هل ميكن بن��اء دولة �إ�سالمية؟ سمير سعيفان
وجهة نظر . . سوريتنا | السنة الثانية | العدد ( / 28 | )84نيسان 2013 / أسبوعية تصدر عن شباب سوري حر
تبرز الي��وم وبقوة أكثر م��ن السابق الدع��وات الس��ترجاع دولة الخالف��ة وإقامة الدول��ة اإلس�لامية ،ولكن ه��ل هذا ممكن من الناحية العملية والواقعية؟؟ ح��ول الش��ق األول من الس��ؤال حول دولة الخالفة أظن أنه من السهل الوصول إلجم��اع بأن محاوالت أكثر م��ن 1400عام ل��م تنجح ف��ي إقامة دول��ة الخالف��ة على نسق الخلفاء الراش��دين األربع التي امتدت قراب��ة اقل من 37عام من��ذ تولي أبو بكر الصديق وحتى اغتي��ال اإلمام علي .بل إن الصراع��ات عل��ى السلط��ة قد ب��دأت وأدت لقتل ثالثة من الخلفاء الراشدين أنفسهم. وأما باقي تاريخ الدولة العربية اإلس�لامية فهو تاريخ صعود نحو القمة ثم بدء تراجع ثم تدهور ،خالطه صراع على السلطة في كاف��ة العهود ،مثله��ا مثل بقي��ة حضارات األرض. حول الشق الثاني من السؤال :فأعتقد أن التحلي��ل العلمي يؤدي بنا الس��تنتاج أن اس��ترجاع إقامة الدولة اإلس�لامية أمر غير ممك��ن عملياً وواقعي��اً ،وان ك��ان ال يتسع المجال للتوس��ع في البحث فيمكن أن نورد فكرتين أساسيتين لتؤسس الستنتاجنا. الفك��رة األول��ى :أن مفه��وم الدول��ة أوس��ع بكثي��ر م��ن بع��ض القضاي��ا التي يركز عليه��ا الكثيرون مث��ل تحريم الخمر وفرض الحج��اب وتعدد الزوج��ات وتحريم لحم الخنزير والجهاد وممارس��ة الشعائر.. ال��خ ،بل يشم��ل ما ه��و أهم بكثي��ر وهو إقام��ة البنيان األساس��ي للدول��ة ،أي بنى اقتصادي��ة محلي��ة ووطني��ة ودولية وبنى سياس��ية تشريعي��ة وتنفيذي��ة وقضائية، وبن��ى اجتماعية وثقافي��ة وفكرية وعلمية وعالقات سياس��ية دولية واس��عة ومتعددة وغيرها الفكرة الثانية :أن الظروف قد تغيرت تغيراً هائ ًال خالل أكثر من 14قرن ،واألفكار واألنظم��ة تول��د وتنم��و وتشي��خ وتموت، وال نقص��د هنا الجان��ب اإليماني والروحي والشعائر ،ب��ل نقصد البنى والمؤس��سات الدنيوية ،بحي��ث أن تلك البنى التي أقيمت ف��ي العه��ود السابق��ة غي��ر صالح��ة أب��داً إلقامة دول��ة حديثة الي��وم .نعتقد أن تلك األنظمة واألس��س والمؤسسات التي كانت مطبق��ة ف��ي دولة عه��د الرس��ول الكريم أو عه��د الخلفاء الراش��دين أو حت��ى العهد األم��وي أو العباس��ي األول كان��ت طليعية ف��ي حينه��ا ،وأتاح��ت قي��ام إمبراطوري��ة عظيم��ة ،ولكنه��ا ل��م تع��د صالح��ة اليوم لتنظيم المجتمعات الحديثة في القرن .21 فتنظيم الدولة البسي��ط السابق ال يصلح لدولة المؤس��سات الحديث��ة ،وفي الواقع ال أحد يسعى الستعادتها عمليًا رغم شعارات "إقامة الدولة اإلسالمية" ألنها غير ممكنة، ولكن دعاة إقامة دولة إسالمية لهم غايات سياسية واضحة .ولنأخذ بعض األمثلة: نب��دأ م��ن مسأل��ة اختي��ار الحاك��م، فأس��س التوري��ث أو حت��ى المش��ورة التي كانت محصورة في بضعة أفراد ،باتت غير مقبولة الي��وم الختيار الحاك��م في الوقت ال��ذي تح��ول في��ه الرعاي��ا إل��ى مواطنين يطالب��ون بالمشارك��ة الفعالة ف��ي اختيار الحاك��م ع��ن طري��ق صنادي��ق االنتخ��اب والرقاب��ة عل��ى الحاك��م والق��درة عل��ى
محاسبته وحتى إقالته ،بينما حاكم األمس في الدولة اإلس�لامية وعلى مدى 14قرن ك��ان ال ي��رد ل��ه أم��ر ،فالخليفة يزي��د ابن أبي س��فيان ق��ال "واهلل من ق��ال لي اتقي اهلل قطع��ت رأس��ه" ،والخليفة أب��و جعفر المنصور ف��ي خطبته في مكة قال "يا أيها الن��اس إنما أنا س��لطان اهلل على األرض". وه��ذا ك��ان ف��ي قم��ة انتص��ارات الخالفة العربية .وأظن أن ال أحد يقبل هذا اليوم. نظام الدول��ة البدائ��ي والبسيط في عهود الدول��ة اإلس�لامية ال يمكن أن يحل مح��ل تنظي��م الدول��ة وفق أس��س حديثة تقي��م السلط��ات التشريعي��ة والتنفيذي��ة والقضائي��ة وتفص��ل بينه��ا .والتركي��ب البسي��ط مؤس��سات الدول��ة اإلس�لامية السابق��ة ال يمك��ن إحالل��ه الي��وم مح��ل الهي��اكل المركب��ة والمعقدة لبني��ة الدولة الواس��عة بمهامه��ا العدي��دة والواس��عة. ونظ��م مؤس��سات التعلي��م القائم��ة على الكتاتي��ب والمساج��د وبع��ض المدارس ال تصل��ح إلنشاء مؤس��سات التعلي��م الهائلة والشاملة الي��وم ،ونظام القض��اء البدائي باألمس ال يصلح لتنظي��م القضاء المعقد ج��داً اليوم ،ومن المؤس��ف أن يع��ود اليوم بعضهم إلقام��ة محاكم ش��رعية بد ًال من جه��از القضاء الحدي��ث المستقل ،وتنظيم الشرطة القديم ال يصلح لتنظيم ش��رطة اليوم وأس��س تنظي��م جي��وش األمس ال تصلح لتنظيم جيوش اليوم ومثلها قواعد الح��رب والقتال ،ونظ��ام الح��رف البسيط وش��يخ الك��ار ال يصل��ح لتنظي��م الصناعة والنقابات اليوم ،ولم يكن قديمًا ثمة نظم للنق��ل والمواصالت واالتص��االت وتنظيم الفضاء والطيران ،وأنظمة وتنظيم أسواق األمس ال تكفي ابدأً لتنظيم أس��واق اليوم الهائلة ،ولم يكن في الماضي ثمة أس��واق م��ال ومصارف وش��ركات تأمي��ن ،ومبادئ تنظي��م بي��ت م��ال المسلمي��ن ال تصل��ح لتنظيم مالية الدولة اليوم ،ونظام المكوث القدي��م ال يصل��ح لوض��ع نظ��ام للجمارك الي��وم ،وقواعد تجارة تل��ك األيام ال تصلح أب��داً لتنظي��م تجارة ه��ذه األي��ام المعقدة جداً ،والعالقات الدولية السابقة والبسيطة ال تصل��ح الي��وم إلقام��ة عالق��ات دولي��ة
معاصرة ،وأس��س تنظي��م الملكية ونقلها قديم��ًا ال تصلح كأس��اس لتنظيم الملكية المادية والفكرية الحديثة ،وتنظيم المدن والعم��ران السابق ال يصل��ح لمدن الحاضر والمستقب��ل ..وك��م م��ن العل��وم والمهن والصناعات والمؤسسات الوطنية والدولية قد نش��أت ولم يكن له��ا أي وجود من قبل ولم يوجد لها أية أسس من قبل ..واألمثلة أوسع من أن تحصى. أي أنن��ا في أية دول��ة حديثة علينا أن نقيم بن��ى حديثة متطورة وهذه البنى تم تطويرها من قبل البلدان األكثر تقدمًا في أوروبا وأمريكا والياب��ان وغيرها وأصبحت أنظمة عالمية ليس له��ا دين أو مذهب أي كان ه��ذا الدين أو المذه��ب .أي أن معظم بنى ومؤس��سات أية دولة الي��وم لن تكون ف��ي معظم بنيتها وأنظمته��ا تقليداً لدولة الرسول الكريم أو لدولة الخلفاء الراشدين أو لغيره��ا م��ن العه��ود الت��ي توص��ف باإلس�لامية ،وبالتالي إذا كانت المؤسسات السياس��ية واالقتصادي��ة واالجتماعي��ة والعلمية مقامة وفق أسس معاصرة حديثة ولي��س وف��ق أس��س "الدولة اإلس�لامية" فم��اذا يبقى ك��ي نسمي أية دول��ة حديثة دولة إس�لامية؟ ثم لماذا التسمية الدينية، فالغرب لم يسم دولته بالمسيحية والهنود ل��م يسمونها بالهندوس��ية والصينيون لم يسموها بالبوذية وغيرها ،فلماذا اإلصرار عل��ى إعطاء طابع ديني للدولة بما هو غير مستحب م��ن قبل المجتم��ع العالمي ،وهو غير ممكن عملياً؟؟؟ لذلك ف��إن "إقامة الدولة اإلس�لامية" ف��ي عصرنا الحاض��ر هو أمر غي��ر ممكن وغي��ر قاب��ل للتطبي��ق عملي��ًا .ومحاججة البع��ض بأننا نستم��د المبادئ م��ن الدين الحنيف كي نقيم نظامًا عصرياً فهي حجة ضعيف��ة ألنها تعني بالضب��ط أن علينا أن تكتب مجل��دات انطالقاً م��ن بضعة أحكام نزلت ألس��باب مح��ددة "أس��باب الن��زول"، وفي ظ��روف مختلفة وزمان بعيد ،وقد تم تفسيرها واالجتهاد حولها على مدى عقود عديدة مما خلق مدارس في الفهم تناسب تلك العصور .ويبق��ى على مجتهدي اليوم أن يجتهدوا لتطوير أس��س وأنظمة أوس��ع
م��ن األصل بآالف بل وعشرات آالف المرات ويمك��ن أن تسير باتجاهات متباينة ولكنها س��تكون تقليداً لمؤس��سات وأنظمة وبنى حديثة وليست تقليداً ألي نموذج إس�لامي س��ابق .أما أن نأخذ المحت��وى المعاصر ثم نطلق عليه تسمية إس�لامي فهذا نوع من التجارة السياس��ية بالدي��ن .مث ًال ما يسمى اليوم باقتصاد إس�لامي وتكاف��ل "تأمين" إس�لامي وصيرف��ة إس�لامية وصك��وك إسالمية ليست أكثر من أخذ أسس اقتصاد الس��وق الرأس��مالي الحدي��ث والصيرف��ة الحديث��ة والتأمين الحديث وأس��واق المال الحديثة وتعديل األس��ماء ال أكثر .وهذا ما ش��بهته أكثر من مرة بمن يشتري س��يارة ألمانية س��وداء جاهزة ،ث��م يقوم بطالئها بل��ون أخض��ر ويكت��ب عليه��ا "اهلل أكب��ر" ويروجها على أنها س��يارة إسالمية كي تدر عليه أرب��اح كبي��رة ،بينما السيارة س��يارة ال إس�لامية وال مسيحي��ة وال بوذية ولسنا بحاجة لهذه التسميات. لك��ن اس��تحالة اس��ترجاع الدول��ة اإلسالمية القديمة ال يعني أن دور اإلسالم انتهى فاإلسالم باق ،وسيبقى يلهم الناس إلقامة دولة الح��ق والعدل واإلنصاف وفق أس��س عصرية حديثة في الدولة الحديثة، وس��يبقى الن��اس يتعب��دون ويمارس��ون ش��عائرهم .وغالبي��ة المسلمي��ن كغالبية الن��اس ف��ي كل مك��ان ،يشبه��ون غالبية المسيحيي��ن والهن��دوس والبوذيين وحتى غي��ر المتديني��ن ،ويطمح��ون إلقامة دول العدل واإلنص��اف والتضام��ن االجتماعي، ويري��دون دول��ة تؤم��ن ف��رص العم��ل والتعليم والسكن والدخل الجيد والخدمات الجي��دة وغيره��ا وكل ه��ذا يحت��اج لبن��ى حديث��ة قوامه��ا ثالث��ة )1العق��ل )2العلم )3العمل .أما الساس��ة المتحمسون إلقامة الدولة اإلس�لامية اليوم بم��ن فيهم رهط من رجال الدين المؤيدين لهم يستعملون ه��ذا كتج��ارة لخدمته��م ،مستفيدين من تمس��ك الن��اس بدينهم ،حت��ى تكون لهم عصب��ة ويكون لهم دور تمام��ًا كمن يدعو لتأس��يس حزب ،وبالتالي يج��ب النظر إلى ه��ذه الدع��وات كدع��وة لتأس��يس أح��زاب باس��م الدين ونزعة هالة التقديس عنها، بل يجب عدم إطالق تسمية إس�لامي على أي ح��زب حتى ال يختلط الدين بالسياس��ة لغايات معروفة. وأخت��م بحكاي��ة س��معتها م��ن رجل أعمال في اإلمارات ،فقد جاءه أحد أصدقائه اإلسالميين من رجال األعمال يتذمر من أن مدير أحد ش��ركاته الكب��رى قد ترك العمل وال يجد م��ن هو بكفاءت��ه إلدارة الشركة، فقال له المضيف :بل لديك أبا صالح شيخ الجام��ع فهو رجل أمين وصالح فتعاقد معه إلدارة الشرك��ة ،فق��ال ل��ه رج��ل األعمال الضي��ف :صحيح هو رج��ل طيب ولكن من أي��ن له الفه��م ف��ي إدارة الشرك��ة وإدارة إنتاجها وقوة العمل فيها وقضايا التسويق وش��راء المستلزمات من األس��واق الدولية والتعام��ل م��ع البنوك وغيره��ا الكثير ،هو يصل��ح ألن نصل��ي ونتعبد عن��ده ولكنه ال يصلح إلدارة شركة ،فالشركة تحت إدارته س��تفلس ف��وراً .فقال له المضي��ف :طالما أنك ال ت��راه صالح��ًا إلدارة ش��ركة واحده، فمال��ي أراك تدع��و ك��ي تحك��م األح��زاب اإلسالمية البلد؟
21