كاآليت‪ :‬تبلغ نسبة‬ ‫املقاطع الطويلة والزائدة الطول ‪% 62‬‬ ‫يف حني تبلغ نسبة املقاطع القصرية ‪38‬‬

‫‪ .%‬ومن يتت ّبع االيقاعية املقطعية يف أقسام‬ ‫النص جيد أن هيمنة املقاطع الطويلة التي‬ ‫تعمل عىل تبطيء الرسعة قائمة يف مجيع‬ ‫أجزاء النص تقريب ًا‪.‬‬ ‫وهذا نجاح ملموس لصالح مناخي‬ ‫البطء والصمود والتصدي داخل النص‪.‬‬ ‫فربوز الصوت وحتوله إىل صدى دائم هيتف‬ ‫"ال أهاب" يرفع نسبة املقاطع الطويلة من‬ ‫‪ % 51‬يف القسم الثاين إىل ‪ % 56‬يف القسم‬ ‫الثالث‪ .‬وهذا يؤكّد متسك الشاعر بالنرص‬ ‫أو بربوز مقاومة من نوع آخر غري قائمة‬ ‫عىل السالح أو بعدم االستسالم‪ .‬لذا‬ ‫تستمر السيطرة لإليقاع البطيء وذلك ألن‬ ‫الشاعر حياول أن يقاوم رسعة االستسالم‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 78‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املتمثلة باعتامد النسق متفاعلن بتبطيء‬ ‫طريقه وإلغائه من خالل الصمود املتمثل‬ ‫باعتامد اجلواز مستفعلن وسيطرة املقاطع‬ ‫الطويلة كام ب ّينا يف ما سبق‪.‬‬ ‫‪ )2‬االيقاع النربي‬

‫يبلغ عدد النرب يف النص ‪ .89‬عدد النرب‬ ‫األحادي ‪ ،23‬وعدد النرب الثنائي ‪ 56‬والنرب‬ ‫الثالثي ‪ .10‬وحتويل هذه األرقام إىل نسب‬ ‫مئوية تكون كاآليت‪ :‬نسبة النرب األحادي ‪26‬‬ ‫‪ ،%‬والثنائي ‪ ،% 63‬والثالثي ‪ .% 11‬ويشري‬ ‫هذا التوزيع إىل دور تبطيئي واضح يقوم به‬ ‫النربان الثنائي والثالثي‪ّ .‬‬ ‫ولعل هذا احلضور‬ ‫التثقييل للنرب عائد إىل مقاومة الشاعر‬ ‫وصموده ورفضه لالستسالم واالهنيار‬ ‫الرسيع الذي يدفع العدو الشاعر جتاهه‬ ‫وخصوص ًا ّ‬ ‫أن األخري ال حول له وال قوة إال‬ ‫صوته‪ .‬وهذا الصمود يستدعي نفس ًا طوي ً‬ ‫ال‬ ‫من الشاعر يبطىء الواقع الذي تتجلىّ فيه‬ ‫ترسع االستسالم‪.‬‬ ‫اإلغراءات التي ّ‬ ‫ومع إرصار الشاعر عىل الصمود يف‬ ‫القسم الثالث تتدنّى نسبة النرب اآلحادي‬ ‫ويبقى النربان الثنائي والثالثي مسيطرين‬ ‫ألن الصمود الذي أعلنه الشاعر والذي‬ ‫يتمثل بالصوت وصداه رافقه تثقيل نربي‬ ‫يبطىء من االهنيار الرسيع الذي يرافق‬ ‫االستسالم فال يأبه الشاعر للعذاب الذي‬ ‫ّ‬ ‫سيحل به‪:‬‬ ‫«فلتجلدوه إذا استطعمت»‬

‫ويبلغ هذا العصيان حدّ ه عندما يعلن‬ ‫يعزز الصمود‪:‬‬ ‫توحده مع العذاب الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫«إني له‬ ‫حتى العذاب»‬

‫وهكذا يالحظ أن الدور التبطيئي‬ ‫التثقييل الذي يقوم به النربان الثنائي‬ ‫والثالثي يؤ ّيد الدور التبطيئي الذي كانت‬ ‫تقوم به املقاطع الطويلة ‪.‬‬ ‫‪ )3‬االيقاع التنغيمي‬

‫تكرر النداء يف النص مرتني‪:‬‬ ‫«يا سيداتي‪ ..‬سادتي!‬ ‫يا شامخني على احلراب!»‬

‫مرة مع االستفهام‪:‬‬ ‫وورد ّ‬

‫«ماذا تب ّقى أيها احملكوم؟»‬

‫تكرر ليتضمن معنى االنكار‬ ‫الذي‬ ‫ّ‬ ‫واالستهجان‪:‬‬ ‫«وتهتف‪ :‬ال أهاب؟!»‬

‫وكذلك تكرر األمر‪:‬‬

‫«فلتجلدوه إذا استطعمت‬ ‫واركضوا خلف الصدى»‬

‫وبذلك يكون عدد اجلمل االنشائية يف‬ ‫النص ستة‪ .‬وقد ورد يف النص ثامين ٍ‬ ‫مجل‬ ‫تبدأ بـ"لو كان يل"‪ .‬وهي يف معظمها مجل‬ ‫مركبة طويلة‪ .‬يمكننا أن نعدها إنشائية أو‬ ‫خربية يف آن‪ .‬إن عددناها إنشائية تدخل يف‬ ‫باب التمني‪ .‬وإن عددناها خربية تدخل‬ ‫يف باب النفي وتقرير واقع يعيشه الشاعر‪.‬‬ ‫وإننا نميل إىل املوقف الثاين‪ .‬تتضمن‬ ‫اجلمل الرشطية التي حتمل معنى التمني‬ ‫ظاهري ًا معنى ضمن ّي ًا يب ّينه الشاعر يف قوله‪:‬‬ ‫فتتضمن "لو‬ ‫"حتى صليبي ليس يل"‬ ‫ّ‬ ‫األول معنى‬ ‫كان يل" املكررة يف القسم‬ ‫ّ‬ ‫"ليس"‪.‬‬ ‫إذن هي مجل خربية رشطية وكذلك‬ ‫احلال مع باقي مجل النص فكلها خربية‪.‬‬ ‫ويعني هذا أن النغم الذي يرتبط بصياغة‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪79‬‬ ‫التجربة هو الذي يطبع تنغيمة النص‬ ‫متفوق عىل حضور‬ ‫بطابعه؛ ألن حضوره‬ ‫ّ‬ ‫النغم الذي يصحب التعبري عن االنفعال‪.‬‬ ‫وإن كانت وظيفة اجلمل اخلربية صياغة‬ ‫التجربة الوجدانية فإن وظيفة اجلمل‬ ‫اإلنشائية التعبري عن االنفعال الذي ينتاب‬ ‫الشاعر‪ّ .‬‬ ‫يدل السؤال الذي ابتدأ به القسم‬ ‫الثاين والذي أوردناها يف بداية هذا املقطع‬ ‫عىل استهجان السائل وانفعاله وتعجبه‬ ‫من صمود الشاعر ومتسكه بموقفه مع كل‬ ‫العذاب الذي يعانيه والضيق الذي يعيشه‪.‬‬ ‫كام ّ‬ ‫أن النداء الذي سبق وأثبتناه أيض ًا‬ ‫يعبرّ عن العاطفة اجلياشة التي وجدت‬ ‫متنفس ًا هلا فانربت لتقص ما يعتمر يف‬ ‫داخل الذات‪ .‬أما اجلمل األمرية التي‬ ‫وردت يف هناية النص فتأيت نتيجة االنفعال‬ ‫الذي بلغ ذروته عند الشاعر فصار يعيش‬ ‫يف عامل خاص هو س ّيده‪ .‬أو تدل عىل عمق‬ ‫األمل الذي يعيشه كأنه يقول‪ :‬أمل يكفكم‬ ‫ما فعلتم‪ .‬مل يبق إال صويت فافعلوا به ما‬ ‫تشاؤون لكنكم لن تستطيعوا منعه من‬ ‫التعبري عن حبه لوطنه ودفاعه عنه‪.‬‬ ‫ومما جيدر ذكره غياب االستفهام‬ ‫باهلمزة أو هل عن النص‪ ،‬فهل يعني غياب‬ ‫النغم الصاعد عن أي سطر من سطور‬ ‫القصيدة سيادة النغم اهلابط مع هنايات‬ ‫السطور؟ يتكرر التضمني اثنتي عرشة‬ ‫مرة‪ ،‬يعني أننا‪ ،‬اثنتي عرشة مرة سنكون‬ ‫خاضعني لفعل التجاذب بني التنغيم‬

‫(‪ )14‬عيل زيتون‪ ،‬النص الشعري املقاوم يف لبنان‬ ‫البنية والداللة‪ ،‬بريوت‪ :‬احتاد الكتاب اللبنانيني‪،‬‬ ‫ط‪ ،2001 ،1‬ص ‪.170‬‬

‫اهلابط الذي توحي به النهايات‪ ،‬والتنغيم‬ ‫املستوي الذي يفرضه التضمني‪ .‬فإذا أضفنا‬ ‫إىل ذلك التضمني العكيس الذي تكرر‬ ‫ثالث مرات‪ ،‬والتدوير اإليقاعي الذي‬ ‫تكرر تسع عرشة مرة أدركنا أن الشاعر‬ ‫يميل بقصيدته هذه لتكون دائرة مكتملة‪،‬‬ ‫مجلة واحدة‪« .‬و ُيشكّل هذا األمر املعلم‬ ‫األسايس من معامل حركة احلداثة وصوالً‬ ‫إىل القصيدة (الرؤيا)‪ .‬ويبقى أن القصيدة‬ ‫اجلملة الواحدة تؤمن تنغي ًام مستوي ًا مشوب ًا‬ ‫بالتوتر مع هناية ّ‬ ‫كل سطر يطال النص‬ ‫بأكمله فيتساوق التنغيم مع احلقيقة التي‬ ‫(‪)14‬‬ ‫تقوم عليها القصيدة احلديثة»‪.‬‬

‫ولقد ّنوع الشاعر الروي وأكثر منه‬ ‫حتى بلغت السطور املنتهية به تسعة‬ ‫وعرشين سطر ًا‪ .‬تكرر الروي [الياء]‬ ‫ست مرات‪ .‬والروي [امليم] أربع مرات‪.‬‬ ‫والباء الساكنة املسبوقة بألف املد تسع‬ ‫عرشة مرة‪ .‬وقد تدخل الروي األخري‬ ‫يف حتديد بنية النسق املوجود يف آخر كل‬ ‫سطر‪ .‬فهناك عرشون نسق ًا عىل وزن‬ ‫مستفعالن ومتفاعالن‪ .‬ويعبرّ هذا النسق‬ ‫عن السكون الذي تؤول إليه أي حركة‪.‬‬ ‫لذلك سيطر االيقاع البطيء عىل النص‬ ‫تعبري ًا عن الصمود الذي انتهى به القسم‬ ‫األول والقسم األخري من النص‪.‬‬ ‫وهكذا فإن موسيقية هذا النص‬ ‫موسيقية موظفة يف إنتاج الداللة التي أراد‬ ‫الشاعر إيصاهلا‪.‬‬

‫د‪ .‬هـدى املعـدرانـي‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 80‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫«الطبيعة في شعر جودت فخر الدين»‬ ‫د‪ .‬عائشــة شــكر‬ ‫يعالج هذا البحث "الطبيعة يف شعر‬ ‫جودت فخر الدين" من خالل النقاط‬ ‫اآلتية‪ :‬مدخل نظري‪ ،‬الطبيعة يف ديوان‬ ‫"ساموات"‪ ،‬الطبيعة يف ديوان "ليس بعد‪"...‬‬ ‫وقفة متمهلة عند الطبيعة يف جمموعته‬ ‫الشعر ّية "فصول من سرييت مع الغيم"‪.‬‬ ‫وجملة “املنافذ الثقافية” ستنرش القسم‬ ‫األول من هذا البحث‪ ،‬وما تبقى منه‬ ‫سينرش يف العدد الالحق‪.‬‬

‫مدخل نظري‪:‬‬

‫أن تدركك حرفة الشعر يعني أنّك مل‬ ‫تعد مرغوب ًا به‪ ،‬لكون الشعر مل يعد مالئ‬ ‫الدنيا وشاغل الناس يف العقود األخرية‪.‬‬ ‫فقد تراجع دوره وسط تغيرّ أنامط احلياة‬ ‫الفكر ّية واالجتامع ّية‪ ،‬حتى ّ‬ ‫أن بعضهم‬ ‫ملمح ًا إىل دور‬ ‫تن ّبأ باختفائه مع الزمن‪ّ ،‬‬ ‫التكنولوجيا التي ستحكم سيطرهتا عىل‬ ‫يب أكثر من غريه‪،‬‬ ‫العامل‪ .‬والشاعر العر ّ‬ ‫يعيش أزمة الشعر‪ ،‬خصوص ًا أن مؤشرّ‬ ‫كارثي‪ ،‬إذ تشري‬ ‫يب‬ ‫القراءة يف العامل العر ّ‬ ‫ّ‬ ‫التقارير إىل أن كتاب ًا واحد ًا يصدر لكل‬ ‫يب‪ ،‬وسبب ذلك‬ ‫‪ 12000‬مواطن عر ّ‬ ‫أن معدّ ل القراءة ال يتجاوز ‪ % 4‬وفق‬

‫اإلحصاءات‪.‬‬

‫مع ذلك يبقى الشعر مالذ الشاعر‪،‬‬ ‫يلجأ إليه هارب ًا من واقعه‪ ،‬من عامل ال يفهم‬ ‫معاناته‪ ،‬فيمنحه هامش ًا من احلر ّية‪ ،‬يعيد‬ ‫من خالله خلق العامل وفق رؤيته‪.‬‬

‫ويقول فرناندو بيسوا(‪ )1‬إن «الشعر‬ ‫دليل عىل أن احلياة وحدها ليست كافية»‪،‬‬ ‫ماسة يف عامل املدن ّية املعقلن‪،‬‬ ‫فهو حاجة ّ‬ ‫خصوص ًا أنه خياطب احلقيقة اجلوهر ّية‬ ‫لإلنسان‪ ،‬ويشعره بكينونته وجوهر‬ ‫وجوده‪.‬‬ ‫إنّه خلق للعامل أثناء عملية خلق‬ ‫اللغة (‪.)2‬‬

‫فالشاعر يلجأ إىل تعرية اللغة‬ ‫الكتشاف قيمتها التعبري ّية التي تقتضيها‬ ‫اليومي وإبراز العادات‬ ‫عادات االستعامل‬ ‫ّ‬ ‫اجلامل ّية(‪ .)3‬وكام يقول سارتر‪« :‬يرى‬ ‫الكلامت من جانبها املعكوس وكأنّه من‬ ‫يتعرف‬ ‫غري عامل الناس‪ ،‬فيبدو وكأنه مل ّ‬ ‫تعرف ًا‬ ‫تعرفها ّ‬ ‫األشياء أوالً بأسامئها بل ّ‬ ‫توجه نحو النوع اآلخر من‬ ‫صامت ًا‪ ،‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫األشياء يف نظره‪ ،‬أال وهي الكلامت‬ ‫فأوسعها ملس ًا واختبار ًا وبحث ًا‪ ،‬واكتشف‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪81‬‬ ‫أن هلا نوع ًا من اإلشعاع اخلاص هبا‪،‬‬ ‫وأنهّ ا ذات صالت معينة باألرض والسامء‬ ‫واملاء‪ ،‬وما سوى ذلك من خملوقات‪ ،‬وحني‬ ‫أعوزته معرفة استخدام الكلامت عالمات‬ ‫للداللة عىل مظاهر العامل‪ ،‬رأى فيها صور ًا‬ ‫هلذه املظاهر(‪ .)4‬فاللغة الشعر ّية مل تعد مرآة‬ ‫العامل‪ ،‬إنام حتويل دائم له‪ ،‬وتغيري للواقع‬ ‫واإلنسان(‪ ،)5‬هي كشف عن اإلمكان‬ ‫(‪)6‬‬ ‫واملستقبل‪ ،‬وهلا فعل التغيري والثورة‬ ‫ومهمة الشاعر الظفر بلغة اخللق‪ ،‬اللغة‬ ‫ّ‬ ‫البكر التي مل يسمعها أحد حتى اليوم‪..‬‬ ‫واملجاز يشحن هذه اللغة بطاقة جديدة‪،‬‬ ‫يضفي أسامء عىل أشياء ووقائع ليس هلا‬ ‫اسم يف اللغة العادية(‪ ،)7‬وإذا كان هاجس‬ ‫الشاعر هو تغيري العامل(‪ )8‬فقد صار يرصد‬ ‫بالرؤيا ويعبرّ بلغة خاصة‪ ،‬وخيلق صور ًا‬ ‫هلذا العامل‪ .‬وقد استعان باخليال واحللم‬ ‫والرؤى لكي يعانق واقعه اآلخر(‪ .)9‬ولقد‬ ‫رأينا الكثري من الشعراء قد رضبوا املفاهيم‬ ‫الشعرية القديمة ليبتكروا طريقتهم‬ ‫اخلاصة يف التعبري‪ ،‬متجاوزين ما هو قائم‪،‬‬ ‫فاحتني نوافذ عىل عامل الرؤى واألحالم‬ ‫والكشف واإلبداع‪ .‬صارت القصيدة‬ ‫لدهيم صورة لتناغم احلياة وتداخلها‪،‬‬ ‫صورة لتآلف األشياء يف حاالت الوجود‬ ‫يف الواقع‪ ..‬إذ تستحيل أشياء الواقع نفسها‬ ‫رموز ًا‪ ،‬وتصري احلياة بشتى نواحيها‪،‬‬ ‫اإلطار األكرب لتلك الرموز(‪.)10‬‬ ‫فقيمة الشعر قد تكون أعىل من معرفة‬ ‫الظواهر‪ ،‬ومن ميتافيزياء الكينونة‪ ،‬ذلك‬ ‫أهنا تبرص ما ال يبرصه العلم‪ ،‬وتدرك‬ ‫ما حتاول الفلسفة إدراكه وال تبلغه‪ ،‬مع‬ ‫األسف إال نادر ًا(‪)11‬؛ ألنّه قفزة خارج‬

‫املفاهيم السائدة‪ .‬وقد حاول شعراؤنا‬ ‫أن يستوعبوا تع ّقدات احلياة ومهومها‬ ‫وقضاياها‪ ،‬وحيددوا موقفهم منها‪،‬‬ ‫وأرادوا اكتشاف ما مل يكتشف من جوانب‬ ‫الوجود وتسميتها لتصبح معرفتهم قابضة‬ ‫عىل حقيقة من طراز خمتلف عن احلقيقة‬ ‫املوضوع ّية‪ ،‬أي احلقيقة الفن ّية(‪.)12‬‬ ‫يب‬ ‫ومن هؤالء الشعراء الشاعر اجلنو ّ‬ ‫جودت فخر الدين‪ ،‬الذي يعدّ الشعر‬ ‫أمجل املغامرات وأكثرها تفاؤالً ومحاسة يف‬ ‫القروي اهلامس‪،‬‬ ‫التطلع إىل املستقبل‪ .‬إنّه‬ ‫ّ‬ ‫الذي مل تستطع املدينة ببهرجها أن جتذبه‬ ‫إليها‪ ،‬فراح يغني يف قصائده الطبيعة‬ ‫الريف ّية‪ ،‬ويكتب شعر ًا رقراق ًا ينساب‪،‬‬ ‫فيتغلغل يف حنايا النفس‪ .‬ينسج عالقات‬ ‫بني الكلامت‪ ،‬فريسم بوساطتها أبعاد ًا‬ ‫ودالالت عميقة وموحية‪ ،‬حتاول سرب‬ ‫أغوار الكون‪.‬‬ ‫جودت فخر الدين يتخذ من الشعر‬ ‫وسيلة للعبور إىل عوامل أخرى‪ ،‬إهنا طريقة‬ ‫خاصة يف الكشف‪ ،‬يف اخللق‪ ،‬يف إعادة‬ ‫تشكيل الوجود‪.‬‬

‫وما يثري االهتامم يف شعره‪ ،‬هذا البناء‬ ‫اهلنديس‪ ،‬الذي يزخر بكل معطيات‬ ‫الطبيعة‪ ،‬فرتتاح لذلك التوافق اخلفي‬ ‫بينها وبينه‪ ،‬وتأنس لتأثريها يف النفس‪،‬‬ ‫تنم عن‬ ‫فاحتة طاقة واسعة من اإلحياء‪ّ ،‬‬ ‫عمق ثقافة الشاعر ومهومه‪ .‬فالطبيعة‬ ‫منطلق لرؤى الشاعر وتأمالته‪ ،‬تساعده‬ ‫يف التفكري يف ماهية هذا العامل وجوهره‪،‬‬ ‫إنهّ ا اليشء الوحيد الذي يثق به‪ ،‬بعدما‬ ‫مر بتجارب أوصلته إىل عدم الثقة بأي‬ ‫ّ‬ ‫يشء وإىل احلذر من ّ‬ ‫كل يشء(‪ .)13‬ونسمعه‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 82‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫يقول‪« :‬الطبيعة حتدٍّ فاتن لنا‪ ،‬تغرينا‬ ‫نتوهج يف حضنها كاألسئلة‪،‬‬ ‫وختيفنا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫(‪)14‬‬ ‫الطبيعة أمجل التحدّ يات ‪.‬‬

‫لذلك سنعمد إىل دراسة الطبيعة يف‬ ‫شعره‪ ،‬من خالل صوره ونبينّ التأثريات‬ ‫املتبادلة بينهام‪ ،‬وداللة اللوحات التي‬ ‫رسمها الشاعر يف هدأة الوحدة‪ ،‬إذ اختذها‬ ‫مرسح ًا هلمومه‪ ،‬وآالمه‪ ،‬وأحالمه‪.‬‬ ‫تطور الطبيعة يف‬ ‫وسنحاول رصد‬ ‫ّ‬ ‫رس هذه العالقة‬ ‫شعره‪ ،‬والكشف عن ّ‬ ‫ودالالهتا‪ ،‬وعوامل التخ ّيل التي ش ّيدها‪،‬‬ ‫للتعبري عن عوامله الداخل ّية ومهومه‬ ‫الشخص ّية‪.‬‬ ‫هذا ك ّله بوساطة منهج أسلويب قوامه‬ ‫نقطتان‪ :‬األوىل هي االعتقاد بالوجود‬ ‫املؤ ّثر لكل كلمة يف إنتاج الداللة العامة‬ ‫حيادي‪ .‬قد‬ ‫للنّص إذ ال وجود ملا هو‬ ‫ّ‬ ‫توجد كلمة ما وجود ًا عفوي ًا‪ ،‬ولك ّن هذا‬ ‫الوجود العفوي غري حيادي(‪ .)15‬والنقطة‬ ‫الثانية هي االنطالق من الرتكيب البسيط‬ ‫والعالقة القائمة يف داخله؛ ّ‬ ‫ألن اخلروج‬ ‫املوضوعي‬ ‫هبذه العالقة عن النسق‬ ‫ّ‬ ‫فني (العالقة‬ ‫(العالقة الواقع ّية) إىل نسق ّ‬ ‫الفن ّية الفكر ّية) إنام خيرج طريف العالقة يف‬ ‫هويتهام املوضوع ّية احلقيق ّية إىل هو ّية فنية‪،‬‬ ‫أي حيدث تعدي ً‬ ‫ال يف مدلول الدال‪ ،‬وال‬ ‫الفني‬ ‫تنتهي املسألة عند اكتشاف النسق‬ ‫ّ‬ ‫وما يؤ ّديه من داللة شعرية احتاملية‪ .‬إذ‬ ‫ال بدّ من مراقبة ما تتبادله الرتاكيب‪ ،‬فيام‬ ‫بينها‪ ،‬من فعل إضاءة واستضاءة؛ ّ‬ ‫ألن‬ ‫وجود الرتكيب إىل جانب الرتكيب يعني‬ ‫تدخ ً‬ ‫ال حتمي ًا متبادالً يف توجيه الداللة‬ ‫وحتديدها‪ .‬وهذا الفعل يشمل النّص‬

‫بأكمله‪ .‬يعني أننا أمام شبكة مك ّثفة من‬ ‫العالقات‪ .‬وبقدر ما نستطيع اإلمساك‬ ‫بخيوطها نكون قد أمسكنا بالداللة التي‬ ‫ّ‬ ‫تظل عص ّية عىل السرب بسبب طبيعة الشعر‬ ‫نفسه (‪.)16‬‬

‫وإذا كان الشاعر قد أنتج الكثري من‬ ‫املجموعات الشعرية إال ّ‬ ‫أن هذه الدراسة‬ ‫بثالث منها فقط صدرت يف أوقاتٍ‬ ‫ٍ‬ ‫معن ّية‬ ‫خمتلفة هي‪:‬‬ ‫ـ "ساموات" العام ‪.2002‬‬ ‫ـ "ليس بعد‪ "...‬العام ‪.2006‬‬ ‫ـ "فصول من سرييت مع الغيم" العام ‪.2011‬‬ ‫ومرورنا سيكون رسيع ًا عىل‬ ‫املجموعتني األوىل والثانية‪ ،‬لترتكّز الوقفة‬ ‫عند املجموعة األخرية التي كتبها الشاعر‬ ‫بعد أن أغلق باب اخلمسني‪ ،‬وفتح باب ًا آخر‬ ‫عىل رشفة جديدة(‪ )17‬ليلملم ما تبعثر منه‪،‬‬ ‫ويضعه بني دفتي كتاب‪.‬‬ ‫وسندخل مع ًا عامله‪ ،‬لنتبينّ ما يكتنزه‬ ‫من دالالت تقدّ مه شاعر ًا مميز ًا‪ ،‬استطاع‬ ‫باطمئنانه إىل الطبيعة وحماكاهتا‪ ،‬أن يبني‬ ‫عامل ًا شعري ًا عميق ًا‪ ،‬يكشف عن توتر‬ ‫اإلنسان أمام القضايا الكربى‪.‬‬

‫أ) الطبيعة يف جمموعة «ساموات»‬ ‫الشعر ّية‪:‬‬

‫ندخل ساموات الشاعر جودت‬ ‫فخر الدين‪ ،‬فتنفتح أمامنا ساموات من‬ ‫اإلحياءات‪ .‬فالشيفرات السيميائية ال‬ ‫تسلمنا بسهولة دالالهتا‪ ،‬تدفعنا إىل‬ ‫استحضار ثقافات خمتلفة دينية‪ ،‬وفلسف ّية‪،‬‬ ‫واجتامعية‪ ،‬وأدب ّية‪ ..‬لكي نلج عاملها‪.‬‬ ‫وما يثري االنتباه حضور الطبيعة من‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪83‬‬ ‫أول املجموعة إىل آخرها‪ ،‬تأخذ بيدنا‬ ‫ّ‬ ‫لندخل عوامل من التخ ّيل‪ ،‬حتيل إىل ذات‬ ‫أسايس‬ ‫الشاعر‪ .‬فهي بالرضورة طرف‬ ‫ّ‬ ‫وفاعل يف كل قصائده‪ ،‬حتى عندما حترض‬ ‫أقرب الشخصيات إليه‪ ،‬كاحلبيبة‪ ،‬واالبن‪،‬‬ ‫واألخ‪ ...‬فهذه الشخص ّيات مع غناها‬ ‫العاطفي ال تستطيع منع االستغراق يف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكأن الشاعر يبحث عن ساموات‬ ‫الطبيعة‪،‬‬ ‫خاصة به‪ ،‬بعيد ًا من عامل األرض ك ّله‪.‬‬ ‫ويمدّ الشاعر اجلسور بينه وبني‬ ‫الطبيعة‪ ،‬التي ينتمي إليها انتام ًء عميق ًا‪،‬‬ ‫فتقول عنه ما يو ّد قوله‪ ،‬يف قصائد إنسانية‪،‬‬ ‫رقيقة‪ ،‬حتاكي الروح يف جتلياهتا‪ ،‬والنفس‬ ‫يف تساؤالهتا‪ ،‬وتشري إىل تأثري الزمن يف‬ ‫اإلنسان روح ًا وجسد ًا‪.‬‬ ‫ها هو خياطب احلبيبة‪ ،‬فتختلط الصور‬ ‫واهلويات لنكون أمام وحدة متكاملة‬ ‫قوامها املرأة املعشوقة والشاعر والطبيعة‪.‬‬ ‫رأيت ِ‬ ‫ُك هائم ًة يف هواء الصنوبر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عطرك نحو الوهاد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ووجهك يف ّ‬ ‫كل غيم‪.‬‬

‫تظهر احلبيبة هنا عاشق ًة الطبيعة‪،‬‬ ‫هائمة هبا إىل أقىص احلدود‪ ،‬فدخلت معها‬ ‫يف عالقة من العشق الصويف‪ ،‬أكسبتها‬ ‫أبعاد ًا قدس ّية‪ .‬فكلمة (هائمة) ليست أي‬ ‫كلمة‪ ،‬إنام هي دليل الشغف واإلفراط‬ ‫يف العشق‪ .‬وهواء الصنوبر كذلك ليس‬ ‫أي هواء‪ ،‬ألن شجر الصنوبر يرمز إىل‬ ‫االستمرار والصرب واخللود‪ ،‬وله أبعاد‬ ‫دينية‪ ،‬إذ ُيعتقد أن اهلل كافأ هذه الشجرة‬ ‫بجعلها دائمة االخرضار‪ .‬ويمكن تسميتها‬ ‫شجرة احلياة‪ .‬فهل قصد الشاعر أن اهليام‬

‫بالطبيعة وعشقها يمنح القوة والثبات‬ ‫واالستمرارية؟‬ ‫ثم يأيت العطر ليخرج احلبيبة من‬ ‫طبيعتها اإلنسانية‪ ،‬ويعطيها هوية الوردة‪،‬‬ ‫التي ستفيد من عطرها الوديان‪ ،‬فظرف‬ ‫املكان (نحو) أكسبها روعة ومجاالً وهباء‬ ‫وامتداد ًا‪ .‬وأن تكون احلبيبة وردة يعني أهنا‬ ‫جزء من الطبيعة‪ ،‬فريى الشاعر وجهها يف‬ ‫ّ‬ ‫كل غيم‪ ،‬والغيم رمز اخلري والعطاء‬ ‫والرفعة‪ ،‬وقد أزال الشاعر احلدود بني‬ ‫احلبيبة والطبيعة‪ ،‬ليتحدا مع ًا يف وحدة‬ ‫الوجود‪ .‬فاحلبيبة بدأت من هواء الصنوبر‪،‬‬ ‫وارتقت لتصل إىل التامهي مع الغيم‪،‬‬ ‫فتحار يف حتديد أهيام ّ‬ ‫حل باآلخر‪ ،‬وارتقى‬ ‫به إىل أسمى درجات اخللق‪ .‬فالشاعر‬ ‫استخدم عنارص الطبيعة للوصول إىل‬ ‫يتوج املرأة‪،‬‬ ‫ذروة السمو والرفعة‪ ،‬لكي ّ‬ ‫وكأنه يريد أن يومئ كذلك إىل أن عشق‬ ‫الطبيعة يكسب اإلنسان شيئ ًا من األلوهة‪،‬‬ ‫وجيعله يرتقي ليكتسب طابع القداسة‪،‬‬ ‫تتوحد التناقضات‪ ،‬فتصري الوحدة‬ ‫إذ‬ ‫ّ‬ ‫الوجودية تامة‪.‬‬ ‫أريدك وحدكِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كالشجر‪.‬‬ ‫كالنساء وال‬ ‫ال‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫كل النساء ّ‬ ‫أريدك ّ‬ ‫وكل ّ‬ ‫الشجر‪.‬‬

‫تتحول احلبيبة هنا إىل رمز لنوع جديد‬ ‫ّ‬ ‫من النساء‪ ،‬إهنا املرأة اإلهلة التي تزاوج بني‬ ‫النساء والشجر‪ ،‬فال تنتمي بالرضورة إىل‬ ‫أي منهام‪ .‬فالشاعر ينفي أن تكون حبيبته‬ ‫كالنساء كام ينفي انتامءها إىل الشجر‪.‬‬ ‫واملتأمل يف هذه األبيات الشعرية‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 84‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫يرى أن حضور النساء يساوي حضور‬ ‫الشجر‪ ،‬كأن النساء هن الشجر والعكس‬ ‫صحيح‪ .‬ثم يأيت النفي (ال كالنساء) (ال‬ ‫كالشجر) ليقلب املعادلة ويعطي هذه‬ ‫املرأة خصوصية‪ ،‬لكن املزاوجة بينهام‬ ‫ِ‬ ‫كل النساء ّ‬ ‫(أريدك ّ‬ ‫وكل البرش) جعلت‬ ‫املرأة رمز ًا خيترص حكاية احلب واخلصوبة‬ ‫رس‬ ‫فكأن املرأة هنا أفروديت يكمن فيها ّ‬ ‫احلياة واخلصب والعطاء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحدك‪،‬‬ ‫أريدك‬ ‫ِ‬ ‫وأنت الشجر‪.‬‬ ‫أنت النساء‬

‫إهنا إهلة متأل الكون خصب ًا‪ ،‬وحب ًا‪،‬‬ ‫وأمالً‪ ،‬وقد متاهت مع الشجر والنساء‪.‬‬ ‫فأهيام احلبيبة وأهيام النساء والشجر؟‬

‫فالشاعر الذي خلط اهلويات‪ ،‬بدا‬ ‫عاشق ًا رومانس ًّيا‪ ،‬باحث ًا عن املرأة‪ /‬احللم‬ ‫اإلهلة فيعطيها بعد ًا إخصاب ًّيا‪ ،‬وحيرص‬ ‫األنوثة هبا (أنت النساء) فكأنه يقول هلا‬ ‫ِ‬ ‫حتول احلب إىل ما‬ ‫(ال امرأة إال أنت)‪ .‬فهل ّ‬ ‫ِ‬ ‫(أريدك وحدك) إهلة‬ ‫يش ّبه الدين؟ لذلك‬ ‫ِ‬ ‫اخلصب والنامء (أنت الشجر)‪ .‬وهذه املرأة‬ ‫يليق هبا أي رجل‪ ،‬فال بدّ من أن‬ ‫اإلهلة‪ ،‬ال ُ‬ ‫ختتار رج ً‬ ‫ال إهل ًا لكي تستقيم العالقة بينهام‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫هربت إليك ألنيّ عشقت اصطفاءك يل‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫وارمتاءك يف وحشتي‬ ‫ِ‬ ‫وجنونك يب‬

‫يبدو الشاعر هارب ًا من املجتمع إىل‬ ‫هذه احلبيبة التي اصطفته حبيب ًا هلا‪ ،‬فهو‬ ‫املصطفى‪ ،‬هذا ما حييلنا إىل ما هو ديني‪.‬‬ ‫فكلمة (اصطفاءك) وردت كثري ًا يف القرآن‬ ‫الكريم يف مثل قوله تعاىل (إن اهلل اصطفى‬ ‫آدم ونوح ًا وآل إبراهيم وآل عمران عىل‬

‫العاملني) وال يصطفي اهلل إال من كانت‬ ‫نفوسهم صافية‪ ،‬ليب ّلغوا الرسالة الدين ّية‪.‬‬ ‫فمن هو أكثر قدس ّية احلبيب أم احلبيبة‬ ‫هنا؟ وهل أصبح احلب «الطريق األوحد‬ ‫للهرب من هذا العامل»؟(‪ .)18‬وال شك يف‬ ‫أن االصطفاء يكسبهام مع ًا طابع ًا مقدس ًا‪،‬‬ ‫إال أن اصطفاء املرأة للرجل يعطيها صفة‬ ‫الفاعل‪ ،‬املؤ ّثر‪ ،‬فهو إشارة قوة ورفعة‬ ‫وسمو‪ .‬فهذه األنوثة الفاعلة كأهنا قوة‬ ‫ّ‬ ‫عبور من الوجود إىل املطلق‪.‬‬ ‫(عشقت) إىل‬ ‫وعندما يتعدى الفعل‬ ‫ُ‬ ‫(اصطفاءك) و(ارمتاءك) و(جنونك) فإنّه‬ ‫احلب إىل طقس من اهليام املقدّ س‪،‬‬ ‫حيول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التوحد‪« ،‬فال‬ ‫ويرتفع باحلبيبني إىل حد‬ ‫ّ‬ ‫يقوم العاشق إال باملعشوق»(‪ )19‬وهناك‬ ‫فعل (اصطفاء‪ ،‬ارمتاء‪ ،‬جنون) يقابله ردة‬ ‫فعل (هروب‪ ،‬عشق) أدخال القارئ جزء ًا‬ ‫فتحول‬ ‫من عامل احلبيبني القائم عىل الغربة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫احلب بينهام إىل ما يشبه الدين‪ ،‬والعشق‬ ‫ّ‬ ‫وأعطامها قابلية ذوبان أحدمها يف اآلخر‪.‬‬ ‫وقوله (ارمتاءك يف وحشتي) عالمة‬ ‫شديدة التعبري عن مشاعر الغربة والوحشة‬ ‫الوجودية‪ ،‬التي أ ّدت بالشاعر إىل‬ ‫اإلحساس بعدم األمان‪ ،‬وهذا ما تط ّلب‬ ‫تدخل احلبيبة‪ ،‬لدفع الغربة عن ذاهتا وذاته‬ ‫وعن الوجود يف الوقت عينه‪.‬‬

‫ومتثل كاف املخاطبة (ك) من جهة‬ ‫وضمريي املتك ّلم (التاء والياء) من جهة‬ ‫أخرى‪ ،‬تلك العالقة األزل ّية بني الذكورة‬ ‫واألنوثة‪ ،‬ولك ّن سيطرة ضمري املتكلم‬ ‫جعلت الرجل الشاعر حمور الكالم‪،‬‬ ‫وجعلت املرأة‪/‬احلبيبة تدور يف فلكه‬ ‫لتصبح رمز ًا للطمأنينة واألمان‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪85‬‬ ‫ِ‬ ‫صنوبرتان‪،‬‬ ‫وهنالك منا‬ ‫تشبان قرب سياج احلديقة‪ِ،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫تنتبهان قلي ً‬ ‫ال وتعتنقان كثري ًا‪.‬‬

‫أن يكون يف احلديقة صنوبرتان مها‬ ‫نتاج العالقة بني الشاعر واحلبيبة عالمة‬ ‫واضحة عىل إيامن الشاعر بوحدة الوجود‪.‬‬ ‫فالكنايات املوجودة هنا واالستعارات‪،‬‬ ‫ماهت بني اإلنسان والطبيعة‪ ،‬وساوت‬ ‫الصنوبرتني بالبرش مما خيلط األدوار‬ ‫واهلو ّيات‪.‬‬

‫فالشاعر واحلبيبة قد ذابا يف روح‬ ‫حتولت إىل مركز للكون‪،‬‬ ‫الطبيعة‪ ،‬التي ّ‬ ‫يوزع األدوار املتناغمة بني البرش والشجر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فإذا بنا أمام وحدة الوجود‪ .‬وقد ساعدت‬ ‫التحول‬ ‫احللولية الشاعر واحلبيبة (منّا) عىل‬ ‫ّ‬ ‫إىل جزء من الطبيعة‪ ،‬له القدرة عىل اخللق‬ ‫ِ‬ ‫يتحول‬ ‫(صنوبرتان) إذ‬ ‫واإلخصاب‬ ‫ّ‬ ‫احلب بينهام من فعل حب إىل فعل خلق‪.‬‬ ‫وقد استعار الشاعر هلام األفعال (تش ّبان‪،‬‬ ‫تنتبهان‪ ،‬تعتنقان) ليعطيهام هو ّية إنسان ّية‪،‬‬ ‫جعلت حياة األشجار‪/‬الصنوبر صورة‬ ‫مماثلة حلياة البرش‪ ،‬وحتمل هم استمرار‬ ‫احلياة‪ .‬فالصنوبرتان كانتا تعتنقان (كثري ًا)‬ ‫وال تنتبهان إال (قليالً) ألن عشق الطبيعة‬ ‫هو هيام دائم يفيض إىل احللول فيها‬ ‫وسرب رس اخللق‪ ،‬وهذا ما يعطي الراحة‬ ‫والطمأنينة للقلوب التائهة‪.‬‬ ‫وشجرة الصنوبر هي شجرة قوية‪،‬‬ ‫التوحد‬ ‫صلبة‪ ،‬فهل قصد الشاعر أن‬ ‫ّ‬ ‫هنائي‪ ،‬يعطي استمرار ًا‬ ‫بالطبيعة مآل‬ ‫ّ‬ ‫وخلود ًا وقوة ومناعة وال يكرتث بالتجربة‬ ‫اآلن ّية؟‬ ‫التصوف يلقي بظالله‬ ‫وإذا كان‬ ‫ّ‬

‫عىل هذه األسطر الشعر ّية‪ ،‬فإن الطبيعة‬ ‫قد ظهرت حمور ًا كون ًّيا‪ ،‬تدور يف فلكه‬ ‫الكائنات ك ّلها‪ ،‬لتتبادل األرواح واألجساد‬ ‫واألدوار‪ ،‬وتتحد يف دائرة هذا الكون‪.‬‬ ‫والطبيعة برموزها دخلت يف مناخات‬ ‫شعر ّية خاصة‪ ،‬عبرّ ت عن حال نفس ّية‬ ‫حيياها الشاعر‪ ،‬ورؤية ثقافية خاصة به‪.‬‬ ‫فهل كان يعد اإلنسان مادة طبيع ّية حمضة‪،‬‬ ‫فيلغي املسافة بينها وبني العنارص الكون ّية‬ ‫األخرى؟ وما هي رؤيته ملا بعد املوت؟‬ ‫وعىل أي حال لقد ساعدت الطبيعة‬ ‫الشاعر عىل إيصال أفكاره‪ ،‬وقدمت‬ ‫طواعية للغة بتبنيها نظام ًا من العالقات‬ ‫اجلديدة بني املفردات فاكتسبت هويات‬ ‫وحتولت إىل عالمات دا ّلة‪.‬‬ ‫جديدة‪ّ ،‬‬ ‫وينتقل الشاعر ليحدّ ثنا عن ساموات‬ ‫خاصة به يف قصيدة "ساموات" فيقول‪:‬‬ ‫تعدو الساموات القريبة خلف أوهامي‬ ‫خطاي عىل الثرى‬ ‫لتحضن ما خت ّلفه‬ ‫َ‬ ‫وتعود هائمة به نحو األعايل‬

‫اعتمد الشاعر هنا عىل الصور البيان ّية‬ ‫شك يف ّ‬ ‫لتقدّ م ما يو ّد قوله‪ .‬وال ّ‬ ‫أن حضور‬ ‫ديني‪.‬‬ ‫كلمة «ساموات» حييل إىل ما هو‬ ‫ّ‬ ‫فالساموات السبع وردت يف القرآن الكريم‬ ‫بوصفها فضاء ال يعلمه إال اهلل‪.‬‬ ‫لكن الشاعر جيعل سامواته قريبة‪.‬‬ ‫وهذا ما يعطيه قدرة عىل إزالة احلدود‬ ‫بني السامء واألرض‪ .‬وإذا كانت هذه‬ ‫الساموات يقينية فإن كلمة (أوهامي)‬ ‫يب‪ ،‬وغري‬ ‫جعلتها تعدو خلف ما هو رسا ّ‬ ‫يقيني‪ .‬والشاعر حني يستعري الفعل‬ ‫(حتضن) هلذه الساموات فإنّه يعطيها هو ّية‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 86‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫األم التي تقدّ م عطف ًا خاص ًا آلثار ومهية‬ ‫خاصة بالشاعر (ما خت ّلفه خطاي عىل‬ ‫الثرى) وكأهنا تعدّ ها شيئ ًَا مقدس ًا خاص ًا‬ ‫باألنبياء‪ .‬وحني يسند إليها الفعل «تعدو»‬ ‫فإنّه يكسبها هوية اإلنسان العاشق الذي‬ ‫خرجت‬ ‫يركض وراء احلبيب‪ .‬فالساموات‬ ‫ْ‬ ‫عن معجميتها لتدخل يف عالقة تقاطب مع‬ ‫استبدلت‬ ‫الثرى كونه أكثر قدس ّية منها إذ‬ ‫ْ‬ ‫هبويتها القديمة‪ ،‬هوية جديدة وأضحت‬ ‫باحثة عن مصدر جديد للقداسة‪ ،‬فوجدته‬ ‫عىل األرض‪.‬‬

‫التصوف ّقرب السامء‬ ‫وال شك يف أن‬ ‫ّ‬ ‫من األرض‪ ،‬وكأن الشاعر قد أدركته‬ ‫احلال‪ ،‬فجعل الساموات عاشقة ملا يقدّ مه‬ ‫من أعامل‪ ،‬مضفي ًا عليها شيئ ًا إهلي ًا‪ .‬وقد‬ ‫استعار الشاعر هلا كلامت من معجم احلب‬ ‫والرومانسية (حتضن‪ ،‬هائمة) لتعبرّ عن‬ ‫العشق واإليامن العميق بوحدة العامل‪ ،‬إذ‬ ‫ظهرت أضعف من األرض التي أصبحت‬ ‫مرجع ًا؛ هلا ألهنا ح ّيز لأللوهة‪ .‬هذا ما‬ ‫التصوف مزاوج ًا بني األرض‬ ‫أحدثه‬ ‫ّ‬ ‫والسامء فانقلبت املفاهيم وإذا بنا أمام‬ ‫قداسة اإلنسان‪.‬‬ ‫والساموات التي كان وجودها يف هذه‬ ‫األسطر الشعرية وجود ًا خارج ًا عن منطق‬ ‫املتصوف‪ ،‬الذي‬ ‫العقل‪ ،‬ارتقت باإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫أفاد من رمزيتها‪ ،‬وما قدّ مته من دالالت‬ ‫شعري بامتياز‪.‬‬ ‫يف عامل‬ ‫ّ‬

‫تتحول إىل مرآة تعكس‬ ‫والطبيعة‬ ‫ّ‬ ‫صورة النفس وأحالمها وقلقها‪ ،‬وتساعد‬ ‫عىل التأ ّمل‪:‬‬ ‫أرى بعني املوج هذا القفر‪ ،‬منطرح ًا‬ ‫أمام شموس وحشته التي‪...‬‬

‫رثـّت وترشق ّ‬ ‫كل يو ٍم‪...‬‬

‫فالقفر يرمز إىل هذه األرض التي‬ ‫حتولت بفعل كثافة الكنايات إىل أرض‬ ‫ّ‬ ‫ذاتية غري صاحلة للعيش‪ّ ،‬‬ ‫وحيل الشاعر يف‬ ‫املوج فينظر بعينه إليه‪ .‬فإذا به ح ّيز للموت‬ ‫ٍ‬ ‫متالش‪ ،‬ال روح فيه‪ .‬واملوج رمز التغيري‬ ‫والوالدة واحلركة يدخل يف عالقة ضدية‬ ‫مع القفر اخلايل من مقومات احلياة‪.‬‬

‫فعني املوج مل تستطع أن تفعل فعلها‬ ‫أمام قوة الشموس التي أضيفت إليها‬ ‫كلمة وحشة التي شحنتها بطاقة كبرية من‬ ‫السلب ّية‪.‬‬ ‫وال يكتفي نظام العالقات اللغوية‬ ‫بذلك إنّام يستعري هلا فعل (رثـ ّْت) ليكتمل‬ ‫حتولت إىل‬ ‫فعل تعطيل دور الشمس التي ّ‬ ‫شموس لتخرج إىل دالالت قائمة عىل‬ ‫املوت‪ ،‬واليأس‪ ،‬والغرابة‪ .‬فشموس كهذه‬ ‫يعول‬ ‫تكرر إرشاقها البائس كل يوم ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫عليها‪ ،‬من أجل بناء واقع جديد‪ ،‬ألنهّ ا ال‬ ‫تستطيع أن تعطي أمالً‪ ،‬فقد فقدت قدرهتا‬ ‫عىل اإلخصاب‪ ،‬وأصبحت رمز ًا للموت‪.‬‬ ‫والشاعر الذي يرسم مثل هذه الصور‬ ‫املحبطة‪ ،‬لتعبرّ عن شعوره بالغربة والوحشة‬ ‫الوجودي الذي "يشعر أن‬ ‫فيقرتب من‬ ‫ّ‬ ‫كل ما حييط به يتصف بالسخافة والال‬ ‫جدوى"(‪ .)20‬قد خرج عن منطقية اللغة‪،‬‬ ‫ليعبرّ عن رؤيته هذه إىل العامل‪ .‬فأحرض‬ ‫(شموس ًا) يائسة تناسب (ساموات) من‬ ‫صنعه‪ ،‬فهل عنى ّ‬ ‫أن لكل سامء شمس ًا عىل‬ ‫هذه الشاكلة؟ أهلذا كانت السموات تقتفي‬ ‫فلسفي‬ ‫أثره وهتيم به؟ وإن نظرنا من منطلق‬ ‫ّ‬ ‫فإن فعل (ر ّث ْت) عندما أسند إىل الشمس‪،‬‬ ‫أوحى بقدم العامل وماديته‪ ،‬فاإلنسان جزء‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪87‬‬ ‫من كون كبري وقديم‪ ،‬يعدّ اإلنسان فيه‬ ‫وسيلة وليس غاية‪.‬‬

‫وهكذا نرى أن املعاين قد كمنت وراء‬ ‫نظام من العالقات اجلديدة‪ ،‬لتمسك برؤية‬ ‫نفيس‬ ‫الشاعر‪ ،‬الذي كان ينظر من منظور‬ ‫ّ‬ ‫يمر عىل األشياء مرور‬ ‫إىل العامل‪ .‬فنراه ال ّ‬ ‫الكرام‪ ،‬إنام يتوقف متأ ّمالً‪ ،‬حملالً‪ ،‬منطلق ًا‬ ‫إىل أبعاد مرتبطة بعوامل غامضة وموح ّية‪،‬‬ ‫تدفع القارئ إىل إعامل العقل من أجل‬ ‫اكتناه دالالهتا‪.‬‬ ‫والشاعر جلأ إىل املجاز للتعبري عن‬ ‫رؤاه الوجود ّية والفلسفية‪ ،‬فإذا صوره‬ ‫قائمة عىل االستعارات والكنايات‬ ‫والتشابيه‪ .‬فهي صور هادئة‪ ،‬عميقة‪،‬‬ ‫وموحية‪ ،‬حتاول اخرتاق املحسوسات‬ ‫واملعقوالت‪ ،‬وحتكي حكاية املعايشة‬ ‫الوجدانية بني النفس احلائرة وبني الطبيعة‬ ‫تتحول التجربة الشعورية‬ ‫وعنارصها إذ‬ ‫ّ‬ ‫إىل ما يشبه الذوبان فيها‪ .‬فهي حارضة‬ ‫من أول الديوان إىل آخره‪ ،‬ألهنا من أركان‬ ‫الشعر ومقوماته عند جودت فخر الدين‪،‬‬ ‫والرسول األمني الذي يب ّلغ عنه الرسالة‪،‬‬ ‫ليثبت أن الشعر "يقول العامل‪ ،‬وهذا هو‬ ‫موضوعه احلق"(‪.)21‬‬

‫ب) الطبيعة يف جمموعة "ليس‬ ‫بعد‪ "...‬الشعر ّية‪:‬‬

‫ويف ديوان "ليس بعد‪ "...‬استدرج‬ ‫الشاعر عنارص الطبيعة للحضور يف‬ ‫شعره‪ ،‬فقدّ م قصائد دافئة‪ ،‬فيها الكثري‬ ‫من التأمل والتفكّر يف أجواء رومانس ّية‪،‬‬ ‫تستنطق عنارص الطبيعة وحتاكيها لع ّلها‬ ‫عيص عىل الفهم‪ .‬وقد الحق‬ ‫تبوح بام هو‬ ‫ّ‬

‫الشاعر بوساطتها أحالم ًا هاربة وحاول‬ ‫اكتناه أرسار الكون وكأنه يصل املرئي‬ ‫ليتحول الشعر‬ ‫بالكيل‪ ،‬والعابر باألبدي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إىل ميتافيزياء فورية(‪ ،)22‬وتأسيس للعامل‬ ‫باللغة والرؤية(‪.)23‬‬ ‫وخيتلط صوت الشاعر بصوت‬ ‫الطبيعة ليكشف عن رؤية ذات بعد‬ ‫صويف‪:‬‬ ‫وجودي‬ ‫ّ‬ ‫تقول الطبيعة يف بعض أحواهلا‪:‬‬ ‫أهيا البرش اهلائمون‪،‬‬ ‫تعالوا إ ّيل ألحضنكم‪.‬‬

‫لو وقفنا عند النداء (أهيا) حلكمنا عىل‬ ‫نثري إال‬ ‫النص باخلطاب ّية وما فيها من طابع ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن األسطر الثالثة حتيلنا إىل ما هو شعري‪.‬‬ ‫فالشاعر استنطق الطبيعة التي ظهرت أم ًا‬ ‫حنون ًا للبرش‪ ،‬ويف هذا نظرة رومانس ّية‬ ‫كأنهّ ا تشري إىل انعدام الدفء يف املجتمع‪،‬‬ ‫فتكون الطبيعة احلضن البديل‪.‬‬

‫وال شك يف أن كلمة "اهلائمون" أتت‬ ‫لتضفي مناخ ًا من العشق للطبيعة‪ ،‬جيعلنا‬ ‫ندرك بسهولة أن هناك عالقة وجد بني‬ ‫اإلنسان وبينها‪ ،‬شبيهة بعالقة الوجد بني‬ ‫اإلنسان واخلالق‪ .‬ويف هذا نفحة صوفية‬ ‫لتتخذ الطبيعة هو ّية جديدة‪ .‬إنهّ ا األم‬ ‫التي تنادي نوع ًا خاص ًا من الناس‪ .‬إهنم‬ ‫اهلائمون بحبها‪ ،‬السائرون عىل درهبا لبلوغ‬ ‫السعادة والراحة‪ .‬أمل يقل السيد املسيح يف‬ ‫إنجيل متّى‪" :‬تعالوا إ ّيل يا أهيا املتعبون‬ ‫والثقييل احلمل وأنا أرحيكم"؟‬ ‫حتولت الطبيعة إىل ما يشبه اإلله‬ ‫فهل ّ‬ ‫طقوس‬ ‫املخ ّلص الذي تمُ ارس يف حرضته‬ ‫ٌ‬ ‫خاصة‪ ،‬للوصول إىل الراحة والسعادة؟‬ ‫حتول الشعر إىل "نشاط صويف"(‪)24‬؟‬ ‫وهل ّ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 88‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الرومنيس هييم بالطبيعة‪ ،‬وينشد‬ ‫وإذا كان‬ ‫ّ‬ ‫العزلة يف أحضاهنا‪ ،‬فيستلهمها ويستوحي‬ ‫أرسارها(‪ّ )25‬‬ ‫فإن الصور هنا أبعد من ذلك‬ ‫حتول عشق الطبيعة إىل قضية‪ ،‬تؤمن هبا‬ ‫إذ ّ‬ ‫النفوس التائهة‪.‬‬ ‫فخر ْت‬ ‫أومأ الشاعر للشمس ّ‬ ‫غارت يف الرمال‪.‬‬ ‫ثم‬ ‫ْ‬

‫(خر ْت)‬ ‫خترج عملية إسناد الفعلني‬ ‫ّ‬ ‫و(غارت) الشمس من هويتها املوضوعية‬ ‫ْ‬ ‫لتعطيها هو ّية املستسلمة‪ ،‬اخلاضعة إذ‬ ‫دخلت يف شبكة عالقات جمازية نسجها‬ ‫الشاعر فع ّطلت هويتها املوضوعية‬ ‫لتعطيها هوية فن ّية‪ .‬فهذان الفعالن ال‬ ‫يعطيان الشمس بقدر ما يعطيان الشاعر‬ ‫النبوة التي متكنه من‬ ‫إذ أكسباه رضب ًا من ّ‬ ‫اجرتاع املعجزات‪ ،‬فإذا بالشمس تسجد‬ ‫له وتأمتر بأوامره‪ ،‬ثم ختتفي‪ ،‬ارتكاز ًا‬ ‫عىل اإليامءة إىل املوروث الديني الشيعي‬ ‫الشعبي املتع ّلق بعودة الشمس إىل اإلمام‬ ‫عيل لكي يصليّ واجب ًا‪ .‬ويف هذا إشارة إىل‬ ‫ٍ‬ ‫متعال عىل الشمس‪ ،‬ففي الشعر‬ ‫أن الشاعر‬ ‫من الطاقة والقدرة القادرة عىل تغيري العامل‬ ‫وقلب املوازين‪.‬‬ ‫فاالستعارات املتالحقة التي حشدها‬ ‫الشاعر يف هذين السطرين الشعريني‪،‬‬ ‫تعاونت من أجل الداللة عىل القدرة‬ ‫العجائبية للشعر والشاعر‪.‬‬ ‫وهو يشعر أنه وسط هنر‪ ،‬جيري به‪،‬‬ ‫فيجري معه وخيدعه للتغرير به‪ ،‬وكأنه‬ ‫يشري إىل العمر الذي جيري دون توقف‪،‬‬ ‫فيومئ إىل خداعه‪ .‬هذا يستبطن داللة تشري‬ ‫إىل رؤية وجودية‪ ،‬تؤكد الوجود الزائف‬ ‫لإلنسان الذي يسري به نحو املوت بوصفه‬

‫قدر ًا مؤكد ًا‪.‬‬

‫ليس بعد‪...‬‬ ‫كأنّك يف وسط النهر‪،‬‬ ‫غرر به‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتظاهر بأنكام جتريان معا‪ً،‬‬ ‫وارمق الضفتني بال جزع‬

‫مل يكن كافي ًا أن يلجأ الشاعر إىل‬ ‫فيتحول إىل هنر‪ ،‬فاحللول فيها‬ ‫الطبيعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يكسب اإلنسان بعض ًا من قوهتا‪ .‬وكأن‬ ‫الشاعر بتحرير اجلسد من ماديته‪ ،‬يرتفع‬ ‫بالروح ويسمو ليصل إىل احللول فيتصل‬ ‫مبارشة بالوعي الكوين وباحلقيقة الكربى‬ ‫املاثلة يف الطبيعة‪ .‬وإذا كان الشاعر (كأنّه‬ ‫يف وسط النهر)‪ ،‬جيريان مع ًا‪ّ ،‬‬ ‫فإن حضور‬ ‫(غرر) و(تظاهر) قد أظهر أن لكل‬ ‫الفعلني ّ‬ ‫من النهر والشاعر طبيعة خمتلفة‪ ،‬فاملزاوجة‬ ‫(غرر به) يومئ‬ ‫بينهام غري كاملة‪ ،‬ألن تعبري ّ‬ ‫إىل رغبة الشاعر بخداع النهر ليتكسب‬ ‫والتوحد معه‪ ،‬لكن‬ ‫نوع ًا من التامسك‬ ‫ّ‬ ‫تطلبت نوع ًا من‬ ‫العالقة احلميمة بينهام‬ ‫ْ‬ ‫اخلداع والتظاهر‪ ،‬ليصريا من الطبيعة‬ ‫نفسها ‪.‬‬ ‫ليس بعدُ ‪...‬‬ ‫تق ّبل وعو َد الشتاء‬ ‫ٍ‬ ‫خجل‬ ‫التي تتجدّ د يف‬ ‫هتفت له؟‬ ‫كم‬ ‫َ‬ ‫للشتاء الذي كان يأيت َ‬ ‫إليك‪،‬‬ ‫فتأيت إليه‪،‬‬ ‫تناد ُم ُه يف الليايل الطويلة‪.‬‬

‫أن يتق ّبل الشاعر وعود الشتاء يعني‬ ‫أنه مل يعد هناك من خيارات كثرية‪ ،‬وآمال‬ ‫معقودة عىل الوعود املتجددة‪ .‬فكلمة‬ ‫(خجل) أتت لتشري إىل ضمور هذه الوعود‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪89‬‬ ‫التي تعاين من الضآلة وجتعلها خمتلفة عن‬ ‫الوعود املتوخاة‪ .‬وهذا يشري إىل التوق إىل‬ ‫الشتاء الذي (كان)‪.‬‬

‫هذا ما يستدعي فعل (هتفت) واجلار‬ ‫واملجرور (له) ليشري إىل عمر‪ ،‬يراقبه‬ ‫الشاعر‪ ،‬متذكر ًا العالقة االجيابية التي‬ ‫كانت‪.‬‬

‫فالفعل الناقص (كان) الذي أتى‬ ‫قبل الفعلني (يأيت) و(فتأيت) دليل عىل‬ ‫التحول الذي أصاب العالقة مما هو إجيايب‬ ‫ّ‬ ‫إىل ما هو سلبي‪ .‬هذا ما خلق قلق ًا وحزن ًا‬ ‫وجودي ًا لدى الشاعر‪ .‬فالتامهي بينهام أشار‬ ‫إىل انتامئهام إىل الطبيعة نفسها‪ .‬وهذا ما‬ ‫سوغ عالقة الصداقة واملنادمة بينهام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ففعل (تنادمه) يكشف عن عالقة‬ ‫محيمة وعميقة بني الشاعر والشتاء‪،‬‬ ‫أعطت ك ً‬ ‫ال منهام هوية جديدة‪ .‬فصار‬ ‫الشاعر فص ً‬ ‫ال من فصول الطبيعة يتعامل‬ ‫معها كالشتاء عىل قدم املساواة‪ .‬هذه‬ ‫العالقة املفعمة باإلجيابية أعاد تشكيلها‬ ‫فعل (تق ّبل) الذي أسس لواقع جديد أقل‬ ‫تفاؤالً‪ ،‬وقد عضده الفعل الناقص (كان)‬ ‫ليشريا مع ًا إىل انطالقة جديدة وتبدّ ل يف‬ ‫طبيعة هذه العالقة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫باألمس‪،‬‬ ‫ذكّر الغيم‬ ‫واهتف ل ُه‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫لوعود الشتاء‬ ‫التي أصبحت تتجدّ د‬ ‫يف خجل كاخلريف‪.‬‬

‫يعتمد الشاعر هنا عىل املجاز ليخرج‬ ‫بالنظام اللغوي إىل دالالت جديدة‪.‬‬ ‫إذ أخرج الغيم من هويته املوضوع ّية‬ ‫وأعطاه هوية جديدة ذات داللة احتاملية‪.‬‬

‫واملطلوب تذكري هذا الغيم باألمس‪ ،‬عرب‬ ‫فعل األمر (ذكّر)‪( .‬فاألمس) مطبوع يف‬ ‫الذاكرة‪ ،‬ومؤ ّثر فيها‪ ،‬يستعيده الشاعر‬ ‫كونه زمن ًا لالرتياح‪ ،‬عص ًّيا عىل النسيان‪،‬‬ ‫ليحل حمل الزمن احلارض‪ ،‬وهذا التع ّلق‬ ‫الوجودي‪.‬‬ ‫باملايض يضفي مناخ ًا من احلزن‬ ‫ّ‬ ‫فال عجب أن هيتف الشاعر له‪ ،‬ويناديه‪،‬‬ ‫لكونه رمز ًا للزمن املنشود الذي تتوق إليه‬ ‫النفس كام سيهتف للوعود اخلجولة التي‬ ‫ال جديد ًا ضئي ً‬ ‫تأتيه مع الشتاء بوصفها أم ً‬ ‫ال‬ ‫قد يتحقق وقد ال يتحقق‪.‬‬ ‫وعندما يش ّبه الشاعر هذه الوعود‬ ‫باخلريف‪ ،‬إنام ليشري إىل خريف داخل‬ ‫النفس‪ ،‬وهذا ما يستدعي انخفاض ًا يف‬ ‫منسوب التفاؤل‪ .‬فاخلريف يرمز إىل‬ ‫الزمني‪ ،‬وحقبة االنتقال من زمن‬ ‫التحول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التوهج والتفتح واحلياة ‪/‬فصل الصيف‬ ‫إىل فصل االنطفاء واملوات‪ /‬فصل الشتاء‪.‬‬ ‫وهكذا يمكن النظر إىل اخلريف عىل أنّه‬ ‫السلبي‪.‬‬ ‫التحول‬ ‫فصل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هو الغيم يميض بك اآلن‬ ‫حيث يشاء‪،‬‬ ‫مصريك يشبهه‪.‬‬

‫الثقايف‬ ‫الصور هنا تدل عىل العمق‬ ‫ّ‬ ‫للشاعر الذي جلأ إىل احليد اللغوي لريسم‬ ‫مشهد ًا وجودي ًا حاد ًا‪ .‬فظرف الزمان‬ ‫(اآلن) ّ‬ ‫يدل عىل أن املرحلة احلالية ال تشبه‬ ‫املرحلة السابقة‪ ،‬وهذا ما استدعى الفعل‬ ‫(يميض) الذي تعدّ ى إىل اجلار واملجرور‬ ‫الرتكيبي إىل أن‬ ‫(بك) ليشري هذا البعد‬ ‫ّ‬ ‫الغيم صار طاقة توجيه‪ ،‬ثم يأيت الرتكيب‬ ‫(حيث يشاء) ليعزز هذه الصورة‪/‬القائد‬ ‫مقابل استسالم كليّ للشاعر‪ ،‬الذي‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 90‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫بدا وكأنّه جزء من الغيم‪ ،‬وقد ّ‬ ‫حل به‪،‬‬ ‫ليشاركه رفعته وعدم استقراره وثباته‪،‬‬ ‫ربام سوداويته أحيان ًا‪ .‬حتى أهنام تشاركا‬ ‫سوغ‬ ‫املصري نفسه (مصريك يشبهه) هذا ما ّ‬ ‫ترافقهام (يميض بك) وإن كان الغيم أكثر‬ ‫قوة‪ .‬وهكذا فقد أوجد الشاعر معادلة‬ ‫تقوم عىل مشاهبة حياة اإلنسان بالغيم‪،‬‬ ‫وهذه املعادلة تؤسس لقلق وجودي‪،‬‬ ‫لكوهنا تشري يف الذهن فكرة املوت‪.‬‬ ‫ومهام يكن من أمر‪ ،‬فقد كنّا يف هذه‬ ‫املجموعة أمام الشاعر يف تأمالته‪ ،‬وتوتره‪،‬‬ ‫وتصوفه‪ ،‬وتعاليه‪ ،‬وهروبه يف عامل يعدو به‬ ‫ّ‬ ‫(‪)26‬‬ ‫صوب اإلمكان املؤكد ‪.‬‬ ‫فقصائده كانت نتاج ًا لرؤية خاصة إىل‬ ‫العامل أنتجت صور ًا ورموز ًا قوامها عنارص‬ ‫الطبيعة‪ ،‬تغلغلت بوساطتها إىل عمق‬ ‫الكون‪ ،‬لتعبرّ عن أيديولوجيا الشاعر‪.‬‬ ‫وقد رأينا الطبيعة مرسح ًا شاحب ًا‬

‫متصوفة‪ ،‬وقد‬ ‫ألفكاره‪ ،‬وكأنهّ ا بدورها‬ ‫ّ‬ ‫غابت عنها الورود‪ ،‬والعصافري‪ ،‬وكل‬ ‫املقومات التي ترسم صور ًا باسمة فرحة‪،‬‬ ‫فرشحت تأ ّمالً‪ ،‬وزهد ًا‪.‬‬ ‫ْ‬

‫كاملتصوف الذي يرتك‬ ‫فهل أصبحت‬ ‫ّ‬ ‫املا ّدي وصوالً إىل منبع الطاقة (الروح)؟‬

‫والشاعر الذي صادقها‪ ،‬وحاكاها‪ ،‬إىل‬ ‫أن ّ‬ ‫حل فيها‪ ،‬صار متصوف ًا "يعاين ما هو‬

‫غري مرئي حتى صار مرئي ًا بنور عقله"‬

‫وكأنّه يف تبادل اهلو ّيات مع النهر والغيم‬ ‫وأشياء الطبيعة‪ ،‬يقول إن عنارص الطبيعة‬ ‫والبرش يتميزون باخلواص نفسها‪ ،‬لذلك‬

‫هم متساوون‪.‬‬

‫فام طبيعة هذه اخلواص ومصدرها؟‬

‫مادي كام يقول أرسطو‬ ‫أهو‬ ‫ّ‬ ‫مادي(‪)29‬؟‬ ‫ّ‬

‫(‪)28‬‬

‫د‪ .‬عائشــة شــكر‬

‫اهلوامـش‬

‫(‪)27‬‬

‫(‪ )1‬شاعر برتغايل‪.‬‬ ‫(‪ )2‬عيل زيتون‪ ،‬احلداثة الشعرية‪ ،‬ص ‪.118‬‬ ‫يب اللبناين احلديث‪ ،‬ص ‪.377‬‬ ‫(‪ )3‬حسام الضيقة‪ ،‬الوجودية يف الشعر العر ّ‬ ‫(‪ )4‬جان بول سارتر‪ :‬ما األدب؟ ص ‪.9‬‬ ‫(‪ )5‬أدونيس‪ ،‬الثابت واملتحول‪ ،‬ص ‪.294‬‬ ‫(‪ )6‬م‪ .‬ن‪ ،.‬ص ن‪.‬‬

‫أم غري‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪91‬‬ ‫(‪ )7‬أدونيس‪ ،‬صدمة احلداثة‪ ،‬ص ‪.297‬‬ ‫يب‪ ،‬ص ‪.142‬‬ ‫(‪ )8‬أدونيس‪ ،‬مقدّ مة الشعر العر ّ‬ ‫(‪ )9‬م‪ .‬ن‪ ،.‬ص ‪.120‬‬ ‫(‪ )10‬ديزيره سقال‪ ،‬حركة احلداثة‪ ،‬ص ‪.200‬‬ ‫(‪ )11‬رينيه حبيش‪ ،‬مقال‪ :‬الشعر يف معركة الوجود‪ ،‬جملة شعر‪ ،‬عدد ‪ ،1‬ص ‪.88‬‬ ‫(‪ )12‬عيل زيتون‪ ،‬الس ّياب شاعر ًا‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫(‪ )13‬جملة عرب ّيات‪ ،‬عىل االنرتنت‪.‬‬ ‫(‪ )14‬جريدة الرأي‪ ،‬حوار مع جودت فخر الدين‪ ،‬قليل هو الشعر اجليد‪.2009 – 6 – 1 ،‬‬ ‫(‪ )15‬عيل زيتون‪ ،‬الس ّياب شاعر ًا‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫(‪ )16‬م‪ .‬ن‪ ،.‬ص ‪.8‬‬ ‫(‪ )17‬موقع روافد‪ ،‬عىل االنرتنت‪.‬‬ ‫(‪ )18‬أراغون‪ ،‬لورشبونييه‪ ،‬ص ‪.180‬‬ ‫(‪ )19‬را‪ .‬أدونيس‪ ،‬الصوف ّية والسوريالية‪ ،‬ص ‪.107‬‬ ‫(‪ )20‬ألبري كامي‪ ،‬أسطورة سيزيف‪ ،‬ترمجة أنيس زكي حسن‪ ،‬ص ‪.22‬‬ ‫‪V. Dufrenne. M. Le poétique, p. 130.‬‬ ‫(‪)21‬‬ ‫(‪Bachlard, Gaston, Le droit de rêver, presses universtaires de France, 4e )22‬‬ ‫‪edition, 1978, p. 224‬‬

‫(‪ )23‬حممد غنيمي هالل‪ ،‬الرومانتيكية‪ ،‬ص ‪.172‬‬ ‫(‪ )24‬حسام الضيقة‪ ،‬الرؤيا الصوفية يف الشعر‪ ،‬وألواهنا‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫(‪ )25‬أوكتافيو باث‪ ،‬الشعر والقصيدة‪ ،‬ترمجة كاظم جواد‪ ،‬مواقف‪ ،‬ص ‪.59‬‬ ‫(‪ )26‬جون ماكوري‪ ،‬الوجودية‪ ،‬ص ‪.283‬‬ ‫(‪ )27‬عزيز السيد جاسم‪ ،‬ديالكتيك العالقة املع ّقدة بني املثالية واملاد ّية‪ ،‬ص ‪.265‬‬ ‫الذرة هي النقطة األوىل يف نشوء املا ّدة‪.‬‬ ‫(‪ )28‬ديموقريطس وأرسطو أكّدا أن ّ‬ ‫(‪ )29‬أنشتني أثبت أن نشوء اجلسيم من الطاقة فأرجع مصدر املا ّدي إىل الال ما ّدي‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 92‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫التعالق النصي ودور الكلمة الشاهدة‬ ‫في‬

‫رواية‪« :‬السهل» لـ أحمد نصر‬ ‫حممـد احممد بن طاهر‬ ‫مقدمة‬

‫يقال‪ :‬إن القيمة احلقيقية ألي دراسة‬ ‫علمية تتحدد يف أمرين أساسني مها‪:‬‬ ‫"الثغرة‪ ،‬أو الثغرات‪ ،‬التي تسدها يف حميط‬ ‫الدراسات التي ينتمي موضوعها إليها‪،‬‬ ‫ونوع األسئلة التي جتيب عنها‪ ،‬أو املوقف‬ ‫املشكل الذي تتصدى ملعاجلته"(‪.)1‬‬ ‫ومن هنا‪ ،‬فإن الولوج إىل عمق النص‬ ‫الروائي عامة‪ ،‬والليبي بخاصة‪ ،‬وتقليب‬ ‫مواده‪ ،‬ومتكني الكاشف منها‪ ،‬بعيدا عن‬ ‫متثل الغائب‪ ،‬مما تدعو إليه احلاجة‪ ،‬ويف‬ ‫هذه السانحة اخرتت أن تكون مقاربتي‪،‬‬ ‫حول نص روائي لكاتب ليبي‪ .‬هو‪:‬‬ ‫األستاذ (أمحد حممد نرص) أحد أبرز‬ ‫املبدعني من أبناء الوطن‪ ،‬الذي جسد يف‬ ‫كتاباته مالمح التجربة اإلنسانية‪ ،‬مصورا‬ ‫مظاهر احلياة يف بيئة زمانية ومكانية معينة‪،‬‬ ‫حماوال استكشاف جوانبها وما تأثرت به‬ ‫من أحداث‪.‬‬ ‫والرواية الليبية شأهنا شأن غريها من‬ ‫نصوص األدب الرفيع‪ ،‬تستلهم نبض‬ ‫الناس‪ ،‬وتستوحي أتراحهم وأفراحهم‪،‬‬ ‫وحضور التارخيي فيها جاء شاهدا باعتبار‬

‫احلال واملآل‪ ،‬ولن يمس تعبريي املفاجئ‪،‬‬ ‫واستحضاري بعض األلفاظ‪ ،‬وعدها‬ ‫كلامت شواهد‪ ،‬النص الروائي يف يشء؛‬ ‫ألين أرى الكلمة الشاهدة ـ وإن كانت‬ ‫عبارة حمدثة‪ ،‬وتعبريا مفاجئا ـ دليال‬ ‫معربا عام ختتزله األوضاع االجتامعية‪،‬‬ ‫واالقتصادية‪ ،‬واجلاملية طارئها وتالدها‪.‬‬ ‫ومما يدعم وجهة نظري يف مقاربتي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عدد من ألفاظ رواية (السهل) كلامت‬ ‫عدُّ‬ ‫شواهد‪ ،‬هو احلاجة إىل جتريدها‪ ،‬حتى يتم‬ ‫اإلحساس هبا‪ ،‬وفهم ما وراء استعامهلا‪.‬‬

‫ويف هذا العمل ارتأيت أن تكون‬ ‫دراستي حول إمكانية ـ عد ألفاظ بعينها‪،‬‬ ‫معاين خاصة‪،‬‬ ‫محلها كاتب رواية السهل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وصوال إىل مبتغاه ـ كلامت شواهد تعرب‬ ‫عن احلال واملآل‪ ،‬وقد اقتضاين املقام أن‬ ‫أحاور الكاتب حول كثري مما ورد يف النص‬ ‫قيد الدرس‪ ،‬وقد أفادين‪ :‬بأن الكلامت‬ ‫الشاهدة عامة‪ ،‬وقبل أن تكون شاهدة‪،‬‬ ‫كانت خمتزلة يف الذاكرة‪ ،‬تتوق إىل ولوج‬ ‫عامل األحياء‪.‬‬ ‫وفيام أرى‪ ،‬فإن احلاجة إىل البحث‬ ‫والتنقيب عن الكلامت الشواهد يف‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪93‬‬ ‫النصوص األدبية‪ ،‬وبعث ما تنطوي عليه‬ ‫من معان‪ ،‬مما تدعو إليه احلاجة‪ ،‬بخاصة‬ ‫ّ‬ ‫أن اللغة هي األداة املعربة عن مكونات‬ ‫احلضارة‪ ،‬ومن املعلوم "باحلس وامللكة‬ ‫أن اإلنسان قد يروض إحساسه ترويضا‬ ‫ينتهي به إىل إدراك النشوة الفنية بقطعة‬ ‫موسيقية غنائية يف لغة ال يفهم داللتها‬ ‫البتة‪ ،‬لكننا ال نتصور إنسانا يصفق نشوة‬ ‫أو يصيح انفعاال لقصيدة أو رواية تلقى‬ ‫عليه يف لغة ال يفهمها‪ ،‬والسبب يف ذلك‬ ‫أن احلدث األديب مزدوج يف غايته ازدواجه‬ ‫يف بنيته‪ ،‬فهو حدث تكون احلواس فيه حمط‬ ‫رحال النشوة الفنية‪ ،‬ومنافذ اإلدراك يف‬ ‫نفس الوقت"(‪.)2‬‬

‫هذه الدراسة وإن بدت تأرخيا‬ ‫ملفردات بعينها وردت يف رواية معينه‪،‬‬ ‫إال إهنا يف حقيقتها دراسة لغوية للمفاهيم‬ ‫والتصورات ـ وليست بالرضورة بحثا يف‬ ‫املكون الصويت‪ ،‬أو البناء الرصيف‪ ،‬أو الرابط‬ ‫النحوي ـ فهي وإن راعت مجيع ذلك‪ ،‬إال‬ ‫إن االهتامم انصب عىل تأكيد العالقات‬ ‫القائمة بني املفاهيم‪ ،‬واالختالف "ال يأيت‬ ‫من األصوات واألدلة بقدر ما يأيت من‬ ‫اختالف يف رؤية العامل"(‪.)3‬‬

‫وستكون دراستي ملا اخرتت من‬ ‫مادة بعيدة عن الفكرة املستقرة يف علم‬ ‫اللغة ودرسها‪ ،‬فالغاية أن تدرس بوصفها‬ ‫ألفاظا لظاهرة إنسانية‪ ،‬مع مالحظة أن‬ ‫صفة البنيوية يف هذا العمل ـ وإن بدا ما‬ ‫جيافيها ـ قائمة‪ ،‬غري إهنا بنيوية منفتحة‪،‬‬ ‫هتتم باجلانب العميل والواقعي‪ ،‬غري متشبثة‬ ‫بالقديم‪ ،‬تشبث األعمى بعصاه البالية‪.‬‬ ‫ومجلة األمر‪ ،‬فوصف لفظة ما بأنهّ ا‬

‫كلمة شاهدة‪ ،‬ال يمثل عيبا‪ ،‬وإنام يكسب‬ ‫فضيلة اهتزاز نمط الداللة‪ ،‬وجتدد‬ ‫عالقاهتا‪.‬‬

‫‪ .1‬الكلمة وأمهيتها‬

‫الكلمة هي أصغر وحدة من وحدات‬ ‫الكالم‪ ،‬وهي ليست مما يكتنفه الغموض‪،‬‬ ‫والكلامت إنام هي أحداث هلا بعدها الزماين‬ ‫واملكاين‪ ،‬بمعنى أن هلا بعدا ماديا‪ ،‬وأن هلا‬ ‫معاين ترمز إليها‪ ،‬وعند مولد الكلامت يف‬ ‫البدء كان من املمكن أن تكون مسميات‬ ‫أو رموزا ألية أشياء أخرى غري التي‬ ‫أطلقت عليها‪ ،‬ولكنها حددت ملسميات‬ ‫خمصوصة‪ ،‬ثم اكتسبت معاين إضافية‬ ‫أخرى من خالل االستعامل الذي استمر‬ ‫عرب الزمان‪ ،‬وكلام نمت اللغة وتطورت‬ ‫أصبح من املباح استعامل كلامت جديدة‬ ‫لألشياء‪ ،‬أو استعامل األسامء القديمة‬ ‫بطرق جديدة‪.‬‬ ‫ونظرا ألمهية املفردات اللغوية‪،‬‬ ‫فإنه من غري املمكن جتاهل دراستها‪،‬‬ ‫عند دراسة أي جمتمع من املجتمعات؛‬ ‫فهي الدليل إىل فهم تارخيه وحضارته‬ ‫وتفسريمها‪ ،‬وهي التي تذكر بامضيه‪ ،‬وتنبه‬ ‫إىل ما حتمل طيات غده املنظور والبعيد‪.‬‬ ‫يقال‪" :‬ال يمكن االستمرار يف بحث تاريخ‬ ‫الكلامت بمعزل عن تاريخ احلضارة"(‪.)4‬‬

‫والعناية بدراسة الكلمة ليست غريبة‬ ‫عن البحث اللساين‪ ،‬فقد كتب ستيفن‬ ‫أوملان كتابه (الكلامت واألشياء) باللغة‬ ‫اإلنجليزية‪ ،‬وكتب جورج ماطوري كتابه‬ ‫(منهج املعجمية) بالفرنسية‪ ،‬واهتمت‬ ‫الدراسات اللغوية احلديثة بدور الكلمة‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 94‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫يف اجلملة والنص‪ ،‬وال خيلو بحث أو‬ ‫كتاب من اإلشارة إىل الدور الذي يؤديه‬ ‫اختيار الكلمة يف الرتاكيب اللغوية‪ ،‬وال‬ ‫خيفى اهتامم من يمتهن الكتابة ويتخذها‬ ‫حرفة بانتقاء املفردات التي تفيض باملعاين‬ ‫املعربة والدالالت العميقة‪ ،‬وقد كان وال‬ ‫يزال هذا املقام جماال خصبا للدراسات‬ ‫النقدية قديمها وحديثها‪" ،‬ودراسة‬ ‫املفردات ال يمكن القيام هبا من دون بحث‬ ‫املعطيات االجتامعية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والفنية‪،‬‬ ‫والدينية" (‪.)5‬‬ ‫والكلمة كام يقول سابري "ال يمكن‬ ‫أن تتجزأ دون أن تنتج عن ذلك بلبلة يف‬ ‫املعنى ويبقى واحد من هذه األجزاء بني‬ ‫أيدينا وهو فاقد احلياة"(‪.)6‬‬

‫وحديثي عن الكلمة وعدها كلمة‬ ‫شاهدة‪ ،‬نابع من أن اإلنسان هو الذي‬ ‫يتحكم يف لغته‪ ،‬فهو سيدها‪ ،‬وبحق هذه‬ ‫السيادة صح لإلنسان حرية التعامل مع‬ ‫الكلمة القديمة يف معنى جديد‪ ،‬ومن هنا‬ ‫وكام يرى أحد الباحثني "احتياج املبدع‬ ‫إىل إحداث نوع من الفوىض يف العالقات‬ ‫اللغوية‪ ،‬وحتطيم التعسف القائم بني‬ ‫الكلمة ومدلوهلا‪ ،‬وتلك الفوىض‬ ‫املستحدثة تتحول لتخلق نظاما جديدا"(‪.)7‬‬ ‫وقد أشار عبد القاهر اجلرجاين إىل "أن‬ ‫األلفاظ ليست إال رموزا للمعاين املقررة‪،‬‬ ‫واإلنسان يعرف مدلول اللفظ املفرد أوال‪،‬‬ ‫ثم يعرف هذا اللفظ الذي يدل عليه ثانيا‪،‬‬ ‫فاأللفاظ سامت ملعانيها"(‪.)8‬‬

‫‪ .2‬معاين النحو‬

‫األلفاظ أو الكلامت ال تأيت اعتباطا‪،‬‬

‫وإنام يقع يف نفس الكاتب ما يقصد إليه‪،‬‬ ‫وليس هناك من سبيل إىل املكاشفة‪ ،‬غري‬ ‫سبيل ترتيب األلفاظ‪ ،‬والقصد إىل املعنى‬ ‫عن طريق تعليقها بام جاورها‪ ،‬واهلدف من‬ ‫وراء القصد‪ ،‬إعالم السامع والقارئ شيئا‬ ‫ما‪ ،‬وليس املقصود بالطبع إعالم السامع‬ ‫أو القارئ معاين الكلامت املفردة يف منأى‬ ‫عن الرتكيب النحوي‪ ،‬الذي يمثل نظاما‬ ‫فنيا متكامال‪.‬‬ ‫"ودراسة الكلامت يف حد ذاهتا ال متثل‬ ‫شيئا يف منهج العمل األديب‪ ،‬بل إن الفهم‬ ‫ال يتمثل إال يف العالقات بني الكلامت‪،‬‬ ‫أي يف وحدات اللغة‪ ،‬وهي بدورها تقوم‬ ‫عىل التسلسل بني الرتاكيب التي خيلقها‬ ‫النحو بإمكاناته الواسعة ‪ ..‬فاملبدع يرتب‬ ‫املعاين أوال يف نفسه‪ ،‬ثم حيذو عىل ترتيبها‬ ‫األلفاظ"(‪.)9‬‬

‫‪ .3‬الراوي والرواية‬

‫أ) الراوي‪:‬‬

‫األستاذ (أمحد حممد بن نرص) من‬ ‫مواليد مدينة (مرصاتة) ليبيا‪ .‬عام‬ ‫‪1941‬م‪ .‬درس املراحل األويل بمعهد‬ ‫القويري الديني‪ ،‬ثم سافر إىل اإلسكندرية‬ ‫الستكامل دراسته الثانوية‪ ،‬وبعد حصوله‬ ‫عىل الشهادة الثانوية األزهرية عام ‪1963‬م‬ ‫انتقل إىل كلية دار العلوم بالقاهرة‪ ،‬وحصل‬ ‫عىل ليسانس يف اللغة العربية وآداهبا العام‬ ‫‪1967‬م‪.‬‬ ‫بعد رجوعه إىل الوطن عمل مدرسا‬ ‫وموجها بالتعليم املتوسط‪ ،‬حتى تقاعد‬ ‫اختياريا العام ‪1992‬م‪.‬‬ ‫إىل جانب الكتابة بالصحف املحلية‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪95‬‬ ‫والدوريات الليبية‪ ،‬له جمموعات قصصية‪،‬‬ ‫وروايات طبعت مبكرا‪ ،‬وأعيد طباعتها‬ ‫غري مرة‪ ،‬وله كتاب املراحل الذي حيكي‬ ‫فيه سريته الذاتية‪ ،‬وقد صدر منه اجلزء‬ ‫األول‪ ،‬وال يزال اجلزء الثاين خمطوطا‪،‬‬ ‫وهو بصدد كتابة اجلزء الثالث‪ ،‬وهو إىل‬ ‫جانب ذلك مهتم بالكتابة لألطفال‪ ،‬وله‬ ‫أعامل منشورة يف هذا املجال‪.‬‬ ‫ب) الرواية‪:‬‬

‫حديثي عن" السهل" سيكون‪ ،‬رواية‬ ‫ما شافهني به مؤلفها‪ ،‬فهي كام يقول‪:‬‬ ‫رواية واقعية‪ ،‬تعطي صورة عن احلياة‬ ‫السياسية والنضالية لألمة‪ ،‬وتشري إىل‬ ‫وحدة مفهوم النضال لدى الساعني إىل‬ ‫التحرر من القيود واحلدود‪ ،‬وهي كذلك‬ ‫تصور حياة املجتمع البدوي يف ليبيا‪ ،‬الذي‬ ‫متثل "جمتمعاته ركنا أساسيا يف الرتكيبة‬ ‫االجتامعية للمجتمع الليبي‪ ،‬وأدت دورا‬ ‫إجيابيا يف احلوادث التي تعرض هلا الوطن‪،‬‬ ‫وذلك بام توفر ألفرادها من إحساس‬ ‫عميق باملسؤولية‪ ،‬فالفرد يتعلم االعتامد‬ ‫عىل النفس‪ ،‬ومواجهة اختاذ القرار مبكرا‪،‬‬ ‫وهو حمتاج ألن يكون حذرا مقداما‪ ،‬جوادا‬ ‫خبريا‪ ،‬يستقري ويستنطق املعامل واآلثار‪،‬‬ ‫وحيسن معرفة عامله املحيط به"(‪.)10‬‬ ‫وقد امتازت هذه الرواية بام حتمله‬ ‫من ألفاظ‪ ،‬ارتبط كثري منها بحياة الليبيني‬ ‫عامة‪ ،‬اليشء الذي انعكس إجيابا عىل‬ ‫معطيات النص‪ ،‬وما ترمز إليه دواله‪.‬‬ ‫ورواية "السهل" جاءت ضمن‬ ‫مرشوع أديب اختطه الكاتب لنفسه‪ ،‬طاحما‬ ‫من خالله إىل اإلسهام يف كشف اللثام‪،‬‬ ‫عن بوادر الوعي املبكر للمجتمع الليبي‪،‬‬

‫حماوال يف ذات الوقت‪" ،‬اإلمساك بواقع‬ ‫وتاريخ النضال الذي ساد فرتة من أكثر‬ ‫فرتات املجتمع العريب أمهية‪ ،‬تلك الفرتة‬ ‫املمتدة من عرشينيات القرن املايض حتى‬ ‫قيام ثورة ‪ 23‬يوليو ‪1952‬م حيث حاولت‬ ‫الرواية التعاطي مع أحداث تلك الفرتة‬ ‫احلاسمة من تاريخ النضال العريب"(‪.)11‬‬

‫هذا العمل اإلبداعي صور لنا احلال‬ ‫االجتامعية التي كان عليها املجتمع العريب‬ ‫يف حقبة زمنية معينة‪ ،‬وهو هبذا جدير‬ ‫بالقراءة والتدبر‪ ،‬سواء كان ذلك ضمن‬ ‫ما اختطه كاتبه لنفسه‪ ،‬وما هدف إليه‪ ،‬أو‬ ‫داخل احلقل اخلاص بام حيمله النص األديب‬ ‫املعارص من رؤى‪ ،‬يرمز إليها بكلامت‬ ‫شواهد‪ .‬ويمكن إمجال أفكارها يف اآليت‪:‬‬ ‫‪.i‬اخللوص إىل كشف مظاهر التبعية‬ ‫املبارشة وغري املبارشة‪ ،‬وفساد النظام‬ ‫السيايس‪ ،‬وسيطرة األجنبي عىل مقدرات‬ ‫الشعب‪ ،‬وزرع بذور الفساد يف املجتمع‬ ‫املحافظ‪ ،‬واستغالل ضعاف النفوس‬ ‫الالهثني وراء النزوات احلسية‪.‬‬ ‫‪.ii‬الرتكيز عىل مراعاة القيم‪ ،‬واحلرص‬ ‫عىل املبادئ السامية‪ ،‬وهي أخالق‬ ‫توارثها العرب‪ ،‬وأكدها اإلسالم‪،‬‬ ‫وحث عليها أتباعه أينام كانوا وحيثام‬ ‫حلوا‪ ،‬وكيفام كانت ظروفهم احلياتية‪.‬‬

‫‪.iii‬عالقة الرشق بالغرب‪ ،‬وكيف كان‬ ‫عطاؤنا للحضارة عامة‪ ،‬وماذا قدموا‬ ‫لنا؟‬ ‫‪.iv‬استطاع الكاتب أن يرسم بريشة‬ ‫الفنان‪ ،‬الصورة املثىل للمقاومة التي‬ ‫أبداها املواطن العريب‪ ،‬وحرصه عىل‬ ‫طرد األعداء‪ ،‬وعدم التسليم باألمر‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 96‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الواقع‪.‬‬

‫‪.v‬يف الرواية يطالعنا الكاتب بتمسك‬ ‫العريب بحقه يف الدفاع عن وطنه‪ ،‬ضد‬ ‫كل معتد أيا كانت جنسيته‪ ،‬وأيا كان‬ ‫لونه‪.‬‬

‫‪.vi‬استطاع الكاتب يف نصه الروائي هذا‬ ‫أن يربز لنا صورة العريب يف هذا اجلزء‬ ‫من الكون الواسع‪ ،‬وهو يناضل من‬ ‫أجل أن يكون حرا فوق ثرى أرض‬ ‫أجداده غري عابئ بام يالقي من حمن‬ ‫وإحن‪.‬‬

‫‪.vii‬استطاع الكاتب أن يربز مالمح‬ ‫اللحمة االجتامعية بني أبناء األمة‪،‬‬ ‫فحسني بطل الرواية وإن مل يولد عىل‬ ‫ثرى ليبيا‪ ،‬إال إنه وجد املأوى يف ربوع‬ ‫البادية الليبية‪ ،‬واستطاع أن يندمج مع‬ ‫الليبيني‪.‬‬

‫‪.viii‬نبه الكاتب إىل رضورة مواصلة‬ ‫النضال‪ ،‬وعدم التسليم باألمر الواقع‪،‬‬ ‫والركون إىل الدعة‪ ،‬ونشدان رفاهية‬ ‫العيش‪.‬‬ ‫‪.ix‬بينت نصوص الرواية أن مهوم األمة‬ ‫واحدة‪ ،‬وأن ال تباين بني مرشق‬ ‫الوطن ومغربه‪ ،‬فكلنا يف اهلم عرب‪.‬‬

‫‪ .4‬الكلمة الشاهدة‬

‫الكلمة الشاهدة هي‪ :‬التعبري الرمز‬ ‫املادي للعمل الروحي املهم‪ ،‬فهو يمثل‬ ‫يف الوقت العنرص التعبريي‪ ،‬والعنرص‬ ‫امللموس الذي جيسد عمال من األعامل‬ ‫احلضارية‪ ،‬ولعله من الصعب وتبعا‬ ‫للمنهجية العلمية‪ ،‬والتسلسل التارخيي‬ ‫عد كثري مما ورد يف رواية السهل كلامت‬

‫شواهد؛ غري أن مقتضيات العرص‪،‬‬ ‫وحضور اللفظ الدال عىل ما يتعلق‬ ‫باالتصال غري الالسلكي جعل منها كلامت‬ ‫شواهد لغويا وتارخييا‪ ،‬ومن هنا فحسبان‬ ‫كلمة شاهدة جاء بناء عىل احلال واملآل‪،‬‬ ‫ودخول هذه الشواهد إىل جمال االستعامل‪.‬‬ ‫إضافة إىل أن ما يرسم مالمح الكلامت‬ ‫الشواهد يف النموذج املختار ال يمثل فقط‬ ‫قيمتها السكونية داخل جمموعتها‪ ،‬ولكنه‬ ‫أيضا يعرب عن ديناميتها‪ ،‬فالكلامت‬ ‫الشواهد هي‪ :‬التعبري الرمز‪ ،‬وهبذا يعود‬ ‫مفهوم الزمان ليدخل معجمية السكونية‬ ‫والوصفية‪.‬‬ ‫املهم فيام أتصوره هو أن الكلمة‬ ‫الشاهدة تسجل حتوال مهام يف احلقل‬ ‫الداليل واملعريف‪ ،‬علام بأن التحديد‬ ‫التارخيي ألولوية ظهورها قد ال يكون‬ ‫سهال‪ ،‬وذلك راجع لعدم توافر املعلومات‬ ‫الرضورية يف املعاجم التأثيلية للغة العربية‪.‬‬

‫والكلامت الشاهدة التي هبا ينتظم‬ ‫تسلسل املفردات داخل احلقل املفهومي‬ ‫كثرية جدا‪ ،‬وهي فيام أزعم املفتاح الذي‬ ‫يتمكن من خالله الكاتب إيصال فكرته‬ ‫إىل قارئه‪ ،‬والكلمة الشاهدة وإن مل تدل‬ ‫عىل مادة‪ ،‬أو وسيلة‪ ،‬لكنها يف حقيقتها‬ ‫تدل عىل كائن‪ ،‬أو إحساس‪ ،‬أو فكرة؛ فهي‬ ‫طريقة التعبري احلي‪ ،‬الذي يعيش وسط‬ ‫املجتمع‪ ،‬الذي يتوطنه النموذج واملثال‪.‬‬ ‫وفيام أرى فإن الكلامت الشواهد وقد‬ ‫خصت بدالالت متطورة‪ ،‬وأصبح هلا‬ ‫خاصية أساسية يف بناء النص الروائي؛‬ ‫فإهنا بذلك حتولت من كلمة عادية إىل‬ ‫كلمة مفتاح‪ ،‬يتوقف عىل فهمها كثري مما‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪97‬‬ ‫يتضمنه النص الروائي‪ .‬ويف ما بني أيدينا‬ ‫من عمل قاربت هذا املفهوم‪ ،‬مراعيا‬ ‫التوسط يف حتميل الكلامت الشواهد ما‬ ‫ارتأيته فيها من دالالت‪ ،‬ساعدين يف ذلك‬ ‫معرفتي القريبة بالكاتب‪ ،‬ودرايتي الكاملة‬ ‫بام يملك من أدوات‪.‬‬ ‫أ) الكلمة الشاهدة والتحرر الداليل‪:‬‬

‫مع ما حتمله الكلامت الشواهد من‬ ‫تطورات داللية‪ ،‬تسهم يف إثراء املعرفة‪،‬‬ ‫وتشري إىل التغيري الذي يصاحب االستعامل‬ ‫داخل النص‪ ،‬الذي غالبا ما يأيت عفويا‬ ‫دون سابق تفكري أو علم بام حتمله هذه‬ ‫الكلمة أو تلك من دوال‪ ،‬تتغري حسب‬ ‫التلقي‪ ،‬واملتلقي‪ ،‬وزمان التلقي ومكانه‪.‬‬ ‫مع هذا كله‪ ،‬فإن حتديد التاريخ الذي‬ ‫ملعت فيه (الكلمة الشاهدة) أمر يصعب‬ ‫حتديده‪ ،‬اللهم إال إذا حسبنا أن ما أرسى‬ ‫دعائمه علامء اللغة العرب‪ ،‬من اعتامدهم‬ ‫عىل الشاهد اللغوي أساسا لقبول القاعدة‬ ‫اللغوية‪ ،‬هو بداية بزوغ شمس الكلمة‬ ‫الشاهدة‪ .‬غري أن ذلك‪ ،‬وإن عد شاهدا‪،‬‬ ‫فهو وإن اتفق مرادي معه‪ ،‬يف أن كليهام‬ ‫شاهد؛ إال أن الكلمة الشاهدة يف مقاربتي‪،‬‬ ‫وإن محلت الدليل‪ ،‬فهي إىل جانب ذلك‬ ‫جتتبي التغري الداليل الذي حيمل يف طياته‬ ‫غري معنى‪ ،‬كذلك فام أحاول مقاربته‪ ،‬ال‬ ‫يتعمد رسد أمثلة تؤسس لقاعدة لغوية‪،‬‬ ‫كام هو ديدن شواهد قواعد اللغة العربية‬ ‫بل هو تصور يؤدي فيه البث الفني وظائفه‬ ‫التأثريية‪.‬‬

‫ولعل األهم يف هذا الطرح النظري‬ ‫ومناقشته‪ ،‬هو يف أن يتكون عند القارئ‬ ‫تصور امتزاج النظرية باإلجراء‪ ،‬أو كيف‬

‫يرجح اإلجراء غالبا عىل النظرية يف‬ ‫حتديث اللغة العربية‪.‬‬

‫‪ .5‬الكلمة الشاهدة يف رواية السهل‬

‫يف ضوء قراءيت الرواي َة واستبطاين‬ ‫نصها‪ ،‬يمكنني تقديم نامذج ملا حتقق فيه‬ ‫تصور الكلمة الشاهدة‪.‬‬

‫‪ .i‬لنبدأ من لفظ (السهل) الذي اختاره‬ ‫الكاتب عنوانا‪ ،‬فهو لفظ أول ما‬ ‫يتبادر إىل الذهن‪ ،‬أنه عني به‪ :‬األرض‬ ‫املنبسطة‪ ،‬أو كل ما هو يسري وممكن؛‬ ‫غري أن األمر سيتغري متاما عند فراغ‬ ‫القارئ من قراءته؛ فـ (السهل) جاء هنا‬ ‫وعاء ألحداث‪ ،‬ورصاعات‪ ،‬ومواقف‪،‬‬ ‫وتاريخ‪،‬‬ ‫وحركات‪،‬‬ ‫ومشاعر‪،‬‬ ‫وجغرافيا‪ ،‬وحياة نابعة بكل املعاين‪،‬‬ ‫تفيض بشتى أنواع املشاعر اإلنسانية بل‬ ‫واحليوانية‪ .‬ومن هنا فكلمة (السهل)‬ ‫تعدت مدلوهلا املعجمي املتعارف‬ ‫عليه‪ ،‬إىل كلمة عاملة‪ ،‬شاملة‪ ،‬واسعة‬ ‫االحتواء‪ ،‬يمكن أن نعدها عىل املستوى‬ ‫العام أهم الكلامت الشاهدة يف النص‪.‬‬

‫‪ .ii‬كثريا ما تأيت الكلمة لتختزل معاين‬ ‫كثرية‪ ،‬وتعرب يف الوقت ذاته عام يعتمل‬ ‫يف أعامق قائلها من شجن وحزن‪،‬‬ ‫فمن ذلك لفظة (أماه) التي جاءت‬ ‫عىل لسان (حسني) بطل الرواية وهو‬ ‫خياطب أمه قائال‪" :‬أماه لوال ما يمأل‬ ‫قلبي ويسيطر عىل مشاعري‪ ،‬وما يتقد‬ ‫يف دمي من طموحات واعدة وآفاق‬ ‫آملة ‪ ..‬لوال حبل متني يشدين لألرض‬ ‫‪ ..‬للسامء‪ ،‬للمطر القادم ما استطاعت‬ ‫الصحراء أن تضمني‪ .)12("..‬نالحظ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 98‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫هنا أن كلمة (أماه) جاءت بمثابة‬ ‫املفتاح هلذا احلوار الساخن‪ ،‬النابع من‬ ‫أعامق قلب مكدود‪ ،‬وفؤاد مكلوم‪،‬‬ ‫ختنقه العربات‪ ،‬خياطب األم رمز‬ ‫احلنان‪ ،‬وواحة املحروم‪.‬‬

‫مل جيد متنفسا ملا يعتلج يف صدره إال‬ ‫أن خياطب الوطن يف صورة األم‪ ،‬فهام‬ ‫يشء واحد وإن اختلفا‪ ،‬فاألم وطن‪،‬‬ ‫والوطن أم‪ ،‬ومن ال وطن له ال أم له‪.‬‬ ‫يف ترديده كلمة (أماه) يتجرد من كل‬ ‫مادي‪ ،‬وينبثق يف داخله نور الوعي‬ ‫الذي خيالج الزمان واملكان واألشياء‪،‬‬ ‫ويلتحم مع وهج العاطفة اجلياش‬ ‫املبرص‪ ،‬الذي يتصور االبتسامة عىل‬ ‫حميا األطفال‪ ،‬مع قتامة الواقع‪ ،‬تبعث‬ ‫فيه هذه الكلمة كل معاين اإلرصار‪،‬‬ ‫تتقد جذوة األمل من جديد‪ ،‬يستهدى‬ ‫نورا أطل من حميا أمه وسط لياليه‬ ‫الدكامء‪.‬‬

‫‪ .iii‬يف الصفحة ( ‪ )15‬من الرواية وردت‬ ‫عبارات كثرية عىل لسان حال (حسني)‬ ‫من بينها‪" :‬أكان حمتمال أن حيمل أثقال‬ ‫معدن ال يعلوه صدأ؟"(‪ .)13‬فكلمة‬ ‫معدن جاءت كلمة شاهدة‪ ،‬ومما زاد‬ ‫يف أمهيتها؛ أنه ليس معدنا عاديا‪ ،‬وإنام‬ ‫معدن (ال يعلوه صدأ) ومن هنا فإن‬ ‫هذا التعبري وافق ما يعانيه حسني‪ ،‬ويف‬ ‫ذات الوقت عرب عن كثري مما يعانيه‬ ‫الثائر بطبعه‪ ،‬الذي يملك من اإلرادة‬ ‫ما يمكنه من جتاوز املحن‪ ،‬وغض‬ ‫الطرف عن اإلحن‪ ،‬فهو بمثابة املعدن‬ ‫(الذي ال يعلوه صدأ‪.‬‬ ‫‪ .iv‬يف معرض احلديث عن السائح‬

‫األجنبي وزوجه احلسناء يقول‬ ‫الراوي‪ :‬إن الزوجة كانت "حريصة‬ ‫عىل أن تظهر يف الصورة مع مجاعات‬ ‫القطيع‪ ،‬ثم طلبت إىل زوجها أن‬ ‫يلتقط هلا صورة مع الراعي ‪.)14("..‬‬ ‫يف هذا النص املقتبس تلوح كلمة‬ ‫(الراعي) لتؤ ّدي دور الكلمة الشاهدة‪،‬‬ ‫فالسائحة األجنبية‪ ،‬ستحكي قصتها‬ ‫لكل أصدقائها‪ ،‬وستعلق صورة‬ ‫(حسني) الراعي عىل جدار بيتها‪" .‬أي‬ ‫انسحاق وأي امتهان! كنا نحن وكانوا‬ ‫هم ‪ ..‬كنا احلضور‪ ،‬وكانوا الغيبة‪ ،‬كنا‬ ‫العطاء وكنا اخلري‪ ،‬كنا ومل يكونوا شيئا‬ ‫يذكر"(‪.)15‬‬

‫ماذا جنينا حتى نصري مجاال وصحراء‪،‬‬ ‫ورعاة تؤخذ لنا الصور التذكارية؟ أي‬ ‫حياة بائسة‪ ،‬وأي عيش ال معنى له!‬ ‫أهذه إرادة اهلل! كال‪ ،‬إنه النكوص‪ ،‬إنه‬ ‫وهم اخلوف‪ ،‬واخلوف من الوهم‪ ،‬إنه‬ ‫إحياءات أريد هلا أن تسيطر عىل مشاعر‬ ‫األمة‪ ،‬كي تستكني‪ ،‬وتستسلم ملا د ّبر‬ ‫هلا األعداء‪.‬‬

‫‪ .v‬يدور حوار بني (حسني) وأحد‬ ‫األجانب‪ ،‬صادف أن التقاه يف إحدى‬ ‫رسواته مع قطيعه‪ .‬قال (حسني) بعد‬ ‫حوار طويل خاطب فيه األجنبي‬ ‫بصوت أجش‪ .." :‬أهو تفريغ ملا‬ ‫حيمل؟"(‪ .)16‬إىل جانب ما حيمل هذا‬ ‫االستفهام اإلنكاري الذي استفيد‬ ‫من اهلمزة من دالالت‪ ،‬نجد أن كلمة‬ ‫(تفريغ) كلمة شاهدة؛ ألهنا عربت‬ ‫عن خطاب حاد واجه به (حسني)‬ ‫األجنبي‪ ،‬مفاده‪ :‬أن للعرب فضال‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪99‬‬ ‫كبريا عىل الغرب‪ ،‬غري أن املكافأة مل‬ ‫تكن غري هذه الرشكات التي متتص‬ ‫دماء الشعب‪ .‬وحتمل هذه الكلمة يف‬ ‫طياهتا كذلك‪ ،‬مدى ما حيمل (حسني)‬ ‫من لواعج األسى واحلزن‪ ،‬وهو يف‬ ‫وضع ال يقدر فيه عىل يشء‪ ،‬وليس له‬ ‫غري نفثها مع حر أنفاسه الالهثة‪ ،‬عىل‬ ‫هيئة شحنات تفريغية‪ ،‬تعرب عام يعاين‬ ‫حر‪.‬‬ ‫منه كل ّ‬

‫‪ .vi‬يف حوار دار بني (حسني) وبني إحدى‬ ‫طالبات املدرسة الثانوية‪ ،‬الاليت كن‬ ‫يقمن برحلة صحراوية‪ ،‬وصادف‬ ‫أن كان (حسني) يرعى شياهه يف‬ ‫ذات املكان‪ ،‬ومعه ريم‪ ،‬فأراد حسني‬ ‫أن يامزحهن‪ ،‬فكان أن اختار أن يعيد‬ ‫قراءة التاريخ‪ ،‬ويؤ ّدي دور (قيس‬ ‫بن امللوح)‪ .‬عندها سألته إحدى‬ ‫الطالبات‪ ،‬هل أنت مرصي؟ فأجاب‬ ‫(حسني) أنا عريب ‪ ..‬هذه عصاي‬ ‫وتلك غنمي ‪" ..‬وهل يكون قيس إال‬ ‫عربيا!"(‪ .)17‬معاين كثرية تتفتق عن‬ ‫هذه العبارة‪ ،‬والكلمة الشاهدة فيها‬ ‫هي كلمة (قيس) الكلمة التي حتمل‬ ‫يف طياهتا معنى االنتامء وتأكيد اهلوية‪،‬‬ ‫وفيها إىل جانب ذلك معاين الوفاء‬ ‫والطهر‪ ،‬وصمدية احلب‪.‬‬

‫‪ .vii‬يف الصفحة ( ‪ )65‬تطالعنا (ريم)‬ ‫الفتاة احلاملة‪ ،‬التي عانت جتربة زواج‬ ‫فاشل‪ ،‬ثم جاءت صحبة عائلتها‪،‬‬ ‫لتعيش بعيدا عن أجواء املدينة‪ ،‬وما‬ ‫يعرتهيا من ذكريات مؤملة‪ ،‬غري أهنا‬ ‫تواجه بام ال يزال خيالط حشا قلبها‪،‬‬ ‫فها هي تقول‪" :‬أكان قدري أن أرجتف‬

‫لكل هبة ريح؟"(‪ .)18‬أنظر إىل كلمة‬ ‫(أرجتف) وما حتمل من معان تعرب عام‬ ‫آل إليه حال هذه الفتاة‪ ،‬فإىل جانب ما‬ ‫تضمنه هذا االستفهام اإلنكاري‪ ،‬نجد‬ ‫أن (ارجتف) عبرّ ت بوضوح عن عدم‬ ‫قدرهتا عىل مقاومة تيار اهلوى‪ ،‬وهي‬ ‫التي مل تربأ من نتائج جتربتها األوىل‪.‬‬ ‫أهو قدر ال تستطيع له ردا؟‬

‫خامتة‬

‫بدا يل من خالل تصفحي للنص‬ ‫قيد الدرس‪ ،‬أن إمكانية تعيني الكلمة‬ ‫الشاهدة‪ ،‬لتكون إحدى سبل الوصول إىل‬ ‫التعبري الرمز للعمل األديب‪ ،‬الذي يمثل‬ ‫العنرص التعبريي‪ ،‬الذي بدوره جيسد عمال‬ ‫من األعامل احلضارية‪ ،‬أمر ممكن‪ ،‬وإن بدا‬ ‫ما خيالف ذلك‪.‬‬ ‫وما أدرجته وقيدته كلامت شاهدة‪،‬‬ ‫ال يعدو أن يكون اختيارا عشوائيا لبعض‬ ‫مفردات نص إبداعي‪ ،‬عباراته وتراكيبه‬ ‫حبىل بشتى أصناف الكلامت الشاهدة‪،‬‬ ‫التي تيش بام يغني تراكيب اجلمل‪ ،‬بمعان‬ ‫مضاعفة‪ ،‬يف قالب بديع وأسلوب أنيق‪.‬‬ ‫إضافة إىل أن ما رسم مالمح الكلامت‬ ‫الشاهدة يف النموذج املختار‪ ،‬ال يمثل‬ ‫فقط قيمتها السكونية داخل جمموعتها‪،‬‬ ‫ولكنه أيضا يعرب عن ديناميتها‪ ،‬فالكلامت‬ ‫الشاهدة ختتزل يف طياهتا رمز التعبري‪،‬‬ ‫وهبذا يعود مفهوم الزمان ليدخل معجمية‬ ‫السكونية والوصفية‪.‬‬ ‫املهم فيام تصورته هو أن الكلمة‬ ‫الشاهدة سجلت حتوال مهام يف احلقل‬ ‫الداليل واملعريف‪ .‬وهي إىل جانب ذلك‪ ،‬ما‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 100‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫هبا ينتظم تسلسل املفردات داخل احلقل‬ ‫املفهومي‪ ،‬وهي فيام أزعم أداة من أدوات‬ ‫األديب تعينه عىل إيصال فكرته إىل قارئه‪،‬‬ ‫والكلمة الشاهدة وإن مل تدل عىل مادة‪،‬‬ ‫أو وسيلة‪ ،‬لكنها يف حقيقتها تدل عىل‬ ‫كائن‪ ،‬أو إحساس‪ ،‬أو فكرة؛ فهي طريقة‬ ‫من طرق التعبري احلي‪ ،‬الذي يعيش وسط‬

‫املجتمع‪ ،‬الذي يتوطنه النموذج واملثال‪.‬‬

‫وفيام أرى فإن الكلمة الشاهدة‪ ،‬أصبح‬

‫هلا خاصية أساسية يف بناء النص الروائي؛‬ ‫وبذلك حتولت من كلمة عادية إىل كلمة‬

‫مفتاح‪ ،‬يتوقف عىل فهمها كثري مما يتضمنه‬ ‫النص الروائي‪.‬‬

‫حممـد احممد بن طاهر‬ ‫أستاذ علم اللغة العام واحلديث‬ ‫كلية اآلداب ـ مرصاتة‬

‫اهلوامـش‬

‫(‪ )1‬عبد احلكيم رايض نظرية اللغة يف النقد العريب‪ .‬مكتبة اخلانجي‪ .‬القاهرة‪( .‬بال)‪ .‬ص ‪.3‬‬ ‫(‪ )2‬عبد السالم املسدي‪ .‬األسلوب واألسلوبية‪ .‬الدار العربية للكتاب‪ .1982 .‬ص‪.121‬‬ ‫(‪ )3‬جورج ماطوري‪ .‬منهج املعجمية‪ .‬تر‪ :‬عبد العيل الودغريي‪ .‬منشورات كلية اآلداب والعلوم‬ ‫اإلنسانية‪ .‬مطبعة املعارف اجلديدة‪ .‬الرباط‪ .1993 .‬ص ‪.8‬‬ ‫(‪ )4‬ستيفن أوملان‪ .‬دور الكلمة يف اللغة‪ .‬تر‪ :‬كامل برش‪ .‬القاهرة‪ .1997 .‬ص ‪.194‬‬ ‫(‪ )5‬منهج املعجمية‪ .‬ص ‪ .23‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫(‪ )6‬املرجع السابق‪ .‬ص ‪.29‬‬ ‫(‪ )7‬حممد عبد املطلب‪ .‬البالغة واألسلوبية‪ .‬الرشكة املرصية العاملية‪ .‬اجليزة‪ .1994 .‬ص‪.68‬‬ ‫(‪ )8‬حممد عبد املطلب‪ .‬البالغة واألسلوبية‪ ..‬ص ‪.49‬‬ ‫(‪ )9‬عبد القاهر اجلرجاين‪ .‬دالئل اإلعجاز‪ .‬تح‪ :‬حممد التنجي‪ .‬دار الكتاب العريب‪ .‬بريوت‪ .‬ط‪.1.‬‬ ‫‪ .1995‬ص ‪.407‬‬ ‫(‪ )10‬حممد احممد بن طاهر‪ .‬فصيح ألفاظ البيت البدوي ببادية مرصاتة‪ .‬مطبوعات جممع اللغة العربية‪.‬‬ ‫‪ .2008‬ص ‪.50‬‬ ‫(‪ )11‬حواء الشويرف‪ .‬اخلصائص الشكلية والداللية يف رواية السهل‪ .‬رسالة ماجستري‪ .2007 .‬ص ‪.20‬‬ ‫(‪ )12‬أمحد نرص‪ .‬رواية السهل‪ .‬الدار اجلامهريية للنرش والتوزيع واإلعالن‪ .‬بنغازي‪ .1991 .‬ص ‪.15‬‬ ‫(‪ )13‬املرجع السابق ص ‪.10‬‬ ‫(‪ )14‬رواية السهل‪ .‬ص ‪.37‬‬ ‫(‪ )15‬املرجع نفسه‪.‬‬ ‫(‪ )16‬املرجع السابق‪ .‬ص ‪.39‬‬ ‫(‪ )17‬رواية السهل‪ .‬ص ‪.57‬‬ ‫(‪ )18‬املرجع السابق‪ .‬ص ‪.65‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪101‬‬ ‫املصادر واملراجع‪:‬‬ ‫‪ .1‬أمحد حممد نرص‪ .‬رواية السهل‪ .‬الدار اجلامهريية للنرش والتوزيع واإلعالن‪ .‬بنغازي‪.1991 .‬‬ ‫‪ .2‬جورج ماطوري‪ .‬منهج املعجمية‪ .‬تر‪ :‬عبد العيل الودغريي‪ .‬منشورات كلية اآلداب والعلوم‬ ‫اإلنسانية‪ .‬مطبعة املعارف اجلديدة‪ .‬الرباط‪.1993 .‬‬ ‫‪ .3‬حواء الشويرف‪ .‬اخلصائص الشكلية والداللية يف رواية السهل‪ .‬رسالة ماجستري‪.2007 .‬‬ ‫‪ .4‬عبد احلكيم رايض‪ .‬نظرية اللغة يف النقد العريب‪ .‬مكتبة اخلانجي‪ .‬القاهرة‪( .‬بال)‪.‬‬ ‫‪ .5‬عبد السالم املسدي‪ .‬األسلوب واألسلوبية‪ .‬الدار العربية للكتاب‪.1982 .‬‬ ‫‪ .6‬عبد القاهر اجلرجاين‪ .‬دالئل اإلعجاز‪.‬‬ ‫‪ .7‬حممد حممد بن طاهر‪ .‬فصيح ألفاظ البيت البدوي ببادية مرصاتة‪ .‬مطبوعات جممع اللغة‬ ‫العربية الليبي‪.2008 .‬‬ ‫‪ .8‬حممد عبد املطلب‪ .‬البالغة واألسلوبية‪ .‬الرشكة املرصية العاملية‪ .‬اجليزة‪.1994 .‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 102‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫إلى سعيد عقل في يوم تكرميه‬ ‫حممـد توفيـق أبـو علـي‬ ‫وزحل ُة ال�شعر‪ ...‬قالت �إ ّنه ن�سبي‬

‫غدت � ّأمي‪ ...‬بلى و�أبي‬ ‫ورندىل قد ْ‬

‫حلم‬ ‫ْ‬ ‫جذىل تر ّنح جنوانا على ٍ‬ ‫وال�شعر ي�شهد � ّأن الآل �أتعبه‬

‫ِ‬ ‫�رضير غدا خم�ضو�رض الهدب‬ ‫جدب ٍ‬

‫قد �أمرع الوقع فيه فانت�شى ثم ًال‪:‬‬ ‫ويا حدا ُة �صهيل اجلمر واحتن ٍا‬ ‫هرما‬ ‫قالوا‬ ‫بالقع �أ�ضحى ُ‬ ‫نب�ضنا ً‬ ‫َ‬ ‫أمطار وهاطلها‬ ‫قلنا القرائح � ٌ‬ ‫عبقر النجوى‪ ،‬و�شاعرها‬ ‫وزحل ٌة‬ ‫ُ‬ ‫عرى ُو ْر َق دوحتنا‬ ‫قر العوا�صف ّ‬ ‫ّ‬ ‫�شاخت مطارف للع ّز التليد ف ُق ْم‬ ‫ْفودا الزمان على الأرزاء قد هرما‬

‫ويا بالدي �رضام ال�شعر م ّتق ٌد‬

‫الغيث ّ‬ ‫هط ٌ‬ ‫ال بال تعب‬ ‫وخطوك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫املاء للع�شب‬ ‫يابيد هاكي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫�صداي َ‬

‫فارووا املجامر وا�سقوا جذوة اللهب‬ ‫ْ‬

‫رواده ال ُّن ُجب‬ ‫وال�شعر �أقفر من ّ‬ ‫ُ‬ ‫�شم العال ِ‬ ‫اخل�صب‬ ‫توق احلنني �إىل ّ‬ ‫َ‬ ‫يا�شعر يف يوم الوغى ال ّلجب‬ ‫ب�شرْاك‬ ‫ُ‬ ‫ال�صوت يف الك ُثب‬ ‫من الهديل‪ ،‬و�ضاع‬ ‫ُ‬ ‫�شعر ْ‬ ‫واك ُ�س املنى من برده ال ُق ُ�شب‬ ‫يا ُ‬ ‫يهرم ومل ي�شب‬ ‫ده‬ ‫وفو ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال�صبح مل ْ‬ ‫ْ‬ ‫ال�سغب‬ ‫نار ال ِقرى زحل ٌة يف يومه ّ‬

‫بع�ضا من ق�صائده‬ ‫ف�أقرئي الدهر ً‬

‫�شعرا يف مدى احلقب‬ ‫كي ينطق الدهر ً‬

‫احل�س بالأطياف عندل ًة‬ ‫من �أثمل ّ‬ ‫من باح للكون بالأ�رسار تكتمها‬

‫للح َبب؟‬ ‫فباحت الك�أ�س بالأ�رسار َ‬

‫من �أيقظ احلرف من بكماء غفوته؟‬

‫و�ض ًاء على ال ُّنوب؟‬ ‫من �أ�شعل ال�شعر ّ‬

‫ق�صيدةٌ ُخ ّبئت يف ِ�سدرة ا ُحل ُجب؟‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪103‬‬

‫بع�ضا من �أع ّنته‬ ‫من �أ�رسج النور ً‬

‫ف�أ�رشقت يف لظاها جمر ُة ال�شهب؟‬

‫يب�س‬ ‫يبق من حطب الأ�شجار ذو ٍ‬ ‫مل َ‬

‫حمالة احلطب‬ ‫ح ّتى اكتوت بالأ�سى ّ‬

‫وع ٌد يف ق�صائدنا‬ ‫ال�شاعر احل ْل ُم ْ‬ ‫ال�شاعر احللم ج ْن ٌي يف موا�سمنا‬

‫ملح الكالم‪ ،‬عرو�س ال�شعر والأدب‬

‫يداك �أمرعتا‪ ،‬فالغ�صن ذاكرة ٍ‬ ‫َ‬

‫أجدبت بي ٌد‬ ‫خ�صبت �أو �‬ ‫هم �إن‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ما ّ‬

‫يا دمية ال�شعر‪،‬يا غيث القري�ض �أال‬ ‫معراجنا يف زمان اجلدب �أغني ٌة‬ ‫�سعيد ٍ‬ ‫عقل‪ ...‬كفى لل�شعر مفخر ًة‬

‫روح �سال يف اخل�شب‬ ‫للخ�صب‪،‬‬ ‫وال�شعر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫والرطب‬ ‫تطواف ُة‬ ‫ِ‬ ‫الريح بني ُالب�سرْ ِ ُّ‬ ‫جدب‬ ‫فهو الكوار ُة يف‬ ‫ٍ‬ ‫خ�صب ويف َ‬ ‫رف ًقا ٍ‬ ‫ذوت من ُع ْج َم ِة العرب‬ ‫ب�ضاد ْ‬

‫ال�سحب‬ ‫�إليك ترنو‪ ،‬فيهمي حِ ْم ُ‬ ‫جر ُّ‬ ‫خط ْت له تعويذ َة ُ‬ ‫ميناك ّ‬ ‫الك َرب‬

‫حممـد توفيـق أبـو علـى‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 104‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫إلى الشاعر اخلالد سعيد عقل‬

‫َ‬ ‫القصائد‬ ‫سفحك العالي تنام‬ ‫على‬ ‫ُ‬ ‫عمـر شـبلـي‬ ‫وجودنـا‬ ‫وغـ ِّيـ ْر‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫حتو ْل‪ ،‬و�صرِ ْ �شعراً‪َ ،‬‬

‫البو ِح يف ال�صدى‬ ‫فماذا الذي يبقى من ْ‬

‫ٍ‬ ‫العمر يانعـــ ًا‬ ‫و� ُّأي‬ ‫خريف يجعل َ‬ ‫فمن جارة الوادي �صدى ال�شع ِر قال‪:‬ال‬ ‫ْ‬ ‫بع�ضها‬ ‫أ�شعار‬ ‫والريح ُ‬ ‫ُ‬ ‫وهل ُ‬ ‫تهرم ال ُ‬ ‫�رسقت من الوادي هديـراً‬ ‫و�صغتـ ُه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫واخلمر �أنتمـا‬ ‫وزحل ُة ك� ُأ�س ال�شعر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أج�ساد ق�ص َة َح ْورِهــا‬ ‫وتروي لنا ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫فقل يا �أخاها � ُّأي ٍ‬ ‫وجد غوى بنــا‬

‫تقا�سم َت َ‬ ‫أنت وزحلــ ٌة‬ ‫قول ال�شع ِر � َ‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫لت‬ ‫«عبقر»‬ ‫ومن‬ ‫ت�سلـ ْ‬ ‫َ‬ ‫اململوء �شعراً َّ‬ ‫جتر القوايف من نوا�صي ِحرانهـا‬ ‫ُّ‬ ‫فدع ّ‬ ‫َ‬ ‫روحـ ُه‬ ‫ي�سقيك‬ ‫كر ٍم لي�س‬ ‫ْ‬ ‫كل ْ‬ ‫َ‬

‫ع�رصهـا‬ ‫وتلك‬ ‫ُ‬ ‫العناقيد التي َ‬ ‫طاب ُ‬

‫ال�سـماء قريبـ ٌة‬ ‫«�صنـ َني»‪،‬‬ ‫أغريت‬ ‫و� َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬

‫أعطـ ْي َت مثلـه‬ ‫�إذا ُ‬ ‫النهر �أعطى ثم � َ‬

‫ال�شعر من طبعـ ِه ِ‬ ‫َ‬ ‫ال�س ْح ُر‬ ‫ب�شعرك‪ّ � ،‬إن َ‬ ‫ُ‬ ‫الزهر‬ ‫ذبـل‬ ‫يقول‬ ‫وماذا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫العطر لو ُ‬ ‫الع�رص‬ ‫وامتنع‬ ‫كر ُم العم ِر‬ ‫�إذا َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫جف ْ‬ ‫ِ‬ ‫الن�رش‬ ‫الورد‪� ،‬شيمته‬ ‫أنت كعطر‬ ‫و� َ‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫ال�سم ُر‬ ‫ومزمار‬ ‫ُ‬ ‫«داود» وتلك املها ْ‬ ‫النهـر‬ ‫ال�شاعـر‬ ‫جيـ ًا‪� ،‬إمنا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هدي ًال َ�ش ّ‬ ‫ذكر‬ ‫فما َّ‬ ‫حلـ ٍق ل�شاربهــــا ُ‬ ‫جف يف ْ‬

‫ال�ش ْع ُر‬ ‫فيا من ر�أى َح ْوراً‪ ،‬وقد �أُ ْ�س ِد َل َ‬ ‫الكليم �أم ا َحل ْو ُر !!؟‬ ‫أنت �أم الوادي‬ ‫�أ� َ‬ ‫ُ‬ ‫ال�شعـر والنثـر‬ ‫حـ ْيهما‬ ‫ُ‬ ‫حبيبان من َب ْو َ‬

‫لواديك ج ِـ ٌّن‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫قيل‪ :‬يف ٍ‬ ‫زحلة َق ُّروا!!؟‬

‫العر�س ُي ْ�س َتـ ْح َ�سنُِ ا َجل ُّـر‬ ‫�إىل عر�سها‪ ،‬يف‬ ‫ِ‬ ‫ودع َّ‬ ‫ال�شعـر‬ ‫الي�ضيء به‬ ‫�شعر‬ ‫كل ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تباهيك يف �شرَ ْ ٍب(‪ ،)1‬ويبقى لك ال ُأمر‬ ‫فكان لها خ�رصاً‪ ،‬ويحلـو لك ال َه�صرْ ُ‬ ‫َ‬ ‫النهـر‬ ‫قمح ال�سهلِ � ُّأيـكما‬ ‫ت�ساءل ُ‬ ‫ُ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪105‬‬

‫متر على الأ�شعار‪ ،‬وهي يتيم ٌة‬ ‫ُّ‬ ‫و�س ْع َق ْلـ َت(‪ )2‬لبنانـ ًا‪ ،‬ف� ُّأي � ٍ‬ ‫أريكـة‬ ‫َ‬

‫كتـ َك الب ِْك ُر‬ ‫وتغزو‬ ‫َ‬ ‫فتـ ُ‬ ‫بـالد ال�شع ِر ْ‬ ‫والدهر!!!‬ ‫جلو�س �أنت وال�شعر‬ ‫عليها‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬

‫حملـق‬ ‫ك�أ ّنك يف‬ ‫«�صنـ َ‬ ‫ّ‬ ‫يـن» ن�رسٌ ِّ‬ ‫إميا�ض على ِّ‬ ‫كـل �شاهــق‬ ‫يغاوي ِه � ٌ‬

‫الو ْك ُر‬ ‫جناحاه‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ميتد ِان‪ ،‬والنجم ُة َ‬ ‫والنظر ال� ْزش ُر‬ ‫الفو ُق‬ ‫بـه‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ي�ستبد ْ‬ ‫الن�رس‬ ‫وكيف‬ ‫ُ‬ ‫والقمـ َة ُ‬ ‫يخـاف ال ْأفـ َق َّ‬

‫غ�صن َّ‬ ‫�أخا ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫هم ًا» ب�أر�ضنا‬ ‫كل‬ ‫«قل ّ‬ ‫أ�رسق جمـر ًة‬ ‫اليوم»‪ُ � ،‬‬ ‫«مرر َت ببايل َ‬ ‫ْ‬

‫تخف من بروقــــ ِه‬ ‫وعا�صفـ َت �أفق ًا مل ْ‬ ‫ْ‬

‫الفكر‬ ‫وانهزم‬ ‫ال�شعر‪،‬‬ ‫ملاذا ا�ستقال‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اجلمر؟‬ ‫�أ«‬ ‫ُ‬ ‫�سيزيف»(‪� )3‬سرَ ّ ٌ‬ ‫اق؟ وخب ٌز هو ُ‬

‫أر�ض َع ِ�ص َّي ٍة‬ ‫أنكرت �شعـراً دون � ٍ‬ ‫و� َ‬

‫الن�رص‬ ‫يحاولُها الباغي فيخذلُـه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫احلر‬ ‫الرجل‬ ‫و�أقفر يف �أرحامنا‬ ‫ُّ‬

‫بال خيلِ ِ‬ ‫ال�شعر ما دنا‬ ‫�سيف الدول ِة ُ‬

‫ال�شـعر‬ ‫كـتـ ُب‬ ‫ُ‬ ‫من املتنبي‪ .‬هكذا ُي َ‬ ‫ٍ‬ ‫وعر‬ ‫دربه‬ ‫آخر‬ ‫و� ُّأي‬ ‫احتـالل � ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫�أتدري ملَ‬ ‫�ست‬ ‫ُ‬ ‫كـ ْ‬ ‫الرايات َّ‬ ‫ذلـ ْت و ُن ِّ‬

‫�سـبي ًة‬ ‫هـزِمنا لأن ال َ‬ ‫ظلـ ْت ّ‬ ‫ُ‬ ‫أر�ض ّ‬ ‫املجد وانتحى‬ ‫ترجـ َل عن تاريخنا ُ‬ ‫َّ‬

‫وحـده‬ ‫أرز‬ ‫وطن‬ ‫لنا‬ ‫َ‬ ‫يحتلـه ال ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫إزار الـذي غال‬ ‫و� َ‬ ‫ألب�ست لبنان ال َ‬ ‫فال حبنا يفنى وال �أنـت تنتهي‬ ‫�سو ْت ر�ؤانا عنيـد ًة‬ ‫معاناتنا َّ‬ ‫أغ�ص ٌن‬ ‫نار‪ ،‬وللنا ِر � ُ‬ ‫وكانت لنا ٌ‬

‫ويف مثل هذي النار ُ�صغنا نقاءنا‬

‫أقوياء نحن‪ّ � ،‬إن قلوبنا‬ ‫هنا � ٌ‬ ‫على النور نبقى �أو على ِ‬ ‫املوت �شرُ َّ ع ًا‬

‫كنت واحـداً‬ ‫فكن‬ ‫النهائي ًا كما َ‬ ‫ّ‬ ‫حتبــــه‬ ‫ال�سفح الذي ال‬ ‫غفرنا لك‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬

‫املـ ْج ُر‬ ‫وكان من الأ�شعار‬ ‫ُ‬ ‫ع�سكرنا َ‬ ‫ق�رص‬ ‫نتـخى قربٌ وال ُيـنتخى ُ‬ ‫وقد ُيـ َ‬

‫حت�سده الأُ ْز ُر‬ ‫ف�صارت على الأيام‬ ‫ُ‬ ‫ؤجـجهــا ِ‬ ‫الك ْبـ ُر‬ ‫كالنا به ٌ‬ ‫نار ي� ِّ‬

‫العمر‬ ‫�شاء الذي بيته‬ ‫ْ‬ ‫فع�شنا كما َ‬ ‫ُ‬ ‫يخ�رض‬ ‫فالغ�صن‬ ‫اللفح‬ ‫�إذا َّ‬ ‫ا�شتد فيها ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬

‫البحر‬ ‫وما َّ‬ ‫�صدنا عن ن�رش �أحالمنـا ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ناق�صة ِ�س ُرت‬ ‫دروع لها عن كل‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫الكفر‬ ‫ويف‬ ‫املوت ٌ‬ ‫ب�رصه ُ‬ ‫نور لي�س ُي ُ‬ ‫يحد َك َ‬ ‫والعطر‬ ‫الرو�ض‬ ‫مثل الورد ِة‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫العذر‬ ‫طلـ َب‬ ‫ُ‬ ‫فمن خط�أ ّ‬ ‫القمات ال ُيـ َ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 106‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫� َ‬ ‫أغانيك كانت يف ف�ؤادي عبـاد ًة‬ ‫ت�شب َث �أه ُلهـا‬ ‫�إذا ُ‬ ‫مد ٌن غرقـى َّ‬ ‫والنار يف «طُ وى»‬ ‫ال�شعر ُ‬ ‫روح الكون‪ُ ،‬‬ ‫هو ُ‬ ‫ُ�ص َّـر ٍة‬

‫نوافج‬ ‫ولي�ست مغـاال ًة‬ ‫ُ‬ ‫احلرف �إال ُّ‬ ‫حائـر‬ ‫ظل وجدان‬ ‫وما‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫(‪)5‬‬

‫ِ‬ ‫اختفاء جهاتـ ِه‬ ‫ال�ضوء‬ ‫َ�سباين من‬ ‫ُ‬ ‫دت يف حزين وجرحي ولهفتي‬ ‫تفر ُ‬ ‫َّ‬

‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫كبيـرة‬ ‫وكل‬ ‫ِجماح ًا عربناها‪،‬‬

‫فتيــ ٌة‬ ‫ُ‬ ‫ت�شيب النوا�صي‪ ،‬والأماين ّ‬ ‫جنوع �إىل الدنيا ونعلم �أننـا‬ ‫احت�س ْينا رحيقها‬ ‫العناقيد‪،‬‬ ‫ع�صرَ ْ نا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وبي منك ما بال�سهلِ �سهلِ بقاعنـا‬ ‫كربت وقلبي فارغٌ من حطامهـا‬ ‫ُ‬ ‫وعانيت فقراً‪ ،‬والغنى كان دونــه‬ ‫ُ‬ ‫ولو كان يل غري احلنيـن و�سادةٌ‬ ‫أيت ح�سين ًا دون ر� ٍأ�س‪ ،‬ومل ْ‬ ‫تزل‬ ‫ر� ُ‬ ‫وما طاردتني غيـر حريتي �إىل‬ ‫الق�ضبان من ع�صف لهفتي‬ ‫تق�صفت‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫بحقـهـا‬ ‫أثمـ ُت‬ ‫�أنا من‬ ‫بالد ما � ْ‬ ‫ِّ‬ ‫وهاجمني ٌ‬ ‫خيلـه»‬ ‫ليل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫فـ»طاعنت َ‬ ‫أ�شواق روحي على ال�سرُ ى‬ ‫وما ن�ضبت � ُ‬

‫خ�صم واجهته بطولتي‬ ‫أخطر‬ ‫و� ُ‬ ‫ٍ‬

‫اجلمر»‬ ‫ُ‬ ‫يزهر ُ‬ ‫«كالمك زهر اجلم ِر لو ُ‬

‫(‪)4‬‬

‫ال�شعر‬ ‫إن�سان فاملـنقذُ‬ ‫مبا ينقـذ ال َ‬ ‫ُ‬ ‫�رض»‬ ‫�إليها �سعى مو�سى‬ ‫و�صاحبه «ا ِخل ُ‬ ‫ُ‬

‫تبوح مبا يخفي ِه من ع�شبِه الق ْف ُر‬ ‫ويزداد ْبوح ًا كلمـا � َ‬ ‫ال�رس‬ ‫أوغل‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫اجلهر‬ ‫ال�رس فيه هو‬ ‫و� ُ‬ ‫ُ‬ ‫أدركت � ّأن َّ‬ ‫والقهـر‬ ‫�شارع‪� ،‬أ�ضوا�ؤه احلزن‬ ‫�أنا‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬

‫ال�صرب‬ ‫ينفد‬ ‫متر بنا من �صبـرنا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ولوال الأماين � ُّأي ٍ‬ ‫العمر!!‬ ‫�شيء هو ُ‬

‫ِ‬ ‫القبـر‬ ‫واجلوع من‬ ‫طعام لها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫خبزه ُ‬ ‫املر‬ ‫وبعد الرحيق اجتاحنا‬ ‫الهاج�س ُّ‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫طالـها َثـ ُّر‬ ‫غيمة‬ ‫�إىل‬ ‫َ‬ ‫خ�رضاء‪َ ،‬تـ ْه ُ‬ ‫ال�ص ْف ُر‬ ‫أرخ�ص ما عندي‬ ‫لوامعها ُ‬ ‫ف� ُ‬ ‫ُ‬ ‫الفقـر‬ ‫فيهزمه‬ ‫يحد ُق يف فقري‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الهجر‬ ‫خلـني‬ ‫ُ‬ ‫�إىل ج�سد الدنيا لخَ َـ ْلـ َ‬ ‫ت�سائلني روحي‪ :‬هل انت�رص ِ‬ ‫«ال�ش ْم ُر»؟‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫القبـر‬ ‫�سجن كان ي�شبهه‬ ‫مغاليق‬ ‫ُ‬ ‫أ�رس‬ ‫حتررت حتى راح‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يح�سدين ال ُ‬

‫الوعر‬ ‫الزمن‬ ‫حبـها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ومل يثن ِـني عن ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ــر‬ ‫بخنجر‬ ‫�ضوء من معادنه ْ‬ ‫الفج ُ‬ ‫حـ ُّر‬ ‫فما َّ‬ ‫جف ِكبرْ ٌ كان يحم ُلـه ُ‬ ‫والذعـر‬ ‫التو�س ُل‬ ‫عيو ٌن بدا فيهـا‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪107‬‬

‫ي�ستلهم الر�ؤى‬ ‫ال�شعر‬ ‫مت منك‬ ‫تع ّل ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫مت �أقفا�صي بقو ِة جانحي‬ ‫وحطـ ُ‬ ‫ّ‬

‫و� َ‬ ‫ت�سامح‬ ‫أيقظ قلبي لل�صال ِة‬ ‫ٌ‬ ‫طعام من الأحزان يكفيك خبـ ُزه‬ ‫ٌ‬

‫والقـ ُّر‬ ‫فينزاح عن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫احلـ ُّر َ‬ ‫�صحرائي َ‬ ‫ُّ‬ ‫قعـ ُر‬ ‫جدار حيـن‬ ‫فكل‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ت�صعده ْ‬

‫والطـ ْه ُر‬ ‫املجدلي ُة‬ ‫عانـ ُق فيـه‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َتـ َ‬ ‫ال�رش‬ ‫احلقد‬ ‫�إذا ما ا�ستقال‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وانهزم ُّ‬

‫�سعيد‪ ،‬وهل هذي‬ ‫البالد �سعيـدةٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫ظل من �شوارعهـــا ِ‬ ‫كل ٍّ‬ ‫ويف ِّ‬ ‫«�ش ْم ُر»‬

‫مذاهب‬ ‫�سعيد‬ ‫لقد م َّزقتنا يا‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫�سعيد‪َ ،‬‬ ‫واكتب لنا الذي‬ ‫تعال الآن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬

‫احلـ ُّـر‬ ‫إن�سان‬ ‫بـه يبد�أُ ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫والوطن ُ‬

‫ٍ‬ ‫ملوطن‬ ‫لكن � ُّأي معنى‬ ‫َ‬ ‫وحاولت‪ْ ،‬‬

‫أ�سماءه ُكـ ْث ُـر‬ ‫مت َّز َق حتى � ّأن � َ‬ ‫الرقم ِ‬ ‫ال�ص ُفر‬ ‫وقد َّ‬ ‫�ضج من تعدادنا ُ‬

‫عمـر شـبلـي‬

‫الصويري ترشين األول ‪2012‬‬

‫(‪ )1‬الشرَ ْ ب‪ :‬املجتمعون عىل الرشاب‪ ،2001‬ص ‪.170‬‬ ‫سعقلت‪ :‬تركيب مزجي من سعيد عقل‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫َ‬

‫(‪ )3‬يف األساطري اليونانية‪ :‬سيزيف رسق النار من جبال األوملب‪ ،‬وكانت ملك ًا لكبري اآلهلة »زوس»‪،‬‬

‫فعاقبه بحمل الصخرة إىل اجللجلة‪ ،‬فكانت الصخرة تسقط عن كاهله كلام شارف القمة‪ ،‬فيعود حلملها‬ ‫يف عذاب أبدي ال ينتهي‪.‬‬

‫(‪ )4‬هذا شطر لسعيد عقل من قصيدة قاهلا يف شولوخوف بمناسبة نيله جائزة نوبل‪.‬‬ ‫(‪ )5‬النوافج مجع نافجة ‪:‬وعاء املسك‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 108‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫النـبـــوة‬ ‫وجـــه‬ ‫ّ‬ ‫و‬ ‫مدرج العنـقـاء‬ ‫إهيــاب محــادة‬ ‫النـبـــوة‬ ‫وجـــه‬ ‫ّ‬ ‫تراود هذي الك� ْآبه‬ ‫وكانت‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫حجابه‬ ‫احلزن عنه �صباح ًا‬ ‫مكان ًا ن�ضا‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫النور�سي �أخيط ال�شواطئ رم ًال و�صخرا‬ ‫وكنت �أنا ثوبه‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫�سحابه‬ ‫وكانت‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫تظ ّلل وج َه النبوء ِة �سطراً ف�سطرا‬ ‫الكتابه‬ ‫وجتلو‬ ‫ْ‬ ‫زندها‬ ‫وكنا رفيقني يف �رشفة البحر‪ ,‬كان املدى ن�ص ُفه َ‬ ‫أقحوان‬ ‫والنخيل ينام على جفنها نومة ال‬ ‫ْ‬ ‫املكان‬ ‫وكان يخا�رص �ضوء ُ النهار‬ ‫ْ‬ ‫ويفتح بابا‬ ‫م�شهد الك�شف غيب ًا وزدنا اقرتابا‬ ‫يرانا جت ّلى لنا‬ ‫ُ‬ ‫*****‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪109‬‬

‫مدرج العنقاء‬ ‫كانت يف ذاكرتي‬ ‫�أذكر ك ّف ْني‬ ‫الريح و�أخرى‬ ‫ك ّف ًا تغزل وجه‬ ‫ِ‬ ‫املاء‬ ‫تقر�أ ما‬ ‫ْ‬ ‫كتبت قيثار ْ‬ ‫ِ‬ ‫لونني‬ ‫�صفحات حكايا من‬ ‫ْ‬ ‫املك�سوة �شعراً‪ِ ,‬‬ ‫ِ‬ ‫أ�سماء‬ ‫لون الأ�شكال‬ ‫لون ال ْ‬ ‫ّ‬ ‫درجت من حرفيه الروح‬ ‫عارف ما‬ ‫هذا يا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫الباء‬ ‫ٌ‬ ‫حرف فيه مقام ْ‬ ‫احلرفني‬ ‫امليم‪ ،‬وما بني‬ ‫ْ‬ ‫وال ُ‬ ‫آخر فيه ُ‬ ‫للعنقاء‬ ‫املدرج‬ ‫خت�رص‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُي ُ‬

‫إهيـاب محـادة‬



‫ملف الأدب املقاوم‪:‬‬ ‫ـ جمزرة طواها الن�سيان‬ ‫ـ الزمن يف «ر�أيت رام الله» بدء ال�سرد‬ ‫ـ �إىل غزة �شاهدة و�شهيدة‬ ‫ـ كفكف دموعك وان�سحب يا عنرتة‬ ‫ـ هواري‬ ‫ـ فطمت ال�سماء فطمت الأر�ض‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 112‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫قراءة في كتاب‪:‬‬

‫ً‬ ‫أبدا»‬ ‫«مجزرة طواها النسيان هي مجزرة لم تقع‬

‫(*)‬

‫د‪ .‬فاتـن ا ُملـر‬ ‫يمسكك الكتاب من يدك ويقودك عرب‬ ‫أقبية الذاكرة املصبوغة باحلزن‪ ،‬باخلجل‪،‬‬

‫بالشعور بالعجز‪ ،‬املسكونة بتفاصيل‬ ‫املجزرة‪ ..‬كنا صغار ًا‪ ،‬واملجزرة غدت‬ ‫واحدة من املركبات التي نمت حوهلا‬ ‫شخصيتنا‪ .‬كيف كان وقعها عىل طفولتنا‬ ‫وشبابنا؟ هل علمتنا أن ال نسكت عىل‬ ‫الظلم حتى لو بلغ مرحلة الوحشية التي‬ ‫تثري الرعب يف القلوب؟ أم علمتنا أن‬ ‫نتناسى ما مل نتمكن من تغيريه؟ أن نغض‬ ‫النظر عن بشاعة بعض املحطات ونكتم‬ ‫رصاخنا؟‬ ‫رصاعنا هو أيض ًا رصاع مع الذاكرة‪،‬‬ ‫تلك التي تسعى غريزة البقاء إىل تضليلها‪،‬‬ ‫إىل تنويمها‪ .‬عىل وقع األحداث املتسارع‬ ‫واملآيس املتكررة‪ ،‬متيل ذاكرتنا إىل اهلرب‪،‬‬ ‫وإسكات أصداء الذكريات التي توقظ‬ ‫اآلالم‪ .‬نميل إىل النسيان‪ ،‬والنسيان يف‬ ‫بعض األحيان خطيئة‪ ،‬جريمة‪ ،‬إعالن‬ ‫اهلزيمة يف املعركة وانسحاب خارج‬ ‫الرصاع‪.‬‬

‫ـ لن ننسى‬

‫لن ننسى دير ياسني واحلوال واخليام‬ ‫وصربا وشاتيال وقانا‪ ...‬وجمازر أخرى ال‬ ‫حتىص‪ .‬ال يمكن للشعوب أن تبني تارخيها‬ ‫عىل الفراغ‪ ،‬عىل فراغات تركتها الذاكرة‬ ‫اهلاربة من مسؤولياهتا‪ .‬كل الشعوب‬ ‫تعمل عىل سرب حدود جراحها‪ ،‬مسبباهتا‬ ‫والندوب التي خلفتها‪ ،‬وتبقى اجلراح‬ ‫مفتوحة إىل أن يعرتف مرتكبوها بذنبهم‪،‬‬ ‫وإىل أن حيمل العامل مسؤوليتها هلؤالء‬ ‫املرتكبني‪ ...‬لن ننسى لكي يبقى لنا تاريخ‪،‬‬ ‫ولكي نستطيع بناء املستقبل‪.‬‬ ‫شعوران يرافقان رحلتنا عرب الكتاب‪:‬‬ ‫شعور األمل القديم الذي نكتشف أنه مل‬ ‫يبارحنا طوال الثالثني عام ًا التي تفصلنا‬ ‫عن املجزرة‪ ،‬وشعور الفرح اجلديد‬ ‫إلدراكنا أن ثمة ضامئر حية ما فتئت تشعل‬ ‫شمعتها وسط ظالم العامل‪ .‬الصحايف (جاك‬ ‫ماري بورجيه) واملصور (مارك سيمون)‬ ‫ضمريان حيان اكتشفا املجزرة يف الصباح‬ ‫الذي تال الليلة التي متت خالهلا عمليات‬

‫(*) جاك ماري بورجيه‪ ،‬من كتاب «صربا وشاتيال‪ ،‬يف قلب املجزرة»‪ .‬الصور لـ مارك سيمون‪ ،‬دار إريك‬ ‫بونيه‪ ،‬حرب الرشق‪.2012 ،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪113‬‬ ‫التصفية اجلامعية‪ .‬يومها سعيا إىل لفت‬ ‫انتباه أكرب عدد من رجال اإلعالم وجذهبم‬ ‫نحو املخيم خوف ًا من أم تتمكن جرافات‬ ‫املرتكبني من طمر آثار اجلريمة‪ .‬يومها كتبا‬ ‫وصورا واتصال ليوصال اخلرب‪ ...‬ولكن‬ ‫الصوت مل يصل كام أراداه‪ .‬وبعد مرور‬ ‫كل هذه السنني‪ ،‬يعودان ليمنعا جرافات‬ ‫الوقت من طمر وقائع تلك الليلة الرهيبة‬ ‫إىل األبد فينرشان كتاهبام‪.‬‬ ‫كلامت بورجيه تتصف بالعمق‬ ‫والوعي وبمعرفة شاملة لواقع املنطقة‬ ‫املعقد وللسياسات التي تتالعب هبا‪،‬‬ ‫وحتمل سمة وجدانية تنطق بنفسية تأبى إال‬ ‫أن تسلك سبيل احلق‪ .‬أما الصور املوقعة‬ ‫من مارك سيمون‪ ،‬فهي تلقي الضوء عىل‬ ‫حقائق يعرفها اجلميع‪ ،‬ينكرها البعض‬ ‫ويتناساها البعض اآلخر‪ .‬مارك سيمون‬ ‫قال لرفيقه‪ ،‬عندما وجدا نفسيهام وحيدين‬ ‫يتنقالن يف األزقة حيث تكومت اجلثث‪« :‬ال‬ ‫آبه للسبق الصحفي أو للصور احلرصية‪.‬‬ ‫جيب أن يرى العامل بأرسه ما نراه»(ص‪،)56 .‬‬ ‫كانت جرافة يف املخيم حتفر حفرة تدفع‬ ‫إليها اجلثث‪ .‬ركض بورجيه إىل الطريق‬ ‫العام وراح يوقف السيارات ويدعو‬ ‫راكبيها إىل مشاهدة ما حدث‪ ،‬وصودف‬ ‫أن أحد الركاب كان من موظفي األمم‬ ‫املتحدة‪ ,‬وآخر كان مراس ً‬ ‫ال صحفي ًا‪...‬‬

‫يكتب جاك ماري بورجيه عن املجزرة‬ ‫ليعوض قلي ً‬ ‫ال عن الصمت العاملي الذي‬ ‫لفها بعد قرار األمم املتحدة اليتيم بإدانتها‪،‬‬ ‫«فالعدالة الدولية مشغولة بأولياهتا‪ ،‬وهي‬ ‫العمل عىل شل كل القوى املعارضة للنظام‬ ‫الغريب»‪ ،‬ويضيف‪« :‬عىل رؤوس األصابع‪،‬‬

‫كالسارق‪ ،‬تسللت املجزرة من الذاكرة‬ ‫العاملية‪ ،‬لتبلغ املدافن الكبرية حيث طمرها‬ ‫حفارو قبور ال مبالني‪ ،‬كام يطمرون كل‬ ‫قضايا الظلم‪ .‬كام ساهم الدور الذي لعبته‬ ‫إرسائيل (تسليح وحتفيز القتلة) والضغط‬ ‫الذي مارسته عىل حلفائها يف حمو ما كتب‬ ‫عىل لوح الزمن وعىل املشاركة يف تعميق‬ ‫(ص‪)12 .‬‬ ‫الصمت»‪.‬‬

‫يقول إنه كتب كتابه دون أن يلجأ إىل‬ ‫املالحظات التي دوهنا منذ ثالثني عام ًا‪,‬‬ ‫إذ اختزنت ذاكرته كل تلك الوقائع التي‬ ‫هزته يف الصميم وأبقتها حية إىل أن جاء‬ ‫موعد نرشها‪.‬‬ ‫ذهب الصحفي واملصور إىل خميم‬ ‫وجتوال فيه وحتدثا إىل‬ ‫صربا وشاتيال‬ ‫َّ‬ ‫سكانه يف اليوم الذي سبق املجزرة‪ .‬يف‬ ‫تلك الليلة‪ ,‬قبل أن يغفو مارك سيمون يف‬ ‫أرس إىل رفيقه‪:‬‬ ‫فندق كومودور يف احلمرا‪ّ ،‬‬ ‫«عندي شعور بأن أمر ًا سيئ ًا سيحصل»‪.‬‬ ‫يف الصباح الباكر‪ ،‬عادا إىل املخيم ليكمال‬ ‫حتقيقهام‪ ،‬سارا يف األزقة‪ ،‬واجها املوت‬ ‫بأبشع مظاهره‪ :‬جثث يف كل مكان لنساء‬ ‫ورجال وأطفال عذبوا قبل ان يقتلوا‪,‬‬ ‫تواقيع القتلة عىل احليطان‪ ،‬نساء يبحثن‬ ‫عن قتالهن بني اجلثث‪ ،‬أخريات جيلسن‬ ‫فوق حجارة البيوت املدمرة وقد شلتهن‬ ‫املأساة‪ .‬يكتب بورجيه‪« :‬أنا ومارك عشنا‬ ‫يوم ًا سنحتفظ بآثاره إىل القرب‪ .‬هنا‪ ،‬اآلن‪,‬‬ ‫(ص‪)102 .‬‬ ‫فقدنا حقنا يف الالمباالة»‪.‬‬ ‫بعد املخيم‪ ،‬حمطة املدينة الرياضية‬ ‫حيث يستعرض اإلرسائيليون عدد ًا من‬ ‫الفلسطينيني ويدفعون قس ًام منهم إىل‬ ‫اليمني وآخر إىل اليسار حيث تنتظرهم‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 114‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫شاحنات الكتائب اللبنانية لتحملهم إىل‬ ‫جهة جمهولة‪ .‬كام يفصح الصحايف عن‬ ‫واقعة أشد خطورة‪ ،‬إذ خيرب كيف عاد‬ ‫مع املصور بعد اسبوع إىل صربا وشاتيال‬ ‫ليشهدا عىل جريمة أخرى‪ :‬القوات‬ ‫الفرنسية تقوم بحامية القوات اللبنانية‬ ‫حتمل يف الشاحنات أعداد ًا جديدة‬ ‫التي ّ‬ ‫من الشبان الفلسطينيني‪ .‬يرصخ يف وجه‬ ‫أحد الضباط أن من ارتكبوا اجلريمة عادوا‬ ‫إىل املوقع لريتكبوا جريمة جديدة هم‪ ،‬أي‬ ‫الفرنسيون‪ ،‬رشكاء فيها‪ ،‬دون أن ينجح‬ ‫يف زحزحة اقتناعاته‪ .‬ال يسكت‪ ،‬يتصل‪،‬‬ ‫يكتب ألحد مستشاري ميرتان ليطلعه عىل‬

‫ما حدث‪ .‬ال يلقى أجوبة‪ .‬أما املجلة حيث‬ ‫يعمل‪ ،‬فتفضل نرش تفاصيل مقتل غريس‬ ‫كييل أمرية موناكو‪ ،‬ليزداد عدد مبيعاهتا‪.‬‬

‫أما هو‪ ,‬فقد قرر يف النهاية نرش هذا‬ ‫الكتاب كوصية حق إىل العامل‪ ،‬كمسامهة‬ ‫بسيطة يف مواجهة الظلم‪« .‬اليوم‪ ،‬قطعة‬ ‫بعد اخرى‪ ،‬خرجت احلقيقة من مدفنها‪:‬‬ ‫األيادي التي ارتكبت املجزرة كثرية وقد‬ ‫تم تسليحها وتنظيمها وإرساهلا يف تلك‬ ‫املهمة‪ .‬ولكن ما من عدالة هتتم بمسح‬ ‫آثار الدماء‪ ،‬وتستمر احلياة بالنسبة للقتلة‬ ‫بوتريهتا اهلادئة والطيبة»‪.‬‬

‫د‪ .‬فاتـن ا ُملـــر‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪115‬‬

‫ال ّزمن في‪« :‬رأيت رام الله»‬ ‫السرد‬ ‫بدء ّ‬ ‫سـهام أنطـون‬ ‫صدرت ال ّطبعة األوىل من كتاب مريد‬ ‫الربغوثي "رأيت رام اهلل" عن دار اهلالل‬ ‫سنة ‪ .1997‬يروي الربغوثي يف هذا الكتاب‬ ‫حكاية زيارته مدينة رام اهلل‪ .‬وتشكّل حلظة‬ ‫الكاتب‪/‬الراوي هنر األردن النّقطة‬ ‫اجتياز‬ ‫ّ‬ ‫صفر النطالق السرّ د فيه‪ ،‬فهو يقول يف‬ ‫األسطر األوىل من كتابه‪« :‬ها أنا أقطع هنر‬ ‫األردن‪ .‬أسمع طقطقة اخلشب حتت قد َم ْي‬ ‫(‪)1‬‬ ‫ورائي العامل‪ ،‬وأمامي عاملي»‪.‬‬

‫بقوة‬ ‫وال تطلق حلظة االجتياز الرسد ّ‬ ‫نحو احلارض‪،‬إذ ال تلبث أن تنقطع بعد‬ ‫سطرين أو ثالثة وترتدّ ثالثني سنة إىل‬ ‫الوراء‪ ،‬إىل حلظة سابقة ل ّلحظة التي اجتاز‬ ‫فيها الكاتب اجلرس نفسه‪ ،‬والتي كانت‬ ‫حاسمة يف حرمانه من وطنه‪ ،‬هي صباح‬ ‫االثنني ‪ 5‬حزيران ‪ .1967‬لذلك خيتلط‬ ‫املايض واحلارض واملستقبل بالنّسبة إليه‬ ‫يف هذه ال ّلحظة‪ :‬وال عجب فهي ّ‬ ‫تلخص‬ ‫عمرا كام ً‬ ‫ال انقىض «يف حماولة الوصول‬ ‫ً‬ ‫(‪ )1‬مريد الربغوثي‪ ،‬رأيت رام اهلل‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.15‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.16‬‬ ‫(‪ )4‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.9‬‬

‫إليها»‪ ،‬وتثري ّ‬ ‫كل دقيقة يعيشها الكاتب‪/‬‬ ‫الراوي بعد اجتيازه اجلرس حكايات عمر‬ ‫مىض‪ ،‬فتتشابك األزمنة وتتعدّ د احلكايات‬ ‫ويفارق زمن السرّ د زمن احلكاية منذ‬ ‫اللحظة األوىل النطالقه‪.‬‬

‫الزمن املوضوعي‬ ‫ويف حماولة لتحديد ّ‬ ‫النطالق السرّ د نشري إىل ّ‬ ‫الشواهد اآلتية‪:‬‬ ‫للمرة األوىل منذ ثالثني‬ ‫«اآلن أجتازه‬ ‫ّ‬ ‫صي ًفا‪ ،‬صيف ‪ 1966‬وبعده مبارشة ودون‬ ‫(‪)2‬‬ ‫ثم حيدد يف صفحة‬ ‫إبطاء صيف ‪ّ ، »1996‬‬ ‫أخرى أنّه جيتاز اجلرس ذات يوم حار‬ ‫من حزيران «هواء حزيران اليوم‪ ،‬يغيل‬ ‫ويفور كهواء حزيران األمس»(‪ ،)3‬ويقصد‬ ‫باألمس حزيران ‪ 1966‬عندما اجتاز‬ ‫أيضا ساعة‬ ‫اجلرس‬ ‫للمرة األخرية‪ .‬وحيدد ً‬ ‫ّ‬ ‫وصوله إىل اجلرس بقوله «انطلقنا من بيتنا‬ ‫يف ّ‬ ‫صباحا‬ ‫والربع‬ ‫الشميساين يف التّاسعة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ووصلنا إىل هنا قبل العارشة»(‪ .)4‬وقد‬ ‫انتظر الكاتب ساعات طويلة عىل اجلرس‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 116‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫قبل أن ُيسمح له باجتيازه «هل هي نوبة‬ ‫السعال ا ّلتي فاجأتني أثناء انتظاري يف‬ ‫ّ‬ ‫اجلانب األردين لساعات طويلة‪ ،‬قبل أن‬ ‫يسميه رجال‬ ‫يسمح يل "اجلانب اآلخر" كام ّ‬ ‫الشرّ طة الفلسطين ّية‪ ،‬بأن تالمس قدماي‬ ‫هذا احلدّ الفاصل بني زمنني؟» وإذا كان‬ ‫الصيف (حيدّ د الكاتب زمن اجتيازه للنهر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األول صيف ‪)1996‬‬ ‫بقوله يف الشاهد‬ ‫ّ‬ ‫يبدأ يف بالدنا بعد ‪ 21‬حزيران‪ّ ،‬‬ ‫الزمن‬ ‫فإن ّ‬ ‫املوضوعي لبداية السرّ د هو ما بعد ظهر‬ ‫أحد األيام ما بني ‪ 22‬و ‪ 30‬حزيران ‪.1996‬‬ ‫ولكن ملاذا اختار الكاتب هذه ال ّلحظة‬ ‫بالتّحديد إلطالق رسده؟ وهل هلا داللة‬ ‫السد؟‬ ‫ّ‬ ‫خاصة يف سياق رّ‬ ‫ال نالحظ أ ّية داللة خاصة هلذه‬ ‫ال َلحظة (حزيران ‪ ) 1996‬يف سياق السرّ د‪،‬‬ ‫مهيتها كام ذكرت ساب ًقا‪،‬‬ ‫ولكّنها تكتسب أ ّ‬ ‫من املدى (ثالثني سنة) ا ّلذي يفصلها عن‬ ‫السابقة ا ّلتي اجتاز فيها اجلرس‬ ‫ال ّلحظة ّ‬ ‫تتصمن أحدا ًثا‬ ‫للمرة األخرية‪ ،‬وهي ال‬ ‫ّ‬ ‫كثرية‪ ،‬بل رواها الكاتب يف أسطر معدودة‬ ‫الصفحات اإلحدى واألربعني‬ ‫مبثوثة يف ّ‬ ‫ا ّلتي استغرقتها رحلة عبور اجلرس‬ ‫والوصول إىل رام اهلل‪ .‬ولكنّها حدث‬ ‫مك ّثف ومشحون‪ ،‬داللته أكرب بكثري من‬ ‫الزمن املوضوعي ا ّلذي استغرقه‪ ،‬تتداعى‬ ‫ّ‬ ‫فيه إىل ذهن الكاتب صور األحبة الذين‬ ‫ماتوا من أجل الوصول إىل هذه اللحظة‪،‬‬ ‫وهذه النّقطة من األرض‪ّ .‬‬ ‫إن عبور (حدود‬ ‫(‪ )5‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪16‬‬ ‫(‪ )6‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.5‬‬ ‫(‪ )7‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.5‬‬

‫‪ )1967‬والعودة إىل "رام اهلل" هي بالنّسبة‬ ‫للربغوثي عودة إىل حضن األ ّم وذكريات‬ ‫ّ‬ ‫الشباب وال ّطفولة‪ ،‬وكرس ولو كان كرسا‬ ‫ومه ّيا ومؤقتا للغربة واملوت‪ ،‬وجتسيدا‬ ‫حللم ثالثني سنة مضت‪ ،‬وهي يف الوقت‬ ‫احلق املستلب‬ ‫نفسه استعادة جلزء من‬ ‫ّ‬ ‫بالعودة وتثبيت له‪ ،‬لذلك هي حلظة ذاتية‬ ‫وتارخي ّية وسياس ّية‪ ...‬كام يقول الربغوثي‪:‬‬ ‫«أهي حلظة سياس ّية؟ أم عاطف ّية؟ أم‬ ‫اجتامع ّية؟ حلظة واقع ّية؟ رسيال ّية؟ حلظة‬ ‫(‪)5‬‬ ‫جسد ّية؟ أم ذهن ّية؟»‪.‬‬ ‫وال ننسى ّ‬ ‫أن هذه العودة مل تكن‬ ‫متاحة لوال اتّفاقية أوسلو ( ‪ ،)1993‬وإن‬ ‫كنّا نالحظ أن الكاتب ال يذكر ذلك أبدً ا‬ ‫عند انطالق السرّ د‪ ،‬ور ّبام يوحي هذا‬ ‫بموقفه منها ومن التّطورات ا ّلتي حصلت‬ ‫يف "رام اهلل" بعدها‪ .‬وباملقابل تربز بشكل‬ ‫واضح يف بداية السرّ د ويف ختامه داللة ‪5‬‬ ‫حزيران ‪ 1967‬وتأثريها‪ ،‬إذ ينقطع السرّ د‪،‬‬ ‫كام ذكرت ساب ًقا‪ ،‬بعد أسطر معدودة من‬ ‫انطالقه(‪ 7‬أسطر) ليعود إىل هذا التّاريخ‬ ‫«صباح اإلتنني ‪ 5‬حزيران ‪ ،1967‬امتحان‬ ‫اللغة الالتين ّية»(‪ ،)6‬ويمتدّ الكالم عنه‬ ‫فيصور الكاتب‬ ‫الصفحات‪6 :‬ـ‪7‬ـ‪)8‬‬ ‫ّ‬ ‫(يف ّ‬ ‫مفاعيله احلاسمة عىل حياته وعىل حياة‬ ‫املاليني من الفلسطينيني‪« ،‬من هنا‪ ،‬من‬ ‫إذاعة صوت العرب‪ ،‬قال يل أمحد سعيد‬ ‫ّ‬ ‫إن رام اهلل مل تعد يل وإنّني لن أعود إليها‪.‬‬ ‫املدينة سقطت»(‪ ،)7‬وعن أثرها عىل باقي‬ ‫الفلسطينيني يقول «إرسائيل تسمح ملئات‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪117‬‬ ‫الس ّن ومتنع مئات اآلالف من‬ ‫من كبار ّ‬ ‫ّ‬ ‫يسمينا‬ ‫الشبان من العودة‪ .‬وصار العامل‬ ‫ّ‬ ‫(‪)8‬‬ ‫"نازحني"!» ‪ ،‬ويعود الربغوثي إىل‬ ‫داللة ‪ 67‬وآثارها يف هناية الكتاب فيقول‬ ‫«هناك أرقام مع ّينة انسلخت عن معناها‬ ‫املحايد واملوضوعي وأصبحت تعني شي ًئا‬ ‫واحدا ال يتغيرّ يف الوجدان‪ .‬منذ اهلزيمة يف‬ ‫ً‬ ‫حزيران ‪ 1967‬مل يعد ممكنًا أن أرى رقم ال‬ ‫(‪)9‬‬ ‫‪ 67‬هذا إال مرتب ًطا باهلزيمة»‪.‬‬ ‫السد لزمن‬ ‫إذ ًا تبدو مفارقة زمن رّ‬ ‫احلكاية واضحة ومبكرة يف الن ّ​ّص‪ .‬ولكن‬ ‫أي زمن تعود هذه احلكايات؟‬ ‫إىل ّ‬ ‫يف النّص حكايات كثرية تعود إىل‬ ‫تواريخ خمتلفة‪ ،‬بعضها يروي قصص‬ ‫النّكبة الفلسطين ّية والتشرّ د يف ّ‬ ‫كل زوايا‬ ‫األرض‪ ،‬وبعضها اآلخر يعود إىل مأساة‬ ‫‪ 67‬وإىل زمن اإلنتفاضة واحلرب األهل ّية‬ ‫يف بريوت أو إىل أبعد من ذلك بكثري‪،‬‬ ‫فبعض االسرتجاعات يعود إىل طفولة‬ ‫والدة الكاتب‪ .‬وهناك حكايات تعود‬ ‫أول‬ ‫إىل بداية القرن العرشين مثالً‪« :‬منذ ّ‬ ‫القرن حتّى وفاته قبل سنوات وهو "جيول"‬ ‫الزيتون ويأخذه إىل بابور أبو سيف ليعرصه‬ ‫ّ‬ ‫(‪)10‬‬ ‫زيتًا يمأل اجلرار»‪.‬‬ ‫واحلكاية ال ّثانية ا ّلتي تعود إىل بداية‬ ‫القرن هي حكاية جدّ ة الكاتب "أ ّم عطا"‪،‬‬ ‫فقد عاشت اجلدّ ة تسعني عا ًما وتوفيت‬ ‫سنة ‪ ،1987‬وحكاية والدة ابنها ّ‬ ‫الذكر بعد‬ ‫وفاة زوجها‪ ،‬حصلت وهي يف العرشين‬ ‫(‪ )8‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫(‪ )9‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.206‬‬ ‫(‪ )10‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.103‬‬ ‫(‪ )11‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.118‬‬

‫من عمرها أي سنة ‪1917‬م(‪ .)11‬وكان عمر‬ ‫والدة الكاتب يف هذا التّاريخ سنتني فقط‪.‬‬

‫ونجد حكايات كثرية تعود إىل هذه‬ ‫املرحلة ولك ّن الكاتب مل حيدد توارخيها‬ ‫السياق‬ ‫ويمكن استنتاج زمن وقوعها من ّ‬ ‫ومنها مث ً‬ ‫ال حكاية "أبو حسني" والد أ ّم‬ ‫غسانة"‪ ،‬وحكاية أبو فخري‬ ‫حلام "دير ّ‬ ‫عديل ّ‬ ‫الذي انخرط يف اجليش الرتكي وغريها‪...‬‬

‫وهنا نسأل‪ :‬ما هي داللة هذه املفارقات‬ ‫وملاذا جلأ الكاتب إليها؟‬

‫يفارق زمن السرّ د زمن احلكاية يف‬ ‫ّ‬ ‫كل رسد ّ‬ ‫خطي متتابع بينام‬ ‫الزمن‬ ‫ألن ّ‬ ‫ّ‬ ‫احلكايات متعدّ دة ومتداخلة لذلك‬ ‫فالرسد متعدّ د‪ ،‬ولك ّن هلذه املفارقة أسبابا‬ ‫نص الربغوثي‪ ،‬فعودته إىل رام‬ ‫إضاف ّية يف ّ‬ ‫اهلل هي اكتشاف للحارض الفلسطيني‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫املستوطنات‪ ،‬واحلكم‬ ‫الذايت املستجدّ‬ ‫أيضا‬ ‫عىل رام اهلل بعد أوسلو‪ ...‬ولكنّها ً‬ ‫استعادة لذكرياته ا ّلتي رسقها االحتالل‬ ‫غسانة‬ ‫منه‪ ،‬وعودة إىل زمن املضافة يف دير ّ‬ ‫األول‬ ‫وإىل مراهقته يف رام اهلل وإىل الكتاب ّ‬ ‫ا ّلذي اشرتاه من "مكتبة صندوقة"‪...‬‬ ‫لذلك تك ّبل االنقطاعات واالسرتجاعات‬ ‫الكثرية السرّ د فال يكاد يتقدّ م‪ ،‬حتّى لنشعر‬ ‫ّ‬ ‫بأن الكتاب هو رواية املايض الفلسطيني‬ ‫أكثر مما هي رسد ألحداث تقع يف حارض‬ ‫الفلسطيني برأي الكاتب‬ ‫فالزمن‬ ‫الزيارة‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫"انقىض ومل ينقض"‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 118‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫ّ‬ ‫إن االسرتجاعات الكثرية‬ ‫كام‬ ‫اخلاصة‪،‬‬ ‫تغ ّطي أحداث حياة الكاتب‬ ‫ّ‬ ‫حتّى ليمكننا لو وصلنا بعض هذه‬ ‫االسرتجاعات ببعضها اآلخر بطريقة‬ ‫متسلسلة ومتتابعة زمن ًيا حلصلنا عىل رسد‬ ‫يقرب كتاب "رأيت رام‬ ‫حلياة الكاتب بام ّ‬ ‫السرية ّ‬ ‫الذات ّية‪ .‬ولذلك يتشابك‬ ‫اهلل" من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّص‬ ‫الزمنان‬ ‫ّ‬ ‫املوضوعي‪/‬والذايت بشدّ ة يف الن ً‬ ‫كام خيالطهام الكثري من اإلشارات التّارخي ّية‬ ‫ومن النّامذج عىل ذلك‪« :‬أنا اآلن يف رام‬ ‫اهلل‪ .‬دخلتها ليالً‪ .‬كان ال ّطريق إليها طويالً‪.‬‬ ‫أول شمس أمس‬ ‫منذ ‪ 1967‬وأنا أميش‪ .‬من ّ‬ ‫(‪)12‬‬ ‫أول شمس اليوم وأنا أميش»‪.‬‬ ‫إىل ّ‬ ‫والنّامذج عىل ذلك يف الكتاب كثرية‬ ‫أيضا الفصل ال ّثاين يف‬ ‫جدً ا أذكر منها ً‬ ‫الصفحة ‪ ،43‬إذ يبدأ الفصل بمشهد قصري‬ ‫ّ‬ ‫األول‬ ‫يتضمن ستة أسطر‬ ‫الصباح ّ‬ ‫تصور ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للكاتب يف مدينة رام اهلل لينقطع املشهد‬ ‫رسي ًعا ويقدّ م الكاتب انطباعاته وذكرياته‬

‫عن املدينة ووصف ملا كانت عليه قبل ‪67‬‬

‫السياس ّية وحكايات‬ ‫باإلضافة إىل آرائه ّ‬ ‫تضمنها السرّ د‪ ،‬ويمتدّ االنقطاع‬ ‫أخرى‬ ‫ّ‬ ‫عىل مدى ( ‪ 11‬صفحة)‪ ،‬ليعود الكاتب‬ ‫لإلجابة عن سؤال طرحه عليه حمدّ ثه (أبو‬ ‫حازم) يف املشهد املنقطع‪ ،‬واألمثلة عىل‬ ‫الشحن ّ‬ ‫هذا ّ‬ ‫الزمن ّية كثرية‬ ‫الشديد ل ّلحظة ّ‬ ‫ّص كام ذكرت ساب ًقا وسنعود إليها‬ ‫يف الن ّ‬ ‫الح ًقا يف دراستنا حلركات السرّ د‪.‬‬ ‫ال نعرف بشكل واضح مدّ ة استمرار‬ ‫فالكاتب‪/‬الراوي ال حيدّ د‬ ‫د‪/‬الزيارة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السرّ‬ ‫تاريخ مغادرته رام اهلل وال يذكر كم مكث‬ ‫فيها ويستعمل تعابري زمنية "عا ّمة" لتبيان‬ ‫التّقدّ م يف حارض السرّ د مثل‪ :‬يف املوعد‬ ‫الصباح‪ ،‬يف تلك الليلة‪ ،‬هذه‬ ‫املناسب‪ ،‬يف ّ‬ ‫ليلتي األخرية يف رام اهلل‪ ...‬ولك ّن تواتر‬ ‫األحداث يوحي ّ‬ ‫الزيارة دامت أ ّيام ًا‬ ‫بأن ّ‬ ‫معدودة‪.‬‬

‫سـهام أنطـون‬

‫(‪ )12‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص‪46 :‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪119‬‬

‫إلى َغ َّز َة‬ ‫شهيدة وعنيدة‬

‫(*)‬

‫الدم‬ ‫حدائق ّ‬ ‫ـ‪1‬ـ‬

‫جعفـر ابراهيـم‬

‫َر ِح ٌم ملخا�ض ال ّنعمان‬

‫ال ّليل ي�سرت جراحنا‪� ،‬أيا غز ُة‬

‫ال�صبا‪ ،‬خرير ال ّنب�ض‬ ‫تلملم من بثينات َّ‬

‫القمم‬ ‫ّ‬ ‫والدم‪ ،‬ال ي�رشق �إال يف ِ‬

‫تولد ُمهرة الأنثى‬ ‫ومن تلقاء �شغفها ُ‬

‫�أح�صيك طلق ًة طلق ًة‬

‫لفار�س الفجر‬

‫ِ‬ ‫أح�صيك‬ ‫وه ُدب ًا ُه ُدب ًا �‬ ‫ُ‬

‫حديق ٌة ل�رشايني ال ّنهار‬

‫املر‬ ‫و�أغني ًة تذوب كال�شهد ِّ‬ ‫على �شفاه قلمي‬

‫جتوبها دماء الأ�شجار‬

‫و�أحد�س‪ :‬يا � َّأم ها�شم‬

‫وللأحرار عيو ٌن على عو�سج الأ�سجي ِة‬ ‫ِ‬ ‫بو�ضوء الورد‪،‬‬ ‫ت�ضيء َعتم ُة الأ�سحا ِر‬

‫ب�أن �صار مكتم ًال قمري‬

‫حدائق � ٍ‬ ‫لدم ُم َ�ص ّفى‬ ‫أجنحة ٍ‬

‫قد ُث ِك َل ْت �سما� ِؤك‬

‫�أيا َغ َّز ُة‬

‫ف‪،‬‬ ‫فيعرتيني َخ ْ�س ٌ‬

‫امل�رضج على �أكم ِة الروح‬ ‫�رسها‬ ‫ّ‬ ‫و�أحمل ّ‬

‫واحرتق يف َح َد ِق ال�سحاب مطري‬ ‫ـ‪2‬ـ‬ ‫و�ضاءه املُ َح ّيا‬ ‫خميل ٌة لِ ُن َط ٍف‬ ‫ُ‬

‫ندي ُة ال ُقبل‬ ‫ّ‬

‫جرح ُم َق َل ال ّزمان‬ ‫و�شوك نعمانك ُي ّ‬ ‫َح َم ْلت �سرِ ّ ِك �رصخ ًة‬ ‫وع�صفور ًة ُت�ضرْ ُِم �أغاريدها‬ ‫حتى انطف�أت على � ِ‬ ‫الدم‬ ‫أفنان ّ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 120‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الرمان‬ ‫قناديل ّ‬

‫َح َم ْلت �سرِ َّ ِك‬ ‫َح ِّرريني من ج�سدي‬

‫ـ‪3‬ـ‬ ‫ِ‬ ‫َج ْم ٌر على حبلِ‬ ‫الوريد‬ ‫قمر �أحمر‬ ‫مل�سائها ٌ‬

‫أحرقت �آه ُت ِك ُه ُدبي‬ ‫�إن �‬ ‫ْ‬

‫وللبيارات َغ َّ�صة اجلذور‬ ‫ّ‬ ‫ودمدمة املطر‬

‫و�إىل من �ألتجىء‪،‬‬

‫من نذرك لهذا الويل؟‬

‫نارك قلمي‬ ‫�إذا ما َر َّم َدت ُ‬ ‫�أين �أختبئ من هذا العري‬

‫ِ‬ ‫حماريبك‬ ‫َمن �أَ َّم ب�أطفال‬

‫مبن �أحتمي‪،‬‬

‫و�أ�شعل ال�صالة‪،‬‬

‫وعلى �صفيحك املحموم‬

‫الرماد من عمر الورد‬ ‫حتى ّ‬ ‫من �ألب�س منديلك لون ا ِحلداد‬

‫الر�سول‬ ‫ويف م�سالك هذا ّ‬ ‫الدم ّ‬

‫ِ‬ ‫الدم املجتبى‬ ‫و�أجمع على‬ ‫ذرف هذا ّ‬

‫ي�سيل ج�سدي‬ ‫يتف ّتت قلبي؟‬

‫من مقل الهديل وغيم البالد؟‬

‫وتنوء ب�أحمالك �آيات الكتب‬

‫� ُّ‬ ‫أكل اجلالجل �سواء؟‬

‫ِ‬ ‫ب�صريتك‬ ‫�أال ال َعميت‬

‫أ�رضم ِك‬ ‫َم ْن � َ‬

‫ربنا‬ ‫ّ‬

‫ها�شم‬ ‫�أيا غ ّزة‬ ‫َ‬ ‫ِمت بغداد؟!‬ ‫كما �أُ�رض ْ‬

‫ال�س ُب َل‪،‬‬ ‫َم ِّه ِد ُّ‬ ‫وتقبل ِم ّنا رماد � ِ‬ ‫أج�سادنا‬ ‫ّ‬

‫و�أنت تذوبني يف �أتون الوقت‬

‫أرواح � ٍ‬ ‫أطفال ُز ِه َق ْت‬ ‫و� َ‬ ‫وتعرج �إىل جالجل القيام ِة‬

‫يف حطام الك�ؤو�س املُ َ�ض َّم َخ ِة‬ ‫الدموع‬ ‫بعطر ّ‬

‫لتعلن من بعد‬

‫ال�شهداء‬ ‫ونبيذ ّ‬

‫ال�ص ِ‬ ‫ليب‬ ‫هذا ّ‬

‫الدم‬ ‫�ألغ ّز َة حدائق ّ‬

‫ال�سماء‬ ‫قيام َة ّ‬

‫ولفل�سطني نواطري البكاء؟!‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪121‬‬

‫ـ‪6‬ـ‬

‫ـ‪4‬ـ‬ ‫�أتركوا اخليل ل ّليل‬

‫َخ ّلوا اخليل ل ّليل‬

‫ال�سنابل‬ ‫ّ‬ ‫ولل�صباح احرتاق ّ‬ ‫اتركوا الويل ل ّليل‬

‫ْ‬ ‫القنابل‬ ‫ولغ ّزة قهقهة‬

‫احت�ضار الأيائل‬ ‫ولل�صباح‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـ‪5‬ـ‬ ‫َج ْم ٌر يف ُم َقلِ‬ ‫ِ‬ ‫الغروب‬ ‫ٍ‬ ‫فرا�شة‬ ‫الدنيا على َجنح‬ ‫َت ُه ّب ّ‬

‫وت�أرق لهذا الهدير الأمدية‬

‫ذبيح‬ ‫مل�سائها َ�س َح ٌر‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫العنادل‬ ‫ول�صباحها رحيل‬ ‫�أوقدوا الفجر للخيلِ‬ ‫�ألغ ّز ة‬

‫ِحمم الويل‬ ‫ْ‬ ‫اجلدائل؟‬ ‫واحرتاق‬

‫يف ح�رشج ِة البالبل‬

‫�أوقدوا القلب للنب�ض‬

‫ِم ْدي ٌة ملذابح الغناء‬

‫�أوقدوا ال�صحو بالويل‬

‫فال حتتمي يف ّ‬ ‫الرب‬ ‫ظل هذا ّ‬

‫لغ ّزة َ�ص ْخ َرة املعراج‬ ‫�صليب القيام ِة‬

‫ِ‬ ‫دمعك‬ ‫لهيبة البحر يف ملح‬

‫مزامري البحر‬

‫حي َة �إجال ًال‬ ‫وت�ؤدي ال ّت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سمراء‬ ‫الوم ِ‬ ‫للط ّل ِة ْ‬ ‫�ض والقام ِة ّ‬

‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫القنابل‬ ‫ودفء‬

‫ال�شواهق‬ ‫لكي تنحني ّ‬

‫ال�ص ُ‬ ‫هيل‬ ‫�ألك هذا ّ‬ ‫ُ‬ ‫الهديل‬ ‫وهذا‬

‫ال�سرّاب باملاء‬ ‫�أوقدوا‬ ‫َ‬ ‫لغ ّزة َ�صبا ال�صحراء‬ ‫ّ‬ ‫وملكة احت�ضار اخلمائل‬

‫ُ‬ ‫القتيل‬ ‫وهذا‬

‫وي�سمو النخيل للخيلِ‬

‫الدملج املك�سور‬ ‫وهذا ّ‬

‫لغ ّزة �صهيل ال ّنهر‬

‫وهذا اخللخال امل�صهو ِر ِ‬ ‫الد ِّم؟‬ ‫بح َم ِم ّ‬ ‫ال�س ْفر‬ ‫اتركوا اخليل ل ّليل ولغ ّز َة مناديل َّ‬

‫و�سيف � ّأمية لأبي جعفر‬ ‫ال�ش ْ‬ ‫مائل‬ ‫ولبغداد ِح ُرب ّ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 122‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ـ‪7‬ـ‬

‫يا بحر‬

‫َخ ّلوا اخليل ل ّليل‬

‫ر�أيته ميتطي �رسج � ٍ‬ ‫أغنية‬

‫وافتحوا نوافذ القلب‬

‫الردى‬ ‫مم�سك ًا ب�أعنة ّ‬

‫باح‬ ‫ال�ص ْ‬ ‫ب�أكفانه �سوف يولد ّ‬

‫َهلاَّ يعود؟‬

‫ويدخل يف ملكوت ليلكم‬

‫ور�أيته ُي َد ّوي‬

‫خ ّلوا اخليل ل ّليل‬

‫مل �أ�سمع �رصخة ِ‬ ‫روح ِه وال�صدى‬

‫كان‬ ‫مزنراً بحزام من الورد ْ‬

‫ياح‬ ‫الر ْ‬ ‫على ع�صف ّ‬

‫�سالح؟‬ ‫�أتراه يلج بال‬ ‫ْ‬ ‫�ضمد‬ ‫ر�أيت ال ّزيتون ُي ّ‬

‫ال�صدى ال يعود‬ ‫و� ّإن ّ‬

‫فاح‬ ‫جراح ال ّت ْ‬ ‫خ ّلوا ال ّليل ل ّليل‬

‫ـ‪9‬ـ‬

‫�رساح‬ ‫وغ ّزة ال تطلق للفجر‬ ‫ْ‬ ‫ـ‪8‬ـ‬ ‫كم عانقت‬ ‫ٍ‬ ‫ح�شبة‬ ‫على‬ ‫�رشاع‬ ‫بال‬ ‫ٍ‬ ‫و�شاح �أرزق‬ ‫بال‬ ‫ٍ‬ ‫بال مر�سى؟‬

‫ور�أيته يهوي �إىل عليائه‬

‫وغ ّزة ها�شم ِم ّنا‬ ‫َ‬ ‫البيت‬ ‫ِم ّنا َغ ّزة �أهل‬ ‫ْ‬

‫فادخلي ِ‬ ‫�ساء‬ ‫الك َ‬ ‫�أخت فاطم � ِ‬ ‫أنت‬

‫ِ‬ ‫ولدت‬ ‫رحم خديجة قد‬ ‫ومن ِ‬ ‫املخا�ض‬ ‫�سية‬ ‫ِ‬ ‫قد ّ‬

‫وال�سرّاب الذي ُّ‬ ‫البيداء‬ ‫يخط وهم‬ ‫ْ‬ ‫ال�شواطئ‬ ‫و ُن ُد ُب ّ‬

‫حلم قد يعود؟‬ ‫وبال ٍ‬ ‫قتي ًال‬

‫البحر‬ ‫التي تذوي يف ملح‬ ‫ْ‬ ‫ونذور ال ّأم ِ‬ ‫هات‬

‫نبي ًا‬ ‫ّ‬

‫اجلمر‬ ‫لعودة �أطفالهم من �ساحات‬ ‫ْ‬ ‫احلي ِة �أنت‬ ‫و�سنبلة فل�سطني ّ‬

‫�شهيد اً‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪123‬‬

‫أحياء‬ ‫والطعنة ال ّنجالء يف �ضمري ال ْ‬ ‫�أوقدوا ال ّليل للخيل‬ ‫الر�ؤى‬ ‫تدور بك ّ‬

‫وي ْ�س َم ُع حلن ت�سابيحك يف ال ّليل‬ ‫ُ‬ ‫َي ُد ُّق �صدر النهار‬

‫العرب‬ ‫اال املكارم يف حوا�رض‬ ‫ْ‬ ‫� ّأواه‪� ،‬أيا غ ّزة‬ ‫ب�شرّ يني وال ُت ْن ِذري‬ ‫ب�شري يني‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫زائل‬ ‫ب� ّأن هذا ال ّليل‬

‫العرب‬ ‫ال�ضوء على نوافذ‬ ‫وي ْق ِف ُل ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫بالوم�ض‬ ‫جاهرت‬ ‫فال ت�ستحي �إن‬ ‫ِ‬ ‫الد ْ‬ ‫ليل‬ ‫فالربق ّ‬

‫طري ٌة‬ ‫للعا�صاف ِري �أجنح ٌة ّ‬

‫ِ‬ ‫الهبوب‬ ‫توغل يف غابات‬

‫طب‬ ‫بالر ْ‬ ‫و�سحابك ُمث َق ٌل ّ‬ ‫وال جتزعي �إن فاج�أك‬

‫نار‬ ‫ٍ‬ ‫ك�سهام من ْ‬ ‫ْ‬ ‫ال�شمائل‬ ‫تبدد يف الطري‬ ‫لك ّنها ال ّ‬

‫املخا�ض ع�سرياً‬

‫ريح‬ ‫فلكل ٍ‬

‫تئد‬ ‫فاجلاهلية �أعجز من �أن َ‬ ‫ّ‬ ‫ال�ص َب ْب‬ ‫جدائل َّ‬

‫جناح يلوي ُع ُن ُقها‬ ‫ٌ‬

‫وال ت�أبهي �إن جاهرت‬

‫قالت‪:‬‬

‫الزوابع‬ ‫وكل‬ ‫ِ‬

‫ْ‬ ‫البالبل‬ ‫ال تقدر على �أعناق‬

‫ب�صوتك عالي ًا‬

‫وقالت‪:‬‬

‫عد‬ ‫الر ْ‬ ‫َد ُّ‬ ‫ويك ّ‬ ‫ٍ‬ ‫عربي ُي ْ�س َت َل ْب‬ ‫�رشف‬ ‫�أبلغ من‬ ‫ٍ‬ ‫� ّأواه‪� ،‬أيا غ ّز ُة‬

‫ٍ‬ ‫ِف‬ ‫� ّإن جناح‬ ‫فرا�شة َير ُّ‬

‫وق�سم ًا‬

‫ما ُو ِئ َد ْت‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫العوا�صف‬ ‫هبوب‬ ‫ُي�سرّ ع يف‬ ‫ذبيح‬ ‫ع�صفور‬ ‫ورق�صة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫ٍ‬ ‫�سو�سنة‬ ‫يف ح�ضن‬

‫كفيل بوقوع ال ّز ْ‬ ‫ٌ‬ ‫الزل‬ ‫جعفـر ابـراهيـم‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 124‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كفكف دموعك وانسـحب يا عنترة‬

‫(*)‬

‫مصطفـى اجلـزار‬ ‫ِ‬ ‫وان�سح ْب يا عن َرت ْة‬ ‫دموع َك‬ ‫َك ْف ِكف‬ ‫َ‬

‫�ستعم َر ْة‬ ‫ُ‬ ‫فعيون عبل َة � َ‬ ‫أ�صبح ْت ُم َ‬ ‫�سقطت من ِ‬ ‫الع ِ‬ ‫َ‬ ‫اجلوهر ْة‬ ‫قد الثم ِني‬ ‫َ‬

‫أبيات فخر َِك �صامت ًا‬ ‫تبتلع � َ‬ ‫و ْل ْ‬ ‫ِ‬ ‫البنادق عاج ٌز‬ ‫وال�سيف يف وج ِه‬ ‫ُ‬

‫فال�شعر يف ع� ِرص القنابلِ‬ ‫ثرثر ْة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وال�سيطر ْة‬ ‫وي َة وال ُقوى‬ ‫َ‬ ‫فقد ال ُه ّ‬ ‫َ‬

‫فقد‬ ‫ترج ب�سم َة ثغرِها يوم ًا‪ْ ،‬‬ ‫ال ُ‬ ‫الغا�صبني‪ ..‬لي�ص َفحوا‬ ‫�سيوف‬ ‫ق ِّب ْل‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫فاجمع َم ِ‬ ‫فاخ َر َك القدمي َة ك َّلها‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫العراق ت� ُّأ�ســف ًا‬ ‫وابعث لعبل َة يف‬ ‫ْ‬ ‫تكتبه لها‬ ‫كنت‬ ‫اكتب لها ما‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫بالعراق "تك ّلمي"‬ ‫دار عبل َة"‬ ‫"يا َ‬ ‫ياه ُه‬ ‫هل َن ْه ُر عبل َة ُت‬ ‫�ستباح ِم ُ‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫البيداء‪� ..‬صرِ َت فري�س ًة‬ ‫فار�س‬ ‫يا‬ ‫َ‬ ‫متطـــ ِّرفــ ًا‪ ..‬متخ ِّلفـ ًا‪ ..‬وخمـالِفــــ ًا‬ ‫�س‪ ..‬تخ ّلت َ‬ ‫عنك‪ ..‬هذا د� ُأبهم‬ ‫َع ْب ٌ‬

‫املعذر ْة‬ ‫وارج‬ ‫اح «ا ِخل ْز ِي» ُ‬ ‫واخ ِف ْ�ض َج َن َ‬ ‫َ‬

‫ْ‬ ‫قرب ْة‬ ‫واجعل لها ِمن ِ‬ ‫قاع �صدر َِك َم َ‬

‫القد�س َ‬ ‫الغرغر ْة‬ ‫قبل‬ ‫وابعث لها يف‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫الظالل‪ ،‬ويف الليايل املق ِم َر ْة‬ ‫حتت‬ ‫َ‬ ‫ات َ‬ ‫بابل ُمق ِف َر ْة؟‬ ‫أ�صبح ْت ج ّن ُ‬ ‫هل � َ‬ ‫كوثر ْه؟‬ ‫وكالب �أمريكا ُتد ِّن�س‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أحقر ْه!!‬ ‫عبداً ذلي ًال �أ�سوداً ما � َ‬

‫َن َ�سبوا َ‬ ‫إرهاب‪� ..‬صرِ َت ُم َ‬ ‫ع�سك َر ْه‬ ‫لك ال َ‬ ‫عمــر َك ك ُّلــــها م�ستن ِف َر ْه‬ ‫ُح ُم ٌر لَ ُ‬

‫(*) قصيدة حجبت عن مسابقة أمري الشعراء يف أبو ظبي!!! تدافع عن رشف العروبة‪.‬‬ ‫ـ رفضت جلنة التحكيم يف مسابقة (أمري الشعراء يف أبو ظبي)‪ ،‬قصيدة ملحمية للشاعر املرصي الشاب‬ ‫مصطفى اجلزار‪ ،‬السبب الذي تعللت به جلنة التحكيم لرفض القصيدة هو‪« :‬أن موضوعها ال خيدم الشعر‬ ‫الفصيح»‪!!!..‬‬ ‫ـ "املستقبل العريب" قررت نرش القصيدة الرائعة نكاية باألمريكان‪ ،‬وانتصارا لعنرتة‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪125‬‬

‫َ‬ ‫وحدك قادراً‬ ‫كنت‬ ‫يف اجلاهلي ِة‪َ ..‬‬ ‫َ‬ ‫قهر ُه‬ ‫ت�ستطيع ال َآن‬ ‫لن‬ ‫َ‬ ‫وحدك َ‬ ‫بي‬ ‫�ضاع �صهي ُل ُه‬ ‫َ‬ ‫وح�صا ُن َك َ‬ ‫الع َر ُّ‬

‫"ه ّال �س� ِ‬ ‫َ‬ ‫ألت‬ ‫اخليل يا ابن َة مالِ ٍك"‬ ‫دافع حولَ ُه‬ ‫هذا‬ ‫ُ‬ ‫احل�صان يرى املَ َ‬ ‫كان يدري ما املحاور ُة ا�شتكى»‬ ‫«لو َ‬ ‫أعداءهم‬ ‫ويح ٍ‬ ‫يا َ‬ ‫عب�س‪� ..‬أ�س َل ُموا � َ‬ ‫ف�أتى‬ ‫العدو ُم�س َّلح ًا ب�شقا ِقهم‬ ‫ُّ‬ ‫وخ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ذاقوا َو َب َ‬ ‫نوعهم‬ ‫ال‬ ‫ركوعهم ُ‬ ‫ِ‬ ‫يد ال ِ‬ ‫أوطان جتزي �أه َلها‬ ‫هذي ُ‬

‫ودارها‬ ‫�ضاعت ُع َبيل ُة‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫والنياق‪ُ ...‬‬

‫الع ِ‬ ‫رب يرقد �ساكن ًا‬ ‫فدعوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫�ضمري ُ‬ ‫الكالم عن الكال ِم‪ ..‬وري�شتي‬ ‫َع َج َز‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫دموعها‬ ‫تزال‬ ‫وعيون عبل َة ال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫أ�رس ْه‬ ‫اجلي�ش‬ ‫�أن تهز َِم‬ ‫َ‬ ‫العظيم وت� َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ممطره‬ ‫والقنابل‬ ‫موج‪..‬‬ ‫فالزحف‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬

‫وبني �رصخ ِة مجُبرَ َ ْة‬ ‫الدوي‪..‬‬ ‫بني‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أين ِ‬ ‫املقد َر ْة؟‬ ‫كيف‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أين � َ‬ ‫ال�صمود؟! و� َ‬ ‫مت� ِّأه ٍ‬ ‫بات‪..‬‬

‫والقذائف‬ ‫َ‬

‫ُم�ش َه َر ْة‬

‫وحذ َر ْه‬ ‫القطيع‬ ‫�صاح يف وج ِه‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫و لَ َ‬ ‫القنطر ْة‬ ‫وم ُّدوا‬ ‫َ‬ ‫مفتاح خيم ِتهم‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫منرب ْه‬ ‫ونفا ِقهم‪ ،‬و�أقــام فيهــم‬ ‫َ‬ ‫والهزائم ُم َ‬ ‫نك َر ْة‬ ‫فالعي�ش ُم ّ ٌر‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�رشاً‪َ ..‬ي َر ْه‬ ‫َمن‬ ‫ْ‬ ‫يقرتف يف ح ّقها ّ‬ ‫نخ�رس ْه‬ ‫عدها كي‬ ‫يبق‬ ‫�شيء َب َ‬ ‫مل َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫باملغفر ْة‬ ‫وادعوا ل ُه‪..‬‬ ‫يف قرب ِ​ِه‪ْ ..‬‬ ‫َ‬ ‫حرب ْة‬ ‫مل ُتبقِ دمع ًا �أو دم ًا يف املِ َ‬

‫البعيد‪ ..‬لِ َتعبرُ َ ْه‬ ‫َ‬ ‫ترت َّق ُب ا ِجل�سرْ َ‬

‫مصطفـى اجلـزار‬ ‫ـ مرص ـ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 126‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هــواري‬ ‫مـاجـدة ر َّيـــا‬ ‫ما إن تسمع خبط أقدامه‪ ،‬حتى تعرف‬ ‫القادم‪ ،‬إنّه هواري‪.‬‬

‫لقد مت ّيز بلبس ذلك احلذاء‪ ،‬حتى‬ ‫لتخاله كأنه قطعة من قدمه الكبرية‪ ،‬بلونه‬ ‫األسود القاتم‪ ،‬وأرشطته السميكة التي‬ ‫ترتفع حتى نصف الساق‪ ،‬فهو من نوع‬ ‫(الرينجر) األجنبي الصنع وهو حذاء‬ ‫عسكري مل حيصل عليه بسبب جتنّده‬ ‫باجليش‪ ،‬وإنام حصل عليه من جهة يتفاخر‬ ‫بالتعامل معها‪ ،‬ويظ ّن أهنا تريض غروره‪.‬‬ ‫وقد كان لثقل ذلك احلذاء‪ ،‬مضاف ًا‬ ‫يرتج‬ ‫إليه عصبية ومزاجية حادة‪ ،‬وقع‬ ‫ّ‬ ‫منه املكان‪ ،‬وحيدث وقر ًا يف اآلذان‪ ،‬التي‬ ‫هيتم يوم ًا بمراعاة أصحاهبا‪ ،‬أو يأبه ملا‬ ‫مل ّ‬ ‫تقزز حلضوره؛ بل‬ ‫يثريه يف دواخلهم من ّ‬ ‫عىل العكس من ذلك‪ ،‬إذ إنّه بإمكانك‬ ‫أن ترى ومضة سخرية ّ‬ ‫تطل من عينيه‬ ‫السوداوين‪ ،‬وبعض اخلطوط التي ترتسم‬ ‫حول فمه الغليظ عىل نحافة جسمه‪.‬‬

‫فقد كان نحيل القامة‪ ،‬طوي ً‬ ‫ال كجذع‬ ‫نخلة ذابل‪ ،‬حتى إنك لو د ّققت النظر‬ ‫فيه؛ لظننته هيك ً‬ ‫متحرك ًا لشدّ ة‬ ‫ال عظمي ًا‬ ‫ّ‬ ‫نحافته‪ ،‬خصوصا ك ّفا يديه اللتني حتمالن‬ ‫أصابع طويلة تظهر عقدها كأهنا تيش‬

‫بعقده الداخلية املسترتة‪ ،‬ويعلو تلك‬ ‫القامة رأس فيه بضع شعريات نادرة‪ ،‬ال‬ ‫يتذكّر أحد سبب ضآلتها‪ ،‬هل هو قد ولد‬ ‫هكذا؟ أم أنّه قد فقد شعره لسبب آخر‪.‬‬

‫مل تكن خبطة قدمه فقط هي التي‬ ‫مت ّيز هبا؛ بل كانت جزء ًَا من مشية يمشيها‬ ‫كطاووس متغطرس‪ ،‬مع أنّه ال يملك من‬ ‫الطاووس ال مجال ريشه وال لونه وال‬ ‫مكانته من الطيور‪.‬‬

‫قروا‬ ‫ينفر الناس من جمالسته‪ ،‬دون أن ُي ّ‬ ‫لذلك سبب ًا واضح ًا‪ .‬فهل ينفرون من‬ ‫منظره؟ أو من طريقة تعامله؟ أو ربام مما‬ ‫ُيشاع عنه هنا وهناك من أخبار ال تطمئن‬ ‫جتعل املرء خيشى االقرتاب منه؟‬ ‫يتجول يف القرية‪ ،‬معلن ًا عن وجوده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والناس مستنكرون هذا الوجود‪ ،‬فيسعى‬ ‫لفرضه عليهم‪ ،‬ظنّ ًا منه أنّه إذا رضب‬ ‫صدى‬ ‫بحذائه يف األرض‪ ،‬وأحدث‬ ‫ً‬ ‫لصوته؛ يمكن أن جيعل لوجوده معنى‪،‬‬ ‫يف الوقت الذي كان يضيع فيه الصدى‬ ‫منترش ًا يف األجواء دون أي أثر‪.‬‬ ‫عندما كانت تلك اخلبطة تتوارى‪ ،‬كان‬ ‫الناس حيصون أنفاسهم‪ ،‬ويرت ّقبون وقوع‬ ‫كارثة‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪127‬‬ ‫يف ذلك اليوم الترشيني الغامض‪ ،‬إذ‬ ‫تشوشها عىل داخل‬ ‫كانت السامء تعكس ّ‬ ‫هواري الذي جلس مكتئب ًا يتساءل يف‬ ‫نفسه‪« :‬لقد ّ‬ ‫تأخروا باالتّصال يب!»‪.‬‬

‫خصصه‬ ‫جيلس عىل مقعده الوثري الذي ّ‬ ‫لالسرتخاء‪ ،‬ولك ّن توتّره وعصبيته منعاه‬ ‫بقوة‪ ،‬وخيبطها‬ ‫من ذلك‪ ،‬فجلس ّ‬ ‫هيز ساقه ّ‬ ‫باألرض من دون أن يكون هناك أحد‬ ‫يسمع خبطتها سواه‪ ،‬أخذ املنزل الفارغ‬ ‫الصدى؛ حمدث ًا يف نفسه املزيد‬ ‫ير ّدد وقع ّ‬ ‫من الوحشة‪.‬‬ ‫وهو يف جلسته تلك‪ ،‬انبعث صوت‬ ‫فهب من مكانه كمن لسعته‬ ‫اجلهاز منادي ًا؛ ّ‬ ‫الكهرباء‪ ،‬واتجّ ه نحوه‪ ،‬بد ّقات قلب‬ ‫متسارعة؛ ليأتيه الصوت عرب اجلهاز بام‬ ‫عرف منه ما معناه‪:‬‬ ‫توجه إلينا حاالً»‪.‬‬ ‫«نريد أن نراك‪ّ ،‬‬ ‫وحدّ دوا له املكان‪.‬‬

‫متأهب حلدث ما‬ ‫كان جيلس كأنّه‬ ‫ٌّ‬ ‫وقد ارتدى ز ّيه املعروف‪ ،‬وكان جاهز ًا‬ ‫لالنطالق‪ ،‬لكن يف هذه املرة كان حياذر‬ ‫من أن حيدث أي صوت مريب‪ ،‬تل ّطى من‬ ‫حائط إىل آخر‪ ،‬ومن شجرة إىل أخرى‪،‬‬ ‫إىل أن أصبح خارج حدود منازل القرية؛‬ ‫ثم هرول مرسع ًا؛ جمدّ ًا‬ ‫تن ّفس الصعداء؛ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫للوصول‪ ،‬لكي حيصل عىل غ ّلة أو مكافأة‪.‬‬ ‫سلك طريق ًا فرعية ش ّقتها أقدام املارة‬

‫ربية‪ ،‬وهو‬ ‫وسط احلشائش والنباتات ال ّ‬ ‫هيرول بنصف انحناءة لكي ال ُيرى‪ ،‬إىل أن‬ ‫بلغ أطراف احلُرش الذي ضرُ ب فيه املوعد‪.‬‬ ‫اتّسعت حدقتا عينيه دهشة واستنكار ًا‬ ‫وهو جيد نفسه حماط ًا بمجموعة من رجال‬ ‫املقاومة‪ ،‬وابتسامات السخرية تعلو‬ ‫وجوههم‪ ،‬وقد ازداد رعب ًا عندما التقت‬ ‫عيناه بعيني "مالك"؛ ذلك الشاب الذي‬ ‫كان آخر من وشى عنه للعدو الصهيوين؛‬ ‫مهب الريح‪ ،‬حتى‬ ‫فأخذ يرجتف كورقة يف‬ ‫ّ‬ ‫ُسمع رصير اصطكاك أسنانه املنخورة‪،‬‬ ‫وهي حتدث أزيز ًا مزعج ًا ومفرح ًا يف آن!‬ ‫مل يكن لديه الوقت ليفكّر‪ ،‬كيف‬ ‫حدث ذلك؟ كيف استطاع رجال املقاومة‬ ‫اخرتاق جهازه والتّحدث إليه حتّى‬ ‫وصل إىل هنا؟ أي تقنية عالية مكّنتهم‬ ‫من هذا االخرتاق؟ وآالف األسئلة التي‬ ‫كانت ستنخر رأسه لو أنّه بقي لديه وعي‬ ‫ليستوعب ما حدث‪ ،‬لك ّن ّ‬ ‫جل ما دار‬ ‫يف رأسه هو ضجيج لتكرار كلمة «لقد‬ ‫لدوي وقوع كربيائه‬ ‫وسمع‬ ‫ّ‬ ‫وقعت!»‪ُ ،‬‬ ‫املدَّ عاة صوت كالرعد القاصف اخرتق‬ ‫آذان ّ‬ ‫كل من عرفه أو مل يعرفه‪.‬‬ ‫اقرتب منه مالك‪ ،‬طلب منه أن خيلع‬ ‫حذاءه‪ ،‬ويميش أمامه حافي ًا‪ ،‬مطأطئ ًا‪،‬‬ ‫عىل تراب تلك الدرب الوعرة‪ ،‬حتى بلغا‬ ‫سجن العمالء‪.‬‬

‫مـاجـدة ر َّيـــا‬

‫‪2009 11 12‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 128‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫فطمت السما ُء َ‬ ‫ارضها و لم تعد ترسل االنبياء‬ ‫د‪.‬مـاجـدة غضبـان املشـلب‬ ‫�سماءها‬ ‫االر�ض‬ ‫فطمت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫تزاحمت الظالل‪..‬‬

‫ومل تعد تر�سل االتقياء‪...‬‬

‫ات�سعت برك الدماء‪..‬‬

‫ُفـ ِ‬ ‫ـطمت ال�سماء‪...‬‬ ‫ُفـ ِ‬ ‫مت الأر�ض‪...‬‬ ‫ـط ْ‬

‫مئات من جبال احلجارة‬

‫اكتظ امللعب كالعادة‪،‬‬ ‫وتنا�سى الالعبون اال ظاللهم‪..‬‬ ‫ال�رشر يتطاير من حجارة‬ ‫تقذف من كل �صوب‪..‬‬ ‫ـ �أهذه برك من الدماء؟؟؟‬ ‫الظالل تن�سج من اجتماعها ليال‪..‬‬ ‫وال�شم�س يف كبد ال�سماء‬

‫وماليني من العيون املفقوءة‪..‬‬ ‫والليل يف ظهرية النهار يقيم‪..‬‬

‫اىل ال�صرب املعدم‬ ‫ه�شة ذابت يف فمي‬ ‫وحتت �أ�سناين‪...‬‬ ‫وقد جتاهلت مذاقها‬ ‫كل حليمات ل�ساين‪...‬‬

‫ارهقتها هجرية �آب‪..‬‬

‫اجلوع فح�سب‬

‫�سال النخيل بدموع‬

‫ادرك اهميتها‬

‫من تربزل نا�ضج‪..‬‬

‫كلقمة يتيمة منذ ايام‪..‬‬

‫وان�شغل النهر بت�رضعه اىل ال�ضفاف‪..‬‬ ‫اكتظ امللعب‪..‬‬

‫دخلت معهم‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪129‬‬

‫مل اهرول كما فعلوا‪..‬‬

‫على الورق‪،‬‬

‫قا�صداً �إياه ال �سواه‪..‬‬

‫ول�ست يف انتظارك‪..‬‬

‫ب�ضعة ثقوب يف ثوبي‬

‫�إمنا هناك من �رسق خطاي‬

‫كانت م�صدر ريح مزعجة‬

‫وجاء بها �إليك‪،‬‬

‫ظلت تعبث‬

‫و�أنا �أحاول ا�ستعادتها!!‬

‫بلحية ال�شيخ البي�ضاء‪..‬‬ ‫ورغم انه مل يرتنح‬ ‫�أ�سندته بنظراتي‪،‬‬ ‫وهي تداعب مع�ضلته‬ ‫على ورقة �صغرية‪...‬‬ ‫(د) (د ‪ +‬د ‪ +‬د)‬ ‫ـ �أهذا كل �شيء؟؟؟‬ ‫عيناه خاويتان‬

‫التفت إ� ّيل طفل هزيل‪..‬‬ ‫وهز ر�أ�سه باملوافقة‪،‬‬ ‫و�أ�شار �إىل قدمي الرجل‪:‬‬ ‫ـ نعم �سيدي‪..‬‬ ‫هي لي�ست له‪..‬‬ ‫�إنها خطوات �أمي‬ ‫و هناك خطوات �أخرى‬

‫رمبا تعود لهذه املر�أة؟؟؟‬

‫وال �إجابة ت�ستقيم‬

‫بدا على حميا ال�شيخ‬

‫حتت قلمه املرتع�ش‪..‬‬

‫�شبح ذهول‬

‫ـ الحاجة بك‬ ‫تنحيني عن �سقيفتك‬ ‫لكي ّ‬ ‫�أيها ال�شيخ؟؟؟؟؟‪..‬‬ ‫ل�ست مع كل داالتك املرتاكمة‬

‫مل يحت�سبه من قدموا‬ ‫يهرولون �إىل ال�سقيفة‪..‬‬ ‫ـ �أ�رسقت خطى املر�أة يا رجل؟؟؟‬ ‫ـ لقد وجدتها عارية القدمني‪..‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 130‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ونائمة ال تود ال�سري‪..‬‬

‫البد �أن حادي العي�س‬

‫و�أنا م�ستهلك الدروب ال�شائكة‪..‬‬

‫�شهد تفرق اجلمع‬

‫ب�ضعة دمعات على خديه‬ ‫فقدت �ألقها بني جتاعيد وجهه‪..‬‬ ‫ارتعد وجهه اجلليل‪..‬‬ ‫واعتلى �صو َته غبار رحلته‬ ‫وهو يغادر‪:‬‬

‫وهم يخرجون من �سقيفة تتهاوى‪..‬‬ ‫التفت نحو �سيده‪:‬‬ ‫ـ متى افرتق القوم‬ ‫ابتعد املاء عن املكان‬

‫ـ �أنا �أيها الرجال‬

‫ـ �أجل‬

‫قد �أتيتكم‬

‫ورحلت كل اخلطوات القادمة‬

‫بخطى امر�أة نائمة �أي�ضا‪...‬‬

‫بعيدا عن متاهة ال�صحراء‪.‬‬

‫د‪.‬مـاجـدة غضبـان املشـلب‬




‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪133‬‬

‫أعـالم احلركة الشعرية في البقاع‬ ‫ـ ‪ II‬ـ‬ ‫مـروان حممـد درويـش‬ ‫‪ )1‬جودت رستم حيدر‬

‫( ‪)2006-1905‬‬

‫ولد يف بعلبك‪ ،‬ودرس يف اجلامعة‬ ‫االمريكية (بريوت) ويف ليون (فرنسا)‬ ‫إخصائي يف‬ ‫وتكساس (الواليات املتحدة)‬ ‫ٌّ‬ ‫الرتبية والتعليم‪ .‬أدار «اجلامعة الوطنية»‬ ‫يف عاليه وكلية النجاح يف نابلس‪ ،‬ثم‬ ‫التحق برشكة النفط العراقية وبلغ منصب‬ ‫مستشار الصناعة للرشق االوسط‪.‬‬ ‫بعد تقاعده انرصف إىل التأليف فأصدر‬ ‫ثالث جمموعات شعرية باالنجليزية‪:‬‬ ‫«أصوات» ( ‪« ،)1980‬أصداء» ( ‪،)1988‬‬ ‫«ظالل» ( ‪ ،)1998‬و«زمن»‪ .‬ويف العربية‬ ‫صدر عنه «جودت حيدر‪ :‬مشوار العمر»‬ ‫وجمموعة «دنيا الفكر»‪.‬‬

‫حيمل وسام االستحقاق اللبناين‬ ‫املذهب‪ ،‬ووسام الكسندر الثالث بطريرك‬ ‫سورية وسائر املرشق للروم االرثوذكس‪،‬‬ ‫ووسام كرياكوس السادس بابا االقباط‪،‬‬ ‫ووسام الصليب برتبة ضابط اكرب من‬ ‫الدولة الفرنسية‪ ،‬ووسام البابا يوحنا‬ ‫الثالث والعرشين‪ ،‬ووسام الكريس‬ ‫االورشليمي‪ ،‬ووسام الكريس االسقفي‬

‫يف القدس‪ ،‬ومنحه رئيس اجلمهورية‬ ‫العامد إميل حلود وسام االستحقاق من‬ ‫رتبة ضابط‪ ،‬ورمى عليه النقاد عدد ًا من‬ ‫األلقاب منها‪ :‬شكسبري العرب وأمري‬ ‫الشعراء‬ ‫تويف عام ‪ 2006‬عن عمر يناهز املائة‬ ‫والسنتني ودفن يف مسقط رأسه يف بعلبك‪.‬‬

‫‪ )2‬حسني سعيد زغيب‬

‫(‪1933‬ـ‪)1994‬‬

‫ولد يف بلدة يونني قضاء بعلبك‪ ،‬تلقى‬ ‫تعليمه االبتدائي واملتوسط يف املدرسة‬ ‫الوطنية بعاليه‪ .‬قصد دمشق وتابع فيها‬ ‫دراسته الثانوية‪ ،‬بعدها التحق باجلامعة‬ ‫اللبنانية وحصل منها عىل إجازة يف احلقوق‪.‬‬ ‫مدرسا يف مدارس بعلبك‬ ‫عمل‬ ‫ً‬ ‫وبريوت‪ ،‬ثم مارس املحاماة حتى وفاته‬ ‫عام ‪.1994‬‬

‫انتسب إىل مجعية آل زغيب وكان له‬ ‫نشاط واسع فيها‪ ،‬وكان من شعراء ندوة‬ ‫اخلميس األسبوعية يف بعلبك‪ .‬وله جمموع‬ ‫شعري خمطوط‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 134‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ )3‬سليم كامل عبداهلل الزركيل‬ ‫(‪1903‬ـ‪)1989‬‬

‫ولد يف مدينة بعلبك‪ ،‬وتويف يف دمشق‪.‬‬

‫تلقى تعليمه االبتدائي يف املدرسة‬ ‫الرشدية يف بعلبك‪ ،‬ثم انتقل عام ‪1918‬‬ ‫مع أبويه السوريني إىل دمشق‪ ،‬حيث تابع‬ ‫دراسته الثانوية‪ ،‬وخترج يف دار املعلمني‬ ‫االبتدائية عام ‪ ،1921‬ومل يكمل دراسته‬ ‫العالية‪.‬‬

‫مدرسا بدمشق حتى‬ ‫بدأ حياته الوظيفية‬ ‫ً‬ ‫عام ‪ ،1936‬ثم نُقل إىل إدارة التعليم‪،‬وألنه‬ ‫جعل شعره وقف ًا عىل النضال ضد‬ ‫الفرنسيني فقد أوقف عن عمله مدّ ة سنتني‬ ‫ثم عاد إىل التدريس مدّ ة‪ .‬ويف عام ‪1942‬‬ ‫نُقل إىل رئاسة جملس الوزراء‪ ،‬وشغل مهام‬ ‫أمني رس املجلس ثم رئيس ًا لديوانه‪ ،‬ثم عني‬ ‫أول رئيس لإلذاعة عام ‪ ،1947‬وشغل‬ ‫وظائف عليا إدارية حتى أحيل إىل التقاعد‬ ‫عام ‪ 1963‬بناء عىل طلبه‪.‬‬ ‫كان له موقف وطني من االستعامر‬ ‫الفرنيس‪ ،‬وقد شارك يف مقاومته‪ ،‬ولوحق‬ ‫حتى اضطر إىل الفرار إىل األردن ألكثر من‬ ‫عامني‪ .‬له ديوانان مها‪« :‬دنيا عىل الشام»‬ ‫بريوت ‪ ،1968‬و«نفحات شامية»‪.‬‬ ‫له كتابان مجعت مادهتام من مقاالت‬ ‫خمتلفة‪« :‬نفثات قلم» و«رجاالت»‪ ،‬ومها‬ ‫خمطوطان‪ ،‬وحقق ديوان الشاعر حممد‬ ‫البزم (باالشرتاك)‪ ،‬وهو يف جزأين‪.‬‬

‫‪ )4‬سليم نجيب حيدر‬ ‫( ‪1911‬ـ‪)1980‬‬

‫أديب وشاعر وحقوقي‪ ،‬ولد يف‬ ‫مدينة بعلبك وتويف فيها‪ ،‬تلقى تعليمه‬

‫املبكر يف بلدة «بدنايل» قضاء بعلبك يف‬ ‫رعاية عمه إذ نفي أبوه إىل تركيا‪ ،‬وعاد إىل‬ ‫بعلبك بعودة والده من املنفى عام ‪،1918‬‬ ‫ليستأنف دراسته بعدة مدارس‪ :‬مدرسة‬ ‫املطران‪ ،‬مدرسة حممد الزين‪ ،‬ومدرسة‬ ‫اآلباء البيض‪ ،‬وكان هلذه املدرسة أثر كبري‬ ‫يف ثقافته الفرنسية واملوسيقية‪ ،‬ثم وفد إىل‬ ‫عاليه والتحق بمعهدها‪ :‬الكلية الوطنية‬ ‫حيث األديب األملعي مارون عبود‪،‬‬ ‫ثم التحق بمدرسة الليسيه الفرنسية يف‬ ‫بريوت‪ ،‬فحصل عىل شهادة البكالوريا‪،‬‬ ‫ثم التحق بجامعة السوربون باريس‬ ‫حيث تابع دراسته العالية فدرس احلقوق‪،‬‬ ‫وخترج منها بشهادة الدكتوراه يف‬ ‫واآلداب َّ‬ ‫احلقوق عام ‪.1937‬‬ ‫انخرط يف مجعيات نرصة القضايا‬ ‫العربية يف باريس فتعرف إىل أعالم الفكر‬ ‫والسياسة العرب هناك‪ ،‬وقىض يف باريس‬ ‫ست سنوات عاد بعدها إىل لبنان حيث‬ ‫ُعينّ َ قاض ًيا يف املحكمة البدائية يف بعبدا‪ ،‬ثم‬ ‫ُمستنطق ًا لبريوت حتى عام ‪ ،1941‬ثم تدرج‬ ‫«مستشارا‬ ‫يف مناصب القضاء‪ ،‬إىل أن أصبح‬ ‫ً‬ ‫يف حمكمة االستئناف» يف بريوت‪.‬‬ ‫التحق بالسلك الدبلومايس َف ُعينّ‬ ‫سفريا للبنان يف إيران‪ ،‬ثم‬ ‫عام ‪1946‬‬ ‫ً‬ ‫املغرب‪،‬أفغانستان واالحتاد السوفييتي‬ ‫حتى عام ‪ ،1951‬حيث ُعينِّ وزير ًا للرتبية‬ ‫الوطنية والصحة والدفاع بني أعوام‬ ‫‪ 1954-1952‬و ‪ ،1955‬كام شغل مقعدً ا يف‬ ‫أيضا‪ ،‬ويف عام ‪1966‬‬ ‫الربملان ثالث مرات ً‬ ‫بدأ يتفرغ ملامرسة املحاماة‪ ،‬بعد ما كان‬ ‫يامرسها بني حني وآخر‪.‬وظل يتق َّلب بني‬ ‫الوزارة والنيابة حتى وفاته عام ‪.1980‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪135‬‬ ‫كان جييد العربية والفرنسية‪ ،‬وله‬ ‫إملام باإلنجليزية والفارسية واألملانية‬ ‫والروسية‪ ،‬والربتغالية‪.‬‬

‫عضوا يف املكتب الدائم ملؤمتر‬ ‫انتخب‬ ‫ً‬ ‫األدباء العرب وكان بيته صالونًا أدب ًيا‬ ‫ألهل الفكر واألدب‪ .‬وزار عدة مدن يف‬ ‫قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا‪.‬‬

‫صدر له ثالثة دواوين هي‪« :‬آفاق»‬ ‫‪ ،1946‬و«العدالة» مطولة شعرية صدرت‬ ‫يف العام ‪«،1946‬ويا نافخ الثورة البيضاء»‬ ‫قصيدتان طويلتان يف مجال عبدالنارص قدم‬ ‫هلام الشاعران‪ :‬بولس سالمة وعمر أبو‬ ‫ريشة‪ ،‬وله أعامل شعرية خمطوطة بحوزة‬ ‫أرسته وبعض أنسبائه‪ ،‬مثل‪« :‬إرشاق»‬ ‫مقطعات شعرية نظمها يف سريته الذاتية‪،‬‬ ‫جعلها عىل غرار الرباعيات وتقع يف ‪376‬‬ ‫رباعية‪ ،‬وله‪ :‬أشواق‪ ،‬وأشجان‪ ،‬وألوان‪،‬‬ ‫ولبنان‪ ،‬وأحلان‪ ،‬وملحمة شعرية خمطوطة‬ ‫بعنوان‪« :‬اخلليقة» يف مخسة فصول حكى‬ ‫فيها قصة اخللق مستوح ًيا كتب الدين‬ ‫والتاريخ والفلسفة وعلم السالالت‪ ،‬وله‬ ‫مرسحية شعرية فلسفية بعنوان‪« :‬ألسنة‬ ‫الزمان» ‪.1956‬‬ ‫له مؤلفات يف القانون‪ ،‬واالجتامع‪،‬‬ ‫وحمارضات يف الرتبية والنقد األديب‪ ،‬وله يف‬ ‫السياسة «آراء ومواقف سياسية» ( ‪.)1969‬‬

‫حصل عىل أوسمة عدة أبرزها‪ :‬وسام‬ ‫األرز الوطني من رتبة كومندور لبنان‬ ‫‪ ،1949‬اليوبيل الذهبي لغبطة البطريرك‬ ‫الكسندريوس الثالث دمشق ‪ ،1955‬وسام‬ ‫العرش من الدرجة املمتازة املغرب ‪،1960‬‬ ‫وسام الكفاءة الفكرية من الدرجة املمتازة‬ ‫املغرب ‪ ،1962‬ووسام اجلمهورية اللبنانية‬

‫من رتبة ضابط أكرب ‪ .1980‬وكُتب فيه‪:‬‬

‫ـ سليم حيدر حياته وشعره‪ ،‬مهذان‬ ‫سليامن‪ ،‬أطروحة أعدَّ ت لنيل شهادة‬ ‫الدكتوراه يف اللغة العربية وآداهبا‪،‬‬ ‫كلية اآلداب‪،‬اجلامعة اللبنانية‪،‬بريوت‬ ‫‪1990‬م‪ُ ،‬نشرِ ت يف دار خرض‪ ،‬بريوت‬ ‫‪.1994‬‬ ‫ـ سليم حيدر‪ ،‬عيل شلق‪،‬دار املرشق‪،‬‬ ‫بريوت ‪.1994‬‬

‫ومن شعره يف مجال عبد النارص‪:‬‬ ‫لأَ َّمــ ٌة أنت منهـا لـم تنم أبـد ًا‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الدهر مل تن ِم‬ ‫فطول‬ ‫حبيب‬ ‫نم يا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬

‫‪ )5‬سليامن داود داود‬ ‫( ‪1888‬ـ‪)...‬‬

‫ولد يف راشيا الوادي‪ ،‬وتويف يف‬ ‫الواليات املتحدة األمريكية‪.‬‬

‫درس املرحلة االبتدائية يف املدرسة‬ ‫اإلنجيلية يف راشيا الوادي‪ ،‬ثم تابع دراسته‬ ‫يف معهد اإلرسالية اإليرلندية بدمشق‪.‬‬

‫يف عام ‪ 1908‬هاجر إىل الواليات‬ ‫املتحدة األمريكية فحصل عىل بكالوريوس‬ ‫يف العلوم من جامعة منيسوتا‪ ،‬ثم إلتحق‬ ‫بكلية الطب بجامعة مانيسوتا‪ ،‬وخترج فيها‬ ‫عام ‪.1916‬وبعد استكامل دراسته تطوع يف‬ ‫اجليش األمريكي القسم الطبي وتنقل بني‬ ‫عدة وظائف عسكرية ومدنية وحرة‪ ،‬حتى‬ ‫تقاعد عن العمل (هناك) عام ‪. 1967‬‬ ‫كان عضو ًا يف مجعية «إغاثة الرشق‬ ‫األوسط» يف هيوستن‪ ،‬ومجعية «أصدقاء‬ ‫الرشق األدنى»‪ ،‬ومجعية «األربعاء إلغاثة‬ ‫املعوزين يف البلدان العربية»‪ ،‬وأنشأ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 136‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫مؤسسة سليامن وفكتوريا لألعامل اخلريية‪،‬‬ ‫كام أنشأ جريدة «األمة» يف إبتداء احلرب‬ ‫العاملية األوىل‪ ،‬واستمرت إىل عام ‪.1916‬‬

‫له ديوانان‪« :‬أغاين املزرعة» و«نواح‬ ‫املزرعة»‪.‬‬

‫‪ )6‬سميح حسني محادة‬ ‫( ‪1933‬ـ‪)2007‬‬

‫ولد يف مدينة اهلرمل‪ ،‬وتويف فيها‪.‬‬

‫تلقى دروسه قبل اجلامعية يف مدارس‬ ‫بريوت‪ ،‬ثم التحق باجلامعة اللبنانية‬ ‫ودرس يف كلية اآلداب حتى خترج منها‪ ،‬ثم‬ ‫نال املاجستري يف عام ‪ ،1954‬والدكتوراه يف‬ ‫األدب العريب من جامعة اإلسكندرية‪.‬‬

‫رئيسا ملصلحة‬ ‫بدأ حياته العملية‬ ‫ً‬ ‫الصحافة يف جملس النواب اللبناين من عام‬ ‫رئيسا ملصلحة‬ ‫‪ 1958‬إىل عام ‪ ،1971‬ثم‬ ‫ً‬ ‫النقل املشرتك التابعة لوزارة األشغال‬ ‫اللبنانية من العام ‪ 1971‬وحتى تقاعده‬ ‫عام ‪.1994‬‬

‫رئيسا فخر ًيا ملنتدى بريوت‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫وعضوا يف احتاد الكتاب العرب‬ ‫الثقايف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واحتاد الكتاب اللبنانيني‪ .‬وشارك يف‬ ‫العديد من املهرجانات الثقافية واألمسيات‬ ‫الشعرية يف لبنان وسورية واألردن ومرص‪.‬‬

‫له ديوان شعر مطبوع بعنوان‪« :‬بقاعي‬ ‫من اجلنوب» ‪ ،2002‬وديوان خمطوط‬ ‫بعنوان‪« :‬جنويب من البقاع»‪.‬‬

‫‪ )7‬سهيل رشيد سكرية‬

‫( ‪1940‬ـ‪)2005‬‬

‫ولد يف قرية الفاكهة قضاء بعلبك‪،‬‬ ‫وتويف فيها‪.‬‬

‫تلقى تعليمه االبتدائي يف مدرسة قرية‬ ‫الفاكهة‪ ،‬ثم قصد الكلية األرثوذكسية يف‬ ‫محص سورية فتلقى تعليمه اإلعدادي‬ ‫والثانوي فيها‪ ،‬ثم انتسب إىل جامعة‬ ‫بريوت العربية وخترج من كلية احلقوق‪.‬‬ ‫اشتغل بالتدريس‪ ،‬وعمل موظ ًفا يف‬ ‫لبنان‪ ،‬ثم مارس املحاماة‪.‬‬

‫عضوا يف حزب البعث العريب‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫االشرتاكي يف دمشق ولبنان‪.‬‬

‫له ديوان شعر مطبوع بعنوان‪« :‬هي‬ ‫وأنا واحلب» ‪.1994‬‬

‫‪ )8‬شاهني إبراهيم املعلوف‬ ‫( ‪1891‬ـ‪)1953‬‬

‫ولد يف مدينة زحلة‪ ،‬وتويف فيها‪.‬‬

‫تلقى معارفه وعلومه يف الكلية‬ ‫الرشقية بزحلة‪ ،‬ثم هاجر إىل الربازيل وهو‬ ‫يف الثالثني من العمر حيث عمل يف جمال‬ ‫الصناعة‪ ،‬ويف عام ‪ 1929‬عاد إىل لبنان‬ ‫حيث استقر فيه بقية حياته متفر ًغا ألمالكه‬ ‫الزراعية‪.‬‬ ‫عضوا منتخ ًبا لبلدية زحلة‪ ،‬ثم‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫رئيسا هلا عدة أعوام‪.‬وكان منزله مرت ًعا‬ ‫ً‬ ‫للشعراء واألدباء أمثال‪ :‬سعيد عقل‪،‬‬ ‫ومجيل معلوف وصالح لبكي‪ ،‬وغريهم‬ ‫من شعراء ذلك الزمان‪.‬‬

‫أورد له كتاب‪« :‬التجديد يف شعر‬ ‫املهجر» عد ًدا من املقطوعات الشعرية‪،‬‬ ‫ونرشت له صحف عرصه أمثال جملة‬ ‫الرشق عد ًدا من القصائد‪.‬‬

‫‪ )9‬شبل ناصف َد ّموس‬

‫(كان حي ًا عام ‪)1916‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪137‬‬ ‫من شعراء املهجر يف أمريكا‪ .‬نرشت له‬ ‫قصائد يف جملة‪ :‬رسكيس‪ ،‬ويف جملة النفائس‬ ‫العرصية‪ .‬واملتاح من شعره قليل ولكنه ذو‬ ‫ٍ‬ ‫جودة عالية‪.‬‬

‫‪ )10‬شفيق عيسى اسكندر املعلوف‬ ‫( ‪1905‬ـ‪)1977‬‬

‫شاعر وصحفي‪ ،‬ولد يف زحلة وتويف‬ ‫يف سان باولو (الربازيل)‪.‬‬

‫تلقى دروسه االبتدائية والثانوية يف‬ ‫الكلية الرشقية يف زحلة‪ .‬ثم دأب عىل‬ ‫املطالعة وتثقيف نفسه باآلداب والشعر‬ ‫والتاريخ واحلضارة‪ ،‬وقد وفرت له أرسته‬ ‫اجلو املالئم لرعاية مواهبه واستعداده‪.‬‬ ‫فنبغ يف األدب كبقية أفراد أرسته‪.‬‬

‫بدأ حياته الوظيفية كات ًبا يف حمكمة‪،‬ثم‬ ‫انتقل إىل دمشق وتوىل حترير جريدة «ألف‬ ‫سنوات‪،‬وحرر زاوية‬ ‫باء» فيها مدة ثالث‬ ‫َّ‬ ‫"مباءة نحل" وكان يو ّقعها أحيان ًا بإمضاء‬ ‫غسان"‪،‬وأحيان ًا بإمضاء زحلة‪،‬‬ ‫"فتى‬ ‫ّ‬ ‫أندليس ومتعب‪.‬‬

‫هاجر إىل الربازيل عام ‪ 1926‬ومارس‬ ‫التجارة وصناعة احلرير إىل جانب شقيقه‬ ‫فوزي وأخواله‪.‬وتبلورت عىل يديه النهضة‬ ‫أسس مع جمموعة‬ ‫األدبية يف املهجر حيث َّ‬ ‫من الشعراء "العصبة األندلسية" يف املهجر‬ ‫رئيسا هلا‪ ،‬ثم‬ ‫اجلنويب وانتخب عام ‪ً 1933‬‬ ‫رئيس ًا لتحرير جملتها «العصبة»‪ ،‬ورفدها‬ ‫بعلمه وأدبه وماله طيلة مخسة عرش عا ًما‪.‬‬

‫له من الدواوين‪« :‬أحالم» نظمه يف‬ ‫دمشق‪ ،‬وكان يف الثامنة عرشة من عمره‪،‬‬ ‫نرش مقطوعات منه يف جريدة ألف باء‬ ‫وغريها من الصحف وصدر يف عام ‪1926‬‬

‫قبل أن هياجر إىل الربازيل‪ ،‬و«لكل زهرة‬ ‫عبري»‪ :‬بريوت ‪ ،1951‬و«نداء املجاذيف»‬ ‫بريوت ‪ ،1952‬و«عيناك مهرجان» بريوت‬ ‫‪ ،1960‬و«سنابل دراغوث» بريوت ‪،1961‬‬ ‫و«ستائر اهلودج»‪( :‬شعر ونثر) غوسطا‬ ‫‪ ،1975‬و«شموع يف الضباب» (خمطوط)‬ ‫و«عىل سندان اخلليل»‪ :‬شعر معرب‬ ‫(خمطوط)‪ ،‬كام نرشت له قصائد يف جمالت‪:‬‬ ‫«العصبة األندلسية»‪ ،‬و«املكشوف»‪،‬‬ ‫و«الربق»‪ ،‬و«الرسالة»‪ ،‬و«العرفان»‪ ،‬وله‬ ‫ملحمة «عبقر» ملحمة شعرية (طبعة أوىل)‬ ‫‪ 1936‬يف ستة أناشيد (طبعة ثانية) ‪ 1945‬يف‬ ‫اثني عرش نشيدً ا‪( .‬قدم والده للطبعة األوىل‪،‬‬ ‫وقدم هو للطبعة الثانية بدراسة مطولة) وقد‬ ‫صدرت للملحمة طبعات أخرى كثرية‪،‬‬ ‫وترمجت إىل عدة لغات أجنبية‪.‬‬ ‫صدر له‪« :‬رشارة وقصص أخرى»‬ ‫(جمموعة قصصية) بريوت ‪ ،1964‬و«ليىل‬ ‫األخيلية»‪ :‬رواية (خمطوطة)‪ ،‬و«حبات‬ ‫زمرد»‪( :‬آراء يف الشعر واألدب) دمشق‬ ‫‪ ،1966‬و«حكايات ألف ليلة وليلة»‪:‬‬ ‫(دراسات وطرائف رشقية)‪.‬‬

‫حصل عىل جائزة الشعر مرتني يف‬ ‫املهجر‪ ،‬وأقيم له حفالن تكريميان يف‬ ‫دمشق ويف بريوت‪ ،‬كام توىل هو ترمجة أشعار‬ ‫برازيلية إىل العربية‪ ،‬ترجم جورج سلمون‬ ‫عضو املجمع الربازييل العلمي بعض‬ ‫قصائده‪ .‬كام ترمجت بعض قصائده إىل‬ ‫اللغات‪ :‬اإلسبانية والفرنسية والربتغالية‬ ‫واإليطالية والربوسية واألملانية‪ .‬وكُتِ َبت‬ ‫فيه العديد من الدراسات واألبحاث‪.‬‬ ‫ومن مجيل شعره من قصيدة حني رفع‬ ‫الستار عن متثال أخيه فوزي املعلوف‪:‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 138‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫ِ‬ ‫يـدان‬ ‫فوزي‪ ،‬ومايل يف اخلطوب‬

‫ِ‬ ‫يلتقيـان!!!‬ ‫أوهكـذا األخــوان‬ ‫َ‬

‫أقـع‬ ‫قدَّ ْم ُ‬ ‫ـت نفسـي للعناق فلم ْ‬ ‫حـجـر مـن الصـــوانِ‬ ‫ٍ‬ ‫إالّ عىل‬ ‫ّ‬

‫‪ )11‬صادق حسني زغيب‬

‫(‪1852‬ـ‪)1911‬‬

‫ولد يف قرية يونني قضاء بعلبك‪ ،‬وتويف‬ ‫فيها‪ .‬تلقى تعليمه األويل يف لبنان‪ ،‬وجهز‬ ‫نفسه للسفر إىل العراق لطلب العلم‪ ،‬غري‬ ‫أن مرض عينيه أعاقه عن ذلك‪.‬‬ ‫له ديوان شعري‪ ،‬ولكنه فقد‪ ،‬ومل‬ ‫يتوفر له إال بعض األبيات من بضع‬ ‫قصائد نُرشت يف أعيان الشيعة وروائع‬ ‫الشعر العاميل‪.‬‬ ‫نظم ألفية يف علم النحو‪.‬وما توافر من‬ ‫شعره وسلم من الضياع قصائد معدودة‪،‬‬ ‫منها‪ :‬يف مدح أمري املؤمنني عيل بن أيب‬ ‫طالب‪ ،‬وأخرى عىل مذاق أهل التصوف‪،‬‬ ‫وكلتامها تدالن عىل شاعر متمكن من‬ ‫أصول القصيدة وبنيتها الرتاثية‪.‬‬

‫‪ )12‬عباس حممد عباس زغيب‬ ‫(‪1857‬ـ‪)1886‬‬

‫ولد يف قرية يونني قضاء بعلبك‪،‬‬ ‫وتويف فيها‪ ،‬وملا جياوز ذروة شبابه‪.‬‬

‫تلقى تعليمه األويل يف بلدته عن‬ ‫والده؛ فقرأ عليه القرآن الكريم‪ ،‬وتعلم‬ ‫اخلط‪ ،‬ثم التحق بمدرسة قريبه حسني‬ ‫زغيب؛ فدرس النحو والرصف والفقه‪،‬‬ ‫ورحل إىل مدينة النجف عام ‪ 1877‬إلكامل‬ ‫دراسته‪ ،‬غري أنه مل يتمكن من املواصلة‬ ‫بسبب مرضه وضعفه‪ ،‬فعاد إىل قريته‪.‬‬

‫وانحرص عمله يف ممارسة األعامل الدينية‬ ‫والقيام بمهامه الرشعية‪.‬‬

‫له قصائد يف كتاب «أدب الطف»‪،‬‬ ‫وكتاب «أعيان الشيعة»‪ ،‬وله ديوان شعر‬ ‫خمطوط‪.‬‬

‫‪ )13‬عبد اللطيف حممد اخلشن‬ ‫(‪)1986-1904‬‬

‫ولد يف قرية سحمر البقاع الغريب‪،‬‬ ‫بادره الدّ هر منذ صغره بوفاة والده‬ ‫فسارت به أ ّمه نحو دمشق حيث أودعته‬ ‫لدى املجتهد األكرب "السيد حمسن األمني"‬ ‫الذي ر ّباه ورعاه يف مدرسته اخلاصة يف‬ ‫دمشق "املحسن ّية "‪ ،‬ومنها انتقل إىل مدرسة‬ ‫"عنرب" و َد َر َس فيها عامني‪.‬‬ ‫يف الرابعة عرشة من العمر استدعته‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫للخدمة‪ ،‬وليعود بعد سنة‬ ‫خطأ‬ ‫ترك ّيا‬ ‫مشي ًا عىل األقدام من بعلبك إىل دمشق‪،‬‬ ‫ليستقر‬ ‫هاجر إىل األرجنتني عام ‪،1924‬‬ ‫ّ‬ ‫يف عاصمتها بوينس آيريس الحق ًا بشقيقه‪،‬‬ ‫وانرصف إىل مزاولة الصحافة العربية‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫كمحرر يف صحيفة " الفطرة " لدى‬ ‫فعمل‬ ‫الر ّحال "‪،‬‬ ‫األديب املرصي "سيف الدين َ‬ ‫ولكن سهام املرض بادرت األخري فأسلم‬ ‫راية رئاسة حترير "الفطرة" عام ‪ 1928‬لعبد‬ ‫اللطيف اخلشن لتبدأ معها مسريته يف حقل‬ ‫الصحافة‪.‬‬ ‫بعد مخس سنوات من حترير صحيفة‬ ‫"الفطرة " انطلق مع زوجته الثانية لتأسيس‬ ‫جريدته اخلاصة "العلم العريب" باللغتني‬ ‫العربية واإلسبانية عام ‪ 1934‬ووضع فيها‬ ‫كل جهده وفنه فعاشت وراجت وأحدثت‬ ‫دو ّي ًا ترامى من املهاجر إىل األوطان‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪139‬‬ ‫وبني عامي ‪ 1951-1949‬أسس مع‬

‫رفاقه األدباء يف األرجنتني "الرابطة‬ ‫األدبية"‪ ،‬وواضبوا عىل االجتامع يف منزل‬ ‫الشاعر جورج صيدح مساء األربعاء من‬ ‫كل أسبوع‪ ،‬ولكن هذه الرابطة مل تدم أكثر‬ ‫من عامني كاملني وانحلت بأسلب غري‬ ‫طبيعي عام ‪،1951‬كان نذير ًا بأن أجل‬ ‫األدب العريب يف األرجنتني قريب‪.‬‬ ‫وجا َء عام ‪ 1958‬ليتل ّقى عبد اللطيف‬ ‫اخلشن دعو ًة من ِق َب ْل احلكومات العربية‬ ‫بعد أن وصل صدى "العلم العريب" إىل‬ ‫كل أنحاء العامل العريب‪ .‬فجاء أوالً إىل مرص‬ ‫ونزل ضيف ًا عىل حكومتها ملدة ‪ 72‬يوم ًا‪،‬ثم‬ ‫انتقل إىل اململكة العربية السعودية لينزل‬ ‫ضيف ًا عىل حكومتها أيض ًا ملدة ‪ 42‬يوم ًا‪،‬ثم‬ ‫استضافته احلكومة العراقية مدة ‪ 40‬يوم ًا‬ ‫وذلك يف عهد امللك فيصل‪ ،‬ثم استضافته‬ ‫احلكومة السورية مدة ‪ 42‬يوم ًا نال خالهلا‬ ‫أعىل وسام يف الدولة وهو وسام " ُأم ّية ذو‬ ‫الرصيعة"‪.‬وكان يف استقباله يف رحالته‬ ‫ّ‬ ‫هذه األدباء والسياسيون‪.‬‬ ‫ثم حرض إىل لبنان ونزل ضيف ًا عىل‬ ‫حكومته ملدة ‪ 42‬يوم ًا‪ ،‬ق ّلده خالهلا رئيس‬ ‫الوزراء اللبناين سامي الصلح وسام‬ ‫االستحقاق الوطني اللبناين‪ .‬وحني وصل‬ ‫إىل لبنان ذهب إىل قريته سحمر حيث‬ ‫استقبل من أهلها استقبال األبطال امليامني‪.‬‬

‫ويف عودته هذه إىل البالد العربية بعد‬ ‫هجرها ‪ 34‬سنة شاهد للمرة األوىل ولده‬ ‫كامل الذي كان قد تركه صغري ًا مع أمه يف‬ ‫سوريا يوم سفره‪.‬‬

‫وبعد رحلته هذه إىل البالد العربية‬ ‫عاد عبد اللطيف اخلشن إىل األرجنتني‪،‬‬

‫ليواصل عمله الصحايف وليكتب صدى‬ ‫رحالته يف كتاب أطلق عليه اسم "أربعني‬ ‫عام ًا يف دنيا الغربة وأربعة عرش شهر ًا يف‬ ‫دنيا العرب" وقد تويف ويف نفسه ٌ‬ ‫أمل‬ ‫بإصداره‪.‬‬

‫مؤلفاته‪ :‬أصفار عىل اليسار ديوان‬ ‫شعر طبع يف بوينس آيريس األرجنتني‬ ‫‪ ،1968‬كتاب اإلسالم دين الوحدة‬ ‫باللغة اإلسبانية قدّ مت مجيع نسخه هدايا‬ ‫ألقطاب العلم والسياسة من األجانب‪،‬‬ ‫كتاب عروة االحتاد يف أهل اجلهاد باللغتني‬ ‫العربية واإلسبانية نفدت مجيع نسخه‪.‬‬ ‫وهذا الكتاب هو جمموعة مقاالت ألمري‬ ‫البيان شكيب إرسالن كان يرسلها إىل عبد‬ ‫اللطيف اخلشن‪ ،‬كتاب باللغتني العربية‬ ‫واإلسبانية عنوانه «رصيد أربعني سنة يف‬ ‫املهجر وأربعة عرش شهر ًا يف الوطن» (غري‬ ‫ٍ‬ ‫مخس ومخسني جم ّلد ًا‬ ‫مطبوع)‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫من جريدة "العلم العريب"‪.‬هذه اجلريدة‬ ‫حتولت اآلن عىل يد حفيده إىل جملة‬ ‫التي ّ‬ ‫أسبوعية‪،‬وهي حماربة من أكثر األنظمة‬ ‫العربية‪.‬‬ ‫تويف يف بوينس آيريس األرجنتني‬

‫‪ )14‬عبداهلل حممد املوسوي‬ ‫(‪1938‬ـ‪)2001‬‬

‫ولد يف بلدة النبي شيت قضاء بعلبك‪،‬‬ ‫وفيها تويف‪.‬‬

‫تلقى تعليمه االبتدائي يف مدرسة‬ ‫بلدته حيث حصل عىل الشهادة االبتدائية‪،‬‬ ‫بعدها التحق باملدرسة العاملية بريوت‬ ‫ونال الشهادة املتوسطة‪ ،‬ثم حصل عىل‬ ‫شهادة البكالوريا‪ ،‬وتابع دراسته اجلامعية‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 140‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫يف اللغة العربية وآداهبا حتى خترجه عام‬ ‫‪.1963‬‬

‫توىل إدارة مدرسة اإلمام الصادق‪،‬‬ ‫وعمل مرش ًفا ومراق ًبا للربامج الفنية‬ ‫واللغوية باإلذاعة اللبنانية‪ ،‬وقدم برنامج‬ ‫«فقه اللغة» عد ًدا من السنوات إىل جانب‬ ‫تقديمه لعدد من الربامج منها‪« :‬دقة‬ ‫املهباج»‪ .‬عمل بتعليم اللغة الفارسية‬ ‫واللغة الرسيانية‪ ،‬وتوىل إدارة مدرسة‬ ‫النبي شيت الرسمية‪.‬‬ ‫له قصائد نرشت يف جملة «الكلمة‬ ‫الطيبة» تصدر عن املجلس البلدي يف النبي‬ ‫شيت‪ ،‬وله ديوان خمطوط ( ‪ 120‬قصيدة)‪،‬‬ ‫ومرسحية شعرية‪« :‬عروس املعبد» أعدت‬ ‫للعرض يف قلعة بعلبك‪.‬‬

‫حصل عىل عدد من اجلوائز‪ ،‬منها جائزة‬ ‫اإلذاعة اللبنانية‪ ،‬وجائزة مطران الطائفة‬ ‫الرسيانية يف سورية‪ ،‬وجائزة مهرجان‬ ‫جربان خليل جربان الشعري عام ‪،1964‬‬ ‫وجائزة األزهر يف مسابقة الفقه اللغوي‬ ‫والديني عام ‪ ،1966‬وجائزة مسابقة احلرم‬ ‫اآلمن العاملية التي أقامتها وزارة الثقافة‬ ‫واإلرشاد يف إيران عام ‪.1987‬‬

‫‪(15‬عجاج اهليامين‬ ‫(‪)1919-1892‬‬

‫ولد يف بلدة القرعون قضاء البقاع‬ ‫الغريب‪ ،‬ثم إنتقل مع أهله إىل دمشق حيث‬ ‫ثم انتقل إىل‬ ‫تل ّقى تعاليمه األوىل فيها‪ّ ،‬‬ ‫ال ُقدس والتَحق باملدرسة الصالحية فيها‬ ‫وأجاد الرتكية والفرنسية‪.‬‬ ‫َع ِم َل ضابط ًا باجليش العثامين ا ُملرابط‬ ‫ثم عاد إىل دمشق حيث‬ ‫يف مدينة بعلبك‪َّ ،‬‬

‫سكن فيها وأصدر أعداد ًا من جريدة‬ ‫مدرس ًا للتاريخ‬ ‫ّ‬ ‫سماّ ها "االنقالب"‪.‬و ُعينِّ‬ ‫واجلغرافية يف إحدى مدارسها‪ .‬تويف يافع ًا‬ ‫عام ‪.1919‬‬ ‫شاعر ُم ّ‬ ‫قل‪ ،‬مل متهله احلياة لرعاية‬ ‫ٌ‬ ‫وإبراز قدراته وموهبته الشعرية‪ ،‬له ديوان‬ ‫ٍ‬ ‫شعر خمطوط‪ .‬و ُنشرِ ت بعض قصائده يف‬ ‫تفرقة من جريدة "الفيحاء" اليومية‬ ‫أعداد ُم ِّ‬ ‫الدمشق ّية لصاحبها قاسم اهليامين عام‬ ‫‪.1925‬‬

‫عساف ال َك ّفـوري‬ ‫‪ّ )16‬‬ ‫( ‪1882‬ـ‪)1915‬‬

‫ومرب وشاعر‪ .‬ولد‬ ‫أديب وصحفي‬ ‫ٍّ‬ ‫يف قرية كفر زبد قضاء زحلة‪ ،‬خترج يف‬ ‫الكلية الرشقية يف مدينة زحلة‪ ،‬ثم التحق‬ ‫بكلية الصيدلة باجلامعة األمريكية يف‬ ‫بريوت ‪.‬‬ ‫عمل بالتدريس يف الكلية الرشقية ملدّ ة‬ ‫أربعة عرش عام ًا‪ ،‬ثم يف الكلية العلامنية‬ ‫الفرنسية‪ ،‬ويف اجلامعة األمريكية يف‬ ‫بريوت‪ ،‬ثم إنرصف إىل الكتابة يف الصحافة‬ ‫حمر ًرا يف جريدة «املهذب»‬ ‫اللبنانية‪ ،‬فكان ِّ‬ ‫الزحلية‪ ،‬وجملة «الرابطة» البريوتية‪.‬‬ ‫تويف يف ريعان شبابه عام ‪.1915‬‬

‫من مؤلفاته‪ :‬احلالة احلارضة‪،‬‬ ‫األسريات‪ ،‬شارل وإميل‪ ،‬وك ّلها روايات‬ ‫مرسح ّية مرتمجة‪ .‬وله ديوانان‪ :‬جني النحل‬ ‫ورطب النخل‪ .‬وله أيض ًا يف التاريخ‪ :‬هتاين‬ ‫اإليكونو موسى يوسف الكفوري‪ ،‬النفحة‬ ‫العطرية يف اليوبيلني الفضية والذهبية‪،‬‬ ‫الدولة العثامنية‪ ،‬األرسة الكفورية والرهبنة‬ ‫احلناوية الشويرية‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪141‬‬ ‫وله كتاب مدريس يف مخسة أجزاء هو‪:‬‬ ‫وأد العلم يف العمل‪.‬‬

‫معظم مؤلفاته والسيام الدواوين‬ ‫الشعرية مفقودة‪.‬‬

‫‪ )17‬عيل النقي حسني حممد زغيب‬

‫(‪1865‬ـ‪)1937‬‬

‫ولد يف بلدة يونني قضاء بعلبك‪ ،‬وتويف‬ ‫فيها‪ .‬تلقى معارفه األوىل يف مدرسة والده‬ ‫الشيخ حسني زغيب الدينية‪ ،‬ويف قرية‬ ‫حنويه اجلنوبية‪ ،‬ثم انتقل إىل مدرسة الفرج‬ ‫اخلطيب يف دمشق‪ ،‬ثم عاد إىل بعلبك‪.‬‬

‫مدرسا يف قرية يونني‪ ،‬ثم عني‬ ‫عمل‬ ‫ً‬ ‫مفتي ًا جعفر ًيا للطائفة الشيعة يف مدينة‬ ‫بعلبك عام ‪ 1926‬إبان االنتداب الفرنيس‬ ‫التعصب‪ .‬وكان‬ ‫و ُع ِرف بالنزاهة وعدم‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أول مفت للطائفة آنذاك‪ ،‬ويف عام ‪1927‬‬ ‫عني قاض ًيا للطائفة نفسها‪.‬‬ ‫عمل عىل إنشاء جملس شيعي أعىل‬ ‫عىل مستوى لبنان‪ .‬له ديوان غري منشور‬ ‫متنوعة‬ ‫يضم جمموعة من القصائد الشعرية ّ‬ ‫األغراض واملواضيع‪ .‬قام بتحقيقه حممد‬ ‫عيل السعيد يف رسالة أعدَّ ها ونال هبا‬ ‫شهادة دبلوم الدراسات ال ُعليا يف اللغة‬ ‫العربية وآداهبا يف اجلامعة اللبنانية الفرع‬ ‫الرابع زحلة ‪.1992‬‬

‫‪ )18‬عيل حممد زين‬ ‫(‪1875‬ـ‪)1963‬‬

‫ولد يف قرية قليا (قالّيا) البقاع الغريب‪،‬‬ ‫تلقى تعليمه يف مدرسة القرية البدائية‪،‬‬ ‫فاقترصت علومه عىل القراءة والكتابة‬ ‫ومبادئ احلساب‪.‬‬

‫وما أن بلغ س ّن الشباب حتى فقد‬ ‫والده‪ ،‬فشعر باملسؤولية ا ُمللقاة عىل عاتقه‬ ‫اجتاه نفسه واجتاه أ ّمه وأخوته سيام وأنه‬ ‫البِكر فيهم‪ ،‬ففكَّر أول ما فكَّر يف كسب‬ ‫عيشه وعيش العائلة التي أصبح مسؤوالً‬ ‫تفرض عىل املواطنني‬ ‫عنها‪ .‬وكانت تركيا‬ ‫ُ‬ ‫مجلة رضائب‪ ،‬منها رضيبة ال ُعرش التي‬ ‫كانت تُفرض عىل ا ُملنتجات الزراعية‬ ‫بطريقة ا ُملزايدة بالظرف املختوم‪ .‬فأخذ‬ ‫الشيخ عيل يلتزم األعشار‪ ،‬فح َّقق لنفسه‬ ‫أرباح ًا ج ّيدة استثمرها يف رشاء العقارات‬ ‫يف بلدته قليا ويف فتح داره لألصدقاء‬ ‫وأصحاب احلاجات وال ُق َّصاد من خمتلف‬ ‫املناطق‪ ،‬وقد ظ َّلت داره مفتوحة دائ ًام‬ ‫للرائح والغادي وبخاص ًة أثناء املجاعة‬ ‫عمت لبنان يف زمن اإلستعامر‬ ‫التي َّ‬ ‫الرتكي‪ .‬وكذلك مت َّلك مطحنة ٍ‬ ‫قمح مائ ّية‬ ‫عىل الضفة الرشقية لنهر الليطاين بني‬ ‫قريتي الدالّفة و ُبر ُغز‪ .‬ومل يمتهن يف حياته‬ ‫عم ً‬ ‫ال سوى الزراعة‪.‬‬ ‫وكانت قد تيسرَّ ت له ثقافة دين ّية ال‬ ‫بأس هبا‪ ،‬فعمل عىل إغنائها عن طريق‬ ‫ا ُملطالعة و ُمراجعة كبار علامء الدين‪.‬‬ ‫بحيث أصبح املرجع الديني لغالبية القرى‬ ‫الشيعية يف البقاع الغريب واجلنوب‪ ،‬عضو ًا‬ ‫يف "رابطة أدباء جبل عامل"‪.‬‬

‫صداقات محيمة بالكثري‬ ‫وكانت تربطه‬ ‫ٌ‬ ‫من زعامات وشعراء ووجهاء وعلامء ذلك‬ ‫الزمان والسيام الشاعر رشيد بك نخلة‬ ‫احتجاج عىل تسمية‬ ‫وكان للشيخ عيل‬ ‫ٌ‬ ‫شحرور الوادي خليف ًة له يف إمارة الزجل‪،‬‬ ‫والشاعر حليم د ّموس وموسى بك نمور‬ ‫والياس بك طعمة سكاف والوجيه‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 142‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫سليامن بك طرابليس والكثريين غريهم‬ ‫وبخاصة الشاعر توفيق عبد الكريم‬ ‫الص ّباح الذي كانت تربطه به عالقة و ٍّد‬ ‫ٍ‬ ‫وشعر عميقة دامت زمن ًا طوي ً‬ ‫ال إىل أن واىف‬ ‫األجل الشيخ عيل‪ ،‬بحيث كانا يتزاوران‬ ‫ويتبادالن الرسائل الشعرية‪ ،‬وقد جمُ ِعت‬ ‫معظم مراسالهتام الشعرية التي امتدَّ ت‬ ‫من العام ‪ 1930‬إىل العام ‪ 1959‬يف ديوان‬ ‫الشاعر توفيق عبد الكريم الص ّباح‪ .‬تويف‬ ‫يف قريته قليا ودفن فيها‪.‬‬ ‫له ديوان شعر خمطوط‪.‬‬

‫‪ )19‬عيسى ميخائيل سابا‬ ‫(‪1900‬ـ‪)1978‬‬

‫ولد يف بلدة راشيا الوادي‪ ،‬وتويف يف‬ ‫بلدة القليعات‪.‬‬

‫تلقى تعليمه األويل يف مدرسة مار‬ ‫منصور دي بول يف بريوت‪ ،‬ثم انتقل‬ ‫إىل مدرسة مار لويس يف غزير‪ ،‬ثم إىل‬ ‫إكلرييكية يف دير سيدة البلمند‪،‬‬

‫واصل دراسته بعد انتهاء احلرب‬ ‫العاملية األوىل يف مدرسة اإلخوة املسيحيني‬ ‫يف بريوت‪ ،‬وفيها تعلم الفرنسية‪ ،‬ثم إلتحق‬ ‫باجلامعة األمريكية وخترج فيها عام ‪1941‬‬ ‫حاص ً‬ ‫ال عىل بكالوريوس يف األدب العريب‬ ‫وتارخيه‪.‬‬

‫مديرا ملركز الربق والربيد يف‬ ‫عمل‬ ‫ً‬ ‫مدرسا للعربية بعد عودته إىل‬ ‫اهلرمل‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫بريوت‪ ،‬وبعد عامني عني معلماً يف الكلية‬ ‫العلامنية (الالييك)‪.‬‬

‫كان يقوم بتدريس اللغة العربية يف‬ ‫اجلامعة األمريكية أثناء دراسته هبا حتى‬ ‫خترج عام ‪ ،1941‬وكان قد تعلم الفرنسية‬

‫من قبل بنفس الطريقة إبان قيامه بالتدريس‬ ‫بمدرسة اإلخوة املسيحيني‪.‬‬

‫شارك يف العديد من املناسبات‬ ‫القومية‪ ،‬والثقافية واالجتامعية‪ .‬له قصائد‬ ‫متفرقة‪ ،‬نرش معظمها يف جملة «األديب»‬ ‫البريوتية‪ ،‬وله مرسحيات منها‪:‬أمرية‬ ‫العفاف ‪ ،1924‬وثعلبة اجلاحد ‪،1932‬‬ ‫وهكذا قضت األحوال ‪ ،1934‬ومعاوية‬ ‫ومروان بن احلكم‪ .‬وله العديد من‬ ‫املقاالت‪ ،‬منها‪ :‬شعراء اخلمر يف األدب‬ ‫العريب‪ ،‬واملرأة يف األدب‪ ،‬ومدينة صور‬ ‫اجلبارة‪ ،‬وله أعامل مرتمجة‪ ،‬منها‪ :‬إنجيل‬ ‫بوذا‪ ،‬واعرف عدوك‪ ،،‬وأنا ٍ‬ ‫آت من‬ ‫الصني‪ ،‬وله مؤلفات منها‪ :‬وحي الغاب‪،‬‬ ‫ورشح ديوان احلطيئة‪ ،‬وشعر السموأل‬ ‫(حتقيق ورشح)‪ ،‬واملغنيات يف األدب‪.‬‬

‫‪ )20‬غنطوس إبراهيم الرامي‬

‫(‪1910‬ـ‪)1994‬‬

‫ولد يف بلدة تربل قضاء زحلة وتويف‬ ‫فيها‪.‬‬

‫تلقى مرحلته التعليمية االبتدائية يف‬ ‫بلدة فالوغا‪ ،‬ثم انتقل إىل مدرسة احلكمة‬ ‫يف بريوت التي حصل منها عىل شهادته‬ ‫الثانوية‪.‬‬

‫مدرسا يف مدرسة احلكمة مدة‬ ‫عمل‬ ‫ً‬ ‫انتقل بعدها إىل اإلذاعة اللبنانية ليعمل‬ ‫قارئًا للنرشات اإلخبارية‪ ،‬وظل يف‬ ‫وظيفته هذه حتى رأس دائرة األخبار‪،‬‬ ‫وكان قد زاول مهنة الصحافة؛ فكتب يف‬ ‫جريديت «النهار ولسان احلال» وغريمها من‬ ‫الصحف‪ .‬يعد واحدً ا من مؤسيس إذاعة‬ ‫لبنان الرسمية‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪143‬‬ ‫له ديوانان‪« :‬سمر» بريوت ‪،1943‬‬ ‫و«سمر‪ »..‬بريوت ‪1986‬م‪ ،‬ونرشت له‬ ‫جملة األديب بعض أشعاره‪.‬‬ ‫له عدد من املؤلفات منها‪« :‬شهرورد»‬ ‫جمموعة قصصية‪ ،‬و«األمري الصغري»‬ ‫أنطون سانت أكسيربي (ترمجة)‪.‬‬ ‫حصل عىل وسام االستحقاق اللبناين‬ ‫املذهب‪ ،‬كام حصل عىل وسام فارس من‬ ‫الرئيس اللبناين إلياس اهلراوي‪.‬‬

‫‪ )21‬فوزي عيسى اسكندر املعلوف‬

‫(‪1899‬ـ‪)1930‬‬

‫شاعر وكاتب‪ ،‬ولد يف مدينة زحلة‪،‬‬ ‫وفيها نشأ وتلقى علومه األوىل‪ ،‬ثم انتسب‬ ‫إىل الكلية الرشقية يف مدينة زحلة‪ ،‬فأخذ‬ ‫عنها العربية والشعر العريب‪ ،‬ثم التحق‬ ‫أخوة املدارس املسيحية‬ ‫بعدها بمدرسة‬ ‫َّ‬ ‫«الفرير» يف بريوت عام‪ ،‬فتعلم اللغة‬ ‫العربية وآداهبا‪ ،‬واللغة الفرنسية وآداهبا‪،‬‬ ‫وأتقنهام‪ ،‬وبرزت شاعريته يف هذه املدّ ة‪،‬‬ ‫وكان والده يتمتع بشهرة واسعة يف‬ ‫ووجهه‪.‬‬ ‫األوساط األدبية‪ ،‬فتعهده وع ّلمه‬ ‫ّ‬ ‫أكب عىل املطالعة والدرس بعد‬ ‫ّ‬ ‫نشوب احلرب العاملية األوىل عام ‪ 1914‬ـ‬

‫فوجد يف مكتبة جدّ ه ووالده من‬ ‫الكتب ومن الوثائق التارخيية ودواوين‬ ‫الشعر للقدامى واملحدثني ما يلبي رغبته‪.‬‬

‫بدأ اهتاممه باألدب منذ أن كان طال ًبا‪،‬‬ ‫فأسس «جملة األدب» يف مدرسة «الفرير»‬ ‫ونرش فيها بواكري قصائده‪.‬‬

‫تاجرا للحبوب يف مدينة زحلة‬ ‫عمل‬ ‫ً‬ ‫بعد أن أغلقت مدرسة «الفرير» أبواهبا‬ ‫إىل جانب عكوفه عىل املطالعة والدرس‪،‬‬

‫ثم عمل أمينًا لصندوق دار املعلمني يف‬ ‫دمشق عام ‪ ،1918‬ثم كات ًبا ألرسار عميد‬ ‫املعهد الطبي العريب هبا‪ .‬ويف عام ‪1921‬‬ ‫متوجها إىل مدينة ساو باولوـ‬ ‫غادر لبنان‬ ‫ً‬ ‫الربازيل‪ ،‬حيث أخوه وأخواله الذين‬ ‫اهنمك معهم يف عامل التجارة والصناعة‬ ‫فأصاب نجاح ًا‪ ،‬غري أنه مل ينقطع عن‬ ‫مزاولة نشاطاته األدبية‪ ،‬ونظم الشعر‪.‬‬ ‫فأنشأ «املنتدى الزحيل» يف «سان باولو»‬ ‫رئيسا له‪.‬‬ ‫بالربازيل عام ‪ ،1922‬وكان‬ ‫ً‬ ‫وأسهم يف العديد من املرشوعات اإلنسانية‬ ‫واالجتامعية واألدبية‪.‬‬

‫تويف وهو يف ريعان الشباب مغرت ًبا يف‬ ‫ريو دي جانريو (الربازيل) عام ‪ .1930‬إثر‬ ‫عملية جراحية أجريت له و ّملا يبلغ الثانية‬ ‫والثالثني من عمره‪ .‬وقد أقيمت له العديد‬ ‫من حفالت التأبني والتكريم يف الوطن‬ ‫العريب وخارج الوطن العريب‪.‬‬

‫مؤلفاته‪« :‬ديوان فوزي املعلوف» طبعة‬ ‫أوىل بريوت ‪( 1957‬مجعه شقيقه ونرشه)‪،‬‬ ‫ونرشت قصائده يف العديد من صحف‬ ‫عرصه‪ ،‬ومنها‪ :‬جملة األدب‪ ،‬وجملة اآلثار‪،‬‬ ‫وجملة الرشق الربازيلية‪ ،‬وجملة الرسالة‬ ‫املخلصية‪ .‬وله ملحمة شعرية عنواهنا «عىل‬ ‫بساط الريح» طبعت للمرة األوىل يف مدينة‬ ‫ريودي جانريو الربازيل ‪ ،1929‬والطبعة‬ ‫ثانية يف سان باولو الربازيل‪ ،‬والطبعة‬ ‫الثالثة يف بريوت ‪ ،1958‬ومتت ترمجتها إىل‬ ‫اللغات‪ :‬اإلسبانية والربتغالية واألملانية‬ ‫والروسية واإلنجليزية والفرنسية‪ .‬وله‬ ‫«مرسحية ابن حامد أوسقوط غرناطة»‬ ‫وشعرا‪،‬‬ ‫نثرا‬ ‫ً‬ ‫سان باولو ‪ .1952‬وقد كتبها ً‬ ‫متأثرا بام أورده اإلسبان عن الدولة العربية‬ ‫ً‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 144‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫يف األندلس من كتابات‪.‬‬

‫وله عدد من الرتمجات‪ ،‬منها ترمجته‬ ‫لرواية «الوديعة الصغرية»‪ ،‬و«نكبات‬ ‫احلروب»‪ ،‬و«العصفور األبيض»‪ ،‬أللفرد‬ ‫موسيه‪ ،‬و«كتاب جرمينال»‪.‬‬

‫وقد نرشها يف جملة اآلثار التي أنشأها‬ ‫والده‪ ،‬وله عدد من املقاالت‪ ،‬ومنها‪« :‬عىل‬ ‫ضفاف بردى» جريدة حرمون الدمشقية‪،‬‬ ‫و«شاعر إسباين» جملة الرشق الربازيلية‬ ‫‪ ،1929‬و«ملباطحان» جملة الرشق‬ ‫الربازيلية ‪ ،1930‬وله عدد من املؤلفات‬ ‫الشعرية املخطوطة هي‪:‬أغاين األندلس‪،‬‬ ‫تأوهات الروح‪ ،‬من قلب السامء‪ ،‬جمموعة‬ ‫الشعر الوطني والفكاهي‪ ،‬صفحات‬ ‫غرام‪ ،‬عىل ضفاف الكوثر‪ُ ،‬شعلة العذاب‬ ‫واحلاممة يف القفص‪.‬‬

‫حصل عىل وسام االستحقاق اللبناين‬ ‫املذهب بعد وفاته‪ ،‬وقد أزيح الستار عن‬ ‫ّ‬ ‫متثاله الربونزي املنصوب يف مدينة زحلة‬ ‫يف سبتمرب ‪ .1937‬وكُتيت فيه الكثري من‬ ‫الدراسات واألبحاث‪ .‬ومن مجيل شعره‬ ‫يف ملحمة "عىل بساط الريح"‪:‬‬ ‫طيـــر ما أنــا إالّ‬ ‫ال ختـافـي يا‬ ‫ُ‬

‫شـاعر تطـرب الطيور لشــعر ْه‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫فـرارك عنـها‬ ‫فــر عـن أرضـه‬ ‫َّ‬ ‫من أذى أهلها وتنكيـل دهـره‬

‫ومن شعره الرائع‪:‬‬

‫قس ًام يـأهلـي مل أفارق عن رضـى‬ ‫أهيل وهم ذخري ورك ُن عمـادي‬

‫أنفت بأن أعيـش بموطنـي‬ ‫لك ْن‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫األســــياد‬ ‫عبـد ًا‪ ،‬وكنت به من‬

‫نصور‬ ‫‪ )22‬فياض شحادة ّ‬ ‫(‪1916‬ـ‪)1998‬‬

‫شاعر وأديب‪ ،‬ولد يف الفاكهة قضاء‬ ‫بعلبك وتويف فيها‪.‬‬

‫تلقى دراسته االبتدائية يف الكلية‬ ‫األرثوذكسية بحمص‪ ،‬ونال منها الشهادة‬ ‫االبتدائية ثم توقف عن الدراسة‪ .‬عمل‬ ‫بالتجارة‪ ،‬وكان له حمل لبيع األحذية يف‬ ‫شارع رفيق رزق س ّلوم يف محص‪.‬‬ ‫أولع بالشعر منذ الصغر‪ ,‬وحفظ الكثري‬ ‫منه‪ ,‬وبدأ ينظم الشعر يف سن مبكرة‪ ,‬ونرش‬ ‫قصائده يف عدد من الصحف السورية‬ ‫واللبنانية‪.‬‬ ‫مؤلفاته الشعرية‪ :‬أشجان املساء‬ ‫‪ 1981‬تراتيل لقلب ‪ 1987‬لعينيك أغني‬ ‫‪ ،1992‬وله رواية بعنوان‪" :‬هند"‪.‬‬

‫‪ )23‬فيىض صقر محادة‬ ‫(‪1944‬ـ‪)1999‬‬

‫ولد يف مدينة اهلرمل‪ ،‬وتويف فيها‪.‬‬

‫تلقى تعليمه األويل يف مسقط رأسه‪،‬‬ ‫وتابع الدراسة املتوسطة يف معهد الرسل‬ ‫يف جونيه‪ ،‬والثانوية يف ثانوية الريزة‪ ،‬ثم‬ ‫التحق بجامعة بريوت العربية حيث نال‬ ‫اإلجازة يف اللغة العربية وآداهبا‪.‬‬ ‫عمل موظ ًفا يف وزارة السياحة‪،‬‬ ‫ثم توىل رئاسة دائرة الربامج يف وزارة‬ ‫مستشارا لوزير الرتبية يف‬ ‫الداخلية‪ ،‬وعني‬ ‫ً‬ ‫حكومة رشيد الصلح ( ‪1974‬ـ‪.)1975‬‬ ‫توىل منصب نائب رئيس حترير‬ ‫جملة «األمن» الصادرة عن قوى األمن‬ ‫الداخيل‪ ،‬وتوىل منصب مدير إذاعة صوت‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪145‬‬ ‫لبنان العريب إبان األحداث اللبنانية يف‬

‫السبعينيات من القرن العرشين‪.‬‬

‫عضوا يف املجلس الثقايف ملدينة‬ ‫كان‬ ‫ً‬

‫اهلرمل ( ‪1995‬ـ‪.)1999‬‬

‫له ديوان‪ :‬أقاحية الدَّ راب دار الندوة‬ ‫اجلديدة بريوت (د‪.‬ت)‪.‬‬

‫وله عدد من الربامج اإلذاعية كتبها‬ ‫إلذاعتي‪ :‬ديب‪ ،‬وأبوظبي بعنوان‪ :‬حكايا‬ ‫الليل‪ ،‬والعطر املسمى‪.‬‬

‫مـروان حممـد درويـش‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 146‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫من األدب العاملي‪:‬‬

‫ساقى نامه‬

‫بيا �ساقى �آن مى كه حال اورد‬

‫كرامــــت فزايد كمــــال �آورد‬ ‫حافـظ الشـريازي‬

‫�ساقي ِ‬ ‫تهـ ُب الر�ضا‬ ‫اجلب َ‬ ‫اخلمر التي َ‬

‫ُ‬ ‫و�رشبـها‬ ‫والكمال‪،‬‬ ‫فيها الكرام ُة‬ ‫ُ‬ ‫*‬

‫ِ‬ ‫منهـ ٌك‬ ‫هات اعطني خمراً ف�إين َ‬

‫هيـا ا�سقنيها‪ ،‬غار قلبي يف الأ�سى‬ ‫ّ‬ ‫*‬

‫�ساقي َ‬ ‫ِ‬ ‫خالل زجاجهـا‬ ‫تعال فمن‬ ‫تق�ص ل�شرَ ْ ب ِـهـا‬ ‫عجماء ناطق ٌة‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫*‬

‫أنبئـ َك عن‬ ‫مع حلن ٍ‬ ‫ناي �أ�سق ِـني � ْ‬ ‫هـم‬ ‫�أحوالهـم‪ُ � ،‬‬ ‫أخبارهـم‪ ،‬وم� ُآلـ ْ‬ ‫*‬

‫ِ‬ ‫إن�ســــان‬ ‫إن�سانيــ َة ال‬ ‫وتـــزيــد �‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ي�سمو بنا عن حم�أة ال ِ‬ ‫أدران‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫بهــوان‬ ‫ب‬ ‫مت�ســـاقط‬ ‫متجلـب ِـ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫اثنــان‬ ‫�سار‬ ‫ُ‬ ‫وخ�رست عمري‪ ،‬فا َخل ُ‬ ‫أخبـار الأ ْمم‬ ‫حتكي لنا‬ ‫ُ‬ ‫ال�صهباء � َ‬

‫*‬

‫*‬

‫و«جم»‬ ‫يف ك�أ�سها � َ‬ ‫أخبار «كيخ�رسو» ْ‬

‫(‪)1‬‬

‫*‬

‫الكا�س‬ ‫«جم�شيد» عن‬ ‫«كاوو�س» عرب ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫ُتـجلى بت�أث ِري ِ‬ ‫الرا�س‬ ‫الطال يف‬ ‫ِ‬ ‫*‬

‫َ‬ ‫تعال فتلك خمرتك التي‬ ‫�ساقي‬

‫الروح‬ ‫كيمياء‬ ‫يف الفتح �صارت‬ ‫ِ‬ ‫َ‬

‫أح�س ب�أنني‬ ‫أ�رشبـها � ُّ‬ ‫�أنا حني � ُ‬

‫ٍ‬ ‫«نوح»‬ ‫«قارون» وفرت ُة‬ ‫يل كن ُز‬ ‫ِ‬

‫*‬

‫هيـا اعطني هم �سوف يفتتحون با‬ ‫ّ‬ ‫والعمر يف‬ ‫فيها تكون هناءتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ِ‬ ‫هات اعطني خمراً من الك� ِأ�س التي‬ ‫قد كان عرب زجاجها و�شعاع ِـها‬ ‫*‬

‫ِ‬ ‫ثان‬ ‫كـ ٍر‬ ‫َب احلان ثاني ًة ُل�س ْ‬ ‫ِ (‪)2‬‬ ‫�أرجائها �أف�ضى مع اطمئنان‬ ‫عاقرها ف�صار ب�صريا‬ ‫«جم�شيد»‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫*‬

‫ِ‬ ‫الكون وامل�ستورا‬ ‫يجلو خفايا‬ ‫*‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪147‬‬

‫و�أنا بت� ٍ‬ ‫أييد من الك� ِأ�س التي‬ ‫«جم�شيد» يجلو ما اختفى‬ ‫فك�أنني‬ ‫ُ‬ ‫*‬

‫واق�ص�ص حكاي َة ذلك الزمنِ الذي‬ ‫ْ‬ ‫احلديث عن ِ‬ ‫َو�ص ِـلِ‬ ‫ق�ضوا‬ ‫َ‬ ‫امللوك وقد ْ‬ ‫*‬

‫ٌ‬ ‫الوجود‪ ،‬و�إمنا‬ ‫منزل هذا‬ ‫هو‬ ‫ُ‬ ‫أقدار ْ‬ ‫فقل يل من ر�أى‬ ‫دتـه � ٌ‬ ‫� ْأر ْ‬ ‫*‬

‫الكبار بحكمهم وبر�أيهم‬ ‫�أين‬ ‫ُ‬ ‫قل يل �إذن �أين انتهوا بل �أين‬ ‫*‬

‫وحدهما وال‬ ‫إيوان‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫الق�رص وال ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫غدوا وال‬ ‫أدراج الرياح‬ ‫الكل � َ‬ ‫ْ‬ ‫*‬

‫وال�صحراء يف �أمدائها‬ ‫اجلي�ش‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يكن‬ ‫�إن �ضاع يف البيداء ٌ‬ ‫جي�ش مل ْ‬ ‫*‬

‫َ‬ ‫�ساقي اعطني خمراً‬ ‫خالل زجاجها‬ ‫ــربها‬ ‫عجمــاء ناطقـــ ٌة ُّ‬ ‫ُ‬ ‫تق�ص َل�ش ْ‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫�ساقي َ‬ ‫بدت‬ ‫نار قد ْ‬ ‫تعال فتلك ٌ‬ ‫حتت الرثى زرد�شت كان يريدها‬ ‫*‬

‫*‬

‫م�ســـريتـه مع الأقــدا ِر‬ ‫طـالت‬ ‫ُ‬ ‫ذهبوا‪ ،‬وما تركوا �سوى الأخبا ِر‬ ‫*‬

‫هو � ٌ‬ ‫ِ‬ ‫خلراب‬ ‫آيل مهما احتوى‬ ‫إيوان � ْأفـ َر ْ�س ِ‬ ‫ياب»‬ ‫َ‬ ‫بعد الردى «� َ‬ ‫*‬

‫للجي�ش‬ ‫ِ‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫جراراً‬ ‫ّ‬

‫بيو ِم‬

‫ِ‬ ‫عوان‬

‫ِ‬ ‫اللمعان‬ ‫الرتكي ذي‬ ‫خنجر ذلك‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫*‬

‫ما � َ‬ ‫َ‬ ‫القول الذي قد قاله‬ ‫أجمل‬ ‫حبـ ًة‬ ‫ال لي�س‬ ‫ُ‬ ‫يف�ضـ ُل من �شعريٍ ّ‬

‫غدوت ب�صريا‬ ‫عاقرها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫«جم�شيد» َ‬ ‫�رساً خافي ًا مطمورا‬ ‫ويذيع‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫َّ‬ ‫وال�رسداب‬ ‫ظــل‬ ‫تابوتـه قد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫إياب‬ ‫ُيـرجى لهم بعد الرحيل � ُ‬ ‫�سيـان‬ ‫يف العا�صفات ويف الرخـا ّ‬

‫التـ َيـ ِ‬ ‫هان‬ ‫�إ ّال كما البيداء يف َ‬ ‫*‬

‫أخبار الأ ْمم‬ ‫حتكي لنا‬ ‫ُ‬ ‫ال�صهباء � َ‬ ‫و»جم»‬ ‫أخبار «كيخ�رسو»‬ ‫يف ك�أ�سها � َ‬ ‫ْ‬ ‫*‬

‫ِ‬ ‫املال‬ ‫رب‬ ‫رب‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫التاج ُّ‬ ‫جم�شيد ُّ‬ ‫*‬

‫*‬

‫منيـــف � ٌ‬ ‫ِ‬ ‫لزوال‬ ‫آيـــل‬ ‫ق�صـــر‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫*‬

‫تخمــد‬ ‫وهـاج ًة ال‬ ‫ُ‬ ‫يف ك�أ�ســـها ّ‬ ‫والنـــار يف �صهبـــائها تتوقــد‬ ‫ُ‬ ‫*‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 148‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ِ‬ ‫تعار�ض‬ ‫هات ا�سقني خمراً فلي�س‬ ‫ٌ‬

‫مذهب ملعربدين �سكارى‬ ‫يف‬ ‫ٍ‬

‫ولهوها‬ ‫ما بني من عبدوا احليا َة َ‬

‫يعبد نارا‬ ‫أ�رص وراح‬ ‫ُ‬ ‫�أو من � َّ‬

‫*‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫مغمور �أتى‬ ‫فذاك‬ ‫تعال‬ ‫�ساقي‬ ‫ٌ‬ ‫دائم‬ ‫مقر‬ ‫�سكران كان له‬ ‫َ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫*‬

‫هات ا�سقني فل�سوف � ُ‬ ‫ِ‬ ‫أجعل �سمعتي‬ ‫ألومـها‬ ‫خربتني‬ ‫ُ‬ ‫�أنا َّ‬ ‫اخلمر �سوف � ُ‬ ‫*‬

‫َ‬ ‫نارها‬ ‫�ساقي‬ ‫تعال فتلك ٌ‬ ‫ماء‪ُ ،‬‬ ‫لو ذاقها �أ�س ٌد لأحرق غاب ًة‬ ‫*‬

‫أت�صيـ َد‬ ‫�ساقي ا�سقني خمراً لكي � َّ‬

‫املـ ِ�س َّن جلعل ِـه‬ ‫أهاجم‬ ‫َ‬ ‫و� ُ‬ ‫الذئب ُ‬ ‫*‬

‫َ‬ ‫ِعت‬ ‫�ساقي‬ ‫خمر �أُ ْتـر ْ‬ ‫تعال فتلك ٌ‬ ‫يـنهــم‬ ‫فيـــها مالئـكـ ٌة ب ِـع ِـ ّلـ ِّيـ‬ ‫ْ‬ ‫*‬

‫هيـا اعطني خمراً لأ�شع ِـ َل يف اللظى‬ ‫ّ‬

‫احلكيم ُّ‬ ‫حتى �شذا العقلِ‬ ‫يظل يف‬ ‫ِ‬ ‫*‬ ‫يقد ُمـها لنا‬ ‫�ساقي اعطني خمراً ِّ‬ ‫ي�شـــهد �أنها‬ ‫الآن قلبي �ســوف‬ ‫ُ‬ ‫*‬

‫أرجع طاهراً‬ ‫هيـا اعطني خمري ل َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫�صعـ ُدها على �أغوارها‬ ‫ُمـ َتـعي �أ ِّ‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ِ‬ ‫للحان‬ ‫هو ُم ْبـك ِـ ٌر يف �سعي ِه‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مكان‬ ‫بطيب‬ ‫نازل منه‬ ‫هو‬ ‫�سيئ ًة ولن �أتراجعا‬ ‫يف النا�س ّ‬ ‫ألوم ك�أ�س ًا بالإ�ساء ِة م َرتعا‬ ‫و� ُ‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ٌ‬ ‫حر ُق‬ ‫عقل‬ ‫م�سها‬ ‫�سليم ُيـ َ‬ ‫ٌ‬ ‫لو َّ‬ ‫وت�سحق‬ ‫ت�شب‬ ‫من نارها فيه‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫غ�ضنفر الأقدا ِر‬ ‫اله�صور‬ ‫أ�سد‬ ‫ال َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الفخ م�أ�سوراً‬ ‫بقو ِة ناري‬ ‫يف‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫اجلنـ ِ‬ ‫ات‬ ‫ب�شميم م�سك ا ُحلو ِر يف‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫�صفات‬ ‫خري‬ ‫�سكبوا بتلك اخلم ِر َ‬ ‫نافـــح وبخـــورا‬ ‫طيــب‬ ‫أعواد‬ ‫ٍ‬ ‫� َ‬ ‫ٍ‬ ‫طيب ويبقى يف الوجود دهورا‬ ‫ٍ‬ ‫*‬

‫ٌ‬ ‫ملك‪ ،‬ومــــا ُم َّ�س ْت بــــــ� ِّأي �أثا ِم‬ ‫*‬

‫*‬

‫ُّ‬ ‫أيــــــــا ِم‬ ‫�ستظل طاهر ًة مدى ال‬ ‫ّ‬ ‫*‬

‫ُ‬ ‫ال�سيـ ِ‬ ‫وجترف‬ ‫ئات‬ ‫تزيل‬ ‫عني‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫قرقف‬ ‫الف‬ ‫وترد يل طهري ُ�س ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫*‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪149‬‬

‫اخلـ َلـ ِ‬ ‫�صاء يل‬ ‫�أنا حني � ْ‬ ‫أ�ضحت ْ‬ ‫رو�ض ُة ُ‬

‫فل ِـ َم ارتباطي بالقيود على الرثى‬ ‫*‬

‫ِ‬ ‫ور َّ‬ ‫احلظ الذي‬ ‫هات اعطني خمراً َ‬ ‫َ‬ ‫ور الكن َز الذي‬ ‫خر ْبـني َ‬ ‫وتعال ِّ‬ ‫*‬

‫�أنا ذلك الرائي �إذا ما الك� َأ�س يف‬ ‫أب�رص َّ‬ ‫كل مــا‬ ‫يف‬ ‫تلكـ ُم املر�آ ِة � ُ‬ ‫ُ‬ ‫*‬

‫يروق يل‬ ‫كـ ِر اللذيذ‬ ‫ُ‬ ‫يف حلظ ِة ُ‬ ‫ال�س ْ‬ ‫أجمع «خ�رسوي»‬ ‫و� ُ‬ ‫حو ٍل ل َ‬ ‫أكون ذا ْ‬ ‫*‬

‫ِ‬ ‫ت�سطيع �أن‬ ‫ال�سكران ال‬ ‫مع ذلك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أ�رسار يف‬ ‫ذاتك‬ ‫إنكار‬ ‫� ُ‬ ‫يجعل ال َ‬ ‫*‬

‫ُ‬ ‫ال�سكران يف‬ ‫«حافظ»‬ ‫جتلـى‬ ‫ُ‬ ‫و�إذا ّ‬ ‫ال�شعر الذي‬ ‫فل�سوف ت�شدو «ال ُزهر ُة» َ‬ ‫*‬

‫ْ‬ ‫�صوت النه ِر من‬ ‫مغنـي �أين‬ ‫ُ‬ ‫قل يا ِّ‬

‫حـ ْلـم ًا نائي ًا‬ ‫الن�شيد‬ ‫ذاك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يعيد ُ‬ ‫*‬

‫مت�شـوق ًا‬ ‫مولـهـ ًا‬ ‫أكـــون‬ ‫حتى �‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الرق�ص اجنذاب ًا للر�ؤى‬ ‫أمار�س‬ ‫َ‬ ‫�س� ُ‬ ‫*‬

‫َّ‬ ‫واحلظ الذي‬ ‫والتاج‬ ‫�أعطي الغنى‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫بفاكهــة على‬ ‫الكـــل �أعطيـــ ِه‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫العالـ ِم الروحاين‬ ‫�سكـن ًا بدار‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أعود للج�سد الأ�س ِري الفاين‬ ‫و� ُ‬ ‫*‬

‫يبدو على وجهي ِّ‬ ‫و�ضوح‬ ‫بكل‬ ‫ِ‬

‫خبـ� ُأتـه يف روحي‬ ‫هو حكم ٌة‬ ‫ّ‬ ‫*‬

‫ِ‬ ‫ب�صفـاء‬ ‫و�ش ْفـ ُتــها‬ ‫كفـي �‬ ‫أخـذت ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫يخفى بهذا الكون من � ِ‬ ‫أ�شياء‬ ‫*‬

‫ِّ‬ ‫بكــل ت�سـا ِم‬ ‫إعــالن مملكتــي‬ ‫�‬ ‫ُ‬ ‫واملعدم العايف بنف�س اجلا ِم‬ ‫َ‬

‫(‪)4‬‬

‫*‬

‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الذات‬ ‫حكمة يف‬ ‫جواهر‬ ‫تخفي‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫الكلمات‬ ‫و�ض ٍح‪ ،‬و�إن خف ِـيت على‬ ‫َ‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫(‪)3‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بذكاء‬ ‫و�صوغ ِه‬ ‫الن�شيد‬ ‫�صنع‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫غناء‬ ‫�ســيل‬ ‫ويكون‬ ‫قد �صاغه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الرائع‬ ‫«اخل�رسوي»‬ ‫الن�شيد‬ ‫ذاك‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ووقائـــع‬ ‫مب�صائــــر‬ ‫وت� ُّأمــــ ًال‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫*‬ ‫وي�صري وجدي حا�رضاً بالكاملِ‬ ‫َ‬

‫*‬

‫*‬

‫وبخرقتـــي �ألهــو لي�سمو داخلي‬ ‫*‬

‫ِ‬ ‫املنــزل‬ ‫علـــو‬ ‫يعطي بدنيــانا‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫أ�صـلِ‬ ‫�شجر‬ ‫اخللود وملك ِـ ِه املت� ِّ‬ ‫*‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 150‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هو يف �أريكت ِـه غدا َ‬ ‫ملك الرثى‬

‫�ســلطـان ِّ‬ ‫ِ‬ ‫زمـــان‬ ‫كــل‬ ‫وبعزمـــ ِه‬ ‫َ‬

‫برج ال�سعاد ِة والغنى‬ ‫قمر على ِ‬ ‫ٌ‬

‫ـق يف نــيل ِّ‬ ‫كل � ِ‬ ‫أمـــان‬ ‫وموفـ ٌ‬ ‫َّ‬

‫*‬

‫املـــ ُ‬ ‫ب ب�إبائــ ِه‬ ‫لك منـــه‬ ‫جملبـ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫والطري يف ُو ُكـنات ِـها �أ ِم َنـ ْت به‬ ‫ُ‬ ‫*‬

‫ا�سرت�شادهم‬ ‫للمقبلني �إليه يف‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ميدها‬ ‫أ�صحاب‬ ‫أرواح �‬ ‫القلوب ُّ‬ ‫� ُ‬ ‫*‬

‫طري ال�سعاد ِة والهنا‬ ‫ها �أنت يا َ‬ ‫�أنت‬

‫ُ‬ ‫املالك‬

‫ٌ‬ ‫مبارك‬

‫إلهامه‬ ‫� ُ‬ ‫*‬

‫الدر يف �أ�صداف ِه لك م�شب ِـ ٌه‬ ‫ال ُّ‬ ‫وغدا «فريدو ٌن» و«جم�شي ٌد» بال‬ ‫*‬

‫واحر�ص ب�أن تبقى زمان ًا طائ ًال‬ ‫ْ‬ ‫واك�شف لنا َ‬ ‫ِ‬ ‫وكن بها‬ ‫حال‬ ‫ْ‬ ‫القلوب‪ْ ،‬‬ ‫*‬

‫ميـا ًال �إىل‬ ‫ما زال هذا‬ ‫ُ‬ ‫الدهر ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بفتــنة‬ ‫كـري واقعـان‬ ‫ف�أنــا ُ‬ ‫و�س ْ‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ن�شيدنا‬ ‫اللحن � ّإن‬ ‫مغنـي‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فاعزف ّ‬ ‫ال�رس الذي‬ ‫أخ�صام لنا‬ ‫وا�رشح ل ٍ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫*‬

‫نـور � ٍ‬ ‫ِ‬ ‫عيون‬ ‫و�ضوء‬ ‫أفئـدة‬ ‫هو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫املخـــزون‬ ‫بنعيــ ِم ِه‪ ،‬وب�ضـوئــ ِه‬ ‫*‬

‫العنقاء‬ ‫بظلـها‬ ‫أ�سعدتـ َك‬ ‫�إذ �‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫النعــماء‬ ‫اقرتنت بهــا‬ ‫أخبــار َك‬ ‫�‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫*‬

‫يف الكون �إنك فوق ِّ‬ ‫كل جواه ِر‬ ‫خـ َلـ ٍف �شبيه ِـ َك‪� ،‬أنت فوق الآخ ِر‬ ‫َ‬ ‫*‬

‫موقع «الإ�سكندرِ»‬ ‫متمكـن ًا يف‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫وكن يف حال ِة امل�ستب� ِرص‬ ‫�أدرى‪ْ ،‬‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫�ســيفـه‬ ‫يجـــر ُد‬ ‫والدهـــر �أحيــان ًا‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬

‫ويكون حينــ ًا را�ســـم ًا لـــه َّ‬ ‫خط ًة‬

‫ِ‬ ‫اجلـــاه‬ ‫عظيـــم‬ ‫وبلون ِه‪ ،‬وغــدا‬ ‫َ‬ ‫أ�سماك يف ال ِ‬ ‫وكذلك ال ُ‬ ‫أمواه‬

‫ف ِـ َتـ ٍن‪ ،‬وين�صب يل بها �أ�رشاكا‬ ‫ِ‬ ‫احلبيب هالكا‬ ‫عني‬ ‫ُتـزجي بها ُ‬ ‫ال�شيء الذي يبغي ِه‬ ‫ليحقـ َق‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫عنـا في ِه‬ ‫كي ينج َز‬ ‫َ‬ ‫املكتوب ّ‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫جديد‬ ‫مذهب يف العاملني‬ ‫هو‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫عيد‬ ‫ي�رسي‬ ‫وي ُ‬ ‫بجدول حلن ِه ُ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪151‬‬

‫�ستكون عاقبتي انت�صاراً حا�سم ًا‬ ‫ُ‬ ‫علي من ال�سما‬ ‫فب�شارةٌ‬ ‫ْ‬ ‫هبطت َّ‬ ‫*‬

‫اللحن الذي‬ ‫مطرب‬ ‫وا�صنع لنا يا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫الغزل الذي‬ ‫واجعلـ ُه يحكي ق�ص َة‬ ‫ْ‬ ‫*‬

‫� ُ‬ ‫دتـني للرثى‬ ‫أحمال‬ ‫ّ‬ ‫قيـ ْ‬ ‫غـمـي َّ‬ ‫املكان بع ّز ٍة‬ ‫ودع هذا‬ ‫ِط ْر بي‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫*‬

‫ا�صدح بالن�شيد مر ِّدداً‬ ‫مطرب‬ ‫يا‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫قل ِ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫من�شداً‬ ‫مبهارة‬ ‫واعزف لنا‬ ‫ْ‬ ‫*‬

‫أ�صحاب الر�ؤى‬ ‫أرواح �‬ ‫ِب �أويل ال ِ‬ ‫َ‬ ‫�أطر ْ‬ ‫و«بار َبـ ْد»‬ ‫العظيم‬ ‫واذكر «� ْأبروي َز»‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫*‬

‫وا�ستوح ر�سم ًا يا مغني موحي ًا‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫خمتف‬ ‫وانظر �إىل ما راح يروي‬ ‫ْ‬ ‫*‬

‫أمد ْد بلحنك من�شداً‬ ‫بل هكذا � ُ‬ ‫العـليا �إىل‬ ‫حتى َّ‬ ‫ت�شد «ال ُزهرةَ» ُ‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ابتدع حلن ًا لنا‬ ‫وال�صنج‬ ‫بالدف‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫الغناء و� ِ‬ ‫أعطنا‬ ‫وامزج مع اللحن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫*‬

‫*‬

‫ونطرب‬ ‫ال�رسور‬ ‫يجتاحنا منه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫خلـ ُب‬ ‫تهفو له ُمـ َهـ ُج الأنا ِم ُ‬ ‫وتـ َ‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫�صوفيـ ًا بدا‬ ‫وبـ ْح‪ ،‬لو � ّأن‬ ‫ْ‬ ‫وا�صدح ُ‬ ‫ّ‬

‫متـحرراً ي�أتيك من ِعرفان ِه‬ ‫ِّ‬

‫ِ‬ ‫وكيده وغرور ِ​ِه‬ ‫العدو‬ ‫�ضد‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫قاتل ل�رشور ِ​ِه‬ ‫� ّأن انت�صاري‬

‫طت من �أقدامي‬ ‫خـ ِّيـ ْ‬ ‫فك� ّأنـني ُ‬ ‫ْ‬ ‫واحفظ بذاك مبادئي ومقامي‬ ‫ِ‬ ‫اجلدول‬ ‫�صوتـ َك يف خري ِر‬ ‫ولي� ِأت‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫اخل�رسوي الأكملِ‬ ‫الن�شيد‬ ‫حلن‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫*‬

‫ْ‬ ‫أرواح‬ ‫وادخل �إىل‬ ‫م�ستودع ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ألواح‬ ‫حـ ِملوا على ال ِ‬ ‫فالكل قد ُ‬ ‫*‬

‫ِ‬ ‫العالـ ِم‬ ‫حجاب هذا‬ ‫وراء‬ ‫عمـا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫قامت‬ ‫كون‬ ‫�رس‬ ‫بحجاب ِه عن‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫*‬

‫يا مطرب ًا واعزف على الأوتا ِر‬ ‫ٍ‬ ‫حلن من القيثا ِر‬ ‫رق�ص على‬ ‫ٍ‬ ‫*‬

‫يف‬ ‫*‬

‫*‬

‫ٍ‬ ‫ن�شوة‬

‫وبحالة‬

‫ِ‬ ‫الع ِ‬ ‫رفان‬

‫لو راح يح�سو ن�شو َة ال ِ‬ ‫أحلان‬ ‫*‬

‫أرواح‬ ‫يا مطــرب ًا تهفــو لـه ال ُ‬ ‫ترتـاح‬ ‫أرواحــــنا‬ ‫ُ‬ ‫فنــــ ًا لــه � ُ‬ ‫ّ‬ ‫*‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 152‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ي�شدنا بخداع ِه‬ ‫الوجود‬ ‫هذا‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫فانظر �إذا ما ُ‬ ‫ِ‬ ‫الليل َ‬ ‫ب�رسد ِه‬ ‫طال‬ ‫ْ‬ ‫*‬

‫مللت ُفر َّد يل‬ ‫مغنـي قد‬ ‫ُ‬ ‫�أنا يا ّ‬ ‫متفــــرداً ب�أدائــه وبلحنـــ ِه‬ ‫ِّ‬ ‫*‬

‫ٌ‬ ‫ممـا �أرى‬ ‫ذاهل‬ ‫�أنا‬ ‫متعجـ ٌ‬ ‫ب ّ‬ ‫ِّ‬ ‫طـمه الرثى‬ ‫ما‬ ‫ُ‬ ‫�سيحـ ُ‬ ‫عدت �أدري ما ْ‬ ‫*‬

‫لو � َ‬ ‫املجو�سي اللظى‬ ‫ال�شيخ‬ ‫أ�شعل‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ي�صمد �ضو� ُؤه‬ ‫امل�صباح‬ ‫ف�إىل متى‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫*‬

‫يف هذه الدا ِر التي ت�صحو على‬ ‫�أن ْرث من الإبريقِ والك� ِأ�س ِ‬ ‫الطال‬ ‫*‬

‫مب�شــــراً‬ ‫للمنت�شني ال�شاربيــن‬ ‫ِّ‬ ‫وابعث �سالم ًا للذين م�ضوا وقد‬ ‫ْ‬ ‫*‬

‫*‬

‫ـــة جذّ ٍ‬ ‫ق�صـ ٍ‬ ‫بت�شـــو ِق‬ ‫ابـــة‬ ‫ُّ‬ ‫يف ّ‬ ‫تتحقـقِ‬ ‫هذي احلكايا وهي مل‬ ‫ّ‬ ‫*‬

‫ب�شدو منك حلن ًا ثانيا‬ ‫�شوقي‬ ‫ٍ‬ ‫فاعزف‪ ،‬وبال ِ‬ ‫أحلان ِّفرج ما بيا‬ ‫ْ‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ِ‬ ‫أفــالك‬ ‫متفكـــراً فــي دور ِة ال‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫فينا غداً‬ ‫هالك‬ ‫رهن‬ ‫وي�صري‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫احلاذق‬ ‫والذكي‬ ‫املحنـ ُك‬ ‫وهو‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫الواثق‬ ‫�سواي‬ ‫�أنا ل�ست �أدري‪ ،‬هل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الدماء‪ ،‬وال ُّ‬ ‫متل من الد ِم‬ ‫ن ِرث‬ ‫ودع الإ�ساء َة يف الزمان املجر ِم‬ ‫ِ‬ ‫*‬

‫� ْ‬ ‫بالراح‬ ‫أر�ســل ن�شـــيــداً عابقــ ًا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الزمان املاحي‬ ‫كانوا الأحبة يف‬ ‫*‬

‫ترمجــة‪ :‬عمـر شـبيل‬

‫(‪ )1‬كيخرسو وجم أي"مجشيد" ملكان فارسيان‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أفىض‪ :‬أوسع‬ ‫(‪َ )3‬ر‪ :‬فعل األمر من رأى‪.‬‬ ‫(‪ )4‬جام‪ :‬كلمة فارسية تعني الكأس‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪153‬‬ ‫من األدب العاملي‪:‬‬

‫تقومي سنوي بال تاريخ‬ ‫مـاروش‬

‫عندما يرق�ص ال�سالح‬

‫ما عندك حكاية تهدهد نومك‬

‫على نغم الدم‬

‫فلقد �ضاعت احلكايات‬

‫والب�سمات املت�أنقة‬

‫حني ُح�شرِ ت الألغام‬ ‫يف الأ�شجار‬

‫ُتـتبادل التهاين‬ ‫بحرارة ع�سكري‬

‫كل ما عندك هو �إم �سك�ستني‬

‫يف الثالثة ع�رشة من عمره‬

‫زينوا �أخم�صه‬ ‫ّ‬ ‫بطوالت قومك‬ ‫لتكون‬ ‫ُ‬

‫ما يف جيوبك لعب مك�سورة‬

‫مقرونة با�سمك ح�سب العادة‬

‫�أو دوامة‬

‫ما عندك من تلعب معه‬

‫وما عندك �أيام معينة‬

‫فرفيق لعبك الوحيد‬

‫للدر�س والعطلة‬

‫هو املوت‬

‫وما عندك بابا نوئيل‬

‫ي�رضب م�ستخفي ًا دائم ًا‬

‫قناع �أ�سود وح�سب‪،‬‬ ‫عندك‬ ‫ٌ‬

‫«�أنا �ألعب يف الغابة‬

‫و�ضعوه �أمام روحك‬

‫الذئب هنا»‬ ‫حني ال يكون‬ ‫ُ‬

‫ال يعرف ملاذا يقاتل‬

‫(*) شاعرة أرمنية‬

‫(*)‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 154‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫لعبت‬ ‫لكنني‬ ‫ُ‬

‫تبتعد‬ ‫ال ال ‪ ...‬ال‬ ‫ْ‬

‫حني كان هناك‬

‫كنت �أريد �أن �أبكي‪،‬‬

‫وطرحت �س�ؤ ً‬ ‫اال‪:‬‬

‫ماذا �أفعل بالألغام؟‬

‫«ذئب‪ ...‬ذئب‪ ...‬يا ذئب‬

‫�سخروا من �أمي‬

‫�أين �أنت؟»‬

‫ما كنت حم�صوراً‬ ‫للتبول‬ ‫ّ‬

‫فبان منت�شي ًا‬

‫ليتني كنت رامبو‬

‫الوجوه ال�شاحبة‬ ‫ي�أكل‬ ‫َ‬

‫واح ٌد من رفاقي‬

‫املقطـعة‬ ‫والأع�ضاء‬ ‫ّ‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫�أر�سلت يل �أمي فاكهة‬ ‫مل �آك ْلها‪،‬‬

‫كان �أي�ض ًا يريد �أن يكون رامبو‬ ‫كانوا قد عر�ضوا لنا فيلمه‬ ‫التبول‬ ‫ذهب �إىل ُّ‬

‫فك�رسوا �ساقيه‬

‫هم �أكلوها و�سخروا مني‬

‫لو ح�صل يل ذلك �أنا �أي�ض ًا‬

‫�أردت �أن �أبكي‪،‬‬

‫ف�س�أعود �إىل �أمي‬

‫للتبول‬ ‫طلبت �إذن ًا‬ ‫ّ‬

‫تبتعد‬ ‫ال‬ ‫ْ‬

‫� ٍ‬ ‫أياد خفية �أخذت منك كل �شيء‬ ‫حتى �أمك‪،‬‬

‫ف�أنت تعلم ما قد يح�صل‬

‫فقد �أن�سوك لذة احللم بها‪.‬‬

‫كنت �أريد �أن �أبكي‪،‬‬

‫�أنت ت�ؤمن‬

‫لكني �أحمل �سالح ًا‬

‫�أنك ب�ساعديك ال�ضعيفني‬

‫�أخم�ص ُه ق�صري‪،‬‬

‫ت�ستطيع �أن حتمي ترابك‪،‬‬

‫ن�رشوه كي يالئم طويل‬

‫�أو ت�شرتي تراب ًا بدمك‬

‫توجد �ألغام‪.‬‬

‫�أما �أولئك الذين دفعوك �إىل اللعبة‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪155‬‬

‫فهم ال ي�ؤمنون‬

‫وتربد حتت الرتاب‬

‫�سوف تذهب‬

‫لكي يكون خبز الآخرين‬

‫�سوف تذهب �إىل ال�سماوات‬

‫�أكرث �سخونة‬

‫حيث �أتيت‬ ‫�سوف تذهب‬ ‫والظلمة يف عينيك‬ ‫ال تفهم ملاذا �أتيت‬ ‫�سوف تذهب‬ ‫بج�سم نحيل‬ ‫ال�صور‬ ‫يختزن فل�سفة دقيقة‬ ‫ْ‬ ‫ويوم ًا بعد يوم بد ًال من �إميانك‬ ‫�سوف حتت�ضن‬

‫�سوف تذهب‬ ‫لتح�رش يف حفرة �ضيقة‬ ‫لكي يكون مكان الآخرين �أكرث �سعة‬ ‫�سوف تذهب‬ ‫وال�شوق �إىل �أمك يف عينيك‬ ‫لكي تكون ابت�سامات �أمهاتهم‬ ‫�أكرث عر�ض ًا‬ ‫ول�سوف تذهب‬

‫الفراغ املميت‬

‫ومتلأ بج�سمك‬

‫�سوف تذهب‬

‫حفرة نتنة كبرية‪.‬‬

‫ترمجــة‪ :‬نـزار خـلـيـلـي‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 156‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫«الوحدة االسالمية‪:‬‬ ‫الفهم‪ ،‬املعوقات واآلفاق»‬ ‫غريبـي مـراد‬ ‫متهيد‪:‬‬

‫كل عاقل يف األمة ٌ‬ ‫وكل من األحبة‬ ‫العلامء واملفكرين واملثقفني العاملني‬ ‫املهتمني بأمور املسلمني كافة ومستقبل‬ ‫األمة‪ ،‬يدرك متام اإلدراك أن موضوع‬ ‫"الوحدة اإلسالمية" من املواضيع ال أقول‬ ‫احلساسة ولكنها العظيمة يف املعنى واملبنى‬ ‫ألهنا أمجل تعبري واقعي عن اإلسالم إذا‬ ‫استطاع املسلمون حتقيقها وجتسيدها‪،‬‬ ‫وعىل حد تعبري حكيم اإلسالم (ع) عن‬ ‫معادلته الرائعة‪( :‬وما من حركة إال وأنت‬ ‫حمتاج فيها إىل معرفة)‪...‬‬ ‫بادئ ذي بدء‪ ،‬الوحدة اإلسالمية‬ ‫كمفهوم عانت وال تزال تعاين من‬ ‫التهافت الفكري الفلسفي وكذا اإلعالمي‬ ‫والسيايس‪ ،‬ناهيك عن اجلداالت البيزنطية‬ ‫العقيمة التي أربكت العقل اجلمعي‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬ليس بخصوص هذا املفهوم‬ ‫فقط عرب الزمن اإلسالمي كله وإنام حتى‬ ‫مفهوم التقريب بني املذاهب (هذا املفهوم‬ ‫الذي أعتربه مدخ ً‬ ‫ال ملفهوم الوحدة وأحد‬ ‫مسهالته املنهجية) هلذا نجد مفهوم‬ ‫الوحدة انقلب من وضوحه وواقعيته إىل‬

‫يوتوبيا يف الواقع اإلسالمي‪ ،‬ألن واقعنا‬ ‫الثقايف مريض حتى النخاع‪،‬فبنية تصوراتنا‬ ‫الذهنية للوحدة ال تزال هزيلة وضيقة يف‬ ‫إطار الذات واجلهة ومل ترق ملستوى‬ ‫الرحابة االسالمية كام ترشد الرشيعة‬ ‫اإلسالمية إىل ذلك‪...‬‬

‫ملاذا؟ ألن رشف اإلنسان يف معادلة‬ ‫الكرامة الوجودية‪ ،‬ال يزال ضعيفا يف‬ ‫واقعنا احليايت ككل‪،‬أال وهو العقل‪،‬‬ ‫وعليه حتديدنا للوحدة اإلسالمية يفتقر‬ ‫نوعا ما للتأصيل الصحيح‪ ،‬ألن الوحدة‬ ‫التي أصلها السابقون من الصدر األول‬ ‫لإلسالم وحتى القرن املايض‪ ،‬ال أقول‬ ‫كانت خاصة بزماهنم‪ ،‬ولكن البعض منها‬ ‫بحاجة الكتشاف جديد وقراءة أوسع‪،‬‬ ‫فالعلم بذاته حتصييل تراكمي‪ ،‬ويف تطوره‬ ‫واستثامره جديل موضوعي‪..‬‬ ‫ال مناص من أن سؤال الوحدة‬ ‫اإلسالمية حسب املنطق اإلسالمي ويف‬ ‫األصول بلحاظ آفاق اآليات واألحاديث‬ ‫الرشيفة‪ ،‬والعقل يدل عىل ذلك أيضا‪،‬‬ ‫يؤرش إىل أن األمة التي تسعى للربوز‬ ‫احلضاري والقوة احلضورية يف العامل‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪157‬‬ ‫البد أن ختلق حالة روحية وواقعية لدى‬ ‫أهلها تدعى "التكامل الذايت" التي تعني‬ ‫الوحدة‪ .‬واألمة اإلسالمية ليست بدعا من‬ ‫األمم‪ ،‬فالتاريخ يشهد عىل ذلك‪ ،‬حيث‬ ‫اخلطاب الوحدوي كان يساير الربوز‬ ‫احلضاري للمسلمني‪ ،‬أما عن اآليات‬ ‫فالقرآن مملوء بدالئل وجوب الوحدة‬ ‫ومنطق الوحدة وثقافة الوحدة وأهداف‬ ‫الوحدة وآفاقها‪ ،‬لكن العجيب والغريب‬ ‫يف األمر أننا نتحدث عن الوحدة البنائية‬ ‫(أو) املوضوعية يف القرآن الكريم دون‬ ‫االلتفات ملفهوم الوحدة االجتامعية‬ ‫للمسلمني يف خزائن القرآن الكريم‪،‬‬ ‫ربام ذلك مرده لضيق األفق واالبتسار يف‬ ‫التدبر لآليات من خالل احلال املعاشة‬ ‫للمسلمني‪ ،‬وهلذا أذكر بعض اآليات التي‬ ‫تربز معامل الوحدة امليدانية يف القرآن‪،‬‬ ‫ونرتك التوسع يف تدبر اآليات لفرص‬ ‫أخرى بإذن اهلل تعاىل وتوفيقه‪:‬‬ ‫﴿وا ْعت َِص ُموا بِ َح ْب ِل اللهَِّ جمَ ِي ًعا َولاَ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َت َف َّر ُقوا َواذك ُ​ُروا ن ْع َمة اللهَِّ َعل ْيك ُْم إذ كنْت ُْم‬ ‫ف َبينْ َ ُق ُلوبِك ُْم َف َأ ْص َب ْحت ُْم بِنِ ْع َمتِ ِه‬ ‫َأعْدَ ا ًء َف َأ َّل َ‬ ‫إِ ْخ َوانًا َو ُكنْت ُْم َعلىَ َش َفا ُح ْف َر ٍة ِم ْن الن ِ‬ ‫َّار‬ ‫للهَّ َلك ُْم آ َياتِ ِه‬ ‫َف َأ ْن َق َذك ُْم ِمن َْها ك َ​َذلِ َك ُي َبينِّ ُ ا ُ‬ ‫َ (آل عمران ‪)103‬‬ ‫َل َع َّلك ُْم تهَ ْتَدُ ون﴾‬ ‫﴿وإِ َّن ه ِذ ِه ُأم ُتكُم ُأم ًة و ِ‬ ‫احدَ ًة َو َأنَا‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ (املؤمنون ‪)52‬‬ ‫َر ُّبك ُْم َفا َّت ُقون﴾‬ ‫ِ‬ ‫﴿والَ َتكُونُو ْا كَا َّلذي َن َت َف َّر ُقو ْا َو ْ‬ ‫اخ َت َل ُفو ْا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(آل عمران ‪)105‬‬ ‫َـات﴾‬ ‫اءه ُم ا ْل َب ّين ُ‬ ‫من َب ْعد َما َج ُ‬ ‫َّ‬ ‫﴿إن اللهَّ حيب الذين يقاتلون يف سبيله‬ ‫(الصف ‪)4‬‬ ‫ٌ‬ ‫بنيان مرصوص﴾‬ ‫ص ّف ًا كأهنم‬ ‫َـاز ُعو ْا‬ ‫﴿و َأطِي ُعوا اهلل َو َر ُسو َل ُه َوالَ َتن َ‬ ‫َ‬ ‫(األنفال ‪)46‬‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫حيك ُْم﴾‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫َذ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫َف َت ْف َش ُلو َ َ َ ُ‬

‫﴿و َأ َّن َه َذا صرِ َ اطِي ُم ْست َِقيماً َفاتَّبِ ُعو ُه‬ ‫َ‬ ‫ولاَ َتتَّبِعوا السب َل َف َت َفر َق بِكُم َعن سبِ ِيلهِ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ (األنعام ‪)153‬‬ ‫َذلِك ُْم َو َّصاك ُْم بِ ِه َل َع َّلك ُْم َت َّت ُقون﴾‬ ‫أما عن السنة‪ ،‬فصحاح األحاديث‬ ‫اخلاصة بالعالقات بني املسلمني‪ ،‬ال تعد‬ ‫والحتىص نذكر منها عىل سبيل املثال ال‬ ‫احلرص‪:‬‬ ‫(مثل املؤمنني يف توادهم وترامحهم‬ ‫وتعاطفهم مثل اجلسد الواحد إذا اشتكى‬ ‫منه عضو تداعى له سائر اجلسد بالسهر‬ ‫واحلمى ) صحيح مسلم‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.1999‬‬ ‫(عليكم باجلامعة وإياكم الفرقة ) سنن‬ ‫الرتمذي‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.466‬‬

‫وكلمة أمري املؤمنني اإلمام عيل بن‬ ‫أيب طالب (ع)‪« :‬وخشيت إن أنا مل أنرص‬ ‫اإلسالم وأهله أن أرى فيه ثلام أو هدما‬ ‫تكون املصيبة به عيل أعظم من فوت‬ ‫واليتكم التي إنام هي متاع أيام قالئل‬ ‫يزول منها ما كان كام يزول الرساب‬ ‫وكام ينقشع السحاب فنهضت يف تلك‬ ‫األحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن‬ ‫الدين وتنهنه‪(»...‬هنج البالغة)‪ ،‬إىل ما هنالك‬ ‫من الروايات الكثرية التي تتضمنها كتب‬ ‫احلديث لدى السنة والشيعة مروية عن‬ ‫النبي األكرم تشري لفريضة الوحدة بني‬ ‫املسلمني‪ .‬أما عن مفهوم الوحدة يف راهن‬ ‫املسلمني‪ ،‬فأقل ما يقال عنه أنه ال يزال فكرة‬ ‫ثلة من املفكرين والعلامء املسلمني‪ ،‬عرب‬ ‫التخطيط والعمل من أجل نزوهلا للواقع‪،‬‬ ‫لكي تصبح ثقافة اجتامعية وسياسية‬ ‫واقتصادية بني املسلمني يف العامل‪ ،‬ولعل‬ ‫انعدام الروح الوحدوية بني األطياف‬ ‫اإلسالمية يف الزمن املعارص مرده لكون‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 158‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املسلمني أصال ال حيملون هم الوحدة بجد‬ ‫واجتهاد وعفة وسداد‪ ،‬واهلم يعني شعور‬ ‫املسلم بمسؤوليته اإلصالحية النابعة من‬ ‫إيامنه بنقض الفوىض والتخلف والظلم‬ ‫من حوله وكذا التحديات الكبرية التي‬ ‫خترتق العامل اإلسالمي وهتدد مستقبله‪،‬‬ ‫ويمكننا اجلزم‪ ،‬أن العقل اإلسالمي يعيش‬ ‫حالة استقالة إال من رحم ريب‪!...‬‬

‫ـ مدخل منهجي‬

‫ال يزال املشهد الثقايف اإلسالمي‬ ‫حبيس معضلة املفاهيم‪ ،‬حيث األمم‬ ‫األخرى ال تستغرق يف هذا النفق كثريا‪،‬‬ ‫ألن قضية املفهوم ترتبط بمقاصد‬ ‫الوجود‪ ،‬فأي مسمى هو ألجل التمييز‬ ‫والتحديد‪ ،‬حيث تبقى اللغة والكتابة‬ ‫والتعبري وسائل لبلوغ غايات عظيمة يف‬ ‫وجود األمم واإلنسان حتديدا يف مضامر‬ ‫احلضارة واإلبداع‪ ،‬بينام أمة العرب‬ ‫واملسلمني‪ ،‬كلام ختلصت من حمنة مفهوم‬ ‫سقطت يف آخر‪ ،‬تقام له املؤمترات وتشعل‬ ‫له الشموع وتشتد حوله الرصاعات‬ ‫ويتشتت بسببه املشتت‪ ،‬هكذا أصبحنا‬ ‫ال نقدر عىل جتاوز معوقات تعترب ضمن‬ ‫ثانويات املنهج التدبريي لألمم يف بناء‬ ‫حضاراهتا‪ ،‬لألسف ال نزال نعاين من عادة‬ ‫إعطاء األمور واألشخاص والوقائع فوق‬ ‫قدرها‪ ،‬ألن التقدير عندنا معاناته مرتبطة‬ ‫بمسألة نظام التفكري‪ ،‬حيث نستغرق يف‬ ‫اجلزئيات وال ننظر بعني املصلح الذي‬ ‫يراعي املدخالت واملخرجات ويستثمر‬ ‫املعطيات وحيافظ قدر اإلمكان عىل نظام‬ ‫املوضوع‪ ،‬كي ال يزيد اخلرق عليه كام يقال‬

‫وبالتايل ضاعت القضايا واملشاريع احليوية‬ ‫يف املستقبل اإلسالمي يف فوىض التعامل‬ ‫مع املفاهيم‪...‬وهبذا الصدد كمقاربة مع‬ ‫رؤيتنا ملفهوم الوحدة‪ ،‬حيث نحن بحاجة‬ ‫لفقه األولويات‪ ،‬أقصد الصحة والفعالية‪،‬‬ ‫بحيث ال نقدم املوضوع املهم عىل األهم‬ ‫أو البسيط عىل املركب هذا من جهة‪.‬‬ ‫من خالل هذه النظرة للواقع املوجع‪،‬‬ ‫جاءت فكرة هذه املقالة حتت عنوان‪:‬‬ ‫«الوحدة االسالمية‪ :‬الفهم‪ ،‬املعوقات‬ ‫واآلفاق» حتى نؤسس لوعي اسالمي‬ ‫مشرتك‪ ،‬وتعرف تصورات املذاهب هلذا‬ ‫املفهوم‪ ،‬حتى ننتقل باملرشوع الوحدوي‬ ‫من املجاملة إىل اجلد‪ ،‬ومن أضعف اإليامن‬ ‫إىل االجتهاد واحلركة العملية‪ ،‬وأيضا‬ ‫تكون فعالياتنا الثقافية متابعة ومواجهة‬ ‫لتحديات الواقع‪ :‬الطائفية والتكفري‬ ‫واالستكبار العاملي‪...‬‬ ‫ألن مفهوم الوحدة إىل اآلن لدى‬ ‫إنساننا املسلم يعاين من الضبابية‪ ،‬وال‬ ‫يمكن له أن ينطلق يف الواقع ما دام وعيه‬ ‫متباين َا بني األطياف اإلسالمية‪ ،‬الوحدة‬ ‫التي نعنيها تقوم عىل ثالث أركان قيمية‪:‬‬ ‫ـ الصدق يف التعارف واللقاء واحلوار‪.‬‬ ‫ـ الرمحة يف التعامل‪ ،‬التسامح والتعايش‬ ‫بني املذاهب‪.‬‬ ‫ـ اإلنصاف والتعاون‬

‫ـ نحو الفهم االسرتاتيجي للوحدة‬

‫من املستهجن أن تكون أمة عمالقة‬ ‫مثل أمتنا اإلسالمية بكل ثرواهتا وتارخيها‬ ‫وقوهتا الديمغرافية وثقلها احلضاري‬ ‫وعظمة ثقافتها‪ ،‬أمة عىل اهلامش العاملي‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪159‬‬ ‫وعىل حد قول الفقيه الدستوري واملفكر‬ ‫االسالمي املرصي د‪.‬كامل أبواملجد إهنا‬ ‫«أمة تُرى وال تَرى» وكل مسلم مهتم‬ ‫بأمور املسلمني يستشعر االستقالة العاملية‬ ‫خلري أمة أخرجت للناس‪ ،‬ولعل األسباب‬ ‫معروفة عند القايص والداين من املسلمني‬ ‫وغريهم‪ ،‬لكن النكسة املركزية والتي‬ ‫تنحدر منها كل اإلخفاقات هي التمزق‬ ‫والترشذم والنزاع التارخيي‪ ،‬الذي جعلنا‬ ‫أمة ميتة يف التاريخ‪ ،‬تابعة يف احلارض‪،‬‬ ‫مستقيلة عن املستقبل‪!!...‬‬

‫لقد فقدت أمتنا عرب التذبذبات‬ ‫التارخيية صعودا ونزوال أهم معامل يف‬ ‫عاملية األمم‪ ،‬وهي حقيقة الوحدة عىل‬ ‫أساس املشرتك‪ ،‬هذا العنوان الذي يعترب‬ ‫إدارة لسنة االختالف بام يغني األمم‬ ‫بألوان الطيف فيها‪ ،‬وال جدال حول‬ ‫التنوعي الذي تتميز به أمتنا وال‬ ‫الغنى‬ ‫ّ‬ ‫ريب أنه كان رس الوجاهة والعظمة‬ ‫للحضارة اإلسالمية‪ ،‬إال أن هذا كله ال‬ ‫يزال حمل جدال وخالف بني املسلمني‬ ‫بكل تنوعاهتم‪ ،‬رغم كل االجتهادات‬ ‫العاملية لألمم األخرى التي ترى يف‬ ‫اإلسالم مهددا لكل أطامعها الواضحة‬ ‫يف إعادة إحياء االستعامر واالستدمار وما‬ ‫هنالك من أشكال السيطرة واالضطهاد‬ ‫واالستعباد للشعوب االسالمية حتى‬ ‫تبقى تابعة وليست قائدة كام يريد منها‬ ‫كتاهبا املقدس القرآن العظيم‪ ...‬والريب‬ ‫أن أمتنا ال ينقصها يشء سوى انطالق‬ ‫الروحية الوحدوية من جديد‪ ،‬لتستعيد‬ ‫نظامها وتألقها بني األمم وتسرتد دورها‬ ‫احلضاري يف نزع األغالل الفرعونية عن‬

‫اإلنسانية مجعاء‪ ،‬هذه األمة علة استقالهلا‬ ‫بيد علامئها األحرار‪ ،‬ألهنا أمة تستمد‬ ‫قوهتا من روح التقوى التي جيسدها‬ ‫العلامء العظام بجمع الكلمة ورص‬ ‫الصفوف وحقن الدماء وترشيد الناس‬ ‫لسبل السالم‪ ،‬ومهام حاول أي عضو‬ ‫يف جسم هذه األمة تربير فردانيته‪ ،‬فإن‬ ‫احلقيقة الوحيدة أن هذه األمة بحاجة لكل‬ ‫أبنائها وأطيافها وعقوهلا‪ ،‬لقد مرت علينا‬ ‫الويالت عرب التاريخ كله‪ ،‬ولدينا موروث‬ ‫رصني نابع من الكتاب والسنة يؤكد عىل‬ ‫أن الوحدة قلب هنضة هذه األمة‪ ،‬ذلك‬ ‫املوروث الذي تركه العلامء واملفكرون‬ ‫لألجيال القادمة بعدها‪ ،‬وحتى وقتنا هذا‬ ‫ال يزال العلامء املخلصون للحق والنبي‬ ‫األكرم يرفعون أقالمهم وأصواهتم‬ ‫للحث عىل مجع الكلمة ومواجهة‬ ‫العدو املرتبص بحارض ومستقبل األمة‬ ‫االسالمية‪ ،‬خصوصا يف هذا الزمن الراهن‬ ‫الذي بدأت فيه الشعوب اإلسالمية تثور‬ ‫عىل الظلم والظالم لتشعل شموع الوحدة‬ ‫والنهضة والكرامة والعزة‪ ،‬وما أحوجنا‬ ‫ملثل تلك املواقف من قبل جل القامات‬ ‫العلامئية يف أمتنا اإلسالمية لتقي شعوبنا‬ ‫الفتن والتخلف والترشذم والشتات‬ ‫من جديد وتعرب هبا نحو شاطئ الوعي‬ ‫والنباهة والتعارف والتسامح والتعايش‬ ‫والتعاون مع بعض من أجل بناء املستقبل‬ ‫االسالمي املرشق باحلق‪...‬‬

‫ـ سؤال الوحدة يف الواقع االسالمي‬

‫إن دور إحياء الوحدة االسالمية‬ ‫يف جمتمعاتنا‪ ،‬متوقف عىل حتمل النخب‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 160‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الدينية والقومية واإلعالمية والثقافية‬ ‫والسياسية النزهية منها‪ ،‬مسؤوليتها يف‬ ‫غرس قيم اإلسالم األصيلة ومواجهة‬ ‫اخلطط الفتنوية الطائفية وسد الثغرات‬ ‫التي يستغلها الكفر العاملي إلضعاف األمة‬ ‫بصب الزيت عىل مواقع اخلالف وتوجيه‬ ‫الناس نحو االستغراق يف الرصاعات‪ ،‬بينام‬ ‫الغرب من حولنا يزداد تعاونا من أجل‬ ‫احلفاظ عىل مصاحله عندنا وإذاللنا أكثر‪...‬‬ ‫إن الغرب ما سنحت له الفرصة لذلك‬ ‫إال عندما تأكد من أن هناك إمكانية جديدة‬ ‫لتشتيتنا أكثر بعد سايس بيكو‪ ،‬واملشكل‬ ‫ليس يف أننا شعوب وقبائل ومذاهب‬ ‫وأحزاب ولكن مأزق وحدتنا أننا ال نريد‬ ‫أن نفهم اإلسالم‪ ،‬لنعيشه برحابة كام جسده‬ ‫النبي األكرم وكل العظامء عرب التاريخ‬ ‫االسالمي‪ ،‬وعليه تنوعنا ضمن عنوان‬ ‫وحدة اإلسالم هو أساس عزة أمتنا‪ ،‬ومن‬ ‫املنبهات القرآنية أن آيتي الوحدة وردتا يف‬ ‫سورتني (األنبياء‪ )92/‬و(املؤمنون‪)52/‬‬ ‫حيث اآلية األوىل ختمت باألمر لعبادة ربنا‬ ‫عزوجل واألخرى باألمر لتقوى اهلل‪...‬‬ ‫وعليه من مل يتحرك للوحدة اإلسالمية‬ ‫الكريمة لألسف مل يفهم بعد رسالة األنبياء‬ ‫وحقيقة العبادة يف اإلسالم وأيضا هو تائه‬ ‫عن منهاج املؤمنني الزاهر بالتقوى‪...‬‬

‫ـ نرصة فلسطني قلب الوحدة‬

‫مرشوع الوحدة االسالمية الذي شهد‬ ‫عىل طول الزمن اإلسالمي احلديث‪ ،‬وال‬ ‫يزال يشهد انعطافات عديدة ومشكالت‬ ‫عميقة‪ ،‬حالت دون حتقق معامله يف تفاصيل‬ ‫حياة املسلمني عرب العامل إال ما ندر‪ ،‬يف‬

‫بعض املجاالت الضيقة التي تعترب ثانوية‪،‬‬ ‫بل لعل القضية الوحيدة التي حافظت عىل‬ ‫وحدة املسلمني هي فلسطني املحتلة‪ ،‬تلك‬ ‫األرض املباركة التي فرضت الوحدة عىل‬ ‫أطياف املسلمني وجعلت حقيقة الوحدة‬ ‫أن نسلم بعضنا لبعض بدال من االستسالم‬ ‫للعدو‪...‬‬

‫ما دون ذلك‪ ،‬ال تزال مؤمترات الوحدة‬ ‫لقاءات جماملة لدى بعض الناس أو تكتيك ًا‬ ‫مذهبي ًا لدى آخرين‪ ،‬حتى ال نحاكم نوايا‬ ‫اجلميع وال نبخس أهدافها الرسالية‪،‬‬ ‫أما السمة الغالبة عىل غالبية املؤمترات‬ ‫الوحدوية أهنا أضعف االيامن حلفظ ماء‬ ‫الوجه أمام ضغط األمانة الرسالية عىل‬ ‫قيادات األمة يف جماالت الدين والسياسة‬ ‫والثقافة واالقتصاد واالجتامع‪...‬‬

‫وعىل الرغم من األجواء الغائمة عىل‬ ‫مستوى التضامن االسالمي وحقائقه‪ ،‬من‬ ‫حوار بنّاء بني التنوعات املذهبية والثقافية‬ ‫وكذا برامج التواصل والتسامح واللقاء‬ ‫للتعاون فيام خيدم مصلحة األمة‪ ،‬إال أن‬ ‫التفكر يف مرشوع الوحدة يبقى أساس‬ ‫انجالء غياهب الفرقة والنزاع والترشذم‬ ‫وما هنالك من عناوين ختترص يف واقع‬ ‫املرض الطائفي العابر للحال االسالمية‬ ‫بكل آفاقها وأبعادها الوجودية‪...‬‬ ‫بينام املتابعة الدقيقة والقراءات‬ ‫احلصيفة للواقع السيايس العريب‬ ‫واالسالمي يف عالقته مع قضية فلسطني‬ ‫املحتلة من شأهنا أن تكشف عن املحنة‬ ‫املتعاظمة التي يمر هبا العقل اإلسالمي يف‬ ‫رصاعه مع الكيان الصهيوين واالستكبار‬ ‫العاملي‪ ،‬حيث سلوكيات ومسلكيات‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪161‬‬ ‫بعض املسلمني مع القضية الفلسطينية‬ ‫هي املعيار املبدئي املصغر للخبال السيايس‬ ‫العريب واالسالمي‪...‬؟!‬ ‫هناك عدة صور تدل عىل اخلنوع‬ ‫العريب املمثل بالواقعية السياسية املزيفة‪،‬‬ ‫األوىل‪ :‬استمرار العدوان املبارش املتعمد‬ ‫عىل الفلسطينيني يف القدس وغزة‬ ‫وهدم املساجد بالضفة الغربية من قبل‬ ‫املستوطنني حتت محاية من أزالم االحتالل‬ ‫الصهيوين‪ ،‬والثانية‪ :‬التسوية عىل حساب‬ ‫احلقوق اإلنسانية والتحرير والنرصة‬ ‫للقضية الفلسطينية‪.‬‬

‫ـ املعامل الذايت‬

‫االختالف يف وعي التوحيد االسالمي‬

‫مسألة الوحدة هي النواة املركزية‬ ‫للبناء اإلسالمي وتنبع من قلب اإلسالم‪/‬‬ ‫التوحيد‪ ،/‬حيث نفهم أن الوحدة‬ ‫إحدى جتليات التوحيد يف واقع املسلمني‬ ‫وانعدامها يعني ضمور هذا العنرص يف‬ ‫الذات اإلسالمية (إنسان ًا وجمتمع ًا)‪ ،‬فمن‬ ‫ال يؤمن بالوحدة فتوحيده مشوه‪ ،‬وبام‬ ‫أن التوحيد ذو عالقة بكل آفاق اإلسالم‬ ‫يف احلياة نجد الوحدة أيضا اآللية املثىل‬ ‫لصالح احلركة اإلسالمية يف احلياة‪ ،‬من‬ ‫هنا نفهم أن أول عقبات الوحدة هو‬ ‫االختالف يف وعي التوحيد يف اإلسالم‪،‬‬ ‫والتوحيد يف العرص األول لإلسالم كان‬ ‫مفهوما لكن مع الزمن ودخول األمة‬ ‫يف هوس سيايس طائفي وجتريد احلراك‬ ‫اإلسالمي من أخالقياته وترشيعاته‬ ‫الصحيحة تعرض مفهوم التوحيد للتمويه‬ ‫وتم التعامل معه عىل أساس إيديولوجي‬

‫ال من خالل املعطى العقائدي اإلسالمي‬ ‫الرصيح يف القرآن والسنة‪ ،‬وبام أن الوحدة‬ ‫إحدى جتليات التوحيد تعرضت بالتعدي‬ ‫لسوء الفهم واللغط والتشكيك‪ ،‬حتى‬ ‫أصبح من حياول بحث الوحدة يشكك‬ ‫يف نواياه ويوسم بالنفاق‪ ،‬ألن مفهوم‬ ‫التوحيد أصال لدى أولئك املتعاملني‬ ‫يعاين من التشوه واللغط وما هنالك من‬ ‫سيئات األحادية الفكرية‪ ...‬هذا عن‬ ‫العقبة الفكرية العقائدية‪ ،‬وأراها منشأ‬ ‫جل العقبات بخصوص مسألة أو مطلب‬ ‫الوحدة يف واقع املسلمني‪...‬‬

‫ـ التشدّ د املذهبي‬

‫يف ظل اهلذيان املذهبي االسالمي‪،‬‬ ‫هناك مأزق خطري‪ ،‬يعترب نتيجة ملسبب‬ ‫وحيد تعاين منه العديد من القامات‬ ‫املذهبية والطائفية يف بناء نظرهتا لآلخر‬ ‫املسلم وما يستتبع ذلك من ختندق طائفي‬ ‫لألتباع‪ ،‬عرب التعبئة للتصارع من أجل‬ ‫حفظ بيضة املذهب والطائفة واجلامعة‬ ‫واحلزب‪ ،‬غافلني عن آثار ذلك عىل أمن‬ ‫األمة ومستقبلها‪ ،‬حيث تفاعل التنوعات‬ ‫االسالمية يفتقر للتأصيل االسالمي‪ ،‬فبدال‬ ‫من هتذيب التصورات بيننا كمسلمني من‬ ‫خالل حتديد مواطن االتفاق الرئيسية عىل‬ ‫مجيع الصعد املعرفية االسالمية (العقيدة‬ ‫والرشيعة واألخالق)‪ ،‬نركز عىل نفخ‬ ‫الذات املذهبية يف قبال اآلخر املذهبي‪،‬‬ ‫مما خلق نوعا من النكوص املذهبي لدى‬ ‫الكنتونات املذهبية االسالمية‪ ،‬فال ترى‬ ‫إال نفسها وحتاول جاهدة يف بناء ذاهتا من‬ ‫خالل استعداء اآلخر املذهبي‪ ،‬وتشييد‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 162‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫هالة من القداسة املوهومة لكل تراثها‬ ‫املذهبي‪ ،‬رافضة كل معاين التجديد‬ ‫واالصالح أو التنقية أو التمحيص‬ ‫للموروثات والرؤى املذهبية حول الذات‬ ‫واآلخر واحلياة والوحدة واالختالف‪..‬‬

‫أضف إىل ذلك واقع الرتبية املذهبية؛‬ ‫ألنّنا لو تأ ّملنا يف ّ‬ ‫كل دوائرنا التعصبية‬ ‫الطائفية‪ ،‬لرأينا أهنا جاهلية يف أساليبها‪،‬‬ ‫إلغائ ّية يف حركتها‪ ،‬ال تربيّ أتباعها كيف‬ ‫تعرب عن ذواهتا‪ ،‬وكيف تتفاعل مع‬ ‫اآلخرين؟؟‬ ‫إن هذا الواقع الطائفي الكاسح‬ ‫لربوع العامل االسالمي‪ ،‬أوجد ديانات‬ ‫ومهية داخل الدين االسالمي‪ ،‬التحفت‬ ‫بعنوان ملكية احلقيقة االسالمية‪ ،‬إما‬ ‫لتاليف اختبار الرحابة االسالمية أو لتمويه‬ ‫احلقائق أو لالستقواء عىل األفرقاء داخل‬ ‫احلال االسالمية العامة‪ ،‬غري آهبة بمدى‬ ‫رشعية أساليبها إسالميا يف املواجهة مع‬ ‫املذاهب األخرى‪ ،‬يف حني ملكية احلقيقة‬ ‫املفروض أهنا تدفع صاحبها لدعوة اآلخر‬ ‫أيا كان‪ ،‬للقاء واحلوار والنقاش علمي ًا‪،‬‬ ‫من موقع متكنه املعريف وثقته بحججه‬ ‫وإحاطته بمعامل احلقيقة االسالمية‬ ‫وليس العكس‪ ،‬ألن اإللغاء والتهميش‬ ‫واإلقصاء واالضطهاد لآلخر‪ ،‬هو يف‬ ‫الواقع ثقافة الطغاة والفراعنة املفعمني‬ ‫باخلوف والقلق والشك‪ ،‬هلذا كانت غالبية‬ ‫املذاهب االسالمية البائدة واملستمرة عرب‬ ‫التاريخ ارهاصات لرصاع اإلرادة بني‬ ‫العقل االسالمي واألهواء السياسية‪ ...‬إن‬ ‫الواقع املذهبي ال يزال إىل يومنا هذا ـ‬ ‫يقيم حواجز نفسية وسدود ثقافية‪،‬‬

‫تثري العصبيات والنعرات الطائفية داخل‬ ‫جمال احلال االسالمية‪ ،‬فاخلطاب املذهبي‬ ‫والسلوك املذهبي واملوقف املذهبي‪،‬‬ ‫تنطلق كلها يف الغالب األعم من التقسيم‬ ‫العنرصي ملكونات احلال االسالمية‪،‬‬ ‫فاملجتمعات املسلمة ينظر إليها بثقافة‬ ‫املذهبة (السنة‪ ،‬الشيعة‪ ،‬اإلباضية ‪...‬إلخ)‬ ‫وأحيانا تصل التقسيامت إىل مستوى النانو‬ ‫مذهبية‪ ،‬يعني حتى داخل املذهب الفرعي‬ ‫داخل الطائفة الواحدة حيصل التقسيم‪،‬‬ ‫ألن الرهاب املذهبي الغالب عىل رواد‬ ‫الطائفية عرب الزمن االسالمي كله‪ ،‬هو‬ ‫نتاج رصاع االرادة بني العقل الديني‬ ‫اخلالص مع اهلوى املذهبي السيايس املارد‪،‬‬ ‫مما جعل مرشوع الوحدة يف خماض عسري‬ ‫داخل احلال االسالمية‪...‬‬ ‫حيث نتساءل بكل شفافية ووضوح‪:‬‬ ‫ما مدى التزامنا بالقيم االسالمية العامة‬ ‫قبال هيامنا يف األوهام الطائفية؟ بل أكثر‬ ‫من ذلك‪ ،‬يصبح املسلم املنتمي ملذهب‬ ‫مغاير ملذهب البعض‪ ،‬غريب ًا وال جيد‬ ‫مكانا تأوي روحه إليه بجرأة!! يف ظل‬ ‫هذه العنرصية املذهبية‪ ،‬جيب أن يدق‬ ‫ناقوس اخلطر بخصوص الثقافة الطائفية‬ ‫التي جعلت من املذهب املتمرد عنوان‬ ‫االنتامء لإلسالم واالجتهاد والتصنيف‪،‬‬ ‫يف حني احلقيقة االسالمية من خالل‬ ‫الكتاب والسنة‪ ،‬مل تنطلق يف الواقع من‬ ‫خالل العصبيات وااللغاء والتهميش‬ ‫والعنرصيات القبلية والطائفية‪ ،‬بل‬ ‫رسمت أروع لوحة للتنوع يف ظل الوحدة‬ ‫وجسدت أمجل صور التثاقف الفقهي‬ ‫والثقايف واالجتامعي عرب التاريخ البرشي‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪163‬‬ ‫الديني‪ ،‬بينام جل الرصاعات الطائفية‬ ‫العنرصية هي نتاج االستكبار الطائفي‬ ‫واهلوى السيايس والتنكر للحقائق‬ ‫الساطعة يف الكتاب والسنة‪...‬‬

‫ويف ذات السياق ال ننسى تلك الثلة من‬ ‫علامئنا األبرار من كل املذاهب االسالمية‪،‬‬ ‫رواد الوحدة والتسامح والتنسيق من أجل‬ ‫إحياء األمة االسالمية الواحدة الشاخمة‬ ‫بتنوعاهتا والصامدة بتعاون كل‬

‫مذاهبها ومدارسها األصولية والفقهية‬

‫والفكرية‪ ،‬الذين أغنوا أصالة الوحدة‬ ‫يف الوعي االسالمي بالبحث والتأسيس‬ ‫والتثقيف‪ ،‬لكن تبقى معضلة واقعنا تتحدد‬ ‫يف تراوح الواقع املذهبي بني العقالنية‬ ‫االسالمية والعنرصية الطائفية‪...‬‬

‫وبني املذهبة واألسلمة‪ ،‬يف ظل‬ ‫االحتقان املذهبي والنكوص والرهاب‪،‬‬ ‫كأعراض للحال االسالمية التائهة‬ ‫بخصوص مرشوع الوحدة‪ ،‬تثار العديد‬ ‫من عالمات االستفهام‪ ،‬لتستزيد من‬ ‫دقة التفكر إلدارة أزمة الواقع املذهبي‬ ‫واالرتقاء إىل إجياد احللول العملية‬ ‫للمشاكل االسالمية التي متثل عائقا أمام‬ ‫وحدة املذاهب االسالمية‪ ،‬كل ذلك من‬ ‫أجل الرقي بحاالت التعارف والتسامح‬ ‫والتعايش والتعاون‪ ...‬ثم إن النرجسية‬ ‫املذهبية املتفاقمة عرب الزمن االسالمي‪،‬‬ ‫أدت إىل اضمحالل ظاهرة التعارف بني‬ ‫املذاهب وتغطية حقائق وحدة األصول‬ ‫وانتفاء معامل االجتهاد وحقائقه‬ ‫ومقاصده يف التفاعل املذهبي ‪...‬‬ ‫هناك رهاب مذهبي حقيقي وواقعي‪،‬‬ ‫فكل جهة مذهبية تسعى لإلشهار‬

‫بآرائها وتصوراهتا وفتاواها ورجاالهتا‬ ‫ومرجعياهتا‪ ،‬حيث لكل إشهار (تصور‬ ‫وهدف وأسلوب)‪ ،‬ولكن الغموض‬ ‫الذي يكتنف هذا املثلث هو الذي جعل‬ ‫املذاهب االسالمية خترج من العقالنية‬ ‫إىل العنرصية‪ ،‬مما جيعلنا أمام واقع مذهبي‬ ‫بحاجة لفتح نوافذه عىل اهلواء الطلق‬ ‫االسالمي‪ ،‬بدال من البقاء داخل غرف‬ ‫الطائفية‪ ،‬التي تفقد العقل الديني تركيزه‬ ‫وجتعل القامات املذهبية تستغرق يف اهلوى‬ ‫املذهبي الضيق‪...‬‬

‫ـ الطائفية‪ :‬املفهوم واحلصاد‬

‫إن الطائفية عنوان تطالعنا به‬ ‫الصحف والفضائيات والكتب واألفالم‬ ‫واملرسحيات وصفحات النت‪ ،‬وكل‬ ‫ما هنالك من وسائل اإلعالم والثقافة‬ ‫واالتصال‪ ،‬إن هذا املصطلح أخذ مدى‬ ‫بعيد ًا وعميق ًا جدا يف جغرافيتنا العربية‬ ‫واإلسالمية حتى اكتسب احلصانة القومية‬ ‫والقداسة الدينية‪ ،‬فأصبح تداول مقوماته‬ ‫يف أوساطنا أكثر من حمددات األخوة‬ ‫القومية واإلسالمية اجلامعة لكل املتنوع‬ ‫الشعبي والقبيل‪ ،‬هذا الواقع مل يأت من‬ ‫فراغ طبعا فهناك مسببات ومسهالت‬ ‫وأجندات دقيقة تتعلق بموضوع الطائفية‪،‬‬ ‫وإال لكانت جمتمعاتنا األكثر متدنا وتعايشا‬ ‫وتساحما وإنسانية من غريها بالرجوع‬ ‫خلصائص االجتامع اإلسالمي‪.‬‬

‫ال مناص أن احلديث حول الطائفية‬ ‫هو بالعمق ليس حديث االجرتار للهم‬ ‫االجتامعي والسيايس والغبن الثقايف‬ ‫يف تفاصيل احلياة العربية واإلسالمية‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 164‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املعارصة‪ ،‬وإنام هو حديث غرضه التفكري‬ ‫يف تنمية شبكة العالقات العامة بني‬ ‫مكونات ظاهرة الطائفية والتي تتمثل يف‬ ‫الطوائف املتغايرة واملتوجس بعضها من‬ ‫بعض داخل املجال اجلغرايف والسيايس‬ ‫واالجتامعي واالقتصادي الواحد وحتى‬ ‫الديني‪ ،‬وهذه التنمية التي نستهدفها‬ ‫صورهتا الشاملة "األمة" وحركتها‬ ‫املبتغاة "التعايش"‪ ،‬يعني ملاذا نتحدث‬ ‫عن الطائفية من خالل التفكري الرجعي‬ ‫الضيق وهل الطائفية كظاهرة إنسانية‬ ‫وجدت لغاية االصطفاف أم ألمر آخر؟‬ ‫هذه أسئلة أساسية وحمورية يف مرشوع‬ ‫وعي مفهوم الطائفية‪ ،‬ولعل من مسببات‬ ‫شيوع التفكري الرجعي يف الطائفية أكثر‬ ‫من التفكري االسرتاتيجي هو معضلة‬ ‫عقدة القابلية للجمود يف داخل العنرص‬ ‫الطائفي‪ ،‬حيث الطائفة التي تعمل عىل‬ ‫فتح جماالهتا عىل اهلواء الطلق تعترب بمرتبة‬ ‫أسمى وأكثر حضارية يف وعي ماهية‬ ‫الطائفية يف عمقها الوجودي أما العكس‬ ‫فيرتتب عىل ارهتاهنا لعقدة اجلمود‪،‬‬ ‫عدوانية عنرصها البرشي واضمحالل‬ ‫مقدراهتا اإلنسانية لدرجة االنتقام‬ ‫الطائفي النابع من خمزون االكتئاب داخل‬ ‫الطائفة اجلامدة وتراكم حاالت التعصب‬ ‫من جراء التخمر وانعدام التهوية الفكرية‬ ‫والثقافية واإلنسانية‪ ،‬وهذه املقاربة ملفهوم‬ ‫الطائفية يف شقيه اجلامد واحلركي‪ ،‬يمكن‬ ‫وعي تفاصيلها بالعودة لنظرية الثقافة عند‬ ‫املفكر مالك بن نبي وحتديدا عامل األفكار‬ ‫يف العامل االسالمي وثقافة التعايش‪ ،‬بصيغة‬ ‫مبسطة هناك سقوط اجتامعي حاصل لدى‬

‫الطائفة التي حتجب طائفيتها عن احلاالت‬ ‫الطائفية األخرى القريبة واملتداخلة معها‬ ‫يف العديد من جماالت احلياة‪...‬‬

‫فالطائفية سلعة رائجة هذه األيام‪،‬‬ ‫هناك من يعرب عنها يف سياق خطاباته‬ ‫االنفعالية وآخر يوظفها يف طبخاته‬ ‫املصلحية والباقي جيسدها أكمل جتسيد‬ ‫عرب العجب املذهبي والبهرجة االعالمية‬ ‫والفوىض السياسية‪ ،‬حيث ال أحد يقبل أن‬ ‫يوصف هبا إال أولئك الذين بال نرياهنا ال‬ ‫تأثري هلم (سياسيا أو اعالميا أو مذهبيا)‪...‬‬

‫الطائفية يف تعريفها البسيط‪ ،‬هي‬ ‫الكذب عىل الذات واجلامعة عرب ارباك‬ ‫الواقع باملتناقضات بام حيقق التأزيم اهلادف‬ ‫لفرض العصبية‪ ،‬والطائفية هي نتاج بروز‬ ‫حالة التهاب بالعقل اجلمعي العام‪،‬‬ ‫وخطورهتا ملا ترتبط بالسياسة والدين‪،‬‬ ‫ودعائمها األساسية هي االستبداد بشكل‬ ‫عام يف شتى جماالت احلياة‪ ،‬وكلام دققنا يف‬ ‫حيثياهتا الفنية والعملية‪ ،‬وجدناها أفيون‬ ‫الشعوب‪ ،‬ألهنا تفسد العقل اجلمعي فال‬ ‫يلتفت إىل السبل واملناهج واألدوات‬ ‫احلضارية العادلة للوصول لالستقرار‬ ‫السيايس واالجتامعي‪ ،‬والطائفية ال‬ ‫يمكنها أن تعيش يف واقع قائم عىل ثقافة‬ ‫احلوار والتعارف والتسامح والتعايش‬ ‫والتعاون والتشاور والتواصل والوحدة‬ ‫وما هنالك من قيم التمدن والتحرض‪،‬‬ ‫لذلك من مؤرشات تفيش الطائفية يف أي‬ ‫جمتمع‪ ،‬أن جتد بعض أفراده ال يستحون‬ ‫من رضب االعراف واألخالق والقيم‬ ‫االجتامعية‪ ،‬عرب الرتويج للعصبيات‬ ‫اجلاهلية وتضخيم املشاكل والتشكيك يف‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪165‬‬ ‫النوايا والتعامل عىل أساس االنتامءات‬ ‫الذاتية واحلزبية واجلهوية‪...‬هذا من جهة‪.‬‬

‫ومن جهة أخرى‪ ،‬نكتشف الطائفية‬ ‫ككذب يف بعدها الواقعي‪ ،‬حيث ما بني‬ ‫السياسة الرشعية واألحكام السلطانية‪،‬‬ ‫بون شاسع كالذي بني املرشق واملغرب‪،‬‬ ‫وحديث السياسة الرشعية هذه األيام نراه‬ ‫متكاثر باإلعالم بجل أشكاله وبخاصة‬ ‫باملنابر الدينية‪ ،‬ألن األحكام السلطانية‬ ‫التهمت كل احلقيقة وجعلت الضحية جالدا‬ ‫وخائنا وعميال‪ ...‬وخطورة الكذب ليست‬ ‫كونه كذب فقط ولكن عندما ال يتوب عنه‬ ‫صاحبه ويتامدى يف نسج األكاذيب وتلفيق‬ ‫التهم وطرز املؤامرات‪ ،‬يف هذه احلال‬ ‫يتعاظم األمر ويصبح هذا الكذاب مريضا‬ ‫نفسيا لدرجة اإلجرام‪ ،‬ألن الكذب قد‬ ‫سيطر عىل كل كيانه فدخل مرتبة الشيطنة‬ ‫يصدق باحلقيقة‬ ‫بامتياز‪ ،‬حيث ال يمكنه أن ْ‬ ‫ألن الكذب صار يف وعيه صدقا‪!...‬‬ ‫ثم حتى لو حاول الصدق َّ‬ ‫كذبه‬ ‫عود الناس الكذب فال ُينتظر‬ ‫الناس‪ ،‬كونه ّ‬ ‫منه الصدق أبدا‪...‬‬ ‫هذا عىل املستوى الفردي ونفس‬ ‫املعطى نلحظه يف االجتامع السيايس‬ ‫ابتداءا من السيايس املحتال والنائب‬ ‫اخلداع واحلاكم املراوغ وصوال إىل النظام‬ ‫السيايس ككل‪ ،‬ومن هنا تولد األحكام‬ ‫السلطانية‪ ،‬يعني حسب طبيعة النظام إما‬ ‫مزيفة أو حقيقية‪ ،‬بينام السياسة الرشعية‬ ‫فهي التأسيس النظري للحكم السيايس‬ ‫يف املجتمع الديني (بحسب رشيعة هذا‬ ‫الدين) لكن هذا التعبري عرف بأدبيات‬ ‫التاريخ السيايس اإلسالمي‪ ،‬وغاية‬

‫املطلوب أن نخلص السياسة الرشعية من‬ ‫استثامرات األحكام السلطانية‪...‬‬

‫إذن الطائفية هي من منتجات األحكام‬ ‫السلطانية وليست من السياسة الرشعية‪،‬‬ ‫حيث احلالل بني واحلرام بني‪ ،‬وكل من‬ ‫يتعرض لثورات الشعوب بالتحليل‬ ‫الطائفي يصنف ضمن كتاب الزيت كام‬ ‫اسامهم الشاعر أمحد مطر أو علامء السلطان‬ ‫وإعالميو البالط وما أكثرهم هذه األيام‬ ‫حيث يتسابق الليرباليون املتدينون(!!)‬ ‫لتزيني الصحف والفضائيات بكذبات‬ ‫النجوم واألهلة‪...‬‬ ‫والطائفية هي الدجل اإلعالمي‬ ‫والتنكيل السلطاين بالشعوب حتت مسمى‬ ‫الواجب الرشعي جتاه املذهب ومحايته‪،‬‬ ‫والرشيعة السمحة براء من الطائفية املقيتة‪،‬‬ ‫ألن السيناريو املعد هلا قديم جدا‪ ،‬راهن‬ ‫عليه األغبياء ونكصوا‪ ،‬أما مساحيق‬ ‫الكذب فلن تنفع يف متريره وتربيره‪ ،‬ومهام‬ ‫حاول القائمون عليه بالبورصة واإلعالم‬ ‫والفتوى‪ ،‬فإنه حمكوم عليه بالفشل‪ ،‬ألن‬ ‫القرار اإلهلي حاسم وليس بعد احلق إال‬ ‫الضالل‪...‬‬

‫من‬ ‫لألسف كل ما نشهده‬ ‫الربوتوكوالت والتحليالت والقراءات‬ ‫والسجاالت حول الوحدة بعقلية‬ ‫الطائفية‪ ،‬هي يف العمق ال تساوي شيئا‬ ‫سوى نكوص جديد وخطري يمر به العامل‬ ‫اإلسالمي بكل مكوناته املرممة‪ ،‬مما جعل‬ ‫اإلنسان املسلم يف وسط سيناريو رهيب‬ ‫ومربمج بمؤامرة حمبوكة بدقة عالية‪ ،‬وتيار‬ ‫هذا التحدي املامثل ألفالم هوليود‪ ،‬خلط‬ ‫األوراق كلها بمسمى "الفوىض اخلالقة"‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 166‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫بعدما أفرغت األجيال من عناوين األصالة‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬بمباركة من األنظمة املتوجسة‬ ‫عىل عروشها وغفلة من جمتمعات بأسها‬ ‫بينها شديد ضمن الفتات القبيلة واملذهب‬ ‫والدين واحلزب‪ ،‬لدرجة أصبحت مباراة‬ ‫بطوالت كرة القدم األوروبية أو العاملية‬ ‫تستقطب ماليني الشباب والشابات‬ ‫املفتونني بالعب أرجنتيني أو فنان‪(/‬ة)‬ ‫تركي‪(/‬ة) أو مطرب‪(/‬ة)‪!!!...‬‬ ‫ترى هل مشكلتنا سياسية فقط أم هي‬ ‫يف العمق استقالة اجتامعية من الواجب‬ ‫الديني احلر ؟‬

‫املأزق السيايس هو صورة هلشاشة‬ ‫ثقافية يف عظام اجتامعنا االسالمي العام‬ ‫ليس السيايس فقط بالعكس مفهوم املدنية‬ ‫الذي وظفناه سلبيا سمح للسياسة أن‬ ‫حيركها املصلحي واملنافق وما هنالك‬ ‫من الظاملني ألنفسهم ولألمة واألجيال‬ ‫الصاعدة‪ ،‬كام فرطنا يف املنرب النبوي أن‬ ‫يصعد وخيطب عليه من هب ودب ممن‬ ‫ال يتقي اهلل يف األمة ووحدهتا فيدخل‬ ‫للجنة أو النار من يشاء عىل شاكلة صكوك‬ ‫الغفران لكن بأسلوب التمويه املذهبي‪،‬‬ ‫وانتهينا إىل صناعة التباغض املذهبي يف‬ ‫أحشاء شعوبنا بدال عن التعارف املذهبي‪،‬‬ ‫حتى صارت الدعوة للتعايش والتسامح‬ ‫واجب إثباهتا بينام الطائفية فهي العرف‬ ‫السائد‪!!!...‬‬ ‫فام نراه يف البحرين وليبيا وسوريا‬ ‫واليمن ومرص وتونس وبالسودان ويف‬

‫لبنان كالعادة‪ ،‬ما هو إال حصاد مواسم‬ ‫من الطائفية بكل أشكاهلا املذهبية والدينية‬ ‫واالثنية‪...‬التي أهلكت الزرع والنسل‪،‬‬ ‫وال نزال نتجادل ونتبادل التهم والتكفري‬ ‫والتهجري والتنكيل والتهميش بينام من‬ ‫لن يرىض عنا حتى نتبع ملته‪ ،‬يتفنن يف‬ ‫التكتل والتخطيط والتنظيم والرتشيد‬ ‫ملجتمعاته ويزداد تركيزا لثقافات التعايش‬ ‫واحلوار والتسامح والتواصل والتكافل‬ ‫والتعاون‪...‬ألسنا أحق باالستقامة من‬ ‫غرينا‪ ،‬ويبقى خري اهلدي هدي اهلل أحكم‬ ‫احلاكمني‪﴿ :‬إِ َّن ا َّل ِذي َن َقا ُلو ْا َر ُّبنَا اللهَُّ‬ ‫اس َت َقا ُمو ْا َف َ‬ ‫ف َع َل ْي ِه ْم َوالَ ُه ْم‬ ‫ال َخ ْو ٌ‬ ‫ُث َّم ْ‬ ‫(األحقاف‪)13:‬‬ ‫يحَ ْ َزن َ‬ ‫﴿و َأ َّل ِو‬ ‫ُون﴾‬ ‫وقوله تعاىل‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫َاهم َّمآ ًء‬ ‫اس َت َقا ُمو ْا َعلىَ ال َّط ِري َقة ألَ ْس َق ْين ُ‬ ‫ْ‬ ‫(اجلن‪)16:‬‬ ‫‪.‬‬ ‫َغدَ قا﴾‬ ‫الطائفية يف واقعنا االسالمي مفهوم‬ ‫يتحرك يف فوىض الثقافة‪ ،‬لذلك مل يتمكن‬ ‫من االرتقاء إىل ظاهرة التعايش أو العيش‬ ‫املشرتك القائم عىل روح األمة الواحدة‬ ‫وثقافة األخوة والتسامح‪ ،‬نأمل أن يتم‬ ‫وعي الطائفية من خالل االطراد الفكري‬ ‫والعميل للجمود ثم استثامر املخزون‬ ‫الطائفي بعد تنقيته يف بناء رصح الوحدة‬ ‫اإلسالمية‪...‬‬ ‫التكفري وانفجار اهلوية(‪:)1‬‬

‫بني الفينة واألخرى تطلع علينا بعض‬ ‫النكرات العلمية والفكرية والسياسية عرب‬ ‫اإلعالم لتنفث سموم التعصب والتكفري‬ ‫والالتسامح بني أطياف األمة اإلسالمية‪،‬‬

‫(‪ )1‬كثري من الباحثني الغربيني الذين راقبوا تفجر الرصاعات القومية واملذهبية بعد تفكك االحتاد‬ ‫السوفيتي عام ‪ ،1991‬مالوا اىل تفسريها كتعبري عام وصفوه بانفجار اهلوية‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪167‬‬ ‫متوسلة بأرقى تقنيات ومنظومات احلداثة‬ ‫وأهبى نتاجات الرتاث الديمقراطي‬ ‫الليبريايل‪ ،‬لكن كل ذلك يف شقه السلبي‬ ‫والالأخالقي‪ ،‬حيث تبنيها للديمقراطية‬ ‫ليس مبدئي ًا ولكنه برغاميت ألجل التعطيل‬ ‫والتأزيم والنفعية‪...‬‬

‫فالتكفري كمفهوم هو مأزق خطري إذا‬ ‫حل بأي جمتمع فيعني أن ثقافة اجلاهلية‬ ‫الحقة به‪ ،‬وهذا يعني أن االستقرار‬ ‫السيايس واالجتامعي مهدد‪ ،‬واألخطر‬ ‫من هذا كله أن يلج التكفري حتت غطاء‬ ‫الديمقراطية ليغدر هبا يف الطريق ويعلن‬ ‫ملكيته احلقيقة املطلقة ثم يصبح املجتمع‬ ‫حتت رمحة الديكتاتورية الطائفية التي‬ ‫حتتمي بني السياسة والدين‪...‬‬

‫واحلديث عن التكفري يدفعنا للتساؤل‪:‬‬ ‫هل لدينا أزمة هوية أم ماذا؟؟‬ ‫الوقائع واألحداث املتالحقة يف حياتنا‬ ‫اليومية بخصوص العالقات واملعامالت‬ ‫وما هنالك من حتديات داخلية‪ ،‬تعرب عن‬ ‫أزمة هوية حقيقية لدى إنساننا وبخاصة‬ ‫لدى نخبنا الثقافية والسياسية والدينية‪،‬‬ ‫فحضور الرصاعات التي يرفضها الرشع‬ ‫اإلسالمي احلنيف واحلس املدين ومبنى‬ ‫التطلع التنموي كلها دليل دامغ عىل هذه‬ ‫األزمة‪...‬‬ ‫وأزمة اهلوية تظهر وتتبلور عندما‬ ‫يصبح اخلطاب السيايس والطائفي‬ ‫االثني والديني واالجتامعي لبني األمة‬ ‫الواحدة‪ ،‬هو خطاب تعبوي طائفي‬ ‫جيعل اهلوية ضبابية الوعي وأول ضحية‬ ‫من ضحايا رصاع اإلرادات السياسية‬ ‫واملذهبية‪ ،‬ولعل الدليل األكرب أن هناك‬

‫أزمة هوية لدى غالبية الرموز والقيادات‬ ‫يف املجال السيايس والديني الطائفي‪ ،‬هو‬ ‫اخللل املنهجي يف التوفيق بني التوظيف‬ ‫الديمقراطي للرمزية الذاتية عرب حق‬ ‫االختالف‪ ،‬فاملعضلة الكربى يف رصاع‬ ‫اإلرادات السياسية والطائفية ضمن جمال‬ ‫اجتامعي عام متعاقد عىل الديمقراطية‬ ‫كإطار لتعايش الرموز مع احلرية‪ ،‬يتمثل‬ ‫يف تعبري اخلصوصية السياسية والدينية‬ ‫املذهبية عن آرائها وانتقاداهتا عرب قناة‬ ‫التطرف وبخطاب التكفري‪!!...‬‬ ‫هناك هواجس وظيفية يف جمال الثقافة‬ ‫السياسية والدينية اإلسالمية‪ ،‬انبثقت‬ ‫من أزمة الرتاث وسلطة التطرف بدال‬ ‫عن احلوار والشورى‪ ،‬مما أنتج تشوهات‬ ‫يف اهلوية اتسعت وجتذرت عرب الطائفية‬ ‫املتوسلة بالتكفري والناشطة بني السياسة‬ ‫والدين واملتوسلة بتكنولوجيات اإلعالم‬ ‫احلديثة‪...‬‬ ‫هذه األزمة أو هذا املأزق املتعلق‬ ‫باهلوية يف نظري فكري معريف النشأة‬ ‫وتتجىل آثاره يف مفهوم التكفري وخطاباته‬ ‫التي تطعن كل اإلمكانات الواقعية‬ ‫العملية لبناء أشكال من التكامل والتشاور‬ ‫والتسامح والتعايش‪ ،‬وعىل هذا األساس‬ ‫نفهم أن هذه األزمة هي يف العمق أزمة‬ ‫مفهوم الرتكيب بني اخلصوصية والوحدة‬ ‫يف احلراك الوجودي للفرد أو اجلامعة‪...‬‬ ‫واحلديث عن أزمة هوية ليس‬ ‫بالرضورة حديث عن هناية االنتامء‪،‬‬ ‫بل هو دعوة إلدارة األزمة عرب تناول‬ ‫املكونات واملرتكزات بالبحث والتوظيف‬ ‫احلضاري‪ ،‬ألن اهلوية هي أول عنوان‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 168‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫نتحسسه عند الشعور بأن هناك خطر ًا‬ ‫حمدق ًا بمصرينا‪ ،‬واليوم لألسف هناك‬ ‫جهات وطوائف عدة تئن من أزمة اهلوية‬ ‫بشكل هستريي‪ ،‬ومغزى ذلك كله أهنا‬ ‫هترب نحو خداع الذات اخلصوصية بخلق‬ ‫عدو ومهي حتى ال تواجه العدو احلقيقي‬ ‫الذي هيدد هويتها اإلسالمية أال وهو‬ ‫االستكبار العاملي‪...‬‬ ‫وعليه فإن سؤال اهلوية من خالل‬ ‫أزمتها النابعة من ثقافة التكفري املستكربة‪،‬‬ ‫تتم اإلجابة عليه وفق معادلة حيرض فيها‬ ‫الرتاث والتجديد واملستقبل وكل تيارات‬ ‫األمة اإلسالمية بكل تنوعاهتا‪ ،‬ألن العوملة‬ ‫الثقافية اآلن ال تفرق بني سني وشيعي أو‬ ‫عريب وتركي وإيراين‪ ،‬حيث اهلروب منها‬ ‫ال يعني اخلالص بل هو صميم االستعباد‬ ‫االمربيايل‪ ،‬ألن الرصاعات داخل اهلوية‬ ‫الواحدة يفشلها وجيعلها أضعف أمام‬ ‫التحديات االستكبارية الراهنة والقادمة‪.‬‬ ‫ثقافة التقديس وتوظيفها الطائفي‪:‬‬

‫ال مناص أنه من بني مسببات الرجعية‬ ‫والتخلف واجلمود عن الوحدة االسالمية‬ ‫بجل أبعادها‪ ،‬ظاهرة التقديس يف فضاءات‬ ‫الثقافة والدين والسياسة واالجتامع‪،‬‬ ‫بالرغم من أن هذا املفهوم بينّ واضح يف‬ ‫لغتنا العربية وثقافتنا اإلسالمية‪ ،‬ولكن‬ ‫الرتاكم التارخيي وجتذر التقليد والتقوقع‬ ‫من جهة‪ ،‬باإلضافة لشيوع ثقافة التعميم‬ ‫التي تنتج التعصب يف شبكاتنا االجتامعية‬ ‫والسياسية‪ ،‬ناهيك عن اجلهل واالستبداد‬ ‫واالستغراق السلبي يف املايض مع تضييع‬ ‫احلارض ودمار املستقبل‪...‬‬ ‫هكذا مع انتشار ظاهرة التقديس يف‬

‫جمتمعاتنا بشكل غري موضوعي وال علمي‬ ‫حصيف‪ ،‬نتج يف املقابل مفهوم التدنيس‪،‬‬ ‫بحيث حدث انقالب يف حياتنا‪ ،‬متظهر‬ ‫يف صور تقديس غري املقدس‪ ،‬مما شوش‬ ‫الوعي اإلسالمي‪!...‬‬

‫مسألة املقدس أو املدنس من املسائل‬ ‫التي تتداول يف التعقيدات الفلسفية‬ ‫والكالمية الدينية‪ ،‬ولعل هذه املسألة‬ ‫ليست من املمنوعات ولكنها ككل‬ ‫املسائل العالقة بحاجة الشتغال علمي‬ ‫معريف ومالمستها بمنهج نقدي متكامل‪،‬‬ ‫يغني الوعي الديني يف البعدين االجتامعي‬ ‫والسيايس ملفهوم القداسة الصحيح‪،‬‬ ‫ويكشف عن التمويه الذي طال صور‬ ‫املقدس وجعلها من عائلة املدنس‪ ،‬ال‬ ‫أطمح من هذه السطور التنكر ملبدأ املقدس‬ ‫يف حياة املسلمني ولكن االستثامر الكمي‬ ‫والكيفي للمقدس يف حتصيل مبتغيات‬ ‫األهواء غري الرشعية‪ ،‬فهذا ما يتعارض‬ ‫مع وعينا اإلسالمي الذي يلتقي باملقدس‬ ‫وفق عقيدة التوحيد‪ ،‬أي منشؤه من اهلل‪،‬‬ ‫وتقديس غري اهلل‪ ،‬هو بمقدار قرب هذا‬ ‫اآلخر من اهلل وليس مزاجيا واعتباطيا‪،‬‬ ‫واإلنسان الذي نعطيه القداسة فبدرجة‬ ‫املؤهالت املتفق عليها عقلي ًا واملحصلة‬ ‫لديه‪ ،‬أما األزمنة واألمكنة فذاك بحسب‬ ‫ما احتوته من معنى روحي يعطي لإلنسان‬ ‫نباهة بمسؤوليته الوجودية احلضارية‪...‬‬ ‫ليس احلديث عن ثقافة التقديس عامة‬ ‫يف جل أبعادها‪ ،‬وإنام إرهاصة بخصوص‬ ‫ثقافة التقديس البعيدة عن روح الرشيعة‬ ‫ودعامة العقل من جهة‪ ،‬واملستغرقة يف‬ ‫املصالح واألهواء ورصاع اإلرادات من‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪169‬‬ ‫جهة أخرى‪ ،‬والتي تضيع يف ظلها احلقيقة‬ ‫واملوضوعية فكريا وثقافيا‪ ،‬ويعطل بسببها‬ ‫التسامح والتعايش والتعاون اجتامعيا‬ ‫وسياسيا‪ ...‬إن ثقافة التقديس تصبح مهدِّ َدة‬ ‫حلارض ومستقبل املجتمعات اإلسالمية‪،‬‬ ‫عندما تتحكم يف العقل السيايس‪ ،‬بحيث‬ ‫ينحرس االشتغال السيايس يف تسجيل‬ ‫النقاط بني املتفاعلني سياسيا‪ ،‬وملا يبدأ‬ ‫العقل يبتكر يف املقدسات واصطناع‬ ‫املدنسات‪ ،‬وتتطور الظاهرة لتنزل لدى‬ ‫أتباع التيارات السياسية‪ ،‬وتتشابك خيوط‬ ‫األزمة السياسية من خالل وهم قداسة‬ ‫الرؤية لدى السياسيني‪ ،‬وتضيع قضايا‬

‫األمة من مواطنة وتنمية يف وسط سجال‬ ‫نابع من ثقافة التقديس املزاجية‪ ،‬التي ال‬

‫حصاد منها سوى العجب الطائفي واحلقد‬

‫التعصبي والفتنة والتخلف عن ركب‬ ‫التمدن والتحرض‪ ...‬ثم إن ثقافة التقديس‬

‫االعتباطي وتوظيفها سياسيا لفرض‬ ‫اآلراء واملواقف واملشاريع واألشخاص‪،‬‬

‫يشكل تالعبا بمصالح الناس ومستقبل‬ ‫األمة ووحدهتا وهنضتها‪ ،‬مما يربز حاجة‬

‫أمتنا لتحديد املقدس يف مشوار التطلع‬ ‫احلضاري‪...‬‬

‫وللبحث تتمة يف العدد القادم‬

‫غريبـي مـراد‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 170‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫اإلســالم والغـــرب‬ ‫صراع أم حوار‬ ‫علـي أيـوب‬ ‫مقدمة‪:‬‬

‫بدأت عالقة اإلسالم بالغرب منذ‬ ‫زمن بعيد‪ ،‬وألسباب عديدة أمهها‪ :‬حالة‬ ‫اجلوار التارخيية واجلغرافية بينهام‪ ،‬لقد‬ ‫كان البحر املتوسط تارخي ًا وجغرافية‬ ‫بني الرشق والغرب‪ ،‬واستطاع الرشق‬ ‫بعد امتطاء البحر نقل معجزات الرشق‬ ‫إىل الغرب‪ ،‬لقد نقلوا احلرف والصنعة‬ ‫والوعي‪ ،‬فكان الرشق بجدارة منذ فجر‬ ‫التاريخ أستاذ ًا للغرب‪ .‬لقد كان البحر‬ ‫األبيض قناة ورشيان ًا لنقل نور الرشق إىل‬ ‫ظلموت الغرب‪ ،‬ولقد كانت األندلس‬ ‫كتاب الرشق يف الغرب‪ ،‬لقد كان الفتح‬ ‫العسكري العريب اإلسالمي لألندلس أقل‬ ‫آثار الفتوحات‪ ،‬فالفتح األكرب كان فتح ًا‬ ‫معرفي ًا بشهادة الغربيني أنفسهم‪ .‬لقد كان‬ ‫هذا الفتح سنة سبع مئة وإحدى عرشة‬ ‫للميالد‪ .‬نقول الفتح العريب لألندلس‬ ‫وليس الغزو‪ ،‬ألن وجود العرب هناك كان‬ ‫بمثابة إشعال الضوء يف أنفاق مظلمة‪.‬‬ ‫ثم تلت مرحلة ضعف الدولة‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وأصبحت هذه البالد عرضة‬ ‫للغزو األورويب الغريب‪ ،‬املتمثل باحلروب‬ ‫التي كان أوهلا احلمالت الصليبية‪،‬‬

‫وصوالً إىل االستعامر الغريب ملعظم البالد‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وذلك بعد احلرب العاملية‬ ‫األوىل‪ .‬واجلدير بالذكر هنا أن االستعامر‬ ‫الغريب كان اهلدف منه إلغاء الشخصية‬ ‫العربية املسلمة‪ ،‬وحتويلها تبع ًا له خلدمة‬ ‫اسرتاتيجيته االقتصادية‪ ،‬والتي ال يمكن‬ ‫إنجاز مرشوعها إال بتدمري الروح العربية‬ ‫املسلمة وسلبها كل قدراهتا املقاومة‬ ‫املعتزة برتاثها اإلنساين اخلصب‪ ،‬ولكن‬ ‫اخلطط الغربية االستعامرية حاولت التقدم‬ ‫بأساليب ناعمة أحيان ًا كثرية كالسم يف‬ ‫الدسم‪ .‬فحملة نابليون بونابرت والتي‬ ‫محلت معها العلامء واملطبعة كانت هتدف‬ ‫إىل إقناع الرشق املسلم بضمور حضارته‬ ‫ورضورة استبداهلا باحلضارة األوروبية‬ ‫اجلديدة‪ ،‬لقد كانت محلة ذكية هادفة‪.‬‬

‫الدخول العريب املسلم إىل إسبانيا‬ ‫مل هيدف إىل إلغاء اآلخر بل نمـّى وعيه‬ ‫وتثاقف معه‪ .‬ورغم كل هذا الرصاع‬ ‫التارخيي ما بني اإلسالم والغرب‪ ،‬ورغم‬ ‫خروج العرب من إسبانيا فقد ظلت آثار‬ ‫املعرفة الرشقية واضحة املعامل يف هنضة‬ ‫الفكر األورويب الذي كانت هنضته والدة‬ ‫مرشقية‪ ،‬فابن رشد كان صاحب املنهج‬ ‫العقيل الذي استند إليه العقل األورويب يف‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪171‬‬ ‫النهوض من سباته املزمن‪ ،‬وابن خلدون‬ ‫كانت نظريته يف احلكم والعمران من أسس‬ ‫النهضة األوروبية‪ ،‬ويف األدب كان التأثري‬ ‫املرشقي واسع ًا يف النتاج األديب والفكري‬ ‫يف الغرب‪ ،‬فالكوميديا اإلهلية لدانتي هي‬ ‫يف حقيقتها استلهام من رسالة الغفران‬ ‫أليب العالء املعري‪ .‬وكل النتاج املعريف‬ ‫الغريب يعرتف بالفيوضات املعرفية التي‬ ‫هنلها من ينابيع الرشق الغزيرة العطاء‪.‬‬ ‫ومل ُ‬ ‫خيل العامل اإلسالمي من تأثريات‬ ‫احلضارة الغربية رغم كل آثامها‪ ،‬فقد‬ ‫نشطت اإلرساليات التبرشية ومحلت‬ ‫للرشق معرفة‪ ،‬كان الرشق من مصدرهيا‬ ‫عىل مبدأ "هذه بضاعتنا ردت إلينا"‪ ،‬لقد‬ ‫نشطت اإلرساليات التبشريية وبخاصة‬ ‫يف مرحلة احلكم العثامين‪ ،‬والتزال قائمة‬ ‫اىل يومنا هذا‪ .‬ولكن تدهور العالقة‬ ‫ما بني العامل اإلسالمي والعامل الغريب‬ ‫ازداد يف تارخينا املعارص‪ ،‬وسبب هذا‬ ‫التدهور هو اجلشع الغريب لنهب بالدنا‬ ‫واملوقف املرتاب من الفكر املرشقي‬ ‫الذي يأبى اخلضوع واالنقالب عىل تراثه‬ ‫الويضء‪ ،‬وكانت البالد العربية ذات‬ ‫الرتبية اإلسالمية اإلنسانية املحتوى‪ ،‬قد‬ ‫حورصت عرب االستعامر العثامين الذي دام‬ ‫أكثر من أربعة قرون عجاف‪.‬‬

‫‪ .I‬اإلسالم والغرب بني احلوار‬ ‫والرصاع إشكالية املصطلح‪:‬‬

‫«دخل مصطلح اإلسالم والغرب‬ ‫قاموس السياسة األوروبية منذ عقدين من‬ ‫الزمن تقريب ًا‪ .‬وتزامن ظهوره مع العديد‬ ‫من التسميات واملصطلحات‪ ،‬التي برزت‬

‫من خالل العقود األخرية ‪ :‬كاإلسالم‬ ‫السيايس‪ ،‬األصولية اإلسالمية‪ ،‬اإلرهاب‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬والسلفية اجلهادية‪ ...‬وغريها‬ ‫من التعابري اللغوية التي تشري إىل ظاهرة‬ ‫اإلسالم املعارص بحسب املفهوم الغريب‬ ‫له‪ .‬فاملصطلح رغم أنه يتضمن اجلمع‬ ‫بني شيئني غري قابلني للمقارنة‪ ،‬الختالف‬ ‫طبيعة كل منهام ّ‬ ‫ظل لصيق ًا بالفكر الغريب‬ ‫الذي اعترب اإلسالم مساوي ًا لإلرهاب‪،‬‬ ‫وكان هذا مقصود ًا كسالح غريب مادي‬ ‫ضد روحانية الرشق كلها وألقها املتناقض‬ ‫مع مادية احلضارة الغربية‪ ،‬فاإلسالم‬ ‫دين اهلي ونظام حياة حيوي قي ًام حمددة‬ ‫ومستقرة‪ ،‬ومفاهيم حضارية تتطور مع‬ ‫الزمن‪ ،‬ويتجاوز احلدود اجلغرافية‪ ،‬تعتنقه‬ ‫شعوب خمتلفة وإثنيات متعددة‪ ،‬جتمع كل‬ ‫(‪)1‬‬ ‫معتنقيه "الثقافة اإلسالمية املوحدة»‪.‬‬ ‫«بينام لفظة الغرب تعني جمتمعات‬ ‫إنسانية ذات ثقافة م ّعينة متغرية ومتحركة‪،‬‬ ‫تعيش هذه املجتمعات يف أقاليم جغرافية‬ ‫معروفة‪ ،‬وال يشكّل الدين املسيحي اهلوية‬ ‫احلضارية لتلك املجتمعات‪ .‬فالغرب اآلن‬ ‫ليس مرادف ًا للمسيحية‪ ،‬وال املسيحية تعني‬ ‫الغرب‪ ،‬فاملسيحية دين قادم من الرشق‪،‬‬ ‫وحيمل مالمح الثقافة الرشقية‪ ،‬واإلسالم‬ ‫حفظ املسيحية يف موطنها‪ ،‬وتعامل‬ ‫املسلمون معها بمنأى عن الغرب‪ ،‬وهي‬ ‫أقرب اليهم من الكيان الغريب القومي‬ ‫(‪)2‬‬ ‫العلامين الالديني»‪.‬‬ ‫«فالتشكيل احلضاري اإلسالمي جماور‬ ‫للتشكيل احلضاري الغريب (املسيحي) ‪.‬وعرب‬ ‫التاريخ كان اتساع رقعة العامل اإلسالمي‬ ‫يتم عىل حساب التشكيل احلضاري الغريب‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 172‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املسيحي والعكس صحيح‪ .‬ويالحظ تشابه‬ ‫العقيدتني اإلسالمية واملسيحية يف كثري من‬ ‫الوجوه‪ .‬ولكن املفارقات أن نقاط التشابه‬ ‫هذه قد تشكّل مصدر توتر‪ ،‬ألن البعض يف‬ ‫العامل الغريب جيد صعوبة يف تصنيف اإلسالم‬ ‫كعقيدة مستقلة هلا رؤيتها املستقلة للكون‪،‬‬ ‫ويصنّفه عىل أنّه جمرد هرطقة مسيحية‬ ‫وانحراف عن اجلوهر الديني الصحيح أي‬ ‫املسيحية‪ ،‬ويفعل بعض املسلمني اليشء‬ ‫نفسه‪ ،‬إذ يصنّفون اإلنجيل عىل أنه كتاب‬ ‫حمرف‪ ،‬وأن اإلسالم هو الدين‬ ‫مقدس ّ‬ ‫(‪)3‬‬ ‫الصحيح«‪.‬‬ ‫وخيتزن مصطلح اإلسالم والغرب‪،‬‬ ‫العديد من القضايا التي جيدوهلا املجتمع‬ ‫واحلكومات الغربية ضمن أجندته‬ ‫يف رؤيته ومعاجلاته لشؤون املسلمني‬ ‫العامة‪ ،‬مثل ذوبان أو اندماج اجلاليات‬ ‫املسلمة املتزايدة‪ ،‬وتفاقم التمييز الديني‬ ‫والعنرصي‪ ،‬والتباين الثقايف والقيمي‪،‬‬ ‫واملوقف من حركات اإلسالم السيايس يف‬ ‫الرشق‪ ،‬وامتداداهتا يف البلدان الغربية‪.‬‬

‫وربام هدف واضعو املصطلح إىل‬ ‫اإلشارة حلركة اإلسالم وتأثريه يف البالد‬ ‫الغربية‪ ،‬أو عالقة الغرب بالعامل اإلسالمي‬ ‫حكومات وشعوب ًا وحركات إسالمية‪،‬‬ ‫ومؤسسات املجتمع املدين اآلخذة يف‬ ‫التطور‪.‬‬ ‫«فهذا املفهوم وهبذه الصورة‪ ،‬يؤجج‬ ‫مشاعر احليطة والتوجس عند الغربيني‪،‬‬ ‫بأن اخلطر القادم إنام هو اإلسالم ومعتنقوه‬ ‫املسلمون‪ .‬كام راج وتعزز بعد هجامت‬ ‫احلادي عرشمن أيلول‪ ،‬ضمن سياسة‬ ‫تبناها بعض الغربيني‪ ،‬تستهدف إقناع‬

‫جمتمعهم بوجود تناقض مع اإلسالم‪،‬‬ ‫وتتمثل يف تبشيع اإلسالم‪ ،‬وتصويره‬ ‫كمصدر للرشور وكهادم للحضارة‬ ‫الغربية‪ .‬ويؤدي تشويه اإلسالم إىل عزل‬ ‫اجلاليات املسلمة يف الغرب ويدفع هبذه‬ ‫األقليات أن تعيش يف "غيتو" منعزلة عن‬ ‫ويكرس اخلوف‬ ‫املجتمعات احلاضنة هلا‬ ‫ّ‬ ‫من اإلسالم‪ .‬وتصنع هذه الرؤية قوى‬ ‫إسالمية متشددة‪ ،‬تستغل مناخات احلرية‬ ‫وحسنات الليربالية‪ ،‬لالنتظام يف قوى‬ ‫(‪)4‬‬ ‫معادية للغرب»‪.‬‬ ‫إذ ًا فمصطلح اإلسالم والغرب‪،‬‬ ‫مصطلح متطور عرب مراحل التاريخ‬ ‫ومطاطي حيتمل عدة تفسريات ونظريات‬ ‫متعاكسة مابني التفسري الغريب لإلسالم‪،‬‬ ‫والتفسري اإلسالمي للغرب‪ ،‬مما جيعلنا‬ ‫ندخل يف حلقة مفرغة‪ ،‬تفرض أحيان ًا‬ ‫رصاع ًا وأحيان ًا أخرى حوار ًا‪ .‬ويظل‬ ‫هاجس الغرب السيطرة عىل خريات بالدنا‬ ‫وتشويه حضارتنا املتنكرة ملادية التفكري‬ ‫الغريب يف كل يشء‪.‬‬

‫‪ .II‬اإلسالم والغرب‬

‫الصورة والعالقات واألزمات الراهنة‬ ‫أ) صورة العالقة ما بني اإلسالم‬ ‫والغرب‬ ‫«تبدي الندوات واملؤمترات والبحوث‬ ‫يف موضوع العالقة ما بني الغرب والعامل‬ ‫اإلسالمي تشعبات كثرية‪ ،‬وخمتلفة يف‬ ‫تفسري هذه العالقة‪،‬مثل العداء بني الرشق‬ ‫والغرب‪ ،‬والشامل واجلنوب‪،‬والتناقضات‬ ‫األساسية والثقافية "صدام احلضارات"‬ ‫هو تفسري يضع العامل اإلسالمي والغرب‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪173‬‬ ‫قطبني متعارضني و متناقضني عىل الدوام‪،‬‬ ‫وهيمل احلقيقة الثابتة األساسية التي تقول‬ ‫إن الثقافات واملجتمعات ليست كيانات‬ ‫ثابتة ودائمة‪ ،‬ولكنها يف حالة تغري دائم‪،‬‬ ‫كام يتجاهل اخللط واملزج الذي جيري بني‬ ‫(‪)5‬‬ ‫الثقافات»‪.‬‬ ‫«فالغرب مل يعد عامل ًا مقترص ًا عىل‬ ‫األوروبيني والرتاث املسيحي‪ ،‬فيوجد يف‬ ‫الغرب اليوم عرشات املاليني من املسلمني‬ ‫الذين حيملون جنسيات دول الغرب‪،‬‬ ‫واستوعبوا نمط احلياة الغربية‪،‬وكان هلم‬ ‫أيض ًا تأثريهم عىل املجتمعات الغربية‪،‬فقد‬ ‫أصبحت تقاليدهم وفنوهنم من العنارص‬ ‫الثقافية يف احلياة اليومية الغربية‪ .‬وكان‬ ‫العامل اإلسالمي مه ًام يف حفظ واستيعاب‬ ‫الرتاث اليوناين الفلسفي واحلضاري‪،‬‬ ‫باإلضافة إىل علومهم وحضارهتم التي‬ ‫أبدعوها‪ ،‬وكانت مدخ ً‬ ‫ال أساسي ًا يف النهضة‬ ‫األوروبية املعارصة‪ ،‬ويف املقابل أيض ًا مل‬ ‫يعد ثمة جمتمع إسالمي خيلو من املؤمترات‬ ‫الغربية‪ ،‬وقد أ ّدت وسائل االتصال احلديثة‬ ‫إىل دخول التأثري الغريب إىل املجتمعات‬ ‫(‪)6‬‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وحتى املحافظة منها»‪.‬‬ ‫ب) االزمات الراهنة‬ ‫ّ‬ ‫إن مأزق احلضارية الغربية مع اإلسالم‬ ‫يف الوقت الراهن‪ ،‬بني عىل سياسات‬ ‫عدائية‪ ،‬وكان لإلدارة األمركية السبق يف‬ ‫رسم خطوطها العريضة‪ ،‬ولكن اخلالف‬ ‫ال يتمثل يف اختالف القيم الدينية بني‬ ‫حضارتني متباينتني (اإلسالم واملسيحية)‪،‬‬ ‫إنام اخلالف األسايس يدور حول املشاكل‬ ‫السياسية يف العاملني العريب واإلسالمي‪،‬‬ ‫والتي صنع جزء منها االستعامر الغريب (بناء‬

‫الكيان الصهيوين عىل أرض فلسطني)‪.‬‬ ‫واجلزء اآلخر يتحمله الفشل الذريع‬ ‫للمشاريع السياسية للدول العربية‪ ،‬وعىل‬ ‫أثر هذين العاملني برز اإلسالم السيايس‪،‬‬ ‫ليس بوصفه احتجاج ًا ضدّ األوضاع‬ ‫القائمة يف الوطن العريب فقط‪ ،‬وإنام بوصفه‬ ‫خطاب ًا يامرس السياسة من خالل العودة‬ ‫إىل الق ّيم الدينية الشعبية‪ ،‬التي هي من‬ ‫صميم احلياة اليومية عند الناس‪.‬‬

‫"صموئيل‬ ‫احلضارات‬ ‫فصدام‬ ‫هنتنغتون" الذي راج بقوة بعد أحداث‬ ‫احلادي عرش من أيلول‪ ،‬وقبله مصطلح‬ ‫االستبداد الرشقي‪ ،‬واألصولية اإلسالمية‪،‬‬ ‫ترسخت وال زالت‬ ‫كلها تؤكد عىل حقيقة ّ‬ ‫يف الذهنية الثقافية الغربية أال وهي أن‬ ‫اإلسالم متخلف يف بنيته األصولية‪ ،‬فهذا‬ ‫عىل سبيل املثال دانييل بايبس يصل إىل‬ ‫قناعة بأن اإلسالم كله أصويل ومتطرف‪.‬‬ ‫وهذا ما يشكل إشكالية كربى تشوب‬ ‫العالقة مابني الغرب واإلسالم‪.‬‬ ‫وتنطوي النظرة الغربية للعامل‬ ‫اإلسالمي عىل تعميم غري منصف‪،‬‬ ‫وحتول وسائل إعالمه إىل تصورات نمطية‬ ‫ّ‬ ‫وحتيزات ضارة‪ ،‬وهو األمر الذي يؤجج‬ ‫املشاعر العنرصية والعدائية نحو كل من‬ ‫ينتمون إىل العامل اإلسالمي دون متييز بني‬ ‫من يعتمدون أسلوب العنف‪ ،‬وبني من‬ ‫يعانون من عواقبه عىل املستوى املحيل‪.‬‬ ‫وبذلك فإن األزمات املتعاقبة ما بني‬ ‫العامل اإلسالمي والغرب ليست جديدة‪،‬‬ ‫فهي مستمرة عىل امتداد التاريخ‪ ،‬ولكن‬ ‫ما زاد من حدهتا يف عرصنا الراهن هو‬ ‫التقنيات احلديثة املستخدمة يف اإلتصال‪،‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 174‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫وأبرزها اإلنرتنت مما سهل وصول األخبار‬ ‫إىل العامة (املسلمة والغربية)‪ ،‬مما زاد من‬ ‫تأجيج اخلالف ما بني هاتني احلضارتني‪.‬‬

‫‪ .III‬اإلسالم والغرب‬

‫معيقات احلوار‬

‫«أمجعت ّ‬ ‫جل النقاشات التي جرت‬ ‫داخل اجلمعية العامة لألمم املتحدة منذ‬ ‫سنة ‪ 1998‬إىل حدود سنة ‪ ،2001‬بصدد‬ ‫احلضارات اإلنسانية‪ ،‬عىل إجيابية التنوع‬ ‫الثقايف كعامل حموري يف إغناء تطور‬ ‫وتقدم اإلنسانية‪ ،‬ورضورة تفعيل احلوار‬ ‫بني خمتلف هذه احلضارات‪ .‬وجاء إعالن‬ ‫اجلمعية العامة لألمم املتحدة بأن سنة ‪2001‬‬ ‫سنة للحوار والتعايش بني احلضارات‪،‬‬ ‫وقد اعتربت معظم القوى الدولية‬ ‫والشعوب املحبة للسالم والتسامح هذا‬ ‫اإلعالن بمثابة ر ّد عميل صارم من جانب‬ ‫املجتمع الدويل عىل كل اخلطابات التي‬ ‫تدعي وتشجع وتتبنى الرصاع والصدام‬ ‫بني خمتلف احلضارات اإلنسانية‪ .‬غري أنه‬ ‫ويف الوقت الذي كانت اجلهود الدولية‬ ‫واإلقليمية جتري فيه عىل قدم وساق‬ ‫نحو تعزيز احلوار بني احلضارات املحلية‬ ‫واإلقليمية والدولية‪ ،‬وخلق جو مناسب‬ ‫لذلك أعادت أحداث نيويورك وواشنطن‬ ‫بتاريخ احلادي عرش من أيلول ‪ 2001‬نظرية‬ ‫(‪)7‬‬ ‫صدام احلضارات بقوة اىل الواجهة»‪.‬‬ ‫أ) موقع اإلسالم ضمن نظرية صدام‬ ‫احلضارات‬ ‫«ظهرت نظرية صدام احلضارات‬ ‫مرة يف مقالة للباحث األمريكي‬ ‫ألول ّ‬ ‫(صاموئيل هانتينغتون)‪ ،‬ضمن عدد‬

‫ملجلة الشؤون اخلارجية صيف ‪،1993‬‬ ‫قبل أن يطورها عىل شكل كتاب‪ ،‬صدرله‬ ‫سنة ‪ ،1996‬وقد حاول من خالهلا حتديد‬ ‫مالمح الرصاع الدويل القائم بعد هناية‬ ‫احلرب الباردة‪،‬ففي هذه النظرية يرى‬ ‫الباحث أن الرصاعات الدولية يف عامل ما‬ ‫بعد احلرب الباردة ستكون رصاعات بني‬ ‫األمم واملجموعات الثقافية واحلضارية‬ ‫املختلفة ال بني الدول‪ ،‬وهو بذلك يؤكد‬ ‫عىل العنرص الثقايف كمحور أسايس‬ ‫لالنقسامات بني الشعوب‪ ،‬وخصوص ًا مع‬ ‫تنامي وبروز اهلوية الثقافية أمام ما يشهده‬ ‫(‪)8‬‬ ‫العامل من حتديث وتنمية إقتصادية»‪.‬‬ ‫«وبخصوص مكانة اإلسالم ضمن‬ ‫هذه النظرية‪ ،‬فهانتينغتون يرى أن (التكتل‬ ‫احلضاري اإلسالمي)‪ ،‬قد يواجه التكتالت‬ ‫احلضارية املجاورة له‪( ،‬املسيحية الغربية‪،‬‬ ‫الكتلةالسالفية املسيحية األرتوذوكسية‪،‬‬ ‫والكتلة اإلفريقية‪ ،‬والكتلة اهلندوسية)‪،‬‬ ‫ويف سبيل تربير وتأكيد هذا الطرح األخري‪،‬‬ ‫يتقدم الباحث بمجموعة من احلجج‪ ،‬فهو‬ ‫يذكر أن الكتلة اإلسالمية مشتتة‪ ،‬وال‬ ‫متتلك مركز ًا قوي ًا مؤثر ًا وقادر ًا عىل التحكّم‬ ‫يف ضبط القوى اإلسالمية يف رصاعات مع‬ ‫حضارات أخرى‪( ،‬الشيشان‪ ،‬البوسنة‪،‬‬ ‫كشمري‪ ،‬فلسطني ‪ )...‬والغريب يف األمر‬ ‫أن هذه احلجة التي تطرح يف الواقع مظاهر‬ ‫ضعف الدول اإلسالمية‪ ،‬وعدم قدرهتا‬ ‫احلالية عىل حتدي الغرب‪ ،‬تتناقض ومقولته‬ ‫هاته التي تقر بخطورة االسالم عىل باقي‬ ‫احلضارات‪ .‬ويضيف بأن هناك حاالت‬ ‫عديدة من العنف تورط فيها املسلمون يف‬ ‫العامل عىل امتداد التاريخ البرشي القديم‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪175‬‬ ‫واحلديث‪ ،‬أكثر من أية حضارة أخرى‪،‬‬ ‫بالشكل الذي يزعم معه بأن اإلسالم دين‬ ‫مواجهة وحروب‪ ،‬وهو ال يميز يف ذلك‬ ‫بني احلاالت التي كان خالهلا املسلمون‬ ‫(‪)9‬‬ ‫مظلومني أو جناة»‪.‬‬

‫تعددت وتناولت ردود الباحثني‬ ‫العرب واملسلمني والغربيني أيض ًا عىل هذه‬ ‫النظرية‪ ،‬فهناك من شكك يف مصداقيتها بناء‬ ‫عىل أن العامل يشهد حالي ًا رصاعات تنطوي‬ ‫عىل خلفيات وأبعاد سياسية واقتصادية‬ ‫واضحة املعامل أيض ًا بني خمتلف الدول‪،‬‬ ‫يف حني الحظ البعض أن هناك صدامات‬ ‫خطرية جتري داخل املجال احلضاري‬ ‫الواحد وليس بني حضارات خمتلفة‪ ،‬بينام‬ ‫اعترب آخرون أن تصور (هانتينغتون)‬ ‫للحضارات والثقافات سطحي للغاية‪،‬‬ ‫فيام أشار أحدهم أن الغرب بإرصاره عىل‬ ‫الصدام يطلب املواجهة‪.‬‬

‫«وبالرجوع إىل موقع اإلسالم ضمن‬ ‫تصور (هانتينغتون) لصدام احلضارات ‪,‬‬ ‫ّ‬ ‫أكّد العديد من الباحثني العرب واملسلمني‬ ‫عىل الطبيعة التواصلية واحلوارية لإلسالم‬ ‫وحضارته من جهة‪ ،‬فيام أكّد بعضهم عىل‬ ‫الصفة العدوانية والتي طبعت احلضارة‬ ‫الغربية سواء يف مرحلتها املسيحية أو‬ ‫(‪)10‬‬ ‫العلامنية من جهة أخرى»‪.‬‬ ‫ويبدو مما سبق أن هذه النظرية وخاصة‬ ‫يف هتويلها ومبالغتها يف تصوير احلضارة‬ ‫اإلسالمية كحضارة خطرية وعدوانية ‪ ,‬تنم‬ ‫عن تش ّبع صاحبها باألفكار التي محلتها‬ ‫بعض الدراسات االسترشاقية املغرضة التي‬ ‫وسمت بمواقفها االستعالئية واالحتقارية‬ ‫جتاه العرب واملسلمني احلضارة اإلسالمية‬

‫بالقتل والعنف والتخلف‪....‬‬

‫ب) الصورة النمطية لإلسالم يف‬ ‫الغرب وبعض تداعياهتا‬ ‫منذ فرتة الفتوحات اإلسالمية األوىل‪،‬‬ ‫والعالقات بني اإلسالم والغرب يشوهبا‬ ‫نوع من االلتباس والغموض والفهم‬ ‫اخلاطىء‪ ،‬حيث ظل اإلسالم يف نظر‬ ‫العديد من الغربيني ذلك اآلخر الرببري‬ ‫الغازي احلاقد واملحارب‪ ...‬ولذلك نجد‬ ‫عدة دراسات استرشاقية استهدفت منذ‬ ‫عدة عصور وإىل اآلن االسالم وتوخت‬ ‫تشويه صورته يف الغرب والعامل‪.‬‬

‫«إرتبط سوء فهم الغرب لإلسالم‬ ‫من خالل عدم التمييز بني ما هو من‬ ‫صلب الدين‪ ،‬وما هو ناتج عن الظروف‬ ‫االجتامعية والسياسية واالقتصادية‪.‬‬ ‫ويتمظهر هذا الفهم الضيق واملنحرف‬ ‫لإلسالم من خالل وضع اإلسالم ضمن‬ ‫إطار ما يعرف (باالستبداد الرشقي)‬ ‫وتعميم التشدد والقسوة والتعصب‬ ‫و(اإلرهاب) والالعقالنية والتخلف عىل‬ ‫(‪)11‬‬ ‫الثقافة اإلسالمية برمتها»‪.‬‬ ‫«وبعد سقوط االحتاد السوفيايت يف‬ ‫بداية التسعينات من القرن املايض‪ ،‬برز‬ ‫تيار فكري يف الغرب جيعل من اإلسالم‬ ‫عدو ًا للغرب بدي ً‬ ‫ال من الشيوعية‪ ،‬ويف‬ ‫نفس السياق تم تداول عدة مصطلحات‪،‬‬ ‫وتم ربطها باإلسالم من قبيل (التعصب‬ ‫اإلسالمي)‪( ،‬التطرف اإلسالمي)‪،‬‬ ‫(اإلرهاب اإلسالمي)‪( ،‬اخلطر االسالمي)‬ ‫(‪)12‬‬ ‫و(اخلطراألخرض)‪.»...‬‬ ‫«ورغم ّ‬ ‫أن معظم أنظمة البلدان‬ ‫اإلسالمية تربطها عالقات و ّدية مع‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 176‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الغرب‪ ،‬ورغم املشاكل السياسية‬ ‫واالجتامعية واالقتصادية التي تعيشها‬ ‫معظم هذه البلدان‪ ،‬فإن هناك داخل‬ ‫الغرب من يبالغ يف إثارة اخلوف والقلق‬ ‫من (اخلطر اإلسالمي) عرب استنتاجات‬ ‫خاطئة‪ ،‬تضفي طابع التطرف والتشدد‬ ‫ومعاداة الغرب عىل كل مسلم أينام كان بناء‬ ‫عىل سلوكيات استثنائية يقدم عليها بعض‬ ‫األشخاص أو اجلامعات‪ .‬ومن خالل ما‬ ‫سبق‪ ،‬يمكن القول ّ‬ ‫إن رصاع الغرب مع‬ ‫اإلسالم هو واقع‪ ،‬وجار يف امليدان عىل‬ ‫خمتلف الوجهات‪ ،‬ومن خالل السياسات‬ ‫التعسفية التي تستهدف حمارصة اإلسالم‪،‬‬ ‫والتضييق عىل املسلمني يف كل مكان‪،‬‬ ‫وهي السياسات التي تغطيها الترصحيات‬ ‫الرسمية املزيفة الداعية للحوار والتعايش‪،‬‬ ‫وهي سياسات تنطوي عىل خلفيات‬ ‫(‪)13‬‬ ‫اقتصادية وسياسية وعسكرية»‪.‬‬ ‫وأخري ًا ّ‬ ‫إن األصل يف عمق وطبيعة‬ ‫احلضارات‪ ،‬هو التحاور والتشابك‬ ‫والتواصل‪ ،‬ولذلك ّ‬ ‫فإن الرصاع حتى وإن‬ ‫اختذ مظهر ًا ثقافي ًا غالب ًا ما تكون وراءه‬ ‫دوافع سياسية واقتصادية أكثرمنها ثقافية‪،‬‬ ‫وهي اخللفيات التي طاملا عكّرت صفو‬ ‫احلوار بني احلضارات‪ .‬ولقد شهد املجتمع‬ ‫الدويل تداخ ً‬ ‫ال وتعدد ًا يف العالقات بني‬ ‫خمتلف الشعوب واألمم يف شتى املجاالت‬ ‫وامليادين بالشكل الذي جيعلنا نستبعد‬ ‫كلي ًا نظريات املواجهة أو القطيعة حلساب‬ ‫التواصل‪ ،‬لكن الترصحيات والسلوكيات‬ ‫املستفزة االستثنائية التي تصدر من حني‬ ‫آلخر عن بعض اجلهات التي تعتقد‬ ‫أهنا متثل اإلسالم واملسلمني‪ ،‬ويمكن‬

‫أن تشوش عىل هذا التواصل واحلوار‬ ‫الرضوريني واحلتميني هي ضد اإلسالم‬ ‫نفسه وليست دفاع ًا عنه‪.‬‬

‫‪ .IV‬احلواجز االجتامعية والثقافية‬

‫بني اإلسالم والغرب وطرق إزالتها‬

‫تعددت احلواجز االجتامعية والثقافية‬ ‫بني اإلسالم والغرب من خالل ظهور‬ ‫ثقافة العداء املتبادل بني العاملني الغريب‬ ‫واإلسالمي‪ ،‬وتعود فكرة العداء املتبادل‬ ‫بني العاملني الغريب واإلسالمي إىل مراحل‬ ‫تارخيية متعددة‪ ,‬حيث يكشف التاريخ‬ ‫العالقة ما بني الغرب والعامل اإلسالمي‬ ‫عن مواجهة عسكرية‪ ،‬وعن تبادل سلمي‬ ‫وثقايف للفوائد املشرتكة‪ ،‬ولكن يبدو أن‬ ‫الوعي التارخيي للعالقة تشكّل عرب فرتات‬ ‫املواجهة‪ ،‬فبالنسبة للمسلمني يصعب حمو‬ ‫الذكريات التارخيية التي خ ّلفها الصليبيون‪,‬‬ ‫فقد أصبحت (الصليبية) مصطلح ًا‬ ‫مشحون ًا بالغزو واملذابح واهليمنة‬ ‫والتعصب الديني‪ .‬وكان لالستخدام غري‬ ‫املوفق ملصطلح (احلملة الصليبية) من قبل‬ ‫الرئيس االمريكي السابق جورج بوش‬ ‫للداللة عىل حربه ضد ما يعتربه إرهاب ًا أثر‬ ‫يعيد املعاين والذكريات نفسها للحروب‬ ‫الصليبية السيئة الذكر بالنسبة للمسلمني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«فإن املسلمني كانوا‬ ‫ويف املقابل‬ ‫يمثلون العدو للغرب منذ معركة بواتيه‬ ‫عام ‪ 732‬م عىل حدود فرنسا وحتى هزيمة‬ ‫العثامنيني عام ‪ 1673‬م يف فيينا وشكّلوا‬ ‫هتديد ًا كبري ًا‪ .‬وكانت الفرتة التي أعقبت‬ ‫سقوط القسطنطينية عام ‪1453‬م بيد‬ ‫األتراك العثامنيني واالجتياح من قبل تركيا‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪177‬‬ ‫املسلحة ذات أثر عدائي حتى أصبحت‬ ‫كلمة تركي مصطلح ًا يطلق عىل املسلمني‬ ‫(‪)14‬‬ ‫يف الغرب»‪.‬‬

‫كل هذه األحداث التي مرت عرب‬ ‫التاريخ إىل يومنا هذا ثبتت ثقافة العداء‬ ‫بني اإلسالم والغرب‪ ،‬مما يشكّل حاجز ًا‬ ‫كبري ًا بني العاملني اإلسالمي من جهة‬ ‫والغريب من جهة أخرى‪ .‬ولكن وعىل‬ ‫هامش هذه احلروب‪ ،‬كان ال بدّ من‬ ‫تواصل إجيايب حدث بني العاملني من‬ ‫خالل التبادل الثقايف والعلمي‪ ،‬حيث‬ ‫كان الطالب األوروبيون الذين درسوا يف‬ ‫اجلامعات اإلسالمية بإسبانيا يف العصور‬ ‫الوسطى يمثلون حالة شبيهة بالطالب‬ ‫الذين هياجرون اليوم إىل الغرب للدراسة‬ ‫يف جامعاهتا‪ .‬وهذا يدل عىل إجيابية يف‬ ‫التواصل ما بني اإلسالم والغرب‪.‬‬ ‫ولعبت ثقافة اإلسترشاق دور ًا كبري ًا‬ ‫يف بناء حاجز بني اإلسالم والغرب من‬ ‫املشوهة التي نقلها عن‬ ‫خالل الصور‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالم‪ .‬فكان االسترشاق بمثابة املورد‬ ‫الفكري الرئييس إلنتاج وتناول الصور‬ ‫املشوهة عن اإلسالم ويستخدم الغرب‬ ‫ّ‬ ‫هذه الصور بوصفها أداة لتربير اهليمنة عىل‬ ‫العامل اإلسالمي‪.‬‬

‫وباملقابل «ختضع الرؤية اإلسالمية‬ ‫للغرب لتمييزنمطي مرتبط يف الذاكرة‬ ‫اجلامعية بكل التداعيات السلبية املمكن‬ ‫حصوهلا حلالة اهليمنة واالحتالل التي‬ ‫مارسها الغرب بحق العامل اإلسالمي‪.‬‬ ‫وظهرت يف الوعي اإلسالمي اجلامعي‬ ‫(‪)15‬‬ ‫النظريات التآمرية‪ ،‬وعدم الثقة بالغرب»‪.‬‬ ‫أما من الناحية االجتامعية فهناك فرق‬

‫شاسع ما بني العامل اإلسالمي املحافظ و‬ ‫العامل الغريب املتفتح اجتامعي ًا عىل أمور‬ ‫كثرية من خالل القوانني الوضعية التي‬ ‫حتكم وتتحكم باملجتمع الغريب‪.‬‬

‫بينام ترتكز يف العامل اإلسالمي عىل‬ ‫تعاليم الدين اإلسالمي وإن كان هذا‬ ‫يتفاوت ما بني دولة وأخرى‪ .‬فالغرب‬ ‫يواجه مشاكل عديدة من خالل هذا‬ ‫االنفتاح واحلرية الشخصية التي تؤدي‬ ‫إىل تفكك أرسي حتت شعار حرية كل فرد‬ ‫يف املجتمع يف حني تبقى األرسة املسلمة‬ ‫حمافظة عىل وحدهتا أكثر‪ ،‬وإن كان قد بدأ‬ ‫يترسب يشء من احلياة االجتامعية الغربية‬ ‫إىل املجتمع املسلم من خالل وسائل‬ ‫االتصال احلديثة وبخاصة األنرتنت الذي‬ ‫سهل التواصل ما بني املجتمعات وأسقط‬ ‫كافة احلواجز‪ .‬إال ّ‬ ‫أن هذا الترسب حيدث‬ ‫تدرجيي ًا ألن املجتمع املسلم غري قادر عىل‬ ‫تقبل العادات االجتامعية الغربية دفعة‬ ‫واحدة‪ ،‬فإذا استعرضنا رسيع ًا الوضع‬ ‫اإلجتامعي للدول اإلسالمية فنجدها تتغري‬ ‫وتتجه نحو تقليد الغرب ولكن بخطى‬ ‫بطيئة جد ًا فإذا أخذنا مث ً‬ ‫ال عمل املرأة الذي‬ ‫كان يف املجتمعات املسلمة مرفوض َا أصبح‬ ‫اآلن ويف أغلب املجتمعات اإلسالمية‬ ‫مقبوالً مع ذكر أن هناك جمتمعات إسالمية‬ ‫أكثر حتفظ ًا من غريها فتمنع املرأة حتى من‬ ‫قيادة السيارة أو االنتخاب‪.‬‬ ‫وكثرية هي املفاهيم التي خيتلف يف‬ ‫تفسريها ما بني الغرب واإلسالم كاحلرية‬ ‫التي يفرسها الغرب بأن يكون اإلنسان‬ ‫حر ًا يف حياته من دون قيد سوى القوانني‬ ‫والدساتري الوضعية اخلاصة بالدولة يف‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 178‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫حني يفرسها اإلسالم بأن اإلنسان حر‬ ‫ضمن رشوط الدين اإلسالمي‪ ،‬ويوجد‬ ‫دول إسالمية بدأت تنحو منحى الغرب‪،‬‬ ‫غري أن هناك دول إسالمية ال يوجد فيها‬ ‫قوانني وضعية ودساتري وتعتمد يف حكمها‬ ‫عىل الرشع اإلسالمي الذي يتوافق بعض‬ ‫األحيان مع القوانني الغربية ويتعارض‬ ‫معها يف البعض اآلخر مما يطرح إشكالية‬ ‫إزالة احلواجز بني املجتمعني الغريب‬ ‫واإلسالمي؟‪.‬‬ ‫ومن أهم طرق إزالة احلواجز ما بني‬ ‫املجتمع الغريب واملجتمع اإلسالمي ما‬ ‫يتجىل يف احلوار اهلادف إىل التعرف عىل‬ ‫األمر من خالل التواصل السلمي بني‬ ‫العاملني بعد فشل احلروب املتبادلة يف‬ ‫فرض قبول اآلخر‪ ،‬بل عىل العكس ثبتت‬ ‫عداء مطلق ًا بينهام‪.‬‬

‫وكام يقول العالمة السيد حممد حسني‬ ‫فضل اهلل «لذلك علينا أن ننتج جمتمع ًا‬ ‫يتقبل احلوار مع اآلخر‪ ،‬واذا أردنا أن‬ ‫ندخل يف احلوار مع اآلخر‪ ،‬فإن علينا أن‬ ‫نقبله وأن نستمع إىل وجهة نظره يف ما‬ ‫يفكر فيه لنناقشه ونحاوره يف القضية من‬ ‫خالل وجهة نظرنا‪ ،‬وأن نرتكه يتحدث عن‬ ‫وجهة نظره لنحاوره يف ذلك‪ ،‬كام نتحدث‬ ‫(‪)16‬‬ ‫عن وجهة نظرنا ليحاورنا فيها»‪.‬‬ ‫ويضيف ّ‬ ‫«إن املشكلة يف كثري مما نعيشه‪,‬‬ ‫هو أننا نتحدث مع اآلخر من خالل ما‬ ‫يتحول‬ ‫نحن ال من خالل ما هو لذلك‬ ‫ّ‬ ‫احلوار اىل ما يشبه حوار الطرشان‪ ،‬ولعل‬ ‫من أعظم رشوط احلوار هو أن تعرتف‬ ‫باآلخر‪ ،‬وعدم االعرتاف باآلخر هي‬ ‫(‪)17‬‬ ‫مسألة غري إنسانية وغري واقعية»‪.‬‬

‫أما فيام خيص رشوط وظروف احلوار‬ ‫احلقيقي بني اإلسالم والغرب‪ ،‬فثمة من‬ ‫يرى أن هناك موروثات تارخيية متنع‬ ‫احلوار‪ ,‬وتتمثل هذه يف حمطتني أساسيتني‬ ‫احلروب الصليبية‪ ،‬واجلهاد و لذلك ال‬ ‫يتحقق احلوار من دون االتفاق أو الً عىل‬ ‫إعالن هناية احلروب الصليبية واجلهاد يف‬ ‫ذلك يقول سامحة العالمة السيد حممد‬ ‫حسني فضل اهلل‪« :‬من رشوط احلوار‬ ‫اهلادف إىل الوصول إىل قاعدة الفهم‬ ‫املتباد ل‪ ,‬هو أن ال تكون هناك رشوط‬ ‫مسبقة يفرضها أحد الطرفني عىل اآلخر‪،‬‬ ‫من خالل إصدار حكم عليه بشكل حازم‬ ‫ال يقبل أية مناقشة‪ .‬وعىل ضوء هذا‪،‬‬ ‫فإننا نبدأ من احلروب الصليبية التي ربام‬ ‫يتخيل للبعض أهنا متثل عقبة يف واقعية‬ ‫(‪)18‬‬ ‫احلوار بني الغرب واإلسالم»‪.‬‬

‫نحن نعتقد أن احلروب الصليبية كانت‬ ‫منطلقة من ظروف معينة ختتزن يف داخلها‬ ‫الرغبة الدينية املسيحية يف حترير األرايض‬ ‫املقدسة للمسيحيني يف القدس‪ ،‬والتي‬ ‫يعتربها املسيحيون حمتلة من قبل املسلمني‪,‬‬ ‫إضافة إىل بعض الظروف السياسية‬ ‫والداخلية املوجودة يف الغرب أو خارجه‬ ‫يف هذا املجال‪ .‬ولذلك‪ ،‬ال نعترب احلروب‬ ‫الصليبية التي عاشت يف مرحلة زمنية‬ ‫معينة وانتهت بجميع مفاعلها ومؤثراهتا‬ ‫ال سيام بعد حترير فلسطني من اإلحتالل‬ ‫الصليبي‪ ،‬أهنا متثل عقدة لدى املسلمني‪,‬‬ ‫ألن الغربيني يف هذه املرحلة‪ ،‬كام املسلمني‪,‬‬ ‫ال يعيشون حركية هذه احلروب باملعنى‬ ‫الديني إال ما قد يعيشه بعض الناس من‬ ‫مشاعر سلبية أو إجيابية‪ ،‬كام يعيش البعض‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪179‬‬ ‫التاريخ السلبي أو اإلجيايب يف جماالهتم‪.‬‬

‫أما مسألة اجلهاد‪ ،‬فإن الغرب قد‬ ‫حيملها ما حتتمل‪ ،‬ألن اجلهاد يف اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫بقاعدته الوقائية والدفاعية‪ ،‬ال خيتلف عن‬ ‫أي حرب يثريها أي فريق يف العامل ال يؤمن‬ ‫بالعدوان عىل الناس اآلخرين‪ ,‬فاإلسالم‬ ‫يمنع املسلمني من أن يعتدوا عىل أي إنسان‬ ‫مسامل ال يريد هلم حرب ًا وال يضطهدهم أو‬ ‫ّ‬ ‫وجل يقول‪:‬‬ ‫خيرجهم من بالده‪ ،‬فاهلل عز‬ ‫(‪)19‬‬ ‫﴿وال تعتدوا أن اهلل ال حيب املعتدين﴾‪.‬‬ ‫إن إعطاء كلمة اجلهاد معنى عدواني ًا‪,‬‬ ‫بحيث خييل لآلخرين أن املسلم يمسك‬ ‫سيف ًا فوضوي ًا عدواني ًا حياول من خالله‬ ‫أن يرضب أي إنسان غري مسلم ليقهره‬ ‫عىل الدين‪ ،‬هو أمر غري واقعي‪ ،‬وال يمت‬ ‫للحقيقة بصلة‪.‬‬ ‫وهنا ال بدّ من أن نتخطى واقع العداء‬ ‫بني اإلسالم والغرب من خالل تقريب‬ ‫وجهات النظر ومن خالل احلوار العلمي‬ ‫املجدي للوصول اىل حل لألزمات املوروثة‬ ‫أو املستحدثة بني الغرب واإلسالم‪.‬‬

‫‪ .V‬مستقبل العالقات‬

‫بني اإلسالم والغرب‬

‫ّ‬ ‫إن احلديث عن مستقبل العالقة بني‬ ‫اإلسالم والغرب ال يمكن فصله متام ًا عن‬ ‫املايض الذي ما زالت ذكرياته عالقة يف‬ ‫األذهان وال عن احلارض الذي تتكون من‬ ‫أحداثه املتالحقة مالمح املستقبل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن تصور عالقة جيدة بني اإلسالم‬ ‫والغرب ال يمكن أن تقوم بدور جالء‬ ‫املفهوم احلقيقي لإلسالم‪ .‬وهو عمل‬ ‫كبري ال تقترص مسؤوليته عىل جانب دون‬

‫اآلخر‪ .‬ففي الغرب‪ ،‬شاعت عن اإلسالم‬ ‫صورة غري حقيقية‪ ،‬كام أهنا غري متكاملة‪.‬‬ ‫ومل تستطع حركة االسترشاق التي يصل‬ ‫عمرها إىل أكثر من قرنني أن تقوم بدور‬ ‫فعال يف بيان حقيقة اإلسالم كدين ساموي‬ ‫يزود اإلنسان بالطمأنينة‪ ،‬وحيسن عالقته‬ ‫ّ‬ ‫بربه وبالناس وبالطبيعة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فإن اإلسالم هبذه املبادئ‬ ‫وهكذا‬ ‫والتعاليم ال يتصادم مع القيم العليا‬ ‫للحضارة الغربية يف يشء ما عدا ماديتها‬ ‫املتنكرة للروح‪ .‬ولعل كثري ًا من أوجه‬ ‫االلتقاء تتضح إذا ما جتاوزنا مستوى‬ ‫املصطلحات اللغوية إىل اجلوهر احلقيقي‬ ‫للمعاين‪ .‬فليست الديموقراطية يف أعىل‬ ‫أشكاهلا وأسمى تطبيقاهتا إالّ الشورى‬ ‫اإلسالمية‪ .‬وليست حقوق اإلنسان‬ ‫التي توصلت إليها املنظامت الدولية بعد‬ ‫عناء شديد سوى جمموعة احلقوق التي‬ ‫أعلنها اإلسالم منذ أربعة عرش قرن ًا‪ .‬ومن‬ ‫املالحظ أن وضع اإلسالم يف الغرب قد‬ ‫أصبح أفضل كثري ًا عن ذي قبل‪.‬‬ ‫ويتبني ذلك من ردود األفعال‬ ‫اإلجيابية التي يقابل هبا علامء املسلمني‬ ‫الذين خياطبون الغرب بلغة العقل واملنطق‪,‬‬ ‫وأسلوب احلجة والربهان‪ ،‬دون تر ّفع أو‬ ‫مغاالة‪ ،‬وبال تشنج أو إنفعال‪.‬‬ ‫نقر ّ‬ ‫بأن عالقة‬ ‫لكن ال يمكننا «أن ّ‬ ‫اإلسالم بالغرب سوف تتحسن بمجرد‬ ‫الرشح والبيان‪ ،‬وإنام ال بدّ إىل جانب‬ ‫ذلك أن يبذل املسلمون فيام بينهم جهود ًا‬ ‫متواصلة من أجل أن يكونوا مسلمني‬ ‫حقيقيني‪ .‬فال يدعون إىل التسامح وهم‬ ‫متفرقون‪ ،‬وال يرفعون شعار التآخي وهم‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 180‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫متخاصمون‪ .‬وباملقابل ينبغي عىل الغرب‬ ‫أن يبذل من جانبه جهد ًا حقيقي ًا من أجل‬ ‫التعايش مع اإلسالم‪ .‬وأن يتخىل عن نظرة‬ ‫العداء واالستعال‪ ،‬وأن يتقبل وجهات‬ ‫النظر املخالفة‪ ,‬والثقافات األخرى بروح‬ ‫(‪)20‬‬ ‫أكثر تفتح ًا وسامحة»‪.‬‬

‫ّ‬ ‫وإن الطريق إىل إقامة عالقة طيبة بني‬ ‫اإلسالم والغرب مل يعد مسدود ًا كام كان يف‬ ‫املايض‪ ،‬بل العك‪ ،‬أصبحت فيه منافذ كثرية‬ ‫ووجدت عىل الساحة وسائل متعددة يأيت‬ ‫يف مقدمتها اإلعالم الذي جعل من العامل‬ ‫قرية يقف أهلها عىل ما حيدث يف أي ركن‬ ‫فيها فور وقوعه‪.‬‬ ‫«وال شك ّ‬ ‫أن اإلعالم يستطيع أن‬ ‫يعرض الصورة احلقيقية لكل طرف‬ ‫لدى اآلخر‪ ،‬كام يمكنه أن يقيم جسور ًا‬ ‫من التواصل بل وتقريب وجهات النظر‬ ‫املتباعدة‪ .‬كذلك فإن التعليم له دور ف ّعال‬ ‫يف تأكيد احلقائق لدى األجيال اجلديدة‬ ‫التي ينبغي أن تنشأ عىل املوضوعية وحسن‬ ‫اإلصغا‪ ،‬واحرتام وجهات النظر املختلفة‪,‬‬ ‫وأخري ًا ّ‬ ‫فإن الدبلوماسية اهلادئة يمكنها‬ ‫أن تقوم بدور هام يف أحداث التقارب‬ ‫املنشور بني الدول‪ ،‬والتعايش السلمي بني‬ ‫(‪)21‬‬ ‫الشعوب»‪.‬‬ ‫ومن هنا ال بد من تثاقف احلضارتني أو‬ ‫الثقافتني االسالمية والغربية من أجل بناء‬ ‫مستقبل آمن خال من أي رصاعات مبنية‬ ‫عىل عدم قبول اآلخر أو احلوار معه ومن‬ ‫أجل الوصول اىل حل ملختلف النزاعات‬ ‫سلمي ًا بعيد ًا عن العنف‪ ،‬وبذلك ينعم‬ ‫العامل باالستقرار واالزدهار املنشودين‪.‬‬

‫خامتة‪:‬‬

‫العالقة بني اإلسالم والغرب عالقة‬ ‫جدلية‪ ،‬تتجاذهبا رصاعات مابني تيارين‬ ‫متناقضني‪ ،‬تيار يضمر العداء لآلخر‬ ‫وتيار يؤمن باحلوار كحل هلذه اجلدلية‪،‬‬ ‫وهذا االنقسام موجود داخل كل فريق‪.‬‬ ‫فالتاريخ يورد لنا حوادث صدام بني‬ ‫اإلسالم والغرب‪ ،‬وهي يف غالبيتها ليست‬ ‫ألسباب ثقافية أو حضارية‪ ،‬إنام ألسباب‬ ‫سياسية واقتصادية‪ ،‬وإن كانت قد تركت‬ ‫بعض األثر الثقايف أو احلضاري كاآلثار‬ ‫اإلسالمية يف إسبانيا‪ ،‬أو البعثات العلمية‬ ‫يف البالد اإلسالمية‪ ،‬غري ّ‬ ‫أن احلروب‬ ‫والصدامات مل تأت بنتائج إجيابية تذكر عىل‬ ‫صعيد العالقة ما بني اإلسالم والغرب‪،‬‬ ‫كرست‬ ‫بل زاد األمر سوء ًا وتعقيد ًا‪ ،‬حيث ّ‬ ‫العداء املتبادل بني الطرفني‪.‬‬

‫وهنا انربى جمموعة من املثقفني‬ ‫الغربيني واملسلمني‪ ،‬إىل التنادي لعقد‬ ‫مؤمترات وقمم حوارية‪ ،‬تبحث يف تقريب‬ ‫البون الشاسع مابني اإلسالم والغرب‪،‬‬ ‫ولقد بدأت هذه املؤمترات من أكرب منظمة‬ ‫دولية عنيت بذلك اجلمعية العامة لألمم‬ ‫املتحدة‪ ،‬التي أعلنت سنة ‪ 2001‬سنة‬ ‫للحوار والتعايش بني احلضارات‪.‬‬ ‫فاحلوار ما بني اإلسالم والغرب‪ ،‬طرح‬ ‫بقوة كبرية وخاصة بعد فشل احلروب التي‬ ‫شنت عىل مناطق اعتربها الغرب إرهابية‪،‬‬ ‫وبعد استنزاف الغرب من خالل تفجريات‬ ‫استهدفته هنا وهناك‪،‬كلفت اجلميع ثمن ًا‬ ‫كبري ًا يف األرواح واملاديات‪.‬‬ ‫فاحلوار ال يعني إهناء قطعي للحروب‬ ‫والعداء مابني اإلسالم والغرب‪ ،‬وإنّام‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪181‬‬ ‫يساعد عىل معرفة اآلخر واالعرتاف به‬ ‫ومناقشته وإقناعه أو االقتناع برأيه‪ .‬ويف‬ ‫ظل تقدّ م وتطور وسائل اإلعالم‪ ،‬من‬ ‫فضائيات وإنرتنت‪ ،‬مما ّقرب املسافة ما بني‬ ‫اإلسالم والغرب‪ ،‬حيث يمكن أن ّتوعي‬ ‫وتعرف بعضها عىل بعض‪ ،‬مما‬ ‫الشعوب‬ ‫ّ‬ ‫يزيل بعض التشنج يف العالقة بني اإلسالم‬ ‫والغرب‪ ،‬وإن كان عىل صعيد الشعوب‬ ‫ألن اإلنسان عدو ما جيهل‪.‬‬

‫ويف النهاية‪ ،‬البدّ من احلوار العلمي‬

‫اهلادف إىل إزالة أي التباس يف العالقة‬ ‫ما بني اإلسالم والغرب واليسعني إلاّ‬ ‫ان أختم باآلية الكريمة حيث يقول رب‬

‫العاملني يف القرآن الكريم ﴿يا أهيا الناس‬

‫انّا خلقنـكم من ذكروأنثى وجعلنـكم‬ ‫شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند اهلل‬

‫أتقـاكم ّ‬ ‫إن اهلل عليم خبري﴾(‪.)22‬‬

‫علـي أيـوب‬

‫املصادر واملراجع‪:‬‬ ‫(‪)1‬غانم جواد ‪.‬باحث وكاتب يف قضايا حقوق االنسان‪ ،‬االسالم والغرب اشكالية‬ ‫‪WWW.BBC.ARABIC.COM‬‬ ‫املصطلح والعالقة بني الطرفني‪.‬‬ ‫(‪)2‬غانم جواد ‪.‬مصدر نفسه‪.‬‬

‫(‪)3‬عبد الوهاب املسريي‪ .‬كاتب مرصي‪.‬‬

‫(‪ )4‬غانم جواد‪ .‬باحث وكاتب يف قضايا حقوق االنسان‪ ،‬مصدر سابق‪.‬‬

‫‪www.aljazeera.net‬‬

‫(‪ )5‬سلوى بكر وغريها‪ .‬الغرب والعامل االسالمي‪ .‬املانيا‪ ،‬معهد احلوار والتفاهم‪ ،‬طبعة اوىل‪،‬‬ ‫‪2004‬ميالدي‪.‬‬ ‫(‪ )6‬سلوى بكر وغريها‪ .‬مصدر نفسه‪.‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 182‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫(‪ )7‬ادريس الكريني‪ .‬االسالم والغرب ومعيقات احلوار‪ .‬دراسات حول املوضوع‪ ،‬مركز الرشق‬ ‫العريب‪.‬‬ ‫(‪ )8‬ادريس الكريني‪ .‬مصدر نفسه‪.‬‬ ‫(‪ )9‬ادريس الكريني‪ .‬مصدر سابق‪.‬‬ ‫(‪ )10‬ادريس الكريني‪ .‬مصدر سابق‪.‬‬ ‫(‪ )11‬ادريس الكريني‪ .‬مصدر سابق‪.‬‬ ‫(‪ )12‬ادريس الكريني‪ .‬مصدر سابق‪.‬‬ ‫(‪ )13‬ادريس الكريني‪ .‬مصدر سابق‪.‬‬ ‫(‪ )14‬سلوى بكر وغريها‪ .‬الغرب والعامل االسالمي‪.‬مصدر سابق‪.‬‬ ‫(‪ )15‬سلوى بكر وغريها‪ .‬مصدرسابق‪.‬‬ ‫(‪ )16‬السيد حممد حسني فضل اهلل‪ .‬احلوار مع الغرب منطلقات وافاق‪.‬حمارضة يف عاليه‪10 ،‬‬ ‫مجادي االوىل ‪ 1425‬هـ‪ 28/‬حزيران‪ 2004‬م‪.‬‬ ‫(‪ )17‬السيد حممد حسني فضل اهلل‪ .‬مصدر نفسه‪.‬‬ ‫(‪ )18‬السيد حممد حسني فضل اهلل‪ .‬مصدر سابق ‪.‬‬ ‫(‪ )19‬القرآن الكريم‪ .‬سورة البقرة‪ .‬اآلية ‪.190‬‬ ‫(‪ )20‬مفيد شهاب‪ .‬املؤمتر التاسع‪ ،‬االسالم والغرب مستقبل العالقة‪ .‬مرص‬ ‫‪www.Islamic-council.com‬‬

‫(‪ )21‬مفيد شهاب‪ .‬مصدر نفسه‪.‬‬ ‫(‪ )22‬القرآن الكريم‪ .‬سورة احلجرات‪ .‬اآلية ‪. 13‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪183‬‬

‫طربوش (أبو جهاد)‬ ‫جـوزيـف سـمعان رزق‬ ‫كأنه انحباس الغسق يف حمور أفق‬ ‫متوقف‪ .‬شعاعه عمودية إنسان متوقف‬ ‫بوقوفه‪ .‬ماهيته هبا ٌء وهراء‪ .‬أما وجوديته‬ ‫فنفور هائم يف العبث‪ .‬ونتوء شاخص‬ ‫ٌ‬ ‫يف الدهشة والريبة‪ .‬وانبثاق عدمي يف‬ ‫توصيف املعامل املشخصة‪ ،‬وتورية ملا هو‬ ‫أهبى وأزهى من مهالك الوجود العابق‬ ‫باهلمود والركود واهلالك‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫منصة‬ ‫هو الراسخ القاعد عىل‬ ‫متحركة‪ ،‬يلوح وينوح دون أن يبوح‬ ‫ٍ‬ ‫بعزة نافقة‪.‬‬ ‫امتالؤه بالفراغ‪ .‬يتمخرت تيه ًا‬ ‫يف مؤخرته حلي ٌة تتاميل وتتأرجح وفق ًا‬ ‫ملعايري ومقادير احلراك املتفاوت االيقاع‪.‬‬ ‫جتمر‬ ‫ينحبس فيه اخلجل ليرتاءى وكأنه‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫لتنور وقد استعارت أحطابه خشية‬ ‫وختمر‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫من الرتمد‪ ،‬وانفعاالً بألسنة ٍ‬ ‫هليب طارىء‪.‬‬ ‫يتفوق عىل الرأس‪،‬‬ ‫ينخرط يف شكيمته ع ّله ّ‬ ‫ليشتد فيه غروره‪ ،‬حتى يكاد أن يظن أنه‬ ‫الرأس يلتحف مججمة األمراء املرشئبة‬ ‫حتى ينتفخ خواؤه يف وعائه‪ .‬ويصدح‬ ‫عواؤه يف فراغه‪ ،‬فال يعي إال وقد لبس‬ ‫التباسه‪ ،‬وارتدى رداءته‪ ،‬وصار بحجم‬ ‫ٍ‬ ‫جفاف قاحل‪،‬‬ ‫السحب الشاردة يف فضاء‬ ‫ألنه انتفاخ قد ُصمم بحجم غرور رأس‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مججمة ليس لدهيا ما يتحف‬ ‫وعىل قياس‬

‫ويبهر إال ما هو ٍ‬ ‫باد وظاهر‪.‬‬

‫لكنه يكابد بتكتم‪ ،‬وينصاع يتكور‪،‬‬ ‫ويمتثل بتكدّ ر‪ ،‬رغم إحياءاته العلنية بأنه‬ ‫دنوه‬ ‫سيد القرار‪ ،‬يعارك العلو باعتالئه ّ‬ ‫املنتصب‪ ،‬ع ّله حيظى بشكيمة املدى‪،‬‬ ‫وتتألق معامله يف لعبة التناسق‪ ،‬هو املعتيل‬ ‫برشاقة الشاق‪ ،‬ليس له حبال املشيئة‪ ،‬وال‬ ‫سامت التفوق‪ ،‬لكن له بشائر رأس مل يقنعه‬ ‫حجمه‪ ،‬فجاء ليزيد حجمه من خالل‬ ‫ٍ‬ ‫وزن دون إضافة خمزون‪ ،‬ودون‬ ‫إضافة‬ ‫اإلفادة من صالحية العقل وماهيته!!‬

‫غرضوف خمروطي تكدست فيه‬ ‫إنه‬ ‫ٌ‬ ‫مباهج الزهو وتعالت بسامته عىل بشائر‬ ‫الوجه‪ ،‬واستبد يف التشاوف حتى تلعثمت‬ ‫ألسنة أوجاره يف حفر املجد األجوف‪،‬‬ ‫فانحنى ال إجالالً لعظمة الفكر بل ذبوالً‬ ‫ويغرد‬ ‫بام ليس فيه وله‪ ،‬وصار يرتاقص‬ ‫ّ‬ ‫اندالع لرضاوة الربهة‪ ،‬ثم يتحفظ‬ ‫كأنه‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫أساس من‬ ‫كي ال توقعه ركاكة الركائز يف‬ ‫ٍ‬ ‫لعاب فائز‪ ،‬ثم يتهاوى رضوخ ًا ملشيئته‬

‫يف املشية‪ ،‬لكنه بغبائه املعهود الصارخ ال‬ ‫يتوانى أن يعلن تفوقه عىل الرأس رغم‬ ‫شغوره من عنارص احلياة‪...‬‬ ‫وهو العواء املجاين عىل تالل ورشفات‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 184‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫العبث‪ ،‬يرتل صداه عىل أوتاره املحاكة‬ ‫بلعاب فم ساذج يف سيمفونية الفراغات‬ ‫ٍ‬ ‫بزهد مصطنع‪.‬‬ ‫املحشوة األنني‪ ،‬واملكسوة‬ ‫انقباض ملعامل يف مضارب‬ ‫يتأرجح كأنه‬ ‫ٌ‬ ‫األهواء املصادرة‪ ،‬حتى يصاب بدواره‬ ‫األرعن فيقع يف مواته رغم جتذره بأليافه‬ ‫مرة‬ ‫وخصوبته بوفائه‪ ،‬فيحزن مرتني‪ّ :‬‬ ‫عىل حاله التي ليس فيها عنارص احلس‪،‬‬ ‫ومرة ألنه لبس احلس دون أن يعرتيه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫فوهة ضيقٍ‬ ‫فريكن بعد أن يزفر أواهه من‬ ‫مستفحل‪ ،‬ليقول ما أمجلني دون حياة كي‬ ‫ال أموت ذات يوم! وما أهباين وأزهاين وأنا‬ ‫أعتيل مهوم ومشاكل الرأس دون أن أقع يف‬ ‫اخلطيئة وتعرتيني مكائد ومهالك احلساب‬ ‫وأخطار الدينونة‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫طربوش أنا أعزي نفيس بام قد تفوهته‪.‬‬ ‫أحب وال أتأمل‬ ‫قد ال أحزن وال أتأثر‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حراك‬ ‫أو أبكى‪ ،‬فوجوديتي قائمة عىل‬ ‫مائت‪ .‬أنا حزي ٌن حزي ٌن‪ٍ :‬آه كم كنت أمتنى‬ ‫لو كنت الرأس رغم علمي اليقني بعذابه‬ ‫ٍ‬ ‫حياة ال‬ ‫وهالكه‪ ،‬لكن يا إهلي!! ما جدوى‬ ‫تعرف وال تدرك وال تشعر بأهنا ح ّية؟ وما‬ ‫جدوى حياة ال تعيش حياهتا؟ أعذرين يا‬ ‫رب فمعظم الناس مثيل دون أن يدروا‪.‬‬ ‫طرابيش قد نالت اهلوية‪ ،‬وحصلت عىل‬ ‫رشف االنتامء فقط ألهنا ُولدت وتنتمي‬ ‫لعنرص البرش‪ .‬املشاعر صارت ألياف ًا‬ ‫ٍ‬ ‫إجازة حتى‬ ‫والبشائر ستائر‪ .‬واملشاعر يف‬ ‫ٍ‬ ‫يوم اآلخرة‪ .‬واحلنان يف نزهة عىل أرصفة‬ ‫املزور واملصطنع‪.‬‬ ‫اجلفاء والرخاء ّ‬

‫جـوزيـف سـمعان رزق‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪185‬‬ ‫مقابلة‪:‬‬

‫الفنان عبد الكرمي إمامة‬

‫الفنان عبد الكريم إمامة من بلدة‬ ‫"جمدل عنجر" تلك البلدة البقاعية التي‬ ‫كان هلا و ّملا ْ‬ ‫يزل حضور كبري يف تاريخ‬ ‫لبنان وصنع جمده واستقالله‪ ،‬وحني تذكر‬ ‫هذه البلدة الشماّ ء ينتصب أمامك حصنها‬ ‫العظيم الذي بدأت منه‬ ‫كرامة لبنان ومعركة‬ ‫حتريره عىل يد األمري‬ ‫فخر الدين املعني‬ ‫الثاين «حارب وانترص‬ ‫بعنجر»‪ .‬من يومها مل‬ ‫ختلع جمدل عنجر عزهتا‬ ‫وكرامتها‪ ،‬وما زالت‬ ‫حتمل أصالة العرب‬ ‫وأنفتهم وكرامتهم‪.‬‬ ‫إهنا بلدة األصالة‬ ‫والعزة‪ ،‬وهي منذورة‬ ‫لكل كبرية ترفع اسم‬ ‫لبنان عالي ًا‪ ،‬ألنه عىل قدر أهل العزم تأيت‬ ‫العزائم‪ ،‬ونحن نردد قول الشاعر عمر‬ ‫ُ‬ ‫شبيل يف هذه البلدة اخلالدة‪:‬‬

‫ِ‬ ‫َ‬ ‫األحرار يا حصـ َن العـىل‬ ‫جمـدل‬ ‫يا‬ ‫بنت فخر الدين تيهي وافخـري‬ ‫يا‬ ‫َ‬ ‫موكـب‬ ‫يف كل يـوم من إبائـــك‬ ‫ٌ‬ ‫األعصـر‬ ‫يميش اختياالً فـوق ها ِم‬ ‫ُ‬

‫الفنان عبد الكريم إمامة حاز عىل‬ ‫كثري من األوسمة وامليداليات والدروع‬ ‫التكريمية وشهادات التقدير‪ ،‬وأحبها‬ ‫إىل قلبه الدرع املقدم من فخامة رئيس‬ ‫اجلمهورية اللبنانية‪ ،‬ومن قيادة اجليش‬ ‫اللبناين‪ ،‬وكثري غريمها‪ ،‬وأقيم له أكثر‬ ‫من معرض‪ ،‬وآخرها‬ ‫املعرض الذي ضم‬ ‫اللوحات‬ ‫عرشات‬ ‫البديعة يف اليونسكو‪.‬‬

‫ـ ملحة عن تاريخ فن‬ ‫االرسم بالفسيفساء‬

‫هذا‬ ‫عرف‬ ‫الفن منذ القدم عند‬ ‫الفينيقيني والرومان‬ ‫والبيزنطيني والعرب‬ ‫الحق ًا‪ ،‬ونحن حتى‬ ‫اليوم نرى آثار هذا‬ ‫الفن يف املسجد األموي يف دمشق ويف‬ ‫مسجد القبة يف القدس‪ ،‬ويف الكنائس‬ ‫واألديرة وبعض اآلثار الفينيقية يف صيدا‬ ‫ومعظم اآلثار اللبنانية‪.‬‬ ‫وفناننا املوهوب عبد الكريم إمامة‬ ‫بانتامئه األصيل هلذا الفن الذي ورثه عن‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 186‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫مالحظاته النافذة لتلك اآلثار اجلميلة‪،‬‬ ‫وليس من الكتب رغم أنه تدرب يف معاهد‬

‫وجداين بشكل قوي‪ ،‬ومما ّ‬ ‫غذاه رؤيتي‬ ‫املبكرة لآلثار األموية املوجودة يف قريتنا‬

‫فنية صقلت موهبته العالية‪ ،‬إنه فنان‬ ‫موهوب بالفطرة ‪ .‬لقد أهلمته آثار بني أمية‬ ‫حس ًا فني ًا ترى‬ ‫املالصقة لقريته يف عنجر ّ‬ ‫تأثرياته النافذة يف نفسك وأنت تراقب‬ ‫لوحاته املتعددة املوضوعات واملنثورة يف‬ ‫داره بأسلوب الفنان الالمبايل‪ .‬ولد عبد‬ ‫الكريم إمامة يف جمدل عنجر وعاش فيها‬ ‫وملا يزل جزء ًا منها‪ /‬سنة ‪ . 1961‬وكان‬ ‫ملجلة املنافذ الثقافية لقاء مع هذا الفنان‬ ‫املبدع‪ ،‬وأجاب عىل أسئلتها‪:‬‬

‫وجوارها‪ ،‬وكنت أقف أمام احلصن‬ ‫العظيم يف ذروة بلدتنا مأخوذا بدالالته‬ ‫الوجدانية‪ ،‬وكنت أختيل نفيس سامع ًا‬ ‫مححامت خيول األمري فخر الدين الذي‬ ‫ابتدأ معنى لبنان يتكون عىل صهيل‬ ‫خيلة وملعان سالحه يف معركة احلرية‪،‬‬ ‫كان الصوت والصورة مع ًا يتجسدان‬ ‫يف وجداين رؤى ومشاعر وأحاسيس‪،‬‬ ‫وكنت أطمح إلخراجها ألرهيا للناس‬ ‫بشكل مجيل‪ ،‬وعىل درب اخلطأ والصواب‬ ‫استطعت تعبيد طريقي اململوء بالفتوحات‬ ‫اجلميلة كام أعتقد‪ .‬وكنت كلام أنتجت‬ ‫لوحة أحس بأنني أضع شيئ ًا مني فيها‪،‬‬ ‫إهنا حتمل بصامت روحي وتطلعات أناميل‬ ‫لرصف أحاسييس يف لوحات مجيلة متثل‬ ‫حاالً من حتواليت الداخلية ومن انعكاس‬

‫مكوناتك الفنية التي جعلتك‬ ‫ـ ما هي ّ‬ ‫تنحو هذا املنحى يف فن قليل من ركب متنه‬ ‫اليوم؟‬ ‫كان يف داخيل منذ طفولتي ٌ‬ ‫ميل‬ ‫ُحول اإلحساس‬ ‫للفنون التجسيدية التي تـ ّ‬ ‫إىل كتلة ‪ ،‬وراح هذا اإلحساس ينمو يف‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪187‬‬ ‫بصرييت وبرصي فيام أرصف‪.‬كنت أشعر‬ ‫عيل حماولة نقل‬ ‫باالختناق حني تستعيص َّ‬ ‫ذايت إىل اللوحة‪.‬‬

‫ـ كيف كنت‬ ‫تقيم العالقة بني‬ ‫اللوحة‬ ‫شكل‬ ‫فيها‬ ‫واأللوان‬ ‫والفكرة املهيمنة عىل‬ ‫وجدانك؟‬

‫لأللوان عالقة‬ ‫حقيقية بمشاعرنا‬ ‫الداخلية‪ ،‬فاألمحر‬ ‫له دالالت خمتلفة‬ ‫تنطلق من وردة‬ ‫اجلوري احلمراء إىل‬ ‫اجلرح النازف من‬ ‫جسد مقاوم‪ ،‬إىل‬ ‫املشاعر الداخلية املتحفزة لالنتقام ممن‬ ‫ورشد أهلنا يف فلسطني‪.‬‬ ‫رسق أحالمنا‬ ‫ّ‬ ‫واللون األبيض له داللة عىل النقاء‬ ‫والسالم‪ ،‬وله داللة عىل العمى أيض ًا حني‬ ‫تصبح األلوان كلها لون ًا واحد ًا وهكذا‬ ‫لكل لون دالالته التي ترتجم وعينا‬ ‫وحسنا ومكنوناتنا العميقة التي تعجز‬ ‫الكلامت عن محلها‪ ،‬وتظهر موهبة الفنان‬ ‫يف قدرته عىل نقل اإلحساس من الالمرئي‬ ‫إىل املرئي‪.‬‬ ‫أما الفكرة فهي جمردة ما مل ختامر‬ ‫اإلحساس العميق يف داخل الفنان‪ ،‬وال‬ ‫يمكن للفكرة أن تصبح لوحة فنية بمعزل‬ ‫عن التوهج الداخيل واجلذب الوجداين‬ ‫املتنقل بني احلس والفكرة‪ .‬وهبذا خيتلف‬ ‫الفن عن أشكال التعبري األخرى‪ ،‬ومن‬

‫هنا تنبع أمهيته‪ ،‬ومن هنا أيض ًا يضمن‬ ‫لنفسه اخللود‪ .‬فالفن يف النهاية يظل أقوى‬ ‫من املوت‪ ،‬ألنه متصل باخللود بينام املوت‬ ‫هو الفناء‪ ،‬ومها‬ ‫نقيضان ال يلتقيان‪.‬‬

‫يف‬ ‫واللوحة‬ ‫النهاية هي الفنان‬ ‫نفسه أثناء إنجازها‪،‬‬ ‫هي حتكيه بمقدار ما‬ ‫هو حيكيها‪ .‬وهي‬ ‫اإلنساين‬ ‫اجلزء‬ ‫الذي يقيم عالقة‬ ‫صادقة بني داخل‬ ‫الفنان وخارجه‪.‬‬ ‫فاإلبداع هو أرقى‬ ‫حاالت احلضور‬ ‫سمو‬ ‫اإلنساين ألنه‬ ‫ٌّ‬ ‫عىل اجلسد اآلين الذي حتدده مسافة الزمن‬ ‫بينام اآلثار الفنية اخلالدة فهي توق اإلنسان‬ ‫للتغلب عىل املوت بموت املوت‪ ،‬وهي‬ ‫خالدة ألهنا متخلصة أساس ًا من الطني‬ ‫ومن عنارصه الفانية‪.‬‬ ‫ـ ماهي املواضيع التي جتذبك أكثر؟‬

‫أنا فنان ملتزم بقضايا وطني وأمتي‪،‬‬ ‫وأنتمي إىل حضارة وارفة الظالل أثـّرت‬ ‫يف مسرية اإلنسانية صعد ًا وأثـ َْرتـْها‪ ،‬وأنا‬ ‫فخور بتجربة أمتي احلضارية وممتلئ هبا‪،‬‬ ‫وانجذايب إليها انجذاب املحب امللتزم‬ ‫واملنحاز إليها ظامل ًة ومظلومة‪ ،‬ولذلك‬ ‫تناولت شخصيات أمتي التارخيية والتي‬ ‫تركت آثارها السامية يف املجتمعات‬ ‫البرشية‪ ،‬وتناولت لبنان احلارض باستمرار‬ ‫يف نبيض ويف نسكي وحمياي‪ ،‬واخلافق يف‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 188‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫صدري‪ ،‬وما آثاره اخلالدة سوى امتداد‬ ‫لتكويني وانتامئي‪ ،‬أقف بخشوع وأنا‬ ‫أتأمل آنية فخارية عليها نقوش فينيقية‪،‬‬

‫إهنا تتكلم‪ ،‬وختترص الزمن حتى لكأن‬ ‫املوت غري موجود‪ ،‬أنا ابن هذه األرض‬ ‫ولذلك ستبقى مادة فني مستوحاة منها‪.‬‬

‫أجرت احلوار أرسة "املنافذ الثقافية"‬

‫ِ‬ ‫َ‬ ‫األحرار يا حصـ َن العـىل ‬ ‫جمـدل‬ ‫يا‬

‫موكــب ‬ ‫يف كل يـوم من إبائـــك‬ ‫ٌ‬

‫بنت فخر الدين تيهي وافخـــري‬ ‫يا َ‬ ‫األعصــر‬ ‫يميش اختياالً فــوق ها ِم‬ ‫ُ‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪189‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 190‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫قراءة في كتاب «احملاكاة» لألستاذ خالد كموني‬ ‫عمـر شـبيل‬ ‫ـ‪I‬ـ‬

‫كتاب املحاكاة لألستاذ خالد كموين‬ ‫كتاب جدير بالقراءة‪ ،‬وجيد‪ ،‬وأعتقد أن‬ ‫سيكون له مكان يف املكتبة العربية‪ ،‬إنه‬ ‫كتاب منهجي ووثائقي‪ ،‬ومنهجيته ترحيك‬ ‫فيه يف االنتقال من موضوع إىل موضوع‬ ‫دون أن تشعر بوهن املتابعة ونقص‬ ‫الرضورة‪ .‬وهذا ال يعني عدم ترابط‬ ‫عناوينه املؤلِفة له‪ ،‬بل هي أشبه بالسالسل‬ ‫املرتابطة شك ً‬ ‫ال ومضمون ًا‪ ،‬ويفاحتك يف‬ ‫الكتاب كثرة االستشهاد حول املوضوع‬ ‫الذي يبحث فيه خالد كموين‪ ،‬وكثرة‬ ‫االستشهاد ال تلغي وجود املؤلف فيام‬ ‫يؤلف‪ ،‬بل هو يتبنى ويرفض بثقة ووعي‪،‬‬ ‫وال بد من التأكيد عىل أن كثرة االستشهاد‬ ‫تعني استيعاب املوضوع وإغنائه ومناقشة‬ ‫املؤلفني السابقني فيام ذهبوا إليه من آراء‪،‬‬ ‫وهم عىل ما هم عليه من حضور مؤكد يف‬ ‫حمتويات املكتبة العربية التي ال غنى عن‬ ‫فرائدها اخلالدة‪.‬‬ ‫وأعتقد أن هناك بعض التفاصيل‬ ‫كان جيب إضافتها للكتاب ليصبح أغنى‪،‬‬ ‫وكنت أمتنى لو فـ ُِصل موضوع املحاكاة‬ ‫عن احلرف املكتوب رغم القربى بني‬

‫احلالني‪ ،‬ألن موضوع انتقال الصوت إىل‬ ‫التصوير الشكيل له حيتاج بحث ًا منفرد ًا‪.‬‬ ‫ومع ذلك يبقى لكتاب املحاكاة لألستاذ‬ ‫خالد كموين حضوره الرضوري يف املكتبة‬ ‫العربية‪ ،‬وذلك بسبب النسب التكويني بني‬ ‫اللغة العربية وإنساهنا الذي هبا سام وهبا‬ ‫أقام عالقة مضيئة بني السامء واألرض‪.‬‬

‫كانت اللغة‪/‬كل لغة‪ /‬دليل إنساهنا‬ ‫املتكلم هبا‪ ،‬وصورة عنه‪ ،‬وترمجة ملخزونه‬ ‫احلضاري‪ ،‬وهي كاإلنسان نفسه ترتقى‬ ‫من تقليد الصوت يف الغابة إىل اإلفصاح‬ ‫عن أعمق ما الوجود من جتليات ومظاهر‬ ‫وغيبيات‪ ،‬فهي تكون إشارات حني يكون‬ ‫الوعي مضمر ًا يف مرحلة ما قبل الوعي‪،‬‬ ‫ثم ترتقى إىل مستوى الصوت الذي هو‬ ‫مرحلة متقدمة عىل اإلشارة‪ ،‬ألن دالالت‬ ‫اإلشارة تتعلق باحليس املرئي‪ ،‬والصوت‬ ‫يذهب أبعد يف تعاطيه مع احلال األعمق‬ ‫للتعبري عن مكنونات الذات البرشية‪.‬‬ ‫وللصوات ألوان حيسها املستمع‪ ،‬وحيكم‬ ‫عىل مدى عالقتها بذات املتكلم‪.‬‬

‫واإلشارة نوع من اللغة‪ ،‬وإن مل يكن‬ ‫مصدرها اللسان‪ ،‬وإن كانت اللغة انتقاالً‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪191‬‬ ‫منها إىل إىل اللسان ومرحلة الصوت متنامية‬ ‫مع تقدم العقل اإلنساين‪ ،‬ولذلك ارتبط‬ ‫الصوت باملعلوم‪ ،‬وكان سابق ًا للحرف‬ ‫الذي هو مرحلة اختزان متقدم لدالالت‬ ‫األصوات‪ ،‬وارتباط الصوت باملعلوم‬ ‫واضح معنى وتطور ًا وداللة يف اآلية‬ ‫ٌ‬ ‫الكريمة‪ " :‬وع َّلم آدم األسامء كلها"‪ ،‬وقطع ًا‬ ‫ال تـُفهـ َُم اآلية عىل ظاهرها‪ .‬واملحاكاة يف‬ ‫هذه اآلية مرتبطة بالوعي والدربة أعني‬ ‫العلم‪ ،‬البد من التأويل للربط بني داللة‬ ‫اآلية واملحاكاة التي هي رس وجود اللغة‪،‬‬ ‫وهنا البد من فهم اآلية عىل معنى االنتقال‬ ‫من الفردوس إىل األرص وتعلم آدم‬ ‫أصواهتا من املحاكاة‪ .‬ونضج لسان الطفل‬ ‫لغوي ًا مرتبط بنمو ما يرتبط به فيزيولوجي ًا‬ ‫وعقلي ًا من اجلسد‪ ،‬وكلام تقدم الوعي تقدم‬ ‫معه الصوت وأعني اللغة املحكية امللفوظة‬ ‫بدالالهتا القصدية‪.‬‬ ‫ويبدو أن اللغة يف أصواهتا املحكية‬ ‫كانت تقليد ًا متقدم ًا للطبيعة وأصواهتا‪،‬‬ ‫ويف ذلك يقول ابن عبد ربه‪" :‬اللغة فضل‬ ‫يف املنطق‪ ،‬مل يقدر اللسان عىل استخراجه‪،‬‬ ‫فاستخرجته الطبيعة باألحلان عىل الرتجيع‬ ‫ال عىل التقطيع"‪ ،‬ولذا كانت بدايات‬ ‫التقعيد اللغوي مادية ومستجيبة لتأثر‬ ‫اإلنسان بالصوت الوافد من اخلارج‬ ‫واملختزن يف الذات‪ ،‬وإذا أخذنا مثاالً كلمة‬ ‫َ‬ ‫جير َّ‬ ‫القش أو‬ ‫"شدَّ " ختيـَّلـْنا‬ ‫إنسان الغابة ّ‬ ‫احلطب خلفه يف الغابة فيبدأ حرف الشني‬ ‫يصدر عن عملية اجلر والسحب‪ ،‬ويكون‬ ‫الصوت كام ييل‪" :‬شششششش" ؤيكون‬ ‫تكرار الشني استمرار ًا لعملية السحب‬ ‫فإذا ارتطمت عقد احلطب أو القش‬

‫باحلجر برز صوت الدال تالي ًا لصوت‬ ‫الشني املتكرر "دددددد" وتكون َ‬ ‫الشدّ ة‬ ‫ترقية حلرف الدال صعود ًا سمعي ًا بعد‬ ‫شأشأة الشني املسحوبة صوت ًا‪ ،‬وهبذا تكون‬ ‫"املحاكاة" صدى لصوت القش املسحوب‬ ‫أو احلطب‪ ،‬والعملية الثانية تكون رسوخ‬ ‫هذا الصوت يف أعامق إنسان الغابة األول‪،‬‬ ‫واللغات كلها حماكاة وإن بدا االختالف‬ ‫يف ظواهرها وتطوراهتا عرب إنساهنا‪ .‬وقد‬ ‫وعى األستاذ خالد كموين هذه احلقيقة‬ ‫بنظرة ثاقبة حني قال مستشهد ًا بقول زكي‬ ‫عرف األصوات بكوهنا‪":‬‬ ‫األرسوزي حني ّ‬ ‫صدى وجداهنا يف النفس"‪ ،‬ويضيف خالد‬ ‫كموين قائالً‪ ":‬األمر الذي جعلنا نسهب‬ ‫يف عرض فكرته عن الربط الوجداين‬ ‫بني الطبيعة واإلنسان‪ ،‬وانعكاس أثر‬ ‫هذه العالقة يف اللغة‪ ،‬وبالنتيجة يف القيم‬ ‫اإلنسانية واألخالقية التي حتملها هذه‬ ‫اللغة"(‪ .)1‬إن هذا الكالم يعرب بدقة عن‬ ‫صدور اللغة عن نمو الوعي اإلنساين‬ ‫وقضاياه املتعلقة باملرئي والالمرئي من‬ ‫األشياء‪ .‬وقد بدأت اللغة تتطور كاإلنسان‬ ‫نفسه‪ ،‬وبدأت خترج من ماديتها للولوج‬ ‫يف الفكر واإلحساس‪ ،‬وإعطائها معنى‬ ‫أبعد من دالالهتا‪ ،‬فلفظة الصالة واجلهاد‬ ‫والزكاة والركوع والسجود وما ال حيىص‬ ‫من األلفاظ بدأت تأخذ معنى داللي ًا أبعد‬ ‫من حسيـَّتها وماديتها األوىل‪ ،‬ونرضب‬ ‫مث ً‬ ‫ال عىل ذلك من األصمعي حني أراد أن‬ ‫يعطي معنى دقيق ًا لكلمة "تبارك" يف قوله‬ ‫تعاىل‪" :‬تبارك الذي بيده امللك"‪ ،‬وكان أن‬ ‫رأى يف البادية صغار ًا يلعبون‪ ،‬وانتبه لقول‬ ‫طفلة صغرية حني تركت أتراهبا‪ ،‬وصعدت‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 192‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫فوق كومة من احلجارة ‪ ،‬وقالت ألتراهبا‪:‬‬ ‫َوت عليك ّن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫"تباركت عليك ّن" بمعنى علـ ُ‬ ‫يت اللفظة حسي ًا‬ ‫وقتها ربط بني دالال ْ‬ ‫ومعنوي ًا‪ ،‬ومن الشواهد سؤال أيب عمر بن‬ ‫العالء ألعرايب كان يطوف باملسجد احلرام‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫اخليل خيالً؟" فأجاب األعرايب‬ ‫ميت‬ ‫"مل َ ُس ْ‬ ‫برسعة دون أن يلتفت لسائله‪" :‬أال ترى‬ ‫أهنا تسري العرضنى واخليالء!!"‪ .‬إن ثورة‬ ‫اإلسالم جعلت اللغة العربية حتدث ثورة‬ ‫فيها أيض ًا بفعل إنساهنا وانتقاله من الوثنية‬ ‫احلسية إىل اإليامن باملطلق الذي "ليس‬ ‫كمثله يشء"‪ .‬فاللغة وليدة ذات إنساهنا‬ ‫واستيعابه الواعي للكلامت ودالالهتا‬ ‫املتطورة باستمرار‪.‬‬ ‫وال ينسى األستاذ خالد كموين‬ ‫اإلشارة إىل املخزون الثقايف الداليل الذي‬ ‫وصلت إليه اللغة العربية يف فرتة ما قبل‬ ‫اإلسالم ـ وأنا أعرتض عىل تسميتها العرص‬ ‫اجلاهيل كام ذكر األستاذ خالد كموين ألن‬ ‫تلك الفرتة مل تكن فرتة جاهلية ـ‬

‫بفعل تطور الفكر العريب كمقدمة‬ ‫للتطور األعمق الذي قامت به ثورة‬ ‫اإلسالم يف الوجود‪ .‬يقول خالد كموين‬ ‫مصيب ًا‪" :‬إن اللفظة العربية يف تلك الفرتة‬ ‫أصبحت تؤدي دورها الثقايف الشامل‪ ،‬أي‬ ‫أهنا مل تعد مقترصة عىل طاقتها االنفعالية‬ ‫البدئية‪ ،‬بل تطورت لتكون لغة الشعر‬ ‫واألدب‪ ،‬ما يشري إىل أن العالقة اجلدلية‬ ‫بني املحسوس واملعقول يف عملية الداللة‬ ‫تفعل فعلها يف مصاقبة األلفاظ للمعاين‬ ‫التي تسدّ حاجات الناطقني هبا‪ ،‬بام جيسد‬ ‫الواقع احلقيقي للفعل اللغوي‪ ،‬أو للعالقة‬ ‫(‪)2‬‬ ‫الدائمة بني اإلنسلن واألشي ْاء"‪.‬‬

‫ويبدو أن لكل لغة يف أصوات‬ ‫تكوينها األوىل ما يالئم بيئتها اجلغرافية‪،‬‬ ‫ولكن اختالفها الينفي حماكاهتا األوىل‬ ‫للطبيعة كلها‪ ،‬ولقد أجاد خالد كموين يف‬ ‫اختيار هذا العنوان من بني كل العناوين‬ ‫التي أعطيت لنشأة اللغة‪ .‬وسمعت منذ‬ ‫أيام الدراسة اجلامعية يف فقه اللغة رواية‬ ‫ألستاذنا يف هذه املادة حممد مبارك ال أذكر‬ ‫اسم ذلك العامل الذي كان ال يفقه من‬ ‫العربية شيئ ًا‪ ،‬وكان قد طلب أن حيكوا هلا‬ ‫كالم ًا عربي ًا لصيق ًا بنشأهتا املادية فقيلت له‬ ‫ٌ‬ ‫مجل استطاع من خالل ارتطام أصواهتا أن‬ ‫يعطي معنى تقريبي ًا هلا‪ ،‬ألن للغة ارتطام ًا‬ ‫صوتي ًا تأخذه من نشأهتا األوىل وحماكاهتا‬ ‫ملا صدرت عنه‪ ،‬ويف هذا يلتقي األستاذ‬ ‫خالد كموين مع نظرية "ابن جني" يف نشأة‬ ‫اللغة حيث يرى ابن جني أن اللغة وجدت‬ ‫ٍ‬ ‫بفعل طبيعي حماكايت‪ ،‬وهو خيتلف‬ ‫ونشأت‬ ‫مع أيب عيل الفاريس حول كون اللغة إهلام ًا‬ ‫استناد ًا إىل قوله تعاىل‬ ‫﴿وعلم آدم األسامء كلها﴾‪ ،‬وي ِ‬ ‫دخل‬ ‫ُ‬ ‫هذا يف باب التأويل‪ .‬والذي جيب توكيده‬ ‫هنا هو أن رأي ابن جني أدق وأقرب إىل‬ ‫التعليل العلمي لكل الظواهر التي حار‬ ‫اإلنسان يف اجلزم بتفسريها‪ .‬يقول ابن‬ ‫جني‪" :‬وذهب بعضهم إىل أن أصل اللغات‬ ‫كلها إنام هو من األصوات املسموعات‪،‬‬ ‫كدوي الريح وحنني الرعد وخرير املاء‪...‬‬ ‫ونعيق الغراب‪ ...‬ونحو ذلك ‪.‬ثم ولدت‬ ‫اللغات عن ذلك فيام بعد ‪ .‬وهذا عندي‬ ‫وجه صالح ومذهب مقتبل"(‪ ،)3‬يلتقي هذا‬ ‫التعليل مع الرأي املعمق ألفالطون الذي‬ ‫فسرّ املوجودات كلها استناد ًا إىل نظرية‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪193‬‬ ‫املثـُل عند أفالطون كام أشار إىل ذلك خالد‬ ‫كموين‪" :‬مابني املحسوس واملعقول تقوم‬ ‫عالقة معرفة‪ ..‬عالقة املعرفة هذه هي فعل‬ ‫املحاكاة"(‪ ،)4‬ويثبت رأيه بقول أفالطون‪:‬‬ ‫"إن كل أشكال املحاكاة يف النظام املادي‬ ‫(األريض) قد ردته العودة املحاكاتية‬ ‫للروح إىل املثل العليا"(‪ ،)5‬ويرى أرسطو‬ ‫عكس ما يرى أفالطون والرواقيون حني‬ ‫يقول أرسطو‪ " :‬إن ما خيرج بالصوت ٌّ‬ ‫دال‬ ‫عىل اآلثار التي يف النفس‪ ...‬وهي املعاين‪،‬‬ ‫توجد أيض ًا وحدة للجميع"(‪.)6‬‬

‫ويشري خالد كموين إىل نظرية عبد اهلل‬

‫العالييل "إرادة املحاكاة"‪ ،‬ومنهج العالييل‬

‫يف فهم املحاكاة‪" :‬جعله يتدرج يف فهم‬ ‫تطورها احلركي وفق تطورها الزمني‪ ،‬إذ‬ ‫يبدو لنا أن االنتقال من الصوت الطبيعي‬

‫يمر بمرحلة حتولية هامة هي‬ ‫إىل احلرف ّ‬ ‫احلركات‪..‬ويقصد هبا احلروف األوىل‬

‫واجتامعها‪....‬وهنا تبدو عملية النطق‬ ‫حمكومة بإرادة داخلية تنظم عالقة اإلنسان‬

‫بالطبيعة‪ ،‬وهي إرادة املحاكاة"‪.‬‬

‫(‪)7‬‬

‫ـ ‪ II‬ـ‬

‫ومن الفصول اجليدة واألصيلة يف‬ ‫كتاب "املحاكاة" لألستاذ خالد كموين‬ ‫هو اندغامه مع املفكر الرائع زكي‬ ‫األرسوزي يف فهم أصالة اللغة العربية‬ ‫عرب ِقدَ مها "واالستمرار يف احلياة من‬ ‫ناحية أخرى"‪ ،‬ويرى خالد كموين صوابية‬ ‫فكرة املفكر زكي األرسوزي عرب ربطه‬ ‫بني أصالة اللغة العربية وأصالة اإلنسان‬ ‫العريب الذي حفظ تارخيه وصان جتربته‬ ‫احلضارية عرب هذه اللغة ذات الرسالة‬ ‫األرض بالسامء‪ ،‬إهنا إفصاح عن‬ ‫املوصلة‬ ‫َ‬ ‫الفيوضات احلضارية التي أقامت العالقة‬ ‫بني الصوت العريب والصوت اهلابط‬ ‫عىل غار حراء مفصح ًا عن ذات األمة‬ ‫الواعدة برسالتها احلضارية واإلنسانية‬ ‫يف آن‪ .‬يقول خالد كموين‪" :‬إن زكي‬ ‫األرسوزي قد أضاف طابع ًا فلسفي ًا هلذه‬ ‫الظاهرة اللغوية عن طريق ربطه بني‬ ‫النشاة الفطرية الطبيعية للسان العريب‬

‫واملاهية الوجودية لتي جيسدها اإلنسان‬ ‫العريب يف أمته احلضارية"(‪ ،)8‬وهذا الكالم‬ ‫ألمهيته ينقل هذه الظاهرة املتجلية يف لغة‬ ‫العرب إىل املعنى األعمق الرتباط ظاهرة‬ ‫اللغة بظاهرة الكونية اإلنسانية املتجلية‬ ‫يف اللغة العربية ونتاجها الغزير واستمرار‬ ‫هذه اللغة يف حضورها اإلبداعي رغم كل‬ ‫مظاهر التخلف التي حلقت بالعرب عرب‬ ‫تارخيهم اململوء بالصيال واجليال واحلصار‬ ‫واالستعامر بكل أشكاله املادية والروحية‪.‬‬ ‫أما كالم األستاذ خالد كموين عن‬ ‫الصويف‬ ‫املنهج‬ ‫استخدام زكي األرسوزي‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫يف تعليل وجود اإلنسان العريب احلضاري‬ ‫بالربط بني وجوده املادي وأدائه الروحي‬ ‫فإين أعتقد أن السمو باللغة داللة وإحيا ًء‬ ‫يدخل يف باب اإلرشاق والتأويل‪ ،‬ال‬ ‫يف مهج الصوفية املعتمد عىل الشطح‬ ‫واالقرتاب من السوريالية يف كثري من‬ ‫تعبرياته ورؤاه‪ ،‬فقد كان سطوع اإلرشاق‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 194‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الروحي يف الذات العربية يف حقبة ما قبل‬ ‫اإلسالم باديا يف تراثهم املعرب بصدق عن‬ ‫مكنونات تلك النفس القلقة الباحثة عن‬ ‫تأويل لكينونتها يف لغة متقدمة إرشاقية‬ ‫ولعل شعر أمية بن الصلت خري معرب‬ ‫عن شوق انتظار هبوط السامء إىل األرص‬ ‫لتغدو األرض سامء "ما جاوزهتا سامء"‪ ،‬إن‬ ‫رقي اللغة العربية كانت تعبري ًا عن سمو‬ ‫الروح العربية الظمأى للسفر أبعد وراء‬ ‫ماهيتها املحدودة‪ ،‬وما تعلقها باألرقى‬ ‫إال التفسري احلقيقي لقول الرسول العريب‪:‬‬ ‫"إنام بعثت ألمتم مكارم األخالق" ـ وإن‬ ‫كان األستاذ عبداهلل العالييل يرص عىل‬ ‫"كرم األخالق" يف احلديث وليس مكارم‬ ‫األخالق"‬ ‫وقد يكون مفهوم التأويل هو األجدى‬ ‫يف هذا املجال ‪ ،‬حيث تكمن قيمة التأويل‬ ‫يف اسبطان املعنى للوصول إىل مرحلة‬ ‫معنى املعنى‪ ،‬وربام اإلضافة إىل أبعد مما‬

‫يراه صاحب النص األصيل‪ ،‬وهكذا يكون‬ ‫التأويل كتابة ثانية للنص اإلبداعي‪ ،‬وهو‬ ‫أبعد من نظرية حماكاة املعنى تفسري ًا‪،‬‬ ‫فالتأويل يف غايته القصوى احتامالت‬ ‫بال هناية‪ ،‬وهي ال تأيت إال بعد مرحلة‬ ‫التفسري املبسط للنص يف استدالالته‬ ‫املبارشة‪ .‬ويكون يف بعض مراميه حتويل‬ ‫املعنى إىل حال‪ ،‬ويف هذا التأويل تكون‬ ‫األمة قد بلغت مستوى متقدم ًا من النصج‬ ‫احلضاري‪ ،‬وكانت آيته التأويل الروحي‬ ‫للقرآن‪ ،‬أومل يقل اإلمام عيل ألصحابه‬ ‫حني أرادوا إقامة احلجة عىل اخلوارج‪" :‬ال‬ ‫جتادلوهم بالقرآن‪ ،‬فالقرأن محـّال وجوه"‪.‬‬ ‫وتظل اللغة رضورية رغم ضعف قدرهتا‬ ‫عىل اإلحاطة بالتأويل مع أهنا وعاؤه يف‬ ‫الوقت نفسه‪.‬‬ ‫وأخري ًا‪ ،‬أقول إن هذا الكتاب جيد‬ ‫ورضوري‪ ،‬وكنت أمتنى لو أعطاه حبيبنا‬ ‫خالد جهد ًا صياغي ًا أكثر‪.‬‬

‫عمـر شـبيل‬

‫(‪ )1‬املحاكاة ‪/‬ص ‪/ 18‬خالد كموين‪.‬‬ ‫(‪ )2‬خالد كموين ‪ /‬املحاكاة‪ /‬ص ‪.21‬‬ ‫(‪ )3‬خالد كموين\املحااكاة \ص ‪.119‬‬ ‫(‪ )4‬املحاكاة ص‪\ 98‬خالد كموين‪.‬‬ ‫(‪ )5‬مجهورية أفالطون‪ :‬ترمجة حنا خباز‪ .‬بريوت‪ .‬دار القلم‪. 204 .‬‬ ‫(‪ )6‬أرسطو طاطاليس‪ ،‬كتاب العبارة‪ ،‬نقل إسحاق بن حنني‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬بريوت دار‬ ‫القلم‪ ،1980 ،‬ص ‪.99‬‬ ‫(‪ )7‬خالد كموين‪ /‬املحاكاة ص ‪.210‬‬ ‫(‪ )8‬خالد كموين‪ /‬املحاكاة‪ /‬ص ‪2.47‬‬


‫ملف ال�شباب‬ ‫ـ ن�شيد املقاوم‬ ‫ـ خواطر‬ ‫ـ فو�ضى هذا ال�شارع تزعجني‬ ‫ـ ر�سالة الدامناركـ هواري‬



‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪197‬‬

‫نشــيد املقـاومـة‬ ‫زيـنب فـايـز راضـي‬

‫ع�شية ن�رصي‬ ‫وقبل ان اريح �سالحي‬ ‫او اكل خبزي او اذكر اهلي‬ ‫او يربد جرحي‬ ‫�أعاهد‬ ‫�أن �أبقي امللح فوق جراحي‬ ‫و�أن يكون يف جيوب الريح مكاين‬ ‫وفوق تالل الكون يبقى و�شاحي‬ ‫�أبقي خيرب ّ‬ ‫وذل عدوي ملك مييني‬ ‫�أ�سداً �أبقى �أحمي عر�ضي �أحمي عريني‬ ‫هذا بيتي هذا طفلي‬ ‫هذي دمائي‬ ‫�سوف اقاوم‬ ‫ولكل مقاوم‪/‬كل وفائي‬ ‫�سالحي �سيبقى‬ ‫وبقاء �سالحي‪/‬يعني بقائي‬

‫زيـنب فـايـز راضـي‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 198‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫خــواطــر‬ ‫عمـران الوردانـي‬

‫الفرح الالفح‬ ‫جل�ست عند املغيب‬

‫�إنك تت�أمل روحك‬

‫م�ستند اً ‪....‬‬

‫يف اندماج املوج‬

‫لإحدى �صخور ال�شاطئ‬

‫وتك�سرُّ ِه الالمتناهي‪...‬‬ ‫ولي�س عقلك بهاوية‬

‫مل مي�ض على وجودي‬

‫� ّ‬ ‫أقل مرارةً‪...‬‬

‫هنيهة ‪.....‬‬

‫�إنك تتم ّتع بالغو�ص‬

‫حني �أح�س�ست‬

‫�إىل �صميم �صورتك‬

‫ب�صوت يناديني‪....‬‬

‫فال تكن غارق ًا‪...‬‬

‫يناديني‬

‫غارق ًاعند امل�ساء‪،‬‬

‫من �أعماق الأمواج املتالطمة‬

‫طوي ًال‬

‫املتك�رسة عند �أقدامي‬

‫بال�سكنى �إىل �أحزانك‬

‫قائ ًال يل‪:‬‬

‫بل �أغرق �صباحك‬

‫مت�أم ًال �شارداً‪.....‬‬

‫�أيها اجلال�س مع نف�سه كئيب ًا �شارد بالفرح اخلالق‪...‬‬ ‫الذهن‬

‫ٍ‬ ‫اخلالق ل ٍ‬ ‫ندية‬ ‫أجواء‬

‫البحر مر�آتك‪:‬‬

‫من �أفكارك الالفحة‪...‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪199‬‬

‫ا مل�ستبد‬ ‫�آه كم �أمتنى‪.....‬‬

‫وحملتك‬

‫لوكان ال�سحر‬

‫مت�شبثة بعنقي‬

‫خامت ًا يف �إ�صبعي‬

‫ت�رصخني‬

‫وكان القرار يل �إىل الأبد‬ ‫لكنت جعلت منك‬ ‫�أمرية الن�ساء‬ ‫وع�شرتوت احلب‬ ‫و�أقمت �سوراً‬

‫يف �أذين‬ ‫فوق ال�سحاب‬ ‫يف عنان ال�سماء‬ ‫يا لك من جمنون‬

‫بينك‬

‫�أع�شقك‬

‫وبني الرجال‪!!!....‬‬

‫�أيها امل�ستبد‬

‫عمـران الوردانـي‬ ‫املنارة ـ البقاع الغريب‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 200‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫قصة قصيرة ً‬ ‫جدا‪:‬‬

‫فوضى هذا الشارع تزعجني‬ ‫فـرح حممـد ديـاب‬

‫فو�ضى هذا ال�شارع تزعجني‬ ‫روائح اخليانة التي تفوح من جدران الأبنية‬ ‫حتوك �أوتاداً من خيوط العناكب‬ ‫بني روحي وج�سدي‬ ‫كل التماثيل مت�شي بقناع عنرتة‪...‬‬ ‫ك ّلهم عنرتة‬ ‫� ّأما �أنا‪� ،‬أحمل كتابه يف يدي‬ ‫و�أعرف �أ ّنه ال يعي�ش �إ ّال يف هذا الكتاب‬ ‫و�أعرف � ّأن كل هذه الأقنعة من غبار‪،‬‬ ‫مع �أنني ال �أجيد قراءة عيون التماثيل‪.‬‬ ‫ومازلت يف ذلك ال�شارع �أ�سري‪...‬‬ ‫�أم�سح رائحة اجلدران عن ثيابي‬ ‫و�أنف�ض غبار الأقنعة عن وجهي‪...‬‬ ‫حممد دياب‬ ‫ق�صة ق�صرية ّ‬ ‫ّ‬ ‫جدا ل فرح ّ‬ ‫فـرح حممـد ديـاب‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪201‬‬ ‫الشاعرة فادية كمال اخلشن‬

‫شعب الشعر املختار‪ ..‬وجمع املؤنث العاشق‬ ‫مـروان حممـد درويـش‬ ‫ربان دمي‪..‬‬ ‫«�أنا ّ‬ ‫ي�شتعل � ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ�شتعل‪..‬‬ ‫وحيث ما‬ ‫�أنا �شعب ال�شعر املختار‪..‬‬ ‫�أنا فريق العاطفة‪..‬‬ ‫اقرتبت من ٍ‬ ‫رف�ضت �سجنها‪..‬‬ ‫قامة‬ ‫ك ّلما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�أنا مو�سوعة �أ�سمائي و�شاهد ع ّفتي‪..‬‬ ‫�أنا حاملة مفاتيحي و�أبواب كنوزي‪..‬‬ ‫ابتعدت بالزمن �أتولَّ ُد م ّني‪..‬‬ ‫ك ّلما‬ ‫ُ‬ ‫بال�شعر �أ�صنع ع�شق ًا‬ ‫وفرادي�س وق�صائد‬ ‫وحرية‪..‬‬ ‫و�أ�سئلة كثرية و�سخرية ّ‬

‫هو ملكي وملكتي ومملكتي‪..‬‬ ‫هو غزوي وفتوحاتي‬ ‫ونظام حكمي‪..‬‬ ‫هو قلبي املفتوح‪..‬‬

‫أحر ُر الأنا من نرج�سه‬ ‫به � ِّ‬ ‫أحر ُر زمن ًا وكون ًا وحلم ًا قا�سي ًا‪..‬‬ ‫و� ِّ‬

‫أحر ُر ال�ضوء ال�سجني»‬ ‫وبه � ِّ‬

‫إهنا األديبة املم ّيزة وشاعرة لبنان‬ ‫املهاجرة فادية كامل اخلشن‪..‬‬ ‫كثريون هم الذين هاجروا من‬ ‫أوطاهنم واستثمروا غربتهم استثامر ًا‬ ‫ج ّيد ًا‪،‬فلم يتوقفوا عند عوائق احلياة يف‬ ‫املجتمعات اجلديدة‪،‬بل واصلوا رحلة‬ ‫البحث عن التقدُّ م واالزدهار‪ ،‬وبخاص ًة‬ ‫ا ُملبدعني الذين نقشوا أسامءهم يف بالد‬ ‫ٍ‬ ‫بأحرف من نور وحفظ هلم التاريخ‬ ‫املهجر‬ ‫العريب قيمهم األدبية والفنية‪ ،‬وما زالت‬ ‫قصائد بعضهم ومدارسهم الشعرية مادة‬ ‫أساسية يف املناهج األدبية العربية‪.‬‬

‫فادية اخلشن واحدة ممن افرتستهم‬ ‫الغربة‪ ،‬تقول يف إحدى قصائدها‪« :‬أنا‬ ‫والغربة‪ ..‬حسنا ٌء ووحش"‪.‬‬ ‫وأحيان ًا ترى أن الغربة أخرجتها‬ ‫من حالة الرتابة الباردة والرت ُّقب اجلامد‬ ‫والتأهب واملراوحة‪،‬إىل حالة االنطالق‬ ‫ُّ‬ ‫حيث اآلفاق الواسعة الرحبة والعوامل‬ ‫ولونت خياالهتا‬ ‫األكثر تفتُّح ًا وانفتاح ًا‪َّ ،‬‬ ‫وأمدَّ هتا برؤى أكثر غنى‪ ،‬وزودهتا بلغةٍ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جديدة ف َعز َفت عىل ناياهتا كثري ًا من‬ ‫شعرية‬ ‫قصائدها‪.‬‬ ‫تقول‪" :‬يل فلسفتي اخلاصة للغربة‪،‬‬ ‫أقول يف إحدى قصائدي‪" :‬السؤال‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 202‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫منفى واألجوبة وطن"‪ .‬فالغربة عندي‬ ‫هي السؤال الذي ال يلقى جواب ًا؛ لذا‬ ‫ٍ‬ ‫بوجدان حارض‪،‬‬ ‫تراين الراكضة أبد ًا‬ ‫واملاضية إىل ما ال هناية وراء خيط النور‬ ‫ّ‬ ‫وظل الشمس الضاحك طارق ًة األبواب‬ ‫بيد اخلَيال‪ ،‬مسافر ًة أبد ًا بتوق القصيدة‬ ‫وبكل املسافات واألمكنة ِّ‬ ‫وكل األزمان‪،‬‬ ‫اب آفاق‪،‬‬ ‫جو ُ‬ ‫ّ‬ ‫كذا الشاعر سندباد متبصرِّ‬ ‫أ ّما غربتي املكان ّية‪ ،‬فشأهنا شأن الثلج‪،‬‬ ‫هي غرب ٌة عابر ٌة ورهينة الطقس النفيس‬ ‫وهجامت احلنني‪ ،‬جت ِّففني أحيان ًا وتر ُبت‬ ‫عىل كتفي حين ًا آخر‪ ،‬أميض هبا منقاد ًة‬ ‫بجرس الضباب؛ حيث أن الغربة ال تلدُ‬ ‫إالّ الغربة واملنايف‪ ،‬فالشمس يف الغربة‬ ‫رس ًا برائحة‬ ‫ّ‬ ‫ممزقة التيجان‪ ،‬والفراغ يرمتي ّ‬ ‫اجلسد"‪.‬‬ ‫والغربة أحيان ًا مت ِّث ُل هلا هاجس ًا مؤمل ًا يف‬ ‫قصائدها فتقول‪:‬‬ ‫اجلغرايف العارف‪ُ ..‬د َّلني‬ ‫"أيهُّ ا الطري‬ ‫ّ‬ ‫عىل الدولة األوسع من حضن أ ّمي!!"‪.‬‬

‫فادية كامل اخلشن‪ ،‬لبنانية اهلو ّية‬ ‫والكيان‪ ،‬من بلدة سحمر ـ البقاع الغريب‪.‬‬ ‫حفيدة الشاعر والصحايف املهجري عبد‬ ‫اللطيف اخلشن‪،‬وشقيقة الشاعرة وفاء‬ ‫كامل اخلشن‪ُ ..‬ولِدت يف دمشق‪ ،‬ودرست‬ ‫وخترجت من‬ ‫يف مدارسها وجامعتها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ك ّلية اآلداب قسم اللغة العربية‪ .‬عملت‬ ‫يف الصحافة السورية طوال سنوات‪،‬‬ ‫ونرشت قصائدها يف خمتلف املجالّت‬ ‫والصحف السورية واللبنانية‪ .‬متأهلة من‬ ‫الشاعر والروائي العراقي أسعد اجل ّبوري‪،‬‬ ‫وهلام ثالثة أوالد‪ ،‬وتُقيم مع عائلتها يف‬ ‫الدانامرك حيث عملت مديرة حترير جم ّلة‬

‫"طقوس" التي تصدر باللغتني العربية‬ ‫واإلنكليزية‪،‬والتي يتولىّ زوجها مسؤولية‬ ‫رئاسة حتريرها‪.‬‬ ‫تقول‪" :‬أنا وأسعد زم ٌن كامل ال ٌ‬ ‫ليل‬ ‫يرض‬ ‫نور تتبعه ظلمة‪..‬ال‬ ‫يتبعه نور وال ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫نجمي لو خفق نجمه وال خيفت ضوئي‬ ‫ٍ‬ ‫التفات إىل‬ ‫لو سطع ضوؤه‪ ،‬نميض دون‬ ‫ا ُملقارنات والنقد املؤدلج املصنوع بمعامل‬ ‫الشلل ّية النقد ّية‪ ،‬نميض وأساطرينا بني‬ ‫جوانحنا وأحالمنا يف أغلفتنا‪ ،‬ما زال‬ ‫ثمرنا الشعري يانع ًا وما زالت ورود ح ّبنا‬ ‫ٍ‬ ‫بشفاه ند ّية‪ ،‬وما‬ ‫محراء‪ ،‬وهاك أقالمنا‬ ‫زلنا يف حرك ّية الشعر األكثر نقا ًء‪ .‬مع ًا يف‬ ‫احلب ومع ًا يف مشاوير العاطفة‬ ‫تواليات‬ ‫ّ‬ ‫ومع ًا يف االنسياب الشعري اجلميل الذي‬ ‫نهُ ِّش ُم بحرارته رأس الغربة ونكرس اجلليد‬ ‫رب‬ ‫اهلم الوطني خ ٌ‬ ‫اإلسكندنايف‪ .‬كالنا يف ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كشاعر وصحاف ّية‬ ‫عاجل‪ .‬مع ًا بدأنا‬ ‫وصحايف وشاعرة‪.‬كتبنا القصائد ا ُملشرتكة‬ ‫وأضعناها ورسق ناقدٌ يقط ُن يف السويد‬ ‫أمجل قصائدنا فحزنّا عليها ومتنّينا لو ّ‬ ‫كل‬ ‫تتحول إىل رسقة قصائد‬ ‫الرسقات يف العامل‬ ‫ّ‬ ‫فقط‪ .‬مارسنا العبث الطفو ّيل اجلميل‪..‬‬ ‫ركضنا يف الشوارع‪ ..‬مع ًا مجعت الطرقات‬ ‫ِ‬ ‫وتراضينا‪ ..‬ودائ ًام‬ ‫ضحكاتنا‪ ..‬خصامنا‬ ‫بحب األصدقاء واحرتامهم‪.‬‬ ‫كنّا نحظى‬ ‫ّ‬ ‫احتضنّا مع ًا قلق الشاعر وفهمنا أمزجته‪.‬‬ ‫هندي مجيل‪ٌّ ..‬‬ ‫كل‬ ‫مضينا مع ًا يف فيل ٍم‬ ‫ٍّ‬ ‫منّا ترنّم جلديد اآلخر الشعري وح ّفزه‪،‬‬ ‫وكانت أمجل اهلدايا بيننا قصيدة جديدة‪ ،‬مل‬ ‫نأبه للزمن وال للجيب الفارغ‪ ،‬أزماننا كنّا‬ ‫نصنعها عىل الورق العاشق الذي سكبنا‬ ‫فوقه قصائدنا توق ًا وشغف ًا‪ .‬هكذا خلقنا‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪203‬‬ ‫أكواننا ومناخاتنا التي ال تتحدّ د بفرتة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫زفاف‬ ‫قران أو زواج‪ ،‬ومع ًا يف‬ ‫خطبة أو‬ ‫دائم‪ ،‬وال أدري كيف ُرزقنا بثالثة أقامر"‪.‬‬

‫القصة جمموعة "أحالم‬ ‫صدر هلا يف‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الق ّطة البيضاء"‪ ،‬وهي جمموعة قصصية‬ ‫موجه ٌة للطفل‪ ،‬تقول عنها‪" :‬لقد كانت‬ ‫ّ‬ ‫اهتمت بالتقنية الكتابية‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫عفو‬ ‫جتربة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واللغة السهلة واأللفاظ السلسة دون‬ ‫أن تُق ِّل ُل من الدور الرتبوي‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫والتسلية‪.‬قصة "أحالم الق ّطة‬ ‫دور اللعب‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الرسام ا ُملبدع‬ ‫البيضاء" ُأرف َقت برسوم‬ ‫ّ‬ ‫أمحد معال‪ ،‬التي بدورها قدّ مت متعة فنّية‬ ‫ضمت يف ط ّياهتا من هبجة اللون‬ ‫خالصة ملا َّ‬ ‫بهج نفس الطفل‬ ‫ومجال اللوحات‪ ،‬مما ُي ُ‬ ‫ويغمرها بالتفاؤل والسعادة‪ ،‬كانت جتربة‬ ‫إنسانية‪ ،‬اهلدف منها املسامهة يف ٍ‬ ‫نتاج ثقايف‬ ‫يتوجه لطفل اليوم رجل الغد‪ ،‬فعامل ُ الطفل‬ ‫ّ‬ ‫عامل ٌ بال ضفاف قابل لالندهاش‪ ،‬وبالتايل‬ ‫َّ‬ ‫ب مهارة العبي‬ ‫فإن تشكيل ثقافته تتط َّل ُ‬ ‫السريك‪ .‬إن الكتابة للطفل منغمس ٌة يف عامل‬ ‫اإلثارة واخليال العلمي أو كتابات تفرش‬ ‫الورود يف طريقه وتُبعده عن الواقع‪ ،‬أو‬ ‫كتابات إنشائية مدرسية ال تُساهم يف رفع‬ ‫ٌ‬ ‫مستوى كيانه الوجداين واإلدراكي‪ ،‬ومن‬ ‫ُ‬ ‫نلحظ شغفه بأفالم الكرتون و ُمتابعته‬ ‫هنا‬ ‫لألفالم أسو ًة بالكبار"‪ .‬وهلا رواية بعنوان‬ ‫ِ‬ ‫"عرق السواحل" صدرت يف دمشق عام‬ ‫‪.2011‬‬ ‫أ ّما يف الشعر‪ ،‬فقد أثرت الشاعرة‬ ‫ٍ‬ ‫بعدد من‬ ‫فادية اخلشن الساحة الثقافية‬ ‫دواوين‪:‬نار‬ ‫ا ُملنجزات الشعرية هي مخسة‬ ‫ٌ‬ ‫احلب‬ ‫منك تتبعني‪،‬املستأنس بينابيعه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫زحف ُمقدّ س ‪،‬مجع املؤنث العاشق‪،‬‬ ‫ٌ‬

‫نصوص‬ ‫والسمكة اهلاربة بداية بحر‪ .‬وهلا‬ ‫ٌ‬ ‫ومقاالت أدبية منشورة يف العديد‬ ‫شعرية‬ ‫ٌ‬ ‫من املواقع اإللكرتونية منها‪ :‬اإلمرباطور‪،‬‬ ‫جهة الشعر‪ ،‬جنون‪ ،‬ا ُملغرتب‪ ،‬تريز‪ ،‬جم ّلة‬ ‫ميدوزا ومبدعون عرب‪ .‬وهي عضو يف‬ ‫احتاد الصحفيني‪ ،‬وعضو احتاد الكتّاب‬ ‫الدانامركيني‪.‬‬

‫للشاعرة فادية اخلشن مرشوعها‬ ‫الشعري ا ُملتنامي‪ ،‬وتسعى إىل حتقيقه عرب‬ ‫العمل بأدواهتا اللغوية اخلاصة بتجربتها‬ ‫ٍ‬ ‫مقامات من ٍ‬ ‫نور‬ ‫والتي تقول عنها‪" :‬عىل‬ ‫بذهنية متموسقة وبرقة الطائر الشغوف‬ ‫أنفلت من بحار الضجيج اليومي إىل‬ ‫منارات القصيدة إىل صور مشحونة برنني‬ ‫احلب واحلياة أتقلب بذاك االستشفاف‬ ‫القابع وراء الرؤية الصافية املتسلل إىل‬ ‫الروح بخفة أنغام الكون ضد قفص‬ ‫املكان وديكتاتورية الزمان أميض كام املاء‬ ‫الزالل‪ ،‬يزخرف اخلرائط أكون سندباد‬ ‫أكون سندريال وأكون به "أوليس" يف بلد‬ ‫العجائب الشعر‪ ،‬وبه أسرب مطاوي الذات‬ ‫وبلغته أكرب تارة وأراهق أخرى‪ ،‬وبخياله‬ ‫أنصف آدميتي‪ .‬هو غزوي وفتوحايت‪ ،‬هو‬ ‫توأمي الذي تربى معي وترعرع‪،‬هو حينا‬ ‫قطتي وحينا الكون‪ ،‬أتقلب به كثريا وأنزح‬ ‫بعيد ًا‪ ،‬هو األريج الذي حيبو يف رشاييني‪،‬به‬ ‫أميض إىل ما لست أعرف‪ ،‬هو حبي‬ ‫وسعاديت أتنفسه ويتنفسني‪ ،‬هو جزعي‬ ‫وتوقي شكّي وسخريتي‪ ،‬هو طائر التوق‬ ‫العمالق‪ ،‬هو الذي ال ينعم باالكتفاء‬ ‫وبه أصل إىل القمر‪ ،‬هو العامل املعقم‬ ‫والفائض يف غمرة احلروب واخلرائط‬ ‫هو قرصي وصوجلاين ملكي ومملكتي‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 204‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫ودستور حكمي واخلارج عن دساتريه‬ ‫مطرود إىل غبار الثكنات‪ ،‬هو صاحب‬ ‫اجلاللة به أدخل احلياة وبه أستعيص عىل‬ ‫الفناء‪ ،‬الشعر نبض بيدي‪ ،‬هو املكتمل‬ ‫بعدالته‪ ،‬هو الريح حني تكون غزالً كوني ًا‬ ‫والطبيعة حني تكون أبجدية اآلهلة‪،‬هو‬ ‫أرض وسامء وبينهام شوكة اإلنسان‪ ،‬هو‬ ‫الطري حني يكون استطالة عشق‪ ،‬والقبلة‬ ‫حني تكون عىل الشفاه تفاحة كاملة ‪،‬هو‬ ‫الروح املتعرشة عىل كتف الوحش الزمني‪،‬‬ ‫هو زهرة اللؤلؤ الساقطة من عني حب‬ ‫بكر‪،‬هو قارع أبواب الشوك‪ ،‬هو الرحيق‬ ‫املتضوع من اللغة والرغبة الصارخة‬ ‫يف معابر الدم احلار‪،‬هو الكيان املغتسل‬ ‫من الدخان والنوم الكاريكاتوري‪ ،‬هو‬ ‫حارس الدهشة الباكي النطفاء حجر‪،‬‬ ‫هو العطر اختزال كل ربيع‪ ،‬هو منجل‬ ‫السؤال وبوسرت االحتامالت‪ ،‬هو عني من‬ ‫سامئها يستنسل الرحيق‪ ،‬هو امللح عىل‬ ‫أريض املليئة بالرباكني‪ ،‬هو ذوق اآلهلة‬ ‫وحلوى الشفاه‪ ،‬هو الباشق الذي يعلو‬ ‫مع رذاذ املوج ليقطف احلب من وهج‬ ‫الشمس‪،‬هو الغواص الذي يعيد للبحار‬ ‫ابتساماهتا املغتصبة‪ ،‬هو الشوارع البيضاء‬ ‫املفتوحة القلب عىل عامل السمو‪،‬هو الذي‬ ‫حيرر الضوء السجني‪ ،‬هو اهلازيء من قدع‬ ‫األيام‪،‬وطن يتأرشف يف العني‪ ،‬هو قاتيل‬ ‫حلظة التجيل العظيم‪ ،‬هو حلم ودم وغزل‬ ‫وحب يتجول بوروده وشذاه يتضوع‬ ‫برذاذه فوق كل مجال‪ ،‬هو الكالم املتقافز‬ ‫غزل إىل ٍ‬ ‫من ٍ‬ ‫غزل فوق املجالس والقرارات‬ ‫واألوراق واألوسمة‪ ،‬وهو النور املنبعث‬ ‫من أرض احللم‪ ،‬به نصنع للوطن عل ًام‬

‫متخ ًام باالنتصارات‪،‬وهو الشارع حني‬ ‫يكون قلب ًا مفتوح ًا‪ ،‬هو اإلنسان اختزال‬ ‫الكون‪،‬هو اجلسد حني يصري روح ًا ال‬ ‫تنعم بالسكينة ال فوق ألواح احلكمة‬ ‫وال يف شفافية الرباءة‪ ،‬هو من يكرب به‬ ‫العامل واإلنسان‪ ،‬هو األوكسجني املنشط‬ ‫لأليام‪،‬هو املنهمر عيل من براق ظميء‪،‬‬ ‫هو ملح عىل أريض الدافئة‪ ،‬هو جند بال‬ ‫أسلحة‪ ،‬هو شعويب الكثرية‪.‬‬

‫وعن رسالتها تقول‪" :‬رسالتي أالّ‬ ‫تنغمس القصيدة يف ِدبق الشعارات أو‬ ‫تغرق يف التقليد األعمى‪ .‬رسالتي أن تبقى‬ ‫حرة ال تقبل املكوث يف العزلة‬ ‫القصيدة ّ‬ ‫بحرية‬ ‫وال ترتيض دور اخلَ َفر‪ ،‬أن تنتقل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ب‪ ،‬تُغامر‪،‬‬ ‫من‬ ‫عرص إىل عرص‪ ،‬تغضب وتحُ ّ‬ ‫حتتج وتتجنَّح‪ ،‬ترصخ‪ُّ ،‬‬ ‫تدك عروش ًا وتبني‬ ‫ُّ‬ ‫تخُ‬ ‫ً‬ ‫بحرية إنسان‬ ‫بلدانا‪ ،‬ترصخ و اطب العامل ّ‬ ‫ما قبل احلدود طارق ًة األبواب والعوامل‪،‬‬ ‫تتحو ُل إىل ٍ‬ ‫يقرع‬ ‫طبل‬ ‫مقتحم ًة اآلفاق كيال‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫يف حرضة املال‪ ،‬أن تكون ذات فضاءاتٍ‬ ‫تقفز من‬ ‫وأحالم‪ ،‬وأن تكون نبض ًا ُمش ّع ًا ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫توقف‬ ‫زمن إىل زمن‪،‬‬ ‫قمة ومن‬ ‫ُ‬ ‫قمة إىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫احلب وتقتل‬ ‫وتسترشف الغد‪ ،‬تُعل ُن‬ ‫حروبا‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫الربد العاملي‪،‬أن تكون درع ًا وقائي ًا ضد‬ ‫أسلحة الفراغ واإلبادة الذهنية الدعائية‪.‬‬ ‫أنا ال أستسيغ االستنساخ وأسعى‬ ‫ِّ‬ ‫لكل‬ ‫تتلون قصائدي‪ ،‬وأن يكون‬ ‫أن‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫اخلاصة‪،‬وأعتقد أنني‬ ‫قصيدة هالتها‬ ‫ّ‬ ‫يف جتاريب الشعر ّية ماضي ٌة يف الطريق‬ ‫ٍ‬ ‫ثقايف‬ ‫بمخزون‬ ‫الصحيح‪،‬متس ِّلح ٌة‬ ‫ِ‬ ‫جامعي‪ ،‬حيث َّ‬ ‫أن الشعر مل يأت إ ِّيل‬ ‫بالصدفة وال باألمنيات والرغائب‪،‬كام‬ ‫أنّه ليس بالسرية الذات ّية‪ ،‬وأنا حريصة‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‪205‬‬ ‫عىل أن أبقى خارج الضبابية ّ‬ ‫اهلشة التي‬ ‫تدعو لالرتياب‪ ،‬والشعر هو يف حقيقة‬ ‫ُ‬ ‫األمر روحي السابعة‪ ،‬وهو‬ ‫العصيان ضدّ‬ ‫التعليب والتغريب والتغييب والتمومؤ‬ ‫كر يف ت ّفاحة الكون التي‬ ‫الس ُ‬ ‫والتو ُّثن‪ ،‬وهو ُ‬ ‫ال تسقط بأ ّية جاذبية‪ ،‬هو حلوى للشفاه‪.‬‬ ‫ولعليّ أو ّفق باستخدام اللغة الرشيقة‬ ‫الزاخرة باملعاين واإلحياءات واملتزاوجة‬ ‫مع املخزون املعريف واملتضافرة مع ملكة‬ ‫الشعر والبعيدة عن التك ُّلف والصنعة‪.‬‬ ‫وما يمكنني أن أقوله عن قصيديت أهنا غري‬ ‫مستعبدة لذاكرة وال ظ ًّ‬ ‫ال ألحد‪ ،‬تتجدَّ د‬ ‫فيها األسئلة حماول ًة فتح األبواب‪،‬خارج ًة‬ ‫متلمس ًة طريقها وسط ركا ٍم من‬ ‫عن العادة‪ّ ،‬‬ ‫العتمة بحث ًا عن بصيص إنسان حيث ما‬ ‫ٍ‬ ‫خالص فردي‬ ‫دت يوم ًا أن أبحث عن‬ ‫تعم ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وطن أو فكرة أو مجاليات‬ ‫عىل حساب‬ ‫أو ف ٍّن‪ ،‬وال عىل حساب ُرفات الشعر أو‬ ‫أتعمد أن أخالف كي‬ ‫رفات الوطن‪ .‬فأنا مل ّ‬ ‫أحول قصيديت إىل‬ ‫عرف‪،‬وال حاولت أن ِّ‬ ‫ُأ َ‬ ‫فيلم بورنو كي أشدَّ إليها األعناق‪ ،‬وال‬ ‫رضيت أن تكون تابع ًا أيديولوج ّي ًا أعمى‬ ‫ُ‬ ‫أردت بأن ال تتس َّلع وال أن‬ ‫حيصد اجلوائز‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تتبضع‪ ،‬وعىل هذا أقول أنا عىل ٍ‬ ‫يقني بأنني‬ ‫َّ‬ ‫عىل الطريق الصحيح‪ .‬والزم ُن خري غربال‪.‬‬ ‫حل ُلم فهو سام ُد القصيدة‪،‬حيث ال‬ ‫أ ّما ا ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أرض ُمفرغة من األحالم‬ ‫حييا الشاعر يف‬ ‫وإن كان الواقع وعر ًا صعب املراس‪،‬‬ ‫فاحللم فردوس القصيدة ونورها اجلامح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نتج مجال ّيات القصيدة‪ ،‬أ ّما رصدُ سامت‬ ‫ُي ُ‬ ‫احللم فهو دكتاتور ّي ٌة ُمضاعف ٌة؛ حيث‬ ‫جيوز حتديد مالمح احللم وسامته؛‬ ‫ال‬ ‫ُ‬ ‫ألن احللم هو خصوبة القصيدة وفائض‬

‫اإلنسان وجزؤه املجنّح الطائر"‪.‬‬

‫وعن األدب النسائي تقول‪" :‬جمتمعنا‬ ‫عموم ًا ما زال يقيم احلوارات حول املرأة ال‬ ‫التعرف‬ ‫معها‪ ،‬وما زالت هناك عوائق متنع‬ ‫ّ‬ ‫مت عن‬ ‫عىل آفاقها الفكرية‪،‬فمنذ أن َر ْ‬ ‫كاهلها ُبردة الصمت وموروثات الوأد إىل‬ ‫يومنا هذا ونتاجها األديب ال ُي َق َّوم إال وفق‬ ‫مقاييس املنجز اإلبداعي للرجال‪ ،‬حتى‬ ‫يف النقد األكاديمي ال توجد بنود ًا أخذت‬ ‫بعني اإلعتبار خاص ّية املرأة بحيث كان‬ ‫يرت َّدد عىل األلسن األدب النسائي وأدب‬ ‫ّ‬ ‫وكأن لألدب أعضا ٌء تناسلية‬ ‫الرجال‬ ‫ٍ‬ ‫يعمل هبا أو عضالت حيتمي حتت ظالهلا‪.‬‬ ‫هل يمكن أن يتحقق احللم النسائي بردم‬ ‫الفراغ اللغوي وردم اهلاوية عىل صعيد‬ ‫الذاكرة واللغة؟ وهل سيتح ّقق هلا ذلك؟‬ ‫ٌ‬ ‫خملوق بغريه‬ ‫وهي ما زالت تُعامل عىل أنهّ ا‬ ‫ال بذاته‪ ،‬وما زلنا نقول عن زوجته زوجه‪،‬‬ ‫وما زال االسم العريب املؤنث شأنه شأن‬ ‫ممنوع من الرصف‪.‬‬ ‫االسم العجمي‬ ‫ٌ‬

‫�أيها الطري اجلغرايف العارف‪.‬‬ ‫دلني على الدولة الأو�سع‬ ‫من �صدر �أمي‪.‬‬ ‫الأكرث دفئ ًا‬ ‫من خيارات البدء وحرارته‪.‬‬ ‫�أنا مثلك‬ ‫ال ادري من �أين �أبد�أ‬ ‫وال �أين �أحط‪.‬‬ ‫فال�ضباب كثيف كثيف‪..‬‬


‫املنافذ الثقايف‬

‫‪ 206‬ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يتجاذب �أطراف العقل‪.‬‬

‫�أيها الطري‪..‬‬

‫والتعاريج تراك�ضني‬

‫دلني على دولة‬

‫�أفعى بجال جل و�أجرا�س‪.‬‬

‫ال حتط ثقلها الفكري‬

‫فيما الق�صور ت�ؤرخ ذاتها‬

‫فوق فراغ ُم ّلحن‪.‬‬

‫واملال بهلوان يتدلل ب�أ�ساطريه‬

‫دولة لي�ست ك�أ�شباح الدول‬

‫واملتعرق املحكوم‬ ‫ّ‬ ‫بالعزلة والعقاب‪.‬‬

‫وال كما الدول الأ�شباح‪.‬‬ ‫ال يعبث �أثريها يف الذهن النقي‪،‬‬

‫كبدنا امل�رشح‬

‫حافراً يف نقيق العظام‪.‬‬

‫حتت مظلة التعومل‪.‬‬

‫فها هو اللحم يتخلل املكان‪،‬‬

‫�أيها الطري اجلغرايف العارف‬

‫والزمن خال�سي القرار‪.‬‬

‫دلني على دولة‬

‫�أيها الطري‬

‫ترتهل‬ ‫ال َّ‬

‫دلني على دولة‬

‫خممورة‬

‫ل�ست م�ضطرة �أن �أ�سميها‬

‫كفرا�سخ املوج امللوث بالغرق‪.‬‬

‫خ�شية �أن يتقطر منها الرتاب‬

‫وال تلهج ب�سوء الطالع‪.‬‬

‫�أو تربح عنها الأيام‪.‬‬

‫دولة ال حتمل حروبها معها‪.‬‬

‫دولة ال يرعى الوهم بها الوهم‪.‬‬

‫وال حتوم كنوار�س البحر‬

‫وال يودي التيه فيها‬

‫فوق �شهوة الدم‪.‬‬

‫�إىل التيه الأكرب‪.‬‬

‫حاورها مـروان حممـد درويـش‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.