العدد 88
2013-10-20
املناطق املحررة حتتاج ملجال�س تديرها ال ت�سيطر عليها �صرب دروي�ش
من هو الديكتاتور؟ �شتاء النازحني �سيا�سات اوباما الرقيب اخلالد عرفت اجلحيم
ال يكف ال�سوريون عن البحث عن رهانات تتعلق مب�ستقبلهم املقبل ،وخ�صو�ص ًا بعد �أن حتول ال�صراع يف �سوريا من ثورة �إىل حرب �أهلية تزداد ق�سوتها وعنفها يوم ًا بعد يوم. كان الرهان يف �أن ن�شبه من �سبقونا يف �إ�سقاط طغاتهم، فينتف�ض ال�شعب ب�ضعة �أ�شهر وتنحاز م�ؤ�س�سة اجلي�ش �إىل ال�شعب –كما حدث يف تون�س وم�صر -وتبدا مرحلة جديدة من التغيري ،ف�شل الرهان ،وانحاز اجلي�ش �إىل زعيمه ،ودخلت البالد يف �أتون حرب من املعروف جيد ًا كيف ومتى بد�أت ،بيد �أنه من ال�صعب التنب�ؤ بخواتيمها. وتوجه ال�شعب املنتف�ض فيما بعد �إىل دول العامل املتمدن، وراهن على فل�سفتهم يف حق ال�شعوب بتقرير م�صريها ،وخذل ال�شعب املذبوح مرة �أخرى؛ وتوجه �إىل الغيب ،وخذله الغيب م��رة ثالثة؛ فكان الب��د واحل��ال كذلك من �إع��ادة االعتبار للرهانات من جديد. على هذه القاعدة بالتحديد ،بد�أت قوى الثورة ال�سورية ب�إعادة االعتبار لقواها الذاتية وحتديد ًا تلك التي ماتزال داخل البالد ،وبد�أت بالبحث عن �إمكانيات جديدة للخروج من هذا النفق ،واالنتقال بالبالد �إىل ب ّر الأمان .وقد بدا �أن ال�سيطرة على املدن املحررة وح�سن �إدارة �ش�ؤنها ومنع ت�سرب الفو�ضى �إليها ،واحد ًا من �أهم الرهانات املطروحة على قوى الثورة. ال �أحد ينكر اليوم التخبط الذي �أ�صاب الثوار يف �إدارة مدنهم املحررة ،فقد وجد املدنيون �أنف�سهم وجه ًا لوجه �أمام مهام مل تكن تخطر على بال حتى احلاملني منهم ،فج�أة مل يعد من �سلطة للدولة وم�ؤ�س�ساتها على ع�شرات املدن ال�سورية، وفج�أة كان على ال�سوريني �أن يبتكروا �سلطاتهم البديلة. وكانت امل�صاعب التي واجهت قوى الثورة ال تعد وال حت�صى، لي�س �أولها رحيل ق�سم كبري من الكوادر املتعلمة ،والق�صف اليومي والدائم على هذه امل��دن والبلدات ..ولي�س �آخرها رغبة بع�ض الت�شكيالت الع�سكرية املعار�ضة يف ب�سط هيمنتها على املدنيني ،واال�ستحواذ على �سلطة مل تولد بعد ،كما حدث ويحدث يف الرقة اليوم ويف �شمال �سوريا عموم ًا .يقول ال�سيد ماجد �أبو علي وهو �أحد امل�س�ؤولني الطبيني يف دوما" : �أن املناطق املحرر بحاجة �إىل جمال�س لتديرها ال لتحكمها وتتخذ عنها ق��رارات �سيا�سية� ..إن �إدارة املناطق املحررة حتتاج كفاءات و�شهادات وخربات وكل يف اخت�صا�صه ،بغ�ض النظر عن امل�شارب ال�سيا�سية لهذه الكفاءات ،وبالتايل يتطلب ما ي�شبه حكومة تكنوقراط م�صغرة لكل منطقة ولي�س رئا�سة وحكم وم�شيخة و �إمارة." ..
التتمة �صفحة..2 ..
العدد 88
�سالم ال�سعدي
2013-10-20
�شتاء النازحني� :سوريون يواجهون ال�صقيع يف العراء
على �أبواب ف�صل ال�شتاء ،ي�ستعد ال�سوريون بقلق كبري ،ملواجهة كارثة ال�صقيع والتدفئة يف �سورية .فمع قلة ذات اليد ،ومعاناة النزوح، والإق��ام��ة يف م�ساكن بائ�سة مفتوحة على العراء ،ومع غياب احلد الأدن��ى من خدمات الدولة ،ينتظر ال�سوريني الكثري من ال�صقيع واملر�ض ،والقليل من الدفء والعافية. يف غرفة بائ�سة (على العظم) ،واجه �أبو معن ،النازح من مدينة داريا �إىل �صحنايا قبل عام ،وحول �شتاء العام املا�ضي و�أمرا�ضه و�صقيعه .ي�ستذكر ال�شاب الثالثيني مبرارة، معاناته وعائلته مع ق�سوة الظروف املناخية يف ذلك ال�شتاء القار�ص ،يقول �أبو معن م�شري ًا �إىل نوافذ البيت ،وهي فتحات يف اجلدار« :هل ميكن ملرء �أن يتخيل �أنني ق�ضيت مع �أطفايل �شتا ًء ك��ام� ً لا يف غرفة م��ن دون ن��واف��ذ ،ومن دون و�سيلة تدفئة؟!» ،ويتابع جميب ًا« :نعم، ح�صل ذلك ،لقد كنت �أغلق النوافذ بالنايلون والبال�ستيك ،كانت ت�صمد �ساعات فقط ،قبل �أن تع�صف بها الرياح العاتية ،وكنا نتدف�أ على الأعواد التي اجمعها من ال�شارع .وكم يرعبني اليوم� ،أن �أ�سابيع فح�سب ،باتت تف�صلنا عن جتدد املعاناة». �أبو معن لي�س حالة خا�صة ،وهو ال�سوري ال��ذي فقد منزله ،وم�صدر عي�شه ،وجل��أ �إىل ع��م��ارة قيد ال��ب��ن��اء ،ب��ل ي��وج��د امل�لاي�ين من ال�سوريني ممن يعي�شون يف مناطق النظام، وي��ك��اب��دون م��ع��ان��ا ًة مماثلة .ه��ذا ف�ض ًال عن ماليني �أخرى يف املناطق املحررة ممن حتطمت �أب��واب منازلهم ونوافذها ،وانفتحت ب�صورة م��ف��زع��ة ع��ل��ى ال���ع���راء ،فيما مي��ن��ع احل�صار لرتميم املفرو�ض على مناطقهم �أي ق��درة ٍ �ضروري ،يخفف عنـهم �صقيع ال�شتاء .وتزداد املعاناة ب�سـبب غياب م��ادة امل��ازوت وارتفاع �أ�سعارها يف �صورة ال طاقة له�ؤالء املالحقني
�صرب دروي�ش
يف عي�شهم على احتمالها. �أما الذين �سلمت منازلهم من ق�صف النظام ال�����س��وري ،وال زال���وا يعي�شون يف كنفه ،فلم ت�سلم دخولهم ال�شهرية من ذل��ك .ففي ظل حالة االنهيار االقت�صادي التام� ،سقطت مادة املازوت من جدول نفقات الكثري منهم ،وانتقلت لدى بع�ضهم من قائمة �ضروريات املعي�شة� ،إىل قائمة الكماليات� .إذ �إن «م��ازوت احلكومة» املدعوم ،كان بعيد املنال �أ�ص ًال يف �شتاء العام املا�ضي عندما �سجل �سعر الليرت 30ل�يرة، كيف به اليوم ،وقد قفز �سعره مبعدل 100يف املئة؟. لكن �أبو احمد ،وهو رب �أ�سرة م�ؤلفة من ثالثة �أطفال ،ال ي�ستطيع �إ�سقاط هذه املادة من ح�ساباته ،يقول « :مع ارتفاع وترية انقطاع التيار الكهربائي لت�صل �إىل � 10ساعات يف ال�شتاء ،ووجود طفل ر�ضيع لدي ،ال ميكـــنني ب�أي حال �أن ا�ستغني عن امل��ازوت للتدفئة». وي�ضيف« :وحتى مع رفع ال�سعر �إىل 60لرية، �أمتنى ب�شدة �أن تفي احلكومة مبا تقطعه على نف�سها من وعود وما تطلقه من ت�صريحات ،و�أن تبيعنا املازوت بهذا ال�سعر ،من دون �أن ا�ضطر للمزاحمة �ساعات و�أيام ًا ،يف حمطات الوقود �أم��ام طوابري ال تنتهي ،لأح�صل عليه ب�سعر 100لرية ،كما ح�صل معي يف ال�شتاء املا�ضي». وع��ود وادع���اءات احلكومة ال�سورية ال تتوقــــف� ،إذ �أعلنت �أخ�ير ًا� ،أنها �ستخ�ص�ص لكل عـــائلة 400ليرت مازوت بال�سعر املدعوم، للتدفئة املنزلية يف �شتاء هذا العام .وادعت، كما فعلت يف العام الفائت� ،أن توزيع املازوت «�سيتم وفق �آليات منظمة ،ل�ضمان و�صول املادة �إىل كل منزل وعائلة». وفيما ي�شتكي كثريون من ال�سوريني من عدم ا�ستالم �أي دفعة مازوت يف العام املا�ضي، ي�شرح ع�صام ،املوظف يف القطاع العام ،عن
جتربته« :ا�ستلمت دفعة واح��دة يف ال�شتاء الفائت ،كانت الأوىل والأخ�ي�رة» ،ويتابع: «بعد �أن كنا نعاين نق�ص مادة املازوت� ،أ�صبحنا �أمام انعدامها التام ،حتى يف مكان عملي وهو هيئة حكومية ،افتقدنا التدفئة يف العام املا�ضي ب�سبب انقطاع امل��ازوت ،ال �أع��رف �أين يذهب املازوت �إذ ًا؟!». فيما ح��ذر نقيب عمال النفط بدم�شق علي مرعي ،من «�أزمة مازوت كبرية �ست�شهدها حمافظة ريف دم�شق خالل ال�شتاء»� ،إن مل ت�سرع «�شركة حمروقات» ب�إيجاد مقر جديد لفرعها وخزاناتها بد ًال من تلك «املخ ّربة». هذا وت�ستوعب اخلزانات التي فقدت احلكومة ال�سيطرة عليها مئات املاليني من الليرتات، وت�سد حاجة حمافظة ريف دم�شق .واعترب مرعي �أن «قرار احلكومة تخ�صي�ص كل عائلة بـ 400ليرت م��ازوت ،لن يقدم و لن ي�ؤخر يف حال عدم الت�صدي للأمور التي ت�سببت ب�أزمة
ال�شتاء املا�ضي ،والتي ُحرمت خاللها الن�سبة العظمى من املواطنني من م��ازوت التدفئة، ومنها مو�ضوع اخلزانات». ومنها �أي�ض ًا ،ما �أغفله مرعي اليوم ،وكان قد ك�شف عنه بنف�سه يف العام املا�ضي ،عندما اتهم «�شركة حم��روق��ات» بتزويد حمطات متوقفة ع��ن العمل مب�لاي�ين ال��ل��ي�ترات من امل��ازوت ،وقال حينها« :هذا �أمر غري طبيعي، وال ميكن تربيره ب�أنه خط�أ ،لأن اخلط�أ ،ال ميكن �أن يتكرر ب����أذون ع��دة �شحن مل�صلحة حمطة واحدة» .يف قرارة نف�سه ،يعرف مرعي �أن ه��ذا هو «الأم��ر الطبيعي» ،و�أن ال�سلطة التي ينتمي �إليها ،هي عائمة �أ�ص ًال على بحر من الف�ساد ،كان قد ت�شكل عرب قرون طويلة من نهب م��ق��دّ رات ال�سوريني .واحل��ال��ة تلك، فلن تتحول ال�سلطة ،بقدرة مرعي ومبرا�سيم الإ�صالح� ،إىل �أ ٍم ر�ؤوم ،متنح �أبنائها الدفء والطم�أنينة ...واملازوت.
تتمة :املناطق املحررة بحاجة �إىل جمال�س لتديرها ال حتكمها
يف دوما وهي واحدة من �أكرب مدن الغوطة ال�شرقية ،مت االعالن عن ت�شكيل جمل�س حملي منتخب� ،سعى القائمون عليه �إىل الرتكيز على املخت�صني واملتعلمني يف �إدارة �ش�ؤون املدينة ،ومل يكن هذا االعالن عن ت�شكيل املجل�س املحلي هو احلدث ،فقد عمدت ع�شرات املدن يف حميط دم�شق �إىل مثل هذا الت�شكيل ،احل��دث متثل يف البيان ال��ذي �صدر عن جي�ش اال�سالم بزعامة زه��ران علو�ش ،وال��ذي ادان فيه ت�شكيل هذا املجل�س وال��ذي و�ضع حد ًا ملجل�س ال�شورى التابع لزهران ذات��ه ،حيث اعترب �أن االع�لان عن ت�شكيل ه��ذا املجل�س فيه �شق لل�صفوف وزرع للفتنة� ..إلخ .ويف الوقت ذاته اعترب بع�ض القادة الع�سكريني يف بيان علو�ش تدخ ًال غري مقبول يف �ش�ؤون املدنيني ،يقول ال�سيد �سليم حجازي قائد لواء ال�شام� " :إن فر�ض ال�سلطة على املدنيني بغ�ض النظر ان كان من ال�شيخ زهران او غريه هو امر خمالف لثورتنا ،فعندما حملنا ال�سالح حملناه لأجل املدنيني وكرامتهم ال لأجل ان نحكمهم به". ويف املقابل اعتربت الع�شرات من فعاليات الثورة املدنية يف هذا البيان تدخ ًال �سافر ًا من قبل الع�سكريني يف �ش�ؤون املدنيني وحقهم يف اختيار �شكل ادارة مدنهم .و�أ�صدروا بيان ًا يدينون فيه �أي تدخل من قبل الع�سكريني يف خيارات املدنيني. و�أي ًا يكن الأمر ،ف�إن املهم هنا بروز �صراع بني �سلطات متعددة ت�سعى البع�ض منها �إىل بلورة جتربة ت�ستلهم ولو احلد الأدن��ى الذي توفره ظروف احلرب من الو�سائل الدميوقراطية يف �إدارة مدنهم ،و�سلطات
ت�سعى �إىل �أن تكون �سلطة ا�ستبدادية بديلة ع��ن تلك التي خرج ال�سوريون لإ�سقاطها .يقول ال�سيد ب�سام وهو �أحد النا�شطني املدنيني يف دوم��ا " :بالن�سبة لإمكانية املواجهة مع بع�ض القادة الع�سكريني، �أعتقد ان االجابة عن هذا ال�س�ؤال مرتبطة باملخزون الثوري الذي اختزنه النا�س خالل �سنتني ونيف من عمر الثورة ،عا�شها النا�س يف مدر�سة الثورة ،فرت�سخت عندهم مبادئ وقيم جديدة� ..إن نظرة من بعيد على تلك ال�شريحة التي عا�شت الثورة ،جند �أن تغري ًا كبري ًا قد طر�أ على طريقة تعاطيهم مع الواقع وهذا التغيري يف الأ�سا�س يقوم على رف�ض �سيا�سة االمر الواقع التي كان نظام الأ�سد ينتهجها ،و�شعور �أولئك النا�س انهم ح�صلوا على مكت�سبات من الثورة وكان ثمن هذه املكت�سبات باهظ الثمن قد تكون خ�سارة منزل او ابن او اخ او عائلة او ع�ضو من اع�ضاء اجل�سم ..ولذلك فلن يرتاجع اولئك النا�س عن مكت�سباتهم تلك قيد امنلة". يف احلقيقة يكمن الرهان هنا بالتحديد ،على �أولئك الذين دفعوا ال�ضريبة الباهظة عرب ال�سنتني املا�ضيتني ،والذين �أ�صروا على امل�ضي يف طريق ا�سقاط حكم اال�ستبداد ،وهم مل يفعلوا ذلك كي ي�ستبدلوا �سلطة ا�ستبدادية ب�أخرى �شبيهة بها ،بل فعلوا ذلك كي يفتحوا �أفق ًا تتمكن من خالله الأجيال املقبلة من العي�ش بكرامة ،وهي ر�سالة مل ت�صل لنظام الأ�سد �سابق ًا ،وهي ال ت�صل اليوم �إىل �أولئك الذين ين�صبون �أنف�سهم �أو�صياء على الثورة وعلى ال�شعب الثائر.
بيد ان هذا ال�صراع الدائر اليوم داخل �صفوف الثورة –وهو �صراع �صحي طاملا بقي حتت ال�سيطرة -يحتاج �إىل الكثري من الدعم ،دعم النويات الإيجابية للثورة املمثلة بحراك مدين بد�أ ي�شق طريقه منذ قليل ،وهو عب�أ تتحمل قوى املعار�ضة ق�سط ًا كبري ًا من م�س�ؤوليته ،يقول ال�سيد ب�سام� " :إن منظمات املجتمع امل��دين ونا�شطي الثورة املدنيني و�أخ�ص بالذات معار�ضة اخلارج التي متطرنا بكالم منمق كل يوم عن وقوفها مع املحا�صرين بالداخل واىل جانب ث��ورة احلرية والكرامة ف�إننا نوجه ر�سالة لها ب�أنه يقع على عاتقها حالي ًا م�س�ؤولية تاريخية يف املحافظة على مكت�سبات الثورة املدنية وما حققته اىل الآن على �صعيد بناء االن�سان احلر وممار�سته حلقوقه املدنية ،يف ان تعمل بكل جهدها وامكانياتها احلالية لرتجيح كفة االجتاه املدين الذي ينحاز اىل م�صلحة االن�سان الب�سيط الفقري واىل عدم م�صادرة �صوته �سواء من رجال الدين او من القادة الع�سكريني او من امل�ستفيدين العلمانيني او دعاة املدنية املزيفني" .ويختم حديثه بالقول :ال�شعب وحده هو �صاحب القرار وهو القادر على حتديد م�ستقبله وطريقه عي�شه وبدون و�صاية من احد. يف احلقيقة مل يعد ال�سوريون يقاتلون على جبهة واحدة ،بل فر�ض عليهم اليوم ،القتال على عدة جبهات ،وقد تكون اجلبهة الداخلية للثورة هي الأ�صعب والأكرث خطورة.
العدد 88
ماجد كيايل
2013-10-20
عن ال�سيا�سة الأوبامية ال�شرق �أو�سطية
ي�صعب على كثريين فهم �أو تف�سري ال�سيا�سة التي تنتهجها �إدارة �أوباما يف ال�شرق الأو�سط ،ال�سيما يف امل�س�ألة ال�سورية ،والتي تبدو �صبورة ،وهادئة ،والأ�صح منكفئة ،وتعتمد الو�سائل الدبلوما�سية، وذلك بالقيا�س لل�سيا�سات التي طاملا انتهجتها الإدارات الأمريكية، منذ ما بعد احلرب العاملية الثانية ،والتي ا ّت�سمت يف �أغلب الأحيان ّ والتدخل ،با�ستخدام دبلوما�سية القوة ،وحتى بالت�س ّرع والتجبرّ «احلرب الوقائية». وكانت ال�سيا�سات الأمريكية �إزاء ال�شرق الأو�سط تر ّكز على �أربعة �أهداف� ،أولها ،احلفاظ على تد ّفقات النفط .وثانيها� ،ضمان �أمن �إ�سرائيل وتفوقها النوعي .وثالثها ،حماية الأنظمة ال�صديقة. ورابعها ،احل����ؤول دون متكني �أي��ة دول��ة �أخ��رى من الهيمنة على املنطقة. ّ لكن مراجعة هذه ال�سيا�سات متكننا من مالحظة �أن الواليات املتحدة مل تعد قادرة على �ضمان كل هذه الأهداف ،بعد التحوالت احلا�صلة يف مدخالت عوامل القوة يف العالقات الدولية والإقليمية، والتي مل تعد تقت�صر على القوتني الع�سكرية واالقت�صادية� ،إذ دخلت عوامل �أخ��رى �ضمنها ،مالءمة ه��ذه ال�سيا�سات للتوازنات الدولية ،وتنا�سبها مع امل�صالح الداخلية (املجتمعية) ،ناهيك عن �صعود املجتمع املدين يف تقرير ال�سيا�سات العاملية و�شرعنتها. الق�صد من ذلك التو�ضيح� ،أن التغري احلا�صل يف طبيعة عمل ال�سيا�سة اخلارجية الأمريكية لي�س دليل تراجع يف قوة الواليات املتحدة ،ال ع�سكري ًا وال اقت�صادي ًا وال تكنولوجي ًا ،فهي مازالت الأقوى يف العامل ،و�إنفاقها الع�سكري ي�ش ّكل ن�صف االنفاق العاملي يف هذا املجال ،و�إذا ح�سبنا تفوقها التكنولوجي والعلمي فهذا يبني كم هي الفجوة على ال�صعيد الع�سكري بينها وبني كل الدول الأخرى. وح�سب فريد زكريا (يف كتابه« :عامل ما بعد �أمريكا») ف�إن الق�صة هنا ال تتعلق برتاجع قوة الواليات املتحدة ،التي يرى انها جنحت يف احلفاظ على قوتها ،منذ مابعد احلرب العاملية الثانية ،بقدر ما تتعلق ب�صعود قوى �أخرى ،كانت ت�أثرت يف تلك احلرب ،وا�ستعادت عافيتها على مر العقود املا�ضية. عدا عن هذا العامل ،فمما ال�شك فيه �أن ال�سيا�سات غري العقالنية واملكلفة التي انتهجتها �إدارة بو�ش االبن يف �أفغان�ستان والعراق، والتي كبدت الواليات املتحدة خ�سائر باهظة ،يف الأرواح والأموال، ويف ال�سمعة ،لعبت دورها يف ا�ضعاف امليل لدى �صانع القرار الأمريكي للدخول يف هكذا جتارب ،ناهيك عن �أنها �أ�سهمت يف �إ�صابة االقت�صاد الأمريكي ب�شكل موجع ،يف مطارح عدة ،وهو ما تبدى يف الأزم��ات االقت�صادية التي �شهدنا الواليات املتحدة تعاين منها م� ّؤخر ًا. على ما تقدم ،ف�إن ال�سيا�سة التي تنتهجها الإدارة الأمريكية احلالية ال تتعلق ب�سوريا فقط ،والتنبع من وجود رئي�س بعينه، �أوباما مث ًال� ،إذ �شهدنا �أن الواليات املتحدة ا�شتغلت يف مو�ضوع ليبيا (النفطية) من اخللف ،و�أن بريطانيا رف�ضت التدخل الع�سكري يف ال�ش�أن ال�سوري قبل الواليات املتحدة ،وها نحن ن�شهد التجاذب احلامي بني �إدارة �أوباما وجمل�س النواب الأمريكي حول مو�ضوع املوازنة الأمريكية ،ما يبينّ الو�ضع احلرج الذي جتد �إدارة �أوباما نف�سها فيه،
جمانة فرحات ال�سعودية اخ��ت��ارت "احلرد" ،ال �أك�ثر وال �أق��ل. امتنعت خ�لال اجلمعية العامة ل�ل�أمم املتحدة عن القاء كلمتها ،وهو حدث مل ينتبه الكثريون له �أ�ص ًال، ثم لفظت املقعد الذي حظيت به يف جمل�س الأمن ملدة عامني ب�صفتها من الأع�ضاء غري الدائمني. الت�سليم بحق اي دولة باتخاذ مثل هذه اخلطوة اجل��ري��ئ��ة� ،أم��ر ال ج��دال فيه ،وخ�صو�ص ًا �أن الأمم املتحدة برمتها ولي�س جمل�س الأمن فقط بحاجة �إىل ا�صالح ،كونها مل تكن يوم ًا �سوى منفذ مل�صالح و�سيا�سات الدول الدائمة الع�ضوية ،و�سيف ًا م�سلط ًا على على من يخالف هذه الدول. و�سبق للعديد من الدول ان قدمت م�شاريع من اجل ا�صالح الأمم املتحدة ،وحتديد ًا يف ما يتعلق بجزئية
داخلي ًا ،يف ظل هذه الظروف ال�سيا�سية واالقت�صادية ال�صعبة. ويف �أي حال ،ف�إن املراجعة� ،أو الإنكفاء ،يف ال�سيا�سة الأمريكية �إزاء ال�شرق الأو�سط ،مل يبد�أ يف عهد الرئي�س �أوباما ،و�إمنا ح�صل يف عهد الرئي�س بو�ش الإبن ،فهذه هي التي تخ ّلت عن احد �أهداف ال�سيا�سة الأمريكية التقليدية ،برتاجعها عن مبد�أ حماية الأنظمة «ال�صديقة» يف املنطقة ،ويف ميلها لتغيري الأنظمة ،حتى بو�سائل القوة ،ويف �سعيها ملخاطبة جمتمعات املنطقة مبا�شرة ،من وراء ظهر حكوماتها ،وهو ما مت ت�شريعه يف ا�سرتاتيجية بو�ش للأمن القومي الأمريكي ،التي مت و�ضعها يف �سبتمرب�/أيلول ( .)2002وطرحت هذه الإ�سرتاتيجية م�شروع الإ�صالح ال�سيا�سي و«ن�شر الدميوقراطية» يف العامل العربي ،ما �أدخل �إدارة بو�ش يف مناكفات مع عديد من الدول العربية «احلليفة» وقتها� .أي�ض ًا ،ف�إن �إدارة بو�ش ذاتها هي التي �سمحت لإيران بفر�ض هيمنتها على العراق ،ما يفيد ب�أنها ف ّرطت بهدف ثان من �أه��داف ال�سيا�سة الأمريكية ،التقليدية يف ال�شرق الأو�سط. هكذا ،ف�إن �إدارة الرئي�س �أوباما لي�ست فقط ت�صد� ،أو تقلل، ّ بالتدخالت الع�سكرية، من خماطر تركة الرئي�س بو�ش املتعلقة وباخل�سائر االقت�صادية ،و�إمنا هي توا�صل تركته املتعلقة بالتخلي عن الأه��داف الرئي�سية لل�سيا�سة الأمريكية ال�شرق �أو�سطية ،يف �إبدائها اال�ستعداد للعمل بالت�شارك مع قوى �أخرى ،وال�سيما رو�سيا، يف �إع��ادة ترتيب الأو���ض��اع يف امل�شرق العربي ،من مدخل ترتيب م�ستقبل �سوريا. بديهي �أن هذا التحول هو رد فعل على اخل�سائر االقت�صادية والب�شرية ،التي تكبدتها ال��والي��ات املتحدة يف العقود املا�ضية، وتعبري عن تعب �أمريكي من ال�شرق الأو�سط ،املرهق ،وغري املفهوم، و«املتن ّكر» ،بالن�سبة لها ،وهو �أي�ضا مبثابة حماولة �أمريكية ملراعاة واقع �صعود قوى �أخرى ،بد ًال من م�صارعتها.
احلرد ال�سعودي
تو�سيع ع��دد �أع�ضاء جمل�س الأم���ن وان��ه��اء احتكار الواليات املتحدة وبريطانيا ورو�سيا وال�صني وفرن�سا له. �إال ان م�شكلة ال�سعودية تختلف كلي ًا عن هذا ال�سياق ،و�إن حاولت االنطالق من �شلل جمل�س الأمن لتربير رف�ضها للمقعد. املربر الأول الذي �ساقته الريا�ض ،يف البيان ال�صادر عن وزارة اخلارجية ال�سعودية ،اعترب �أن "ف�شل جمل�س الأمن يف جعل منطقة ال�شرق الأو�سط خالية من جميع �أ�سلحة الدمار ال�شامل� ،سواء ب�سبب عدم قدرته على �إخ�ضاع ال�برام��ج النووية جلميع دول املنطقة دون ا�ستثناء للمراقبة والتفتي�ش الدويل �أو احليلولة دون �سعي �أي دولة يف املنطقة المتالك الأ�سلحة النووية،
ومع �أهمية كل ما �سبق ،ف�إن التحول الأمريكي احلا�صل هو نتاج خيارات �أخرى� ،أي�ض ًا ،باتت متاحة �أمام الواليات املتحدة� ،ضمنها: �أو ًال ،اطمئنانها مل�ستقبلها ب�ش�أن خمزونها من الغاز والنفط ،مع الك�شوفات اجلديدة التي تفيد �أن ب�إمكانها -يف غ�ضون العقد املقبل لي�س اال�ستغناء عن نفط ال�شرق الأو�سط ،فقط ،و�إمنا �أن تتحول�إىل م�صدّ رة له ،ومع توقعات تفيد ب�إمكان �إزاحتها رو�سيا عن مكانة امل�صدّ ر الأول للغاز يف العامل .ثاني ًا ،حتول اهتمامها نحو مناطق �أكرث �أهمية يف العامل لأمنها القومي ،ومل�صاحلها الإ�سرتاتيجية ال�سيا�سية واالقت�صادية والع�سكرية ،فيما بات يعرف بالتوجه �شرق ًا ،مع وجود نخب باتت تعتقد ب�أن ما يجري يف ال�صني والهند واليابان ،ودول �أمريكا الالتينية� ،أهم بكثري لأمريكا ،مل�صاحلها و�أمنها ،مما يجري يف ال�شرق الأو�سط ،بتعقيداته ومتاعبه .ثالث ًا ،يعتقد الرئي�س �أوباما �أنه ي�صنع ثورته داخل الواليات املتحدة ،بوقف التدهور االقت�صادي ،وبخلق فر�ص وظيفية ،وبتخفي�ض ن�سبة البطالة، وب�إقرار ال�ضمان ال�صحي. مع ذلك ثمة ما يعزز االعتقاد ب�أن �أمريكيا لن تتخ ّلى عن ال�شرق الأو�سط ،ب�سبب الهدفني الآخرين (النفط و�إ�سرائيل) ،و�إمنا هي �ستتخلى عن �شكل عالقتها فيه ،وطريقة �سعيها لفر�ض وجودها وم�صاحلها .طبع ًا ،ه��ذا كله يحدث ب�سبب غياب فاعلية العامل العربي ،و�سلبيته ،وافرتا�ضه �أن على الآخرين القيام مبا ينبغي عليه القيام به ،ال�سيما مع حفاظه على بقائه خارج التاريخ ،بتخلفه وتك ّل�س نظمه وته ّم�ش جمتمعاته وغربته عن العامل. هذا يحدث من �سوء حظ ال�سوريني ،الذين يدفعون باهظ ًا ثمن �أ�شياء كثرية ،و�ضمنها ثمن االنكفاء الأمريكي ،وثمن الرتدد الدويل، �إزاء ما يكابدونه من �أهوال وعذابات.
يعد دلي ًال �ساطع ًا وبرهان ًا دامغ ًا على عجز جمل�س الأمن عن �أداء واجباته وحتمل م�س�ؤولياته". �أم���ا امل�ب�رر اال���ض��ايف ف��أ���ش��ار �إىل "بقاء الق�ضية الفل�سطينية من دون حل عادل ودائم خلم�سة و�ستني عام ًا والتي جنم عنها عدة حروب هددت الأمن وال�سلم العامليني". م�شكلة ه��ذي��ن ال��ت�بري��ري��ن �أن��ه��م��ا م�ستهلكان، فال�سعودية �أكرث من غريها تدرك �أن حليفتها الواليات املتحدة ،على وجه التحديد ،غري معنية على االطالق ب�أي ت�سوية جدية للق�ضية الفل�سطينية ،و�أن املجل�س لن يجر�ؤ على اتخاذ قرار يدين ا�سرائيل �سواء يف ما يتعلق بعملية ال�سالم او االنت�شار النووي.
تتمة �صفحة..4 ....
العدد 88
2013-10-20
حب فل�سطني وكره الفل�سطينيني
�ساري حنفي يف ظل تداعيات الثورة ال�سورية ،ن�ش�أت م�شكلة �إن�سانية كربى تتمثل باقتالع �أكرث من �أربعة ماليني �سوري من دي��اره��م ،ن�صفهم ن��زح داخلي ًا والن�صف الآخر جل�أ اىل اخلارج ،وال �سيما اىل الدول املجاورة (لبنان ،الأردن وتركيا). وت�شكل حالة الالجئني الفل�سطينيني يف �سوريا الأك�ثر �صعوبة ،حيث مت حتويل بع�ض جتمعاتهم اىل �ساحات معارك ب�سبب موقعها اجلغرايف� ،إذ �أنها تقع على ح��دود امل��وت حيث احتدمت املعارك بني اجلي�ش ال�سوري احلر واجلي�ش النظامي ال�سوري يف خميمات الريموك ،التل ،عائد ،الرملة ،الخ... وبينما مت ال��ت��ج��اوب اىل ح��د م��ا م��ع حركة جل��وء ال�سوريني� ،أو���ص��د ب��اب اللجوء كلي ًا بوجه الفل�سطينيني ،وال �سيما يف دول �أعلنت دعمها ملكونات �سوريا ال�سكانية .هذه ال��دول هي لبنان ،الأردن، تركيا ،قطر ،االمارات العربية املتحدة وال�سعودية. �أظهر بحثنا امليداين حول الفل�سطينيني من �سوريا� ،أن لبنان قد �أو�صد بابه امامهم منذ بدء �شهر �آب � ،2013إال يف حال اثبات الالجىء �أن لديه
جمانة فرحات ولذلك تبدو ال�سعودية عاجزة على اقناع كثريين بحقيقة �أن هذين الأمرين هما ال�سببان الأ�سا�سيان لـ"حردها" ،لذلك يبقى املربر الثالث ال��ذي تطرق �إليه البيان هو الأك�ثر اهمية ،اذ �أ�شار �إىل �أن "ال�سماح للنظام احلاكم يف �سوريا بقتل �شعبه و�إح��راق��ه بال�سالح الكيماوي على مر�أى وم�سمع من العامل �أجمع وبدون مواجهة �أي عقوبات رادعة لدليل �ساطع وبرهان دافع على عجز جمل�س الأم��ن عن �أداء واجباته وحتمل م�س�ؤولياته". جرائم النظام ال�سوري �ضد �شعبه ال جمال للنقا�ش فيها ،لكن منذ متى كانت ال�سعودية تهتم لل�شعوب وارادتها او تدافع عنها؟ �ألي�ست هي من لقبت ب�شرطي االحتجاجات العربية ،ومل ت�أل جهد ًا للق�ضاء على احلراك يف البحرين �إىل �أن ا�ضطرت �إىل التدخل ب�شكل مبا�شر ع�بر درع
فيزا وتذكرة �سفر للمغادرة عرب مطار بريوت� .إال �أن الف�ساد يف لبنان كان "نعمة" ،على الأقل من وجهة نظر بع�ض املقتدرين الفل�سطينيني الذين ر�ضوا بدفع ر�شوة 100دوالر للفرد للدخول اىل لبنان. �أم���ا الأردن وق��ط��ر وال�����س��ع��ودي��ة واالم����ارات العربية املتحدة فلم تقفل فقط �أبوابها بوجه الالجئني الفل�سطينيني ،ولكنها منعت �أي�ض ًا حتى ّ مل ال�شمل .وال يعترب ذلك فقط انتهاك ًا ملعاهدات حماية الالجئني ولكن �أي�ض ًا انتهاك ًا حلق �أ�سا�سي من حقوق االن�سان. حاولت التدخل يف حالة طالب فل�سطيني من �سوريا �أم��ه �أردن��ي��ة الأ�صل لكي ي�سمح له بدخول الأردن حيث مت قبوله من اح��دى جامعاتها ،وقد ا�ستع ّنت ب�شخ�صيات �أردنية �سيا�سية مرموقة ولكن عبث ًا .وق��ال يل �أحدهم �إن��ه ال ي�سمح لدخول �أي فل�سطيني �سوري اذا كان عمره � ٦سنوات ويوم واحد، وذلك لأ�سباب �أمنية� .إذ ًا ي�صبح الفل�سطيني ارهابي ًا منذ نعومة �أظفاره. وم��ا اث��ار ال��ذه��ول يف زي��ارت��ي الأخ�ي�رة لعمان
وت�صفحي ل�صحفها ح��راك ن�سائي ون�سوي هناك حول ق�ضايا هزيلة تظهر �أن احلركة الن�سوية هي �أقرب حلركة "�صالونات" �أكرث منها حركة فعلية لتحرر امل���ر�أة .فتحرر امل���ر�أة يبد�أ من االع�تراف مبواطنيتها وبحقها يف توريث جن�سيتها �أو على الأق��ل منحها الإق��ام��ة لأطفالها وزوج��ه��ا ،وذلك �أ�ضعف الإميان. قد يت�ساءل املرء ملاذا هذه املفارقة بني املواقف ال�سيا�سة واملمار�سة احل��دودي��ة يف ه��ذه ال��دول. الفر�ضية الأك�ثر جتلي ًا بالن�سبة يل هي انف�صال وهيمنة اجل��ه��از الأم��ن��ي ع��ن ال�سلطة ال�سيا�سية املفرت�ض �أن تكون منتخبة. لقد ت�ضخمت البريوقراطية الأمنية لدرجة توجه ال�سيا�سي ب��د ًال من �أن ت�أخذ �أنها �أ�صبحت ّ توجيهاتها منه .يقوم ال�سيا�سي ب�إ�صدار ت�شريعات حت��اول حماكاة اع��راف ومواثيق حقوق االن�سان، بينما يقوم الأمني بخلق حالة ا�ستثناء ،باملعنى الذي اعطاه الفيل�سوف الإيطايل جورجيو اجامبني له� ،أي تلك التي تهدف اىل اق�صاء غري املرغوب بهم والذين ي�شكلون فئة "يحتمل �أن تكون خطرة"، وعدم اال�ستفادة من ت�شريعات ال�سيا�سي. ال يعترب ت�ضخم ال�سلطة الأمنية �أمر ًا جديد ًا على ال��واق��ع العربي ،فلقد �شعرت به منذ ب��د�أت �أ���س��اف��ر �إىل ال���دول العربية .فقد كنت �أع���اين، كفل�سطيني حامل للوثيقة ال�سورية �آن ذاك ،لي�س فقط من طول الأ�سابيع للح�صول على فيزا ،ولكن �أي�ض ًا م��ن ط��ول ال�ساعات على احل���دود العربية (اذكر منها الأردن ،م�صر ،تون�س ،اجلزائر) لدرجة �أنني قدمت اه��داء يف كتابي "هنا وه��ن��اك ،نحو حتليل العالقة بني ال�شتات الفل�سطيني واملركز" اىل رجاالت الأمن يف احلدود العربية؛ فـ"الف�ضل" ل�ساعات االنتظار هناك التي �شحذت ذهني لكتابة هذا الكتاب .ال �أزال �أتذكر حتى اليوم ذهول �أخي الكبري عندما زارين يف فرن�سا وقطعنا احلدود �إىل ا�سبانيا ومل يجد حتى �شرطيا واحدا لالطالع على وثائق �سفرنا. لقد �أ�صر على العودة اىل احل��دود للح�صول على ختم خروج حتى ي�ستطيع الدخول مرة اخرى �إىل فرن�سا .عدت وقتها وطلبت من رجل البولي�س
تتمة:احلرد ال�سعودي
اجلزيرة .وهي نف�سها التي دفعت الغايل والنفي�س يف اليمن ملنع جناح ثورته عرب امل�شائخ القبليني والع�سكريني الذين تخ�ص�ص لهم �شهري ًا مئات املاليني من ال��دوالرات .كما �أنها هي نف�سها التي ا�ستقبلت الرئي�س التون�سي املخلوع زين العابدين بن علي ،ولطاملا �ضغطت ل�لاف��راج عن الرئي�س املخلوع ح�سني مبارك ،بالرغم من ثورة ٢٥يناير هي تعبري عن ارادة �شعبية حقيقية. اذا امل�س�ألة لي�ست �صحوة �ضمري �سعودية مت�أخرة جتاه ال�شعوب العربية وحتديد ًا ال�شعب ال�سوري او حتى ي�أ�س ًا من جمل�س الأم��ن بقدر م��ا ه��ي الو�سيلة /الفر�صة ال��وح�ي��دة املتاحة امام ال�سعودية يف هذه الأي��ام للقول �أنا هنا ،اذ �أن اخلطوة ال�سعودية ت�أتي لتعك�س قمة جبل اجلليد يف عالقتها مع القوى الدولية ،وحتديد ًا الواليات املتحدة .وهي ب�شكل �أدق واح��دة من
حلظات ال�صدام بني احلليفني ،و�إن اختلفت درجة الندية بينهما. اجلانب الأمريكي ،وا�ضح انه حري�ص على امل�ضي بالت�سوية التي �أبرمت مع رو�سيا يف جنيف حتى نهاية املطاف ،بل والبناء عليها من �أجل تو�سيع نطاقها ليتخطى الكيماوي او جنيف ٢ و�صو ًال �إىل جممل الو�ضع ال�سوري. �أم ��ا ال���س�ع��ودي��ة ف �ت��درك �أن اي ت�سوية �ستنعك�س على نفوذها يف �سوريا �سلب ًا .فالدور ال�سعودي ،ينق�سم �إىل �شقني ،الأول وعلى غرار العديد من ال��دول االقليمية والغربية ،كممول رئي�سي ملجموعات من الكتائب امل�سلحة .والثاين عرب نفوذها داخ��ل االئتالف ال��ذي جنحت قبل فرتة يف القيام بانقالب داخله واالتيان باحمد العا�صي اجل��رب��ا رئي�س ًا ل��ه ف�ض ًال ع��ن تو�سعته بادخال جمموعات حم�سوبة عليها اليه.
ختم الوثيقة وقد فعلها ول�سان حاله يقول "ه�ؤالء جا�ؤوا من املريخ!". نعم ظهر العامل العربي وك�أنه خارج التاريخ واجلغرافيا العاملية .واذا كان كذلك ،فالأمر اليوم ال يحتمل يف ظل الربيع العربي .فاحلراك ال�شعبي والتوق للدميوقراطية يتجاوز تون�س وم�صر وليبيا واليمن ،واملطلوب لي�س فقط "ا�سقاط النظام" ،لكن �أي�ض ًا "ا�سقاط هيمنة البريوقراطية الأمنية" و�إخ�ضاعها لل�سيا�سي. هل يعترب ح�صول الفل�سطيني ال�سوري على حق التنقل خطوة نحو التوطني؟ طبع ًا ال .من ي�ستخدمون فزاعة التوطني هم الذين يبد�أون دائم ًا مبقوالت كم هم يحبون فل�سطني او �أنهم �ضد الإمربيالية وال�صهيونية ومع حترير كامل الرتاب العربي ،وال نن�سى القد�س طبع ًا .وك�أنهم يقولون �إن حترير فل�سطني يتم فقط على طريق ح�صار ومراقبة الفل�سطيني ،وذل��ك مبنعه م��ن التنقل (�أو حرمانه من حق العمل والتملك كما يف حالة فل�سطينيي لبنان) .وك�أنهم يقولون لنا �إننا نحب فل�سطني ونكره الفل�سطينيني. لقد عك�س هذه املفارقة ا�ستطالع الر�أي اجراه املركز العربي للأبحاث ودرا�سة ال�سيا�سات (امل�ؤ�شر العربي للعام ،)2011و�أظهر �أن 77يف املئة من ّ اللبنانيني يعتربون �أن الق�ضية الفل�سطينية هي ق�ضية جميع العرب ولي�ست ق�ضية الفل�سطينيني (م��ق��اب��ل 17يف امل��ئ��ة ي��ع��ت��ق��دون �أن الق�ضية الفل�سطينية هي ق�ضية الفل�سطينيني حدهم ويجب عليهم وحدهم العمل على حلها). ويف م��ق��اب��ل ه���ذه االرق�����ام مت��ار���س ال��دول��ة اللبنانية �أ�سو�أ انواع التمييز �ضد الفل�سطينيني يف لبنان حارمة اياهم من اب�سط حقوقهم. لقد ا�سقطت روح ال��ث��ورات العربية مقولة "ال �صوت يعلو فوق �صوت املعركة" ،التي توجت لفكر هرمي ي�ضع الأولوية للمعركة مع �إ�سرائيل واالمربيالية على ح�ساب ق�ضايا الدميوقراطية واحلرية والعدالة االجتماعية (مبا فيها لالجئني ولعامالت املنازل) .وقد ظهر ذلك جلي ًا يف خطاب بع�ض الأنظمة العربية ولكن �أي�ض ًا بع�ض الأحزاب ال�سيا�سية.
هذا النفوذ ترى الواليات املتحدة �أنه ي�شكل عائق ًا �أمام تعزيز الت�سوية ويجب تقلي�صه� ،سواء بر�ضا �سعودي �أو من دونه ،وخ�صو�ص ًا �أن �سيطرة الكتائب املت�شددة التي تدعم ال�سعودية جزء ًا منها بات مهدد ًا رئي�سي ًا يف نظر االدارة الأمريكية وي�ج��ب التخل�ص م�ن��ه ،ف�ضال ً ع��ن ان جنيف ٢ ب�صيغته احلالية يحتاج �إىل تقدمي االئتالف لتنازالت تبدو ال�سعودية غري قادرة على تقبلها يف هذه اللحظة وحتاول احليلولة دونها. وه ��ي مل جت��د ف��ر� �ص��ة الج��ب��ار اجل��ان��ب الأم�يرك��ي على االلتفات �إليها �سوى ع�بر هذه ال�صراخ عالي ًا من خالل رف�ض مقعد جمل�س الأمن، علها تنجح يف احل�صول على تر�ضية تتيح العودة عن قرار رف�ض املقعد جمل�س وبذات الوقت حتقق لنف�سها بع�ض االنت�صارات الدبلوما�سية.
العدد 88
2013-10-20
ُ «عرفت اجلحيم ..من �سوريا الأ�سد اىل خميمات لبنان» «عرفت اجلحيم. [مقتطفات من كتاب �صدر حديث ًا عن دار «بلون» الفرن�سية ،عنوانه ُ من �سوريا الأ�سد اىل خميمات لبنان» .للراوئية فايزة د .والكاتبة جنان قارح تاجر. ن�شرت املقتطفات �صحيفة «لوموند» الفرن�سية ( 11ت�شرين الأول .)2013 «�صارت الزبداين خطر ًا على حممد ،خطيبي .كان يعي�ش خمتبئ ًا يف �أرا����ض ب��ور ،ال يعرف �أح��د بال�ضبط �أي��ن .مل يكن حممد يجر�ؤ على القيام بزيارة يل .كان يخ�شى �أن يراقبه �أحد، فتكون حياتي وحياة �أهلي حتت دائ��رة اخلطر .كان مالحق ًا كما احل��ي��وان ،تبحث عنه دم�شق بالإ�سم ،بذريعة ان��ه هرب من اخلدمة الع�سكرية وحتول اىل «عدو من الداخل» ،ومهدّ د بالتايل بحكم الإعدام .يف �صفوف رفاق حممد مل يبق عدد كبري على قيد احلياة .وكانت ال�شائعات الهام�سة تقول ب�أن التم ّرد الآن �أ�صبح يتمتع بدماء جديدة ،بدعم جديد من رجال يتقنون فنون احلرب .وكلهم جنود �أو �ضباط كانوا قد ان�شقوا عن اجلي�ش النظامي ،ومقاتلون حمرتفون در�سوا وتدربوا يف رو�سيا ،ولكن �أي�ض ًا جهاديني كانوا يتدفقون من كل �أنحاء العامل ،من العراق اىل باك�ستان وحتى من فرن�سا وال�سويد وبريطانيا .مل نكن نحب ه�ؤالء اجلهاديني ،كنا نكره تع�صبهم .كنا نناديهم بـ»طالبان»، ولكن كنا بحاجة اليهم .كانت �شجاعتهم تتفوق على املعايري الب�شرية ،كانوا يذهبون اىل القتال من دون ح�ساب للمخاطر. مل يكونوا يهربون من املوت� ،إمنا كانوا يبحثون عنه ...وكانوا ،لو لزم االمر ،يقاتلون ب�أياديهم �أو مبجرد قاذفة �صواريخ ملواجهة �أرتال الدبابات .كانوا يت�سابقون على التطوع من �أجل تفجري �أنف�سهم ب�سيارات مفخخة ،وكانوا ي�صيبون �أهدافهم �أكرث مما يفعله �شبابنا .كانوا يريدون الذهاب من هذه الدنيا وهم �شهداء، لين�ضموا اىل جنة اهلل؛ وهذه الفكرة كانت متنحهم قوة خارقة. وطاملا انهم �أتوا اىل هنا للجهاد ،ومل تكن نيتهم البقاء عندنا ،كنا م�ضطرين للقبول بهم وعدم الإعرتا�ض على �أعمالهم. �أخري ًا قرر حممد ،خطيبي� ،أن يرحل .اذ مل َ يتبق له �أي حيز يتحرك �ضمنه .كانت قوات الأ�سد ك�شفت هويته متام ًا و�ص ّنفته كعدو .والأرج��ح �أي�ضا ان يف �صفوف اجلي�ش املن�شق نف�سه كان هناك جوا�سي�س للأ�سد .متكنوا من حتديد مكانه ،فحا�صروه. كان يعرف ب�أن توقيفه مل يعد �سوى م�س�ألة �أي��ام ،بل �ساعات. قال يل على الهاتف ب�أنه �سريحل ،وهو غارق يف حزنه .وعدين ب�أنه �سوف يت�صل بي حاملا ي�صل اىل مكانه املق�صود ،لبنان على الأرج��ح� ،إذا مت ّكن من عبور احلدود .خرج م�شي ًا على الأقدام، ه��و و�إث��ن�ين م��ن رف��اق��ه .ال��زب��داين لي�ست بعيدة ع��ن احل��دود
ح�سان عبا�س يدل م�صطلح ال��ر�أر�أة يف لغة الطب على عَ َر ٍ�ض �سريري ي�شري �إىل خلل يف الأجهزة التي تتحكم بحركة العني ويعود �إىل �إ�صابات مر�ضية خمتلفة .ويت�صف هذا العر�ض بحركة اه��ت��زاز ال �إرادي���ة للعني جتعلها تبتعد ببطء عن مو�ضعها املركزي لتعود ب�سرعة �إليه ،وهكذا دواليك .وت�سبب الر�أر�أة درجة من اخللل يف الر�ؤية. تالحظ لدى ال�سوريني يف �سنوات بعيد ًا من الطب ،كانت َ حكم عائلة الأ�سد ،خ�صو�ص ًا زمن حكم الأب ،حركة ال �إرادية يقومون بها بعيونهم ،وغالب ًا ما كانوا يتابعونها بكامل وجههم، حتى �أ�صبحت كالعادة املكت�سبة التي متيزهم عن �سائر الب�شر. وتتميز هذه احلركة بانحراف كرة العني عن حمورها لتتجه نحو النوافذ �أو الأبواب ،يف احليز الذي يجمعهم ،فور نطقهم، �أو ُنطق �أحد مجُ ا ِل�سيهم بكلمة �أو �إ�شارة تنال من القائد �أو احلزب �أو �أجهزة الأمن ومن ينتمي �إليها. مل تكن هذه احلركة تعبري ًا عن خلل يف �أجهزة التحكم بع�ضالت العني بقدر ما كانت تعبري ًا عن ق ّوة �أجهزة التحكم يف حياة املواطن ال�سوري و�شدة الت�صاقها به ،ويقظتها يف مراقبة درجة انقياده لل�ضوابط التي و�ضعتها له .لقد بلغت قوة تلك الأجهزة ،ونعني الأجهزة الأمنية طبع ًا ،درجة من التغلغل يف حياة املواطنني حد �أنه بات يتخيل �أن ث ّمة �شبح ًا يقف خلف
اللبنانية ،ولكن اجلبال التي تف�صلنا عن لبنان كانت حم�شوة برجال النظام وبالألغام امل�ضادة للأفراد (.)... ثم �إن�ضم حممد اىل قافلة الالجئني .ولكنه كان ال يزال على قيد احلياة؛ وهذا هو الأهم بالن�سبة يل� .إت�صل بي بعد و�صوله اىل لبنان و�أف�صح عن ال�سبب احلقيقي لرحيله من �سوريا .قال: ُ بك... «تركت الزبداين من �أجلك ،من �أجل �أن �أمتكن من الإلتقاء ِ ُ عرفت طعم ال�سعادة معك ،وكان من الغباء �أن �أموت الآن» (.)... يف هذه الأثناء ،كان «اجلي�ش ال�سوري احلر» اكت�سب مهنية قتالية عالية و�أخ��ذ ي�سيطر على بلدتنا ونواحيها .باملقابل، �أ�صبحت الإنفجارات وال�صواريخ �أكرث تكرار ًا ،مبعدل ال�ساعة �أو ال�ساعتني يف النهار؛ ودائ��م� ًا ب�شكل مفاجئ ،بحيث تكون القذائف الأوىل حا�صدة العدد الأعلى من املدنيني .اجلي�ش النظامي �أي�ضا �أ�صبح �أك�ثر مهنية .وكل قذيفة يلقيها علينا كانت ت�صل اىل هدفها .كانت النا�س تهم�س ب�أن الواقفني على ا�ستبدلوا املدافع من اجلنود ال�سوريني قليلي الدقة ،وب�أنهم ِ ب�أنفار من «البا�سدران» الإي��راين �أو من ميلي�شيات «حزب اهلل»
اللبناين .ه�ؤالء كانوا يعرفون مكامن �أوجاعنا :كانوا يرتكوننا ل�ساعات طويلة ننام على �إطمئنان مطلق ،ثم ب�ضربة واحدة يطلقون �سرب ًا من القذائف ذات الأعرية املختلفة. �أ�صوات االنفجارات كانت تقرتب وت�شعرنا ب�إقرتاب اخلطر. ك��ان وا�ضح ًا �أن مدينتنا التي �أعيد حتريرها �أ�صبحت هدفا ع�سكري ًا .يف �شقتنا مل جند زاوية واحدة توحي بالأمان� :سقفها وجدرانها كان ميكن ان تخرتقهما �أتفه القذائف .التفجريات تك ّثفت .يف اليوم الثاين ،نزلنا اىل قبو بيت قدمي قريب من عمارتنا ،ووجدنا فيه عدد ًا كبري ًا من �أهايل حينا� .أو على الأقل اجلريان الذين عادوا اىل الزبداين ،لأنهم مل يجدوا مكان ًا �آخر يلج�أون �إليه .كرهت هذا القبو .كرهت هذا التجاور الذي كنا مرغمني عليه ،كرهت بكاء الأطفال و�شهيق الكبار .كان اجلو فيه خانق ًا وال�صخب دائم .كنا مر�صو�صني مثل اجلراذين� ،أكرثنا جر�أة كان ينتظر �أية هدنة ليخرج من هذا القبو ،بع�ضهم يرك�ض اىل داره ويعود حمموال بامل�ؤن وقناين املياه (».)...
الر�أر�أة ال�سورية ليرت�صد الكالم ،ويت�ص ّيد الهفوات وز ّالت كل مَنفذ يف جدار ّ الل�سان .بل كان ذاك ال�شبح يقرتب بع�ض الأحيان لي�سكن يف الزاوية الوح�شية من العني ،فما �أن ينطق امل��رء بكلمة قد ال تتفق مع ال�ضوابط حتى تنحرف العني نحو ذاك ال�شبح م�سرت�ضية ،م�سرتجية ،خائفة. مع ب��دء االنتفا�ضة ،وط��وال مرحلة حتولها �إىل ث��ورة، حافظ ق�سم م��ن املواطنني على �شبحهم خ��وف� ًا م��ن �شعوره بال�ضياع بعد �أن �صار َم ْعلم ارتكازه يف الوجود؛ و�شحذ ق�سم �آخر �سكينه وا�ستنفر للدفاع عنه لأنه اعتقد �أن وجود ال�شبح �ضمانة لبقائه .لكن الق�سم الأكرب� ،أي �أولئك الذين انخرطوا عملي ًا �أو فكري ًا �أو ميداني ًا �أو عاطفي ًا يف الثورة� ،أو نا�صروها، فقد حترروا من طغيان الأ�شباح اجلاثمة على نوا�صي حيواتهم و�أرغموها على التال�شي ،فتال�شت ،باملعنى احلقيقي لفعل تال�شى� :أي �أ�صبحت رويد ًا رويد ًا ال�شيء. غري �أن �أ�شباح ًا جديدة ب��د�أت تظهر وتتغلغل يف ثنايا الأنف�س ،بالتوازي مع انفال�ش �ساحة ال�صراع على العنف العاري الذي ت�شرتك يف ممار�سته قوات اال�ستبداد الر�سمي، م��ع ق��وات الإره���اب الديني� .أ�شباح تنطلق م��ن الكثري مما يت�س ّرب خل�سة ،والأكرث مما يُع َر�ض علن ًا ،عن وح�شية القوى ذات الرايات ال�سود التي ت�سعى للهيمنة على املجتمع ب�أفكارها
املنحدرة من حلظات غري جميدة يف تاريخ املنطقة. حتتكر داع�����ش (دول����ة الإره�����اب يف ال��ع��راق وال�����ش��ام) ح�صة الأ�سد من الأخ��ب��ار املطلقة لأ�شباح اخل��وف .تنطلق هذه الأ�شباح من �صور �أبطالها املتباهني بالر�ؤو�س املقطوعة يرفعونها ب�أيديهم ،ومن فيديوهات �إعدام طفل رف�ض �أن ين�صاع لأم��ر �أح��د رجاالتهم؛ وتنطلق من فتاوى �شيوخهم املغرقة يف ابتذالها حول �شكل اللبا�س والتدخني والرقابة على ما قد يتلفظ به الل�سان ،وم��ن حكايات ت�صرفاتهم املن�سوخة عن ت�صرفات املطاوعني ال�سعوديني التي مل ي�سبق للمجتمع ال�سوري �أن عرفها حتى يف �أكرث �أيامه ظلم ًا وكبت ًا. ه��ذه الأم���ور وغريها ت�ش ّكل عملية �إع���ادة بناء لثقافة اخل��وف التي ا�ستطاع النظام ت�شريبها لل�سوريني قبل �أن ي�ستفيقوا وينتف�ضوا .لن يفيدنا الآن �أن نناق�ش �إن كان اخلوف هو ذاته �أو �أن بع�ضه يف�ضل بع�ضه الآخر .ما يهم هو �أنه يف احلالتني يخ�سر املواطن ال�سوري روحه ،وي�ض ّيع حقوقه ،ويفقد القدرة على الر�ؤية ال�صحيحة ويتح ّول �إىل كائن خائف ت�سبق حركة عينه نحو النوافذ والأب���واب والأ�شخا�ص الغرباء حركة ل�سانه .وتعود الر�أر�أة ك�سمة مالزمة ل�شخ�صيته. ً يقول الباحثون يف طب العيون �إن ثمة �أربعني نوعا من الر�أر�أة ،رمبا يجب اليوم �إ�ضافة نوع جديد :الر�أر�أة ال�سورية.
العدد 88
العدد 83
2013-10-20
«الرقيب اخلالد» لزياد كلثوم انحياز ل�سلمية الثورة وحق ال�سوريني يف احلياة عر�ض خا�ص لفيلم «الرقيب اخلالد» يف �سينما �أبراج ببريوت.
تهامة اجلندي للجي�ش م� ّن��زل��ة خا�صة يف ت�شكيالت الدولة ال�سورية ،على اعتبار �أن البلد مهدّ د و ُمقاوم ،بحكم جواره لكيان العدو ،منزلة بد�أت من التبجيل يف الن�شيد الوطني «حماة الديار عليكم �سالم� ،أبت �أن ُتذل النفو�س الكرام» وانتقلت �إىل اخلدمة الإلزامية، املفتوحة الأمد ،واملفرو�ضة على كل مواطن ذكر .وتو�سعت لتطال طالب املرحلة الثانوية �وح��د عليهم، بفر�ض ال���زيّ الع�سكري امل� ّ وم��ادة الفتوة ،ودورات ال�شبيبة ال�صيفية للع�سكرة. للتدريب على امل��ب��ادئ الأول��ي��ة ّ مرورا باالمتيازات الكبرية التي تتمتع بها الرتب العليا من ال�ضباط وما فوقهم ،انتهاء بامليزانيات الهائلة التي اق ُتطعت من خبز املاليني ،لتغطية نفقات تدريب هذا اجلي�ش وت�سليحه وبناء تر�سانته احلربية ،مبا فيها الأ�سلحة الكيماوية ،حتى غدا واحدا من �أقوى جيو�ش املنطقة العربية. جي�ش كان يعتز به جميع ال�سوريني ،قبل �أن ي�ص ّوب ر�صا�صه على �صدروهم يف بداية التظاهرات ال�س ّلمية ،2011وت�ستوطن وجدانهم ط ّعنة الغدر ،وه��م ي��رون �شباب و�شابات �سوريا ي�سقطون قتلى يف ال�شوارع ،ال لذنب �سوى �أنهم طالبوا بالكرامة واحلرية، الطعنة العميقة ال��ت��ي ُت��رج��م��ت ب�شعار املتظاهرين «ال��ل��ي بيقتل �شعبه خ��اي��ن»، و�أغنية �سميح �شقري الرائعة «ي��ا حيف»، يومها كانت الفاجعة � ّأعتى من �أن ي�صدّ قها عقل ،دفعت بالعديد من عنا�صر اجلي�ش
�أنف�سهم للتمرد على الأوامر «فكيف يقتلون م��ن �أق�سموا على ح��م��اي��ت��ه��م...؟! « وك��ان عقاب املتمردين الت�صفية الفورية� ،إال من ا�ستطاع منهم �أن يلوذ بالفرار خارج احلدود �أو داخلها ،ذلك قبل �أن تت�شكل نواة اجلي�ش احلر ،وي�صبح الر�صا�ص مزحة �أمام طائرات النظام ومدفعيته وراج��م��ات �صواريخه، التي فتحت نريانها على املدن ،وفوق ر�ؤو�س العباد ،وغدت عنوان الرعب والذهول الذي �أ�صاب املواطنني يف ال�سنة الثانية من عمر الثورة ال�سورية ،وال تزال مع �إ�ضافة ف�صل الأ�سلحة الكيماوية بدخول ال�سنة الثالثة. �أ���س��وق ه��ذه املقدمة التي ب��ات يعرفها اجلميع ،للإ�شارة �إىل حجم ال�صدمة التي اعرتت املدنيني والع�سكريني ،من جراء زج الق ّوات امل�س ّلحة يف قمع املتظاهرين ال�س ّلميني، لأنها ت�ش ّكل اخللفية الدراماتيكية ،و�سرية م��ا قبل ال��ب��داي��ة ،التي ينطلق منها فيلم زي��اد كلثوم الوثائقي «الرقيب اخل��ال��د»، الذي اف ُتتحت �أول عرو�ضه يف �سينما �أبراج ببريوت .فالفيلم ير�صد احلياة يف دم�شق ع��ام ،2012من خ�لال عيون رقيب ي��ؤدي خدمة العلم الإلزامية ،هو نف�سه املخرج ال��ذي يعلن يف نهاية املطاف ان�شقاقه عن اجلي�ش ال�سوري النظامي ،وعدم التحاقه بكتائب اجلي�ش احلر ،م�ؤكدا �أن الكامريا هي �سالحه ،واملفارقة �أن العر�ض تزامن مع بدء بعثة املفت�شني الدوليني بتفكيك تر�سانة الأ�سلحة الكيماوية يف �سوريا.
ي���ب���د�أ ال��ف��ي��ل��م ب���ك���ادر م��ائ��ل لغرفة متوا�ضعة ،تلتقطها عد�سة جهاز خليوي، ت�ستوي ال�صورة ،وتتابع قدمني بحذاء، تخرجان �إىل ال�شارع ،تقطعان م�سافات ج��رداء ،يحدّ ها �سورُ ،كتبت عليه �شعارات البعث :وحدة ،حرية ،ا�شرتاكية ،يتح ّول احلذاء �إىل بوط ع�سكري ،يخبط الأر�ض، وي�سمع دويّ االنفجارات ،ت�صل القدمان �إىل ال� ُث��ك��ن��ة ،جت���ول ع�ين ال��ع��د���س��ة على اجل���دران ،متداعية ،لكنها مليئة ب�صور الأ���س��رة احلاكمة :الأب والإب���ن و�أخيه، ومن خارج الكادر يقول �صوت�« :أنا الرقيب زي��اد ك��ل��ث��وم» ،و ُيغلق امل�شهد على جندي يل ّقم املدّ فع ،وتنطلق القذيفة من الفوهة، وب�إمكاننا �أن نتخ ّيل حجم املجازفة التي قام بها املخرج �أثناء الت�صوير داخل ال ُثكنة بعد�سة هاتفه الن ّقال ،يف ظل املنع البات ال�ستخدام �أي من �أجهزة االت�صال. يف ال�شارع يرن ج ّوال الرقيب ،ون�سمع �صوت رجل ي�س�أله� ،إن كان ب�إمكانه االلتحاق بفريق الت�صوير ،ويجيبه الرقيب �أن��ه �سي�أتي بعد �أن ينهي دوام���ه يف ال ُّثكنة، ينتقل امل�شهد �إىل امل��خ��رج حممد مل�ص، وه��و ي�ستعد لبدء ت�صوير فيلمه ،ومنذ تلك اللحظة �سوف ي�ضع الفيلم تر�سيماته الأ�سا�سية على �أرب��ع��ة حم���اور متوازية ومتداخلة ،هي :اخلدمة الإلزامية ،طاقم الت�صوير ،احلوارات وحمور الإعالم ،وعلى الرغم من عدد ال�شخ�صيات الكبري الذي تتابعه الكامريا ،من النخبة املعروفة ومن العامة ،فلن نقر�أ على ال�شا�شة �أي ا�سم �أو تعريف لأي منها� ،سوف يتقدم معظمها با�سمه الأول ،حني ُي��ن��ادى عليه ،و�سوف نتع ّرف على مهنة ال�شخ�صية من خالل ما تقوم �أو تديل به داخل الكادر ،وهي عالمة الفيلم الأوىل� :شخ�صيات بال �أ�سماء كاملة، �أو �أل��ق��اب ،تكتفي بكينونتها الإن�سانية، وبالقا�سم امل�شرتك الذي يجمعها ،موا�صلة العي�ش يف �أق��دم عا�صمة م�أهولة ،تقطع �أو�صالها متاري�س الأجهزة الأمنية ،وتغطي �سمائها الطائرات. يف حم��ور اخلدمة الإل��زام��ي��ة ،يقت�صر الت�صوير على امل�شاهد الداخلية ،العد�سة تر�صد فو�ضى امل��ك��ان ،ومظاهر الإه��م��ال والب�ؤ�س والطغيان ،الأر�ضية مت�سخة ،وعلى الطاولة ركام من الأوراق وامللفات ،الطعام بي�ض ،وامل�شروب متة ،الأ�سالك الكهربائية تتدىل خارج العلب ،اجلدران مغطاة ب�صور ق��ادة الأب��د وال�شعارات ،و�صوت الإع�لام ال�����س��وري ،ي�شكو امل���ؤام��رة الكونية التي تق ّو�ض عزمية ال�شعب. يف املحور الثاين لن نعرف عنوان الفيلم الذي يقوم ب�إخراجه مل�ص ،لن نتع ّرف على الق�صة ،وال ال�شخ�صيات ،وال امل�صري الذي �آل �إليه� ،سوف نتابع فقط بع�ض امل�شاهد املقت�ضبة واملتفرقة التي يجري ت�صويرها، وتتقاطع مع حال ال�سوريني ذاك احلني: �شاب ي�صعد �أعلى ال�سلم وي�صرخ ،غ�سان جباعي مي ّثل دور �شخ�ص تعتقله املخابرات، ام��ر�أة م�س ّنة ت�سري نحو النافذة ،وتقول: الطبيبة ماتت ،ويف املقابل �سوف ير�صد ه��ذا امل��ح��ور امل��ع� ّوق��ات التي ت��واج��ه فريق العمل كل ي��وم ،من �صعوبة الو�صول �إىل �أماكن الت�صوير ب�سبب احلواجز الأمنية والق�صف� ،إىل منع الفريق من الت�صوير يف
2013-9-15
بع�ض املناطق ،ومن ثمة �إيقاف عمله ب�سبب الو�ضع الأمني املتدهّ ور ،ومن اعتقال �أحد �أع�ضاء الطاقم من غرفته يف الفندق� ،إىل �صوت احل� ّوام��ات والقذائف ال��ذي ي�ش ّو�ش على �أ�صوات املمثلني و�أدائهم ،فيغدو الأمر �أ���ش��ب��ه مبهمة م�ستحيلة ،حت��اك��ي رحلة العذاب اليومية التي يكابدها كل �سوري يف الطريق �إىل مكان عمله� ،أو ق�ضاء حاجاته. املحور الثالث التقطته عد�سة زياد كلوم �أثناء عمله مع حممد مل�ص� ،صوته ي�س�أل من خارج الكادر ،وال�شخ�صيات تلتفت نحوه وجتيب ،واالرجت��ال �سيد اللقطة .ع ّينات خمتلفة من الب�شر ،ممثلون وتقنيون من �ضمن الطاقم الفني ومل�ص نف�سه� ،أ�شخا�ص ع���ادي���ون ي��ت��اب��ع��ون جم��ري��ات الت�صوير، و�آخ��رون �ساقتهم امل�صادفة �إىل املكان... يف كثري من الأحيان ال ن�سمع ال�س�ؤال ،لكن معظمهم يبد�أ الكالم ذاهال ،وبقدر �شديد من التح ّفظ ،ويف حلظة يك�سر خوفه ،يبوح ورمبا ينتحب ،كروان ُقتل ابنه يف املعركة، ويدمي قلبه �أن يهلك اجلي�ش ال�سوري نف�سه احلاجة النازحة �ش ّيعت �أوالده��ا بنف�سه، ّ يف حم�ص ،ال�شاب فقد والده يف املعتقل... �سجن كبري واجلنازات ال تنتهي ،وتقول جود كرثواين للعد�سة التي تتبعها وهي ت�سري: «و ّثقي دم�شق ،قد حترتق غدا» ...وحدها زوجة ال�ضابط تتحدث بتحد ووعيد ،عن بطوالت �شريكها يف �إبادة الإرهابيني ،وعن ثقتها التامة بانت�صار �أف�ضل ق��ادة العامل برر قتل املدنيني ،وتدافع عن عليهم ...ت� ّ القاتل. وبني يوميات الرقيب يف ال ُث ّكنة و�أثناء الت�صوير ،كانت الأخبار املت ّلفزة على قناتي العربية واجل��زي��رة ،تر�صد ع��دد القتلى وح��ج��م ال��دم��ار ،بينما ك��ان��ت الف�ضائية متجد اجلي�ش البا�سل ،وتدعو ال�سورية ّ ال�����ش��ب��اب ل�لال��ت��ح��اق يف ���ص��ف��وف��ه ،لينتهي املحور الرابع مب�شهد اجلثث من الفريقني املتحاربني ،النظامي واحلر ،ويختم الفيلم تفا�صيله ب ��إع�لان �صك ال��ب�راءة م��ن كال الطرفني ،منت�صرا ل�س ّلمية ال��ث��ورة ،وحق ال�سوريني يف احلياة. ق���دّ م الفيلم وثيقة ح���ارة ع��ن حياة عا�صمة ّ حتت�ضر ،و�أنا�س يقاومون املوت ،يف م�شاهد تلقائية ،بعيدة عن العنف الذي يح�صد الأرواح ،قريبة م��ن الأمل ال��ذي ي�سكن القلوب ،م�شاهد مل يمُ ار�س املخرج �سلطته عليها ،ومل ي ّقحمها ب�أ�شرطة الفيديو امل�س ّربة عن هول ما يجري ،بقدر �صب جهده ،الالفت لالنتباه ،على توليف ما ّ اللقطات الوثائقية ،ور�صفها يف �سياق درامي ت�صاعدي ،ي��وازي درام��ا ال��واق��ع ال�سوري بتجلياته املختلفة ،فعل ذل��ك بحذاقة ّ ي�صف امل��ف��ردات يف جمل تكت�سي ك��ات��ب بالكنايات ،وتفي�ض باملجاز املفتوح على الأ�سئلة والتداعيات.
العدد 88
ال�ساروت ..حار�س الكرامة
را�شد عي�سى منذ بداية الثورة ال�سورية ،وا�شتعالها يف م��دي��ن��ة ح��م�����ص خ�����ص��و���ص � ًا ،اكت�شف ال�سوريون �أن حار�س "الكرامة" ،حار�س فريق "الكرامة" احلم�صي لكرة القدم ،مل يكن جم��رد ح��ار���س م��رم��ى ،ب��ل ه��و بالفعل حار�س الكرامة ،ول�شدّ ة ما افتنت ال�سوريون بهذا التطابق الفريد بني الواقع واملجاز. ذلك احلار�س كان عبد البا�سط ال�ساروت (ت�سعة ع�شر عام ًا �آنذاك) ،وهو �سرعان ما ان�ضم �إىل التظاهرات العارمة يف مدينة حم�ص ،بل �أ�صبح هو من�شدها ومغنيها. ال�����س��اروت ال��ي��وم ه��و م��و���ض��وع الفيلم ال�سينمائي الت�سجيلي "العودة �إىل حم�ص" ( 88دقيقة) ،الذي ا�ستغرق املخرج ال�سوري طالل ديركي عامني لإجنازه ،والذي �سيظهر �إىل النور قريب ًا يف "مهرجان �أم�سرتدام للفيلم الت�سجيلي" ك�أول فيلم عربي يعر�ض
يف االفتتاح ،وم�شارك ًا يف امل�سابقة الر�سمية للفيلم الطويل. ل��ك��ن وراء ال�����س��اروت ه��ن��اك حكاية ال��ث��ورة واحل���دث ال�����س��وري ،على م��ا يقول امل��خ��رج دي��رك��ي لـ"املدن" ،حيث "الفيلم مبني على نقل احل��دث ال�سوري من خالل متابعة تفا�صيل يومية ومفارقات �صعبة واجهت �شابني فاعلني يف الثورة ،الأول هو ال�ساروت من حي البيا�ضة ،حار�س مرمى نادي الكرامة ،الذي �أ�صبح من�شد تظاهرات حم�ص� ،إىل �أن التحق برفاقه يف الدفاع عن املدينة ،و�أ�صبح قائد �إح��دى املجموعات املن�ضوية حتت جناح اجلي�ش احلر ،وال�شاب الثاين هو �أ�سامة احلم�صي ،م�صور و�إعالمي من حي اخلالدية". امل��خ��رج ك��ان يتحرك يف م��دن �سورية ع��دي��دة م��ع ب��داي��ات ال��ث��ورة م�����ش��ارك � ًا يف
الت�صوير ويف العمل ال�صحايف كما يقول .ويف حم�ص تع ّرف �إىل ال�ساروت "كان ذلك �أثناء عملي مع �أ�سامة احلم�صي .تعرفت �إليه ،ر�أيت العزم والت�صميم ،و�أعجبت بجر�أته و�أغنياته، التي كانت بد�أت ُتردد يف �أنحاء �سوريا� .أيقنت م��ن متابعتي ل��ه �أن ه��ن��اك حكايات قادمة ال حم��ال��ة ،و�سرعان م��ا ب��د�أ النظام بحملة ت�أديبية له وملحيطه ،ودخل با�سط يف طريق الالعودة يف املطالبة ب�إ�سقاط النظام". فيلم كهذا ،ال بد �أن��ه كان عم ًال حمفوف ًا ب��امل��خ��اط��ر ،ح��ي��ث "الطريق م���ن دم�����ش��ق (حيث كان يقيم املخرج) �إىل حم�ص مليء ب��احل��واج��ز .اخل��ط��ورة ك��ان��ت �أك�ب�ر حينما تدخل املدينة ،حيث احل��واج��ز والقنا�صة املنت�شرون بكثافة على �أ�سطح املباين وداخل بيوت حم���ددة ،يطلقون ال��ن��ار مبا�شرة لدى ر�ؤي��ة �أي��ة ك��ام�يرا .ه��ذا �إىل جانب الق�صف املمنهج للمدينة ،واملعارك على جبهات كثرية، واحل�صار القاتل". ه��ك��ذا ا���ض��ط��ر امل���خ���رج �إىل االع��ت��م��اد على م�صور متواجد دائ��م� ًا بجوار ال�ساروت واحلم�صي "فيما كنت يف الأوق��ات الأخ��رى، �أنا ومنتج الفيلم عروة نريبية ،ن�صور امل�شاهد امل�ؤ�س�سة للبنية الدرامية ول�صلب الفيلم ،ويف غيابنا ،وحتديد ًا حني بقينا يف دم�شق وخ�ضعت حم�ص حل�صار �صارم ،كان امل�صور ين�سق معنا ب�شكل يومي من خالل النت الف�ضائي". امل��خ��رج مل يكن بعيد ًا ع��ن اخل��ط��ر ،فهو كما يقول "جزء من الثورة ،وقد جتاوزنا منذ اللحظة الأوىل حاجز اخل��وف .كان اخلوف �أال يكتمل امل�شروع ،وكانت املجازفة كبرية بوجود ال�سوريني ال�شجعان على خط اجلبهة مبواجهات الدبابات والقذائف والطريان". حل��ظ��ات اخل���وف وم��واج��ه��ة امل���وت تبدو جزء ًا من فيلم من هذا النوع ،من دونها ال �شك �سي�صبح فيلم ًا �آخر "ال ت�ستطيع �أن تعود �إىل حياتك ال�سابقة بعد هكذا فيلم .يف امل�ستقبل �سي�أتي �شخ�ص وينجز فيلم ًا روائي ًا عن جتربة ال�ساروت ،وق�صة حياته املثرية للجدل ،لكن هذا الكاتب �أو املخرج� ،سيغادر منزله �صباح ًا بثيابه الأن��ي��ق��ة ،وي��و���ص��ل اب��ن��ه للمدر�سة ويتابع نحو موقع الت�صوير ،القهوة يف انتظاره
وامل�ساعدون واملمثلون كذلك .زوجته �ستكون مطمئنة متار�س حياتها ب�أريحية ،ال خطر على م�صريه من املوت �أو االعتقال والت�صفية، ل��ن يعرف م��ن (وم���ا) ه��و ال�����س��اروت ،وم��ن هم �أولئك الذين مات معظمهم .لن ي�س�أله ال�ساروت احلقيقي :ماذا نفعل الآن؟ ..لن يكون جزء ًا م��ن ال��ت��اري��خ .هنا ي��ك��ون الفيلم الت�سجيلي منت�صر ًا على باقي الفنون". ولدى �س�ؤال املخرج ديركي �إن كان ال�ساروت �شاهد ن�سخة من الفيلم ،قال" :لقد �شاهده يف ظروف جد ًا �صعبة ،فهو داخل احل�صار ،وحي اخلالدية �سقط يف يد النظام .ا�ست�شهد �أخوه وخاله �أي�ض ًا قبل �أ�سابيع ،وو�ضعه ال�صحي �سيء جد ًا .لكنه على دراية كاملة مب�شاهد الفيلم، ومقتنع متام ًا ب�ضرورته ،هو الذي ح�ضر �أمام الكامريات حني كان اجلميع خائف ًا ،وغاب حني �أ�صبحت امل�س�ألة متاحة للكثريين" .و�أ�ضاف ديركي" :تربطنا �صداقة قوية ،وتف ّهم كل منا لدور الآخر ولأهميته .هو يعلم متام ًا ما �أنا مقدم عليه ،يتنا�سى ح�ضور الكامريا يف كثري من الأوق��ات ،اعتاد على ح�ضورنا الدائم ،ال يختلف البتة يف الواقع عنه �أمام الكامريا". و�إذا كانت �سوريا بعد اندالع الثورة �شهدت انتعا�ش ًا هائ ًال يف �إنتاج الفيلم الت�سجيلي ،ف�إن خمرج "العودة �إىل حم�ص" ع ّلق على ما �أ�سماه "الثورة الب�صرية" بالقول" :امل�شكلة تكمن يف غياب ال�صرب والوعي بالتعامل مع امل��ادة املتابعة .فن كتابة احلكاية ،وفن خلق العن�صر الإن�ساين والعاطفي وخلق خطوط درامية �أو البحث عنها يف مناطق ال�صراع ،بقي غائب ًا �أمام احل�ضور الإخباري العام للثورة� .شخو�ص كثرية عا�شت وماتت قربنا ومل نع ْرها انتباهنا، كذلك جتد �أن اجلانب الإعالمي يف الثورة نحو تراجع ب�سبب هيمنة املال ال�سيا�سي على الثوار والكتائب� .أ�صبح الإع�لام��ي حمكوم بالعمل فقط مل�صلحة اجلهة التي ينت�سب لها وت�ؤمن له دخله" .لكن ديركي ا�ستدرك بالقول" :هناك الكثري من ال�شباب الذين �أث��ق فيهم يعملون �أفالمهم ب�صمت و�صرب كبري ،ويتحدون املوت، ومنهم �أي�ض ًا من هو معتقل لدى النظام �أو لدى جهات مثل داع�ش وغريها ،مقيمة على الرتاب ال�سوري".
هل مت جتنب الأزمة يف �سوريا؟ لي�س بهذه ال�سرعة ترجمة :ق�سم الرتجمة يف مركز ال�شرق العربي
بعد �شهرين من الهجوم املرعب بغاز ال�سارين الذي دفع �سوريا �إىل حمور انتباه وا�شنطن, يبدو �أن ما حدث �أ�صبح طي الن�سيان .يقول املفت�شون الدوليون �إن خطة التخل�ص من تر�سانة �أ�سلحة النظام الكيميائية ,التي انتهى بها املطاف �إىل �أن تكون رد الرئي�س �أوباما على اجلرمية ,ت�سري ب�سال�سة ن�سبيا .يف الكونغر�س ,حتول جدل ال�سيا�سة اخلارجية نحو �إيران. �إذا هل انتهت الأزمة؟ يبدو �أن ال�سيد �أوباما يعتقد ذلك ,وكذلك ب�شار الأ�سد. يف مقابلة ن�شرتها الأ�سبوع املا�ضي �صحيفة الأخبار ,بدا الدكتاتور ال�سوري �سعيدا ومرتاحا لو�ضعه .حتى �إنه مل يبدي �أي "ندم" خل�سارته الأ�سلحة الكيمائية ,حيث ورد يف ال�صحيفة �":إنه يعتربها مبثابة �أ�سلحة ردع �أ�صبحت جزء من املا�ضي الآن" .كما �أو�ضح الأ�سد �أن امل�ستهدف من غاز ال�سارين كان �إ�سرائيل ,ولكن �إ�سرائيل طورت �إجراءات م�ضادة و�صواريخ �سوريا البال�ستية �أ�صبحت ت�شكل الآن تهديدا �أكرث قوة للدولة اليهودية. �صحيح �إنه كان ي�أمل يف ا�ستخدام تر�سانته من الأ�سلحة الكيماوية – التي مل ت�شهد �أي زيادة منذ عام -1997من �أجل حمل �إ�سرائيل على التخلي عن �أ�سلحتها النووية ,كما قال الأ�سد .ولكن الأ�سلحة ا�ستخدمت الآن لفائدة ملمو�سة �أكرث ,وذلك " من اجل �إزالة تهديد التعر�ض للهجوم" من قبل الواليات املتحدة .مما �أعاد فتح الطريق �أمام النظام ل�شن احلرب مرة �أخرى �ضد املدنيني .يف الأ�سابيع الأخرية ا�ست�أنفت الطائرات ال�سورية ق�صفها يف املناطق احل�ضرية ,بينما ت�ستخدم القوات الربية طريقة جديدة للق�ضاء على املقاومة يف �ضواحي دم�شق التي كانت هدفا لهجوم الغاز يف � 21أغ�سط�س تتمثل يف منع و�صول �إمدادات
2013-10-20
وا�شنطن بو�ست
الغذاء بهدف جتويع ال�سكان. وزير اخلارجية جون كريي يقول �إنه �سوف يعقد م�ؤمتر ال�سالم نهاية ال�شهر القادم يف جنيف .كما يقول �إن امل�ؤمتر يجب �أن ي�ؤدي �إىل ت�شكيل حكومة انتقالية ت�ستبعد زمرة الأ�سد ويوافق عليها كال اجلانبني .ولكن الأ�سد غري مهتم بجنيف� ,إذا قال الدكتاتور �إن امل�ؤمتر "رمبا يعقد من �أجل �إر�ضاء رو�سيا فقط" .مما قد يغري �إدارة �أوباما بقبول املبادرة .ولكنه ي�شك يف ذلك .وي�ضيف ":م�شكلة الغرب �أن املع�سكر الذي يدعمه يف املفاو�ضات منق�سم ولي�س له �أي �سيطرة على الأر�ض"� .إذا كان هناك م�ؤمتر ,ف�إن النظام �سوف ي�صر على بقاء الرئي�س يف من�صبه حتى تنتهي فرتة رئا�سته وذلك حتى منت�صف العام القادم كما �أن لديه احلق يف �إعادة االنتخاب ,ولي�س هناك �أي م�ؤ�شر على �أن رو�سيا تعار�ض ذلك. بيانات الأ�سد الأخ�يرة رمبا يبدو فيها الكثري من التهديد والوعيد .ولكنها فارغة. النظام عمل على ا�ستبدال تر�سانة �أ�سلحته التي ابتعدت عن هدفها الأ�صلي مقابل جتنب �ضربة ع�سكرية �أمريكية كان من �ش�أنها تغيري موازين القوة يف احلرب الأهلية .هذا االتفاق �أدى �إىل املزيد من االنقا�سامات يف املعار�ضة املدعومة �أمريكيا كما �أنه �أدى �إىل تبديل بع�ض جمموعات املتمردين والءها نحو الإ�سالميني .يبدو �أن م�ؤمتر جنيف م�شكوك يف �أمره ,ويعود ذلك بجزء منه �إىل �أن الدبلوما�سيني الأمريكان غري قادرين على تو�ضيح كيفية مغادرة الأ�سد لل�سلطة .رمبا من غري املفاجئ �أن الأ�سد و لي�س �أوباما هو من يريد احلديث عن هذا الأمر .بالن�سبة للواليات املتحدة ,يبدو �أن ال�صورة قامتة وخمزية متاما.
العدد 88
2013-10-20
من هو الدكتاتور؟ روبرت كابالن ريال كلري بوليتيك�س ترجمة :ق�سم الرتجمة يف مركز ال�شرق العربي
من هو الدكتاتور� ,أو امل�ستبد؟ �أراهن �أنك تعتقد �أنك تعرف. لكن رمبا ال .طبعا� ,أدولف هتلر وجوزيف �ستالني وماو ت�سي تونغ كانوا دكتاتوريني .وكذلك كان �صدام ح�سني وكال من حافظ وب�شار الأ�سد .ولكن يف عدة ح��االت ف��إن الو�ضع لي�س بتلك الب�ساطة والو�ضوح .يف العديد من احلاالت ف�إن الواقع – والأخالق -التي حتكم املوقف تكون �أكرث تعقيدا. دينغ �شياو بينغ كان دكتاتورا� ,صحيح؟ بعد كل �شيء ,فقد كان رئي�س احلزب ال�شيوعي يف ال�صني من عام � 1978إىل عام .1992ومل يكن منتخبا .وحكم من خالل اخلوف .كما وافق على ذبح املتظاهرين يف ميدان تيامنني يف بكني عام .1989ولكنه قاد ال�صني �أي�ضا باجتاه اقت�صاد ال�سوق الذي �أدى �إىل رفع م�ستوى املعي�شة ودرجة حريات الأفراد للمزيد من النا�س يف فرتة رمبا تكون �أق�صر من �أي وقت زمني �آخر م�سجل يف التاريخ ملثل هذا التحول االقت�صادي .من �أجل هذا االجناز ,رمبا يجادل املرء ب�أنه ميكن ت�صنيف دينغ كواحد من �أعظم الرجال يف القرن الع�شرين, على قدم امل�ساواة مع وين�ستون ت�شرت�شيل وفرانكلني روزفيلت. ولذلك لي�س من العدل و�ضع دينغ يف نف�س الفئة مع �صدام ح�سني� ,أو حتى مع ح�سني مبارك ,زعيم م�صر ال�سابق� ,أي منهم �أدى حكمه العقيم �إىل �إعداد �شعبه للمزيد من االنفتاج املجتمعي؟ فوق جميع االعتبارات لي�س هناك �أي من ه�ؤالء الرجال الثالثة جاء �إىل احلكم عن طريق االنتخابات .وجميعهم حكموا من خالل اخلوف .فلماذا ال ن�ضعهم جميعهم يف نف�س املجموعة؟ �أو ماذا عن يل كوان يو و زين العابدين بن علي؟ خالل املراحل الأوىل حلكم يل ل�سنغافورة ت�صرف بطريقة ا�ستبدادية ,كما فعل بن علي خالل طيلة فرتة حكمه لتون�س� .إذا �أال ي�ستحقان �أن ن�صفهما بامل�ستبدان؟ لقد رفع يل م�ستوى احلياة ونوعيتها يف �سنغافورة من دولة كانت م�ساوية لبع�ض �أفقر الدول الإفريقية يف ال�ستينات �إىل دول��ة تعادل �أغنى ال��دول الغربية يف بداية الت�سعينات .كما و�ضع �أ�س�سا للجدارة ( نظام ملكاف�أة الفرد بناء على �إجنازاته ول�س على �أمواله �أو معارفه :املرتجم) واحلكم الر�شيد والتخطيط احل�ضري على �أ�سا�س عاملي .مذكرت يل ذات اجلز�أين ميكن قراءتها كما تتم ق��راءة حياة النبالء اليونان والرمان .ولكن بن علي وعلى النقي�ض من ذلك ,كان جمرد �سفاح خ��ادم لأجهزة الأم��ن جمع ما بني التوح�ش و�أق�صى م�ستويات الف�ساد ,كما كان الإ�صالح غائبا متاما عن حكمه .مثل مبارك, فقد �ضمن اال�ستقرار ولكن مل يقدم �أي �شيء �آخر. فهمتهم الفكرة� .إن تق�سيم العامل ما بني �أ�سود و�أبي�ض بني الدكتاتوريني والدميقراطيني يفتقر متاما للمعنى ال�سيا�سي والتعقيد الأخالقي للو�ضع على الأر���ض يف الكثري من البالد. �إن تق�سيم الأم��ور ما بني دميقراطيني ودكتاتوريني وا�سع جدا لفهم العديد من املناطق وحكامها – وبالتايل تقدمي فهم كاف للجغرافيا ال�سيا�سية .بالت�أكيد هناك ف�ضيلة يف ذلك من خالل تب�سيط التفكري وتقدمي الأم��ور� .إن تب�سيط الأمن��اط املعقدة ي�سمح للنا�س �إدراك احلقائق الأ�سا�سية التي رمبا ال يدركوها يف حالة عدم تب�سيطها .ولكن ولأن احلقيقة ذات طبيعة معقدة, ف�إن الكثري من التب�سيط ي�ؤدي �إىل ر�ؤية بدائية للعامل .واحدة من �أف�ضل الأمور بالن�سبة للمثقفني واملتخ�ص�صني يف اجلغرافيا ال�سيا�سية هي ميلهم ملكاف�أة التفكري املعقد وقدرتهم امل�صاحبة على ر�سم الأبعاد ب�صورة دقيقة. �إن التمييز اجل��ي��د يجب �أن ي��ك��ون ح��ول م��ا ت���دور حوله اجلغرافيا والعلوم ال�سيا�سية .وهو يعني �أننا نتعرف على العامل من خالل معرفتنا �أن��ه كما �أن هناك دميقراطيون �سيئون ف�إن هناك دكتاتوريون جيدون .يف العديد من احلاالت ف�إنه ال يجب ت�صنيف حكام العامل ما بني �أبي�ض و�أ�سود ,ولكن هناك ظالل كثرية غري حمدددة ,تغطي الطيف ما بني الأ�سود والأبي�ض. املزيد من الأمثلة:
ن��واز �شريف ومناف�سته الراحلة بنازير بوتو, عندما حكموا باك�ستان بالتناوب يف الت�سعينات, كانت �إدارتهما رهيبة .كالهما ك��ان منتخبا ,لكن كالهما حكم بطريقة غري من�ضبطة وفا�سدة وغري حكيمة مما جعل البالد �أقل ا�ستقرارا ومهدا الطريق لوجود حكم الع�سكر .لقد كانا دميقراطيني ولكنهما مل يكونا ليرباليني. امللك ح�سني ملك الأردن الراحل والراحل بارك ت�شونغ يف كوريا اجلنوبية كانا دكتاتوريان ,ولكن الديناميكية واحلكم امل�ستنري �أدى �إىل تغيري قطع جغرافية غري م�ستقرة وجلبا لهما النمو وحالة من اال�ستقرار الن�سبي .لقد كانا دكتاتوريان ولكنها ليرباليان يف نف�س الوقت. و�سط هذا التعقيد ال�سيا�سي والأخالقي الذي يع�صف مبناطق خمتلفة من الأر���ض ,ظهرت بع�ض ال��ن��م��اذج الأخ����رى .على ال��ع��م��وم ,الدكتاتوريون الآ�سيويون حكموا بطريقة �أف�ضل من نظرائهم ال�شرق �أو�سطيني .دينغ يف ال�صني ,يل يف �سنغافورة, بارك يف كوريا اجلنوبية ,مهاتري حممد يف ماليزيا, ت�شيانغ ك��اي ت�شيك يف ت��اي��وان ,جميعهم كانوا م�ستبدين ب��درج��ة �أو ب ��أخ��رى .ول��ك��ن �شموليتهم قادت �إىل تطور اقت�صادي وتكنولوجي و�إىل حكم �أف�ضل و�إىل حت�سني نوعية احلياة .الأهم من ذلك كله ,ف�إن حكمهم ,مهما كان ناق�صا� ,أدى �إىل حت�سني و�ضع جمتمعاتهم وبالتايل التحول نحو الإ�صالحات الدميقراطية فيما بعد .جميع ه����ؤالء ال��رج��ال, من �ضمنهم مهاتري امل�سلم ,كانوا مت�أثرين بطريقة غ�ير م��ب��ا���ش��رة وغ��ام�����ض��ة مب��ج��م��وع��ة م��ن التعامل الكونفو�شيو�سية ,والتي تت�ضمن :احرتام الت�سل�سل الهرمي وكبار ال�سن وب�شكل عام احلياة الأخالقية العامة يف هذا العامل. كل ذلك يقف على نقي�ض من حالة الدكتاتوريني العرب مثل بن علي يف تون�س ومبارك يف م�صر و�صدام يف العراق وعائلة الأ�سد يف �سوريا.كما �أنه �صحيح �أن بن علي ومبارك كانا �أقل قمعا من �صدام والأ�سد الراحل .وعالوة على ذلك فقد �شجع كل من بن علي وم��ب��ارك على بع�ض التطور يف الطبقة املتو�سطة يف بالدهم .ولكنهما مل يكونا م�صلحني �أخالقيني ب ��أي �شكل من الأ���ش��ك��ال .وبالطبع �صدام والأ�سد كانا متوح�شني متاما .فقد حكموا البالد بطريقة خانقة من القمع بحيث حولوها �إىل زنزانة �صغرية. وبدال من احلكم بالكونفو�ش�سية فقد حكم كل من �صدام والأ�سد مدفوعان بالبعثية ,وهي �صورة من �صورة اال�شرتاكية العربية التي تعار�ض ب�شرا�سة اال�ستعمار الغربي ولكنها خلقت حالة ا�ستبداد �سيئة جدا.
خارج ال�شرق الأو�سط و�آ�سيا هناك حالة رو�سيا. يف الت�سعينات ,حكم بوري�س يلت�سن البالد ,وهو رجل �أ�شاد الغرب به على �أنه دميقراطي .ولكن حكمه غري املن�ضبط �أدى �إىل حالة من الفو�ضى االقت�صادية واالجتماعية .فالدميري بوتني ,من ناحية �أخرى, �أكرث قربا من اال�ستبداد – وهو يظهر ذلك ب�صورة مت�سارعة -ويحظى بحالة من االزدراء يف الغرب. ولكن ,ومب�ساعدة �أ�سعار الطاقة املتزايدة� ,أعاد رو�سيا �إىل نوع من �أن��واع اال�ستقرار ,وبهذا ح�سن ب�صورة �سريعة نوعية احلياة بالن�سبة للرو�سي العادي. وقام بذلك دون اللجوء �إىل م�ستوى اال�ستبداد -مع اختفاء تام ملخيمات العمل يف �سيبرييا -العائد �إىل القيا�صرة القدماء. و�أخ�ي�را ,هناك ق�ضية �أخالقية �أك�ثر �إرب��اك��ا بالن�سبة للجميع وهي ق�ضية الدكتاتور الت�شيلي ال���راح���ل �أوغ�����س��ت��و ب��ي��ن��و���ش��ي��ه .يف ال�سبعينات والثمانينات ,خلق بينو�شيه �أكرث من مليون فر�صة عمل ,وعمل على تخفي�ض معدل الفقر من ثلث عدد ال�سكان �إىل �أق��ل من الع�شر ,وخف�ض معدل وفيات الأطفال من 78لكل � 1000إىل .18و كانت ت�شيلي يف عهد بينو�شيه واح��دة من ال��دول غري الآ�سيوية القليلة يف العامل التي �شهدت معدل منو اقت�صادي مرتفع يف ذل��ك ال��وق��ت .لقد �أع��د بينو�شيه بالده ب�صورة ج��ي��دة للدميقراطية ,حتى �أن �سيا�سته االقت�صادية �أ�صبحت منوذجا للنمو يف عامل ما بعد ال�شيوعية .ولكن بينو�شيه كان مو�ضعا للكراهية ما بني الليرباليني واحلقوقيني يف العامل ب�سبب �سنوات من ممار�سة التعذيب املمنهح �ضد ع�شرات الآالف من ال�ضحايا .وهكذا �أين ميكن و�ضعه �ضمن الطيف ما بني الأ�سود والأبي�ض؟ لي�ست ال�شئون ال��دول��ي��ة فقط ه��ي م��ن ميتلك ظالال غري حمددة ,ولكن يف بع�ض الأحيان ي�صبح من امل�ستحيل معرفة �أين ميكن ت�صنيف �شخ�ص ما على هذا الطيف� .إن ق�ضية ما �إذا كانت الغايات تربر الو�سائل ال يجب �أن يتم الإجابة عليها من خالل الأ�سلوب امليتافيزيقي ,ولكن يجب الإجابة عليه من خالل املالحظة التجريبية ,حيث �إن بع�ض الغايات تربر الو�سائل ,وبع�ضها ال .يف بع�ض الأحيان تكون الو�سائل غري مرتبطة �أب��دا بالغايات ,ولهذا فهي يجب �أن تدان ,.كما يف حالة ت�شيلي .هذه هي مع�ضلة العامل ال�سيا�سية والأخالقية .التعقيد والتمييز الدقيق �أمور يجب تتبنى؛ و�إال ف�إن العلوم ال�سيا�سية واجلغرافيا ال�سيا�سية والتخ�ص�صات املرتبطة ميكن �أن ت�ؤدي �إىل الت�ضليل عو�ضا عن التنوير.