
6 minute read
سلام رجل الحرب و السلام: تحليل لخطاب السادات في الكنيست عام ١٩٧٧
الكاتب: عمر عوف
المحرر: بشار ابو رمضان
Advertisement
محمد أنور السادات -مثل جمال عبد الناصر- شخصية من الشخصيات التي وصفها التاريخ لكن لم يصدر حكم قاطع له أو عليه. أنا أصدق )بقدر ملحوظ من السذاجة( فكرة صفاء نية عبد الناصر والسادات تجاه هذه الدولة رغم اختلاف وجهات نظرهما وطريقة إدارتهما للبلاد ورغم تعثرهما في الكثير والكثير من الأوقات. استمتعتُ بقراءة مذكرات السادات “البحث عن الذات”. حكى فيها عن طفولته في قريته الصغيرة وحياته في القوات المسلحة وتنظيمه لاغتيال أمين عثمان وحياته بالسجن و دواخل الحكم بعد .١٩٥٢ ما أحزنني كان إنتهاء السيرة في ١٩٧٦ أي قبل مفاوضات كامب ديفيد. اتفاقية سلام كامب ديفيد هي في رأيي ما أفسدت معظم ما عمله السادات، ليس لأنها كانت تسيء لمصر، بل عكس ذلك حيث أنها أرجعت سيناء ورفعت مكانة مصر الديبلوماسية أمام العالم، لكن سلام كامب ديفيد لم يهتم بفلسطين بالقدر المطلوب وكأنما هرعت مصر بسلامها وتركت فلسطين أسفل وادي الذئاب.
خطاب السادات في الكنيست كان خطابا تاريخيا بكل المقاييس، فمجرد ذهابه إلى هناك كان له عواقب وردود أفعال. كان هذا الخطاب آخر ما تناوله السادات في سيرته الذاتية وسيكون ما نتناوله اليوم.
أتى هذا الخطاب عام ١٩٧٧ ،أي بعد حرب أكتوبر بأربعة أعوام. عندما كان يتكلم السادات كان يكلم ثلاث جهات على الأقل، أولهم الحاضرون أمامه وهم الإسرائيليون، ثم يوجد المصريون وسائر العرب الذين كانت تراودهم الشكوك بشأن هذه الزيارة الجريئة، وفي النهاية كان يخاطب أيضا العالم الخارجي، أي القوات العظمى والمجتمع الدولي. يجب ألا ننسى أن هذا الخطاب أتى في سياق الحرب الباردة، وأتى في وقت كان يتلاعب فيه السادات بتوازن المنطقة فيما يخص التحالفات وتوازن القوى.
والآن… إلى الكنيست:
يقف السادات على المنبر، وقد يكون أهم منبر في العالم في ذاك الوقت الذي كان يقف عليه، وينظر إلى الأمام بنظارته المعروفة ويواجه أربع ميكروفونات بإمكانهم إستدعاء الحرب أو السلام في ثوانٍ عدة. ينظر إلى أوراقه ثم يباشر بالخطاب
"السلام عليكم و رحمة الله، و السلام لنا جميعا، بإذن الله"
"السلام لنا جميعًا، على الأرض العربية وفي إسرائيل"
و هكذا، كتب التاريخ بتلك الكلمات التقديمية ذات المعاني الكثيرة. نعم، قد صرح السادات منذ ١٩٧١ أنه مستعدٌ أن يدخل سلامًا مع إسرائيل، لكن قوله تلك الكلمات أمام البرلمان الإسرائيلي له أهميةٌ خاصة، فإنه يصرح للعالم كله أن السادات -وبالتالي مصر- قد تعالى على الحقد ومستعد للسلام، بل ويضع الأمر الواقع أمام العدو. وهذه رسالة خطابه الكامل.
وبجانب نية السلام، يوجد تصريح آخر في كلماته التمهيدية وهو اعترافه بإسرائيل كدولة شرعية، وهذه كانت واقعة أولى من نوعها ترمز لبداية حقبة جديدة للعلاقات العربية-الإسرائيلية (والعربية-العربية حيث قاطعت العرب مصر بعد كامب ديفيد). فأعلن بالفعل “نقطة تحول” في العلاقات. وهي قد كانت كذلك، لكن أكانت كما تصورها السادات؟ لنرجع إلى الخطاب لنعرف. يعلن السادات رسالته الإنسانية من البداية بوصفه للحروب المدمرة التي “يصنعها الإنسان ليقضي بها على أخيه الإنسان. وفي النهاية، إن المغلوب الحقيقي هو الإنسان”.
من ثم يقتبس السادات غاندي الذي يصفه ب”قديس السلام”، وهذا إختيار غريب بعض الشيء نظرا أن كل أمثلته الأخرى اتخذت طابعًا دينيًا. ربما يكون يتحدث إلى الغرب في تلك اللحظات. ففي الخطاب لهجة دينية مهمة يستعرض بها السادات طبيعة القدس كمجمع للأديان وأيضً ا طبيعة مهمته للسعي للسلام التي يرى أنها وُكلت له من الله. ثم يأخذ لحظة ليلتقط أنفاسه وتثقل اللحظة بحمل الكلام، ويبدأ السادات مجددًا:
أيها السيدات و السادة..."
إن في حياة الأممِ والشعوب لحظات يتعين فيها على هؤلاءِ الذين يتصفون بالحكمة والرؤية الثاقبة، أن ينظروا إلى ما وراء الماضي، بتعقيداته ورواسبه؛ من أجل انطلاقةٍ جسورةٍ نحوَ آفاقٍ جديدة.
وهؤلاء الذين يتحملون، مثلنا، تلك المسؤولية الملقاة على عاتقنا، هم أول من يجب أن تتوافر لديهم الشجاعة لاتخاذ القرارات المصيرية، التي تتناسب مع جلال الموقف. يجب أن نرتفع جميعًا فوق جميع صور التعصب، وفوق خداع النفس، وفوق نظريات التفوق البالية؛ فمن المهم ألا ننسى أبدً ا أن العصمة لله وحده”.
من الممكن أن نعتبر تلخيص الخطاب بأكمله كامن في تلك الفقرة. في رأيي إن تلك الكلمات ذات طابع تاريخي حقيقي، ومن أعظم ما نطقه السادات، سواء نُفذ بالشكل المخيل أم لم ينفذ. فلنرى أولا رؤيته للسلام، لنرى ما حُصد من ثمار هذا الخطاب وما لم يحصد.
“السلام الدائم العادل” عبارة رُدِدَت كثيرًا عبر الخطاب. في قوله السلام الدائم فهو يخاطب إسرائيل التي كانت تتوق لتأمين حدودها المتوسعة من عداء العرب، وفي قوله السلام العادل فهو يخاطب العرب الذين لم يريدوا التفريط في شبرٍ من الأراضي المحتلة.
فطرح الرئيس المصري طرحين في غاية الأهمية. أولهما أنه لم يأتِ لكي يعقد اتفاقًا منفردا بين مصر وإسرائيل وأن حل المشكلة الفلسطينية هو الطريق الوحيد للسلام الدائم العادل. ثانيهما هو أنه لا يسعى لسلام جزئي أو وقف نارٍ مؤقت، بل يسعى لاتفاقية شاملة. كان السادات في خطابه متمسكًا بحقوق الشعب الفلسطيني والدولة الفلسطينية تمسكًا كاملاً وكان مصرًا على انسحابٍ إسرائيليٍ كاملٍ من الأراضي المحتلة وإنهاء زحف الدولة الإسرائيلية على أراضٍ عربية. فيقول لإسرائيل “إن عليكم أن تتخلوا نهائيًا عن أحلام الغزو وأن تتخلوا عن الاعتقاد أن القوة من خير وسيلة التعامل مع العرب” و”لن يجديكم التوسع شيئًا” و”أرضنا لا تقبل المساومة”.
فيسأل السادات: ما هو السلام بالنسبة لإسرائيل؟ يجيب ويقول أن السلام لإسرائيل هو أن تعيش مع جيرانها العرب في أمان و وأن تحصل على كافة الضمانات الدولية من“القوتين أو إحداهما أو الخمسة الكبار أو بعضهم” وتلك النقطة الأخيرة رسالة واضحة للخارج أن مصر مستعدة للسلام، بل ومستعدة لتوسط أمريكي وربما سوفييتي.
بعد جوابه لما هو السلام يسأل السادات نفسه والعالم كيف يُحقق، وهنا يعطي شروط لإسرائيل ومنها الإنسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧ -بما فيها القدس العربية- وضمان استقرار سكانها. فيصف السادات القضية الفلسطينية ب”جوهر القضية” التي لا يمكن تجاهلها و “لا يمكن للسلام أن يتحقق بدون الفلسطينيين” وأن مطلب تخلي الفلسطينيين عن الأرض هو مطلب التخلي عن الهوية. أصبحنا نرى موقفًا حاسماً اتخذه السادات بشأن القضية. يا تُرى ماذا تغيير خلال عام واحد؟…
وفي نهاية الخطاب يعرض لنا السادات تصوره لاتفاقية سلام ونرى هُوّات ما بين الإتفاقية في الخطاب والاتفاقية في الواقع، وكأنما وضعه التاريخ ليسخر منه ومنّا! فيستعرض الرئيس المصري اتفاقه المصور وشروطه:
أولاً إنهاء إحتلال أراضي .١٩٦٧ ثانيًا ضمان حقوق شعب فلسطين بما فيه حق إقامة دولته. ثالثًا ضمان حق معيشة كل دولة في حدودها بسلام مع الضمانات. رابعًا عدم اللجوء إلى القوة، وحل النزاعات عبر المنافذ الشرعية والقنوات السلمية. خامسًا إنهاء الحرب.
ومن ثم يعيد التماسه للإنسانية والسلام والسمو ويختم خاطبه.
"“والسلام عليكم.
هكذا أعطانا السادات دعوةً للتسامح والإنسانية، وأعطانا موقفًا قويًا متمسكًا بحقوق فلسطين وشعبها، وأعطانا رؤية شاملة للسلام يخاطب فيها العدو والصديق والمشاهد معًا. من المفترض أن نجد إرثًا وفيرًا فعليًا لهذا الخطاب، وبالفعل نجد روح هذا الخطاب في بعض الأماكن وبالفعل نجد حالة سلام بين مصر وإسرائيل، لكن عدم تطبيق الخطاب -من السادات نفسه- له عواقب خاصة. يكفينا أن ننظر إلى شروط سلامه المصور ونقارنها بما يحدث.
أولاً مشكلة القدس لم تحل أبدا وكذلك الجولان، وتوسعت إسرائيل عبر مستوطنات مخالفة للقانون الدولي. ثانيًا فلسطين ما زالت لا تحمل عضوية الأمم المتحدة وبالتالي لا تحمل كامل حقوق دولة. ثالثًا اندلعت حروب بين لبنان وإسرائيل وعداء متواصل بين فلسطين وإسرائيل. ورابعًا تم القصف بين إسرائيل وحماس في غزة بشكلٍ متواصل. وخامسً ا الحرب بين مصر وإسرائيل إنتهت بالفعل، وهذا يُحسب للسادات، لكن الفلسطينيون ما زالوا يحاربون من أجل حقوقهم.
وقد صرح السادات أنه لا يريد اتفاقية سلام ثنائية مع إسرائيل لكن ذلك ما حصل عليه بالتحديد…
وقد صرح السادات أنه لا يريد اتفاقية سلام ثنائية مع إسرائيل لكن ذلك ما حصل عليه بالتحديد…
رغم التخاذل عن تطبيق الكثير مما ورد في خطاب السادات، كان الخطاب نفسه تاريخيًا ومؤثرًا في العالم كله، فيجب ألا نهمل روح الكلمات المخطوبة التي تنشد بإنسانية عليا، لكن في نفس الوقت يجب ألا نغض البصر عن الفروقات الشاسعة بين ما قيل وما طُبِق على أرض الواقع، فهكذا كان سلام رجل الحرب والسلام…