كلنا سوريون العدد الثاني

Page 1

1


2


3


‫‪2/5‬‬ ‫رئيس التحرير‬ ‫بسام يوسف‬ ‫مدير التحرير‬ ‫حسين برو‬ ‫هيئة التحرير‬ ‫جلنار صادق‬ ‫نور عبداهلل‬ ‫لؤي حاج بكري‬ ‫علي األعرج‬

‫الهيئة االستشارية‬ ‫عبد السالم حلوم‬ ‫الياس قيسو‬ ‫تميم بدره‬ ‫مصطفى حمو‬

‫الموقع االلكتروني آالء عثمان‬ ‫اإلخراج الفني ‪Copia Graphic‬‬

‫‪4‬‬

‫مجلة سورية ثقافية‪ ،‬فكرية‪ ،‬مطبوعة‪،‬‬ ‫تصدربشكل شهري‪ ،‬تأسست كصحيفة‬ ‫نصف شهرية في شهر شباط (فبراير)‬ ‫من عام ‪ 2014‬في مدينة غازي عينتاب‬ ‫التركية على يد مجموعة من الشباب‬ ‫السوريين من مختلف مكونات الشعب‬ ‫السوري‪ ،‬تهتم بالشأن السوري‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتحاول أن تكون‬ ‫فضاء إعالميا مفتوحا‬ ‫لكل السوريين‪ ،‬وساحة لتبادل الرأي‬ ‫والحوار‪.‬‬ ‫تسعى «كلنا سوريون» أن تكون حيادية‬ ‫في نقل املعلومة‪ ،‬وتلتزم بمعياري‬ ‫املوضوعية واملصداقية‪ ،‬ولكنها تعلن‬ ‫أنها منحازة نحو مشروع التحول‬ ‫الديمقراطي في سوريا‪ .‬في وجه كل بنى‬ ‫االستبداد والطغيان التي تعرقل هذا‬ ‫املشروع‪.‬‬ ‫وهي عضو مؤسس للشبكة السورية‬ ‫لإلعالم املطبوع ‪ (SNP).‬إليمانها بالعمل‬ ‫التشاركي الجماعي‪ ،‬وهي عضو مشارك‬ ‫في ميثاق "شرف" لإلعالميين‬ ‫السوريين‪.‬‬


‫االنتحار اتساع اإلدراك‬ ‫وجتاوز الكائن للوعي الذاتي‬

‫أحباث ودراسات‬ ‫االنتحاراتساع اإلدراك وتجاوز الكائن للوعي الذاتي‬ ‫علي األعرج‪7 /‬‬ ‫عصراملالحم ذاكرة الشرق املثقوبة‬ ‫عبد القادرأحمد‪19 /‬‬ ‫رأي‬ ‫مصيرالجمهوريات بعد الربيع العربي‬ ‫أحمد عيشة‪29 /‬‬ ‫وسائل التواصل كجزء من اإلعالم البديل‬ ‫نوارالجابري‪35 /‬‬ ‫ملف العدد‬ ‫قاسم أمين إرهاصات أولى في قضية تحريراملرأة‬ ‫علياء الويس ي‪41 /‬‬ ‫مختارات من كتاب قاسم أمين في تحريراملرأة‬ ‫التحرير‪45 /‬‬ ‫دعوا املرأة تعمل…‬ ‫ترجمة وإعداد‪ :‬هالة الحسن‪49 /‬‬ ‫الحركة النسوية مراحل مضطربة ونضاالت شاقة‬ ‫هدى عباس‪57 /‬‬ ‫املرأة واملجتمع‪ ..‬أنوثة مستكينة وذكورة مستفحلة‬ ‫سارة عز‪63 /‬‬ ‫قانون حماية املرأة في الشمال السوري…‬ ‫نبال زيتونة‪67 /‬‬ ‫ُ َّ‬ ‫املدون‬ ‫املرأة في األدب من املدون إلى ِّ‬ ‫علي األعرج‪75 /‬‬

‫‪5‬‬

‫علي األعرج‬

‫‪7‬‬

‫قاسم أمني إرهاصات أوىل يف‬ ‫قضية حترير املرأة‬ ‫علياء الويسي‬

‫احلركة النسوية‬

‫مراحل مضطربة ونضاالت شاقة‬

‫هدى عباس‬


‫ما عجبك تطلع‬ ‫إال ضد الرئيس‬ ‫بسام يوسف‬

‫شخصية العدد‬ ‫عبد الرحمن الشهبندر شهيد الوطن والتنوير‬ ‫خالد علوش‪81 /‬‬ ‫من ذاكرة السجن‬ ‫ما عجبك تطلع إال ضد الرئيس‬ ‫بسام يوسف‪89 /‬‬ ‫آداب وفنون‬ ‫القراءة التفاعلية وداللة النص‬ ‫د‪ .‬يوسف إسماعيل‪99 /‬‬ ‫سعال‬ ‫رفعت إلغاز‬ ‫الترجمة عن التركية‪ :‬نور عبدهللا‪107 /‬‬ ‫الشجرة الخضراء‬ ‫إعداد‪ :‬جوان أحمد حسين‪111 /‬‬ ‫رسائل الليل والنهاروقصائد أخرى‬ ‫حسين جرود‪115 /‬‬ ‫رسائل الليل والنهاروقصائد أخرى‬ ‫حسين جرود‪115 /‬‬ ‫االنحيازإلى الحياة‬ ‫هيئة التحرير‪127 /‬‬

‫‪6‬‬

‫القراءة التفاعلية وداللة النص‬

‫د‪ .‬يوسف إمساعيل‬

‫سعال‬ ‫رفعت إلغاز‬ ‫ت‪ :‬نور عبداهلل‬


‫أبحاث ودراسات‬ ‫‪7‬‬


8


‫االنتحار‬ ‫علي األعرج‬ ‫الوعي اإلنساني هو أكثر تعقيداً من أي وعي لكائن آخر‪،‬‬ ‫نتيجة تدخالت كبرى كاإليديولوجيات واألديان والثقافات‬ ‫واألساطير والتطور والعمل واالستعباد‪ ..‬الخ‪ .‬وينشأ‬ ‫فعلياً االنتحار البشري ضمن تداخل جميع هذه المعطيات‬ ‫التاريخية وتناقلها جينياً للعصور الحالية‪ ،‬لكن هذا ال‬

‫يُلغي أبداً جوهره الطبيعي والفطري‪.‬‬

‫فسر العلم الحديث ظاهرة االنتحار‪ ،‬على أنها ُمنجز بشري حصري‪ ،‬ناتج عن ّ‬ ‫ُي ّ‬ ‫تعقد الوعي اإلنساني‬ ‫ّ‬ ‫املدنية‪ ،‬ويخضع لترديات نفسية معينة‬ ‫ضمن تراكمات البنية العقلية الحديثة وتطوراتها‬ ‫واضطرابات سلوكية تؤدي باإلنسان إلى قيامه بفعل املوت‪ .‬هذا الحصر لفعل االنتحار‪ ،‬يؤدي بنا‬ ‫إلى تقليص أهميته التاريخية والطبيعية‪ ،‬وتشويه النظرة إليه لعدم فهم آليته‪ ،‬رغم صعوبة اإلحاطة‬ ‫بهذه اآللية الذاتية‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫ّ‬ ‫التشعب في هذه الظاهرة من منحى ّ‬ ‫تصور‬ ‫قبل‬ ‫ُ‬ ‫شخص ي‪ ،‬وهو رأي قد يقبل وقد يرفض من‬ ‫اآلخر‪ ،‬ال ُب ّد لنا من تفنيد هذه الظاهرة حول‬ ‫ُ ّ‬ ‫تعريفها املقلص أنها فعل بشري محض‪،‬‬ ‫ويخضع بأسبابه لتردي نفس ي‪ُ ،‬يعانيه الكائن‬ ‫اإلنساني دون سواه‪.‬‬ ‫ّإن تعريف العلم لظاهرة االنتحار بأنها ّ‬ ‫نفسية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بحتة قد ال بدو تعريفا جوهريا بقدر ما هو‬ ‫تعريف تبريري لعدم قبول فكرة فطرية هذا‬ ‫ً‬ ‫الفعل في الطبيعة‪ ،‬رغم أنها تحمل طابعا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نفسيا جزئيا‪ ،‬لكن الدقة لتعريف هذه‬ ‫الظاهرة هو ما يمكن أن نطلق عليه "تجاوز‬ ‫الكائن لوعيه الذاتي وعالقته باملحيط"‪ ،‬وهذا‬ ‫التجاوز ليس نفس ي بحت بقدر ما هو إدراك‬ ‫فلسفي لطبيعة العالم (كل كائن بحسب‬ ‫قدرته العقلية)‪ .‬بالطبع ليس معنى هذا أن أي‬ ‫كائن يمكن له اإلقدام على االنتحار‪ ،‬قد وصل‬ ‫إلى مرحلة التساؤالت الكبرى في معنى الحياة أو‬ ‫املوت أو الوجود أو العدم (هذا جزء ضئيل‬ ‫من ممارسة فعل االنتحار) لكن الحالة األعم‬ ‫هي تجاوزات بسيطة لعدم الوصول إلى معنى‬ ‫أو ّ‬ ‫تحمل ما تجاوزه العقل‪.‬‬

‫منطقي‪ ،‬وهي انتحار الحيوانات (باعتبارها‬ ‫ً‬ ‫علميا كائنات غير عاقلة وال تمتلك آليات‬ ‫التفكير العميق خارج نطاق الغريزة)‪ .‬من هنا‬ ‫إن كان االنتحار بحسب التعريف العلمي هو‬ ‫ّ‬ ‫تعقد الوعي وتطوره املدني‪ ،‬ما الذي يدعو‬ ‫الحيوانات بتفكيرها الغريزي للبقاء إلى‬ ‫االنتحار!!‬ ‫ّ‬ ‫سجل التاريخ الكثير من حوادث انتحار‬ ‫الحيوانات بشكل غامض‪ ،‬إن كان في الوقت‬ ‫املعاصر وإن كان في التاريخ القديم‪ ،‬وأهم ما‬ ‫ُس ّجل في ذلك التاريخ هو حديث أرسطو حول‬ ‫واد سحيق‪،‬‬ ‫انتحار حصان برمي نفسه في ٍ‬ ‫وكان تبرير ذلك االنتحار (بحسب تمنطق‬ ‫البشريين وأسطرتهم للتاريخ وإيجاد تبريرات‬ ‫ُ‬ ‫لعدم فهم آلية انتحاره) أن الحصان قد أجبر‬ ‫على مضاجعة أمه‪ ،‬وهو ما دعاه فيما بعد‬ ‫ً‬ ‫لالنتحار‪ .‬طبعا ُيعاب على هذا التبرير‪ ،‬بأنه لو‬ ‫كان الحصان يعلم أن من يضاجعها أمه‬ ‫(بحسب رؤيتهم وتبريرهم أن الحصان يمتلك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعيا شرفيا) ملا أقدم على مضاجعتها أصال‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫(ألن تقديم رؤيتهم أن الحصان يمتلك وعيا‬ ‫وقدرة على التمييز لن تدعه مهما كانت‬ ‫الضغوطات ألن يمارس ذلك الفعل الفاحش‬ ‫بحسب منظوره املتطور) لكن ضرورة أسطرة‬ ‫الفعل االنتحاري (لعدم قدرتهم على إيجاد‬ ‫تفسير علمي) تحتاج إلى تبرير يناسب تاريخية‬ ‫ذلك الفعل‪ .‬ويمكن تأويل انتحار (حصان‬

‫قبل أن نتحدث عن االنتحار اإلنساني‬ ‫ً‬ ‫قليال حول‬ ‫وطبيعته وآليته‪ ،‬دعونا نتوقف‬ ‫إحدى أكثر الظواهر االنتحارية التي لم‬ ‫يستطع العلم حتى اآلن تفسيرها بشكل‬

‫‪10‬‬


‫بالطبع إن جميع الكائنات في الطبيعة من‬ ‫النمل إلى اإلنسان‪ ،‬تمتلك ما يمتلكه اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تماما من الوعي إلى التفكير مرورا بأحاسيس‬ ‫املتعة والعاطفة والذكاء‪ .‬قد تختلف نسبة‬ ‫ذلك الوعي والذكاء والعاطفة وحجم العقل‬ ‫وطبيعة اإلدراك‪ ،‬فمشاعر الكلب أقوى من‬ ‫مشاعر القط‪ ،‬وتفكير القرد أضخم من‬ ‫تفكير األسد‪ ،‬وذكاء الدلفين أكبر من ذكاء‬ ‫سمك السلمون‪ ،‬وهذا بالتأكيد يخضع‬ ‫ّ‬ ‫وحركية تساهم في تطور‬ ‫لتطورات بيئية‬ ‫ً‬ ‫العقل‪ ،‬تماما مثلما نستطيع القول أن‬ ‫ً‬ ‫الصناعي هو أكثر إدراكا من الفالح نتيجة‬ ‫طبيعة العمل والحركة التي تجعل األول أكثر‬ ‫ً‬ ‫انفتاحا على فهم املحيط من الثاني‪ ،‬لتطور‬ ‫آليات العمل التي تؤدي بشكل بديهي لتطور‬ ‫العقل‪ .‬بذات الصيغة تؤثر البيئة والحركة‬ ‫على تطور الكائنات األخرى وبالتالي على تطور‬ ‫مستوى تفكيرها‪ .‬لكن رغم‬ ‫ذلك التفاوت فإن الجميع‬ ‫يمتلك بذرة رغبة االنتحار‬ ‫ً‬ ‫الطبيعي تماما مثل‬ ‫اإلنسان‪ .‬ففعل االنتحار‬ ‫البشري ال يخص شعب‬ ‫دون سواه‪ ،‬أو ذكاء دون‬ ‫آخر‪ ،‬أو طبقة اقتصادية‪،‬‬ ‫أو اختالفات جينية تخص‬ ‫الذكور دون اإلناث‪ ،‬أو‬

‫أرسطو) بأي طريقة تناسب آلية التفكير‬ ‫البشري دون التوصل الحقيقي إلى معرفة‬ ‫أسباب ذلك االنتحار‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وبعيدا عن ذلك التاريخ‪ّ ،‬‬ ‫سجل العالم‬ ‫املعاصر حوادث انتحارية كثيرة ويومية وما‬ ‫تزال حتى اآلن‪ ،‬ورغم التطور العلمي ما زال‬ ‫ً‬ ‫التفسير قاصرا‪ .‬ويجب القول كجملة‬ ‫اعتراضية كي ال نعود إليها مرة أخرى‪ ،‬هي‬ ‫تبريرات انتحار الحيوانات من منظور ديني‪،‬‬ ‫أن انتحار هذه الكائنات يعود ألسباب األرواح‬ ‫املسكونة واألشباح‪ ،‬وعندما يتطور ذلك‬ ‫التبرير الديني ُيقال إنه رغبة هللا كي ُي ّ‬ ‫قدم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مثاال للبشر كي يتفكروا في ِنعم الحياة التي‬ ‫وهبها هللا لهم‪ .‬ولن نتوقف بالطبع عند هذا‬ ‫التبرير امليتافيزيقي الساذج‪ ،‬وذكره هنا‪ ،‬كي‬ ‫نتفرغ فقط لفهم فلسفية االنتحار دون‬ ‫ّ‬ ‫معترضين ُسذج‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫أشخاص مضطربين دون األسوياء‪ ،‬إنه فعل‬ ‫ممتد على عشرات اآلالف من السنين ومرافق‬ ‫لكل أشكال الحضارات حتى العصر الحالي‬ ‫وسيستمر حتى انتهاء كل أشكال الوجود‪.‬‬

‫وليس حالة شاملة للجميع‪.‬‬ ‫بذات املنطق يمكننا الحديث عن انتحار‬ ‫ً‬ ‫واحد وستين حوتا‪ ،‬عندما غادروا املحيط‬ ‫ليموتوا على شواطئ نيوزيلندا منذ عشرة‬ ‫ً‬ ‫أعوام تقريبا‪ .‬وتم تفسير األمر لهذا االنتحار‬ ‫الجماعي أنه ألسباب تلوث املحيط وتسممها‪.‬‬ ‫إن املضحك في هذا التفسير هو عدم قدرة‬ ‫تسمم املياه نتيجة االتساع الكبير لها‬ ‫باإلضافة أن املحيط يحتوي على مئات من‬ ‫ً‬ ‫الحيتان وليس واحد وستون حوتا فقط‪ .‬وفي‬ ‫حادثة أخرى قامت مئات من الحيتان‬ ‫باالنتحار على شواطئ استراليا‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫حوادث انتحار الدببة التي تتوقف عن‬ ‫ً‬ ‫الطعام ليموتوا جوعا‪ ،‬أو انتحار البجع‬ ‫بإغراق أنفسهم في البحار‪ ،‬أو انتحار الطيور‬ ‫بضرب أنفسها في الجدران حتى املوت‪ ،‬أو‬ ‫انتحار الدالفين بالتوقف عن التنفس‪ ،‬أو‬ ‫أكل األفاعي لذاتها أو قتل العقارب ألنفسها‬ ‫بالسم‪ ،‬وربما أشهر حوادث االنتحار األخيرة‬ ‫هي موت ألف وخمسمائة خروف برمي‬ ‫أنفسهم من جرف بتركيا عام ‪.2005‬‬

‫حاول البعض تفسير ظواهر االنتحار‬ ‫الحيواني وردها إلى أسباب معينة‪ ،‬ومنها‬ ‫ظاهرة انتحار الكالب في اسكتلندا من فوق‬ ‫جسر أوفر تاون‪ ،‬حيث ترمي الكالب أنفسها‬ ‫من األعلى إلى النهر في األسفل ويموتون‪ ،‬وإن‬ ‫لم يمت الكلب من أول مرة ُيعيد الصعود‬ ‫وتكرار املحاولة حتى املوت‪ .‬تم تفسير األمر أن‬ ‫في األسفل يوجد أوكار للفئران والسناجب مما‬ ‫يؤدي لقفز الكالب‪ .‬لكن ما ُيعيب هذا‬ ‫التفسير‪ ،‬هو ّأن الكلب إذا لم يمت ُيعيد‬ ‫تكرار املحاولة حتى املوت‪ .‬وتم تسجيل مراقبة‬ ‫من علماء الطبيعة حول هذا السلوك‪،‬‬ ‫إضافة أن ليس‬ ‫الكالب‬ ‫كل‬ ‫العابرين من‬ ‫فوق الجسر‬ ‫يمارسون فعل‬ ‫ً‬ ‫االنتحار‪ .‬إذا‬ ‫فالقفز من فوق‬ ‫هو‬ ‫الجسر‬ ‫مسألة شخصية‬ ‫لكالب معينين‪،‬‬

‫ما تدللنا عليه هذه الحوادث والكثير غيرها‬ ‫ً‬ ‫يوميا‪ّ ،‬أن فكرة االنتحار ال تخضع ّ‬ ‫لتعقد‬ ‫ً‬ ‫الوعي أبدا كما يصفه البعض من العلماء أو‬ ‫بسبب عدم اإلمكانية لالستمرار في الحياة‬ ‫وضعف اإلرادة كما يصفها بعض ُم ّ‬ ‫فسري‬

‫‪12‬‬


‫ُ‬ ‫منطق إدراكه البدائي بأن غريزته ت ّلبى مع‬ ‫ً‬ ‫زوجته التقليدية‪ُ ،‬مسقطا من تفكيره جميع‬ ‫ً‬ ‫الصفات األكثر تكامال في املرأة والتي ال توجد‬ ‫في زوجته‪ ،‬وبالتالي هو ال يخرج من إدراكات‬ ‫املحيط البسيط الذي يعيش به‪ ،‬بمعنى أنه ال‬ ‫يتجاوز إدراكه الذاتي لعامله‪ ،‬الخارج عن‬ ‫نطاق املألوف واالعتياد والروتين‪ ،‬وإما‬ ‫باحتمال ثاني‪،‬‬ ‫فإنه قد ينبهر‬ ‫املرأة‬ ‫بتلك‬ ‫ويشعر بقيمة‬ ‫األحاسيس‬ ‫والذكاء والعاطفة‬ ‫بأن‬ ‫والخداع‬ ‫حياته الروتينية‬ ‫ليست املطلق الجمالي‪ ،‬وبأن العالم الخارجي‬ ‫يحتوي ما هو أكبر من إدراكه‪ ،‬هذا التجاوز‬ ‫ّ‬ ‫نسميه تجاوز الكائن لوعيه‬ ‫هو ما يمكن أن‬ ‫الذاتي واتساع إدراكه لتقليدية املحيط به‪،‬‬ ‫وبالتالي قد يمارس الخيانة بمعنى اإلحساس‬ ‫وليس بمعنى الجسد‪ .‬هذا اإلنسان قد يكون‬ ‫نسبة تفكيره وأحد باملئة‪ ،‬لكنه يتجاوز نسبة‬ ‫ً‬ ‫الواحد باملئة وبالتالي يكتشف عاملا آخر‪ .‬هذه‬ ‫الواحد باملئة هي نسبة التفكير املطلقة‬ ‫بالنسبة لذاته ومحيطه‪ ،‬فإذا ما تجاوزها‬ ‫نصبح أمام معطى فلسفي بحت‪.‬‬

‫ّ‬ ‫النفسية‪ ،‬أو بسبب تفسيرات الهوتية‬ ‫العلوم‬ ‫إنها ضعف اإليمان باهلل وأسباب تدخل‬ ‫وسوسات شيطانية ساذجة‪ ،‬بل هي بدقة‬ ‫فلسفية‪ ،‬تجاوز الوعي الذاتي للواقع املحيط‬ ‫بالكائن‪ .‬إنه فعل فطري في الطبيعة عندما‬ ‫يصبح الوعي أضخم من الواقع‪( ..‬كل كائن‬ ‫بحسب مستوى إدراكه)‪.‬‬ ‫ضمن هذا التعريف‬ ‫الفلسفي البسيط‬ ‫نستطيع إيجاد‬ ‫تفسير آللية انتحار‬ ‫ً‬ ‫الحيوانات فعليا‪.‬‬ ‫قلنا إن الكائنات‬ ‫باإلضافة لغرائزها‬ ‫األساسية وهي (األكل والشرب والجنس‬ ‫والنوم) تمتلك الذكاء والعاطفة واإلدراك‬ ‫واإلحساس باملتع والتفكير (لكن ضمن وعيها‬ ‫ً‬ ‫الذاتي ّ‬ ‫املبسط)‪ ،‬تماما مثلما يمكن أن نقول‬ ‫ً‬ ‫في املثال التالي كمشابهة تقريبية‪ :‬إن شابا في‬ ‫الرابعة عشرة من عمره‪ ،‬قد يشاهد فتاة‬ ‫جميلة لكنها بليدة ويتزوجها بإدراكاته‬ ‫الغريزية‪ ،‬دون التفكير بأنه إذا ما كبر بعد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عشرين عاما قد يصادف امرأة أكثر جماال‬ ‫ً‬ ‫وثقافة وأناقة وحب‪ .‬اآلن بعد عشرين عاما‬ ‫من زواجه شاءت األقدار أن يصادف تلك‬ ‫املرأة األكثر روعة‪ .‬في هذا اللقاء هو أمام‬ ‫احتمالين‪ ،‬إما أنه لن يولي أهمية للمرأة من‬

‫‪13‬‬


‫ً‬ ‫هذا ما يجري تماما مع فكرة انتحار‬ ‫الحيوانات‪ ،‬إنه تجاوز الذات للمعطى‬ ‫الفلسفي البسيط‪ ،‬وبالتالي يصبح انتحار‬ ‫الحيوانات (بحسب إدراكاتها) يخضع لنسبة‬ ‫هذا التجاوز الكتشاف تقليدية العالم‬ ‫املحيط بهم‪( .‬مع التركيز على أن ليس كل‬ ‫تجاوز يؤدي النتحار‪ ،‬لكن كل انتحار هو‬ ‫ً‬ ‫حصرا تجاوز)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن الفلسفة كمعيار تخضع لتقلبات البيئة‬ ‫وتطورها نتيجة جوهرها الحركي الدائم‬ ‫ّ‬ ‫التغير يجعلها أكثر مرونة في الطبيعة وبالتالي‬ ‫في الكائن الحي الخاضع للتجاوز بعالقة‬ ‫تبادلية أصيلة‪ ،‬مهما كانت نسبة ضآلة تفكير‬ ‫هذا الكائن‪ .‬بهذا الشكل نستطيع فهم طبيعة‬ ‫االنتحار الفطرية في الطبيعة‪ ،‬وأصالتها التي‬ ‫تولد في الكائن الحي بشكلها الفلسفي الخفي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إنها تماما تشبه الصورة التقليدية التي يؤمن‬ ‫بها جمع البشر باختالف أديانهم ومذاهبهم‬ ‫ً‬ ‫وعقلياتهم‪ ،‬وهي أن الحياة تحمل دائما بذرة‬ ‫موتها‪.‬‬ ‫ّإن فهم هذا املعنى الفلسفي والطبيعي‬

‫واألساطير والتطور والعمل واالستعباد‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وينشأ فعليا االنتحار البشري ضمن تداخل‬ ‫ً‬ ‫جميع هذه املعطيات التاريخية وتناقلها جينيا‬ ‫ً‬ ‫للعصور الحالية‪ ،‬لكن هذا ال ُيلغي أبدا‬ ‫جوهره الطبيعي والفطري‪.‬‬ ‫بداية‪ ،‬ليس من السهل بالتأكيد الحديث عن‬ ‫االنتحار البشري كبنية شاملة ذات اتجاه‬ ‫واحد أو تفسير محدد يشمل جميع الحاالت‬ ‫بشكل متساوي‪ ،‬برغم أن الفعل االنتحاري‬ ‫يوحي بذلك البعد املشترك‪ ،‬والذي يتم طرحه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اجتماعيا‪ ،‬كما قلنا سابقا‪ ،‬أنه عدم القدرة‬ ‫ً‬ ‫على االستمرار في صعوبات الحياة‪ .‬وبعيدا عن‬ ‫التبريرات االجتماعية الجاهزة واملؤدلجة‪،‬‬ ‫نستطيع القول إن االنتحار ال يمكن‬ ‫تخصيصه بفئة ما‪ ،‬فهذا السلوك يتجسد‬ ‫ً‬ ‫موضوعيا بحيث ال يرتبط بأي شكل اجتماعي‬ ‫مباشر‪ ،‬وإن كانت انعكاسات الوعي املجتمعي‬ ‫ذات تأثير جزئي على املنتحر‪ ،‬لكنها بالتأكيد‬ ‫ليست السبب القطعي لالنتحار‪ .‬بهذا املعنى ال‬ ‫يمكننا تحديد مفهوم االنتحار كصورة شاملة‬ ‫يمكن لنا من خاللها تقديم هذا السلوك على‬ ‫أنه نموذج مرض ي ذو مواصفات خاصة‪ .‬إننا‬ ‫في كل صيغة انتحارية نتعامل مع مواصفات‬ ‫محددة ال تنطبق على غيرها من حاالت‬ ‫االنتحار األخرى‪ ،‬فهو سلوك قديم وال يختص‬ ‫باقتصاد أو لون أو عرق أو دين أو طائفة أو‬ ‫جنس‪ ،‬على هذا النحو ُي ّ‬ ‫قدم االنتحار نفسه‬

‫لالنتحار يوصلنا إلى هدفنا األساس ي وهي‬ ‫مناقشة االنتحار البشري‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بالطبع إن الوعي اإلنساني هو أكثر تعقيدا من‬ ‫أي وعي لكائن آخر‪ ،‬نتيجة تدخالت كبرى‬ ‫كاإليديولوجيات واألديان والثقافات‬

‫‪14‬‬


‫لحظة انقسام العالم‬ ‫ً‬ ‫ونشوء‬ ‫اقتصاديا‬ ‫البشري‬ ‫االستعباد‬ ‫ً‬ ‫مرورا بكل التجارب‬ ‫العقلية والنصوصية‬ ‫التشريعية كاألديان‬ ‫واألعراف‪ ،‬أن الذات‬ ‫(الروح) ُملك لإلله‪ ،‬من‬ ‫خالل الطبقة التي‬ ‫تحكم مفهوم االقتصاد‬ ‫املتطور‪ّ .‬‬ ‫وإن تطور ذلك‬ ‫وتلك‬ ‫االقتصاد‬ ‫النصوص أدت إلى‬ ‫احتواء ظاهرة العلم‬ ‫تكتف فقط‬ ‫واإلنسانية تحت جناحها ولم‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫بفكرة الدين‪ ،‬فأصبحت األديان ت ّ‬ ‫حرم‬ ‫االنتحار وتتوعد بالعذاب األبدي‪ ،‬وحتى‬ ‫العلوم اإلنسانية ترفض االنتحار من منطق‬ ‫أن اإلنسان بنضاله لتحسين حياته هو‬ ‫الهدف من الحياة‪ ،‬دون أن يعي كال الطرفين‬ ‫أن ذلك الرفض واملنع للخيار البشري باملوت‬ ‫هو باألساس لتدوير عجلة االستعباد‬ ‫االقتصادي‪ .‬لقد تحول اإلنسان بفكرة الذات‬ ‫مع مرور الزمن إلى عنصر ارتهاني ومستعبد‪،‬‬ ‫وراء تبريرات املعنى األبدي في األديان واملعنى‬ ‫النضالي في املفهوم اإلنساني‪ ،‬وفقد معنى‬

‫بأنه‬ ‫كمفهوم‪،‬‬ ‫األكثر‬ ‫الصيغة‬ ‫ً‬ ‫تجريدا وذاتية إدراكية‬ ‫ال يعلم خفاياها سوى‬ ‫الكيان الذي مات‪.‬‬ ‫لكن من خالل تلك‬ ‫لكل‬ ‫الخصوصية‬ ‫حالة فردية قائمة‬ ‫بذاتها‪ ،‬يتجلى أمامنا‬ ‫ش يء مشترك يجمع‬ ‫كل حاالت االنتحار‪،‬‬ ‫وهي عالقة الذات مع‬ ‫ً‬ ‫العالم الخارجي‪ ،‬تماما‬ ‫كما هي صورة انتحار‬ ‫الحيوانات مع محيطها‪ .‬إنه التجاوز‪.‬‬ ‫إن فكرة االنتحار البشري مرفوضة على‬ ‫جميع املستويات‪ ،‬الدينية واإلنسانية‪ .‬لكن‬ ‫أليس ذلك الرفض هو جزء مهم من تفسير‬ ‫ظاهرة االنتحار البشري ومعنى التجاوز‬ ‫ً‬ ‫الفلسفي الذي حددناه آنفا !‪ ،‬مع سؤال‬ ‫جوهري ملاذا هو مرفوض؟‪.‬‬ ‫إن رفض االنتحار البشري بالضبط يخضع‬ ‫لبنية اقتصادية بحتة‪ ،‬فتطور املجتمعات‬ ‫والحضارات أدى لخلق مجموعة من‬ ‫النصوص والقوانين التي حددت الذات‬ ‫ً‬ ‫ابتداء من‬ ‫باعتبارها ليست ُملك نفسها‪،‬‬

‫‪15‬‬


‫قد يتساءل البعض حول العصر الحالي‬ ‫وقبول الكثير من الناس والعلوم اإلنسانية‬ ‫لظاهرة االنتحار من معناها الفرداني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وبالتأكيد إن قبول هذه اآللية ال يخرج أبدا‬ ‫عن املعنى االقتصادي الذي تحدثنا عنه قبل‬ ‫ثالثة آالف عام‪ ،‬إن إقدام إنسان على‬ ‫االنتحار هو ضربة قاضية ملفهوم االقتصاد‪،‬‬ ‫فاإلنسان كآلة إنتاج في ذلك التاريخ لم‬ ‫يتجاوز كتعداد مئات اآلالف‪ ،‬بينما في العصر‬ ‫الحالي‪ ،‬فاإلنسان كآلة إنتاج يومي ضمن بنية‬ ‫متطورة تجاوز عددها املليارات‪ ،‬فأن ينتحر‬ ‫ً‬ ‫يوميا عشرة آالف شخص هو أمر لن ُيضر‬ ‫ً‬ ‫عجلة االقتصاد أبدا‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬إنه‬ ‫يضعها في موازانات اقتصادية جديدة‪،‬‬ ‫وأهمها تفسيرات الفلسفة والدين والثقافة‬ ‫والدراسات حول تلك الظاهرة كجزء من‬ ‫تدوير اقتصادي‪ .‬بهذا املعنى لم تعد مسألة‬ ‫رفض االنتحار في العصر الحالي مسألة‬ ‫ً‬ ‫إشكالية كثيرا‪ ،‬ولو أنها تحتوي في جزء منها‬ ‫على الرفض باملعنى التعاطفي‪.‬‬ ‫ذلك املثال التاريخي هو لشرح البنية ّ‬ ‫املعقدة‬ ‫ُ‬ ‫التي أجبر فيها اإلنسان على فهم تحريم‬ ‫االنتحار كستار ُيخفي وراءه املعنى الحقيقي‬ ‫لالستمرار‪ .‬بالطبع ليس الحديث هنا كدعوة‬ ‫ّ‬ ‫املظلومية‬ ‫للموت بقدر ما هو محاولة تشريح‬ ‫ُ‬ ‫التي خ ِضعت لها فكرة االنتحار عبر التاريخ‪.‬‬

‫الحرية الفطرية‪ ،‬وبالتالي أصبح كل فعل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫انتحاري فعال موصوما باللعنة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فتاريخيا الفعل االنتحاري ال يتوقف على إنهاء‬ ‫اإلحساس بالواقع فقط‪ ،‬إن مجرد التفكير‬ ‫بذلك الفعل يضع العقل والروح أمام‬ ‫تصورات ال نهائية من الشناعة‪ ،‬فأن تكون‬ ‫ً ُ‬ ‫قدم على االنتحار‪ ،‬فجسدك قد ال‬ ‫عبدا وت ِ‬ ‫ً‬ ‫يوارى التراب‪ ،‬بل قد يصبح طعاما لكالب‬ ‫سيدك كنوع من التعويض عن الخسارة‬ ‫االقتصادية التي سببتها للسيد‪ ،‬فأنت ُمرتهن‬ ‫في مستوى الحياة‪ّ ،‬‬ ‫وإن تجاوز الوعي الذاتي‬ ‫للنفس وللمحيط قد يضع ذلك اإلنسان‬ ‫التاريخي بأبشع صورة حتى بعد موته‪ ،‬هذا‬ ‫بخالف النصوص الدينية التي تتوعد قاتل‬ ‫الذات بجحيم أبدي فيه كل تصورات العنف‬ ‫الالعقالني‪ .‬بالتأكيد كل تلك املحرمات‬ ‫والتصورات التي قدمتها األعراف واألديان‬ ‫والنماذج االقتصادية هي لهدف استمرار‬ ‫عبودية الذات والبقاء في حيز اآللة اإلنتاجية‪.‬‬ ‫فاملوت بطبيعته الوجودية هو تحرر وإدراك‬ ‫ً‬ ‫نمطية الحياة املقوننة‪ .‬ال يمكن لنا إطالقا‬ ‫فهم رفض األديان والعلوم واالقتصاد لفكرة‬ ‫االنتحار إال ضمن هذا املعنى لتدوير‬ ‫االقتصاد‪ ،‬فاإلنسان هو اآللة املفكرة التي‬ ‫ُ‬ ‫تنتج أضعاف ما يمكن إنتاجه من قبل‬ ‫الكائنات األخرى بدائية اإلدراكات‪.‬‬

‫‪16‬‬


‫من هذا املبدأ ُيمكننا فهم الصراع االنتحاري‬ ‫(البشري ذو الوعي املُ ّ‬ ‫عقد) بين الرغبة‬ ‫اإلنسانية (باعتبارها فطرة طبيعية‬ ‫وفلسفية) وبين الرفض املقونن لها‪ ،‬ولن‬ ‫يتوقف األمر عند هذا الحد‪ .‬لقد ّ‬ ‫حولت‬ ‫املمارسة االقتصادية االستعبادية فكرة‬ ‫ً‬ ‫االنتحار إلى حالة إنتاجية معقدة فعليا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التعقد في الوعي‬ ‫ُمستغلة كل إمكانيات ذلك‬ ‫والثقافة‪ ،‬فباإلضافة إلى أن االنتحار املعاصر‬ ‫هو آلية خالص من الفائض اإلنتاجي الذي‬ ‫يخضع ملنهكات الزمن (كالكهولة ونوعية‬ ‫الجنس والفيزيولوجيا واإلدراك)‪ ،‬هو بطريقة‬ ‫أخرى آلية تدوير من حيث البحث الفلسفي‬ ‫والثقافي باعتبار االنتحار شكل تاريخي يجب‬ ‫دراسته‪ ،‬فهذه الدراسة هي شكل اقتصادي‬ ‫مختلف عن السائد لفهم آلية تطور الوعي‬ ‫وبالتالي تجاوز االقتصاد لهذا التطور من أجل‬ ‫إعادة احتوائه مرة أخرى‪ ،‬وإيجاد بدائل له كي‬ ‫يجعل صيغ االنتحار معقولة ومحدودة‬ ‫تناسب بنية االقتصاد دون الخروج عنها‪.‬‬

‫متداخل بمؤسسات كونية‪ ،‬تشارك بها‬ ‫اإليديولوجيات والفلسفات واألديان‬ ‫واألعراف والثقافات والتاريخ والغرائز‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫دخل اإلنسان في متاهة‬ ‫ذلك التداخل الذي ي ِ‬ ‫كبرى من عدم الفهم والتركيز على اليومي‪،‬‬ ‫لكن مع ذلك يتم كسر هذا الجدار املهول من‬ ‫التداخالت ليدرك اإلنسان املعاصر أزمته‬ ‫الوجودية ببساطتها أو تعقيدها‪ ،‬ليعود‬ ‫لجوهر فلسفة الطبيعة الغريزي وهو‬ ‫االنتحار‪.‬‬ ‫يبدو العالم‬ ‫املعاصر أكثر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تحررا وانطالقا‬ ‫ً‬ ‫وخالصا من‬ ‫مفهوم عبودية‬ ‫الذات التي‬ ‫تحدثنا عنها‬ ‫ً‬ ‫سابقا ملا يحمله‬ ‫هذا العالم من‬ ‫ً‬ ‫معايير ال تركز كثيرا على القيم أو السلوكيات‬ ‫املحددة‪ ،‬وبالتالي ُيفترض أن نسبة االنتحار‬ ‫يجب أن تقل عن األزمان الغابرة‪ ،‬لكن‬ ‫معطيات الواقع تشير إلى عكس ذلك‪ .‬لقد‬ ‫تعقد مفهوم آلية االنتحار نتيجة ّ‬ ‫ّ‬ ‫تعقد آلية‬ ‫االستعباد‪ ،‬فاإلنسان يمارس الحياة بشكل‬ ‫محدد وخاضع لقوانين تشريعية وسلوكية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ابتدا ًء من العمل وصوال إلى ارتهانية الحق‬

‫بهذا الشكل يتم رفض االنتحار البشري‬ ‫(بالوعي املُ ّ‬ ‫عقد) ضمن بنية االقتصاد الذي‬ ‫تحدثنا عنه‪ ،‬لكن تبقى مسألة وهي كيف‬ ‫يتجاوز املنتحر هذا الوعي املُ ّ‬ ‫عقد لفهم بنية‬ ‫املحيط به وتشكيالته! فنحن هنا لسنا أمام‬ ‫تجاوزات غريزية بسيطة كما توجد في عالم‬ ‫الطبيعة البدائي‪ ،‬بل نتحدث عن وعي‬

‫‪17‬‬


‫الزواج كمؤسسة هو لتشريع‬ ‫إنجاب آليات خدمية‬ ‫ّ‬ ‫مستقبلية‪ ،‬إنها تحكم مطلق‬ ‫حتى في معنى العاطفة‬ ‫ُ‬ ‫البشرية‪ .‬وتبيح لك املنظومة‬ ‫خيارات أخرى من املتعة‬ ‫الجنسية كالعاهرات‪ ،‬لكن‬ ‫حتى هذه املنظومة العهرية‬ ‫هي تدوير القتصاد املال‪ ،‬فال‬ ‫وجود لعاهرة مجانية‪ .‬إن إدراك اإلنسان لهذا‬ ‫املكنون االستعبادي املعاصر (حتى وإن كان‬ ‫ً‬ ‫غير واضح املعالم كثيرا في الوعي املباشر)‬ ‫قدم نفسه كصورة ُم ّ‬ ‫ُي ّ‬ ‫عقدة تؤدي باإلنسان‬ ‫إلى إدراك عدم جدوى الخالص بقدر ما هي‬ ‫صورة محاربة دائمة وصراع للبحث عن‬ ‫طريقة للحياة‪ .‬ال ينظر اإلنسان إلى تعقيد‬ ‫بأهمية‪ ،‬وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫حتى يدرك‬ ‫هذه االشكال‬ ‫ّ‬ ‫مأساويتها‪ ،.‬ولذا يمارسها الناس دون إحساس‬ ‫عميق بفهم ما يعيشونه‪ ،‬لكن هناك الحاالت‬ ‫ً‬ ‫االستثنائية التي تحدثنا عنها سابقا‪ ،‬وهي‬ ‫املنتحرين الذين وصلوا إلى إدراك عميق‬ ‫بعبودية الذات وفهم لعدم جدوى األشياء‪،‬‬ ‫فيصبح االنتحار مسألة خالص كلي من‬ ‫الجحيم اليومي‪ ،‬إنه تجاوز الكائن لوعيه‬ ‫الذاتي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫قد تختلف قليال النظرة عن فكرتي االنتحار‬ ‫الحيواني والبشري‪ ،‬باعتبار الثانية تقوم على‬

‫الطبيعي للكيانات ّ‬ ‫الحية‪ .‬فكل ش يء خاضع‬ ‫لقانون تشريعي وسلوكي لتنظيم دور‬ ‫االقتصاد اإلنتاجي‪ ،‬فالعمل‪ ،‬الثقافة‪ ،‬الحب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األكل‪ ،‬الجنس‪ ،‬الترفيه‪ ..‬الخ‪ ،‬هي أجزاء تشكل‬ ‫صورة تعقيد اآللة االستعبادية لإلنسان‪،‬‬ ‫بمعنى آخر‪ ،‬عملك ليس لتطوير مقدراتك‬ ‫الجسدية والعقلية فقط (كصورة نشوء‬ ‫طبيعي للتطور) بل ألنك إن لم تعمل فلن‬ ‫تأكل‪ ،‬وهو األمر الغريزي في الطبيعة‪ ،‬لكن‬ ‫آلية العمل محكومة بقوانين استعبادية‪ .‬حتى‬ ‫ً‬ ‫نسبية تنويع األطعمة يخضع تماما لقدرتك‬ ‫على بذل الجهد املضاعف في العمل‪ .‬ذات‬ ‫األمر ينطبق على الجنس‪ ،‬تتعدد أشكال متعة‬ ‫الجنس‪ ،‬من العاهرات إلى الزواج‪ ،‬لكن في‬ ‫جميع الحاالت هي شكل من تدوير استعبادي‬ ‫لالقتصاد‪ .‬فحقك الطبيعي بالغريزة الجنسية‬ ‫الفطرية يخضع ملقدار ّ‬ ‫تعهدك في إنتاج آليات‬ ‫ً‬ ‫تخدم املنظومة االقتصادية مستقبال‪ ،‬فمثال‬

‫‪18‬‬


‫عناصر ارتهانية ّ‬ ‫معقدة‪ ،‬لكن ذلك ال ُيلغي‬ ‫بدائيتها الطبيعية التي تحمل بذورها في فكرة‬ ‫الحياة نفسها‪ ،‬فالحياة تحمل بذور موتها‪،‬‬ ‫لكن املشترك هو التجاوز الذاتي بحسب‬ ‫الكائن ومستوى إدراكاته‪ .‬هذا هو العامل‬ ‫الفلسفي املشترك في الطبيعة ملفهوم‬ ‫االنتحار‪.‬‬ ‫وكما قلت في البداية‪ّ ،‬إن النظرة إلى هذا‬

‫والديني‪ ،‬وعدم القبول بالبقاء في حيز الروتين‬ ‫واالنتهاك النفس ي والعقلي‪.‬‬ ‫إنها صورة اتساع اإلدراك خارج اليومي‬ ‫وتجاوز كل وعي غريزي‪ .‬قد يكون املنتحر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شخصا رومانسيا ومهزوزا بالتعبير‬ ‫االجتماعي‪ ،‬لكنه بكل تأكيد شخص ذكي‬ ‫وقادر على فهم الواقع والتسامي عن صيغة‬ ‫الحيونة البشرية الغريزية التي يظنها الناس‬ ‫ً‬ ‫هي الفعل األكثر تكامال في العالم دون إدراكهم‬ ‫لعبوديتهم وذلهم كآالت مادية تنتج‬ ‫ُ‬ ‫مستنقعاتهم التي تغرقهم نحو القاع‪.‬‬ ‫ّإن االنتحار ليس سوى صورة اتساع اإلدراك‬ ‫خارج اليومي وتجاوز الكائن لوعيه الذاتي‪.‬‬

‫املفهوم هي بحث شخص ي بحت‪ ،‬قد يتفق‬ ‫اآلخر معه وقد يختلف‪ .‬لكن يبقى االنتحار‬ ‫كمفهوم غامض بالنسبة ألي كيان هو فهم‬ ‫عميق وذكي واختيار فرداني شجاع ضد جمع‬ ‫قوانين االستعباد االقتصادي واملؤسساتي‬

‫علي األعرج‬ ‫روائي وصحفي سوري‪ ،‬عضو هيئة حترير جملة كلنا سوريون‬

‫‪19‬‬


20


‫عصر املالحم‬ ‫عبد القادر أمحد‬ ‫تعاني مجتمعاتنا الشرقيَّة من الجهل المدقع والتخلِّف‬ ‫المتفشَّي‪ ،‬وتنتشر فيها ثقافة المؤامرة التي تنشأ من‬ ‫ذهنيَّة قاصرة تردُّ كلَّ ما ال تستطيع تفسيره إلى أسباب‬ ‫غير موضوعيَّة‪.‬‬

‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ويتعزز حضورها إذ تقفز فجأة لتصير‬ ‫بشكل كبير‪،‬‬ ‫تنتشر أحاديث آخر الزمان عند عامة املسلمين ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫موضوع الساعة مع ّ‬ ‫انسجام‬ ‫اعتيادي‪ ،‬وينسحب ذلك على كوارث الطبيعة لتتسق في‬ ‫كل طار ٍئ غير‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مدم ٍرة‬ ‫حرب ِ‬ ‫تام مع كوارث يتسبب بها البشر‪ ،‬فتسونامي هناك وزلزال هنا وانفجار بركان واندالع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫كلها تصبح شروطا موضوعية لظهور أحاديث آخر الزمان وتسيدها واجهة القيل والقال والتي ال‬ ‫تنتهي ّ‬ ‫حتى انتهاء الكارثة‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫وهكذا يكثر في مثل هذه األوقات الحديث‬ ‫عن أشراط قيام الساعة واقترابها‬ ‫ومعركة آخر الزمان‪ ،‬وظهور املسيح‬ ‫َّ‬ ‫والدابة‪ ،‬وخروج يأجوج ومأجوج‬ ‫الدجال‬ ‫ّ‬ ‫املهدي وغيرها من‬ ‫ونزول املسيح أو‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الروايات املتالزمة ضمن ما يعرف عند‬ ‫املسلمين بأحاديث الفتن واملالحم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي خالل‬ ‫ولقد دأب علماء الدين‬ ‫ِ‬ ‫العصور السابقة وعلى اختالف مذاهبهم‬ ‫على استجالب هذه األحاديث وإذاعتها‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫خطر‬ ‫كلما طرأت نازلة أو داهم البالد‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫كارثي أو اشتعلت حرب مؤذنة بالدمار‪.‬‬ ‫وكان يطلب على الدوام من املؤمنين‬ ‫َّ‬ ‫والتمسك بدينه‪،‬‬ ‫العودة على هللا‬ ‫واالبتعاد عن الفتن‪ ،‬وعدم الخوض بين‬ ‫كل مؤمن َ‬ ‫الخائضين‪ْ ،‬‬ ‫وأن يلتزم ُّ‬ ‫فريقه فال‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫املضللين الذين عادة ما‬ ‫ينساق مع دعاوة‬ ‫ِ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يكونون فئة أخرى مناوئة سياسيا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫التنبؤ‬ ‫وتقوي هذه األحاديث امليل نحو‬ ‫ِ‬ ‫الشخص ي عند األفراد‪ ،‬وتدفعهم لتأويل‬ ‫األحداث لتنسجم مع محتوى تلك األحاديث‬ ‫وأخبارها‪ ،‬بل َّإن األمر َّ‬ ‫تطور َّ‬ ‫ات عديدة‪،‬‬ ‫مر ٍ‬ ‫َّ‬ ‫املهدوية؛‬ ‫فوصل إلى ْأن َّيدعي بعض األفراد‬ ‫ُّ ُ‬ ‫َّ‬ ‫املهدي امل َنتظر صاحب الزمان كما األمر‬ ‫وأنه‬ ‫َّ‬ ‫املهدي كما ظهر عند‬ ‫عند الشيعة أو املسيح‬ ‫السنة خالل مراحل التاريخ‪ ،‬وفي العصر‬

‫ّ‬ ‫املهدوية في مختلف‬ ‫الحديث فقد ظهر أدعياء‬ ‫األقطار اإلسالمية بما يزيد عن عشر حاالت‪.‬‬ ‫وال غرابة في ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدينية‬ ‫تبني هذه املجموعات‬ ‫ِ‬ ‫َّ ً‬ ‫فكريا ضمن اإلسالم لهذه‬ ‫املختلفة املتباينة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فقضية ظهور‬ ‫املهدي مثال عند‬ ‫الفكرة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الشيعة والسنة تقع ضمن إطار العقيدة‪،‬‬ ‫وهو ما يوجب اإليمان بها عند املسلمين‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫عموما‪ْ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫اإلباضية‬ ‫وإن شذت عن ذلك‬ ‫َّ‬ ‫الزيدية التي ال تعتقد بالفكرة وال‬ ‫والشيعة‬ ‫ُّ‬ ‫تعتد بأحاديث الفتن واملالحم‪.‬‬ ‫وتشهد منطقة املشرق العربي منذ ما يزيد على‬ ‫ً‬ ‫حروبا َّ ً ُ ّ‬ ‫دمرة في ّ‬ ‫كل‬ ‫عقدين من الزمن‬ ‫كارثية م ِ‬ ‫ٍ‬

‫‪22‬‬


‫َّ ً‬ ‫التطرف في تفسيرها لإلسالم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫سلوكيا‬ ‫وطبقته‬ ‫على األرض وخالل مجرى األحداث‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫بيئة‬ ‫ولقد تغذت تلك املسوخ الر‬ ‫اديكالية من ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫بشكل‬ ‫تفشت فيها العقلية الطائفية البغيضة ٍ‬ ‫َّ َّ ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫عدوا‪،‬‬ ‫وبائي‪ ،‬فهي ال ترى اآلخر املختلف إال‬ ‫ُ َّ ً‬ ‫ولقد بدا الوضع في هذه املنطقة معقدا‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ْ ،‬‬ ‫وإن َّ‬ ‫كنا‬ ‫لدرجة يصعب فهمها‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫املحرك‬ ‫نستطيع فهم األسباب التي كانت‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الحقيقي ألن تبلغ هذه الذروة من‬ ‫واملوجه‬ ‫ِ‬ ‫التراجيديا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لقد أ ِزهقت خالل السنوات املاضية أرواح‬ ‫مئات اآلالف من األبرياء‪ُ ،‬‬ ‫وه ِدمت املنازل‬ ‫ُ‬ ‫وش ّرد البشر في ّ‬ ‫كل‬ ‫فوق رؤوس اآلمنين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مكان‪ ،‬فأكلتهم ضواري الصحراء‪ ،‬وشبعت‬ ‫من أجسادهم أسماك البحر‪ ،‬وتدهور‬ ‫ُ‬ ‫االقتصاد‪ ،‬وش ِغل الناس بقوتهم وتأمين أدنى‬ ‫فرصة للحياة‪ّ ،‬‬ ‫حتى أصبحت الحياة َّ‬ ‫كارثية‬ ‫ٍ‬ ‫مستحيلة‪.‬‬ ‫اعم أنَّ‬ ‫كل ما حدث‪ ،‬فهل يزعم ز ٌ‬ ‫ولكن‪ ،‬ورغم ّ‬ ‫ِ‬ ‫ما حدث كان نهاية التاريخ أو َّأنه سيكون؟ أوَ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫نصدق هذا الزعم؟ ّإن مراجعة بسيطة‬ ‫ّ‬ ‫املتفحص ال الخبير‪ ،‬تخبرنا‬ ‫للتاريخ بعين‬ ‫بانعدام وجه املقارنة‪ ،‬فلقد أنبأنا التاريخ بما‬ ‫هو أسوأ!‬ ‫ّ‬ ‫لقد عرفت منطقة املشرق‬ ‫العربي خالل‬ ‫تاريخها الطويل مثل هذه الكوارث‪ ،‬بل ما هو‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫املروجون لنهاية العالم‬ ‫أشد منها‪ ،‬فهل اطلع ِ‬

‫من سورية والعراق‪ ،‬ولذا فقد وجدت هذه‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ومروجوها بيئة مناسبة لتظهر‬ ‫األحاديث‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫برواياتها وتأويالتها وأن ت ّ‬ ‫حمل ما ليس تحتمل‪.‬‬ ‫فئة‬ ‫وال يقتصر استخدام هذه األحاديث على ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫اإلسالمية‬ ‫فكل املذاهب‬ ‫معينة‪،‬‬ ‫دينية‬ ‫تستعين برواياتها وتأويالتها لهذه األحاديث‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫تأويالت‬ ‫وفي املذهب اإلسالمي الواحد تظهر‬ ‫ُّ‬ ‫الرسمي‬ ‫وتبريرات متباينة لها‪ ،‬فما يريده الدين‬ ‫ُّ‬ ‫الشعبي املحايد‪ ،‬وهذا غير‬ ‫غير ما يريده الدين‬ ‫َّ‬ ‫ما يريده الدين املعارض‪ ،‬وغير ما يتبناه الدين‬ ‫ً‬ ‫الخارج على هؤالء جميعا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫بعملي ٍة‬ ‫القضية تكمن في النهاية بالقيام‬ ‫َّإن‬ ‫َّ‬ ‫انتقائي ٍة تصطفي وتنخب‪ ،‬وتختار ما يناسب‬ ‫ً‬ ‫املوقف؛ وما َّ‬ ‫يجير َّأوال وأخيرا لخدمة األهداف‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الخلفية‪ ،‬والتي ت َلبس‬ ‫السياسية التي تكون في‬ ‫ً َّ ً‬ ‫ّ‬ ‫دينيا في حالة صراعات املشرق‬ ‫العربي‬ ‫لبوسا‬ ‫ِ‬ ‫الراهنة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫والعامة البسطاء من املسلمين‪،‬‬ ‫َّأما الدهماء‬ ‫فهم وقود هذه النزاعات وحطبها‪ ،‬وعليهم‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫واالقتناع بتبريرات‬ ‫ِاتباع ما ُيملى عليهم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫والسياسية‪.‬‬ ‫والروحية‬ ‫الدينية‬ ‫زعاماتهم‬ ‫َّ‬ ‫ال َّ‬ ‫شك أن ما حدث وما زال في العراق وسورية‬ ‫املأساوية‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫لكن الثابت أن طبيعة‬ ‫أمر في غاية‬ ‫َّ‬ ‫الديكتاتورية والصراع الغاشم على‬ ‫األنظمة‬ ‫َّ‬ ‫السلطة واألطماع اإلمبراطورية للدول‬ ‫املجاورة لهذا املركز‪ّ ،‬أدى لظهور‬ ‫حركات‬ ‫ٍ‬ ‫اديكالية وصلت أبعد ما يمكن ّ‬ ‫َّ‬ ‫تصوره من‬ ‫ر‬

‫‪23‬‬


‫هذه املنطقة قد‬ ‫ً‬ ‫مثال يقول‬ ‫اجترحت‬ ‫"وهجموا كالتتار أو‬ ‫هجموا كاملغول"‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫شك َّأن أحداث‬ ‫ال‬ ‫السنوات األخيرة كانت‬ ‫َّ‬ ‫مأساوية للغاية‪ ،‬ولكن‬ ‫هل يمكن مقارنتها‬ ‫أحداث‬ ‫بفداحة‬ ‫العصر الوسيط‪ ،‬أم‬ ‫ّأن شعوب املنطقة‬ ‫تعيش بال ذاكرة؟‬ ‫سؤال ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫مهم آخر‪،‬‬ ‫َّثمة‬ ‫وهو ماذا كان يقول‬ ‫العصر‬ ‫مسلمو‬ ‫َ‬ ‫ممن عاشوا تلك األحداث‪ْ ،‬‬ ‫ألم ي ْ‬ ‫الوسيط َّ‬ ‫قل‬ ‫قائلهم َّإنها أحداث نهاية الزمان؟ ألم‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ليحذر الناس ويعظ‬ ‫يستجلب األحاديث َّإياها ِ‬ ‫َ‬ ‫وينذر باقتراب قيام الساعة‪.‬‬ ‫املؤمنين‬ ‫لقد مض ى على ذلك العصر وأحداثه ما يناهز‬ ‫ً‬ ‫عام تقريبا‪ ،‬ومازال علماء الدين‬ ‫ألف ٍ‬ ‫اإلسالمي ّ‬ ‫َّ‬ ‫ولعل‬ ‫يرددون األقاويل نفسها‪،‬‬ ‫ِّ ِ‬ ‫التساؤل الوجيه ما الذي يدفع هؤالء الفقهاء‬ ‫إلى ِترداد تلك التقاويل والتأويالت‪ ،‬أم ّأنهم‬ ‫يعيشون بالذاكرة املثقوبة ذاتها‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الشرقية من الجهل املدقع‬ ‫تعاني مجتمعاتنا‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫والتخلف املتفش ي‪ ،‬وتنتشر فيها ثقافة‬ ‫ِ‬

‫هجمات‬ ‫على‬ ‫التتار وغزوات‬ ‫املغول وحروب‬ ‫ّ‬ ‫الصليبيين؟ وهل‬ ‫خبروا عن خراب‬ ‫ِ‬ ‫البصرة ودمار‬ ‫بغداد واستباحة‬ ‫َّ‬ ‫ودمشق‬ ‫مكة‬ ‫وحلب واملوصل‬ ‫وبيت املقدس في‬ ‫تلك العهود؟ بل‬ ‫هل خطر في بال‬ ‫ّ‬ ‫املروجين َّأن‬ ‫أحد ِ‬ ‫مثل هذه األحداث‬ ‫َّ‬ ‫الكارثية كانت قد‬ ‫حدثت قبل اإلسالم في هذه املنطقة ذاتها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫نذكر َّأن الحروب الصليبيةَّ‬ ‫أيكفي أن ِ‬ ‫استمرت ملئتي عام؟ َّ‬ ‫وأن الدماء سالت في‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الحواضر العربية سواقيا وأنهارا؟ وهل‬ ‫َّ‬ ‫نستعيد َّأن القرامطة استباحوا مكة وحرمها‪،‬‬ ‫واقتلعوا الحجر األسود من الكعبة الشريفة‬ ‫ُ ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ذكر بالزالزل التي دمرت‬ ‫ونقلوه إلى هجر؟ أم ن ِ‬ ‫ّ‬ ‫مر العصور والطاعون‬ ‫هذه الحواضر على ِ‬ ‫ً‬ ‫الذي فتك بشعوب املنطقة يوما ما‪.‬‬ ‫ُ ّ‬ ‫ذكر َّ‬ ‫َّ‬ ‫اآلدمية كانت تزكم‬ ‫بأن رائحة الجيف‬ ‫أم ن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أميال من بغداد التي اجتاحها‬ ‫األنوف على بعد ٍ‬ ‫َّ‬ ‫الجمعية لشعوب‬ ‫املغول‪ ،‬أم نقول َّأن الذاكرة‬

‫‪24‬‬


‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ممتدة من الجهل‬ ‫خلفية واسعة‬ ‫على‬ ‫َّ‬ ‫والتخلف‪.‬‬ ‫كما َّأن فترات الكوارث والحروب تخلق اليأس‬ ‫عند الناس فتدفعهم للبحث عن الخالص‬ ‫نزعة‬ ‫ضمن‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫نكوصية متو ِثبة‬ ‫ً‬ ‫دوما‬ ‫وجاهزة‬ ‫ٍ‬ ‫إلفراز االستجابة‪،‬‬ ‫فالشعور باقتراب‬ ‫على‬ ‫النهاية‬ ‫ّ‬ ‫املستوى‬ ‫الفردي‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫يعمم‬ ‫واملجتمعي‬ ‫َّ‬ ‫ويؤول بالنتيجة‬ ‫على َّأنه اقتر ٌ‬ ‫اب من نهاية للعالم‪.‬‬ ‫املركزية التي َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫تمتع بها املشرق‬ ‫العربي خالل‬ ‫َّإن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫جوهرية لهذه املنطقة‪،‬‬ ‫التاريخ تبقى سمة‬ ‫َّ‬ ‫اث عميق ّ‬ ‫ثنائي‬ ‫وترتكز هذه‬ ‫املركزية على تر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫البنية فهو ٌّ‬ ‫ديني من جهة وحضار ٌّي من جهة‬ ‫أخرى‪ .‬وعلى املستوى الدين ّي َّ‬ ‫َّ‬ ‫املركزية‬ ‫فإن هذه‬ ‫ِ‬ ‫تأخذ مكان القلب من العالم في املنظومة‬ ‫العرفانية للديانات اإلبر ّ‬ ‫َّ‬ ‫اهيمية وما ّ‬ ‫تفرع عنها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫اإلسالمي ملختلف األحداث التي‬ ‫وإن التأويل‬ ‫ً‬ ‫تعصف باملنطقة يرتكز أساسا على هذه‬ ‫َّ‬ ‫املركزية‪.‬‬ ‫الطبيعة‬ ‫َّ‬ ‫وإن السؤال الذي ينبغي أال نتجاهله ما إذا‬ ‫َّ‬ ‫املركزية تعني َّأن الكوارث التي‬ ‫كانت هذه‬ ‫اف أخرى من العالم ال تعني‬ ‫حدثت في أطر ٍ‬

‫ذهنية قاصرة ُّ‬ ‫املؤامرة التي تنشأ من َّ‬ ‫ترد َّ‬ ‫كل ما‬ ‫ال تستطيع تفسيره إلى أسباب غير‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫تشكل الثقافة عارضا‬ ‫موضوعية‪ ،‬فيما‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫تغلف الطبيعة‬ ‫استثنائيا وقشرة‬ ‫ظاهرية ِ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الحضارية الهشة لهذه املجتمعات في عصرنا‬ ‫الراهن‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ويعاني املثقفون َّ‬ ‫عامة من ضمور الفكر‬ ‫النقدي‪ ،‬إذ ال ال أكثر ّ‬ ‫ّ‬ ‫املثقفين يخضعون‬ ‫ز‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫قروسطية ّ‬ ‫ّ‬ ‫فكرية‪ ،‬فليس غريبا أن‬ ‫لهيمنة‬ ‫َّ‬ ‫يسمع صوت ال زال يجادل في كروية األرض‬ ‫األرضية أو َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حتى سير‬ ‫الجاذبية‬ ‫أو (كذبة)‬ ‫أرمسترونغ على سطح القمر‪.‬‬ ‫يحدث مثل هذا كثي ًرا في العالم اإلسالمي‪ّ،‬‬ ‫َّ‬ ‫األلفية الثالثة قبل‬ ‫بينما استقبل العالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اطالعاتهم‬ ‫سنوات‪،‬‬ ‫ويتعمد هؤالء تطويع ِ‬ ‫ّ‬ ‫السطحية عن العلم ومكتشفاته إلى‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫املحدودية‬ ‫إطار من‬ ‫مأثوراتهم الدينية ضمن ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫خليط ّ‬ ‫ذهني ال‬ ‫الفكرية‪ ،‬لتكون نتيجة ذلك‬ ‫ُّ َّ ً‬ ‫َّ ً‬ ‫ّ‬ ‫يصح علميا كما ال يصح دينيا‪ ،‬ويسقط أمام‬ ‫امتحان العقل السليم ّ‬ ‫بساطة فيكشف‬ ‫بكل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫دجل وبهتان‪.‬‬ ‫ما ينطوي عليه من ٍ‬ ‫وفي الواقع‪ ،‬ال يمكن زحزحة تلك القناعات‬ ‫عند الناس قيد أنملة‪ ،‬وتفشل ُّ‬ ‫دعوة إلى‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إسمتني‬ ‫والتدبر‪ ،‬فنحن أمام واقع‬ ‫التفكير‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫أسس تضرب عميقا في‬ ‫صلب ينبني على‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬ألنه ينتشر‬ ‫املكون الجمعي للفكر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪25‬‬


‫ً‬ ‫شيئا في سياق نهاية العالم‪ ،‬فهل كوارث‬ ‫الحربين العامليتين واإلبادات التي َّ‬ ‫تعرض لها‬ ‫عشرات املاليين من البشر في أوربا‬ ‫واألمريكيتين وفي أفريقيا والصين وغيرها‬ ‫بال في هذا السياق‪.‬‬ ‫ليست ذات ٍ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذهنية اإلسقاطية تعد سببا هاما في‬ ‫ولعل‬ ‫انتشار هذه األحاديث ّ‬ ‫فكل الطارئات أصبح‬ ‫ٌ‬ ‫مكان في الحديث الشريف والذكر‬ ‫لها‬ ‫الحكيم‪ ،‬واألمر ال يحتاج ً‬ ‫دهاء أو تداعيات‬ ‫ّ‬ ‫فكرية فأكثر ما يكون ذلك من خالل ّلي عنق‬ ‫الحديث الشريف أو اآلية الكريمة وقسرهما‬ ‫ّ‬ ‫لتأدية ً‬ ‫جديد يتسق مع ما يراد شرحه‪،‬‬ ‫معنى‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫وهو ما يحدث كثيرا في سياق اإلعجاز العلمي‬ ‫للقرآن الكريم‪ ،‬والحقيقة ّأن تأويل أحاديث‬ ‫ّ‬ ‫الذهنية‬ ‫آخر الزمان يرتكز وينطلق من‬ ‫اإلسقاطية نفسها‪ ،‬وبالنتيجة ّ‬ ‫ّ‬ ‫فإن املخرجات‬ ‫هي تقويل ال تأويل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل السبب الرئيس في انتشار أحاديث آخر‬ ‫الزمان وتأويالتها هو ما يمكن تسميته‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫بصوابية‬ ‫يسلم‬ ‫بتضخم العقل‬ ‫النقلي الذي ِ‬ ‫القدماء من الفقهاء‪َّ ،‬‬ ‫وأنهم وصلوا غاية‬ ‫ّ‬ ‫للمتأخرين مهما‬ ‫الكمال في الفهم‪ ،‬فال يمكن‬ ‫ِ‬ ‫بلغوا من العلم أن يبلغوا شأوهم‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫والحق َّأن هؤالء القدماء السابقين اجتهدوا‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫والفكرية التي‬ ‫املعرفية‬ ‫وعملوا ضمن األدوات‬ ‫أتيحت لهم في عصورهم‪ ،‬فجاءت اجتهاداتهم‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫خاصة‬ ‫وإيمانية على ظروف‬ ‫عملية‬ ‫ردودا‬

‫عاشوها وعاصروها‪ ،‬والغريب َّأن ال رغبة‬ ‫ً‬ ‫كائنة في التجديد أو التفكير إذ ينحصر جهد‬ ‫الفقهاء املعاصرين في التصديق على‬ ‫اجتهادات القدماء والتوفيق بين الطوارئ‬ ‫نزعة‬ ‫واملستجدات مع آرائهم وأقوالهم وفق ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدوغمائية‪.‬‬ ‫فكرية في منتهى‬ ‫ّإن العجب ُ‬ ‫العجاب أن يدير العلماء ظهورهم‬ ‫َّ‬ ‫إلى التاريخ‪ ،‬فهم دون أدنى شك مطلعون على‬ ‫ْ َّ‬ ‫أحداث التاريخ فيما ُّ‬ ‫لكن أال‬ ‫يهم املسلمين‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُي َ‬ ‫درك هذا التاريخ وأال يفهم أو ُيبحث ألخذ‬ ‫ُ‬ ‫درك‬ ‫العبرة فهذه مشكلة تستعص ي‪ .‬أال ي ِ‬ ‫الفقهاء املعاصرون ّأن إسقاطات أسالفهم‬ ‫ّ‬ ‫التاريخية ألحاديث آخر‬ ‫الفقهاء السابقين‬ ‫ّ‬ ‫الزمان لم تجد طريقها إلى الصواب‪ ،‬وأنها‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫مصداقيتها مع‬ ‫مجرد أقوال فقدت‬ ‫كانت‬ ‫تجاوز العصر واألحداث‪.‬‬ ‫أم ّأنها العجلة إلعالن بداية أحداث نهاية‬ ‫الزمان ونهاية العالم‪ ،‬فالظلم والطغيان سادا‬ ‫األرض‪ ،‬ومن طبيعة املؤمنين البائسين‬ ‫املقهورين ضحايا الظلم واالستعباد أن‬ ‫يستعجلوا الخالص والفوز بالجنة‪ ،‬أو لم تكن‬ ‫العصور السابقة مليئة بالظلم والطغيان‬ ‫ًّ‬ ‫وكان البسطاء واملستضعفون‬ ‫ضحية في‬ ‫الحالتين‪.‬‬ ‫ّإن الصحيح ّأن هذه املنطقة من العالم تعدّ‬ ‫املركز والقلب‪ ،‬ولعل الحروب والصراعات‬

‫‪26‬‬


‫ّ‬ ‫الصواب إن قلنا إنه ال منطقة في العالم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫البشرية‪ ،‬وتتابعا في‬ ‫شهدت تواليا في الهجرات‬ ‫الدول كما حدث في هذه املنطقة‪ ،‬لقد ّ‬ ‫ظل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إنسان املشرق يائسا على الدوام باحثا عن‬ ‫الخالص فكان ّ‬ ‫يقوي اعتقاداته من خالل ما‬ ‫يعاصره من أحداث ولقد ظل على هذا‬ ‫الطريق حتى اآلن‪.‬‬

‫التي قامت خالل التاريخ في هذه املنطقة‬ ‫تستند في تبريراتها الدينية والجيوسياسية‬ ‫على هذه الحقيقة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫والصحيح أيضا أن هذه املنطقة من العالم‬ ‫ّ‬ ‫ظلت على الدوام منطقة حروب ونزاعات‬ ‫ّ‬ ‫شكلت القاعدة فيها‪ ،‬في حين كانت حاالت‬ ‫ّ‬ ‫االستثنائية‪ ،‬وال نجانب‬ ‫السلم هي الحاالت‬

‫ً‬ ‫*املقال منشور سابقا في صحيفة كلنا سوريون‬

‫عبد القادر أمحد‬ ‫باحث وصحفي سوري‪ ،‬حيمل ماجستري يف اللغة العربية وآدابها من جامعة حلب‪.‬‬

‫‪27‬‬


28


‫رأي‬ ‫‪29‬‬


30


‫مصري اجلمهوريات‬ ‫بعد الربيع العربي‬

‫أمحد عيشة‬

‫ليس صدفة أن تكون الثورات العربية كلها في البالد ذات‬ ‫النظم الجمهورية‪ ،‬هذه الثورات التي انطلقت في أضعف‬ ‫تلك النظم أوال‪ ،‬بمعنى أقلها استبدادية‪ ،‬وهي تونس‪،‬‬ ‫وكانت أكثر التجارب نجاحا رغم كل التعثرات التي تواجهها‪.‬‬

‫انقسمت أنظمة الحكم في البلدان العربية بعد االستقالل في أواسط القرن العشرين املاض ي إلى‬ ‫أنظمة حكم جمهورية‪ ،‬وأخرى ملكية‪ ،‬وبالطبع دافعت املنظومتان فرادى وجماعات عن حدود‬ ‫ً‬ ‫كياناتهم التي رسمها اتفاق سايكس بيكو‪ ،‬الذي يدينونه ويشجبونه علنا‪ ،‬بينما يدافعون عما رسمه‬ ‫بكل ما يملكون‪ ،‬وضحايا الدفاع واالقتتال بين الكيانات أكثر مما قتل مع الحروب مع إسرائيل‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫فمصر‪ ،‬الدولة العربية الكبرى التي انتقلت‬ ‫للنظام الجمهوري عبر انقالب‪ /‬ثورة ‪ 23‬تموز‬ ‫‪ 1952‬بزعامة عبد الناصر‪ ،‬والتي أرست‬ ‫دعائم الحكم االستبدادي الهش‪ ،‬حيث‬ ‫تناوب على زعامتها ومنذ ذلك التاريخ أربعة‬ ‫رؤساء‪ :‬عبد الناصر (‪ ،)1970-1954‬بعده‬ ‫أنور السادات (‪ ،)1982-1970‬تاله مبارك‬ ‫(‪ ،)2011-1982‬أما الوضع بعد الربيع العربي‬ ‫وثورة مصر فهو غير مستقر‪.‬‬

‫كانت األنظمة امللكية متمتعة باستقرار‬ ‫تقليدي نسبي‪ ،‬قائم على عقد اجتماعي غير‬ ‫ً‬ ‫مكتوب يقض ي بتناقل الحكم وراثيا بين أفراد‬ ‫العائلة الحاكمة‪ ،‬وقبول شعبي نسبي‪ ،‬سيما‬ ‫أن أغلب األنظمة امللكية كانت من أصحاب‬ ‫النفط‪ ،‬وممن يدور في فلكهم‪ .‬أما البلدان‬ ‫ذات أنظمة الحكم الجمهوري وهي (مصر‬ ‫والجزائر وليبيا وتونس وسورية والعراق‬ ‫واليمن بشقيه ثم املوحد) فقد تمتعت‬ ‫بمواصفات استثنائية‪ ،‬فالسمة املشتركة‬ ‫بينها أنها أنظمة انقالبات عسكرية‪ ،‬اعتمدت‬ ‫بشكل أساس ي على الجيش واملخابرات‪ ،‬وفيما‬ ‫بعد على شبكة محسوبيات زبائنية من‬ ‫املصالح االقتصادية‪.‬‬

‫تونس‪ ،‬ومنذ استقاللها عام ‪ 1956‬حكمها‬ ‫"املجاهد" الحبيب بورقيبة‪ ،‬الذي حاول‬ ‫فرض نظام علماني فظ‪ ،‬مما خلق ردة فعل‬ ‫عميقة لدى الجمهور املسلم ظهرت بعض من‬ ‫نتائجه املترافقة مع ثورات الربيع العربي في‬

‫‪32‬‬


‫التاريخ أي تغيير لرئيس سوى باملوت أو‬ ‫القتل‪ ،‬فصالح جديد (‪ )1970-1966‬أطاح‬ ‫به حافظ األسد عبر ما يعرف بحركته‬ ‫التصحيحية في تشرين الثاني ‪ ،1970‬والذي‬ ‫دام حكمه ملوته في ‪ 10‬حزيران ‪ ،2000‬لينتقل‬ ‫الحكم لولده بشار عبر مهزلة ال مثيل لها حتى‬ ‫في أكثر املشاهد هزالة‪ ،‬وهو الذي ما يزال‬ ‫يقاتل من أجل كرسيه‪ ،‬رغم الكوارث التي‬ ‫ً‬ ‫لحقت بسورية‪ ،‬والتي حولها فعليا ملزرعة‬ ‫للغزاة مقابل بقاءه عدا عن مليون قتيل‬ ‫وتهجير ثلث السكان خارج بيوتهم وبلدهم‪.‬‬

‫العدد املتزايد للتوانسة بين أعضاء‬ ‫التنظيمات الجهادية اإلسالمية‪ ،‬والذي خلفه‬ ‫وبعد موته‪ ،‬زين العابدين بن علي (‪)1986‬‬ ‫الذي هرب بعد الثورة الناجحة الوحيدة‬ ‫ً‬ ‫نسبيا أواخر عام ‪.2010‬‬ ‫ليبيا‪ ،‬التي حولها العقيد معمر القذافي في‬ ‫أيلول ‪ 1969‬إلى جمهورية بأوصاف متعددة‪،‬‬ ‫والذي انتهى بمقتله في عام ‪ ،2013‬أثناء‬ ‫الثورة الليبية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اليمن‪ ،‬الذي كان شماليا وجنوبيا‪ ،‬شماليا‬ ‫ً‬ ‫متحالفا مع األنظمة امللكية في الخليج‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وجنوبيا يرفع راية املاركسية ومتحالفا مع‬ ‫شبيهاته من األنظمة الجمهورية العربية ومع‬ ‫ً‬ ‫االتحاد السوفياتي سابقا‪ ،‬ثم توحدا فيما‬ ‫بعد تحت اسم الجمهورية اليمنية‪ ،‬بزعامة‬ ‫الرئيس الشمالي‪ ،‬علي عبد هللا صالح الذي‬ ‫قتل مؤخرا في الرابع من كانون األول ‪،2017‬‬ ‫بعد أربع سنوات من مقتل القذافي‪.‬‬

‫العراق‪ ،‬والذي انتقل للنظام الجمهوري عبر‬ ‫انقالب البعث في شباط ‪ ،1963‬لم يعرف‬ ‫سوى رئيسين‪ :‬أحمد حسن البكر ومن بعده‬ ‫صدام حسين الذي أعدمته القوى الشيعية‬ ‫التي استلمت الحكم عقب الغزو األميركي‬ ‫للعراق عام ‪.2003‬‬ ‫الجزائر‪ ،‬التي استقلت جمهورية بذات‬ ‫أوصاف جارتها ليبيا عام ‪ ،1962‬لم تشهد‬ ‫سوى ثالثة رؤساء‪ ،‬ورابع عابر‪ ،‬فمن أحمد‬ ‫بن بلال (‪ )1965-1963‬الذي سجنه رفيق‬ ‫دربه في الثورة الهواري بومدين (‪-1965‬‬ ‫‪ ،)1978‬الذي مات عام ‪ ،1978‬ليخلفه‬ ‫الشاذلي بن جديد (‪ ،)1992-1979‬ومن بعده‬ ‫يأتي محمد بوضياف(‪ )1992 -1992‬وهو‬ ‫الرئيس العابر‪ ،‬الذي مات اغتياال‪ ،‬حيث لم‬

‫سورية‪ ،‬التي كانت‬ ‫جمهورية باألساس‬ ‫عقب االستقالل‪،‬‬ ‫اشتهرت‬ ‫والتي‬ ‫بانقالباتها العديدة‬ ‫قبل تسلم البعث‬ ‫عام ‪ ،1963‬حيث‬ ‫لم تشهد منذ ذلك‬

‫‪33‬‬


‫يكمل العام في حكمه‪ ،‬ليتبدل أكثر من رئيس‬ ‫خالل فترة االضطرابات التي سادت في الجزائر‬ ‫والذي شهدت البالد أثناء حكمة مذابح كبرى‬ ‫بعد انتصار جبهة اإلنقاذ اإلسالمية في‬ ‫االنتخابات البلدية والبرملانية عام ‪،1991‬‬ ‫والهزيمة الساحقة لجبهة التحرير الوطني‬ ‫الجزائرية‪ ،‬ليأتي من بعده الرئيس بوتفليقة‬ ‫ً‬ ‫(‪ ) -1999‬الذي ال يزال متشبثا بالكرس ي رغم‬ ‫عجزه الصحي‪.‬‬

‫مرشح‪ ،‬وإنما كانت عملية استفتاء على مرشح‬ ‫حزبي أو عسكري‪ .‬كما ال تعرف األدبيات‬ ‫السياسية والوقائع عبارة الرئيس السابق‪،‬‬ ‫وإنما املعتقل أو املقتول أو املتوفي‪ ،‬وامليزة‬ ‫األكثر أهمية خنق الحياة السياسية‬ ‫والحريات العامة‪ ،‬وتشكيل جبهات وطنية‬ ‫تقدمية أو ديمقراطية من خالل األحزاب‬ ‫ً‬ ‫الكاريكاتيرية القائمة وغالبا اليسارية‬ ‫والقومية‪.‬‬

‫ما هو مشترك بين أنظمة الحكم الجمهوري‬ ‫العربية االعتماد الكامل على الجيش‬ ‫واملخابرات في تدعيم الحكم‪ ،‬وإنشاء أجهزة‬ ‫صورية للتمثيل السياس ي‪ ،‬وغياب أي‬ ‫انتخابات رئاسية يتنافس فيها أكثر من‬

‫امليزة الجديدة لدى هذه األنظمة النزعة‬ ‫القوية للتوريث في رئاستها‪ ،‬لدرجة صارت‬ ‫معروفة باسم الجمهوريات امللكية‬ ‫(الجملكية)‪ ،‬وهو مصطلح حصري‬ ‫لجمهورياتنا العربية وأنظمتها الشمولية‪.‬‬

‫‪34‬‬


‫املتظاهرين‪ ،‬حيث دخلت البالد بعد فترة‬ ‫بانتخابات يفوز فيها أول رئيس عربي‬ ‫ً‬ ‫بانتخابات ديمقراطية وبنسبة لم يعهدها أبدا‬ ‫الحكام العرب‪ ،‬لكن املؤسسات العميقة‬ ‫الداعمة للحكم االستبدادي واملتمثلة في‬ ‫الجيش واملخابرات ومافيات الفساد املالي‪ ،‬لم‬ ‫تترك أي فرصة تمر من دون أن توظفها بما في‬ ‫ذلك التذمر الشعبي إزاء ممارسات الرئيس‬ ‫مرس ي وجماعته املتلهفة للسلطة واالستحواذ‬ ‫على أجهزة الدولة‪ ،‬وباالستفادة من تشابكاتها‬ ‫العربية والدولية‪ ،‬تمكنت من اإلطاحة‬ ‫بالرئيس املنتخب‪ ،‬وتسلم املجلس العسكري‬ ‫لينتهي األمر برئاسة مصر إلى أكثر‬ ‫ً‬ ‫الشخصيات ضعفا‪ ،‬مما أفقد أي دور ملصر‬ ‫على املستوى العربي‪ ،‬وألحقها بسياسات‬ ‫هزيلة للغير‪.‬‬

‫الربيع العربي والنظم الجمهورية‪.‬‬ ‫ليس صدفة أن تكون الثورات العربية كلها في‬ ‫البالد ذات النظم الجمهورية‪ ،‬هذه الثورات‬ ‫ً‬ ‫التي انطلقت في أضعف تلك النظم أوال‪،‬‬ ‫بمعنى أقلها استبدادية‪ ،‬وهي تونس‪ ،‬وكانت‬ ‫ً‬ ‫أكثر التجارب نجاحا رغم كل التعثرات التي‬ ‫تواجهها من حاالت الصراع بين التيارات‬ ‫السياسية وخاصة العلمانية واإلسالمية‪،‬‬ ‫واألهم منها التحديات االقتصادية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تلتها في الدولة األكثر استقرارا وهي مصر‪ ،‬التي‬ ‫تنحى رئيسها عن الحكم بعد عشرين يوم من‬ ‫التظاهرات في ميدان التحرير‪ ،‬ومقتل مئات‬

‫الحالة متشابهة في البلدان األخرى الثالثة‪:‬‬ ‫ليبيا واليمن وسورية‪ ،‬وإن في سورية األكثر‬ ‫بشاعة‪ ،‬فتشاركها في شكل الحكم‪،‬‬ ‫واملؤسسات األمنية‪ ،‬والنهب الكبير ملقدرات‬ ‫البالد‪ ،‬وتشكيلها لشبكة من رأسمالية‬ ‫املحسوبيات‪ ،‬واملنظمات الشعبية املنقولة‬ ‫عن تجربة النظم الديكتاتورية األخرى‬ ‫(كوريا الشمالية‪ ،‬ودول االتحاد السوفياتي‬ ‫السابق)‪ ،‬جعل من هذه األنظمة عصية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تماما على التغيير إال بكلف عالية جدا على‬ ‫ً‬ ‫عموم البالد‪ ،‬وصوال لحد التدمير الفعلي‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫مصير سابقيه‪ ،‬ولربما على يد داعميه‬ ‫الحاليين‪.‬‬

‫هذه األنظمة التي رهنت مصير البالد بمصير‬ ‫الديكتاتور‪ ،‬فكانت النتيجة تدمير البالد‬ ‫وذهاب الدكتاتور بأبشع أشكال القتل‬ ‫(القذافي وصالح)‪ ،‬حيث لم يبق إال دكتاتور‬ ‫ً‬ ‫سورية‪ ،‬الذي رهن البالد كاملة للنفوذ‬ ‫اإليراني والروس ي‪ ،‬وجعلها نقطة جذب‬ ‫ملختلف الفصائل التكفيرية من خالل القمع‬ ‫املتوحش واستخدام كافة أشكال التدمير‬ ‫للبشر والحجر‪ ،‬وإخفاء مصير مئات األلوف‬ ‫من البشر في املعتقالت‪ ،‬وتهجير املاليين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫داخليا وخارجيا‪ ،‬لن يكون مصيره مختلفا عن‬

‫لقد قامت هذه الجمهوريات على عوامل‬ ‫متناقضة في تركيبتها‪ ،‬فجمهوريتها تعني‬ ‫األبدية‪ ،‬وديمقراطيتها تعني االستبداد‪،‬‬ ‫وحقوق املواطنين تعني ما عليهم تجاه نظامهم‬ ‫من طاعة‪ ،‬وشعبيتها تعني تربية أزالم لها‪ ،‬مما‬ ‫ً‬ ‫حول البالد إلى مزرعة يعيثون فيها نهبا‬ ‫ً‬ ‫وفسادا‪ ،‬فمن الطبيعي أن تكون نهايتها كما‬ ‫نشهده‪.‬‬

‫أمحد عيشة‬ ‫مرتجم وصحفي سوري‪ ،‬يقيم يف تركيا‪.‬‬

‫‪36‬‬


‫وسائل التواصل‬ ‫نوار اجلابري‬ ‫إن وسائل التواصل وهي جزء مهم من اإلعالم البديل‪،‬‬ ‫كان لها الفضل في نشوء وتصاعد الحراك‪ ،‬لكن بذات‬ ‫الوقت عدم توقفها في لحظة كانت مهمة وتاريخية‬ ‫ساهمت بهدم كلما بنته فعلياً في مراحلها األولى‪.‬‬ ‫وحتى اآلن ما زالت وسائل التواصل تعمل كنجومية‬

‫وهمية بعد أن فقدت قدرتها على خلق أي تأثير حقيقي‪.‬‬

‫عرف اإلعالم البديل‪ ،‬بأنه اإلعالم الذي ُي ّ‬ ‫ُي ّ‬ ‫قدم معلومات بديلة عن معلومات اإلعالم السائد ضمن‬ ‫ً‬ ‫شكل سياس ي أو اقتصادي معين‪ ،‬مدعوما من الجمهور أو من الحكومات‪ .‬وبالنسبة لنا هنا‪ ،‬فإننا‬ ‫نتحدث عن اإلعالم البديل بشكله السياس ي‪ ،‬من خالل التجربة الثورية السورية وتحويلها إلى حرب‪.‬‬

‫‪37‬‬


‫ُي ّ‬ ‫حدد هدف اإلعالم البديل على أنه يقوم ضد‬ ‫السلطات القائمة ُلي ّ‬ ‫قدم حقائق حيادية في‬ ‫ً‬ ‫مصالح مشتركة للفئات األكثر تهميشا‬ ‫بالنسبة للحكومات‪ ،‬وبالتالي اكتساب جمهور‬ ‫عريض يدعم بعالقة ثنائية وتبادلية بين هذا‬ ‫ً‬ ‫اإلعالم وبين شرائح املجتمع‪ .‬لكن هل فعليا‬ ‫أصبح اإلعالم البديل الذي ظهر مع نشوء‬ ‫ً‬ ‫الحراك الثوري السوري‪ ،‬إعالما ُي ّعبر عن‬ ‫طموحات الفئات الواسعة من الشعب ببناء‬ ‫اجتماعي وفكري وثقافي وسياس ي يحترم‬ ‫الجميع!‪.‬‬

‫الخجولة لتأسيس إعالم بديل حقيقي عن‬ ‫إعالم النظام السوري‪ .‬إعالم ُي ّ‬ ‫قدم سوريا‬ ‫ّ‬ ‫ومدنية‬ ‫وتاريخها وحياتها كصورة تقدمية‬ ‫ً‬ ‫تبتعد كليا عن طرح إعالم النظام الذي كان‬ ‫ً‬ ‫يعمل جاهدا لتقديم ذاته كنظام خالد لألبد‪،‬‬ ‫ونظام يحاول إيهام الناس أنه نظام ديمقراطي‬ ‫غير طائفي‪ .‬مع اإلدراك الكامل للناس أن‬ ‫طائفية النظام بأبسط أشكاله كانت واضحة‬ ‫في إعالمه اليومي‪.‬‬ ‫وكي نذكر بدايات اإلعالم البديل‪ ،‬كانت‬ ‫بالضبط مع قناة األورينت‪ ،‬التي قدمت‬ ‫نفسها في البداية كصورة إعالمية سورية‬ ‫مستقلة‪ ،‬إن كان على مستوى طرحها‬

‫بالطبع مع نشوء الحراك السوري‪ ،‬بدأت‬ ‫تظهر على السطح جميع املحاوالت البدائية‬

‫‪38‬‬


‫لن يؤسس ألي منطق عقلي وسوري مدني‬ ‫ً‬ ‫مستقبال‪ .‬ما يهمنا هو تناول جانب واحد في‬ ‫مسألة اإلعالم البديل‪ ،‬وهي وسائل التواصل‬ ‫االجتماعي باعتبارها الجزء األهم من اإلعالم‪،‬‬ ‫من حيث قدرتها على تناقل املعلومة اليومية‬ ‫والسياسية وتحولها من آلة ثوران إلى آلة‬ ‫أسطرة وتشبيح على العقل‪.‬‬

‫السياس ي أم الثقافي‪ .‬وبعد األورينت ظهرت‬ ‫الكثير من القنوات اإلعالمية األخرى‪،‬‬ ‫كسوريا الغد وحلب اليوم والكثير غيرها التي‬ ‫اهتمت بجانبها األكبر في نقل وقائع الصراع‬ ‫العسكري على األرض وتجييش هذا الصراع‬ ‫ً‬ ‫تدريجيا من منحى ثورة شعب سوري ضد‬ ‫نظام ديكتاتوري‪ ،‬إلى صراع عسكري بين‬ ‫ميلشيات مسلحة ومليشيات نظام‪ ،‬إلى‬ ‫مجاهدي املعارضة وعمالء النظام‪.‬‬

‫لقد كانت لوسائل التواصل أهمية بالغة في‬ ‫الدعوة لالنتفاض الشعبي ضد النظام‬ ‫السوري‪ ،‬وهي (الفيس بوك واملدونات‬ ‫الشخصية)‪ .‬وما يجعل وسائل التواصل من‬ ‫األهمية أكثر من اآللية اإلعالمية كالتلفزيون‬ ‫والراديو والصحف املكتوبة‪ ،‬هو سرعة تناقل‬ ‫املعلومة وبساطتها وتعبيرها الشعبي عما‬ ‫ً‬ ‫يرغب أي إنسان قوله مهما كان معقدا أو‬ ‫ً‬ ‫بسيطا‪ ،‬وهذا ما ساهم باالنتشار السريع‬ ‫للغضب الشعبي والدعوات للمظاهرات‪.‬‬

‫بالطبع كان هذا التجييش ليس لرغبة اإلعالم‬ ‫البديل أن يكون كذلك‪ ،‬لكن الفعل الذي‬ ‫ً‬ ‫قاده النظام عسكريا على األرض من قتل‬ ‫وتدمير‪ ،‬وآلة إعالمه التافهة والضاحكة‬ ‫والسخيفة في التعامل مع الواقع السوري‬ ‫باستهزاء في كثير من املواضيع‪ ،‬دفع اإلعالم‬ ‫البديل كي يتخندق في تلك الجهة الطائفية‬ ‫التي أرادها النظام منذ البداية‪ .‬ومع ّأن ما‬ ‫ً‬ ‫وصل إليه اإلعالم البديل نسبيا من تطرف‬ ‫خطابي بسبب سلوكية النظام السوري‪ ،‬إال‬ ‫أننا ال نستطيع تبرئة الغباء الذي وصم به‬ ‫اإلعالم البديل‪ ،‬وفقده إلمكانية الثبات على‬ ‫املوقف السوري املدني الذي هو هدف وفكرة‬ ‫اإلعالم البديل‪.‬‬

‫لقد كان عمل الفيس بوك في بداياته بمثابة‬ ‫مارد حكائي يجول في سماء سوريا‪ .‬وبالرغم أن‬ ‫تلك املرحلة لم تكن تحوي نسب كبيرة من‬ ‫دعوات واضحة ومباشرة ضد النظام (إال ما‬ ‫ندر) إال ّأن التدوين على الفيس من خالل‬ ‫االمتعاض حول طبيعة الحياة والعمل بشكل‬ ‫اعتيادي من قبل الناس دون االقتراب الفعلي‬ ‫من هيكلية النظام السياس ي‪ ،‬ساهم بفتح‬ ‫حلقة صغيرة في الجدار األمني الحديدي‬

‫لكن ما يهمنا هنا ليس نقد هذه التاريخية‪،‬‬ ‫ألنها بطبيعة الحال أمر جرى وانتهى‪ ،‬مع‬ ‫التركيز أن استمرار هذا اإلعالم بشكله الحالي‬

‫‪39‬‬


‫اإلعالم‪ ،‬وتحولت إلى واجهة إعالمية تأثيرية‬ ‫أكبر من أي حالة إعالمية أخرى‪.‬‬

‫للنظام السوري‪ ،‬فجاء ذلك االمتعاض (الذي‬ ‫ً‬ ‫ال يوجد فعليا قانون يحاسب عليه) كجزء‬ ‫من طبيعة الحياة‪ ،‬وهو ما كان الحالة األكثر‬ ‫ً‬ ‫رعبا لذلك النظام األمني‪ّ ،‬‬ ‫ألن ألية التعامل مع‬ ‫االمتعاض الشعبي الطبيعي هي من الصعوبة‬ ‫ً‬ ‫أن يحدد النظام أعدائه فعليا‪ .‬وضمن‬ ‫صيرورة االنتشار السريع للمعلومة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الفيسبوكية‪ ،‬اتخذت ُبعدا سياسيا بدأ‬ ‫ً‬ ‫يتشكل في األفق تدريجيا‪.‬‬

‫على هذا املنوال أصبح الفيس بطريقة ما‬ ‫ُ‬ ‫املعبر األول عن سياسة الشعب املعارض ضد‬ ‫النظام‪ ،‬بآليات تحليله الفردية وتقديم‬ ‫السياسة كحالة هوليودية‪ ،‬وأصبح القاص ي‬ ‫والداني قادر ليس على الجدل والتحليل‬ ‫املنطقي والعمل على تكوين جماعات تؤدي‬ ‫مهمة سياسية أو ثقافية‪ ،‬بل آلية تصارع على‬ ‫النجومية السياسية‪.‬‬

‫مع اشتعال املظاهرات أصبح الفيس‬ ‫ّ‬ ‫واملدونات اآللية الثقافية للرفض والتهكم‬ ‫والسخرية والنضال الترويجي لتغيير البنية‪.‬‬ ‫ربما لم تكن الصورة واضحة في وسائل‬ ‫التواصل كحالة إعالم بديل سياس ي‪ ،‬لكنها‬ ‫كانت آلية استبصار وتحليل ساهمت بآراء في‬ ‫ً‬ ‫تشكيل بنية إعالمية بديلة تدريجيا‪ ،‬ومع‬ ‫ّ‬ ‫تحول الصراع إلى حالة أرض عسكرية ونشوء‬ ‫آلة إعالمية تلفزيونية وراديوهات وصحافة‪،‬‬ ‫لم تتوقف مهمة وسائل التواصل‪ ،‬الذي كانت‬ ‫يجب أن تتوقف مهمتها عند ذلك الحد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وتفسح املجال فعليا لتشكيل بنية إعالمية‬ ‫حقيقية‪ ،‬لكن طبيعة وسائل التواصل‬ ‫الجوهرية في السرعة والبساطة لم يكن من‬ ‫السهل إيقافها‪ ،‬فاستمرت بالتدخل في شكل‬

‫ضمن هذا الشكل تحولت وسائل التواصل‬ ‫وباألخص الفيس من حالة تساهم في البناء إلى‬ ‫حالة تجييش للهدم‪ ،‬وأصبح صورة للتعبير‬ ‫عن طريقة إلمالء النزوع الفردي الراديكالي‬ ‫ّ‬ ‫للبشر‪ ،‬وسقوطها في مجاهل التخلف‬ ‫اإلعالمي املُ ّ‬ ‫تعصب‪.‬‬ ‫إن وسائل التواصل وهي جزء مهم من اإلعالم‬ ‫البديل‪ ،‬كان لها الفضل في نشوء وتصاعد‬ ‫الحراك‪ ،‬لكن بذات الوقت عدم توقفها في‬ ‫لحظة كانت مهمة وتاريخية ساهمت بهدم‬ ‫ً‬ ‫كلما بنته فعليا في مراحلها األولى‪.‬‬ ‫وحتى اآلن ما زالت وسائل التواصل تعمل‬ ‫كنجومية وهمية بعد أن فقدت قدرتها على‬ ‫خلق أي تأثير حقيقي‪.‬‬ ‫نوار اجلابري‬ ‫ناشط إعالمي سوري‪ ،‬مقيم يف حلب‬

‫‪40‬‬


‫ملف العدد‬ ‫في النسوية وقضايا المرأة‬ ‫‪41‬‬


42


‫قاسم أمني‬ ‫علياء الويسي‬

‫ويبرر أمين أسباب فقدها لحريتها ويضع اللوم على‬ ‫الرجال الذين وجدوا في جهل النساء تفوقاً وسلطة ال‬ ‫متناهية‪ ،‬وإن لم تكن المشكلة األساسية في الرجل‬ ‫بالذات بقدر ما هي نظام المؤسسة االقتصادية‬

‫البطريركية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ينطلق قاسم أمين في كتابه ملعالجة مسألة املرأة عموما واملصرية خصوصا‪ ،‬من بديهية نقدية‬ ‫وتاريخية‪ ،‬هي سيطرة االجتماعي "األعراف" على املدني‪ ،‬ويحاول مخاطبة الناس من هذه الزاوية‬ ‫بإطارها الديني التراثي‪.‬‬ ‫في أربعة بحوث رئيسية‪ ،‬ومحورها هو املرأة "تربية املرأة‪ ،‬حجاب النساء‪ ،‬املرأة ّ‬ ‫واألمة‪ ،‬العائلة"‪،‬‬ ‫عالج أمين بذكاء الباحث واملصلح‪ ،‬قبل قرن من اآلن‪ ،‬األسباب التي دعت لحصر املرأة بأدوار معينة‪،‬‬ ‫وتفنيده لألخطاء االجتماعية والثقافية السائدة في ذلك العصر‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫ّ‬ ‫يوقعن على‬ ‫النصابين الذين يجعلون النساء‬ ‫ّ‬ ‫حقوقهن دون قدرتها على‬ ‫أوراق تنازل عن‬ ‫فهم ما تفعل‪.‬‬

‫فتحدث عن أسباب تفوق الرجل على املرأة‬ ‫ُويعيد ذلك ملسألة اشتغال الرجال بينما تم‬ ‫ّ‬ ‫إقصاء املرأة من العمل‪ ،‬ما عدا املنزلي‪ُ ،‬ويركز‬ ‫ّ‬ ‫تعلم النساء كي يكون ّ‬ ‫لهن دور‬ ‫على ضرورة‬ ‫أكبر من مسألة خدمة الذكر‪ ،‬هو دور‬ ‫التنشئة واملعرفة واملساهمة بالتطور‪ّ ،‬‬ ‫ويفسر‬ ‫ذلك‪ ،‬بأنه إن كان للمرأة نسبة تشكيل أي‬ ‫مجتمع بنصفه‪ ،‬فمن املؤذي بقاء النصف‬ ‫دون إنتاج‪ ،‬وهي لن تكون قادرة على اإلنتاج إن‬ ‫لم تدرك أبسط العلوم‪ .‬وحتى في املستوى‬ ‫االجتماعي‪ ،‬أنه إن كان للمرأة ضرورة وجود‬ ‫كيان ذكري ُيعيلها‪ ،‬فما هو الحال الذي‬ ‫ّ‬ ‫ستصير عليه في لحظة موته‪ ،‬أو إذا تطلقت‪،‬‬ ‫أو كان لها أبناء صغار! فيأتي تعليم املرأة‬ ‫كحماية لها‪ .‬وحتى ليحميها من أشراك‬

‫ويبرر أمين أسباب فقدها لحريتها ويضع اللوم‬ ‫على الرجال الذين وجدوا في جهل النساء‬ ‫ً‬ ‫تفوقا وسلطة ال متناهية‪ ،‬وإن لم تكن‬ ‫املشكلة األساسية في الرجل بالذات بقدر ما‬ ‫هي نظام املؤسسة االقتصادية البطريركية‪.‬‬ ‫وال يميز أمين بين الغنى والفقر‪ ،‬فاملرأة‬ ‫متساوية بجهلها وال تختلف إال من ناحية‬ ‫امللبس‪ ،‬وهذا الدور الذي يحصرها كي تكون‬ ‫أداة متعة للرجل‪ُ .‬ويعيب على الطبقات‬ ‫الغنية والوسطى من الرجال‪ ،‬أن تطورهم‬ ‫ودراساتهم وتعلمهم كان لهم وحدهم ولم‬

‫‪44‬‬


‫يمارسه الناس من حجاب ليس سوى تناقل‬ ‫األمم األخرى له إلينا‪ ،‬فهو موجود لدى‬ ‫املسيحيين واليونان‪ ،‬والخمار كان يستخدم‬ ‫في القرون الوسطى‪ ،‬وعليه يكون الحجاب‬ ‫ً‬ ‫املوجود في البالد ليس خاصا بمجتمعاتنا وال‬ ‫استحدثه املسلمون‪ .‬ويتحدث عن األعراف‬ ‫التي جعلت من املرأة بأكملها عورة وفي النص‬ ‫الديني ليست كذلك‪ ،‬وإنما عبارة عن‬ ‫اجتهادات فقهية في أزمان سياسية خضعت‬ ‫ً‬ ‫لها بالد اإلسالم‪ ،‬وهي باطلة شرعا‪ .‬والدليل‬ ‫األكبر بما يورده‪،‬‬ ‫أن املرأة ال تقبل‬ ‫لها شهادة وال‬ ‫يتحقق زواجها إن‬ ‫لم ُيرى الوجه‬ ‫والكفين‪ .‬فاملرأة‬ ‫أموالها‬ ‫تدير‬ ‫وتجارتها بنفسها‪ ،‬وما خديجة بنت خويلد‬ ‫سوى مثالها األبرز‪.‬‬

‫تتماش ى النساء مع ذلك التطور‪ ،‬وهذا أحد‬ ‫أهم أسباب الشقاء االجتماعي‪ ،‬لكنه سيؤثر‬ ‫ً‬ ‫سلبا على مستوى اإلدراك والتفاهم العقلي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حتى وإن كانت املرأة صالحة والرجل طيبا‪.‬‬ ‫وينطلق بحديث مطول عن اكتشاف الحب‬ ‫وتاريخيته وفطرته التي زرعها هللا في اإلنسان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وهي بدورها يجب أن تكون سببا كافيا‬ ‫للمساواة‪ ،‬فكيف يمكن لرجل يستحقر‬ ‫امرأته ويعنفها ويفرح لجهلها ثم في لحظة‬ ‫الحب تصبح مالكه األثير‪ .‬هذا التناقض‬ ‫النفس ي والعقلي الذي يمتاز به الذكور‪ ،‬هو‬ ‫دليل على اضطراب اجتماعي وثقافي وحتى‬ ‫ديني‪ .‬واستخدام الرجل تخويف املرأة حول‬ ‫ً‬ ‫عدم طاعته في الحب‪ ،‬ال يبقى حبيسا بينهما‪،‬‬ ‫بل سينتقل ليكون ً‬ ‫جزء من تربية على األبناء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تنقلها األم تدريجيا‪ .‬ويأتي أمين باستشهاد‬ ‫النبي محمد في حديثه‪" :‬خذوا نصف دينكم‬ ‫عن هذه الحميراء" وقصد بها زوجته عائشة‪،‬‬ ‫وهي امرأة لم تؤيد بوحي وال معجزة‪ ،‬وإنما‬ ‫ّ‬ ‫سمعت فوعت‪ ،‬وعلمت فتعلمت‪ .‬وهو الدليل‬ ‫الذي يورده أمين أن املرأة كيان قاد على‬ ‫ّ‬ ‫التعلم والتعليم بحسب املنهج الديني الذي‬ ‫يعيش املجتمع تخلفه في كنفه‪ ،‬ويعيد أعرافه‬ ‫البالية إليه‪.‬‬

‫وأن مسألة الحجاب اتقاء الفتنة‪ ،‬فهي تتعلق‬ ‫بقلوب الرجال الخائفين الذين تمت مطالبتهم‬ ‫بغض البصر وليس على املرأة تقديره وال ّ‬ ‫هن‬ ‫مطالبات بمعرفته‪ .‬وعليه يصبح الحجاب‬ ‫عائق أمام التنوير العقلي‪ ،‬ألن املرأة يصبح‬ ‫همها األوحد وتفكيرها محاولة حفظ وجهها‬ ‫كي ال تقع في معصية‪ .‬وينحاز هذا التفكر إلى‬ ‫الغرق في مستنقع ّ‬ ‫يرسخه الرجل كون املرأة‬

‫ثم يناقش موضوع الحجاب باعتباره يجب أن‬ ‫ً‬ ‫منطبقا للشريعة اإلسالمية‪ّ ،‬‬ ‫يكون‬ ‫وأن ما‬

‫‪45‬‬


‫أداة منزلية‪ .‬لكن في هذا الجانب يعود أمين‬ ‫ُ‬ ‫للقول‪ ،‬أن نظام الطبيعة اإللهية الذي فرض‬ ‫على املرأة أن تكون مثل جميع اإلناث تحمل‬ ‫وتنجب هو عمل بسيط ومادي وتشترك فيه‬ ‫مع الحيوانات‪ ،‬فال يحتاج إال إلى بنية سليمة‪،‬‬ ‫أما العمل الثاني وهو التربية‪ ،‬فهو عمل عقلي‬ ‫امتاز به النوع اإلنساني وهو محتاج في تأديته‬ ‫إلى تربة واسعة‪ ،‬واختبار عظيم ومعارف‬ ‫مختلفة‪ .‬وهذا هو الدور الذي يجب للمرأة أن‬ ‫تلعبه لتكوين عائلة‪ ،‬وهي لن تستطيع إليه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سبيال دون تحرير بنيتها العقلية أوال‪.‬‬ ‫والعائلة هي جزء من تكوين املجتمع الذي‬ ‫بدوره يشارك في تكوين األمم‪ ،‬وعليه تصبح‬ ‫مهمة املرأة أعظم من مهمة الرجل التي تحتاج‬ ‫الوعي الالزم والكفاءة العقلية التي ال تفقدها‬ ‫ً‬ ‫أصال‪ ،‬إنما تحتاج إلى قوانين تحررها لتطلق‬ ‫إمكانياتها في البناء‪.‬‬

‫وانتشار آفة األعراف التي تحط من شأن‬ ‫املجتمعات وال تسمح برقيها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وإن كان الكتاب كالسيكيا في إطاره العام‬ ‫نتيجة كتابته قبل قرن من اآلن‪ ،‬لكنه ال يخلو‬ ‫من ثورة حقيقة على أنظمة اجتماعية بائدة‪،‬‬ ‫حاول فيه تحرير املرأة من الجهل والظلمة‬ ‫التي عاشتها على مدار التاريخ اإلنساني‪.‬‬

‫حاول قاسم أمين في كتابه تقديم حال املرأة‬ ‫في مصر‪ ،‬بتناول بعض املواضيع املهمة‪،‬‬ ‫وأهمها التركيز على مسألة العلم‪ ،‬والفهم‬ ‫الخاطئ للمعتقدات على حساب الدين‪،‬‬

‫علياء الويسي‬ ‫ناشطة نسوية‪ ،‬تهتم بقضايا املرأة‪ ،‬تقيم يف سوريا‪.‬‬

‫‪46‬‬


‫‪\1‬‬

‫ً‬ ‫عجبا! لم لم تؤمر الرجال بستر وجوههم عن‬ ‫النساء إذا خافوا الفتنة عليهن؟ هل اعتبرت‬ ‫عزيمة الرجل أضعف من عزيمة املرأة واعتبر‬ ‫الرجل أعجزمن املرأة عن ضبط نفسه والحكم‬ ‫على هواه‪ ،‬واعتبرت املرأة أقوى منه في كل ذلك‬ ‫حتى أبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم ألعين‬ ‫النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال‪،‬‬ ‫ومنع النساء من كشف وجوهن ألعين الرجال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫منعا مطلقا خوفا أن ينفلت زمام هوى النفس‬ ‫من سلطة عقل الرجل فيسقط في الفتنة بأية‬ ‫امرأة تعرضت له مهما بلغت من قبح الصورة‬ ‫وبشاعة الخلق؟! إن زعم زاعم صحة هذا‬ ‫االعتبار رأينا هذا اعترافا منه بأن املرأة أكمل‬ ‫استعدادا من الرجل‪ ،‬فلم توضع حينئذ تحت‬ ‫رقه في كل حال؟ فإن لم يكن هذا االعتبار‬ ‫صحيحا فلم هذا التحكم املعروف؟‪.‬‬

‫‪/2‬‬ ‫الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي ونشركل‬ ‫مذهب وترويج كل فكر‪ .‬في البالد الحرة قد‬ ‫يجاهر اإلنسان بأن ال وطن له‪ .‬ويطعن على‬

‫‪47‬‬


‫‪/5‬‬ ‫قد صار من املقرر عندنا أن األمهات ال يفلحن‬ ‫في تربية األوالد حتى صار من املثل في الحطة‬ ‫ورداءة السير أن يقال‪ :‬فالن تربية امرأة! على‬ ‫أننا نرى أن تربية املرأة في البالد الغربية تفوق‬ ‫تربية الرجال‪ ،‬وأن أحسن الناس تربية هم من‬ ‫ساعدهم الدهرفي أن تتولى تربيتهم امرأة وليس‬ ‫هذا بغريب فإن املرأة تمتاز على الرجل بغرائز‬ ‫طبيعية هي بها أقوى استعدادا للنجاح في‬ ‫التربية‪ ،‬ذلك أنها أصبر من الرجل فيما تحب‪،‬‬ ‫وأنها ألطف منه في املعاملة‪ ،‬وأرق منه في‬ ‫العواطف واإلحساسات‪.‬‬

‫شرائع قومه وآدابهم وعاداتهم ويهزأ باملبادئ‬ ‫التي تقوم عليها حياتهم العائلية واالجتماعية‪،‬‬ ‫يقول ويكتب ما شاء هللا في ذلك وال يفكر أحد ‪-‬‬ ‫ولو كان من ألد خصومه في الرأي ـ أن ينقص‬ ‫شيئا من احترامه لشخصه‪ ،‬متى كان قوله‬ ‫صادرا عن نية حسنة واعتقاد صحيح‪ .‬كم من‬ ‫الزمن يمر على مصر قبل أن تبلغ هذه الدرجة‬ ‫من الحرية؟‪.‬‬ ‫‪/3‬‬ ‫التكاليف الشرعية تدلنا على أن املرأة وهبت‬ ‫من العقل مثل ما وهب الرجل‪ .‬أيظن رجل لم‬ ‫يعمه الغرض أن هللا قد وهبها من العقل ما‬ ‫ً‬ ‫وهبها عبثا‪ .‬وأنه آتاها من الحواس وآالت‬ ‫اإلدراك ما آتاها ألجل أن تهملها وال تستعملها؟‪.‬‬

‫‪/6‬‬ ‫من احتقار املرأة أن يحال بينها وبين الحياة‬ ‫العامة والعمل فى أي ش يء يتعلق بها‪ :‬فليس لها‬ ‫رأي في األعمال وال فكر في املشارب وال ذوق في‬ ‫الفنون وال قدم في املنافع العامة وال مقام في‬ ‫االعتقادات الدينية‪ ،‬وليس لها فضيلة وطنية‬ ‫وال شعور ملي‪.‬‬

‫‪/4‬‬ ‫جاء في القصص الدينية املسطورة في الكتب‬ ‫السماوية إن هللا خلق حواء من ضلع آدم‪ .‬وفيه‬ ‫على ما أظن‪ ،‬رمز لطيف إلى أن الرجل واملرأة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يكونان مجموعا واحدا ال يتم إال باتحادهما‪،‬‬ ‫ومن هذا املعنى أخذ الغربيون تسميتهم املرأة‬ ‫بنصف الرجل‪ ،‬وهو تعبير فصيح يدل داللة‬ ‫واضحة على أن املرأة والرجل هما شقان لجسم‬ ‫واحد‪ ،‬مفتقر بعضه إلى بعض ليتم له الكمال‬ ‫باإلجماع‪.‬‬

‫‪/7‬‬ ‫ً ً‬ ‫املرأة ال تكون وال يمكن أن تكون وجودا تاما إال‬ ‫إذا ملكت نفسها وتمتعت بحريتها املمنوحة لها‬ ‫ً‬ ‫بمقتض ى الشرع والفطرة معا ونمت ملكاتها إلى‬ ‫أقص ى درجة يمكنها ان تبلغها‪.‬‬

‫‪48‬‬


‫‪/8‬‬ ‫والحق أن االنتقاب والتبرقع ليسا‬ ‫من املشروعات اإلسالمية‪ ،‬ال‬ ‫للتعبد وال للدب‪ ،‬بل هما من‬ ‫العادات القديمة السابقة على‬ ‫اإلسالم والباقية بعده‪ .‬ويدلنا على‬ ‫ذلك أن هذه العادة ليست معروفة‬ ‫في كثير من البالد اإلسالمية‪ ،‬وأنها‬ ‫لم تزل معروفة عند أغلب األمم‬ ‫الشرقية التي لم تتدين بدين‬ ‫اإلسالم‪.‬‬ ‫‪/9‬‬ ‫وملا ساد الجهل على عقولهم‪،‬‬ ‫وتراكمت ظلماته في أذهانهم لم يعد‬ ‫في استطاعتهم أن يفهموا حقيقة‬ ‫الدين‪ ،‬وشعروا أن ضعفهم ال‬ ‫يسمح لهم بأن يصعدوا إليه‬ ‫بعقولهم فأنزلوه من مكانه الرفيع‬ ‫ووضعوه مع جهلهم في مستوى واحد‪ ،‬ثم أخذوا‬ ‫يتصرفون فيه تصرف الغبي األحمق‪.‬‬

‫من احتقاراملرأة أن يسجنها في منزل ويفتخربأنها‬ ‫ال تخرج منه إال محمولة على النعش إلى القبر‪.‬‬ ‫من احتقار املرأة أن يعلن الرجال أن النساء‬ ‫ً‬ ‫لسن محال للثقة واألمانة‪.‬‬

‫‪/10‬‬ ‫من احتقار املرأة أن يقعد الرجل على مائدة‬ ‫الطعام وحده ثم تجتمع النساء‪ ،‬من أم وأخت‬ ‫وزوجة‪ ،‬ويأكلن ما فضل منه‬

‫‪/11‬‬ ‫أليس من العار أن نتصور أن أمهاتنا وبناتنا‬ ‫وزوجاتنا ال يعرفن صيانة أنفسهن‪.‬‬

‫‪49‬‬


50


‫دعوا املرأة تعمل…‬ ‫ترمجة وإعداد‪ :‬هالة احلسن‬ ‫ويمكن تفهم تشكيك العديد من االقتصاديين والمحللين‬ ‫بإمكانية التغيير‪ .‬لكن‪ ،‬وإدراكاً للضرورة االقتصادية‪ ،‬يدفع‬ ‫القادة في جميع أنحاء العالم من أجل اإلصالح‪ .‬وفي‬ ‫العامين الماضيين وحدهما‪ ،‬قام ‪ 65‬بلداً بسنّ ما يقرب‬ ‫من ‪ 100‬تغيير قانوني لزيادة الفرص االقتصادية للمرأة‪.‬‬

‫في حزيران ‪ /‬يونيو املاض ي‪ ،‬أقرت اململكة العربية السعودية الحقوق القانونية للمرأة‪ ،‬مما شكل‬ ‫نهاية لواحدة من أبرز األمثلة على التمييز بين الجنسين في العالم‪ .‬وقد أشيد بعملية إزالة الحظر‬ ‫ً‬ ‫باعتباره انتصارا‪ ،‬في بلد يحد من حريات املرأة بشكل منهجي‪ .‬ولكن بالنسبة للمسؤولين السعوديين‪،‬‬ ‫فإن انعكاس هذه السياسة يرتبط باالقتصاد أكثر من االهتمام بحقوق املرأة‪ .‬في السنوات األخيرة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حتى البلدان املحافظة ثقافيا‪ ،‬مثل اململكة الخليجية‪ ،‬بدأت تدرك أنها ال يمكن املض ي قدما إذا‬ ‫تركوا نصف رأس املال البشري وراءهم‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫وقد دافع املدافعون عن حقوق املرأة منذ‬ ‫زمن طويل عن املساواة بين الجنسين‬ ‫كقضية أخالقية‪ .‬لكن في االقتصاد العاملي‬ ‫الحديث‪ ،‬يعتبر القضاء على العقبات أمام‬ ‫املشاركة االقتصادية للمرأة ضرورة‬ ‫استراتيجية‪ .‬وتؤكد مجموعة متزايدة من‬ ‫األدلة على العالقة اإليجابية بين مشاركة‬ ‫املرأة في القوة العاملة والنمو الشامل‪ .‬وفي‬ ‫عام ‪ ،2013‬خلصت منظمة التعاون‬ ‫والتنمية في امليدان االقتصادي إلى أن وجود‬ ‫ً‬ ‫اقتصاد أكثر توازنا بين الجنسين يمكن أن‬ ‫يعزز الناتج املحلي اإلجمالي بنسبة تقدر‬ ‫بنحو ‪ %12‬في بلدان منظمة التعاون‬ ‫والتنمية في امليدان االقتصادي‪ .‬وقد أصدر‬ ‫صندوق النقد الدولي تنبؤات مماثلة للبلدان‬ ‫غير األعضاء في منظمة التعاون والتنمية في‬ ‫ً‬ ‫امليدان االقتصادي‪ ،‬مشيرا إلى أن زيادة‬ ‫مشاركة املرأة في االقتصاد ستحقق مكاسب‬ ‫الناتج املحلي اإلجمالي بنحو ‪ %12‬في اإلمارات‬ ‫ً‬ ‫العربية املتحدة و ‪ %34‬في مصر‪ .‬ووفقا ملا‬ ‫جاء في تقرير أعده معهد ماكينزي العاملي‬ ‫لعام ‪ ،2015‬فإن سد الفجوات بين الجنسين‬ ‫في مكان العمل يمكن أن يضيف ما يقدر‬ ‫بنحو ‪ 12‬تريليون دوالر إلى الناتج املحلي‬ ‫اإلجمالي العاملي بحلول عام ‪.2025‬‬

‫قائمة في كل منطقة من مناطق العالم‪ ،‬سواء‬ ‫في االقتصادات املتقدمة النمو أو في البلدان‬ ‫ً‬ ‫النامية‪ .‬ووفقا للبنك الدولي‪ ،‬تواجه املرأة‬ ‫ً‬ ‫قيودا على الوظائف القائمة على نوع الجنس‬ ‫ً‬ ‫في ‪ 155‬بلدا‪ ،‬بما في ذلك القيود املفروضة‬

‫ومع ذلك‪ ،‬ال تزال الحواجز القانونية التي‬ ‫تحول دون حق املرأة في االنتخاب االقتصادي‬

‫‪52‬‬


‫ً‬ ‫يجلب أيضا السالم واالستقرار واالزدهار‬ ‫الذي تشتد الحاجة إليه في العديد من‬ ‫املناطق”‪ .‬بيد أن التقدم سيتطلب أكثر من‬ ‫مجرد الخطاب النبيل‪ .‬ولتحقيق خطوات‬ ‫حقيقية في إضعاف اإلمكانيات االقتصادية‬ ‫للمرأة‪ ،‬سيتعين على الواليات املتحدة أن‬ ‫تستخدم ميزانيتها الدولية وميزانياتها‬ ‫الخارجية لدفع اإلصالح القانوني‪ ،‬ليس فقط‬ ‫ً‬ ‫في الداخل‪ ،‬بل أيضا في البلدان في جميع‬ ‫أنحاء العالم التي ال تستطيع فيها املرأة‬ ‫املشاركة الكاملة في االقتصاد‪.‬‬

‫على مسألة امتالك العقارات‪ ،‬ومتطلبات‬ ‫املوافقة الزوجية على العمل‪ ،‬والقوانين التي‬ ‫تمنعها من توقيع العقود أو الحصول على‬ ‫االئتمان‪ .‬في العديد من الدول‪ ،‬ال تزال املرأة‬ ‫محظورة على الوظائف التقليدية للذكور أو‬ ‫ً‬ ‫تواجه حدودا لعدد ساعات العمل‪ .‬وفي‬ ‫روسيا‪ ،‬ال يمكن للمرأة أن تبحث عن عمل في‬ ‫‪ 456‬مهنة من النجارة إلى قيادة مترو األنفاق‪.‬‬ ‫وتحظر األرجنتين على النساء دخول مهن‬ ‫“خطيرة”‪ ،‬مثل التعدين‪ ،‬وتصنيع املواد‬ ‫القابلة لالشتعال‪ ،‬وتقطير الكحول‪ .‬ويمنع‬ ‫القانون الفرنس ي النساء من شغل وظائف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تتطلب حمل ‪ 25‬كيلوغراما (حوالي ‪ 55‬رطال)‪.‬‬ ‫وفي باكستان‪ ،‬ال تستطيع املرأة تنظيف‬ ‫اآلالت أو تعديلها‪.‬‬

‫زخم لإلصالح‬ ‫الحالة االقتصادية إلزالة القيود املفروضة‬ ‫على املشاركة االقتصادية للمرأة واضحة‪.‬‬ ‫ففي اململكة العربية السعودية‪ ،‬على سبيل‬ ‫املثال‪ ،‬تكسب املرأة أكثر من نصف جميع‬ ‫شهادات الكليات والدراسات العليا ولكنها ال‬ ‫تشكل سوى ‪ %20‬من القوى العاملة‪ .‬وهذا‬ ‫يعني أن اإلمكانيات االقتصادية لحوالي ثلث‬ ‫السكان ال تزال غير مستغلة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تواجه املرأة قيودا على الوظائف في ‪ 155‬بلدا‪،‬‬ ‫وحتى في البلدان التي يقل فيها التفاوت بين‬ ‫ً‬ ‫الجنسين كثيرا عن اململكة العربية‬ ‫السعودية‪ ،‬سعى القادة إلى تحفيز النمو‬ ‫االقتصادي من خالل تيسير مشاركة املرأة‪.‬‬ ‫ففي التسعينيات‪ ،‬ألغى املشرعون الكنديون‬

‫ويمكن تفهم تشكيك العديد من‬ ‫االقتصاديين واملحللين بإمكانية التغيير‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لكن‪ ،‬وإدراكا للضرورة االقتصادية‪ ،‬يدفع‬ ‫القادة في جميع أنحاء العالم من أجل‬ ‫اإلصالح‪ .‬وفي العامين املاضيين وحدهما‪ ،‬قام‬ ‫ً‬ ‫بلدا ّ‬ ‫بسن ما يقرب من ‪ 100‬تغيير قانوني‬ ‫‪65‬‬ ‫لزيادة الفرص االقتصادية للمرأة‪.‬‬ ‫قالت إيفانكا ترامب‪ ،‬مستشارة والدها‪،‬‬ ‫الرئيس األمريكي دونالد ترامب‪ ،‬في ورشة عمل‬ ‫نسائية‪“ :‬إن إطالق العنان الكامل لقوة املرأة‬ ‫في اقتصادنا سيخلق قيمة هائلة‪ ،‬ولكنه‬

‫‪53‬‬


‫عجلة التنمية االقتصادية من خالل‬ ‫زيادة مبادرات البنية التحتية‪ ،‬مثل جلب‬ ‫الكهرباء إلى املناطق الريفية‪.‬‬ ‫وتقلل هذه املشاريع من عبء العمل غير‬ ‫مدفوع األجر عن طريق جعل العمل‬ ‫ً‬ ‫املنزلي أقل استهالكا للوقت‪ ،‬مما يفسح‬ ‫املجال أمام العمل مدفوع األجر خارج‬ ‫املنزل‪ .‬وتشهد البلدان التي اتبعت هذه‬ ‫اإلصالحات بالفعل نتائج إيجابية‪ .‬في‬ ‫الهند‪ ،‬بعد أن غيرت دولتان قوانين‬ ‫الوراثة في عام ‪ 1994‬ملنح املرأة نفس‬ ‫الحق في وراثة ممتلكات األسرة كالرجل‪،‬‬ ‫أصبحت النساء أكثر عرضة لفتح‬ ‫حسابات مصرفية‪ ،‬وبدأت أسرهن في‬ ‫التمتع بقدر أكبر من االستقرار املالي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وفقا لدراسة أجراها البنك الدولي في عام‬ ‫‪.2010‬‬

‫ما يسمى بعقوبة الزواج‪ ،‬وهي نتاج قانون‬ ‫ضريبي أدى إلى انخفاض دخل أصحاب‬ ‫الدخل الثانوي عن طريق مطالبة األزواج‬ ‫بدفع معدالت أعلى مقارنة بدافعي الضرائب‬ ‫الفرديين‪.‬‬

‫وباملثل‪ ،‬ففي إثيوبيا‪ ،‬ومنذ أن ألغت الحكومة‬ ‫شرط حصول املرأة على موافقة زوجها من‬ ‫أجل العمل خارج املنزل‪ ،‬في عام ‪ ،2000‬دخل‬ ‫عدد كبير من النساء قوة العمل وحصلن على‬ ‫عمل بدوام كامل‪ ،‬من ذوات املهارات العالية‬ ‫ً‬ ‫– وبالتالي أفضل أجرا‪ .‬وبعد خمس سنوات‪،‬‬ ‫كانت النساء في املناطق الثالث التي نفذت فيها‬ ‫السياسة ألول مرة أكثر احتمالية للعمل خارج‬ ‫منازلهن بنسبة ‪ ،%28‬ومن املرجح أن تزيد‬

‫وفي اليابان‪ ،‬وضعت أجندة “املرأة النسوية”‬ ‫التي وضعها رئيس الوزراء شينزو آبي للعامالت‬ ‫في مركز استراتيجية النمو في البلد من خالل‬ ‫زيادة استحقاقات رعاية الطفل وتحفيز‬ ‫اإلصالحات املالئمة لألسرة في مكان العمل‪.‬‬ ‫وفي بنغالديش‪ ،‬يسعى وزراء الحكومة إلى دفع‬

‫‪54‬‬


‫نسبة النساء اللواتي يشغلن وظائف في‬ ‫وظائف أخرى بنسبة ‪ %33‬عن النساء في‬ ‫ً‬ ‫أماكن أخرى من البلد‪ ،‬وفقا لتحليل للبنك‬ ‫الدولي‪.‬‬

‫أخرى‪ ،‬انخفضت معدالت وفيات األمهات‬ ‫بشكل ملحوظ على مدى العقدين املاضيين‪،‬‬ ‫وأغلقت الفجوة بين الجنسين في التعليم‬ ‫ً‬ ‫االبتدائي تقريبا خالل نفس الفترة الزمنية‪،‬‬ ‫وقد انخفضت مشاركة املرأة في قوة العمل‬ ‫ً‬ ‫فعال من ‪ %52‬إلى ‪ %50‬على الصعيد العاملي‬ ‫ً‬ ‫بين عامي ‪ 1990‬و ‪ ،2016‬ويرجع ذلك جزئيا‬ ‫إلى القدرة على تحمل هذه القيود القانونية‬ ‫ومساعدة املرأة على النجاح‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬وعلى الرغم من هذه الفوائد الواضحة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ال تزال وتيرة التغيير بطيئة جدا‪ .‬فقد قاتلت‬ ‫النساء السعوديات منذ ثالثة عقود قبل‬ ‫تحقيق إلغاء حظر القيادة‪ .‬وحتى بعد هذا‬ ‫االنتصار الذي تحقق بشق األنفس‪،‬‬ ‫سيستمر نظام الوصاية السعودي شديد‬ ‫التقييد في منع النساء من فتح حساب‬ ‫مصرفي‪ ،‬أو بدء أعمال تجارية معينة‪ ،‬أو‬ ‫الحصول على جواز سفر‪ ،‬أو السفر إلى‬ ‫الخارج دون إذن من قيود نسبية للذكور‪،‬‬ ‫يمكن القول بأنها أكثر‪ ،‬وهو أمر هام في الحد‬ ‫من مشاركتهن االقتصادية الكاملة من الحظر‬ ‫ً‬ ‫املفروض على القيادة‪ .‬ووفقا للبنك الدولي‪،‬‬ ‫فإن ‪ %90‬من اقتصادات العالم ال تزال لديها‬ ‫قانون واحد على األقل يعرقل الفرص‬ ‫االقتصادية للمرأة‪ .‬وعلى الرغم من‬ ‫التحسينات السريعة في وضع املرأة في مجاالت‬

‫في عام ‪ ،2009‬عينت إدارة أوباما أول سفير‬ ‫أمريكي لقضايا املرأة العاملية لقيادة الجهود‬ ‫األميركية على هذه الجبهة‪ .‬وفي عام ‪،2011‬‬ ‫استضافت الواليات املتحدة االجتماع‬ ‫الوزاري األول ملنتدى التعاون االقتصادي‬ ‫آلسيا واملحيط الهادئ بشأن املرأة في‬ ‫االقتصاد‪ ،‬الذي أدى إلى التزامات تاريخية‬ ‫بتعزيز إدماج املرأة في مكان العمل‪ ،‬بما في‬ ‫ذلك من خالل اإلصالح القانوني‪ .‬وفي عام‬ ‫‪ ،2014‬عملت الواليات املتحدة مع قادة‬ ‫مجموعة العشرين لوضع هدف طموح لزيادة‬ ‫مشاركة املرأة في القوى العاملة بنسبة ‪ 25‬في‬ ‫املائة خالل العقد املقبل‪ ،‬وهو هدف من‬ ‫شأنه أن يضيف ما يقدر بنحو ‪ 100‬مليون‬ ‫امرأة إلى قوة العمل العاملية‪.‬‬

‫وال تؤدي هذه اإلصالحات إلى زيادة دخل املرأة‬ ‫ً‬ ‫فحسب‪ ،‬وإنما تؤدي أيضا إلى إحداث أثر‬ ‫ً‬ ‫مضاعف‪ ،‬حيث أن النساء أكثر احتماال‬ ‫الستثمار إيراداتهن في صحة أطفالهن‬ ‫وتغذيتهم وتعليمهم‪.‬‬

‫وينبغي إلدارة ترامب أن تدعم هذه املبادرات‬ ‫وأن تضع سياسات جديدة من شأنها أن‬

‫‪55‬‬


‫ً‬ ‫تحفز املرأة اقتصاديا في جميع أنحاء العالم‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من أن اإلدارة تعرضت النتقادات‬ ‫مبررة لتقويض حقوق املرأة في مجاالت‬ ‫الصحة والتعليم وغيرها من املجاالت‪ ،‬فإنها‬ ‫تعترف بأهمية املشاركة االقتصادية للمرأة‪.‬‬ ‫وفي تموز ‪ /‬يوليه‪ ،‬وضعت واشنطن موارد‬ ‫دبلوماسية ومالية لتطوير مبادرة تمويل‬ ‫املشاريع الخاصة باملرأة‪ ،‬وهي شراكة مع‬ ‫البنك الدولي والبلدان األخرى التي ستستفيد‬ ‫من تمويل قدره بليون دوالر لتحسين فرص‬ ‫حصول املرأة على رأس املال‪.‬‬

‫تنظيم املشاريع النسائية‪ ،‬على اإلدارة الحالية‬ ‫ً‬ ‫اعتماد نهج أكثر شموال‪ .‬ولن يتم الوصول إلى‬ ‫رأس املال إال إذا تم إلغاء الحظر القانوني‬ ‫لدخول املرأة في عالقات تجارية أو شغل‬ ‫مناصب متاحة للرجال‪.‬‬ ‫وينبغي أن تبدأ الواليات املتحدة بربط‬ ‫املساعدة اإلنمائية بالتقدم املحرز للمشاركة‬ ‫االقتصادية للمرأة‪ ،‬وهي استراتيجية من‬ ‫ً‬ ‫شأنها أيضا أن تحافظ على التزام اإلدارة‬ ‫بكفاءة اإلنفاق العام‪ .‬بعض املنظمات تفعل‬ ‫ذلك بالفعل‪ .‬فعلى سبيل املثال‪ ،‬تقوم‬ ‫مؤسسة تحدي األلفية‪ ،‬وهي وكالة معونة‬ ‫تمولها الحكومة األمريكية‪ ،‬بتقييم الوضع‬ ‫القانوني للمرأة في بلد معين عند اتخاذ قرارات‬

‫في نهاية املطاف‪ ،‬مشاركة املرأة االقتصادية‬ ‫يحسن املجتمعات ويدفع بمعدالت النمو‪.‬‬ ‫ولتوليد عائدات حقيقية يمكن استثمارها في‬

‫‪56‬‬


‫طريق تحقيق التكافؤ بين الجنسين في‬ ‫االقتصاد العاملي‪.‬‬

‫بشأن ما إذا كان ينبغي تقديم املساعدة‬ ‫وتقييم العوامل بما في ذلك قدرة املرأة على‬ ‫توقيع عقد أو تسجيل نشاط تجاري‪ ،‬واختيار‬ ‫مكان السكن‪ ،‬والسفر بحرية‪ ،‬والعمل‬ ‫كرئيس لألسرة‪ ،‬والحصول على عمل دون‬ ‫إذن‪.‬‬

‫وعلى كل حال‪ ،‬يجب تنفيذ اإلصالحات في‬ ‫السياق الثقافي الذي أدى إلى انتشار التمييز‬ ‫في املقام األول‪ .‬ولن يعزز تعزيز املساواة على‬ ‫ً‬ ‫الورق بالضرورة حالة املرأة عمليا‪ .‬والتقدم‬ ‫الحقيقي يتطلب اإلنفاذ‪ ،‬الذي يعرض‬ ‫تحدياته الخاصة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن إزالة‬ ‫الحواجز القانونية التي تحول دون املشاركة‬ ‫االقتصادية للمرأة أساسية‪ .‬وبدون هذه‬ ‫اإلصالحات‪ ،‬ال يمكن للمرأة أن تقيم حقها في‬ ‫املنافسة في السوق‪ .‬وتبين البحوث أن‬ ‫اإلصالحات القانونية يمكن أن تعجل‬ ‫ً‬ ‫بالتغيرات املجتمعية األوسع نطاقا‪ ،‬ال سيما‬ ‫عندما تقترن بمبادرات التعليم املجتمعي‪.‬‬

‫ويضطلع صندوق النقد الدولي بالفعل‬ ‫ببرنامج تجريبي يتضمن تقييمات للمساواة‬ ‫القانونية في عملية استعراض األوضاع في ‪20‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بلدا تتلقى قروضا من صندوق النقد الدولي‪.‬‬ ‫وينبغي أن يوسع نطاق هذه السياسة لتشمل‬ ‫جميع البلدان املتلقية‪ ،‬وأن يصبح هذا النهج‬ ‫ممارسة موحدة في املؤسسات املالية متعددة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األطراف األخرى أيضا‪ ،‬بدءا من املصارف‬ ‫اإلنمائية اإلقليمية ودون اإلقليمية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وأخيرا‪ ،‬ينبغي لواشنطن أن توجه االنتباه إلى‬ ‫الحواجز القانونية املستمرة التي ال تزال‬ ‫تعرقل املرأة االقتصادية والفرص والنمو‬ ‫ً‬ ‫االقتصادي األوسع نطاقا‪ .‬ويمكن أن تبدأ‬ ‫وزارة الخزانة األمريكية والدوائر الحكومية‬ ‫باإلفراج عن ترتيب سنوي للبلدان‪ ،‬على غرار‬ ‫تقرير وزارة الخارجية األمريكية بشأن االتجار‬ ‫باألشخاص‪ .‬وستؤدي هذه العملية إلى زيادة‬ ‫الوعي وخلق املنافسة وتحفيز اإلصالحات على‬ ‫الصعيد القطري‪ .‬ومن املؤكد أن اإلصالحات‬ ‫القانونية ليست سوى خطوة واحدة على‬

‫ففي السنغال‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬أدى الحظر‬ ‫املفروض على تشويه األعضاء التناسلية‬ ‫لإلناث‪ ،‬مقترنا بحملة إعالمية‪ ،‬إلى انخفاض‬ ‫معدل املمارسة بسرعة أكبر مما كان عليه‬ ‫الحال في البلدان املماثلة التي ظلت فيها‬ ‫قانونية‪ .‬ومن خالل تشجيع اإلصالحات‬ ‫القانونية ودعم الجهود الشعبية لتغيير‬ ‫املعايير‪ ،‬يمكن للواليات املتحدة أن تحسن‬ ‫بشكل ملموس املشاركة االقتصادية للمرأة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولدى املض ي قدما في هذا البرنامج‪ ،‬يجب على‬ ‫واشنطن أال تستجيب للناجعين الذين‬

‫‪57‬‬


‫ّيدعون أن تعزيز املساواة بين الجنسين يشكل‬ ‫إمبريالية ثقافية‪ .‬وتتجاهل هذه التأكيدات‬ ‫انتشار الجماعات املحلية التي تقاتل من أجل‬ ‫إدماج املرأة في جميع أنحاء العالم‪ ،‬بما في ذلك‬ ‫في اململكة العربية السعودية‪ ،‬حيث تقوم‬ ‫النساء بحمالت من أجل الحق في القيادة منذ‬

‫أن قامت ‪ 40‬امرأة شجاعة ألول مرة بمظاهرة‬ ‫في أوائل التسعينيات‪ .‬ويتجاهل هؤالء النقاد‬ ‫ً‬ ‫أيضا الحالة االقتصادية املقنعة إلدماج‬ ‫املرأة‪ ،‬التي تغلف بالفعل التغيير في جميع‬ ‫أنحاء العالم‪.‬‬

‫املصدر‪:‬‬ ‫‪https://www.foreignaffairs.com/articles/2017-12-12/let-women-work?cid=nlc-fa_twofa‬‬‫‪20171214‬‬ ‫خاص “شبكة املرأة السورية”‬

‫‪58‬‬


‫احلركة النسوية‬ ‫هدى عباس‬

‫تشكّل الحراك النسوي في العالم بعد إعالن الوثيقة‬ ‫الفرنسية حول مشاركة المرأة في صناعة القرار‬ ‫السياسي‪ ،‬فبعد عام من إعالن الوثيقة‪ ،‬أصدرت ماري‬ ‫كرافت‪ ،‬كتابها "حقوق النساء" وفيه عاينت مشاكل المرأة‬ ‫حول الطغيان المنزلي‪ ،‬وإنكار الحقوق السياسية‪.‬‬

‫أرس ى عصر التنوير األوروبي القواعد اإلنسانية الحديثة بحقوق البشر في الحرية واملساواة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُمنتهجا‪ ،‬ضمن أسسه‪ ،‬القطيعة مع التاريخ القديم بكل مؤسساته وأشكاله‪ ،‬منذ اللحظة التي أطلق‬ ‫فيها فولتير عبارته التي ما زال يتردد صداها حتى اليوم‪" :‬قد اختلف معك في الرأي‪ ،‬لكني مستعد‬ ‫ً‬ ‫ألدفع حياتي ثمنا لحقك في قول رأيك"‪ .‬ليتبعها بعد ذلك جان جاك روسو في كتابه "العقد‬ ‫االجتماعي" ويحدد التفسير الواقعي لعبودية اإلنسان وطرق خالصه‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫منذ ذلك الوقت‬ ‫أضحى العالم أمام‬ ‫تغيير جديد وجذري‬ ‫وسيساهم بخلق بذور‬ ‫التوعية الشاملة في‬ ‫كافة مناحي الحياة‪،‬‬ ‫فمع اقتراب نهاية‬ ‫القرن الثامن عشر‪،‬‬ ‫أوروبا‬ ‫اجتاحت‬ ‫الثورات الشعبية‬ ‫التي ستعيد صياغة‬ ‫املفاهيم القديمة حول اإلنسان وأهدافه‬ ‫وطريقة حياته‪ .‬ومن أهم تلك الصيغ‪ ،‬الوثيقة‬ ‫التي ّ‬ ‫نصت على إعطاء املرأة حقوقها‬ ‫ومواطنتها عام ‪ .1791‬ومنذ ذلك التاريخ‬ ‫وضعت املرأة خطوتها األولى في الطريق‬ ‫املشترك الذي سيصنع الحياة واملستقبل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فأضحت املرأة عنصرا فاعال في الحياة‬ ‫البشرية‪ ،‬وانطلقت من كونها أداة تنفيذية‬ ‫للمنهج الذكوري إلى كيان مشارك بكل‬ ‫التفاصيل‪ .‬لم تكن الحقوق في ذلك الزمن‬ ‫على املستوى املطلوب ملعنى التحرر الذي‬ ‫يتمتع به املجتمع الذكوري‪ ،‬لكن مع ذلك كان‬ ‫بادرة أولى في طريق سيؤدي إلى نضال تحرري‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تشكل الحراك النسوي في العالم بعد إعالن‬ ‫الوثيقة الفرنسية حول مشاركة املرأة في‬ ‫صناعة القرار السياس ي‪ ،‬فبعد عام من إعالن‬

‫الوثيقة‪ ،‬أصدرت ماري كرافت‪ ،‬كتابها‬ ‫"حقوق النساء" وفيه عاينت مشاكل املرأة‬ ‫حول الطغيان املنزلي‪ ،‬وإنكار الحقوق‬ ‫السياسية‪ ،‬وفرص التعليم والعمل‪ ،‬ونقدت‬ ‫مؤسسة الزواج باعتبارها دعارة قانونية‪ .‬كان‬ ‫الكتاب بمثابة محرك لتوعية املرأة بخطورة‬ ‫واقعها‪ ،‬ومن خالله اتسعت رقعة الحراك‬ ‫النسوي في العالم‪ ،‬داخل فرنسا وبريطانيا‬ ‫وامتد إلى أمريكا‪ ،‬خالل النصف األول من‬ ‫القرن التاسع عشر‪ .‬لكن تلك الفترة كانت‬ ‫أضعف من تحقق ش يء واقعي‪ ،‬العتمادها في‬ ‫الدرجة األولى على الطروحات العامة التي‬ ‫انتهجتها الثورات األوروبية في التحرر دون‬ ‫التوقف والتركيز على تفاصيل املعاناة وإيجاد‬ ‫أهداف واضحة للمرأة‪ ،‬والسبب الثاني هو‬ ‫قيادة الطبقة البرجوازية من النساء لذلك‬

‫‪60‬‬


‫ـ والتيار الثالث كان ذو الطبيعة‬ ‫االشتراكية املتمثل في ليلي براون وكالرا‬ ‫زيتكن وألكسندرا كولنتاي‪ ،‬الذي اعتمد‬ ‫املنهج املاركس ي في معالجة قضية املرأة‬ ‫باعتبارها جزء من نظم العالقات‬ ‫االقتصادية وأن تحررها يقوم على إنهاء‬ ‫االستغالل االقتصادي وليس محاربة‬ ‫الذكر أو دعوات للتحرر املطلق من‬ ‫املجتمع‪.‬‬

‫الحراك الذي اكتفى باملسائل العامة‪ .‬لكن مع‬ ‫بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يتشعب‬ ‫اتخذ الحراك طابعا ُمختلفا‪ ،‬وبدأ‬ ‫بين عدة تيارات‪ ،‬رغم نيلها حق التصويت‬ ‫السياس ي في بريطانيا وأمريكا وكندا وأملانيا‬ ‫والسويد‪ ،‬وانتشار الحركات النسوية في كل‬ ‫ً‬ ‫أصقاع األرض وصوال إلى الهند واندونيسيا‬ ‫واليابان‪.‬‬ ‫اتخذ الحراك النسوي عدة تيارات‪ ،‬سيطرت‬ ‫من خاللها على األفكار العامة حول موضوع‬ ‫املرأة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ـ التيار األول كان هو الليبرالي الذي تمثل‬ ‫في هيلينا النغ وجرترود باومير‪ ،‬حيث‬ ‫أتت طروحاته من خالل التحرر املطلق‬ ‫من السلطة االجتماعية واالقتصادية في‬ ‫الدرجة األولى املحكومة بالنظام‬ ‫البطريركي‪.‬‬

‫التيارات‬ ‫تلك‬ ‫الرئيسية الثالث التي‬ ‫سادت في املوجة‬ ‫األولى من تاريخ‬ ‫الحراك النسوي‪.‬‬ ‫وفيه حددت املرأة‬ ‫وبدأت تعي طبيعة‬ ‫العالم‬ ‫تشكيل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اقتصاديا وسياسيا وعليه أصبحت املعطيات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أكثر وضوحا واألهداف أكثر تحديدا‪.‬‬

‫ـ والثاني كان ذو الطبيعة الراديكالية‬ ‫املتمثل في جوستافا هيمان وأنيتا‬ ‫أوغسبورغ وجوزفين بتلر‪ ،‬والذي اتخذ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫موقفا جذريا من أن االقتصاديات‬ ‫الجنسية هي سبب خضوع املرأة‪ ،‬وتم‬ ‫طرح قانون الزواج الحر بشكل كامل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غير منقوص‪ ،‬حيث كان فعاال جزئيا‪،‬‬ ‫على حساب الزواج األبوي الساري‪،‬‬ ‫وانتشار دعوات مقاطعة الزواج‪.‬‬

‫ففي خطاب زيتكن التي ألقته في مؤتمر غوته‬ ‫للحزب االشتراكي الديمقراطي عام ‪،1896‬‬ ‫حددت الصورة األولى ملهمة املرأة‪:‬‬ ‫ـ ال يوجد ش يء يمكن وصفه “بالحركة‬ ‫النسائية” قائم بذاته‪ .‬توجد الحركة‬ ‫النسائية فقط في سياق التطور‬ ‫التاريخي‪ ،‬ومن ثم هناك حركة نسائية‬

‫‪61‬‬


‫برجوازية وأخرى عمالية‪ ،‬وليس بين‬ ‫هاتين ارتباط أكثر مما هنالك بين‬ ‫االشتراكية الديمقراطية واملجتمع‬ ‫البرجوازي"‪.‬‬

‫ـ إن النشاط النسائي صعب‪ ،‬فهو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يتطلب عمال كثيرا وتفانيا كبيرا‬ ‫وتضحيات ضخمة‪ ،‬لكنها تضحيات‬ ‫ستثمر وال مفر منها‪ ،‬فالطبقة العاملة ال‬ ‫تستطيع بلوغ انعتاقها إال إذا ناضل كل‬ ‫ً‬ ‫أبنائها معا‪ ،‬دون تمييز حسب الجنس‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وحينها بدأت املرأة تكتسب حقوقها تدريجيا‬ ‫ضمن الشكل االقتصادي مع ظهور املوجة‬ ‫الثانية للحركة النسوية والتي بدأت مع‬ ‫أواسط القرن العشرين‪ ،‬حيث بدأ الحراك‬ ‫النسوي بالتقهقر نتيجة الحربين العامليتين‪،‬‬

‫ولم تكتفي الحركة النسوية بتيارها االشتراكي‪،‬‬ ‫نتيجة اتساعه على حساب التيارين الليبرالي‬ ‫والراديكالي‪ ،‬عند التفسير النظري‪ ،‬بل دعت‬ ‫إلى التحرر في قضايا العمل واملساواة في األجر‪،‬‬ ‫واإلجازة املدفوعة لرعاية األطفال وحق‬ ‫التعليم‪ ،‬في ذات الخطاب تكمل زيتكن‪:‬‬

‫‪62‬‬


‫عادت النسوية للحراك العاملي‪ ،‬وساهمت‬ ‫بدور أساس ي في هذه النضاالت‪.‬‬

‫وبدأت املرأة تعود إلى وضعها التاريخي املنزلي‪.‬‬ ‫في تلك الفترة أصدرت سيمون دي بوفوار‬ ‫كتابها الجنس اآلخر‪ ،‬الذي تبنى مقولة "رقي‬ ‫الوعي" لكنه كان أشبه بصرخة في الفراغ‪،‬‬ ‫رغم التفاف الكثير من الناشطات النسويات‬ ‫حول بوفوار وطروحاتها في ذلك الوقت‪ ،‬والتي‬ ‫ً‬ ‫وجدن فيها تقاطعا ُبني على طرح‪" ،‬أن األنوثة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫التقليدية كانت وستظل تمثل مرضا عضاال‪،‬‬ ‫وأن تغيير العالم يجب أن يتم بشكل راديكالي‬ ‫مرهون بتغيير وضع النساء في العالم بشكل‬ ‫ً‬ ‫راديكالي أيضا"‪.‬‬ ‫وكان من دعاة‬ ‫ذلك الطرح‪،‬‬ ‫روس ي بريدوتي‪،‬‬ ‫وكيلي أوليفر‪،‬‬ ‫وإليزابيث‬ ‫غروش‪ ،‬وتوريل‬ ‫موي‪ ،‬وتيريسا‬ ‫برينن‪ .‬لكن رغم‬ ‫الجهود املبذولة‬ ‫كان االنحسار حليف الحركة‪.‬‬

‫لكن في هذه الفترة عاد الحراك النسوي‬ ‫ً‬ ‫لتياراته القديمة نسبيا‪ ،‬واعتمادها بشكل‬ ‫أساس ي على الطروحات الفلسفية لبوفوار‬ ‫من جديد‪ ،‬فعادت النسوية الراديكالية‬ ‫ً‬ ‫للظهور بشكل أعنف وأكثر تحيزا‪ ،‬والتي‬ ‫طالبت بمحاربة السلطة األبوية وكل‬ ‫املؤسسات الذكورية بما فيها النقابات‬ ‫العاملية‪ ،‬وتم طرح مبدأ النساء طبقة‬ ‫اجتماعية والرجال طبقة أخرى‪ .‬وباملقابل‬ ‫انتشرت حركة النساء االشتراكيات‪ ،‬حيث‬ ‫عقدن تحالفات مع الجماعات والطبقات‬ ‫املقموعة األخرى‪ ،‬حركة معاداة اإلمبريالية‪،‬‬ ‫منظمات العمال‪ ،‬أحزاب سياسية يسارية‪،‬‬ ‫وخضن نقاشات مضنية مع الرجال‬ ‫املقموعين في تلك املؤسسات عن أهمية‬ ‫النضال النسوي‪ ،‬وكيف ينعكس القمع ضد‬ ‫النوع على العالقات األسرية والشخصية وفي‬ ‫بنية حركات وأحزاب التحرير ذاتها‪.‬‬ ‫لكن تلك الصراعات الديمقراطية للمرأة‬ ‫ونضالها عادت للتالش ي مع ظهور‬ ‫ديكتاتوريات العالم الثالث ووصول تاتشر في‬ ‫بريطانيا وريغن في أمريكا لسدة الحكم‪ .‬حيث‬ ‫بدأت سياسة الحط من املجتمع‬ ‫والخصخصة‪ ،‬فقد تم تخفيض الخدمات‬

‫لكن مع ستينيات القرن العشرين‪ ،‬وانتشار‬ ‫حرب العصابات في أمريكا الالتينية والحراك‬ ‫الطالبي في أوروبا وصراعات التحرير في‬ ‫أفريقيا وثورات أسيا ضد األنظمة القديمة‬ ‫وهجمة البيض في أمريكا على العرق األسود‪،‬‬

‫‪63‬‬


‫الذين هبطوا إلى أحط درجة في السلم‬ ‫االجتماعي‪ ،‬ودفعهم يأسهم إلى صب جام‬ ‫غضبهم على النساء واألقليات العرقية‪.‬‬

‫العامة التي تعتمد عليها النساء‪ ،‬وتم محو‬ ‫املكاسب املحدودة للمرأة في حركة نقابة‬ ‫العمال‪ .‬وتولدت طبقة تحتية جديدة معدمة‬ ‫من الفقراء والعاطلين عن العمل ‪ % 65‬منهم‬ ‫من النساء‪ ،‬والعديد منهن أمهات غير‬ ‫متزوجات‪ .‬وتم تقليل اإلغانة االجتماعية‪،‬‬ ‫وأدى خفض الدعم للصحة والتعليم إلى‬ ‫كارثة للمرأة التي تحتاج للخدمات الصحية‬ ‫أكثر من الرجل في الحمل والوالدة ورعاية‬ ‫األطفال‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أدى ذلك أيضا في عهد ريغان إلى تصاعد‬ ‫العنصرية والعنف ضد املرأة من قبل الرجال‬

‫ذلك التاريخ للحركة النسوية بمراحل‬ ‫اضطراباته ونضاالته وانشقاقاته ما زال‬ ‫ً‬ ‫مستمرا حتى اليوم في كل أصقاع العالم‬ ‫الحديث‪ ،‬وأصبح خارج نطاق التحديد‬ ‫االجتماعي والسياس ي‪ ،‬وتحول بشكله العام‬ ‫إلى جانب راديكالي‪ ،‬يفسر صورة القمع‬ ‫النسائي إلى الذكورة االجتماعية وليس لبنية‬ ‫االقتصاد العاملي‪.‬‬

‫المراجع‬ ‫‪-1‬‬ ‫‪-2‬‬ ‫‪-3‬‬ ‫‪-4‬‬

‫كتاب الحركة النسوية‪ ،‬واتكنزرويدا‪.‬‬ ‫كالرا زيتكن‪ :‬الكلمة التي ألقيت في مؤتمرغوته للحزب االشتراكي الديمقراطي عام ‪.1896‬‬ ‫ُ‬ ‫أليس جاردن ? ‪ What Feminism‬مقال نشر في مجلة ‪ Culture & socity،French politics‬العدد الثاني‬ ‫‪ .2010‬وتمت ترجمة املقال د‪ .‬محمد السيد‪ ،‬ونشرت الترجمة في مجلة الثقافة العاملية يوليو ‪.2015‬‬ ‫ويكبيديا‪ ،‬النسوية وبيوغرافي النسوية في التاريخ‪.‬‬

‫هدى عباس‬ ‫ناشطة نسوية‪ ،‬تهتم بقضايا املرأة‪ ،‬تقيم يف سوريا‪.‬‬

‫‪64‬‬


‫املرأة واجملتمع‪..‬‬ ‫سارة عز‬ ‫تحتاج قوى المعارضة إلى تسهيل عملية تمكين المرأة‪،‬‬ ‫والعمل حتى تصل إلى كلّ المراحل المطلوبة‪ ،‬من أجل‬ ‫تثبيت حضورها بالحدّ األدنى الذي شرّعته الكوتا‬ ‫النسائية في محافل الشرعية الدولية واألممية‪.‬‬

‫كانت وال زالت املرأة في مجتمعنا أيقونة ذات شكل وأبعاد محددة‪ ،‬غير مسموح لها باملجمل الخروج‬ ‫ً‬ ‫عن حدود هذه األيقونة‪ ،‬لها ـ وليس دائما ـ حرية التنقل داخل حدود هذه األيقونة‪ .‬قد يقول قائل‬ ‫َّأن هذا الكالم أصبح سفسطائي َوك ُث َر استهالكه ّ‬ ‫وأن اآلن للمرأة ما للرجل‪ ،‬قد يكون هذا الرأي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حد ما‪ ،‬ولكن لنتوغل قليال في حقيقة واقع املرأة وال نكتفي بظاهر وضعها‪.‬‬ ‫صحيحا إلى ٍ‬

‫‪65‬‬


‫أوالدها فقط! وبهكذا ممارسات وعلى ّ‬ ‫مر‬ ‫العقود أصبحت األنثى ّ‬ ‫بحد ذاتها معجونة‬ ‫بهذه األفكار‪ ،‬مهما قاست وعانت من‬ ‫ً‬ ‫صعوبات في الحياة‪ ،‬ابتداءا من نظرات الناس‬ ‫املستنكرة ألدنى حرية من املمكن أن تمتلكها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وصوال لضرورة انصياعها للرأي العام مهما‬ ‫كلفها هذا من فقدان لشخصيتها ووجودها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وكأنها ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتعدى كونها شيئا يملكه املجتمع‬ ‫ً‬ ‫وليست فردا به‪.‬‬

‫على الرغم من التطور امللحوظ بال شك في‬ ‫مجاالت مشاركة املرأة وانخراطها في أشكال‬ ‫الحياة املختلفة‪ ،‬فال نستطيع إنكار ّأنها اليوم‬ ‫ً‬ ‫قادرة على التعلم والعمل بسهولة كبيرة جدا‬ ‫بمقارنة ما كان عليه وضعها منذ ّ‬ ‫عدة عقود‬ ‫َ‬ ‫دون عناء خوض الحروب مع األسرة واملجتمع‬ ‫املحيط بها ليتقبلوا هكذا أفكار‪ّ ،‬‬ ‫ولكنها وعلى‬ ‫الرغم من هذا ال زالت غير قادرة على امتالك‬ ‫زمام أمورها‪ ،‬فما زال الذكر وص ٌّي عليها‪ ،‬وما‬ ‫ً‬ ‫تأخذه من حقوق يبقى خاضعا تحت إطار‬ ‫الهبة من هذا الوص ي‪ ،‬وتبقى حقوقها تحت‬ ‫خطر التهديد إن ارتكبت ّ‬ ‫أي خطأ فإن الوص ي‬ ‫قادر بقرار ّ‬ ‫منه سلبها ُج ّل ما تمتلك من حياة‪،‬‬ ‫أو إن استبدل رأيه لسبب ما‪.‬‬

‫بالطبع عندما‬ ‫أقول املجتمع فأنا‬ ‫ال أقصده بذكوره‬ ‫فقط‪ ،‬ال بل بإناثه‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ولألسف َّأن‬ ‫األنثى في مجتمعنا‬ ‫ً‬ ‫غالبا ما تكون‬ ‫السيف ذو النصل‬ ‫األكثر ّ‬ ‫حدة على‬ ‫ولعل هذا يعود َّ‬ ‫ُع ُنق شقيقاتها! ّ‬ ‫ألمور‬ ‫مرده‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫كثيرة‪ ،‬بداية إلى الطبيعة واألحكام املطلقة‬ ‫التي نشأت عليها‪ ،‬فأصبحت الواحدة تقف في‬ ‫ّ‬ ‫الصف املقابل لألنثى في مشكلة ما‪ ،‬لتضمن‬ ‫لنفسها السيرة الحسنة واملكانة داخل‬ ‫املجتمع وعلى ّأنها األكثر ّ‬ ‫مثالية في ر ّأيه‪ ،‬فعلى‬ ‫لتحرش جنس ي‬ ‫سبيل املثال إذا تعرضت فتاة‬ ‫ٍ‬ ‫تجد املجتمع ـ بفتياته على وجه الخصوص ـ‬ ‫يصب الخطأ األكبر على تلك الفتاة التي‬

‫بالتأكيد املجتمع يحتوي على نماذج كثيرة‪ ،‬وال‬ ‫يصح تعميم الكالم واألحكام‪ّ ،‬‬ ‫وأن هنالك‬ ‫أشخاص قد خرجوا من تأثير بوتقة املجتمع‬ ‫املظلمة التي تلقي بظاللها عليه‪ّ ،‬‬ ‫ولكن لنكن‬ ‫صريحين بكوننا داخل مجتمعات محافظة‪،‬‬ ‫ومن أراد أن ّ‬ ‫يحيا داخلها عليه أن يسايرها إلى‬ ‫حد ما‪ ،‬وهذا التعايش سيخلق بال شك روح‬ ‫ٍ‬ ‫تتماش ى معه‪ .‬في املجتمعات املتخلفة والتي‬ ‫يغلبها الجهل تبقى األنثى رمز الشرف‪ ،‬ومكب‬ ‫ّ‬ ‫تنصب أخطاء‬ ‫انفعاالت املجتمع‪ ،‬فعليها‬ ‫َّ‬ ‫شب األوالد وفي‬ ‫املجتمع جمعاء‪ ،‬فإذا‬ ‫أخالقهم اعوجاج َّ‬ ‫فإن اللوم يقع على عاتقها‬ ‫فهي املسؤولة الوحيدة عن تربيتهم َّ‬ ‫وكأنهم‬

‫‪66‬‬


‫تجرأت على الخروج بلباس‬ ‫معين! ّ‬ ‫وكأن هكذا فعل يبيح أقبح‬ ‫جريمة من املمكن أن تحصل‬ ‫لإلنسان في حياته! فتجد‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫الفتيات كمن غ ِّي َب تماما عن‬ ‫التفكير باتخاذهن مواقف تدين‬ ‫الضحية وتبرئ الجاني فقط‬ ‫ّ‬ ‫وليبعدن عن‬ ‫ليبدون مثاليات‬ ‫َّ‬ ‫أنفسهن َ‬ ‫شبح التهمة‪ ،‬وبأفكارهن‬ ‫التي تفيد بإباحة ّ‬ ‫كل ش يء للذكر‬ ‫وتحرمه على األنثى‪ ،‬هذا غير‬ ‫مشاعر الحسد التي قد تتملكهن‬ ‫ّ‬ ‫وهن غير قادرات على الوصول‬ ‫َّ‬ ‫إحداهن‬ ‫ملكانة ما قد وصلت اليها‬ ‫حرية حصلت عليها وهنَّ‬ ‫أو على ّ‬ ‫غير قادرات على الحصول عليها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫برغبتهن‬ ‫فبدال من التصريح‬ ‫بالحياة واالعتراف بأمنياتهن‬ ‫تجدهن يخطئنها ويخرجنها عن‬ ‫دائرة املجتمع‪ ،‬قليالت اللواتي يبدين‬ ‫إعجابهن بش يء تمتلكه فتاة ّ‬ ‫َّ‬ ‫هن غير قادرات‬ ‫على امتالكه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الضحية وحيدة‬ ‫وهكذا غالبا ما نرى األنثى‬ ‫مآس‪ ،‬وفي حاالت معينة‬ ‫مهما بلغ وضعها من ٍ‬ ‫إن استلمت األنثى منصب ما‪ ،‬فإنها تسارع‬ ‫التخاذ القرارات القاسية باتجاه زميالتها‬ ‫ّ‬ ‫التحيز لهم‪ ،‬وقد تتفانى في‬ ‫لتبعد عنها شبح‬

‫عملها لدرجات كبيرة لتدفع االتهامات التي ال‬ ‫ُب َّد أن تكون موجودة بأنها ليست بالكفاءة‬ ‫ّ‬ ‫املطلوبة وأنه هنالك العديد من الذكور من‬ ‫هم ّ‬ ‫أحق ّمنها باملنصب وأكثر قدرة على القيام‬ ‫ً‬ ‫به‪ ،‬وهكذا نرى ّأنها دائما في حالة الدفاع‪،‬‬ ‫ويحيط بها جو من التوتر الدائم ألنها موضع‬ ‫اتهام دائم وقد تخسر ما تملكه! ونجد مهما‬ ‫بلغت املرأة من مكانة علمية أو اجتماعية في‬

‫‪67‬‬


‫االهتمام األكبر ولتهمل ما في الحياة من‬ ‫حيوات أخرى‪ ،‬مع التأكيد الدائم أن األنثى‬ ‫ٍ‬ ‫املتعلمة واملثقفة تأخذ شكل يطلق عليه‬ ‫باملرأة املسترجلة! وبنفس الوقت نرى شباب‬ ‫هذا العصر يدعون الفتيات بالسطحية‬ ‫والسذاجة وما هنالك من صفات مشابهة‬ ‫ً‬ ‫متناسين دعوتهم لهكذا أمور مسبقا‪!!.‬‬

‫املجتمع فإنها تبقى خاضعة ذلك الخضوع‬ ‫ُ‬ ‫املستكين لزوجها‪ ،‬فنرى تلك العبارات‬ ‫السائدة التي تؤكد َّأن املرأة رهينة زوجها َّ‬ ‫وأن‬ ‫مهمتها في خدمته هي األولى واألساسية ودونها‬ ‫ليس لها قيمة مهما بلغت من مكانة‪ ،‬وهذا‬ ‫َ‬ ‫ليس من باب الحب لزوجها وال حتى من باب‬ ‫ً‬ ‫الواجب إن َّ‬ ‫صح التعبير‪ ،‬ال بل يأخذ شكال‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫التبعية املغلفة بالعبودية املبطنة‪،‬‬ ‫من أشكال‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫فهو سندها ومالذها ووجوده رحمة لها ألنها‬ ‫ّ‬ ‫األمرين في مواجهة هذا‬ ‫من غيره ستعاني‬ ‫َّ‬ ‫يعانين من‬ ‫العالم املتوحش! فنجد كثيرات‬ ‫َّ‬ ‫ولكنهن قانعات خاضعات ملا‬ ‫حياة قاسية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫اختار لهن القدر فال حياة للمرأة من بعد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سندها وإن كان ظاملا متعديا عليها وعلى‬ ‫كيانها‬ ‫ّ‬ ‫تخص أهمية‬ ‫ونرى تلك األعراف املنتشرة التي‬

‫إن أردنا أن نتطور كمجتمع علينا إعطاء األنثى‬ ‫حرية تقرير مصيرها دون تسلط الوحش‬ ‫القادر على سلبها ما تملك‪ ،‬فلتكن عندما‬ ‫تختار بيتها وزوجها متفانية لهما‪ ،‬وليست‬ ‫مجبرة على القيام فيما تقوم به‪ ،‬وكالمي هذا‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ليس دعوة ألن تخرج األنثى عن بيتها وأسرتها‬ ‫أو أن تتشبه بالذكور‪ ،‬بل فقط ّأن تكون َّ‬ ‫هي‬ ‫ّ‬ ‫بدون تسلط من أحد‪ ،‬وأال تكون كالكرة التي‬ ‫ً‬ ‫مبتعدة َّ‬ ‫كل‬ ‫تتقاذفها األلسن واآلراء املختلفة‬ ‫البعد عن ّ‬ ‫ماهية نفسها الحقيقية‪.‬‬

‫األنثى بشكلها وجمالها وجعل هذا األمر أهم ما‬ ‫تملكه الفتاة‪ ،‬فيدفعنها لتولي مظهرها‬

‫سارة عز‬ ‫ناشطة سورية تهتم بقضايا املرأة تقيم يف فرنسا‪.‬‬

‫‪68‬‬


‫قانون محاية املرأة يف الشمال السوريّ…‬

‫نبال زيتونة‬ ‫تمّ توثيق عدد من حوادث خطف القاصرات من قبل‬ ‫وحدات حماية الشعب الكرديّة‪ .‬حيث اختطفت الطفلة‬ ‫“الفا أنور حنان” (‪ 14‬عاماً)‪ ،‬من أمام منزلها في قرية‬ ‫“معراتة” التابعة لمدينة عفرين‪ ،‬واقتيدت ألحد مراكز‬ ‫التدريب التابعة لهم‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الكردية في مناطق نفوذها في الشمال‬ ‫دخل قانون “حماية املرأة”‪ ،‬الذي أقرته اإلدارة الذاتية‬ ‫السوري‪ ،‬دخل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حيز التنفيذ عام ‪ .2014‬ويعتمد هذا القانون مبدأ املناصفة والتشاركية في إدارة‬ ‫ّ‬ ‫املؤسسات كافة‪ .‬ويقض ي بـ “ املساواة الكاملة بين الرجل واملرأة في جميع مجاالت الحياة‪ ،‬العامة‬ ‫والخاصة‪ .‬كما يقض ي ّ‬ ‫بحق املرأة في تشكيل تنظيمات سياسية واجتماعيـة واقتصاديـة وثقافيـة‪”.‬‬

‫‪69‬‬


‫فإذا نظرنا إلى هذا‬ ‫ّ ً‬ ‫متقدما‬ ‫القانون‪ ،‬نجده‬ ‫في ردم الفجوة التي‬ ‫ناضلت املرأة لردمها منذ‬ ‫عقود‪ .‬وهو أشبه‬ ‫ّ‬ ‫التشريعية‬ ‫بالقوانين‬ ‫ّ‬ ‫املدنية املعمول بها في‬ ‫أوروبا‪ ،‬كما ويعكس‬ ‫رؤية زعيم حزب العمال‬ ‫الكردستاني عبد هللا‬ ‫أوجالن لدور املرأة‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تستحق التوقف عندها‪،‬‬ ‫ظاهريا‬ ‫فالتجربة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫باعتبارها نموذجا مهما في اعتماد مشاركة‬ ‫املرأة كركيزة أساسية إلدارة املجتمع‬ ‫وتنظيمه‪ ،‬واملساهمة في بناء سوريا‬ ‫ّ‬ ‫ديمقراطية‪ ،‬تصان فيها الحقوق‬ ‫والحريات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتحقق املساواة الكاملة بين املرأة والرجل‪،‬‬ ‫كما ورد في نصوص ذلك القانون‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نطمئن إلى إنصاف املرأة في ّ‬ ‫ظل‬ ‫لكن‪ ،‬هل‬ ‫ّ‬ ‫سلطة‪ ،‬صدرت بحقها عشرات التقارير التي‬ ‫ّ‬ ‫توثق انتهاكاتها لحقوق اإلنسان؟‬ ‫ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫لقد علمتنا نظم االستبداد ّأن العتمة ال تولد‬ ‫ّ‬ ‫تجميلية‬ ‫رتوش‬ ‫إال العتمة‪ ،‬وما قوانينها سوى ٍ‬ ‫لواقع ّ‬ ‫ّ‬ ‫املنطقي أن تأخذ املرأة‬ ‫مر‪ .‬إذ ليس من‬ ‫حقوقها كاملة‪ ،‬في ّ‬ ‫ظل سلطة تمتلئ سجونها‬ ‫بمعتقلي الرأي من النساء والرجال‪ ،‬وحتى‬

‫ً‬ ‫فضال عن مخالفتها قوانين حقوق‬ ‫األطفال؟!‪..‬‬ ‫ً‬ ‫اإلنسان حينا‪ ،‬وارتكابها جرائم على أسس‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عرقية أحيانا أخرى‪.‬‬ ‫وما ذلك إال أسلوب قديم‪ ،‬لفرض رؤية‬ ‫شمولية‪ ،‬تسلب املرأة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حقها في‬ ‫أيديولوجية‬ ‫االختالف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أيديولوجي ًا هناك‪ّ ،‬‬ ‫تعرضت‬ ‫فاملرأة املختلفة‬ ‫كما الرجل؛ لالعتقال والتعذيب حتى املوت‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬كما طالها التغييب القسر ّي والتهجير‪.‬‬ ‫وفي الوقت الذي تجيز فيه سلطة اإلدارة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحق للمرأة بتشكيل تنظيمات‬ ‫الذاتية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومدنية‪ ،‬نجدها تعمل على إغالق‬ ‫سياسية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكردية‪،‬‬ ‫السياسية‬ ‫مقرات األحزاب‬ ‫ّ‬ ‫ومنظمات املجتمع املدني‪ ،‬واملرأة في مناطق‬ ‫ً‬ ‫ولدواع‬ ‫سيطرتها بحجة عدم الترخيص حينا‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫‪70‬‬


‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أمني ٍة أحيانا أخرى‪ .‬وقد ترافقت مع حاالت‬ ‫ّ‬ ‫اعتقال وخطف‪ ،‬وحرق‬ ‫للمقرات‪ ،‬في محاولة‬ ‫منها لحظر تلك األحزاب‪ ،‬واالستفراد بالحكم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكردي ”هوشنك أوس ي”‪ .‬وما‬ ‫حسب الكاتب‬ ‫ّ‬ ‫والفاشية التي‬ ‫ذلك إال دليل على االستبداد‬ ‫تمارسها هذه السلطة‪ ،‬كما يرى أوس ي‪.‬‬ ‫أما الكاتب والسياس ّي‪“ ،‬أحمد موس ى”‪ ،‬فيرى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املقرات وحرقها‪ ،‬إنما‬ ‫ّأن “سياسة إغالق‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذاتية سياسة األدلجة‬ ‫وقد اتبعت اإلدارة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التعليمية‪ ،‬إذ استندت هذه‬ ‫العملية‬ ‫حتى في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رئيسية‪ ،‬تتصدرها‬ ‫العملية إلى ثالث قواعد‬ ‫املتطلبات األيديولوجية‪ ،‬وثانيها اعتماد اللغة‬ ‫الكردية‪ ،‬والقاعدة الثالثة مرتبطة بضرورات‬ ‫التغيير وإعادة تأهيل البنى التعليمية‪ .‬وهذا ما‬ ‫ّ‬ ‫أوص ى به املؤتمر الثاني ملؤسسة اللغة‬ ‫ّ‬ ‫الكردية‪ ،‬الذي عقد في مدينة عفرين‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى ترسيخ النظام التعليمي وفق مبادئ األمة‬ ‫ً‬ ‫الديمقراطية‪ ،‬واستنادا إلى فلسفة قائد‬ ‫الشعب الكردي عبد هللا أوجالن‪ ،‬ووجوب‬ ‫خضوع جميع األعضاء للتدريب األيديولوجي‪،‬‬ ‫والثقافي واملسلكي‪.‬‬

‫للضغط على تلك األحزاب لالعتراف باإلدارة‬ ‫الذاتية وشرعنتها ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالقوة‪.‬‬ ‫وقد ّ‬ ‫تم إغالق أكثر من عشرين منظمة‬ ‫مدنية‪ ،‬وذلك لدواع ّ‬ ‫ّ‬ ‫أمنية حسب زعم سلطة‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫الذاتية‪.‬‬ ‫اإلدارة‬ ‫ّ‬ ‫ّأما فيما يتعلق بالحراك النسوي في املناطق‬ ‫ّ‬ ‫توعوية‬ ‫الكردية‪ ،‬فلم تكن أكثر من منظمات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫سياسية حسب الباحثة والناشطة‬ ‫وتبعية‬ ‫ّ‬ ‫الحقوقية “ميديا محمود”‪ ،‬حيث فشلت هذه‬ ‫ّ‬ ‫اك نسو ّي‪ .‬ويعود‬ ‫املنظمات في خلق حر ٍ‬ ‫ّ‬ ‫السبب برأي ميديا إلى استالب منظمات‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫النسوية‬ ‫املجتمع املدني عموما‪ ،‬والتنظيمات‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫السياسية‪.‬‬ ‫خصوصا من قبل الجماعة‬ ‫وحقوق املرأة جزء من حقوق اإلنسان‪ ،‬فمن‬ ‫ينتهك حقوق املرأة‪ ،‬ينتهك حقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بالتعددية‪ ،‬ال يمكن أن ينظر‬ ‫ومن ال يؤمن‬ ‫بعين االعتبار إلى تنظيمات ال تتبعه‬ ‫إيديولوجيا‪.‬‬

‫جتنيد القاصرات‬ ‫تمنع قوانين حماية املرأة في مناطق اإلدارة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتعده جرما‬ ‫الذاتية تزويج القاصرات‪،‬‬ ‫يحاسب عليه القانون‪ّ .‬‬ ‫لكنها ال تتوانى عن‬ ‫تجنيدهن كمقاتالت في صفوفها‪،‬‬ ‫واستقطابهن إلى معسكرات التدريب التي‬ ‫ً‬ ‫تقيمها بهذا الخصوص‪ ،‬بالترغيب حينا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وباإلكراه والخطف أحيانا أخرى‪ .‬على الرغم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القانونية للتجنيد ثمانية‬ ‫السن‬ ‫من إعالنها‬ ‫ً‬ ‫عشر عاما‪..‬‬ ‫وكان الناطق باسم هذه ّ‬ ‫القوات‪ ،‬عزا التحاق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كمتطوعات‪،‬‬ ‫العسكرية‬ ‫القاصرات بالفصائل‬

‫‪71‬‬


‫ّ‬ ‫نفسية أو‬ ‫وليس كتجنيد‪ ،‬لظروف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عاطفية‪ ،‬أو لقناعات‬ ‫اجتماعية أو‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫سياسية أحيانا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والشك ّأن هذه السياسة التي تتبعها ّ‬ ‫قوات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ملف القاصرات‪ ،‬تنطوي‬ ‫الذاتية في‬ ‫اإلدارة‬ ‫ُ‬ ‫على تناقضات واضحة‪ .‬حيث يمنع‬ ‫تزويجهن من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى ُيتاح‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لهن ّ‬ ‫العسكرية‬ ‫حرية االلتحاق بالوحدات‬ ‫املقاتلة‪.‬‬ ‫وقد ّ‬ ‫تم توثيق عدد من حوادث خطف‬ ‫القاصرات من قبل وحدات حماية الشعب‬ ‫ّ‬ ‫الكردية‪ .‬حيث اختطفت الطفلة “الفا أنور‬ ‫ً‬ ‫حنان” (‪ 14‬عاما)‪ ،‬من أمام منزلها في قرية‬ ‫“معراتة” التابعة ملدينة عفرين‪ ،‬واقتيدت‬ ‫ألحد مراكز التدريب التابعة لهم‪.‬‬ ‫كما ّ‬ ‫تم توثيق تجنيد الطفلة “جيمن ‪14‬‬ ‫ً‬ ‫عاما”‪ ،‬تحت تهديد السالح‪ .‬وكانت وحدات‬ ‫الحماية الشعبية اعتقلتها من حرم مدرستها‬ ‫ّ‬ ‫القحطانية‪ .‬كما‬ ‫”خولة بنت األزور” في بلدة‬ ‫ً‬ ‫الطفلة ”نسرين فصيح ‪ 14‬عاما”‪ ،‬واعتقلت‬ ‫في سوق رأس العين‪ ،‬ونقلوها إلى مركز‬ ‫للتدريب خارج املدينة‪ .‬وأخبروا أهلها ّأن‬ ‫ابنتهم ليست الوحيدة هناك‪ ،‬بل ّ‬ ‫يضم املركز‬ ‫آالف الرفيقات األخريات‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا الفتاة “روس ي مكرمو ‪ 13‬عاما” من قرية‬ ‫ّ‬ ‫للدرباسية‪ ،‬واختطفت من‬ ‫قوالن التابعة‬ ‫ً‬ ‫مدرستها أيضا عام ‪.2014‬‬ ‫وكانت السلطات نفسها التي منعت زواج‬ ‫ّ‬ ‫الدرباسية ال يتجاوز عمرها‬ ‫طفلة في مدينة‬ ‫ً‬ ‫(‪ )16‬عاما‪ ،‬قامت بخطف أختها “أفين‬ ‫ً‬ ‫صاروخان” (‪ 11‬عاما)‪ ،‬من أمام مدرستها في‬ ‫املدينة نفسها‪ ،‬وفي وضح النهار‪.‬‬

‫‪72‬‬


‫وفي حاالت أخرى‪ّ ،‬‬ ‫يتم زواج القاصرات بعد‬ ‫ّ‬ ‫ذويهن رشوة ّ‬ ‫مالية ملسؤولي اإلدارة‬ ‫دفع‬ ‫الذاتية‪.‬‬

‫التنسيق مع‪ ،‬أو مساعدة الجماعات املسلحة‬ ‫التي ّ‬ ‫تجند األطفال‪ ،‬والتي ال ّ‬ ‫تسرحهم من‬ ‫صفوفها‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكردية تخرق‬ ‫وأن وحدات الحماية‬ ‫ّ‬ ‫الدولية‬ ‫منذ العام ‪ ،2013‬جميع التوصيات‬ ‫الخاصة بعدم تجنيد األطفال‪.‬‬

‫وقد ذكرت “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها‬ ‫قوات ّ‬ ‫لعام ‪ ،2015‬تحت عنوان “ ّ‬ ‫كردية تنتهك‬ ‫حظر تجنيد األطفال”؛ ّأن وحدات حماية‬ ‫وقعت عام ‪ّ “ ،2014‬‬ ‫الشعب ّ‬ ‫صك التزام” مع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحكومية‪ّ ،‬‬ ‫تعهدت‬ ‫منظمة ”نداء جنيف” غير‬ ‫فيه بتسريح جميع املقاتلين دون ّ‬ ‫سن الثامنة‬ ‫عشرة في غضون شهر‪ .‬لكن رغم الوعود التي‬ ‫ّ‬ ‫قدمتها‪ ،‬إال ّأنه ّ‬ ‫تم توثيق التحاق العديد من‬ ‫األطفال في معارك ‪ ،2015‬ويبدو أن بعضهم‬ ‫قد قتل‪.‬‬ ‫وحسب “هيومن ايتس ووتش”‪ّ ،‬‬ ‫فإن عشرة‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫من بين ‪ 59‬طفال‪ ،‬دون سن الثامنة عشرة‪ ،‬قد‬

‫التهجري‬

‫َ‬ ‫تتوان ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذاتية عن تهجير‬ ‫قوات اإلدارة‬ ‫لم‬ ‫ّ‬ ‫املدنيين‪ ،‬وجلهم من النساء واألطفال‪ ،‬وهدم‬ ‫ّ‬ ‫منازلهم بتهمة مناصرة “داعش”‪ .‬وقد وثقت‬ ‫ّ‬ ‫الدولية في تقريرها لعام ‪2016‬‬ ‫منظمة العفو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫– ‪ ،2017‬أن قوات اإلدارة الذاتية سيطرت‬ ‫خالل عام ‪ ،2016‬على معظم املناطق‬ ‫السوري‪ ،‬وارتكبت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عدة‬ ‫الحدودية في الشمال‬ ‫مجازر ّ‬ ‫بحق املدنيين العرب في تل تمر التابع‬ ‫ملحافظة الحسكة‪ ،‬وهدمت منازلهم بتهمة‬ ‫مناصرة ”داعش”‪ .‬وقد اعتمدت املنظمة على‬ ‫ّ‬ ‫املفوضية السامية لألمم املتحدة‬ ‫تقرير‬ ‫لشؤون الالجئين‪.‬‬

‫التحقوا بصفوف وحدات حماية الشعب‪،‬‬ ‫ووحدات حماية املرأة خالل عام ‪.2015‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ّ ،‬‬ ‫فإن ّ‬ ‫قوات “األسايش”‬ ‫وبحسب التقرير‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫جندت عام ‪ ،2016‬اثني عشر طفال في‬ ‫ً‬ ‫صفوفها قسرا‪ .‬رغم أن قانون التجنيد‬ ‫اإلجباري املعتمد لديهم ّ‬ ‫يحدد ّ‬ ‫السن بين ‪– 18‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كل عائلة أن ّ‬ ‫عاما‪ ،‬وعلى ّ‬ ‫تقدم شابا أو‬ ‫‪30‬‬ ‫ّ‬ ‫استمر تجنيد الفتيان‬ ‫فتاة‪ .‬لكن رغم ذلك‬ ‫والفتيات دون ّ‬ ‫سن الثامنة عشرة‪.‬‬

‫وفي تقرير عام ‪ ،2016 – 2015‬أشارت العفو‬ ‫الدلية إلى ّأن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذاتية سيطرت‬ ‫قوات اإلدارة‬ ‫على مدينتي عفرين وكوباني “عين العرب”‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وعدة قرى محيطة بهما‪ّ ،‬‬ ‫مجموعات‬ ‫ورحلت‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫سك ّ‬ ‫انية قسرا من عشر قر ًى وبلدات‪ .‬ومنعت‬ ‫النازحين من العودة إلى ديارهم في بلدة سلوك‬ ‫التابعة ملحافظة الرقة في تموز ‪.2016‬‬

‫وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش أصدرت‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تقريرا‪ ،‬طالبت فيه دول التحالف بالكف عن‬

‫‪73‬‬


‫ّ‬ ‫عرقية‪ّ ،‬أدت إلى‬ ‫صبغة‬ ‫فرار عشرات اآلالف من‬ ‫سكان تلك املناطق‪.‬‬ ‫كما وثق تقرير صادر عن‬ ‫السورية‬ ‫الشبكة‬ ‫لحقوق اإلنسان عام‬ ‫‪ ،2016‬قتل أعداد من‬ ‫املدنيين بينهم ‪ 43‬امرأة‬ ‫ً‬ ‫و‪ 51‬طفال‪ ،‬على يد قوات‬ ‫االتحاد‬ ‫حزب‬ ‫وقوات‬ ‫الديمقراطي‬ ‫اإلدارة الذاتية‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الدولية لعام ‪ ،2015‬وهو‬ ‫وفي تقرير العفو‬ ‫ّ‬ ‫بعنوان “ال مكان نذهب إليه”؛ ذكرت املنظمة‬ ‫الذاتية أحرقت قر ًى ّ‬ ‫ّ‬ ‫عربية‬ ‫ّأن قوات اإلدارة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ركمانية شمالي سوريا‪ ،‬وأجبرت سكانها‪،‬‬ ‫وت‬ ‫ّ‬ ‫وغالبيتهم من النساء واألطفال‪ ،‬على املغادرة‬ ‫ّ‬ ‫تحت التهديد بالقتل‪ .‬واعتمدت املنظمة في‬ ‫تقريرها على صور ملتقطة من األقمار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصناعية‪ ،‬وشهادات سكان محليين وشهود‬ ‫ّ‬ ‫عيان‪ .‬وقد ّ‬ ‫صنفت املنظمة هذه اإلجراءات في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العرقي”‪.‬‬ ‫الجماعية”‪ ،‬و”التطهير‬ ‫إطار “اإلبادة‬ ‫ّ‬ ‫السورية لحقوق اإلنسان‪،‬‬ ‫وكانت الشبكة‬

‫وقدم التقرير إحصائية للمعتقلين لدى قوات‬ ‫حزب االتحاد الديمقراطي وقوات اإلدارة‬ ‫ّ‬ ‫الكردية‪ ،‬التي بلغت ما اليقل عن‬ ‫الذاتية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪ 1651‬شخصا‪ ،‬بينهم ‪ 111‬طفال‪ ،‬و‪88‬‬ ‫سيدة‪ ،‬بينما بلغ عدد الضحايا بسبب‬ ‫ً‬ ‫التعذيب ما اليقل عن ‪ 16‬شخصا‪.‬‬ ‫وأكد التقرير أن اإلدارة الذاتية انتهكت وعلى‬ ‫نحو واسع القانون الدولي لحقوق اإلنسان‬ ‫لسكان يقبعون تحت سلطتها العسكرية‪ ،‬عبر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التعسفي والتعذيب‪،‬‬ ‫عمليات االعتقال‬ ‫ومارست انتهاكات صارخة للقانون اإلنساني‬ ‫الدولي عبر عمليات القتل خارج نطاق‬ ‫القانون‪ ،‬والتعذيب والتشريد القسر ّي‪ ،‬ونهب‬

‫أشارت إلى أن االنتهاكات الواسعة لقوات‬ ‫ّ‬ ‫الذاتية في املناطق الخاضعة‬ ‫اإلدارة‬ ‫لسيطرتها‪ ،‬والتي ترافقت في بعض األحيان مع‬

‫‪74‬‬


‫ّأما منظمة “سارا” ملناهضة العنف ضد‬ ‫املرأة‪ ،‬واملساواة بين الجنسين‪ ،‬فقد ّ‬ ‫سجلت‬ ‫أكثر من (‪ )4000‬حالة عنف ضد املرأة في‬ ‫ّ‬ ‫الذاتية الثالثة (الجزيرة‬ ‫مناطق اإلدارة‬ ‫ّ‬ ‫وكوباني وعفرين)‪ .‬توزعت بين القتل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتعدد‬ ‫والتحرش واالغتصاب‪،‬‬ ‫واالنتحار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الزوجات‪ ،‬وزواج القاصرات‪ .‬لكنها أيضا لم‬ ‫قريب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تأت على ذكر تجنيد القاصرات ال من ٍ‬ ‫وال من بعيد‪.‬‬ ‫وأخي ًرا‪ّ ،‬‬ ‫البد أن نقول؛ ّأن سلطة األمر الواقع‬ ‫الذاتية”‪ ،‬ال تستطيع ّ‬ ‫ّ‬ ‫سن القوانين‬ ‫“اإلدارة‬ ‫ّ ًّ‬ ‫ّ‬ ‫لعدم شرعيتها‪ ،‬إذ تستوجب الفيدرالية نصا‬ ‫ًّ‬ ‫دستوريا إلقرارها وتطبيقها‪ .‬وال عجب أن‬ ‫ّ ً‬ ‫يكون القانون‬ ‫مطوعا لخدمة أجندتها‪ ،‬فهي‬ ‫املالك الحصر ّي والوحيد ّ‬ ‫لكل ما هو تحت‬ ‫سلطتها!‬

‫املمتلكات‪ ،‬والقصف العشوائي‪ ،‬وهي ترقى إلى‬ ‫جرائم حرب‪.‬‬ ‫العنف ضدّ املرأة واالغتصاب‬ ‫ّ‬ ‫يخص حاالت العنف واالغتصاب‪،‬‬ ‫وفيما‬ ‫فمن املفروض أن تظهر على األرض نتائج‬ ‫تطبيق قانون حماية املرأة بتخفيف هذه‬ ‫ً‬ ‫الحاالت وصوال إلى إنهائها‪ .‬وكان مجلس‬ ‫“العدالة االجتماعية” التابع لإلدارة الذاتية‪،‬‬ ‫وثق ‪ 213‬حالة عنف ضد املرأة خالل عام‬ ‫‪ ،2017‬في محافظة الحسكة الخاضعة‬ ‫لسيطرتها شمالي شرقي سوريا‪ .‬وصلت ‪160‬‬ ‫ّ‬ ‫حالة منها إلى املحاكم‪ .‬كما وثق ‪ 30‬حالة زواج‬ ‫ثانية‪ ،‬و‪ 13‬حالة زواج قاصرات‪ ،‬وثالث‬ ‫حاالت عنف جسدي‪ ،‬وسبع حاالت‬ ‫ّ‬ ‫يتحدث عن تجنيد‬ ‫اغتصاب‪ ،‬في حين لم‬ ‫القاصرات‪..‬‬

‫خاص “شبكة املرأة السورية”‬

‫‪75‬‬


76


‫املرأة يف األدب‬ ‫علي األعرج‬ ‫هذا االجتياح الضخم في القرن العشرين ليس سوى والدة‬ ‫عسيرة وردة فعل لتاريخ أدبي ذكوري قولب المرأة ضمن‬ ‫أشكال محددة ورسم لها مهماتها الورقية على مدار‬

‫خمسة آالف عام‪ ،‬تحوّلت فيها من مُدوَّن ورقي إلى مُدوِّن‬ ‫واقعي ومشارك بصناعة التاريخ والفكر‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قد يبدو تعبير "األدب منجز ذكوري" تعبيرا جندريا قليال‪ .‬لكنه ال يخلو من صحة إذا ما نظرنا إلى‬ ‫ُ‬ ‫ذلك التاريخ بعين املعطى الفكري‪ ،‬قبل أن يدخل في قرنه الحالي‪ ،‬فلم تحظى املرأة في التاريخ األدبي‬ ‫عبر مساراته‪ ،‬بالكثير من االهتمام ال على مستوى االنجاز‪ ،‬مقارنة باالنجاز الذكوري‪ ،‬وال على‬ ‫مستوى النص‪ ،‬مقارنة باملواضيع األكثر شمولية من ناحية املعالجات الفكرية والفلسفية‪.‬‬

‫‪77‬‬


‫جلجامش‪ ،‬فرغم آلوهية عشتار‪ ،‬لكنها تمتلك‬ ‫الجانب البشري في الحب والغيرة واالنتقام‪.‬‬ ‫هذه املساواة كانت تقدمية في زمن بدائي‪،‬‬ ‫وستتالش ى مع تطور املجتمعات‪.‬‬

‫لقد كانت املرأة عبر ذلك التاريخ عبارة عن‬ ‫آلية مساعدة للبحث مثلما كانت على مستوى‬ ‫املجتمع آلية لالقتصاد واملتعة‪ .‬ولهذا ما يبرره‬ ‫ضمن السياقات التطورية للمجتمعات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فالعالم الحديث الذي تخلص جزئيا من‬ ‫األشكال التي تحكمه بمعيارها الالهوتي‬ ‫والسياس ي‪ ،‬لم يتجاوز عمره الثالثة قرون‪،‬‬ ‫وخالل هذه الفترة أصبحت املرأة حاضرة‬ ‫بشكل أقوى ولو أنها بقيت حبيسة آلية‬ ‫مساعدة لتفسيرات العالم وليس كحالة‬ ‫مستقلة‪ ،‬وهذا ما نشاهده في أغلب األعمال‬ ‫العاملية‪.‬‬

‫ذات األمر نشاهده في إلياذة هوميروس بعد‬ ‫قرون‪ ،‬فامللحمة الحربية لعشر سنوات كان‬ ‫هيلين‬ ‫سببها‬ ‫الطروادية‪ ،‬وهي‬ ‫أول امرأة بشرية‬ ‫(نصف إلهية) في‬ ‫تاريخ األدب ال تمت‬ ‫لأللوهية املطلقة‬ ‫بصلة في صناعة‬ ‫تاريخ أدبي ومحرك‬ ‫لألحداث بشكل‬ ‫مباشر‪.‬‬

‫بالطبع تاريخ األدب ال يقتصر في حضور املرأة‬ ‫على القرون األخيرة‪ ،‬فأعظم كالسيكيات‬ ‫العالم القديم كان للمرأة دور حاسم بها‪ ،‬من‬ ‫خالل إنشاء منظومة األسطورة األدبية‪،‬‬ ‫فعندما نتحدث عن ملحمة جلجامش ال‬ ‫يمكننا نسيان ذلك الحضور النسائي‬ ‫املتجسد بالتعليم الجنس ي (ضمن معيارها‬ ‫التاريخي) ومهمتها األساسية بترويض انكيدو‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ـ طرحت ثوبها‪ ،‬انبطح عليها‪ ،‬علمت الرجل‬ ‫الوحش وظيفة املرأة‪ ،‬وها هو واقع في حبها‪.‬‬

‫وبرغم هذا الحضور النسائي في األدب إال أن‬ ‫ً‬ ‫الدور في هذه النصوص بقي ضعيفا‪ ،‬ألنها لم‬ ‫تتجلى كعنصر بشري حقيقي له مفرزاته‬ ‫الذاتية ونمطيات تطور الشخصية التي تتأثر‬ ‫بالفعل ورد الفعل‪ ،‬بل اقتصرت على تجسيد‬ ‫املرأة بثوابت محددة في السلطة والقوة‬ ‫والغيرة والخيانة‪ .‬واستمر هذا النمط األدبي‬ ‫إلى القرن السادس عشر األوروبي وما يليه‬ ‫ً‬ ‫ليتحدد دور املرأة أدبيا بشكل مختلف وكبير‪.‬‬

‫وإن كان العالم القديم نظر إلى املرأة بهذه‬ ‫املهمة الجمالية والجنسية‪ ،‬إال أنه قدمها على‬ ‫درجة مساواة في صناعة األسطورة‪ ،‬وهذا ما‬ ‫سيجري أثناء رغبة عشتار لخلق ثور وقتل‬

‫‪78‬‬


‫لكن قبل الوصول إلى هذه الفترة األوروبية‬ ‫بعدة قرون‪ ،‬ظهر إلى العالم اثنين من أعظم‬ ‫النصوص التي كانت ومازالت تحدد صياغة‬ ‫ً‬ ‫أدبية مختلفة لدور املرأة تاريخيا‪ ،‬وهي‬ ‫كوميديا دانتي في القرون الوسطى‪ ،‬وفيها عالج‬

‫املرأة الفاعل‪ ،‬ليس على مستواها اإلنساني‬ ‫واألخالقي فقط‪ ،‬بل دورها السياس ي والفكري‬ ‫والجنس ي‪ ،‬كقائدة متحررة لهذه العمليات‬ ‫بأسرها وليست عنصر مساعد‪ ،‬بداية‬ ‫ً‬ ‫بشخصية شهرزاد مرورا بكل الشخصيات‬ ‫النسائية في القصص‬ ‫الالحقة‪.‬‬ ‫هذه التجربة األدبية الخاصة‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫جدا بقيت حتى اليوم تضاهي‬ ‫أعظم األعمال الكبرى‬ ‫لتقديمها املرأة بأشكال‬ ‫مستقلة ولها حواراتها‬ ‫وفلسفاتها‪.‬‬ ‫لكن كل ذلك لم يحرر املرأة‬ ‫خارج إطار الشخصية الورقية‪ ،‬إنها أشبه‬ ‫بمرحلة املخاض الذي سيلد‪ .‬لقد كانت عبارة‬ ‫عن صورة الفئة املتحررة ورغباتهم الضمنية‬ ‫عما يجب أن تكون عليه املرأة‪.‬‬

‫منطق الخلود بحسب املسيحية‪ ،‬ونشاهد‬ ‫األثر الذي تركه دانتي في شخصية بياتريس‬ ‫التي تعمل كمرشدة له في الجنة‪ ،‬وهذا ما‬ ‫يتعارض مع منطق املسيحية الوسطى في‬ ‫النظرة للمرأة كش يء مشين‪ ،‬فبياتريس تعلم‬ ‫جغرافية الجنة بينما رجال الدين يقضون‬ ‫خلودهم في الجحيم واملطهر والدوار األولى من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الفردوس‪ .‬فأضحت بياتريس نموذجا روحيا‬ ‫ّ‬ ‫والتبصر واألخالق‪ ،‬على حساب‬ ‫للحكمة‬ ‫ذكورة الالهوت‪.‬‬

‫مع بدايات نهوض أوروبا وعصر التنوير‬ ‫والثورات الالحقة‪ ،‬اتخذ األدب معايير نقدية‬ ‫ً‬ ‫وأصبحت املرأة حاضرة في كل عمل تقريبا‪،‬‬ ‫لكن اقتصر دورها على نمط املساعد‬ ‫وباألخص في األعمال املسرحية‪ ،‬باستثناء‬ ‫امللك لير وبناته الثالث‪ ،‬لكن مع نشوء فن‬ ‫الرواية بعد فترة الثورات األوروبية‪ ،‬أصبحت‬ ‫املرأة حاضرة كقوة شاملة على طول العمل‪،‬‬

‫أما العمل الثاني فكانت قصص ألف ليلة‬ ‫وليلة التي ظهرت في الشرق بفترة أقل من‬ ‫ظهور الكوميديا‪ ،‬ومن خاللها نشاهد دور‬

‫‪79‬‬


‫ّ‬ ‫ورسخت شخصيات فاعلة مازالت حتى‬ ‫اليوم‪ ،‬كمدام بوفاري وآنا كارنينا وكاتيوشا‬ ‫وآزميرالدا والنساء الصغيرات للويزا ألكوت‬ ‫وحتى أغلب العناصر النسائية في شخوص‬ ‫دوستويفسكي‪ .‬لكن هذه الشخصيات تمت‬ ‫معالجتها من املنطق األخالقي‪ ،‬فلم يكن‬ ‫ً‬ ‫دورهم فاعال بمعناه القيادي أو الفكري‪،‬‬ ‫بقدر ما هو أشكال ذاتية تتطور ضمن بنية‬ ‫الشخصية نفسها تؤدي إلى هالكها أو‬ ‫انتصارها‪ .‬لقد ُحصرت املرأة بهذا الدور‬ ‫األخالقي‪.‬‬

‫وسلمى الغرلوف أوائل أديبات العالم‬ ‫الحديث‪ ،‬وحصول ثالثة منهن على نوبل‬ ‫لآلداب‪ّ .‬‬ ‫وتحول هذا التدفق النوعي لألدب إلى‬ ‫تدفق كمي وأحد أشكال الحياة الطبيعية‪،‬‬ ‫لكنه لم يكتفي عند هذا الشكل األدبي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫املجرد‪ ،‬بل أصبح مزيجا فلسفيا‪ ،‬وهذا ما‬ ‫ّ‬ ‫قدمته سيمون دو بوفوار الشخصية الفكرية‬ ‫الفلسفية ذات التأثيرات الوجودية على‬ ‫أجيال كاملة‪ ،‬إضافة لكاتبات أخريات‪،‬‬ ‫أناييس نن وسوزان سونتاغ وبولين رياج‬ ‫وإريس مردوخ‪ُ ،‬ليلحق ّ‬ ‫بهن كاتبات مميزات‪،‬‬ ‫ألفريدة يلينيك وإيزابيل الليندي وتوني‬ ‫موريسون وأميلي نوثومب‪ ،‬وآالف من‬ ‫الكاتبات اللواتي اشتهرن في القرن املاض ي حتى‬ ‫اليوم‪ .‬ولم يقتصر هذا التوسع على دول‬ ‫العالم الغربي‪ ،‬بل رافقه على املستوى الشرقي‬ ‫والعربي عشرات املئات من الكاتبات الذين‬ ‫صاغوا تاريخ البالد من وجهة نظر نسائية‪ ،‬في‬ ‫اليابان وكوريا وإيران والهند والصين وتركيا‬ ‫والوطن العربي بأكمله‪.‬‬

‫مع اتساع رقعة األدب وآلياته في القرن‬ ‫العشرين وظهور املدارس الفلسفية ونهوض‬ ‫الحراك النسوي في العالم‪ ،‬بدأت املرأة‬ ‫بالظهور بشكل تأثيري مباشر في الفكر‬ ‫واألدب‪ ،‬وكانت بداياتها مع الشخصية‬ ‫الورقية ميس ماربل التي أنتجتها مخيلة أجاثا‬ ‫كريستي‪ ،‬والتي طرحت املرأة بإطار قدرة فائقة‬ ‫على التحليل واالستنتاج ودورها في صناعة‬ ‫الخير البشري والعالم الحديث‪ .‬ما فعلته‬ ‫أجاثا وميس ماربل مجتمعتين هو كسر‬ ‫التابوهات األدبية التي قولبت املرأة‬ ‫(كشخصية ورقية وكمنجز واقعي) ضمن‬ ‫حدود خاصة على ّ‬ ‫مر التاريخ‪ ،‬وفتحت الباب‬ ‫ألعداد هائلة من األديبات في القرن املاض ي‬ ‫اللواتي رافقن فترة أجاثا‪ ،‬فأضحت فرجينا‬ ‫وولف وسيغريد اوندست وغابريال ميسترال‬

‫هذا االجتياح الضخم في القرن العشرين ليس‬ ‫سوى والدة عسيرة وردة فعل لتاريخ أدبي‬ ‫ذكوري قولب املرأة ضمن أشكال محددة‬ ‫ورسم لها مهماتها الورقية على مدار خمسة‬ ‫تحولت فيها من ُم َّ‬ ‫آالف عام‪ّ ،‬‬ ‫دون ورقي إلى‬ ‫ُ ّ‬ ‫دون واقعي ومشارك بصناعة التاريخ‬ ‫م ِ‬ ‫والفكر‪.‬‬

‫‪80‬‬


‫شخصية العدد‬



‫عبد الرمحن الشهبندر‬ ‫خالد علوش‬ ‫لم يتوقف الشهبندر يوماً عن العمل الوطني منذ بداياته‪،‬‬ ‫فعمل بكل ما استطاع في الطب والسياسة والصحافة‬ ‫والتدريس والترجمة للرفع من مستوى سوريا ساعياً‬ ‫لتنال استقاللها وتنويرها وحضارتها‪ .‬لقد كان عربي‬ ‫النزعة‪ ،‬يميل إلى التسامح ونبذ التعصب واإلعراض عن‬

‫العنف والجنوح إلى السلم‪.‬‬

‫في عام ‪ ،1920‬عندما قبل امللك فيصل إنذار الجنرال غورو بشأن الجيش والنقد الفرنس ي وسكة‬ ‫الحديد‪ ،‬التقى الشهبندر بامللك فيصل في املؤتمر الوطني السوري الذي كان يضم مناضلي سوريا‬ ‫ّ‬ ‫واشتد الجدال بينهما حول قبول الشروط الفرنسية‪ ،‬فقال‬ ‫من هنانو إلى العظمة إلى الشهبندر‪،‬‬ ‫فيصل‪" :‬أنا امللك وأنا من ساللة النبي"‪ .‬فأجابه الشهبندر‪" :‬وأنا ابن هذا البلد‪ ،‬وأرفض كل وصاية‪،‬‬ ‫وأطالب بتشكيل حكومة قومية ثورية"‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫تلك الحادثة الشهيرة نفضت الغبار عن‬ ‫مستقبل زاهر سيكون لسوريا‪ ،‬وكشفت‬ ‫اللثام عن وطنية البعض وعمالة البعض‬ ‫اآلخر‪ ،‬لقد كانت اللحظة التي انتفضت فيها‬ ‫سوريا بأسرها‪ ،‬وبكل مكوناتها ضد فرنسا‬ ‫وعمالئها‪.‬‬ ‫ُوِلد عبد الرحمن بن صالح الشهبندر عام‬ ‫‪ 1882‬في مدينة دمشق‪ ،‬حيث كانت ال تزال‬ ‫تحت الحكم العثماني‪ ،‬ألسرة دمشقية عريقة‬ ‫تعمل بالتجارة‪.‬‬ ‫نشأ الشهبندر يتيم األب‪ ،‬فقد توفي والده وهو‬ ‫ّ‬ ‫ابن ستة أعوام‪ ،‬فربته أمه‪ ،‬مركزة على‬ ‫تعليمه بالدرجة األولى‪ ،‬فتلقى علومه‬ ‫االبتدائية واإلعدادية في دمشق‪ ،‬ليكمل‬ ‫دراسته الثانوية في القسم االستعدادي التابع‬ ‫للجامعة األمريكية ببيروت ويتخرج منها عام‬ ‫‪ .1901‬في تلك األثناء كان أن ألقى خطبة في‬ ‫الثانوية كانت حول االجتهاد والتقليد‬ ‫االجتماعي والديني‪ .‬على إثر ذلك اقتيد عام‬ ‫‪ 1902‬إلى املحاكم بتهمة اشتراكه في الحركة‬ ‫اإلصالحية وتأليف رسالة عن الفقه‬ ‫ّ‬ ‫والتصوف ومقالة في جريدة املقطم املصرية‬ ‫كانت حول موضوع خالفة السلطان عبد‬ ‫الحميد‪ ،‬لكن صغر سنه أنقذه من املوت‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تخرج سنة ‪ .1906‬وألقى حينها خطبة حفلة‬ ‫ّ‬ ‫التخرج‪ ،‬فاختار موضوع التسامح الديني‬ ‫ّ‬ ‫التعصب‪،‬‬ ‫الذي قاد فيه حمل عشواء على‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتم تعينه في السنة ذاتها أستاذا وطبيبا‬ ‫لتالميذ الجامعة بسبب ملعانه الثقافي‬ ‫والعلمي‪.‬‬ ‫في عام ‪ 1908‬عاد إلى دمشق واتصل بالشيخ‬ ‫عبد الحميد الزهراوي وبمجموعة من‬ ‫السوريين الوطنيين وببعض أحرار األتراك‪،‬‬ ‫الذين سيشكلون فيما بعد الحركة العلمانية‬ ‫في تركيا‪ ،‬حيث ساهم معهم باالنقالب على‬ ‫السلطان عبد الحميد‪ ،‬وانضم إلى الهيئة‬ ‫املركزية لحزب االتحاد والترقي الذي تأسس‬ ‫بعد إعالن الدستور‪ ،‬لكن سياسة الحزب لم‬ ‫تعد مثلما نشأت عليه‪ ،‬وشعر بأنها سياسة‬ ‫تتجه نحو تتريك العناصر العربية لذلك‬

‫بعد تلك الحادثة عاد إلى لبنان ليكمل دراسة‬ ‫الطب في الجامعة األمريكية‪ ،‬فبقي هناك حتى‬

‫‪84‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫لم يكن الشهبندر واثقا من اإلنكليز كثيرا لكنه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مع ذلك عمل جاهدا ليأخذ تصريحا من‬ ‫البريطانيين‪ ،‬أن الدول التي تنال استقاللها‬ ‫من العثمانيين بقيادة الجيش لعربي تحت‬ ‫راية الشريف حسين تبقى مستقلة وال تخضع‬ ‫ألي سلطة خارجية‪ ،‬ورغم خطورة التصريح‬ ‫على املصالح البريطانية لكن لم يكن لديها من‬ ‫خيار سوى إعطاءه‪ .‬كان الشهبندر يفهم‬ ‫الواقع السياس ي ويتعامل ضمن آلياته‪ ،‬ولهذا‬ ‫كان أحد الرجال املستهدفين من الغرب‬ ‫لخبرته ووطنيته‪.‬‬

‫جابهها بشدة‪ ،‬وأخذ يرفع راية املطالبة‬ ‫بحقوق العرب القومية‪.‬‬ ‫بعد ذلك بعامين ّ‬ ‫تعرف إلى سارة العظم‪ ،‬ابنة‬ ‫تقي الدين وتزوجها عام ‪ ،1910‬زواجه ذاك‬ ‫دعم الشهبندر ّ‬ ‫ليتقدم إلى الواجهة السياسية‬ ‫ملا ُعرف عن عائلة العظم من نشاط تاريخي‬ ‫قديم في املجال السياس ي والوطني‪ ،‬وهي ذات‬ ‫نفوذ عالي ومقام اجتماعي رفيع‪ .‬وفي عام‬ ‫ّ‬ ‫‪ 1912‬سافر إلى أوروبا ملزيد من العلم وتعلم‬ ‫السياسة‪ ،‬وعاد مع بداية الحرب العاملية‪،‬‬ ‫فانتظم في سلك الجندية وسافر إلى البلقان‬ ‫للمشاركة في الحرب‪ ،‬لكن بعد عام واحد ّ‬ ‫عين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طبيبا خاصا ألحمد جمال باشا القائد التركي‬ ‫في بالد الشام‪ ،‬وحين ّ‬ ‫اشتدت سياسة التتريك‬ ‫ً‬ ‫غادر سوريا متجها إلى العراق ثم الهند‬ ‫ليستقر في القاهرة عام ‪ 1916‬فعينته‬ ‫ً‬ ‫السلطات اإلنكليزية طبيبا لألسرى‪ ،‬وفي‬ ‫السنة ذاتها أسهم في تنظيم الثورة العربية‬ ‫الكبرى بقيادة الشريف حسين في الحجاز‪،‬‬ ‫وترأس تحرير جريدة الكوكب في القاهرة‪،‬‬ ‫لكنه ما لبث أن تركها بعد تكشفها له عن‬ ‫ً‬ ‫تبعيتها لإلنكليز‪ .‬في تلك الفترة أيضا ساهم‬ ‫بتأسيس حزب االتحاد السوري مع بعض‬ ‫األحرار‪ ،‬وقد بقي الحزب في القاهرة حتى‬ ‫معركة ميسلون‪.‬‬

‫بعد استقالل سوريا عن الحكم العثماني عام‬ ‫‪ 1919‬عاد إلى سوريا فكان من أوائل من‬ ‫ً‬ ‫عينتهم الجامعة السورية أستاذا في كلية‬ ‫الطب وكلية الحقوق‪ ،‬وحين دخل امللك‬ ‫ً‬ ‫فيصل دمشق عام ‪ 1920‬ونودي به ملكا‬ ‫ً‬ ‫عليها‪ ،‬عين الشهبندر وزيرا للخارجية‪ ،‬فحشد‬ ‫ً‬ ‫الفرنسيون جيشا في ميسلون‪ ،‬وهاجموا‬ ‫دمشق‪ ،‬فاستشهد يوسف العظمة وقبض‬ ‫على بقية الوزراء‪ ،‬وحكم عليهم بالسجن‬ ‫املؤبد في جزيرة أرواد‪ ،‬لكن الشهبندر هرب‬ ‫ً‬ ‫من سوريا إلى مصر وأقام فيها عاما‪ ،‬ليعود‬ ‫ً‬ ‫بعدها ويبدأ بتنظيم البالد سياسيا‬ ‫ً‬ ‫واجتماعيا‪ ،‬لكن الفرنسيين ألقوا القبض‬ ‫ً‬ ‫عليه وتم الحكم عليه بعشرين عاما‪ ،‬لكنهم‬ ‫أطلقوا سراحه في أواخر عام ‪ ،1923‬وبعد‬

‫‪85‬‬


‫املجاهدين كل إمكانية‬ ‫للدعم السياس ي والعسكري‬ ‫في الجنوب‪ ،‬وهو ما أغضب‬ ‫الفرنسيين ودعاهم ملالحقته‬ ‫وكادوا يقبضون عليه‪ ،‬لوال‬ ‫أنه هرب إلى جبل العرب‬ ‫ومنه إلى شرقي األردن ثم‬ ‫القاهرة‪ .‬عندما وصل ملصر‬ ‫تناهت إليه أخبار القرارات‬ ‫الفرنسية عام ‪ ،1927‬حيث تم إصدار حكم‬ ‫ّ‬ ‫فاضطر للبقاء مع‬ ‫غيابي باإلعدام عليه‪،‬‬ ‫عائلته ملدة عشر سنوات هناك يتابع نضاله‬ ‫ضد الفرنسيين وباألخص عمله في اللجنة‬ ‫التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني‪،‬‬ ‫باإلضافة لكتاباته الصحفية التي كانت‬ ‫تتناقل في مصر وسوريا‪ ،‬وتزيد من حدة‬ ‫الغضب الشعبي السوري اتجاه الفرنسين‪ .‬إن‬ ‫ً‬ ‫عدم بقائه صامتا كان يثير حنق فرنسا عليه‬ ‫دون القدرة على الوصول إليه‪ ،‬وهو ما‬ ‫ُ‬ ‫استدعاها بعد عشر سنوات أن تصدر‬ ‫ً‬ ‫مرسوما ُيلغي حكم اإلعدام عليه في عام‬ ‫‪ ،1937‬فعاد إلى دمشق بحفاوة شعبية نادرة‪،‬‬ ‫وكان في كل يوم يقوم الناس بزيارته ويلقي‬ ‫ً‬ ‫فيهم خطبا تزيد من حماسة الشعب ضد‬ ‫الفرنسيين‪ ،‬كما عارض معاهدة ‪ 1936‬وهو‬ ‫األمر الذي زاد حدة االنقسام بين السورين‪،‬‬ ‫بين مؤيد لحكومة هاشم األتاس ي والكتلة‬

‫خروجه سافر إلى أوروبا وأمريكا للدفاع عن‬ ‫قضية بالده‪ ،‬فكان اول زعيم سوري يرفع‬ ‫قضية سوريا إلى الحافل الدولية‪.‬‬ ‫عاد إلى سوريا عام ‪ 1924‬وأسس حزب‬ ‫الشعب وتولى رئاسته وأخذ يعمل من جديد‬ ‫في تنظيم العمل السياس ي ويدعو إلى الوحدة‬ ‫العربية ويطالب بإلغاء االنتداب‪ ،‬وإقامة‬ ‫جمهورية سورية في نطاق االتحاد مع‬ ‫جميع البلدان العربية املستقلة‪ ،‬فاتصل مع‬ ‫الزعيم إبراهيم هنانو قاد ثورة الشمال ومع‬ ‫محمد ّ‬ ‫العياش زعيم الثورة في املنطقة‬ ‫الشرقية‪ ،‬كما تواصل مع فوزي القاوقجي في‬ ‫حماه‪ ،‬رغم اختالفه معه‪ ،‬حيث كان القاوقجي‬ ‫في بداياته يعمل لصالح الفرنسيين‪ ،‬لكن بعد‬ ‫اعتقال وجهاء حماه‪ّ ،‬‬ ‫تغيرت رؤى القاوقجي‬ ‫وهو ما دعا الشهبندر للتحالف معه ودعمه‬ ‫في ثورته‪ .‬وحين نشبت الثورة السورية الكبرى‬ ‫بقيادة سلطان األطرش عام ‪ ،1925‬نظم مع‬

‫‪86‬‬


‫كتب الشهبندر الكثير من املقاالت في مجلتي‬ ‫املقتطف والهالل‪ ،‬وقد ُجمعت في كتاب‬ ‫القضايا العربية الكبرى‪ ،‬كما صدرت مذكراته‬ ‫ً‬ ‫بعد وفاته‪ ،‬وكتب عنه محمد كرد علي فصال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مطوال في مذكراته أيضا‪ ،‬هذا وقد ترجم‬ ‫الشهبندر كتاب "في السياسة الدولية" لديزل‬ ‫بورنس عام ‪ 1925‬عن اللغة اإلنكليزية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لم يتوقف الشهبندر يوما عن العمل الوطني‬ ‫منذ بداياته‪ ،‬فعمل بكل ما استطاع في الطب‬ ‫والسياسة والصحافة والتدريس والترجمة‬ ‫ً‬ ‫لرفع من مستوى سوريا ساعيا لتنال‬ ‫استقاللها وتنويرها وحضارتها‪ .‬لقد كان عربي‬ ‫ً‬ ‫النزعة‪ ،‬معاديا لألتراك‪ ،‬ولسياسة اتفاق‬ ‫ً‬ ‫العرب معهم‪ ،‬مناوئا لالستعمار األجنبي في‬ ‫الوطن العربي عامة وسورية خاصة‪ ،‬كما كان‬ ‫طوال حياته يميل إلى التسامح ونبذ التعصب‬ ‫واإلعراض عن العنف والجنوح إلى السلم‪،‬‬ ‫ومواقفه من الثورات السورية هو إليمانه‬ ‫بضرورة استقالل بالده كاملة نحو حرية‬ ‫مطلقة دون خضوع ألي سلطة خارجية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سيبقى عبد الرحمن الشهبندر نموذجا وطنيا‬ ‫في تاريخ الذاكرة السورية‪ ،‬إنه شهيد الوطن‬ ‫والتنوير‪.‬‬

‫الوطنية املؤيدة للمعاهدة وبين الشهبندر‬ ‫وأنصاره التي كان يعدد مساوئ املعاهدة‬ ‫وعيوبها ويدعو لضرورة االستقالل الكامل‬ ‫والسيادة املطلقة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لم تستطع فرنسا يوما إسكات الشهبندر رغم‬ ‫كل ما فعلته‪ ،‬ولم يصبح لديها من خيار سوى‬ ‫ً‬ ‫التخلص منه نهائيا‪ ،‬وهو ما دعاهم لتدبير‬ ‫عملية اغتياله بواسطة بعض املتشددين‬ ‫الدينيين في عام ‪ ،1940‬عندما دخل عليه‬ ‫ثالثة أشخاص مسلحين وأطلقوا النار عليه في‬ ‫عيادته بحي الشعالن بدمشق‪ ،‬حيث ّ‬ ‫تم‬ ‫إلصاق التهمة بثالثة من زعماء الكتلة‬ ‫الوطنية وهم سعد هللا الجابري وجميل مردم‬ ‫بك ولطفي الحفار‪ ،‬فهربوا خارج البالد بعد‬ ‫صدور مذكرات توقيف بحقهم‪.‬‬ ‫لم يطل أمر اغتياله حتى ألقي القبض على‬ ‫قاتلي الشهبندر بعد فترة وتم االعتراف أن‬ ‫سبب االغتيال هو سبب ديني ألن الشهبندر‬ ‫ّ‬ ‫تعرض للدين في أحد خطبه ودعا للتنوير‬ ‫ّ‬ ‫والتقدم‪ُ ،‬‬ ‫ودفن في قبر جوار صالح الدين‬ ‫ُ‬ ‫األيوبي قرب الجامع األموي‪ .‬وإلى اآلن ما زالت‬ ‫قضية الشهبندر وعملية اغتياله ُمغلقة في‬ ‫األرشيف الوطني الفرنس ي‪.‬‬

‫خالد علوش‬ ‫ناشط إعالمي سوري‪ ،‬يقيم يف تركيا‬

‫‪87‬‬


88


‫من ذاكرة السجن‬ ‫‪89‬‬


90


‫ما عجبك تطلع إال ضد الرئيس‬ ‫بسام يوسف‬ ‫أستعيد وجه أمي‪ ،‬أمي التي ظلت صامتة طيلة الدقائق‬ ‫القليلة التي أمضوها في بيتنا‪ ،‬منذ وصولهم وحتى‬ ‫اقتيادي إلى سيارتهم‪ ،‬لم تقل إال جملة واحدة‪ ،‬مازال‬ ‫صوتها وهي تنطق جملتها الوحيدة المختنقة‬ ‫والمتوسلة‪ ( :‬ياخالتي لوين آخدينو ؟؟) يتكرر بال توقف في‬

‫ذاكرتي‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أتكور في زنزانتي العارية‪ ،‬قبل قليل أعادوني من جولة التعذيب األخيرة‪ ،‬موجات من األلم الشديد‬ ‫تجتاح جسدي كله‪ ،‬من قدمي حتى رأس ي‪ ،‬أتحسس برؤوس أصابعي وجهي ّ‬ ‫املتورم‪ ،‬الذي يحترق كما‬ ‫لو أنه فوق صفيح ساخن‪ ،‬وما إن أتلمسه حتى يزداد األلم؛ فأبعد أصابعي‪ ،‬وأتحسس بلساني‬ ‫أسناني التي فقدت مالستها‪ ،‬وغطتها نتوءات حادة‪ ،‬أفكر‪ :‬ربما تكون قد ّ‬ ‫تكسرت بعد لكماتهم التي‬ ‫استقبلوني بها‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫ً‬ ‫واقفا‪ ،‬يداي ّ‬ ‫مقيدتان‬ ‫كنت ال أزال‬ ‫وراء ظهري‪ ،‬وعصبة بالستيكية مرنة‬ ‫ّ‬ ‫عيني‪ ،‬عندما‬ ‫وسميكة تغطي‬ ‫أطاحت بي لكمة عنيفة على وجهي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫شهقت‪ ،‬وأحسست أن فمي يمتلئ‬ ‫ببقايا صلبة‪ ،‬كانت تنطحن بسهولة‬ ‫ُ‬ ‫سقطت‪ ،‬لكن قبل أن‬ ‫تحت أسناني‪،‬‬ ‫أصل األرض تلقفتني أيد ما‪،‬‬ ‫وأوقفتني‪ ،‬لتهوي لكمة أخرى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يتطوح يمينا‬ ‫وأخرى‪ ...‬كان جسدي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ويسارا وأماما وخلفا‪ ...‬لكمات‬ ‫متالحقة تنهال من الجهات كلها‪ ،‬وأنا‬ ‫أشهق‪ ،‬وأحاول‪ -‬بحدس الروح‪ -‬أن‬ ‫ّ ُ‬ ‫علي أخرى‪،‬‬ ‫أتجنب لكمة ما‪ ،‬فتقع‬ ‫وأنا ال أرى جهات الخطر؛ ال يحق لي‬ ‫أن أرى؛ ألننا نحن السجناء ّ‬ ‫محرم‬ ‫علينا أن ّ‬ ‫نتعرف إلى وجوه الجالدين‪.‬‬ ‫لقد كففت عن استكشاف ماحل بأسناني‪،‬‬ ‫كانت حركة لساني تؤملني؛ فتوقفت‪ ،‬وأحاول‬ ‫ً‬ ‫أن أحرك جسدي قليال‪ ،‬وأتوقف ‪ ...‬اللعنة!!‬ ‫من زرع أرض هذه الزنزانة اليابسة بكل هذه‬ ‫ّ‬ ‫الكتل اإلسمنتية املسننة‪ ،‬أي عقل هذا الذي‬ ‫يشتغل على صناعة كل هذا األلم؟ أحاذر أي‬ ‫حركة في تكوري داخل زنزانتي املعتمة؛ فهذه‬ ‫الكتل املسننة اللعينة تنغرز في جسدي بال‬ ‫ً‬ ‫رحمة؛ فأتوقف عن محاوالتي الوجلة أيضا‪.‬‬

‫أستعيد وجه أمي‪ ،‬أمي التي ظلت صامتة‬ ‫طيلة الدقائق القليلة التي أمضوها في بيتنا‪،‬‬ ‫منذ وصولهم وحتى اقتيادي إلى سيارتهم‪ ،‬لم‬ ‫تقل إال جملة واحدة‪ ،‬مازال صوتها وهي تنطق‬ ‫جملتها الوحيدة املختنقة واملتوسلة‪( :‬يا خالتي‬ ‫لوين آخدينو؟؟) يتكرر بال توقف في ذاكرتي‪،‬‬ ‫ال أدري ملاذا صمتت‪ ،‬بعد أن أجابها ضابط‬ ‫ً‬ ‫املخابرات ساخرا‪" :‬ال تخافي‪ ،‬فنجان قهوة‬ ‫بس"‪ ،‬يبدو أنها أيقنت‪ :‬أن ال فائدة من‬

‫‪92‬‬


‫أال أسمع صوت أزيز الكبل وصفيره‬ ‫وارتطامه‪ ،‬لكأنني اقتنعت أن ال جدوى من‬ ‫الصراخ وال من التوسل؛ فتركت جسدي لهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تخليت عنه‪ ،‬هجرته‪ ،‬تركتهم يفتتونه كيفما‬ ‫يشاؤون‪ ،‬أصبحت جثة صامتة‪.‬‬

‫الحديث معهم؛ فصمتت‪ .‬لكن دموعها ظلت‬ ‫ً‬ ‫تسيل بهدوء‪ ،‬لم تقل شيئا‪ ،‬راحت تراقبني وأنا‬ ‫أخطو خطواتي األخيرة باتجاه سياراتهم‪.‬‬ ‫مشيت بين حشد عناصر املخابرات الذين‬ ‫ً‬ ‫صامتا‪ ،‬أنا اآلخر ّ‬ ‫تحجبت‬ ‫جاؤوا العتقالي‬ ‫بالصمت‪ .‬ثم ما إن أصبحت داخل إحدى‬ ‫السيارات حتى بدؤوا بضربي‪ ،‬أحكموا وضع‬ ‫ش يء ما سميك على ّ‬ ‫عيني؛ منعني عن رؤية أي‬ ‫ش يء من حولي‪ ،‬ووضعوا ّ‬ ‫يدي خلف ظهري‪،‬‬ ‫وقيدوهما بقيد معدني ضيق‪ ،‬وكبسوا رأس ي؛‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬ ‫متكورا‪ ،‬يداي تنتفضان أملا بسبب‬ ‫فتصيرت‬ ‫حديد القيد املغروز فيهما‪ ،‬وضرباتهم تنهال‬ ‫ّ‬ ‫علي كيفما اتفق‪.‬‬

‫جولة تعذيب أخرى‪ ...‬وتعقبها أخرى‪ ...‬والنهار‬ ‫ً‬ ‫يمض ي بطيئا‪ ،‬وعندما يرتاحون بين جولة وما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعدها‪ ،‬يتركونني متكورا وعاريا إال من سروالي‬ ‫الصغير‪ّ ،‬‬ ‫ويدي مقيدتين وراء ظهري‪ ،‬فأحاول‬ ‫التكور أكثر لكنني ال أستطيع؛ لم يعد هذا‬ ‫الجسد املدمى جسدي‪ :‬لم تعد يداي لي‪ ،‬وال‬ ‫رأس ي لي‪ ،‬ولم تعد أي قطعة من هذا الجسد‬ ‫لي‪.‬‬ ‫وكان الليل قد ل ّيل‪ ،‬عندما انتهى يوم عملهم؛‬ ‫ّ‬ ‫إبطي‪ ،‬وسحبوني من‬ ‫فأمسكني اثنان من‬

‫عندما وصلت السيارة إلى باحة فرع املخابرات‬ ‫العسكرية في الالذقية‪ ،‬فتحوا بابها‪ ،‬وبركلة‬ ‫ُ‬ ‫قوية من أحدهم قذفت خارج السيارة‪ ،‬ثم‬ ‫أنهضوني‪ ،‬وبما يشبه السحل سحبوني إلى‬ ‫جوف البناء‪ ،‬وإلى غرفة التحقيق‪.‬‬

‫الطابق الثالث إلى املنفردات في الطابق‬ ‫األرض ي‪ ،‬وفتحوا باب إحداها‪ ،‬ونزعوا القيد‬ ‫عن ّ‬ ‫يدي‪ ،‬والطميشة عن ّ‬ ‫عيني‪ ،‬وألقوني على‬ ‫أرضها‪ ،‬ورموا ثيابي فوقي‪ ،‬وغادروا‪.‬‬

‫جولة من التعذيب‪ ،‬ثم أخرى‪ ،‬وأخرى؛ فهم في‬ ‫البداية ال يريدون منك إال أن تنهار‪ ،‬وأن‬ ‫تتوسل‪ ،‬وأن تستغيث‪ ،‬ثم بعدها‪ ،‬بعدها‬ ‫فقط‪ ،‬يسألون‪ ،‬ويباشرون‪.‬‬

‫ينتفض جسدي تحت موجات ألم تتواتر‬ ‫بسرعة‪ ،‬أشعر أن كتل اإلسمنت املسننة‬ ‫ً‬ ‫املزروعة عمدا في أرض الزنزانة اليابسة‪،‬‬ ‫تمزق جسدي لكنني ال أقدر على تحريكه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أسمع أصواتا قريبة مني‪ ،‬ثمة أشخاص‬ ‫يتهامسون‪ ،‬ثم يرتفع صوت أحدهم أكثر‪،‬‬ ‫ويسأل‪:‬‬

‫وأنا في البداية صرخت‪ ،‬وصرخت‪ ،‬كان صفير‬ ‫اختراق الكبل‪ -‬الذي أجلد به‪ -‬للهواء قبل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وصوله إلى جسدي يبعث في نفس ي رعبا هائال‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫سكت‪ ،‬حاولت‬ ‫ثم بعد أن تعبت من الصراخ‪،‬‬

‫‪93‬‬


‫‬‫‪-‬‬

‫هل غفوت‪ ،‬أم غبت عن الوعي‪ ،‬أم‪ ...‬أفتح‬ ‫ّ‬ ‫عيني في الظلمة‪ ،‬ال أدري أين أنا‪ ،‬كل ش يء‬ ‫غائم‪ ،‬لكن صوت قرقعة حادة ملفتاح في قفل‬ ‫باب زنزانتي يذكرني أين أنا‪َ ،‬ي ِص ُّر باب الزنزانة‬ ‫املعدني بصوت حاد‪ ،‬ثم أشعر كما لو أن‬ ‫حزمة من ضوء تسقط على وجهي‪ ،‬أحاول‬ ‫ً‬ ‫فتح عيني املتورمتين عبثا‪ ،‬لكنني أشعر أن‬

‫أنت ‪ ...‬شو اسمك؟‬

‫ً‬ ‫أحاول أن أقول شيئا‪ ،‬لكنني ما إن أفتح‬ ‫فمي حتى أشعر بألم حاد في فكي؛‬ ‫فأصمت‪.‬‬

‫يسألني مرة أخرى بصوت أقوى‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أنت يا جديد‪ ،...‬شو اسمك؟؟‬

‫اللوحة للفنان اإلماراتي عبد الرحيم سالم‬

‫ً‬ ‫أحدا ما يقف عند باب الزنزانة‪ ،‬وأسمع‬ ‫ً‬ ‫صوت تنفسه‪ ،‬يصمت قليال‪ ،‬ثم يسألني‬ ‫بلهجته املتغطرسة‪:‬‬

‫أقول بكل قدرتي‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫اسمي بسام يوسف‪.‬‬

‫ال يخرج صوتي‪ ،‬محاولة الكالم تبعث في فكي‬ ‫ّ ً‬ ‫متكورا‬ ‫موجة حادة من األلم‪ ،‬أصمت‪ ،‬وأبقى‬ ‫بال حركة‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫‪94‬‬

‫هنت من الديلي‪...‬؟ (أنت من الدالية؟)‬


‫وعلى الرغم من محاوالته كلها‪ ،‬وفنونه في‬ ‫التعذيب كلها‪ ،‬فإني لم أتمكن من تذكر‬ ‫حليب رضاعتي؛ لكي أستجيب إلى طلبه‬ ‫بنسيانه‪ ،‬ويبدو أنني قد نسيته قبل أن ألتقي‬ ‫ً‬ ‫هذا الجندي األسدي الباسل‪ ،‬لم أكن قادرا‬ ‫ً‬ ‫على أن أتذكر شيئا ‪ ...‬لقد كنت أنتفض تحت‬ ‫لسعات ألم ال يوصف فقط‪ ،‬لقد كان‬ ‫جسدي يتمزق‪ ،‬وصرخاتي التي أطلقها‬ ‫ً‬ ‫معتقدا أنها تمأل سماء هذا العالم‪ ،‬لم تكن‬ ‫أكثر من أنين عميق متواصل‪...‬‬

‫أهز برأس ي باإليجاب‪ ،‬ولكن رأس ي ال يتحرك؛‬ ‫فيركلني بحذائه على قدمي‪:‬‬ ‫ يا ّ‬‫كر… مسألك‪ :‬هنت من الديلي‪...‬؟؟‬ ‫أصمت؛ فيركلني مرة أخرى بقوة‪ ،‬وينتفض‬ ‫جسدي بموجة ألم حادة‪ ،‬وأواصل صمتي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فيركلني ركلة أخرى أشد عنفا‪ ،‬ثم وبصوت‬ ‫أقرب إلى العواء‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫متطلع ضد الرئيس يا عرص‪ ...‬وهللا‬ ‫ّ‬ ‫لنسيك الحليب اللي رضعتو‪ ...‬وهللا‬ ‫ألعدمك‪.‬‬

‫وهو‪ ،‬الجندي الباسل‪ ،‬ككلب مسعور يواصل‬ ‫لهاثه‪ ،‬والكبل الذي بيده يهوي بكل ما‬ ‫يستطيع من القوة‪ ،‬وجملة واحدة يرددها بال‬ ‫توقف‪:‬‬

‫ينخبط باب الزنزانة بقوة‪ ،‬ثم يقرقع مفتاحها‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وتعود الظلمة‪ ،‬بينما تبتعد‬ ‫خطوات من سينسيني حليب الرضاعة‪.‬‬ ‫أعود إلى غيبوبتي مرة أخرى‪ ،‬لكن بطل نسيان‬ ‫الحليب‪ ،‬يبكر في طلبي‪ ،‬لم يكن موعد بدء‬ ‫ً‬ ‫العمل صباحا قد حان‪ ،‬عندما تم اقتيادي‬ ‫مرة أخرى إلى غرف التحقيق‪.‬‬ ‫كان ّ‬ ‫يفح مثل أفعى وهو ينهال بكبله الرباعي‬ ‫ً‬ ‫فوق جسدي الوحيد املطروح أرضا‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫آيليييييي ضد السيد الرئيس؟؟!!‬

‫لم تكن سوريا حاضرة‪ ،‬وال اإلمام علي‪ ،‬وال‬ ‫الوطن‪ ،‬وال أي ش يء‪ ،‬وحده السيد الرئيس‬ ‫ُيعلن عن حضوره الطاغي بعنصر مخابرات‬ ‫مسعور‪ ،‬وبكبل يستطيع أن يفتت لحم‬ ‫ضحيته‪ :‬إنه الرئيس‪ ،‬الرئيس األوحد‪ ،‬الفرد‬ ‫الصمد‪ ،‬املالك السيد‪ ...‬ونحن عبيده‬ ‫الجاحدون املارقون الكافرون به‪ ،‬نحن‬ ‫الناكرون فضله ّ‬ ‫ومنه وخيره ‪...‬نحن من‬ ‫نتنفس هواء‪ ،‬ما كان ليكون‪ ،‬لوال عطاءاته‬ ‫وفضله‪.‬‬

‫وهللا لربي الديلي فيك ‪ ...‬ولك هنت ضد‬ ‫السيد الرئيس ‪...‬؟؟!! ما عجبك تطلع إال‬ ‫ضد السيد الرئيس‪...‬؟؟ وهللا بقبل تطلع‬ ‫ضد اإلمامو علي‪ ،‬أما تطلع ضد السيد‬ ‫الرئيس!!! العمى بعيونك العمى‪...‬‬

‫‪95‬‬


‫أشهق بعد دفقة ماء باردة على جسدي الذي‬ ‫تتوهج جروحه كجمر‪ ،‬تؤملني دفقة املاء‬ ‫الباردة أكثر من ضربات الكبل؛ فتسحبني من‬ ‫غيبوبتي‪ ،‬وأجاهد بكل ما أستطيع لكي أفتح‬ ‫عيني‪ ،‬لكنهما تظالن مغلقتين‪ ،‬وإن كنت ال‬ ‫ً‬ ‫أعرف يقينا‪ ،‬إن كنت قد تمكنت من فتحهما‬ ‫ً‬ ‫أم ال؛ فالظلمة التي أغرق فيها ال تنقص أبدا‪،‬‬ ‫وذاكرتي التي تبحث عن ش يء ما؛ لكي تحدد‬ ‫أين أنا‪ ،‬ال تعثر على أي ش يء‪ ،‬وتغيم‪ ،‬وتدور‬ ‫قبل أن تباغتني دفقة ماء أخرى؛ فأشهق مرة‬ ‫أخرى‪ ،‬وأشعر كما لو أنني بال ذاكرة‪ ،‬ال ش يء‬

‫في صباح اليوم الثالث من اعتقالي فتح‬ ‫ً‬ ‫السجان باب زنزانتي‪ ،‬وهو يزعق طالبا مني‬ ‫الوقوف‪ ،‬حاولت فتح ّ‬ ‫عيني فلم أستطع‪ ،‬كان‬ ‫الورم قد تضاعف‪ ،‬ولم تنفع ركالت السجان‬ ‫وال زعيقه وال شتائمه وتهديداته‪ ،‬في سكب ما‬ ‫يكفي من القوة في جسدي؛ لكي أنهض‪ ،‬كنت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جسدا متيبسا ومتورما‪ ،‬وكانت كل خلية فيه‬ ‫تنتفض بلسعات ألم ال تحتمل‪ ،‬وهكذا‬ ‫اضطر إلى االستعانة بعنصر آخر‪ّ ،‬‬ ‫فجروني‬ ‫مثل كيس‪ ،‬كنت أصرخ مع كل خطوة‬ ‫ً‬ ‫يخطوانها‪ ،‬لكن صرخاتي‪ ،‬هي أيضا‪ ،‬كانت‬ ‫أعجز من أن تتجاوز ذلك‬ ‫األنين العميق الذي ال‬ ‫يتوقف‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وكان يوما آخر من الجحيم في‬ ‫غرفة التحقيق‪ ،‬فالجسد‬ ‫الذي تفتت‪ ،‬وتورم‪،‬‬ ‫وتفصدت جروحه‪ ،‬قد فقد‪-‬‬ ‫خالل يوميه املاضيين‪ -‬طاقته‬ ‫على التحمل كلها‪ ،‬لقد كانت‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫لسعة الكبل‪ ،‬الذي يهوي فوق الجروح‪ ،‬تفجر‬ ‫ً‬ ‫أملا ال يمكن وصفه‪ ،‬وال يمكن لصراخ في‬ ‫العالم أن يقوله‪ ،‬وال يمكن ألي آلهة أن‬ ‫ً‬ ‫تخفف بعضا منه‪ ،‬ثم بعد قليل من بدء جولة‬ ‫التعذيب ُيعلن الجسد املنهك زوغانه؛ فيعطل‬ ‫حواسه كلها؛ ليفعل آخر ما يمكنه فعله‪.‬‬

‫حولي‪ ،‬والعالم أسود وحارق‪ ،‬لكنني أستعيد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شيئا فشيئا قدرتي على التذكر‪ ،‬بعد أن‬ ‫أسمع صراخهم وشتائمهم‪ ،‬أتذكر أين أنا‪،‬‬ ‫وألعن حظي؛ ألنني ما زلت على قيد الحياة‪.‬‬ ‫في جولة أخرى سوف يغمى ّ‬ ‫علي‪ ،‬وسوف‬ ‫ُيسكب فوقي املاء البارد مرة أخرى‪ ،‬وسأسمع‬

‫‪96‬‬


‫سيل الشتائم املصحوب بركالت أحذيتهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وستظل جملتهم املستنكرة تتردد دائما‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ضد السيد الرئيس!!؟؟‬

‫‪-‬‬

‫قلتلي هنت ضد السيد الرئيس!!!‬

‫قرروا عالجي في الزنزانة‪ ،‬ومن يتولى أمر‬ ‫عالجي هو سجين آخر‪ ،‬عرفت أنه طبيب‪،‬‬ ‫ً ً‬ ‫سيكون هذا مهما جدا لي‪ ،‬ثمة ش يء آخر بالغ‬ ‫األهمية وهو أن الطبيب السجين الذي‬ ‫يعالجني‪ ،‬قد استطاع أن يدخل إلى زنزانتي‬ ‫نصف بطانية عسكرية وجدها فوق سطح‬ ‫الزنازين‪ ،‬وهكذا استطاع بها وبما ّ‬ ‫لدي من‬ ‫ثياب‪ ،‬أن يخفف من حدة النتوءات القاسية‬ ‫في أرضية الزنزانة‪.‬‬

‫ً‬ ‫ال أدري‪ ،‬ملاذا يصرون على ترديدها دائما‪،‬‬ ‫لكأنما يحتاجونها؛ لكي تحفز فيهم القدرة على‬ ‫سحق اآلخر بال رحمة‪ ،‬إذ ما إن يصرخ بها‬ ‫أحدهم حتى تنتابهم موجة هيجان جديدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تتحول إلى عنف مجنون‪ ،‬ينصب انصبابا‬ ‫فوق الجسد املقيد أمامهم‪ ،‬وما إن تبرد‬ ‫ً‬ ‫ضغينتهم ضده قليال‪ ،‬حتى يبادر أحد ما‬ ‫ليحفزهم من جديد‪ ،‬فيطلق املعزوفة عينها‪:‬‬

‫صرت أجلس في زاوية الزنزانة‪ ،‬أسند رأس ي‬ ‫على ما يشبة وسادة‪ ،‬صنعها لي الطبيب‬ ‫السجين من قميص ي الداخلي‪ ،‬بعد أن حش ى‬ ‫ً‬ ‫به فردتي حذائي وربطه جيدا‪ ،‬فحذائي لم‬ ‫ً‬ ‫يعد له أي فائدة؛ ألن ّ‬ ‫رجلي املتورمتين كثيرا‪،‬‬ ‫لم يكن باإلمكان إدخالهما في فتحته‪.‬‬

‫لتبدأ معركة جديدة بينهم وبين الجسد‬ ‫املسجى أمامهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثم أحضروا شخصا ما لرؤيتي‪ ،‬أظنه كان‬ ‫ً‬ ‫طبيبا‪ ،‬وقد كنت‪ ،‬كتلة من اللحم املدمى‬ ‫مشلوحة فوق بالط وسخ في غرفة تحقيق‬ ‫قذرة‪ ،‬غير قادر على الحركة‪ ،‬عندما اقترب‬ ‫مني شخصان‪ ،‬قلبني أحدهم بعنف‪ ،‬ليرى‬ ‫الجهة األخرى من جسدي‪ ،‬وسمعت‬ ‫ً‬ ‫الشخص اآلخر يقول له هامسا‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هنا ال يمكنك أن تعرف الليل من النهار‪ ،‬ثمة‬ ‫مؤشر وحيد يمكنك أن تستدل به على‬ ‫الوقت‪ ،‬إنه مواعيد قدوم الطعام‪ ،‬أو مواعيد‬ ‫التحقيق‪ ،‬ما تبقى هو زمن لأللم والعتمة‬ ‫والصمت والذاكرة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أجلس في العتمة الدائمة‪ ،‬أحيانا بعد أن‬ ‫ً‬ ‫قرروا أن يتركوا باب زنزانتي مفتوحا؛ كي‬ ‫يتمكن الطبيب من مواصلة عالجي‪ ،‬وكنت‬ ‫ً‬ ‫أطلب منه أال يغلق الباب تماما‪ ،‬حتى يتسرب‬ ‫الضوء الخافت من خالل الشق الصغير‪.‬‬

‫أوقفوا التعذيب‪ ،‬لقد بدأت جروحه‬ ‫تلتهب‪ ،‬سيكون األفضل لو نقلناه إلى‬ ‫املشفى‪ ،‬أعرف أن هذا غير ممكن‪ ،‬لكن‬ ‫ً‬ ‫عالجه أصبح ضروريا‪.‬‬

‫‪97‬‬


98


‫آداب وفنون‬

‫‪99‬‬


100


‫القراءة التفاعلية وداللة النص‬

‫د‪ .‬يوسف إمساعيل‬

‫إن ما نحاول استفزازه في تلك المالحظات السريعة هو‬ ‫تحريك القراءة النمطية المظهرية إلنتاج قراءة مخاتلة‬ ‫تتقاطع مع السابقة وتفيد منها‪ ،‬وقد تسير بالتوازي‬ ‫معها أو تناقضها‪ .‬ولكن ذلك كله في إطار المعطيات‬ ‫الموضوعية والعناصر الفاعلة في داخل النص بغض‬ ‫النظر عن سياقه الخارجي إال بالقدر الذي يستدعيه‬ ‫السياق الداخلي للمكونات اللغوية واألسلوبية‪.‬‬

‫على الرغم من أن تراثنا النقدي البالغي حافل باإلشارات إلى مشروعية حضور داللتين متناقضين‬ ‫في النص الواحد كأسلوب املدح والذم حيث تمدح ظاهريا وتقدح باطنيا وكالتورية والكناية‪ ..‬إلخ‪،‬‬ ‫ولكن تلك األساليب لم تؤسس مفاهيم منهجية للقراءة وظلت في إطار الصيغ والعناصر املنفصلة‬ ‫عن بعضها بوصفها محسنا بالغيا أسلوبيا يسم جملة أو مفردة ولكنه ال يخرق نظاما دالليا كليا‬ ‫لحوامل النص وبنيته الداللية املركزية‪.‬‬

‫‪101‬‬


‫إلنتاج قراءة مخاتلة تتقاطع مع السابقة‬ ‫وتفيد منها‪ ،‬وقد تسير بالتوازي معها أو‬ ‫تناقضها‪ .‬ولكن ذلك كله في إطار املعطيات‬ ‫املوضوعية والعناصر الفاعلة في داخل‬ ‫النص بغض النظر عن سياقه الخارجي إال‬ ‫بالقدر الذي يستدعيه السياق الداخلي‬ ‫للمكونات اللغوية واألسلوبية‪.‬‬

‫ووفق ذلك فإن القراءات التي تندرج في ذلك‬ ‫ّ‬ ‫اإلطار ركزت على النصوص التي تعلن خطابها‬ ‫ً‬ ‫الخفي تصريحا كموقف املعري من ابن‬ ‫القارح في رسالته وكأساليب التورية وفنونها في‬ ‫شعر العصور العربية املتأخرة‪ .‬إال أن ذلك‬ ‫كان يعمل جزئيا في النص ولم ّ‬ ‫يفعل نقديا‬ ‫إلنتاج منظومة مفهومية متكاملة ملشروعية‬ ‫القراءة لخطابين متناقضين في النص الواحد‪.‬‬ ‫ولذلك فإن حوامله املعرفية كانت ضعيفة‬ ‫كنتائجه واقتصر على املدح من حيث يراد‬ ‫القدح والعكس غير وارد‪ ،‬أو املعنى البعيد‬ ‫واملعنى القريب‪ .‬وذلك ال يحمل شمولية في‬ ‫يمس الخطاب بوصفه ً‬ ‫ّ‬ ‫نتاجا‬ ‫الداللة وال‬ ‫ً‬ ‫مقروءا عبر اإلشارات مرة أخرى أو ما نسميه‬ ‫ً‬ ‫سيمياء التأويل انطالقا من العبارة إلى اإلشارة‬ ‫في النص مع اإلفادة من املوسوعة املعرفية‬ ‫للقارئ املؤول‪.‬‬

‫وسنرى ذلك في النص التالي‪ .‬يقول الخبر‪)1(:‬‬

‫( ُحكي أن املأمون طلب من علي بن هشام أن‬ ‫يعمل له دعوة‪ ،‬ولم ُيمهله الزمان الذي كان‬ ‫يمكن أن يحتفل فيه لدعوته‪ ،‬فلما دخل‬ ‫املأمون َ‬ ‫ّ‬ ‫دار ّ‬ ‫التجمل ما‬ ‫علي شاهد من آالت‬ ‫ً‬ ‫أحدا ً​ً ُ‬ ‫ُ‬ ‫تبلغ‬ ‫ظننت أن‬ ‫حار له‪ ،‬فقال‪ :‬ما‬ ‫ُ‬ ‫مروءته ُ‬ ‫ونبله إلى ما أرى‪ .‬فخاف محمد بن عبد‬ ‫علي من املأمون فقال‪ :‬يا َ‬ ‫امللك على ّ‬ ‫أمير‬ ‫ًّ‬ ‫عليا شعر بأنا نهجم عليه‪،‬‬ ‫املؤمنين إن‬ ‫ّ‬ ‫فاستعد لنا‪ ،‬واستعار‪ ،‬فلم يفطن عليّ‬ ‫ّ‬ ‫وظنه يذهب إلى االستنقاص‬ ‫ملقصوده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫بمروءته‪ ،‬فبذر‪ ،‬وحلف برأس املأمون‪ ،‬إن‬ ‫ً‬ ‫كان استعان بأحد في ّ‬ ‫تجمله‪ ،‬واستعار شيئا‪.‬‬ ‫فلما جلسوا على الطعام غمز املأمون أبا‬ ‫َ‬ ‫أحمد ولد الرشيد‪ ،‬فقال أبو أحمد‪ :‬أشتهي‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫فنقلت ِصحاف (‪ )2‬املخ‪ ،‬وهو يأكل‬ ‫ُمخا‪،‬‬ ‫ويستزيد‪ ،‬فلما شعر الطباخ بمقصوده‪ ،‬قال‬ ‫ألستادار(‪ّ )3‬‬ ‫علي بن هشام‪ :‬ويحك إن هو ال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إنما قصدوا الزري(‪ )4‬على مروءة سيدنا‬

‫وكان من نتائج ذلك أن هيمنت قراءة نمطية‬ ‫على تراثنا األدبي تعلي من شأن القراءة‬ ‫املظهرية وتقف عند العناصر األدبية في‬ ‫النص بوصفها عناصر مستقلة وجزئية‬ ‫فاعلة بذاتها‪ّ .‬‬ ‫وأدت النمطية كذلك إلى التكرار‬ ‫ً‬ ‫وإعادة إنتاج ما هو ّ‬ ‫مكون سابقا‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫إمكانية االختالف في الرؤى واألصوات‪.‬‬ ‫إن ما نحاول استفزازه في تلك املالحظات‬ ‫السريعة هو تحريك القراءة النمطية املظهرية‬

‫‪102‬‬


‫ّ‬ ‫ونبله‪ ،‬وال ينبغي لنا أن نمكن من ذلك‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫ذبحت كل ما عندي‪ ،‬ومألت الصحاف‬ ‫بمخه‪ ،‬وهم غير مقتنعين‪ ،‬وليس يمأل‬ ‫ُ‬ ‫عيونهم إال املخ املهر ّي؛ وكان لعلي مهر يسابق‬ ‫الريح‪ ،‬وقد اشتراه بعشرة آالف درهم‪ ،‬فقال‬ ‫له‪ :‬وما انتظارك به‪ ،‬فقال‪ :‬نستأذنه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ليس هذا وقت إذن! فبادر الطباخ إلى‬ ‫ّ‬ ‫الفصيل(‪ )5‬فذبحه وخلص عظامه وسلقها‬ ‫واستخرج املخ‪ .‬وصار يمدهم بصحاف املخ‪،‬‬ ‫وهم يأكلون‪ ،‬وأبو أحمد يستزيد إلى أن‬ ‫استحيا املأمون‪ ،‬وغمز أبا أحمد فأمسك‪).‬‬ ‫إن َ‬ ‫الشخصيات الفاعلة في الحدث‪ ،‬في‬ ‫جميع‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫شخصيات ُم ّ‬ ‫عرفة لغويا‬ ‫ذلك النص‪ ،‬هي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ودالليا‪ ،‬حاضرة بمسمياتها‪ ،‬فال نجد‪ ،‬عالقة‬ ‫ًّ‬ ‫عمودية بين فوق وتحت‪ ،‬أو بين معرفة‬ ‫ونكرة‪ .‬كما أن صيغ الخطاب في النص ال‬ ‫تجري على صيغ األمر‪ ،‬وتسود فيها لغة‬ ‫ُ‬ ‫واصفة للحدث‪ُ .‬يضاف إلى ذلك ّأن طبيعة‬ ‫ً‬ ‫الدعوة ليست منطلقة من املضيف إلى‬ ‫ٌ‬ ‫طلب‬ ‫املستضاف‪ ،‬بل بالعكس‪ ،‬هي عبارة عن ٍ‬ ‫من املأمون باستضافته من قبل علي بن‬ ‫هشام‪ ،‬ومعه أبو أحمد ابن الرشيد ومحمد‬ ‫بن عبد امللك‪ ،‬أي‪ :‬أن العالقة القائمة بين‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أفقية ُ‬ ‫غير ِآم ٍرة‪ .‬ومما‬ ‫الشخصيات هي عالقة‬ ‫يؤكد ذلك ّأن املأمو َن لم ينتظر ًّ‬ ‫عليا ُليعد‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫وجاء‬ ‫للدعوة‪ ،‬وإنما فاجأه بالحضور‪،‬‬ ‫تعريضه بنقص املائدة مما يحبه أبو أحمد‬

‫ُ‬ ‫مازحة من خالل غمزه‬ ‫بصيغة‬ ‫ابن الرشيد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ألبي احمد‬ ‫يبين ذلك أن املائدة هي مائدة أصدقاء‬ ‫يتالطفون في الحديث وال يوجد بينهم سيد‬ ‫ومسود‪ .‬ويدعم تلك القراءة طلب املستضاف‬ ‫تجهيز دعوة من املضيف‪ .‬وهذه ال تحدث إال‬ ‫بين األصدقاء‪ .‬وتؤكد ذلك املفاجأة بحضور‬ ‫املأمون وصحبه إلى دار علي بن هشام قبل‬ ‫تحديد موعد الدعوة أو منح الوقت الكافي‬ ‫للتجهيز لها‪ .‬وكذلك املمازحة من خالل‬

‫‪103‬‬


‫النص‪ .‬القسم األول يبدأ من لحظة دخول‬ ‫املأمون دار علي واندهاشه بما شاهد‪.‬‬ ‫والقسم الثاني من اللحظة التي غمز فيها‬ ‫املأمون ابن الرشيد ملمازحة املضيف‪ .‬أما ما‬ ‫تقدم من بداية الخبر إلى حين دخول املأمون‬ ‫َ‬ ‫دار ّ‬ ‫علي فهو بمثابة التوطئة للحالتين اللتين‬ ‫تهيمنان على النص‪ .‬الحالة األولى التوتر‬ ‫والثانية االنفراج‪.‬‬

‫التعريض بمائدة علي بن هشام‪ ،‬وال يفعل‬ ‫ذلك إال الصديق ّ‬ ‫املقرب‪.‬‬ ‫القراءة‬ ‫تشير‬ ‫املظهرية إذن إلى‬ ‫أن املأمون هنا‬ ‫حاضر بصفته‬ ‫ً‬ ‫االجتماعية بعيدا‬ ‫عن أي مظهر‬ ‫سياس ي سلطوي‪.‬‬ ‫غير أن ما يثير‬ ‫الشك في صوابية‬ ‫ذلك اإلشارة العابرة التي وردت في النص في‬ ‫سياق تدخل الراوي وتثير االنتباه لتفصل‬ ‫القول بين خطابين يمكن القول بأنهما‬ ‫متناقضين‪ ،‬وهي (فخاف محمد بن عبد امللك‬ ‫على ّ‬ ‫علي من املأمون) بل هي عبارة تفصل بين‬ ‫خطابين ظاهر وخفي‪.‬‬

‫التوتر‪ :‬إن اجتماع الصحبة ـ ظاهريا ـ املؤلفة‬ ‫من علي بن هشام ومحمد بن عبد امللك وأبي‬ ‫أحمد ولد الرشيد واملأمون جاء بناء على طلب‬ ‫من املأمون‪ ،‬أي أن الضيف يطلب من‬ ‫املضيف أن يعمل لهم مأدبة‪ .‬وقد نفسر ذلك‬ ‫لصالح الحضور االجتماعي للمأمون بين‬ ‫حاشيته وأصحابه وربما يدعم ذلك ظاهريا‬ ‫أن املأمون لم يمهل عليا لكي يجهز للدعوة بل‬ ‫فاجأه بالحضور من دون إشارة إلى قدومه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وهنا يجب أال يغيب عنا موقعه السيادي وفق‬ ‫دوره شخصية فاعلة في النص أي أنه طالب‬ ‫الدعوة نيابة عن اآلخرين‪ ،‬ثم مبادرته‬ ‫بقيادتهم أو جمعهم للذهاب إلى علي من دون‬ ‫موعد سابق‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولكن عليا فاجأ املأمون من دون قصد‬ ‫وأدهشه وحيره باستعداده املنجز‪ .‬فماذا كان‬ ‫رد فعل املأمون؟ قال املأمون (ما ظننت أن‬ ‫ً‬ ‫أحدا تبلغ مروءته ونبله ما أرى) القراءة‬

‫إال أننا بحاجة إلى اكتشاف اإلشارات النصية‬ ‫التي تسمح لنا بقراءة الخطاب الخفي في‬ ‫النص‪ ،‬ذلك الخطاب الذي لم يصرح به‬ ‫صاحب الخبر وال يمكن الوصول إليه إال عبر‬ ‫االنتقال من العبارة الواضحة إلى اإلشارة‬ ‫الحاملة لدالالت النص املوازي واملخفي خلف‬ ‫ّ‬ ‫املصرحة بالخطاب املظهري‪.‬‬ ‫العبارات‬ ‫ِ‬ ‫كإجراء تحليلي سنقسم النص إلى قسمين‬ ‫طبقا لحالتين تسم العالقة بين شخصيات‬

‫‪104‬‬


‫يكون لعلي عين عند املأمون‪ .‬وهذا ال يمكن‬ ‫التسامح بشأنه وليس بعدا اجتماعيا لحضور‬ ‫املأمون هنا وإنما له داللة واضحة للحضور‬ ‫السلطوي السياس ي للمأمون الخليفة ‪،‬‬ ‫وخاصة أن املأمون لم يمهل عليا الزمان‬ ‫ليستعد ‪.‬ونستطيع تأكيد ذلك حين يكون‬ ‫بإمكاننا تبديل قول املأمون (ما ظننت أن‬ ‫ُ‬ ‫أحدا تبل ُغ مروءته ونبله إلى ما أرى) بعبارة‬ ‫أخرى وردت في رواية أخرى من املخطوط‬ ‫الذي ورد به ذلك النص ‪ ،‬وتقول العبارة (ما‬ ‫َّ‬ ‫ظننت أن أحدا تبل َغ من املأمون ) (‪ )6‬وهي‬ ‫العبارة ذاتها لفظا ولكنها ناقصة مع تغير بنية‬ ‫الفعل تبلغ مما أدى إلى اختالف خطاب‬ ‫العبارة من الظاهر إلى املكنون ‪ .‬ولكن يجب‬ ‫التنويه أيضا إلى أن املأمون لم يكن يشك في‬ ‫ّ‬ ‫علي قبل دخوله داره‪ ،‬فهو حين طلب تجهيز‬ ‫دعوة كان مرهقا من أعباء السياسة وبحاجة‬ ‫إلى الخروج من متاعب السلطة وال مساحة له‬ ‫في ذلك إ مع أصدقائه أو حاشيته‪ .‬والدليل‬ ‫ً‬ ‫على ذلك انه لم يمهل عليا‪ ،‬إذ سرعان ما خرج‬ ‫إلى بيت علي؟ وكان يمكن أن ينس ى األمر إلى أن‬ ‫يذكره ربما علي أو محمد بذلك‪ .‬أال يعني ذلك‬ ‫إذن أن توجس املأمون حضور سياس ي له‬ ‫وكذلك خوف محمد على علي؟ ومما يخاف‬ ‫عليه من غير بطش املأمون لتوجس أدركه في‬ ‫نفسه وإن ّ‬ ‫عبر عن حيرته بخطاب ظاهره مدح‬ ‫لعلي وباطنه قلق وتوجس‪ .‬ولذلك كان رد‬

‫املظهرية لهذا القول تؤيد قراءة حضور‬ ‫املأمون في الدعوة ببعده االجتماعي من دون‬ ‫بعده السياس ي السلطوي‪ ،‬ولكن ما ينفي ذلك‬ ‫ً‬ ‫سريعا الجملة التالية لقول املأمون التي تعبر‬ ‫عما انتاب محمد بن عبد امللك من خوف على‬ ‫علي (خاف محمد ‪...‬على ّ‬ ‫ّ‬ ‫علي ‪ . )..‬مما خاف‬ ‫محمد وما دواعي الخوف إذا كان املأمون هنا‬ ‫هو صاحب اجتماعي ال غير‪ .‬يضاف الى ذلك‬ ‫ً‬ ‫أن عليا كان جاهزا بمائدته بل إنه فاجأ‬ ‫الصحبة؟ في الجملتين تنافر على مستوى‬ ‫الخطاب الظاهر‪ ،‬واتساق على مستوى‬ ‫الخطاب الخفي ال يمكن ردم الفجوة بينهما إال‬ ‫من خالل إدراك البعد الذي فهمه محمد في‬ ‫قول املأمون‪ ،‬وال شك انه غير ظاهر وإنما‬ ‫تخفى بجملة مدح لعلي من قبل املأمون‪.‬‬ ‫ويمكن فهم ذلك إذن بالسؤال التالي ما الذي‬ ‫فاجأ املأمون؟ هل ما شاهد من آالت التجمل‬ ‫عند علي؟ أم استعداد علي لحضور املأمون‬ ‫وكأنه على علم مسبق بموعد حضوره؟‪ .‬ولكن‬ ‫الذي خلق الفجوة في حالة التلقي هي العبارة‬ ‫ً‬ ‫التي تشير إلى الخوف الذي انتاب محمدا‪،‬‬ ‫ذلك الخوف الذي ال نرى له مبررا إذا كان‬ ‫الخطاب الظاهر هو املقصود‪ ،‬إن كان من‬ ‫قبل املأمون أو من قبل محمد بن عبد امللك‪.‬‬ ‫وبناء عليه يمكن القول إن املفاجأة التي شعر‬ ‫بها املأمون بعثت في نفسه الخوف من علي‪،‬‬ ‫فقد أثار ذلك في نفسه دائرة من الشكوك كأن‬

‫‪105‬‬


‫محمد ال يتسق مع خوفه وال مع واقع‬ ‫الوضع املادي لعلي إذ قال (يا أمير املؤمنين‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫إن عليا شعر بأنا نهجم عليه‪ ،‬فاستعد لنا‪،‬‬ ‫واستعار) وهل كان علي بحاجة وهو من‬ ‫حاشية امللك وأصدقائه الستعارة ما يجمل‬ ‫به مائدة الخليفة وممن سيستعير؟ فإذا‬ ‫كان هو ال يملك ما يجمل به مائدة الخليفة‬ ‫فمن سيملك ذلك؟ وألن ذلك غير وارد وفق‬ ‫تلك الوضعية فإن محمدا أراد من جملته‬ ‫تغطية الخطاب الخفي في جملة املأمون‬ ‫وإبعاد القلق عن ذهن املأمون عبر تغيير‬ ‫املوضوع ونقله الى ما هو ظاهر للعيان حتى‬ ‫ال تتداعى أفكار القلق عند املأمون الى ما ال‬ ‫تحمد عقباه‪ .‬ولكن على الرغم من محاولة‬ ‫النقل تلك فإن خوف محمد وإدراكه‬ ‫لتوجس املأمون انعكس على لغته من دون‬ ‫قصد إذ قال (شعر بأنا نهجم عليه‪،‬‬ ‫فاستعد لنا) فالهجوم واالستعداد لغة حربية‬ ‫بين متحفزين عدوين ال صاحبين‪ .‬وما يدعم‬ ‫ذلك أيضا صوت الراوي إذ يقول بعد جملة‬ ‫محمد (فلم يفطن علي ملقصوده وظنه يذهب‬ ‫ّ‬ ‫إلى االستنقاص بمروءته فبذر وحلف برأس‬ ‫املأمون إن كان استعان بأحد في تجمله‪ )..‬وهو‬ ‫يريد مقصود الخليفة؟ وفهمه الخاطئ أعلن‬ ‫براءته وبراءة محمد بن عبد امللك وأبي أحمد‬ ‫ولد الرشيد من شك املأمون بأحدهم‪ .‬ولكننا‬ ‫ال نستبعد توجس املأمون من ّ‬ ‫أي منهم ألنه هو‬

‫املستحوذ على السلطة بكل صورها‬ ‫وتجلياتها‪ ،‬وذلك االستحواذ يدعوه إلى الشك‬ ‫ً‬ ‫بأقرب الناس إليه وهو الذي خاض صراعا‬ ‫على السلطة ضد أخيه األمين انتهى بمقتل‬ ‫األخير‪ ،‬كما أنه جزء من الصورة التاريخية‬ ‫للخليفة املستحوذ في الثقافة العربية‬ ‫السياسية‪.‬‬ ‫االنفراج‪ :‬كما اتضح في القسم األول فإن‬ ‫التوتر كان سيد الخطاب الخفي بسبب‬ ‫الحضور السياس ي للمأمون في هذا النص وان‬

‫‪106‬‬


‫ً‬ ‫إذا كان جالسا مع أصحابه بصفته‬ ‫االجتماعية وليس السياسية؟ وهل كان يمكن‬ ‫ألبي أحمد أن يفعل ذلك من دون اخذ اإلشارة‬ ‫الخضراء من املأمون؟ ال شك أن تلك إشارات‬ ‫على الحضور السياس ي للمأمون في هذا النص‬ ‫على الرغم من أن الخطاب الظاهر ّيبن أن‬ ‫حضوره اجتماعي‪ .‬ومما يؤكد ذلك أيضا أن‬ ‫املضيف ال يملك حضورا في سواد النص إذ‬ ‫لم يقدمه الراوي إال عبر صوته هو حين قال‬ ‫بأنه حلف برأس املأمون بأنه لم يستعر شيئا‬ ‫من أحد‪ ،‬فصمته الشديد وغيابه فيزيائيا عن‬ ‫النص يشير إلى هيمنة الخليفة وخطابه‬ ‫وقلقه وتوجسه ومحاولة محمد تبديد تلك‬ ‫املخاوف وذلك القلق‪ .‬يضاف إلى ذلك براءة‬ ‫علي من شك املأمون ألنه لم يفطن إلى البعد‬ ‫الذي فطن إليه محمد بن عبد امللك على‬ ‫الرغم من أنه ينظر إلى عالقته مع املأمون في‬ ‫بعدها العمودي الذي يربط بين طرفين‬ ‫(فوق× تحت)‪ .‬وما كرم علي بذبح كل ما يملك‬ ‫من حيوانات مع مهره الغالي الثمن إال تتويجا‬ ‫لتلك العالقة ولذلك الحضور السياس ي‬ ‫للمأمون في النص‪ ،‬آلن هذه املبالغة املفقرة في‬ ‫الكرم ال تكون بين األصدقاء وإنما بين طرفين‪:‬‬ ‫فوق وتحت‪ .‬يستطيع من هو تحت أن يعوض‬ ‫خسارته من خالل محافظته على العالقة مع‬ ‫الفوق‪ .‬ويفهم ذلك ـ بوعي أو دون وعي ـ‬ ‫استادار علي ويطلب ذبح املهر من دون العودة‬

‫كان ظاهريا هو حضور اجتماعي‪ .‬ولكن بعد‬ ‫أن استطاع محمد بن عبد امللك إزالة التوترـ‬ ‫ولو مرحليا ـ أخذت الجلسة طابع املمازحة‬ ‫وهي الغاية املنوطة بها لالبتعاد عن هموم‬ ‫السلطة وأعبائها‪ .‬ولكن على الرغم من ذلك ال‬ ‫يمكن القول بأننا سنرى في هذا القسم اآلن‬ ‫حضورا اجتماعيا للمأمون وإنما سنرى أيضا‬ ‫حضوره سلطة سياسية وفق إشارات النص‬ ‫وليس عباراته‪.‬‬ ‫في هذا القسم يغمز املأمون أبا أحمد ولد‬ ‫الرشيد إلطالق املمازحة‪ ،‬وهو الذي يوقفها في‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ .‬فهو ّ‬ ‫املخول سلطويا بفتح‬ ‫نهاية النص‬ ‫تلك املمازحة وإيقافها‪ ،‬وال تملك أي شخصية‬ ‫أخرى القدرة على ذلك إال إذا كانت‬ ‫الشخصيات األخرى كلها حاضرة قي النص‬ ‫ببعدها االجتماعي بما في ذلك شخصية‬ ‫املأمون والعالقة بينهما أفقية‪ .‬وهذا غير‬ ‫صحيح في تلك املأدبة على األقل أو هذا‬ ‫النص‪ ،‬فالقسم الثاني يبدأ وينتهي بحوامل‬ ‫فعل األمر وإن اختفت صيغته‪ .‬ففي بداية‬ ‫القسم الثاني يقول الراوي (غمز املأمون أبا‬ ‫ً‬ ‫أحمد‪ ...‬فقال أبو أحمد‪ :‬اشتهي مخا) وفي‬ ‫نهاية القسم الثاني والنص أيضا (استحيا‬ ‫املأمون‪ ،‬وغمز أبا أحمد فأمسك)‬ ‫يضاف إلى ذلك السؤال التالي‪ :‬ملاذا أشار‬ ‫املأمون إلى أحمد بذلك ولم يقم هو باملمازحة‬

‫‪107‬‬


‫اجتماعية ‪ /‬فئوية أو عنصرية‪ .‬أي انه طرف‬ ‫في معادلة (فوق × تحت) بشكل دائم يمارسها‬ ‫وفق الجهة التي يقف فيها في هذه اللحظة أو‬ ‫تلك أو تمارس عليه‪ .‬وال يمكن أن يتخلص منها‬ ‫إال عبر إحساسه بالندية والتوازي في إطار‬ ‫الحرية والدور الفعال له ولآلخر ـ وفي إطار‬ ‫التكامل اإلنساني‪ .‬غير أن التقاط ذلك مرتبط‬ ‫بقراءة مكونات النص واالنتقال بدالالتها من‬ ‫العبارة إلى اإلشارة‪ ،‬مع اإلدراك بأنها قراءة‬ ‫مخاتلة تحتاج إلى مفتاح مركزي يوجه القراءة‬ ‫الظاهرة إلى القراءة التفاعلية‪.‬‬

‫إلى سيده‪ .‬ويبدو في القراءة الظاهرية أن‬ ‫موقفه نابع من عدم الرغبة في إظهار سيده‬ ‫بموقف البخيل‪ ،‬ولكن أال يدرك االسادار أن‬ ‫سيده حريص على عالقته مع املأمون مهما‬ ‫كان ثمنها ولذلك يجب أن يتصرف بناء على‬ ‫إدراكه ذاك‪.‬‬ ‫وعليه فإن النص يحمل خطابين‪ :‬خطاب‬ ‫ظاهر يقدم املأمون شخصية اجتماعية في‬ ‫هذا النص‪ .‬وخطاب خفي يقدمه شخصية‬ ‫سياسية سلطوية‪ .‬ويمكن تعميم هذه‬ ‫النتيجة على النصوص املشابهة من حيث‬ ‫تصنيف الشخصيات الحاضرة في النص‪ ،‬ألن‬ ‫البعد السلطوي في عالقات اإلنسان حاضر‬ ‫بشكل مستمر في املجتمعات غير الحرة‪ ،‬إن‬ ‫كان ذلك البعد سلطة سياسية أو دينية أو‬

‫اهلوامش‬

‫‪ 1‬ـ رسالة آداب املؤاكلة ‪ .‬بدر الدين الغزي ‪ .‬تحقيق عمر موس ى باشا ‪ .‬مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ‪ .‬املجلد الثاني واألربعون ‪.‬‬ ‫الجزء الثالث والرابع ‪ 1967‬ص ‪ 503‬ـ ‪524‬‬ ‫‪ 2‬ـ صحاف ‪ :‬األواني التي يوضع بها الطعام‬ ‫‪ 3‬ـ ـاألستادار ‪ :‬وظيفة من وظائف أرباب السيوف يتولى صاحبها أمر بيوت السلطان كلها من املطابخ والشراب والحاشية ‪ ،‬وهو الذي‬ ‫يحكم في باب السلطان ويحكم في غلمانه وباب داره ‪ ،‬وإليه أمر الجاشنكيرية ‪ ،‬وله مطلق التصرف في استدعاء ما يحتاجه كل من في‬ ‫بيت السلطان من النفقات ‪ .‬املحقق ص‪ 515‬نقال هن القلقشندي ‪ .‬صبح األعش ى ‪ .‬ج‪ 4‬ص‪20‬‬ ‫‪ 4‬ـ الزري ‪ :‬زرى عليه عابه‬ ‫‪ 5‬ـ الفصيل ‪ :‬يسمى الولد فصيال حين يفصل عن أمه بعد الرضاعة ‪ .‬وسمي الفصيل من أوالد اإلبل وقد يقال في البقر‪ .‬ويريد في النص‬ ‫ولد الفرس‬ ‫‪ 6‬ـ آداب املؤاكلة ‪ .‬بدرالدين الغزي ‪ .‬مخطوط رقم ق‪ 2456‬الخزانة امللكية الرباط ‪ .‬ورقة ‪5‬‬

‫‪108‬‬


‫اخلادم األخرس‬ ‫رضوان عبيد‬ ‫ورغم مرور ستين عاماً على ظهور النص ألول مرة‪ ،‬يبقى‬ ‫الخادم األخرس حاضراً وبقوة ليس على مستوى الفكر‬ ‫المختلف الذي صنعه بنتر برؤية العالم واإلنسان كحالة‬ ‫قلقة‪ ،‬بل أيضاً باإلبداع التجديدي لفن المسرح العالمي‪.‬‬

‫في خمسينيات القرن املاض ي‪ ،‬كانت إنكلترا قد استيقظت من صدمة حضارية‪ّ ،‬‬ ‫تجسدت بخروجها‬ ‫ً‬ ‫من الحرب العاملية الثانية‪ ،‬دون أن تعي كليا أهمية العالم وتغيراته الثقافية التي نشأت بعد الحرب‪،‬‬ ‫بالرغم من انتصاراتها السياسية كمنظومة دولة‪ .‬كانت ما تزال ترى بنفسها تلك اإلمبراطورية التي ال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تغيب عنها الشمس‪ ،‬لكن واقع األمر كان شيئا مختلفا‪.‬‬

‫‪109‬‬


‫لقد عاشت انكلترا مرحلة‬ ‫ما بعد الحرب بنوع من‬ ‫ّ‬ ‫والتعيش على‬ ‫التوهم‬ ‫أنقاض التاريخ وروعته‬ ‫وقوته‪ ،‬لكن ظهرت في تلك‬ ‫الفترة فئة شبابية بدأت‬ ‫تدرك باإلحساس العميق‬ ‫مأساة انكلترا وترديها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املتعيشة على‬ ‫فالثقافة‬ ‫شعرية شكسبير وتراجيديات مارلو وسخرية‬ ‫بن جونسون‪ ،‬لم تعد تواكب التحوالت‬ ‫الضخمة في العالم‪ ،‬والكبرياء اإلنكليزي‬ ‫ً‬ ‫بتاريخيته لم يعد قادرا على االستمرار في‬ ‫النمط القديم‪ ،‬وما ساهم بتضخيم ذلك‬ ‫األمر‪ ،‬هو نشوء عباقرة تحيط بإنكلترا‬ ‫وتصاعد حركات الفالسفة واملفكرين واألدباء‬ ‫الثائرين ضد سقوط اإلنسان‪.‬‬

‫ّ ً‬ ‫معبرا عن الرفض القطعي لكل‬ ‫خيالية ليأتي‬ ‫ما حملته الحرب لإلنسان‪ .‬لقد كانت تجربة‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫العالم الغربي ثقافيا وباألخص املسرح‪ ،‬تنذر‬ ‫بعودة مسرحية لنمط ما بعد حداثي‪،‬‬ ‫ُمسقطة فيه كل تجليات العمل املسرحي‬ ‫التقليدي‪ ،‬وانهيار ملفهوم السينما الوليد‪.‬‬ ‫كانت إنكلترا في تلك املرحلة تراقب بدهشة‬ ‫ً‬ ‫غامضة األعمال األكثر إبداعية وتحديا فيما‬ ‫بينها‪ ،‬كانت تشاهد الصراعات النصوصية‬ ‫واألسلوبية ملفاهيم العمل املسرحي لدى‬ ‫ّ‬ ‫الكتاب الذين امتلكوا حظوة التدخل املنهجي‬ ‫في عمل املخرج‪ ،‬إنها مرحلة سيطرة النص بكل‬ ‫معنى الكلمة‪ .‬تلك املراقبة الثقافية اإلنكليزية‬ ‫لتفاقم صراعات الوعي في األنماط الجديدة‪،‬‬ ‫كما جرت بين بريخت ويونسكو وخالفات‬ ‫التعبير عن املنهج الواحد بين سارتر وكامو‬ ‫ومنهجية التضاد بين أونيل وويليامز‪ ،‬كانت‬ ‫جميعها تنصب بهدوء في الدائرة اإلنكليزية‬

‫فمن مرحلة البحث عن املعنى البشري ألدباء‬ ‫الوجودية إلى عبثة بيكيت بعد الحرب إلى‬ ‫حيونة اإلنسان عند بونسكو إلى السعي‬ ‫للتحرر لدى بريخت إلى قسوة الواقع عند‬ ‫ويليامز إلى امتهان اإلنسان لدى ميلر‪ ،‬كانت‬ ‫أوروبا وأمريكا (بأدبائها وشعرائها ومسرحيها)‬ ‫القارتان الخارجتان من عمق معنى تهميش ي‬ ‫ً‬ ‫تعانيان فعليا من صعوبة بالغة في االستمرار‬ ‫كنمط قديم‪ ،‬فكان الوعي الثقافي في بعض‬ ‫البلدان ماعدا إنكلترا‪ ،‬يتصاعد بسرعة‬

‫‪110‬‬


‫املتابعة للتطور الثقافي ألوروبا وأمريكا‪ ،‬دون‬ ‫معرفة منهجية للخالص من نير الكالسيك‬ ‫التاريخي لشكسبير ومارلو‪ ،‬فأتت محاوالت‬ ‫خجولة وتجريبية كان من روادها "برنارد‬ ‫كوبس‪ ،‬جون آردن‪ ،‬أرنولد ويسكر‪ ،‬جون‬ ‫أوزيورن" وغيرهم آخرون‪ ،‬الذين ارتبطت‬ ‫أسمائهم بمسرح الرويال كورت‪ ،‬بمن فيهم‬ ‫هارولد بنتر‪.‬‬

‫ربط بنتر شخوصه وحواراتهم بعملية فعل‬ ‫ممارس نشاهده أثناء العرض‪ ،‬وهو فعل‬ ‫إنجازي يحمل تناقضات الشخوص في‬ ‫حبكتهم الدرامية‪ ،‬إنهم على عالقة مع كل‬ ‫ش يء‪ ،‬يؤثرون ويتأثرون بطريقة بشرية وإن‬ ‫أتت في بعض أجزائها كوميدية‪ ،‬إنهم أكثر‬ ‫عقالنية في الخوف والبحث عن املعنى من‬ ‫شخصيات "في انتظار غودو" الذي جسدهم‬ ‫بيكيت في شخصيتي "استراغون وفالديمير"‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الذين ق ِّدموا كشخصيات دراماتيكية‬ ‫وراديكالية في عملية بحثهم عن املعنى‪ ،‬لقد‬ ‫أخذوا معنى الوجود إلى أقص ى حد ممكن‪،‬‬ ‫وأصبح من املستحيل إعادته مرة أخرى‪ .‬لكن‬ ‫ً‬ ‫بنتر كان حذرا في تلك املسألة‪ ،‬وهنا تكمن‬ ‫فرادته رغم محاولته االستقاء من بيكيت‪.‬‬ ‫فشخصياته "بن ‪ Ben‬و غس ‪ "Gus‬اللذان‬ ‫ينتظران أوامر ويلسون عن طريق الهاتف‪،‬‬ ‫ويمضيان الوقت في التشكيك والريبية‬ ‫الذاتية إزاء العالم‪ ،‬يتعامالن مع املحيط‬ ‫املادي بصورة واقعية ومتسائلة عن الهدف‬ ‫النتظارهما دون تكرار للتساؤل كما نجده عن‬ ‫بيكيت‪ .‬تلك الحالة أفردت للشخصيتين‬ ‫مساحة مستقلة للتفكير الحر‪ ،‬رغم البنية‬ ‫الدرامية الخاصة لكل منهما والتي استقاها‬ ‫بنتر من شخصيات بيكيت‪ ،‬فـ ‪ Gus‬أكثر هزلية‬ ‫وعفوية من ‪ ،Ben‬و ‪ Ben‬أكثر انتباه وذكاء من‬ ‫ُ‬ ‫‪ .Gus‬تلك الثنائية التي افترضت في أغلب‬

‫لكن بنتر كان الوحيد الذي فكر بطريقة‬ ‫ً‬ ‫مختلفة نسبيا إلنقاذ التاريخ املسرحي‬ ‫ً‬ ‫اإلنكليزي‪ ،‬فأتت أعماله خالل أربعين عاما‬ ‫الحقة لتتوج إنكلترا مرة جديدة كثقافة‬ ‫مسرحية أسست الستمرار ذلك الفن رغم‬ ‫التطور الهائل الذي تعرض له العالم فيما‬ ‫بعد وباألخص مراحل تصاعد السينما‬ ‫والتلفزيون‪.‬‬ ‫في النص الذي كتبه بنتر وصدر عام ‪1961‬‬ ‫"الخادم األخرس ‪ "The Dumb Waiter‬رغم‬ ‫ً‬ ‫أسلوبيته التجديدية‪ ،‬فهو ال يخلو أبدا من‬ ‫التأثر العميق بأعمال غيره من الكتاب‬ ‫وباألخص صاموئيل بيكيت‪ ،‬وإن كانت‬ ‫ً‬ ‫الحبكة الدرامية مختلفة كليا‪ ،‬لكننا نرى في‬ ‫النص ذلك التوجس املخيف من عالقة‬ ‫اإلنسان مع العالم الخارجي‪ ،‬والريبية إزاء كل‬ ‫فعل يقوم به‪ ،‬مع أنسنة للحوار والشخوص‬ ‫أكثر من عمل بيكيت "في انتظار غودو"‪ .‬لقد‬

‫‪111‬‬


‫األعمال بعد الحرب‪،‬‬ ‫ونشاهدها لدى كثيرين‬ ‫ما عدا بريخت‪ ،‬لم‬ ‫يستطع بنتر النجاة منها‪،‬‬ ‫إنها بمثابة ركيزة معرفية‬ ‫ضرورية للتعبير عن‬ ‫التشاؤم واالختالف‬ ‫البشري في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫لم يقتصر تأثر بنتر في‬ ‫عمله ببيكيت فقط‪ ،‬بل‬ ‫نشاهد في القسم اآلخر من العرض‪ ،‬أثناء‬ ‫اكتشاف املصعد‪ ،‬وعالقة الشخصيتين معه‪،‬‬ ‫نالحظ تلك التراجيدية االكتشافية مع‬ ‫توجسها من ذلك الجزء من الجدار‪ ،‬إنها‬ ‫العالقة األقرب للتراجيدية األمريكية‬ ‫القاسية التي عمل عليها ويليامز وميلر في‬ ‫بلدان ما خلف البحار‪ ،‬في نصوصهما‪ ،‬لحظة‬ ‫االكتشاف الجديد هي لحظة انهيار اإلنسان‬ ‫ودخوله في دوامة من القسوة الحياتية التي لن‬ ‫ً‬ ‫يستطيع إليها حال‪ ،‬وهذا بالضبط ما نقرأه في‬ ‫عمل بنتر‪ ،‬داخل القسم الثاني من الخادم‬ ‫األخرس‪.‬‬

‫املصعد‪ ،‬مرحلة إنجاز وتحقيق رغبة العالم‬ ‫الخارجي دون فهم ملا يقومان بذلك‪ ،‬رغم أنه‬ ‫ليس عملهما‪ .‬إن ذلك الجمع بين مشابهات‬ ‫بيكيتية وويليامزية‪ ،‬خلق لدى بنتر النص‬ ‫املميز في مرحلة صعوده املسرحي‪ .‬اللغة‬ ‫البسيطة والحدث الغامض والخوف من‬ ‫الخارج والتشكيك بالذات والواقع املجهول‪،‬‬ ‫إنها بالضبط ما كانت تحتاج إليه الثقافة‬ ‫اإلنكليزية في ذلك العهد‪.‬‬ ‫بالعودة إلى الخادم األخرس‪ ،‬نالحظ تمحور‬ ‫شخصية ‪ Ben‬القلقة في ارتباطه بالجريدة‬ ‫التي هي منفذه الوحيد للتواصل مع الخارجي‪،‬‬ ‫معرفته بكل ما يجري‪ ،‬على الرغم أنها معرفة‬ ‫سطحية تتجسد في الجانب املأساوي الغبي‬ ‫لإلنسان‪ .‬إنها حوادث املوت بطرق غريبة‬ ‫وعنيفة‪ ،‬فالرجل السبعيني الذي يمر تحت‬ ‫سيارة ويموت ثم الفتاة ذات الثمانية أعوام‬

‫إنها مرحلة انتقال من العبث الحياتي‬ ‫والتفكير دون جدوى‪ ،‬واآللية التي يقومان بها‬ ‫ّ‬ ‫في عملهما دون تساؤل‬ ‫مطول واالنتظار‬ ‫ملخابرة ويلسون‪ ،‬تصبح بعد اكتشاف‬

‫‪112‬‬


‫واضح أو حلول‪ ،‬وفي لحظة شعورهما باليأس‬ ‫ووصل املخابرة من ويلسون بتلقي التعليمات‬ ‫التي ُتكشف بأن ‪ Ben‬و ‪ Gus‬ليسا سوى‬ ‫قاتلين مأجورين يقومان بعملهما دون أي‬ ‫ً‬ ‫تفكير‪ ،‬وهو ما ُيعيدنا تدريجيا إلى لحظة‬ ‫البداية عند قراءة ‪ Ben‬للجريدة وبحثه عن‬ ‫الحوادث واندهاش ‪ُ Gus‬ببعد ساخر‪ ،‬وهي‬ ‫عالقتها بفكرة املوت من حوادث عفوية دون‬ ‫شعورهما من قذارة ممارستهما القتل‪ ،‬ذلك‬ ‫التناقض البشري في املبدأ كان العملية‬ ‫الفاصلة في استقاللية نص بنتر عن مشابهاته‬ ‫ً‬ ‫البيكيتية والويليامزية‪ ،‬وهو ما حدد فعليا‬ ‫أحد الخطوط الرئيسية ملسرح بنتر واملسرح‬ ‫اإلنكليزي فيما بعد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ورغم مرور ستين عاما على ظهور النص ألول‬ ‫ً‬ ‫مرة‪ ،‬يبقى الخادم األخرس حاضرا وبقوة ليس‬ ‫على مستوى الفكر املختلف الذي صنعه بنتر‬ ‫ً‬ ‫برؤية العالم واإلنسان كحالة قلقة‪ ،‬بل أيضا‬ ‫باإلبداع التجديدي لفن املسرح العاملي‪.‬‬

‫التي تقتل القطة‪ ،‬هي محور املعرفة لـ ‪Ben‬‬ ‫قبل أن يصبح انشغاله التدريجي بتفسير‬ ‫وقائع اللحظة التي يعيشها مع صديقه ‪.Gus‬‬ ‫بينما تتمحور شخصية ‪ Gus‬العفوية حول‬ ‫الرغبة البشرية اليومية بالتعامل مع األشياء‪،‬‬ ‫إنه لحوح اتجاه الشاي والبسكويت‪ ،‬وتصبح‬ ‫ً‬ ‫شخصيته أكثر قلقا لعدم توفر الغاز ورائحة‬ ‫ً‬ ‫سريره الكريهة‪ ،‬إنه ينتظر دائما التفسير‬ ‫العقالني من ‪ .Ben‬على هذا املستوى تتصاعد‬ ‫الشخصيتين في ُبعدهما البيكيتي لينتقال إلى‬ ‫املستوى الويليامزي ويصبحا شبه عبيد اتجاه‬ ‫املصعد حيث يحاوالن تنفيذ األمور التي تأتي‬ ‫بأوراق لتحضير الطعام دون فهم واضح‬ ‫لطبيعة العالم الخارجي الذي يتواصل معهما‪،‬‬ ‫لكن يدلل بينتر إلى أن املصعد يرتبط بمطعم‬ ‫في األسفل دون معرفة املطعم ما يجري في‬ ‫الغرفة العلوية أو من هم األشخاص املاكثين‬ ‫فيها أو ما هي مهمتهم‪ .‬ما أراده بنتر هو تقديم‬ ‫شخصيتيه على هذا املستوى فقط من‬ ‫االرتباك بالعالقة الخارجية دون تفسير‬

‫رضوان عبيد‬ ‫ممثل وخمرج مسرحي سوري‪ ،‬يقيم يف سوريا‬

‫‪113‬‬


‫اللوحة للفنان السوري الراحل نذيرنبعة‬

‫‪114‬‬


‫سعال‬

‫رفعت إلغاز*‬

‫الترجمة عن التركية‪ :‬نور عبداهلل‬

‫ال أدري إن كان من الفرح أم من الضغط الممارس‬ ‫والتحقيق معي على مدى خمس عشرة دقيقة‪ ،‬بدأت‬ ‫أشعر بدغدغةٍ في حلقي‪ ،‬وحرقةٍ تمتدُّ إلى األسفل‪،‬‬ ‫تخريش‪ ،‬حكّة‪ ..‬سعال‪ ..‬قد جاء‪ ..‬والتصق بحلقي!!‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫هذا ّ‬ ‫السعال اللعين‪ ،‬سوف يهلكني‪ ،‬سيخرب بيتي‪ُ ،‬ويخزيني‪ ،‬يختار توقيته بحيث يقلب أموري رأسا‬ ‫على عقب‪ُ .‬أعاني من مرض صدري‪ ،‬التهاب في القصبات الهوائية‪ُ ،‬‬ ‫لست أدري‪ّ ،‬ربما من التدخين‪ ،‬أو‬ ‫من ّ‬ ‫تغير الجو‪ ،‬أو من الرياح املوسمية‪ ،‬أو من الشمالية‪ ،‬لكن هذا ال يعني أن أسعل ليل نهار‪.‬‬

‫‪115‬‬


‫ً‬ ‫عندما أكون وحيدا في غرفتي وليس بجانبي‬ ‫من أستحي منه‪ ،‬ال يصدر ّ‬ ‫عني أي صوت‪ّ ،‬أما‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫حللت ضيفا على أحدهم‪ ،‬أو قابلت‬ ‫لو‬ ‫ً‬ ‫لضرورات العمل شخصا ذا بنطال مخطط‬ ‫وربطة عنق‪ ،‬وهندام أنيق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سأقوله وأبدأ بالهراء‪ ،‬وال أعود قادرا على‬ ‫اإلمساك بزمام األمور املنفلتة‪ّ ،‬‬ ‫وأول ما‬ ‫يتبادر إلى ذهني كي ال أرى القرف واالشمئزاز‬ ‫البادي على وجه الشخص املقابل هو أن‬ ‫ّ‬ ‫أشمع الخيط وأهرب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حدث هذا خالل السنين التي قضيتها عاطال‬ ‫عن العمل‪ ،‬رأيت بريق أمل في الحصول على‬ ‫ّ‬ ‫الحارة في مدينة‬ ‫عمل في فندق في الينابيع‬ ‫يالوفا بوساطة قريب محترم لصديق لي‪،‬‬ ‫بدأت باالستعدادات لتجهيز نفس ي قبل‬ ‫يومين أو ثالثة ّأيام‪ ،‬وفي اليوم املوعود سلكت‬ ‫ّ‬ ‫طريق منتجع يالوفا‪ ،‬لم يتأخر مفعول بطاقة‬ ‫التوصية التي أحضرتها بالظهور‪ ،‬فبعد أن قرأ‬ ‫املدير الذي كنت في غرفته بطاقة التوصية‪،‬‬ ‫أصغى إلى جرس الطعام الذي بدأ يدق‪ ،‬وقال‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫فلتتفضل إلى الطعام ّأوال”‪ .‬كان كل ش يء‬ ‫لي‪“ :‬‬ ‫ً‬ ‫في الفندق جميال‪ ،‬هواؤه وماؤه وطعامه‪ ،‬كنت‬ ‫قد نسيت سنين بطالتي‪ ،‬وبدأت من جديد‬ ‫أحب الحياة‪ ،‬وأعتاد على الناس‪ّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫حتى أنني‬ ‫ّ‬ ‫كونت صداقات خالل فترة الغداء‪ ،‬وقد بدا لي‬ ‫ً‬ ‫صوت الجاز الذي كاد يثقب أذني لطيفا‪،‬‬ ‫وبينما كنت أشرب قهوتي أخبروني أن املدير‬

‫ّ‬ ‫عندها يلحظ ُّ‬ ‫كالحية‬ ‫السعال النائم في داخلي‬ ‫ً‬ ‫أوال‪َّ ،‬‬ ‫وبخبث يبدأ‬ ‫ثم‬ ‫املل ّتفة‪ ،‬فيفتح عينيه‬ ‫ٍ‬ ‫بدغدغة حلقي‪ ،‬يلتصق به ويبدأ بتخريشه‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫مرة فال يذهب‪ ،‬أبلعه ثانية فال‬ ‫أبلع ريقي‬ ‫يذهب‪ ،‬أقول “هاه” فال يختفي‪ ،‬أقول “أهاه”‬ ‫فيزداد بعناد‪ ،‬أحاول تجاوزه ب “أوهوو” ولكن‬ ‫دون جدوى‪ ،‬ينفلت السعال املتسلسل‪ ،‬ويا له‬ ‫من سعال‪ ،‬كالقنبلة‪ ،‬ليته كان كالقنبلة‪ ،‬فهي‬ ‫مرة واحدة‪ ،‬تعمل عملها‪ّ ،‬‬ ‫تنفجر ّ‬ ‫وتخرب ما‬ ‫تخربه‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ثم تختفي‪ ،‬لكن سعالي ليس كذلك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إنه كخرطوشة كستناء‪ ،‬مفرقعة‪ ،‬ما إن‬ ‫ً‬ ‫تنفجر ّ‬ ‫حتى تتسلسل مفرقعة‪ ،‬فال يبقى‬ ‫للحديث ٌ‬ ‫طعم وال للمقابلة معنى‪ ،‬أنس ى ما‬

‫‪116‬‬


‫ّ‬ ‫العائلة واألوالد‪ ،‬ويخافون من تسكعهم في‬ ‫الفندق‪ ،‬فأجبته‪“ :‬لقد انفصلنا”‪ ،‬ولكي‬ ‫ُ‬ ‫يضمن الوضع أكثر قال‪“ :‬لن تكثر من الذهاب‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫اطمئنوا‪،‬‬ ‫واملجيء إلى اسطنبول إذا” أجبت‪“ :‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لن أقض ي الوقت ذهابا وإيابا إلى إسطنبول‪،‬‬ ‫بسبب وبال سبب‪ ،‬بينما الناس في اسطنبول‬ ‫تتمنى القدوم إلى هنا” َ‬ ‫ض ِح َك وقال وكأن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاطرا خطر على باله‪“ :‬ال أريد ضيوفا‪ ،”..‬كان‬ ‫ً‬ ‫جوابا يعجبه‪ ،‬فقلت‪“ :‬أنا ٌ‬ ‫هارب‬ ‫يجب أن أجد‬ ‫منهم”‪ ،‬فقال‪“ :‬يمكنك أن تهرب منهم‪ ،‬لكنهم‬ ‫بعد اآلن سيتصلون بك‪ ،‬لسبب ما يكثر‬ ‫أصدقاء من يعمل هنا”‪ ،‬ولكي تتالش ى ريبته‬ ‫قلت‪“ :‬لن أكون بحاجة ألصدقاء ما دمت‬ ‫َ َ ً‬ ‫إذا فقد ّ‬ ‫كنا متفاهمين‬ ‫أعمل هنا”‪ ،‬ض ِحك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫على األغلب‪”،‬حاليا ستستقر في غرفة بثالث‬ ‫ّ‬ ‫أسرة‪ ،‬فيما بعد ننقلك على غرفة بسرير‬ ‫واحد”‪ّ ”،‬‬ ‫حتى لو لم تنقلوني‪ ،‬ال يهم”‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كان ُي َس ُّر لكل ش يء أقوله‪ ،‬أنزل دفترا سميكا‬ ‫من الرف‪ ،‬وسألني عن اسمي وكنيتي‪ ،‬وكتب‬ ‫فيه ما أمليته‪ ،‬وأضاف مالم أمله‪ ،‬أوه‪ ،‬سنتان‬ ‫من البطالة‪ ،‬والضيق وا ِملحن كانت قد انتهت!‬ ‫وأخي ًرا ّ‬ ‫تنفست الصعداء‪.‬‬ ‫ال أدري إن كان من الفرح أم من الضغط‬ ‫املمارس والتحقيق معي على مدى خمس‬ ‫بدغدغة في‬ ‫عشرة دقيقة‪ ،‬بدأت أشعر‬ ‫ٍ‬ ‫حلقي‪ ،‬وحرقة ُّ‬ ‫تمتد إلى األسفل‪ ،‬تخريش‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫حكة‪ ..‬سعال‪ ..‬قد جاء‪ ..‬والتصق بحلقي!!‬

‫يطلب رؤيتي‪ ،‬دخلت إلى غرفة املدير بينما‬ ‫أزرر أزرار بدلتي التي فقدت لونها وشكلها بل‬ ‫ّ‬ ‫وحتى شخصيتها على مدار سنتين‪ ،‬أشار لي‬ ‫ّ‬ ‫جاللة املدير إلى مقعد يتسع لشخصين مثلي‬ ‫وقال” ّ‬ ‫تفضل بالجلوس‪”.‬‬ ‫سؤاله ّ‬ ‫األول كان هل سأقبل بثالثمائة ليرة‬ ‫كراتب شهري أم ال‪ ،‬نحن في سنة ‪ ..!1946‬ال‬ ‫أعلم إن كان يلزم أن أشرح قيمة الثالثمائة‬ ‫ليرة!‪ ..‬ويضاف إلى الثالثمائة ليرة سرير نظيف‬ ‫أنام عليه‪ ،‬حوض استحمام أدخله متى أشاء‪،‬‬ ‫صالة طعام يصدح فيها صوت الجاز‪ ،‬هواء‬ ‫نظيف‪ ،‬ووقت كثير للقراءة والكتابة‪.‬‬ ‫وبدون تفكير قلت‪“ :‬موافق‪”.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مهمة‬ ‫املهمة التي كنت سأتوالها هي‬ ‫باستطاعة أي شخص يعرف القراءة والكتابة‬ ‫ّ‬ ‫توليها‪ .‬سألني عن تعليمي‪ّ ،‬‬ ‫وحتى ال أثير الريبة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اخترعت تعليما مناسبا للمهمة التي سأتوالها‪،‬‬ ‫وقلت” تعليم ّ‬ ‫متوسط” لو أنني أجبت بتعليمي‬ ‫الحقيقي‪ ،‬للعب الفار في ّ‬ ‫عبه‪.‬‬ ‫سألني “ماهي الوظائف التي شغلتها إلى اآلن”؟‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫متعددة” أجبت‪،‬‬ ‫“اشتغلت كاتبا في أماكن‬ ‫ّ‬ ‫وحتى ال أثير الشك في نفسه كان يجب أن‬ ‫ً‬ ‫أضيف عمال يتناسب مع مهمتي الجديدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫محام أيضا” وقد أعجبه أن‬ ‫“وعملت في مكتب ٍ‬ ‫محام من قبل‪ ،‬ونظر‬ ‫أكون عملت في مكتب ٍ‬ ‫َ‬ ‫إلي بإعجاب‪“ :‬جيد”‪“ ،‬العائلة واألوالد؟” سأل‪،‬‬ ‫كنت أعلم أن مسؤولي الفنادق ال يحبذون‬

‫‪117‬‬


‫ً‬ ‫وجدته يحسب شيئا ما‪ ”،‬أنت مريض إذن”‬ ‫قالها وهو ينظر َّ‬ ‫إلي بقسوة‪“ ،‬منذ زمن بعيد‬ ‫عانيت من مرض‪ ،‬لكنني شفيت”‪“ ،‬من‬ ‫الواضح أنك لم تشف بعد‪ ،‬البد أن تفحص‬ ‫رئتيك‪”.‬‬ ‫ً‬ ‫“معكم حق‪ ،‬يجب أن أفحصها” قلتها محاوال‬ ‫ً ً‬ ‫التملص من الحديث‪“ ،‬ال تضع وقتا أبدا”‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ألقى نظرة وهمية على الدفتر أمامه‬ ‫واستكمل‪“ :‬لقد أخذت اسمك وعنوانك‪،‬‬ ‫هناك متقدمون آخرون على هذه الوظيفة‪،‬‬ ‫سوف نعلمك بالنتيجة على عنوانك”‪ ،‬لم يكن‬ ‫ً‬ ‫معنى فنهضت‪ ،‬قال‪“ :‬مع‬ ‫قد بقي لجلوس ي‬ ‫السالمة‪ ،‬سوف أعلمك بالنتيجة” وهو يرجع‬ ‫خطوة للوراء كي ال يصافحني‪”،‬ال تكلفوا‬ ‫نفسكم‪ ،‬النتيجة واضحة” قلت‪ ..‬كانت‬ ‫القلعة التي بنيتها في خيالي قد ّ‬ ‫تهدمت على‬ ‫رأس ي بسبب سعال‪.‬‬

‫صدر عني “هاه” خفيفة‪ ،‬فلم تنفع‪“ ،‬أوهووو”‬ ‫دون جدوى‪ ،..‬انفلتت “أوهووووو”‬ ‫متسلسلة‪ ،‬فأحسست ّ‬ ‫بهزة كادت تقتلع رئتي‬ ‫ّ‬ ‫من مكانها‪ ،‬سعلت بال انقطاع‪ ،‬كلما سعلت‬ ‫ّ ً‬ ‫انقطعت أنفاس ي‪ ،‬كان املدير يراقبني مقطبا‬ ‫ً‬ ‫حاجبيه‪ ،‬استقام فجأة حمل إبريق املاء من‬ ‫ً‬ ‫كأسا من املاء ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومده لي‪:‬‬ ‫وصب‬ ‫على املنضدة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫“خذ رشفة”‪ ،‬لكنه سحب الكأس الذي مده‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً ّ‬ ‫فجأة وكأنه تذكر شيئا‪ ،‬ولكي أنقذه من هذا‬ ‫املوقف أشرت له بيدي أن ال حاجة‪ ،‬مددت‬ ‫يدي إلى جيبي الخلفي أللتقط منديلي‪ ،‬لم يكن‬ ‫هناك منديل في جيبي… ومتى كنت أجد‬ ‫منديلي في جيبي عندما أحتاجه!! أحسست‬ ‫وكأنني بهلوان سقطت عصاه وهو يمش ي على‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الحبل‪ ،‬وبقي وحيدا عاجزا‪ ،‬واآلن ماذا كنت‬ ‫ً‬ ‫سأفعل؟‪ ..‬قلت‪“ :‬عفوا” وهرعت إلى الخارج‪،‬‬ ‫ارتميت من الباب‪ ،‬أحسسته ينظر ّ‬ ‫إلي‬ ‫بشفقة‪ ،‬وعندما عدت ودخلت غرفة املدير‬

‫*‬ ‫رفعت إيلجاز‪ :‬شاعر وكاتب تركي ولد في مدينة كاستامونو عام‬ ‫‪ 1911‬وتوفي في اسطنبول عام ‪ 1993‬صدر له العديد من‬ ‫الروايات ودواوين الشعر والقصص الفكاهية وقصص‬ ‫األطفال‪ ،‬وقد عرف بروايته مدرسة املشاغبين التي أصبحت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مسلسال فيما بعد‪ ،‬درس في دار املعلمين وعمل معلما للمرحلة‬ ‫ً‬ ‫اإلعدادية وبعدها مديرا للمدرسة‪ ،‬بعدها درس في كلية اآلداب‬ ‫ودرس في الجامعة‪ ،‬من مؤلفاته‪ :‬في الشعر‪ :‬الصحبة ‪-1943‬‬ ‫كان الصباح في أوسكودار‪ -1954‬منبهر ‪ -1962‬في أوتار آذاننا‬ ‫‪ 1983‬ومن رواياته‪ :‬مدرسة املشاغبين‪ -1957‬بيجامات‪-1959‬‬ ‫البحراألسود ‪ -1969‬الليالي املظلمة ‪ -1974‬عمارة األطفال ‪ -1984‬نصرالدين خوجا وتالميذه (جحا وتالميذه) ‪.1984‬‬

‫‪118‬‬


‫الشجرة الخضراء‬ ‫إعداد‪ :‬جوان أمحد حسني‬

‫شخصيات العمل‬ ‫الولد‪ :‬طالل‬ ‫البنت‪ :‬رندا‬ ‫ّ‬ ‫شخصيات أخرى‪ :‬املعتقل ـ شخصيات مسلحة‬ ‫الولد‪ :‬وملاذا كنت تبكين؟‬ ‫البنت‪ :‬كنت أريد من أمي أن تشتري لي ثوبا‬ ‫أحمر‪.‬‬ ‫الولد‪ :‬وملاذا لم تشتر لك ثوبا أحمر؟‬ ‫البنت‪ :‬قالت لي أمي‪ّ ،‬إن شراء الخبز أكثر‬ ‫ّ‬ ‫أهمية من شراء ثوب أحمر‬ ‫(صمت)‬ ‫الولد‪ :‬أنا أحب اللعب‪ .‬فهل تلعبين معي؟‬

‫(تقف الطفلة بجانب صخرة وتبكي‪....‬‬ ‫فجأة يظهرطفل)‬ ‫البنت‪ :‬من أنت؟‬ ‫الولد‪ :‬اسمي طالل‪ ،‬فما هو اسمك؟‬ ‫البنت‪ :‬اسمي رندا‪.‬‬ ‫الولد‪ :‬ملاذا كنت تبكين؟‬ ‫البنت‪ :‬ضربتني أمي‬ ‫الولد‪ :‬ملاذا ضربتك؟‬ ‫ّ‬ ‫البنت‪ :‬ألنني كنت أبكي‬

‫‪119‬‬


‫البنت‪ :‬زعلت؟ كنت أمزح‪ ...‬أتستطيع أن‬ ‫تركض أسرع مني؟‬ ‫(يركض االثنان ضاحكين حول شجرة‬ ‫خضراء)‬ ‫البنت‪ :‬أنا اآلن ملكة‪..‬‬ ‫الولد‪ :‬وأنا اآلن قائد جيوش امللكة‪.‬‬ ‫البنت‪ :‬اهجم بجيوشك على األعداء‪.‬‬ ‫الولد‪ :‬هجمت جيوش ي على األعداء وانتصرت‬ ‫ّ‬ ‫عليهم وها هم آالف األسرى أذالء يركعون‬ ‫أمامك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫البنت‪ :‬إني أعفو عنهم‪ .‬وأمر بإعادتهم إلى‬ ‫بيوتهم وأوالدهم‬

‫(تهزرندة رأسها موافقة‪ ...‬يلعبان‪ ....‬تقلد‬ ‫البنت صوت عصفور‪ ....‬يقلد الولد نعيق‬ ‫الغراب)‬ ‫البنت‪( :‬تشير إلى السماء) انظر إلى هذه‬ ‫الغيمة البيضاء! ما أجملها‪.‬‬ ‫الولد‪ّ :‬إنها ليست غيمة‪.‬‬ ‫البنت‪ :‬إذا لم تكن غيمة‪ ....‬فماذا تكون؟‬ ‫الولد‪ّ :‬إنها طير أبيض كبير‪.‬‬ ‫البنت‪ّ :‬‬ ‫ولكنني ال أبصر جناحيه!‬ ‫الولد‪ّ :‬إنه يطير ّ‬ ‫بمحرك‪.....‬‬ ‫البنت‪( :‬تضحك)‪ ...‬أنت أبله‬ ‫(يزعل الولد)‬

‫‪120‬‬


‫الولد‪ :‬ال أريد أن أموت‬ ‫البنت‪ :‬بل ستموت وأزور قبرك وأضع عليها‬ ‫وردة بيضاء‪.‬‬ ‫الولد‪ :‬ماذا ستفعلين لو كنت وردة؟‬ ‫البنت‪ :‬سأنبت فوق ّ‬ ‫قمة جبل ال يستطيع‬ ‫بلوغها ّ‬ ‫أي إنسان‬ ‫الولد‪ :‬ما الفائدة من وردة ال يراها أحد‪.‬‬ ‫البنت‪ :‬ومن قال لك أن ال أحد سيراني‪ .‬ستراني‬ ‫السماء الزرقاء والغيوم واألمطار والنجوم‬ ‫والشمس والقمر ‪ ...‬وستراني النسور‬ ‫(صمت)‬ ‫(يظهر رجال مسلحون ببنادق‪ ..‬يبعدون‬ ‫ً‬ ‫رندة وطالل‪ .‬يجرون رجال ممزق الثياب‬ ‫ويوثقونه بالشجرة‪ ...‬يقفون مصوبين‬ ‫أسلحتهم باتجاه الرجل‪ ...‬نار)‬

‫(صمت)‬ ‫ّ‬ ‫الولد‪ :‬أنا اآلن شحاذ‬ ‫البنت‪ :‬وأنا اآلن ّ‬ ‫غنية‪ .‬أملك أربعين ّ‬ ‫جرة‬ ‫مملوءة بالذهب‪.‬‬ ‫(الشحاذ يطرق باب قصرالبنت)‬ ‫الولد‪ :‬أريد رغيف خبز ‪ ....‬أنا جائع‪ ....‬رغيف‬ ‫خبز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫البنت‪ :‬البنت الغنية ال تعطي الشحاذ رغيفا‬ ‫بل ستعطيه ّ‬ ‫جرة ذهب‬ ‫الولد‪ّ :‬‬ ‫جرة واحدة فقط؟‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشحاذ ّ‬ ‫الطماع‪ ،‬أن الطمع‬ ‫البنت‪ :‬اعلم ّأيها‬ ‫ّ‬ ‫ضر ما نفع‪...‬‬ ‫البنت‪ :‬أنت اآلن ّ‬ ‫لص‪...‬‬ ‫الولد‪ :‬أنا اآلن ّ‬ ‫لص ورجال الشرطة يطاردونني‬ ‫ويطلقون النار ّ‬ ‫علي‪ ..‬وانتقل إلى املستشفى‬ ‫البنت‪ :‬وهناك في املستشفى تموت‪..‬‬

‫ّ‬ ‫للقصة هي "الشجرة الخضراء" من مجموعة قصص بعنوان (دمشق الحرائق)‬ ‫العنوان األصلي‬ ‫للكاتب الكبير (زكريا تامر) الطبعة األولى ‪.1973‬‬

‫‪121‬‬


‫اللوحة للفنان السوري الراحل نذيرنبعة‬

‫‪122‬‬


‫رسائل الليل والنهار‬ ‫حسني جرود‬

‫‪-1‬‬‫في األيام األخيرة‬ ‫ص غيري يسير في الشوارع‬ ‫شخ ٌ‬ ‫ص غيري يقرأ الكتب‬ ‫شخ ٌ‬ ‫كنت أعرف أنَّ هناك مرحل ًة أخيرةً في‬ ‫الفلسفة‬ ‫هل بلغتها؟‬ ‫‪/‬‬ ‫ال أثق بأحد‬ ‫حتى بنفسي‬ ‫ليس لديَّ شيء أخسره‬ ‫لم أعرف مدينةً يومًا‬ ‫ش في بيت‬ ‫ولم أع ْ‬ ‫‪123‬‬


‫ل َم أنا خائف؟‬ ‫وما هي الجنة قبل أن ترسمها‬ ‫من قبلها عدم‬ ‫وبعدها عدم‬

‫أنا الكلب‬ ‫الذي ينتظرك‬ ‫أيَّتها الحضارة‬ ‫‪/‬‬ ‫أتخيَّل ضحكاتك في مكانٍ بعيد‬ ‫يا من تجهلين وجودي‬ ‫كم أنت ثرثارةٌ‬ ‫في هذا الصمت‬ ‫‪/‬‬ ‫كنت أظن أن الحياة حلم‬ ‫ثم صرت أقول‪ :‬الحياة كذبة‬ ‫ربما‪‹‹ :‬حل ٌم كاذب››‪ ،‬اختصارٌ مناسب‬ ‫ال إنها حل ٌم جميلٌ جدًا‬ ‫لدرجة الكابوس‬ ‫‪/‬‬ ‫هل سأحيا إلى الغد‪،‬‬ ‫إن لم أعرف الحقيقة‬ ‫المطلقة؟‬ ‫ال أجرؤ حتى على الهرب‬ ‫من الجنة‬ ‫قبل أن تطردني حواء‬ ‫‪/‬‬

‫‪-2‬‬‫في األيام األخيرة‬ ‫رسمتُ صورةً جميلة‬ ‫لعالمٍ زائل‬ ‫سرت في شوارع سائلةْ‬ ‫ورأيت الفتةً تغنِّي‬ ‫عرفت الصبر يغلي‬ ‫على الجبين‬ ‫رأيت النشوة الضائعة‬ ‫أمل الليل‬ ‫الكتيم‬ ‫ينزاح بين‬ ‫نهارٍ لم يصبح‬ ‫كالقادم من عتمات الغيب‬ ‫ونهار يتخفّى ملتئمًا في ألوان الريب‬

‫‪124‬‬


‫بأرض سماي؟‬ ‫من قتل اآلخر؟‬ ‫وأنا كنت اآلخر‬ ‫كان أناي‬ ‫‹‹التاء المبسوطة ضحكةْ‬ ‫والتاء المربوطة شرفةْ‬ ‫وحياتي تبرز في وقفةْ››‬ ‫من قال ألغنيتي عيشي‬ ‫إال اسْمَي‬ ‫‪/‬‬ ‫من قتل اآلخر؟‬ ‫من قال ألغنيتي كوني؟‬ ‫هي من قد جاءت كالسهم‬ ‫وأنا القلب الجاهز والمتخم للدمع‬ ‫هي راحت كالسيل نداءً‬ ‫وأنا ميعادٌ مجهولٌ‬ ‫ل ضيف‬ ‫في فص ٍ‬ ‫هل كنت القلمَ‬ ‫وكان السيف؟‬

‫‪/‬‬ ‫جرَّبتُ العيشَ كحل ٍم بكرٍ صافٍ‬ ‫ل غافٍ‬ ‫جرَّبني الحلمُ كحجرٍ طف ٍ‬ ‫ونسينا الصيفَ‬ ‫وعشنا الصيفْ‬

‫‪-3‬‬‫في آخر أيامي العشرة‬ ‫تشظَّيتُ اثنين‬ ‫لفرط حياتي‬ ‫حلمٌ غام بعيدًا‬ ‫جس ٌد عام وحيدًا‬ ‫بعد نجاتي‬ ‫‪/‬‬ ‫من قتل اآلخر؟‬ ‫من عرَّق كل أراضي القفر‬

‫‪125‬‬


‫بأنني أنسى‬ ‫وينسدل الستار‬ ‫‪/‬‬ ‫الحياة‬ ‫موقفٌ سخيفٌ‬ ‫وُضعْنا به‬ ‫‪/‬‬ ‫األحجار‬ ‫التي استندنا‬ ‫إليها‬ ‫تمتص الضوء‬ ‫ُّ‬ ‫‪/‬‬ ‫الغرفة التي فتحنا‬ ‫نوافذها‬ ‫هي عشٌّ للدبابير‬ ‫‪/‬‬ ‫الصوت الذي‬ ‫ال يسمعه سوانا‬ ‫يصمُّ اآلذان‬ ‫‪/‬‬ ‫ال أحب أن أكون جدارًا‬ ‫أستخدم الكوميديا‬

‫‪/‬‬ ‫العودة من بحر الحب‬ ‫مجرد سقطةْ‬ ‫ومكاني في هذي األرض حديثٌ مرسل‬ ‫عالمي المجهول‬ ‫حديثٌ وقديمٌ‬ ‫جريءٌ وعقيمٌ‬ ‫مثرٍ معدمْ‬ ‫وأنا بين الحالين‬ ‫ألملم نفسي‬ ‫ت عن المعصمْ‬ ‫وأزيل الوق َ‬ ‫وأداري الصمتَ‬ ‫لكي يأتي‬ ‫ل األلقَ عن النقطةْ‬ ‫وأزي ُ‬ ‫(‪).‬‬

‫إسمنت‬ ‫فيا صديقي‬ ‫هكذا أنسى‬ ‫أقول‪ ،‬يقول‬

‫‪126‬‬


‫أو منهم‬ ‫ال تملك خيال كلب‬ ‫‪/‬‬ ‫أن تحلَّ بعض المشاكل‬ ‫نهائيًا‬ ‫‪/‬‬ ‫أن تستمتع بأيامك‬ ‫وتنتظرها‬ ‫‪/‬‬ ‫أن ال تستطيع‬ ‫تخيُّل‬ ‫ما حدث‬ ‫‪/‬‬ ‫بعد أن التقى جدارًا‬ ‫عاد‬ ‫وفمه يثرثر‬ ‫كثيرًا‬ ‫ليقنعني‬ ‫بينما عيناه تضحكان‬

‫لتخفيف الموقف‬ ‫لكن عينيه‬ ‫ال تضحكان‬ ‫‪/‬‬ ‫الطريق الذي سيغدو بعد قليل‬ ‫بزَّاقةً تسبح في الملح‬ ‫‪/‬‬ ‫أن تعرف‬ ‫خطوط سيرٍ‬ ‫ال تحبها‬ ‫أن تفكَّ‬ ‫رموز السكان‬ ‫المستعمرين‬ ‫أن تنظر ببرود‬ ‫ألخبار الطقس‬ ‫رغم أنك تقيم‬ ‫في العراء‬ ‫‪/‬‬ ‫أن تنزلق إلى آتون اليومي‬ ‫وتنزل من القصيدة‬ ‫‪/‬‬ ‫أن تصبح واحدًا بهم‬ ‫‪127‬‬


‫مسألة حظ‬ ‫‪/‬‬ ‫ستهدأ الريح‬ ‫ونخرج‬ ‫‪/‬‬ ‫مع أننا لسنا نمالً‬ ‫هذا ال يبشر بالكثير‬

‫الزاوية‬ ‫يجمعنا هذا الفصل‬ ‫ال الشوق‬ ‫وال الوقت‬ ‫وال المعنى‬ ‫‪/‬‬ ‫بقعة زيت‬ ‫تتوسع‬ ‫على رداء‬ ‫‪/‬‬ ‫إنه فصل كئيب‬ ‫كي‬ ‫يعيش في زاوية‬ ‫‪/‬‬ ‫أقول لنفسي‪:‬‬ ‫سأهرب‪..‬‬ ‫لكن ليس اآلن‪..‬‬ ‫خيانتي قنبلة‬ ‫موقوتة‬ ‫وحياتي‬

‫‪128‬‬


‫االنحياز إلى الحياة‬ ‫هيئة التحرير‬ ‫ال يمكن حصر دور وسائل اإلعالم عامة في دور ما‪ ،‬أو عدة أدوار مجتمعة‪ ،‬لكن يمكننا تأطير هذه األدوار كلها‬ ‫ضمن إطار عام واسع‪ ،‬إنه باختصار‪ :‬المساهمة بصياغة وعي وثقافة مجتمع ما‪.‬‬ ‫في زمن الحرب أو النزاعات الساخنة‪ ،‬تغدو هذه المهمة بالغة الحساسية‪ ،‬وبالغة الصعوبة‪ ،‬وتحتاج أكثر من‬ ‫أي وقت آخر إلى حرفية عالية‪ ،‬ووعي ومسؤولية عاليين‪.‬‬ ‫اإليقاع الصاخب للحرب وللموت‪ ،‬يغيّبُ إيقاعات الحياة الهادئة‪ ،‬ويخفّف كثيرًا من القدرة على سماع ما تبقى‬ ‫من األصوات‪ ،‬لكنه ال يلغيها تمامًا‪ ،‬في هذه المساحة من عدم اإللغاء يكمن دور اإلعالم‪.‬‬ ‫يجب أن ال يغيب عن اإلعالمي في كل الصراعات وعلى اختالف صيغها‪ ،‬أنه نصير قيم الحياة وأنه ليس‬ ‫نصير هذا الطرف أو ذاك‪ ،‬فاالنتصار للحياة ولقيمها ولمعاييرها اإلنسانية هو المعيار األساس الذي يجب البناء‬ ‫عليه دائمًا‪ ،‬وتحت سقف هذا المعيار يمكن أن تتمايز االصطفافات‪ ،‬ومن منا ال يعتقد أنه نصير اإلنسانية‬ ‫وقيمها في الموقف الذي يقفه؟؟‪ ،‬هنا المشكلة‪ ...‬فالجميع يتوهمون أنهم وفوق أشالء اآلخرين يصنعون‬ ‫الحياة وقيمها‪.‬‬ ‫يمكنني القول إن المساهمة في تأجيج أي حرب أو عنف هو نقيض لدور اإلعالم‪ ،‬وأن االنتصار ألي طرف‬ ‫هو مشاركة في تأجيج العنف والحرب‪ ،‬من هنا تأتي المسؤولية العالية للعمل اإلعالمي في زمن النزاعات‪.‬‬ ‫على اإلعالم أن يساهم في تعزيز قيم الحياة؟؟ في تعزيز الحوار؟؟ وثقافة االختالف؟؟ وفي إضعاف صوت‬ ‫الحرب ليعلو صوت الحياة؟؟‪.‬‬ ‫"كلنا سوريون" ما زالت مصرة على عدم تغييب أوجه الحياة األخرى‪ ،‬ما زالت حريصة على إبقاء مساحات‬ ‫للسينما وللمسرح وللشعر وللموسيقى و‪..‬و‪...‬‬ ‫"كلنا سوريون" انحازت إلى الثورة السورية بوصفها فعل لصياغة الحياة الحقيقية اإلنسانية‪.‬‬

‫‪129‬‬


‫اللوحة للفنان السوري محمد عماد محوك‬

‫‪130‬‬


131


132


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.