شعرية القصة
ليس أمام العاشق العابث سوى الهرب إىل علّيتها (جبل التلصص عليه ،إ َّن البحر منقذ قاسيون) ليخفت إيقاع ّ للحب بالرضورة. ّ
قصيدة املدينة
تتصاعد من قصة «ال بحر يف بريوت» مساحات من التوصيف الشعري الالواقعي ،فحجارة املدينة ،التي تشبه جسامً هشّ اً ،قدمياً جدا ً ،مثقوباً ومعطوباً ،أو حديثاً اليوم ُم ّ جدا ً ،بالستيكياً وكرتونياً ،تتح ّول أمام البطلة ،لتتض ّمن فيها قوة سحرية كقوة شخصية «امليدوزا» يف األسطورة اليونانية ،تلك الفتاة التي طارحت اإلله «بوسيدون» الغرام يف حرم معبد اآللهة «أثينا» ،فغضبت عليها وح ّولتها إىل مخلوق بشع ،له أنياب ،وصار شعر امليدوزا، بعدها ،ثعابني متف ّرقة تخرج من رأس ،يتح ّول إىل حجر كل من ينظر إىل عينيه؛ لقد تح ّجرت البطلة يف مكانها ،ال تستطيع مغادرة املدينة البحرية ،وال تستطيع يف الوقت ذاته إيجاد بحرها ،تح ّجرت يف منتصف غنائها لقصيدة املدينة ،وتبني مع هذا التح ّجر شخصيتها سوسيولوجياً وسيكولوجياً ،إنها «بريوت» أعطت األنتلجنسيا الصاعدة، يف زمن كتابة القصة ،بحرا ً حقيقياً عىل األقل ،يستطيع الجميع الوجود عىل شاطئه لكتابة القصيدة اآلرسة عن البحر. وإن كانت السماّ ن استدعت أسطورة «امليدوزا» يف قصتها الشعرية الطابع ،بطريقة جعلت ،فتاة الثعابني ،متتلك
نص يمتلك «ال بحر في بيروت» ٌّ قدرة اكتشاف الواقع ،وتكثيف الشعري ،إنه يرصد معناه ّ ً مدينة منهارة ،من بحر يهجرها في الصباح والمساء
106
بيت الشعر
العدد ( - )6تشرين الثاني/نوفمبر2012/
السطوة ،واألب ّوة األسطورية ،أكرث من األنوثة ،كام يف معناها القديم ،فإن يف بريوت وأبنيتها الحجرية ،اليوم، معنى يقرتب من حضور «امليدوزا» يف الف ّن حني جعلها ً الرسم والنحت ،بعد القرن السادس عرش ،مصدرا ً برصياً للخوف ،وبثّ الرعب يف الناظر إىل هيئتها القاسية عىل األبنية. ال ترتك بطلة القصة بريوت ،حتى تجد نفسها املرسوقة، والقابعة تحت غبار هائل السامكة ،رافقها من املدينة بحاسة الخيول الوحشية، السابقة دمشق« :لن أهربّ ، أش ّم رائحة املاء ،البحر ال بد من أن يكون ،يف مكان ما». الحب النزق ،القابع يف أعامق األنا إن الطائر املُلِ ّح ،طائر ّ يف القصة ،يتزعزع عند وصوله إىل مدينة مفتوحة عىل بيولوجي من أي موروث السهر ،السهر املوروث كام ّ ّ اآلباء إىل األبناء ،حتى اليوم ،يف مدينة بريوت؛ فام تلبث تقصها، الجديلة أن تختفي شكالً عن كتفي البطلة بعد أن ّ حتى تأيت القصة عىل مقطع ،هو أكرث بوهيمي ًة من أجواء الصخب الليلية يف املدينة ،إذ يتقلّص الطائر ّ الدال عىل الحب إىل أن يختفي« :الطري يف أعامقها يحترض ،يهذي، ّ وريشه يتناثر ،يتناثر من فمها وعينيها ،ويختلط بشعرها املجزور املتناثر ،ويستق ّر معه عىل األرض» ،تستمر الصور هنا ،بطريقة حاملة ،وتصف السامن األمل الناتج من التح ّول يف الشخصية ،بأمل وضع املرأة الحامل ،إنها تغرق يف املعنى ،وتح ّول الجمل القصرية إىل ومضات شعرية متحركة ومتطورة ،كام لو أنها تصنع من قصائد ع ّدة، مقطعاً نصياً واحدا ً ،يش ّد ويوجع يف تفاصيله املعتمة: «سوف تظل هنا حتى تجد بريوت البحر». نص ميتلك قدرة اكتشاف الواقع، «ال بحر يف بريوت» ٌّ ً الشعري ،إنه يرصد مدينة منهارة ،من وتكثيف معناه ّ بحر يهجرها يف الصباح واملساء ،وال يظهر إالّ عىل جسد شاب ريايض ،يتلصص عىل ج ْمع ساهر ،كحبيبات ماء ّ تلتصق بالجسد ،إنه عرص من التح ّول يف الطبائع؛ واملدينة التي نسيت بحرها ،تتذكّره يف وجوه أناس يعيشون ُمتخيَّلَه ،مع االنشداد إليه يف صورته الحالية املبتورة عن املدينة .قصيدة وحشية أخرى ،يف القصة ،تتكلّم عن رشه الجدد مع البحر األسفلتي الجديد ،الذي يتعايش ب ُ