1
2
3
2/5 رئيس التحرير بسام يوسف مدير التحرير حسين برو هيئة التحرير جلنار صادق نور عبداهلل لؤي حاج بكري علي األعرج
الهيئة االستشارية عبد السالم حلوم الياس قيسو تميم بدره مصطفى حمو
الموقع االلكتروني آالء عثمان اإلخراج الفني Copia Graphic
4
مجلة سورية ثقافية ،فكرية ،مطبوعة، تصدربشكل شهري ،تأسست كصحيفة نصف شهرية في شهر شباط (فبراير) من عام 2014في مدينة غازي عينتاب التركية على يد مجموعة من الشباب السوريين من مختلف مكونات الشعب السوري ،تهتم بالشأن السوري، ً ً ً وتحاول أن تكون فضاء إعالميا مفتوحا لكل السوريين ،وساحة لتبادل الرأي والحوار. تسعى «كلنا سوريون» أن تكون حيادية في نقل املعلومة ،وتلتزم بمعياري املوضوعية واملصداقية ،ولكنها تعلن أنها منحازة نحو مشروع التحول الديمقراطي في سوريا .في وجه كل بنى االستبداد والطغيان التي تعرقل هذا املشروع. وهي عضو مؤسس للشبكة السورية لإلعالم املطبوع (SNP).إليمانها بالعمل التشاركي الجماعي ،وهي عضو مشارك في ميثاق "شرف" لإلعالميين السوريين.
االنتحار اتساع اإلدراك وجتاوز الكائن للوعي الذاتي
أحباث ودراسات االنتحاراتساع اإلدراك وتجاوز الكائن للوعي الذاتي علي األعرج7 / عصراملالحم ذاكرة الشرق املثقوبة عبد القادرأحمد19 / رأي مصيرالجمهوريات بعد الربيع العربي أحمد عيشة29 / وسائل التواصل كجزء من اإلعالم البديل نوارالجابري35 / ملف العدد قاسم أمين إرهاصات أولى في قضية تحريراملرأة علياء الويس ي41 / مختارات من كتاب قاسم أمين في تحريراملرأة التحرير45 / دعوا املرأة تعمل… ترجمة وإعداد :هالة الحسن49 / الحركة النسوية مراحل مضطربة ونضاالت شاقة هدى عباس57 / املرأة واملجتمع ..أنوثة مستكينة وذكورة مستفحلة سارة عز63 / قانون حماية املرأة في الشمال السوري… نبال زيتونة67 / ُ َّ املدون املرأة في األدب من املدون إلى ِّ علي األعرج75 /
5
علي األعرج
7
قاسم أمني إرهاصات أوىل يف قضية حترير املرأة علياء الويسي
احلركة النسوية
مراحل مضطربة ونضاالت شاقة
هدى عباس
ما عجبك تطلع إال ضد الرئيس بسام يوسف
شخصية العدد عبد الرحمن الشهبندر شهيد الوطن والتنوير خالد علوش81 / من ذاكرة السجن ما عجبك تطلع إال ضد الرئيس بسام يوسف89 / آداب وفنون القراءة التفاعلية وداللة النص د .يوسف إسماعيل99 / سعال رفعت إلغاز الترجمة عن التركية :نور عبدهللا107 / الشجرة الخضراء إعداد :جوان أحمد حسين111 / رسائل الليل والنهاروقصائد أخرى حسين جرود115 / رسائل الليل والنهاروقصائد أخرى حسين جرود115 / االنحيازإلى الحياة هيئة التحرير127 /
6
القراءة التفاعلية وداللة النص
د .يوسف إمساعيل
سعال رفعت إلغاز ت :نور عبداهلل
أبحاث ودراسات 7
8
االنتحار علي األعرج الوعي اإلنساني هو أكثر تعقيداً من أي وعي لكائن آخر، نتيجة تدخالت كبرى كاإليديولوجيات واألديان والثقافات واألساطير والتطور والعمل واالستعباد ..الخ .وينشأ فعلياً االنتحار البشري ضمن تداخل جميع هذه المعطيات التاريخية وتناقلها جينياً للعصور الحالية ،لكن هذا ال
يُلغي أبداً جوهره الطبيعي والفطري.
فسر العلم الحديث ظاهرة االنتحار ،على أنها ُمنجز بشري حصري ،ناتج عن ّ ُي ّ تعقد الوعي اإلنساني ّ املدنية ،ويخضع لترديات نفسية معينة ضمن تراكمات البنية العقلية الحديثة وتطوراتها واضطرابات سلوكية تؤدي باإلنسان إلى قيامه بفعل املوت .هذا الحصر لفعل االنتحار ،يؤدي بنا إلى تقليص أهميته التاريخية والطبيعية ،وتشويه النظرة إليه لعدم فهم آليته ،رغم صعوبة اإلحاطة بهذه اآللية الذاتية.
9
ّ التشعب في هذه الظاهرة من منحى ّ تصور قبل ُ شخص ي ،وهو رأي قد يقبل وقد يرفض من اآلخر ،ال ُب ّد لنا من تفنيد هذه الظاهرة حول ُ ّ تعريفها املقلص أنها فعل بشري محض، ويخضع بأسبابه لتردي نفس يُ ،يعانيه الكائن اإلنساني دون سواه. ّإن تعريف العلم لظاهرة االنتحار بأنها ّ نفسية ً ً بحتة قد ال بدو تعريفا جوهريا بقدر ما هو تعريف تبريري لعدم قبول فكرة فطرية هذا ً الفعل في الطبيعة ،رغم أنها تحمل طابعا ً ً نفسيا جزئيا ،لكن الدقة لتعريف هذه الظاهرة هو ما يمكن أن نطلق عليه "تجاوز الكائن لوعيه الذاتي وعالقته باملحيط" ،وهذا التجاوز ليس نفس ي بحت بقدر ما هو إدراك فلسفي لطبيعة العالم (كل كائن بحسب قدرته العقلية) .بالطبع ليس معنى هذا أن أي كائن يمكن له اإلقدام على االنتحار ،قد وصل إلى مرحلة التساؤالت الكبرى في معنى الحياة أو املوت أو الوجود أو العدم (هذا جزء ضئيل من ممارسة فعل االنتحار) لكن الحالة األعم هي تجاوزات بسيطة لعدم الوصول إلى معنى أو ّ تحمل ما تجاوزه العقل.
منطقي ،وهي انتحار الحيوانات (باعتبارها ً علميا كائنات غير عاقلة وال تمتلك آليات التفكير العميق خارج نطاق الغريزة) .من هنا إن كان االنتحار بحسب التعريف العلمي هو ّ تعقد الوعي وتطوره املدني ،ما الذي يدعو الحيوانات بتفكيرها الغريزي للبقاء إلى االنتحار!! ّ سجل التاريخ الكثير من حوادث انتحار الحيوانات بشكل غامض ،إن كان في الوقت املعاصر وإن كان في التاريخ القديم ،وأهم ما ُس ّجل في ذلك التاريخ هو حديث أرسطو حول واد سحيق، انتحار حصان برمي نفسه في ٍ وكان تبرير ذلك االنتحار (بحسب تمنطق البشريين وأسطرتهم للتاريخ وإيجاد تبريرات ُ لعدم فهم آلية انتحاره) أن الحصان قد أجبر على مضاجعة أمه ،وهو ما دعاه فيما بعد ً لالنتحار .طبعا ُيعاب على هذا التبرير ،بأنه لو كان الحصان يعلم أن من يضاجعها أمه (بحسب رؤيتهم وتبريرهم أن الحصان يمتلك ً ً ً وعيا شرفيا) ملا أقدم على مضاجعتها أصال، ً ّ (ألن تقديم رؤيتهم أن الحصان يمتلك وعيا وقدرة على التمييز لن تدعه مهما كانت الضغوطات ألن يمارس ذلك الفعل الفاحش بحسب منظوره املتطور) لكن ضرورة أسطرة الفعل االنتحاري (لعدم قدرتهم على إيجاد تفسير علمي) تحتاج إلى تبرير يناسب تاريخية ذلك الفعل .ويمكن تأويل انتحار (حصان
قبل أن نتحدث عن االنتحار اإلنساني ً قليال حول وطبيعته وآليته ،دعونا نتوقف إحدى أكثر الظواهر االنتحارية التي لم يستطع العلم حتى اآلن تفسيرها بشكل
10
بالطبع إن جميع الكائنات في الطبيعة من النمل إلى اإلنسان ،تمتلك ما يمتلكه اإلنسان ً ً تماما من الوعي إلى التفكير مرورا بأحاسيس املتعة والعاطفة والذكاء .قد تختلف نسبة ذلك الوعي والذكاء والعاطفة وحجم العقل وطبيعة اإلدراك ،فمشاعر الكلب أقوى من مشاعر القط ،وتفكير القرد أضخم من تفكير األسد ،وذكاء الدلفين أكبر من ذكاء سمك السلمون ،وهذا بالتأكيد يخضع ّ وحركية تساهم في تطور لتطورات بيئية ً العقل ،تماما مثلما نستطيع القول أن ً الصناعي هو أكثر إدراكا من الفالح نتيجة طبيعة العمل والحركة التي تجعل األول أكثر ً انفتاحا على فهم املحيط من الثاني ،لتطور آليات العمل التي تؤدي بشكل بديهي لتطور العقل .بذات الصيغة تؤثر البيئة والحركة على تطور الكائنات األخرى وبالتالي على تطور مستوى تفكيرها .لكن رغم ذلك التفاوت فإن الجميع يمتلك بذرة رغبة االنتحار ً الطبيعي تماما مثل اإلنسان .ففعل االنتحار البشري ال يخص شعب دون سواه ،أو ذكاء دون آخر ،أو طبقة اقتصادية، أو اختالفات جينية تخص الذكور دون اإلناث ،أو
أرسطو) بأي طريقة تناسب آلية التفكير البشري دون التوصل الحقيقي إلى معرفة أسباب ذلك االنتحار. ً وبعيدا عن ذلك التاريخّ ، سجل العالم املعاصر حوادث انتحارية كثيرة ويومية وما تزال حتى اآلن ،ورغم التطور العلمي ما زال ً التفسير قاصرا .ويجب القول كجملة اعتراضية كي ال نعود إليها مرة أخرى ،هي تبريرات انتحار الحيوانات من منظور ديني، أن انتحار هذه الكائنات يعود ألسباب األرواح املسكونة واألشباح ،وعندما يتطور ذلك التبرير الديني ُيقال إنه رغبة هللا كي ُي ّ قدم ّ ً مثاال للبشر كي يتفكروا في ِنعم الحياة التي وهبها هللا لهم .ولن نتوقف بالطبع عند هذا التبرير امليتافيزيقي الساذج ،وذكره هنا ،كي نتفرغ فقط لفهم فلسفية االنتحار دون ّ معترضين ُسذج.
11
أشخاص مضطربين دون األسوياء ،إنه فعل ممتد على عشرات اآلالف من السنين ومرافق لكل أشكال الحضارات حتى العصر الحالي وسيستمر حتى انتهاء كل أشكال الوجود.
وليس حالة شاملة للجميع. بذات املنطق يمكننا الحديث عن انتحار ً واحد وستين حوتا ،عندما غادروا املحيط ليموتوا على شواطئ نيوزيلندا منذ عشرة ً أعوام تقريبا .وتم تفسير األمر لهذا االنتحار الجماعي أنه ألسباب تلوث املحيط وتسممها. إن املضحك في هذا التفسير هو عدم قدرة تسمم املياه نتيجة االتساع الكبير لها باإلضافة أن املحيط يحتوي على مئات من ً الحيتان وليس واحد وستون حوتا فقط .وفي حادثة أخرى قامت مئات من الحيتان باالنتحار على شواطئ استراليا ،ناهيك عن حوادث انتحار الدببة التي تتوقف عن ً الطعام ليموتوا جوعا ،أو انتحار البجع بإغراق أنفسهم في البحار ،أو انتحار الطيور بضرب أنفسها في الجدران حتى املوت ،أو انتحار الدالفين بالتوقف عن التنفس ،أو أكل األفاعي لذاتها أو قتل العقارب ألنفسها بالسم ،وربما أشهر حوادث االنتحار األخيرة هي موت ألف وخمسمائة خروف برمي أنفسهم من جرف بتركيا عام .2005
حاول البعض تفسير ظواهر االنتحار الحيواني وردها إلى أسباب معينة ،ومنها ظاهرة انتحار الكالب في اسكتلندا من فوق جسر أوفر تاون ،حيث ترمي الكالب أنفسها من األعلى إلى النهر في األسفل ويموتون ،وإن لم يمت الكلب من أول مرة ُيعيد الصعود وتكرار املحاولة حتى املوت .تم تفسير األمر أن في األسفل يوجد أوكار للفئران والسناجب مما يؤدي لقفز الكالب .لكن ما ُيعيب هذا التفسير ،هو ّأن الكلب إذا لم يمت ُيعيد تكرار املحاولة حتى املوت .وتم تسجيل مراقبة من علماء الطبيعة حول هذا السلوك، إضافة أن ليس الكالب كل العابرين من فوق الجسر يمارسون فعل ً االنتحار .إذا فالقفز من فوق هو الجسر مسألة شخصية لكالب معينين،
ما تدللنا عليه هذه الحوادث والكثير غيرها ً يومياّ ،أن فكرة االنتحار ال تخضع ّ لتعقد ً الوعي أبدا كما يصفه البعض من العلماء أو بسبب عدم اإلمكانية لالستمرار في الحياة وضعف اإلرادة كما يصفها بعض ُم ّ فسري
12
ُ منطق إدراكه البدائي بأن غريزته ت ّلبى مع ً زوجته التقليديةُ ،مسقطا من تفكيره جميع ً الصفات األكثر تكامال في املرأة والتي ال توجد في زوجته ،وبالتالي هو ال يخرج من إدراكات املحيط البسيط الذي يعيش به ،بمعنى أنه ال يتجاوز إدراكه الذاتي لعامله ،الخارج عن نطاق املألوف واالعتياد والروتين ،وإما باحتمال ثاني، فإنه قد ينبهر املرأة بتلك ويشعر بقيمة األحاسيس والذكاء والعاطفة بأن والخداع حياته الروتينية ليست املطلق الجمالي ،وبأن العالم الخارجي يحتوي ما هو أكبر من إدراكه ،هذا التجاوز ّ نسميه تجاوز الكائن لوعيه هو ما يمكن أن الذاتي واتساع إدراكه لتقليدية املحيط به، وبالتالي قد يمارس الخيانة بمعنى اإلحساس وليس بمعنى الجسد .هذا اإلنسان قد يكون نسبة تفكيره وأحد باملئة ،لكنه يتجاوز نسبة ً الواحد باملئة وبالتالي يكتشف عاملا آخر .هذه الواحد باملئة هي نسبة التفكير املطلقة بالنسبة لذاته ومحيطه ،فإذا ما تجاوزها نصبح أمام معطى فلسفي بحت.
ّ النفسية ،أو بسبب تفسيرات الهوتية العلوم إنها ضعف اإليمان باهلل وأسباب تدخل وسوسات شيطانية ساذجة ،بل هي بدقة فلسفية ،تجاوز الوعي الذاتي للواقع املحيط بالكائن .إنه فعل فطري في الطبيعة عندما يصبح الوعي أضخم من الواقع( ..كل كائن بحسب مستوى إدراكه). ضمن هذا التعريف الفلسفي البسيط نستطيع إيجاد تفسير آللية انتحار ً الحيوانات فعليا. قلنا إن الكائنات باإلضافة لغرائزها األساسية وهي (األكل والشرب والجنس والنوم) تمتلك الذكاء والعاطفة واإلدراك واإلحساس باملتع والتفكير (لكن ضمن وعيها ً الذاتي ّ املبسط) ،تماما مثلما يمكن أن نقول ً في املثال التالي كمشابهة تقريبية :إن شابا في الرابعة عشرة من عمره ،قد يشاهد فتاة جميلة لكنها بليدة ويتزوجها بإدراكاته الغريزية ،دون التفكير بأنه إذا ما كبر بعد ً ً عشرين عاما قد يصادف امرأة أكثر جماال ً وثقافة وأناقة وحب .اآلن بعد عشرين عاما من زواجه شاءت األقدار أن يصادف تلك املرأة األكثر روعة .في هذا اللقاء هو أمام احتمالين ،إما أنه لن يولي أهمية للمرأة من
13
ً هذا ما يجري تماما مع فكرة انتحار الحيوانات ،إنه تجاوز الذات للمعطى الفلسفي البسيط ،وبالتالي يصبح انتحار الحيوانات (بحسب إدراكاتها) يخضع لنسبة هذا التجاوز الكتشاف تقليدية العالم املحيط بهم( .مع التركيز على أن ليس كل تجاوز يؤدي النتحار ،لكن كل انتحار هو ً حصرا تجاوز). ّ إن الفلسفة كمعيار تخضع لتقلبات البيئة وتطورها نتيجة جوهرها الحركي الدائم ّ التغير يجعلها أكثر مرونة في الطبيعة وبالتالي في الكائن الحي الخاضع للتجاوز بعالقة تبادلية أصيلة ،مهما كانت نسبة ضآلة تفكير هذا الكائن .بهذا الشكل نستطيع فهم طبيعة االنتحار الفطرية في الطبيعة ،وأصالتها التي تولد في الكائن الحي بشكلها الفلسفي الخفي. ً إنها تماما تشبه الصورة التقليدية التي يؤمن بها جمع البشر باختالف أديانهم ومذاهبهم ً وعقلياتهم ،وهي أن الحياة تحمل دائما بذرة موتها. ّإن فهم هذا املعنى الفلسفي والطبيعي
واألساطير والتطور والعمل واالستعباد ..الخ. ً وينشأ فعليا االنتحار البشري ضمن تداخل ً جميع هذه املعطيات التاريخية وتناقلها جينيا ً للعصور الحالية ،لكن هذا ال ُيلغي أبدا جوهره الطبيعي والفطري. بداية ،ليس من السهل بالتأكيد الحديث عن االنتحار البشري كبنية شاملة ذات اتجاه واحد أو تفسير محدد يشمل جميع الحاالت بشكل متساوي ،برغم أن الفعل االنتحاري يوحي بذلك البعد املشترك ،والذي يتم طرحه ً ً اجتماعيا ،كما قلنا سابقا ،أنه عدم القدرة ً على االستمرار في صعوبات الحياة .وبعيدا عن التبريرات االجتماعية الجاهزة واملؤدلجة، نستطيع القول إن االنتحار ال يمكن تخصيصه بفئة ما ،فهذا السلوك يتجسد ً موضوعيا بحيث ال يرتبط بأي شكل اجتماعي مباشر ،وإن كانت انعكاسات الوعي املجتمعي ذات تأثير جزئي على املنتحر ،لكنها بالتأكيد ليست السبب القطعي لالنتحار .بهذا املعنى ال يمكننا تحديد مفهوم االنتحار كصورة شاملة يمكن لنا من خاللها تقديم هذا السلوك على أنه نموذج مرض ي ذو مواصفات خاصة .إننا في كل صيغة انتحارية نتعامل مع مواصفات محددة ال تنطبق على غيرها من حاالت االنتحار األخرى ،فهو سلوك قديم وال يختص باقتصاد أو لون أو عرق أو دين أو طائفة أو جنس ،على هذا النحو ُي ّ قدم االنتحار نفسه
لالنتحار يوصلنا إلى هدفنا األساس ي وهي مناقشة االنتحار البشري. ً بالطبع إن الوعي اإلنساني هو أكثر تعقيدا من أي وعي لكائن آخر ،نتيجة تدخالت كبرى كاإليديولوجيات واألديان والثقافات
14
لحظة انقسام العالم ً ونشوء اقتصاديا البشري االستعباد ً مرورا بكل التجارب العقلية والنصوصية التشريعية كاألديان واألعراف ،أن الذات (الروح) ُملك لإلله ،من خالل الطبقة التي تحكم مفهوم االقتصاد املتطورّ . وإن تطور ذلك وتلك االقتصاد النصوص أدت إلى احتواء ظاهرة العلم تكتف فقط واإلنسانية تحت جناحها ولم ِ ُ بفكرة الدين ،فأصبحت األديان ت ّ حرم االنتحار وتتوعد بالعذاب األبدي ،وحتى العلوم اإلنسانية ترفض االنتحار من منطق أن اإلنسان بنضاله لتحسين حياته هو الهدف من الحياة ،دون أن يعي كال الطرفين أن ذلك الرفض واملنع للخيار البشري باملوت هو باألساس لتدوير عجلة االستعباد االقتصادي .لقد تحول اإلنسان بفكرة الذات مع مرور الزمن إلى عنصر ارتهاني ومستعبد، وراء تبريرات املعنى األبدي في األديان واملعنى النضالي في املفهوم اإلنساني ،وفقد معنى
بأنه كمفهوم، األكثر الصيغة ً تجريدا وذاتية إدراكية ال يعلم خفاياها سوى الكيان الذي مات. لكن من خالل تلك لكل الخصوصية حالة فردية قائمة بذاتها ،يتجلى أمامنا ش يء مشترك يجمع كل حاالت االنتحار، وهي عالقة الذات مع ً العالم الخارجي ،تماما كما هي صورة انتحار الحيوانات مع محيطها .إنه التجاوز. إن فكرة االنتحار البشري مرفوضة على جميع املستويات ،الدينية واإلنسانية .لكن أليس ذلك الرفض هو جزء مهم من تفسير ظاهرة االنتحار البشري ومعنى التجاوز ً الفلسفي الذي حددناه آنفا ! ،مع سؤال جوهري ملاذا هو مرفوض؟. إن رفض االنتحار البشري بالضبط يخضع لبنية اقتصادية بحتة ،فتطور املجتمعات والحضارات أدى لخلق مجموعة من النصوص والقوانين التي حددت الذات ً ابتداء من باعتبارها ليست ُملك نفسها،
15
قد يتساءل البعض حول العصر الحالي وقبول الكثير من الناس والعلوم اإلنسانية لظاهرة االنتحار من معناها الفرداني، ً وبالتأكيد إن قبول هذه اآللية ال يخرج أبدا عن املعنى االقتصادي الذي تحدثنا عنه قبل ثالثة آالف عام ،إن إقدام إنسان على االنتحار هو ضربة قاضية ملفهوم االقتصاد، فاإلنسان كآلة إنتاج في ذلك التاريخ لم يتجاوز كتعداد مئات اآلالف ،بينما في العصر الحالي ،فاإلنسان كآلة إنتاج يومي ضمن بنية متطورة تجاوز عددها املليارات ،فأن ينتحر ً يوميا عشرة آالف شخص هو أمر لن ُيضر ً عجلة االقتصاد أبدا ،بل على العكس ،إنه يضعها في موازانات اقتصادية جديدة، وأهمها تفسيرات الفلسفة والدين والثقافة والدراسات حول تلك الظاهرة كجزء من تدوير اقتصادي .بهذا املعنى لم تعد مسألة رفض االنتحار في العصر الحالي مسألة ً إشكالية كثيرا ،ولو أنها تحتوي في جزء منها على الرفض باملعنى التعاطفي. ذلك املثال التاريخي هو لشرح البنية ّ املعقدة ُ التي أجبر فيها اإلنسان على فهم تحريم االنتحار كستار ُيخفي وراءه املعنى الحقيقي لالستمرار .بالطبع ليس الحديث هنا كدعوة ّ املظلومية للموت بقدر ما هو محاولة تشريح ُ التي خ ِضعت لها فكرة االنتحار عبر التاريخ.
الحرية الفطرية ،وبالتالي أصبح كل فعل ً ً انتحاري فعال موصوما باللعنة. ً فتاريخيا الفعل االنتحاري ال يتوقف على إنهاء اإلحساس بالواقع فقط ،إن مجرد التفكير بذلك الفعل يضع العقل والروح أمام تصورات ال نهائية من الشناعة ،فأن تكون ً ُ قدم على االنتحار ،فجسدك قد ال عبدا وت ِ ً يوارى التراب ،بل قد يصبح طعاما لكالب سيدك كنوع من التعويض عن الخسارة االقتصادية التي سببتها للسيد ،فأنت ُمرتهن في مستوى الحياةّ ، وإن تجاوز الوعي الذاتي للنفس وللمحيط قد يضع ذلك اإلنسان التاريخي بأبشع صورة حتى بعد موته ،هذا بخالف النصوص الدينية التي تتوعد قاتل الذات بجحيم أبدي فيه كل تصورات العنف الالعقالني .بالتأكيد كل تلك املحرمات والتصورات التي قدمتها األعراف واألديان والنماذج االقتصادية هي لهدف استمرار عبودية الذات والبقاء في حيز اآللة اإلنتاجية. فاملوت بطبيعته الوجودية هو تحرر وإدراك ً نمطية الحياة املقوننة .ال يمكن لنا إطالقا فهم رفض األديان والعلوم واالقتصاد لفكرة االنتحار إال ضمن هذا املعنى لتدوير االقتصاد ،فاإلنسان هو اآللة املفكرة التي ُ تنتج أضعاف ما يمكن إنتاجه من قبل الكائنات األخرى بدائية اإلدراكات.
16
من هذا املبدأ ُيمكننا فهم الصراع االنتحاري (البشري ذو الوعي املُ ّ عقد) بين الرغبة اإلنسانية (باعتبارها فطرة طبيعية وفلسفية) وبين الرفض املقونن لها ،ولن يتوقف األمر عند هذا الحد .لقد ّ حولت املمارسة االقتصادية االستعبادية فكرة ً االنتحار إلى حالة إنتاجية معقدة فعليا ّ ّ التعقد في الوعي ُمستغلة كل إمكانيات ذلك والثقافة ،فباإلضافة إلى أن االنتحار املعاصر هو آلية خالص من الفائض اإلنتاجي الذي يخضع ملنهكات الزمن (كالكهولة ونوعية الجنس والفيزيولوجيا واإلدراك) ،هو بطريقة أخرى آلية تدوير من حيث البحث الفلسفي والثقافي باعتبار االنتحار شكل تاريخي يجب دراسته ،فهذه الدراسة هي شكل اقتصادي مختلف عن السائد لفهم آلية تطور الوعي وبالتالي تجاوز االقتصاد لهذا التطور من أجل إعادة احتوائه مرة أخرى ،وإيجاد بدائل له كي يجعل صيغ االنتحار معقولة ومحدودة تناسب بنية االقتصاد دون الخروج عنها.
متداخل بمؤسسات كونية ،تشارك بها اإليديولوجيات والفلسفات واألديان واألعراف والثقافات والتاريخ والغرائز ..الخ. ُ دخل اإلنسان في متاهة ذلك التداخل الذي ي ِ كبرى من عدم الفهم والتركيز على اليومي، لكن مع ذلك يتم كسر هذا الجدار املهول من التداخالت ليدرك اإلنسان املعاصر أزمته الوجودية ببساطتها أو تعقيدها ،ليعود لجوهر فلسفة الطبيعة الغريزي وهو االنتحار. يبدو العالم املعاصر أكثر ً ً تحررا وانطالقا ً وخالصا من مفهوم عبودية الذات التي تحدثنا عنها ً سابقا ملا يحمله هذا العالم من ً معايير ال تركز كثيرا على القيم أو السلوكيات املحددة ،وبالتالي ُيفترض أن نسبة االنتحار يجب أن تقل عن األزمان الغابرة ،لكن معطيات الواقع تشير إلى عكس ذلك .لقد تعقد مفهوم آلية االنتحار نتيجة ّ ّ تعقد آلية االستعباد ،فاإلنسان يمارس الحياة بشكل محدد وخاضع لقوانين تشريعية وسلوكية، ً ابتدا ًء من العمل وصوال إلى ارتهانية الحق
بهذا الشكل يتم رفض االنتحار البشري (بالوعي املُ ّ عقد) ضمن بنية االقتصاد الذي تحدثنا عنه ،لكن تبقى مسألة وهي كيف يتجاوز املنتحر هذا الوعي املُ ّ عقد لفهم بنية املحيط به وتشكيالته! فنحن هنا لسنا أمام تجاوزات غريزية بسيطة كما توجد في عالم الطبيعة البدائي ،بل نتحدث عن وعي
17
الزواج كمؤسسة هو لتشريع إنجاب آليات خدمية ّ مستقبلية ،إنها تحكم مطلق حتى في معنى العاطفة ُ البشرية .وتبيح لك املنظومة خيارات أخرى من املتعة الجنسية كالعاهرات ،لكن حتى هذه املنظومة العهرية هي تدوير القتصاد املال ،فال وجود لعاهرة مجانية .إن إدراك اإلنسان لهذا املكنون االستعبادي املعاصر (حتى وإن كان ً غير واضح املعالم كثيرا في الوعي املباشر) قدم نفسه كصورة ُم ّ ُي ّ عقدة تؤدي باإلنسان إلى إدراك عدم جدوى الخالص بقدر ما هي صورة محاربة دائمة وصراع للبحث عن طريقة للحياة .ال ينظر اإلنسان إلى تعقيد بأهمية ،وال ّ ّ حتى يدرك هذه االشكال ّ مأساويتها ،.ولذا يمارسها الناس دون إحساس عميق بفهم ما يعيشونه ،لكن هناك الحاالت ً االستثنائية التي تحدثنا عنها سابقا ،وهي املنتحرين الذين وصلوا إلى إدراك عميق بعبودية الذات وفهم لعدم جدوى األشياء، فيصبح االنتحار مسألة خالص كلي من الجحيم اليومي ،إنه تجاوز الكائن لوعيه الذاتي. ً قد تختلف قليال النظرة عن فكرتي االنتحار الحيواني والبشري ،باعتبار الثانية تقوم على
الطبيعي للكيانات ّ الحية .فكل ش يء خاضع لقانون تشريعي وسلوكي لتنظيم دور االقتصاد اإلنتاجي ،فالعمل ،الثقافة ،الحب، ّ األكل ،الجنس ،الترفيه ..الخ ،هي أجزاء تشكل صورة تعقيد اآللة االستعبادية لإلنسان، بمعنى آخر ،عملك ليس لتطوير مقدراتك الجسدية والعقلية فقط (كصورة نشوء طبيعي للتطور) بل ألنك إن لم تعمل فلن تأكل ،وهو األمر الغريزي في الطبيعة ،لكن آلية العمل محكومة بقوانين استعبادية .حتى ً نسبية تنويع األطعمة يخضع تماما لقدرتك على بذل الجهد املضاعف في العمل .ذات األمر ينطبق على الجنس ،تتعدد أشكال متعة الجنس ،من العاهرات إلى الزواج ،لكن في جميع الحاالت هي شكل من تدوير استعبادي لالقتصاد .فحقك الطبيعي بالغريزة الجنسية الفطرية يخضع ملقدار ّ تعهدك في إنتاج آليات ً تخدم املنظومة االقتصادية مستقبال ،فمثال
18
عناصر ارتهانية ّ معقدة ،لكن ذلك ال ُيلغي بدائيتها الطبيعية التي تحمل بذورها في فكرة الحياة نفسها ،فالحياة تحمل بذور موتها، لكن املشترك هو التجاوز الذاتي بحسب الكائن ومستوى إدراكاته .هذا هو العامل الفلسفي املشترك في الطبيعة ملفهوم االنتحار. وكما قلت في البدايةّ ،إن النظرة إلى هذا
والديني ،وعدم القبول بالبقاء في حيز الروتين واالنتهاك النفس ي والعقلي. إنها صورة اتساع اإلدراك خارج اليومي وتجاوز كل وعي غريزي .قد يكون املنتحر ً ً ً شخصا رومانسيا ومهزوزا بالتعبير االجتماعي ،لكنه بكل تأكيد شخص ذكي وقادر على فهم الواقع والتسامي عن صيغة الحيونة البشرية الغريزية التي يظنها الناس ً هي الفعل األكثر تكامال في العالم دون إدراكهم لعبوديتهم وذلهم كآالت مادية تنتج ُ مستنقعاتهم التي تغرقهم نحو القاع. ّإن االنتحار ليس سوى صورة اتساع اإلدراك خارج اليومي وتجاوز الكائن لوعيه الذاتي.
املفهوم هي بحث شخص ي بحت ،قد يتفق اآلخر معه وقد يختلف .لكن يبقى االنتحار كمفهوم غامض بالنسبة ألي كيان هو فهم عميق وذكي واختيار فرداني شجاع ضد جمع قوانين االستعباد االقتصادي واملؤسساتي
علي األعرج روائي وصحفي سوري ،عضو هيئة حترير جملة كلنا سوريون
19
20
عصر املالحم عبد القادر أمحد تعاني مجتمعاتنا الشرقيَّة من الجهل المدقع والتخلِّف المتفشَّي ،وتنتشر فيها ثقافة المؤامرة التي تنشأ من ذهنيَّة قاصرة تردُّ كلَّ ما ال تستطيع تفسيره إلى أسباب غير موضوعيَّة.
ً َّ َّ ويتعزز حضورها إذ تقفز فجأة لتصير بشكل كبير، تنتشر أحاديث آخر الزمان عند عامة املسلمين ٍ َّ ّ موضوع الساعة مع ّ انسجام اعتيادي ،وينسحب ذلك على كوارث الطبيعة لتتسق في كل طار ٍئ غير ٍ ِ ٍ ّ ّ مدم ٍرة حرب ِ تام مع كوارث يتسبب بها البشر ،فتسونامي هناك وزلزال هنا وانفجار بركان واندالع ٍ ٍ ً َّ ً ُّ ُّ كلها تصبح شروطا موضوعية لظهور أحاديث آخر الزمان وتسيدها واجهة القيل والقال والتي ال تنتهي ّ حتى انتهاء الكارثة.
21
وهكذا يكثر في مثل هذه األوقات الحديث عن أشراط قيام الساعة واقترابها ومعركة آخر الزمان ،وظهور املسيح َّ والدابة ،وخروج يأجوج ومأجوج الدجال ّ املهدي وغيرها من ونزول املسيح أو ِ ُ الروايات املتالزمة ضمن ما يعرف عند املسلمين بأحاديث الفتن واملالحم. ّ اإلسالمي خالل ولقد دأب علماء الدين ِ العصور السابقة وعلى اختالف مذاهبهم على استجالب هذه األحاديث وإذاعتها َّ ٌ ٌ خطر كلما طرأت نازلة أو داهم البالد ٌ ٌّ كارثي أو اشتعلت حرب مؤذنة بالدمار. وكان يطلب على الدوام من املؤمنين َّ والتمسك بدينه، العودة على هللا واالبتعاد عن الفتن ،وعدم الخوض بين كل مؤمن َ الخائضينْ ، وأن يلتزم ُّ فريقه فال ٍ ّ ً املضللين الذين عادة ما ينساق مع دعاوة ِ ًّ ً ً يكونون فئة أخرى مناوئة سياسيا. ّ ُّ التنبؤ وتقوي هذه األحاديث امليل نحو ِ الشخص ي عند األفراد ،وتدفعهم لتأويل األحداث لتنسجم مع محتوى تلك األحاديث وأخبارها ،بل َّإن األمر َّ تطور َّ ات عديدة، مر ٍ َّ املهدوية؛ فوصل إلى ْأن َّيدعي بعض األفراد ُّ ُ َّ املهدي امل َنتظر صاحب الزمان كما األمر وأنه َّ املهدي كما ظهر عند عند الشيعة أو املسيح السنة خالل مراحل التاريخ ،وفي العصر
ّ املهدوية في مختلف الحديث فقد ظهر أدعياء األقطار اإلسالمية بما يزيد عن عشر حاالت. وال غرابة في ّ ّ الدينية تبني هذه املجموعات ِ َّ ً فكريا ضمن اإلسالم لهذه املختلفة املتباينة ً ّ ّ فقضية ظهور املهدي مثال عند الفكرة، ِ الشيعة والسنة تقع ضمن إطار العقيدة، وهو ما يوجب اإليمان بها عند املسلمين ً َّ عموماْ ، َّ اإلباضية وإن شذت عن ذلك َّ الزيدية التي ال تعتقد بالفكرة وال والشيعة ُّ تعتد بأحاديث الفتن واملالحم. وتشهد منطقة املشرق العربي منذ ما يزيد على ً حروبا َّ ً ُ ّ دمرة في ّ كل عقدين من الزمن كارثية م ِ ٍ
22
َّ ً التطرف في تفسيرها لإلسالمّ ، ّ سلوكيا وطبقته على األرض وخالل مجرى األحداث. َّ ّ بيئة ولقد تغذت تلك املسوخ الر اديكالية من ٍ ّ َّ َّ بشكل تفشت فيها العقلية الطائفية البغيضة ٍ َّ َّ ً ُ ّ عدوا، وبائي ،فهي ال ترى اآلخر املختلف إال ُ َّ ً ولقد بدا الوضع في هذه املنطقة معقدا ً أحياناْ ، وإن َّ كنا لدرجة يصعب فهمها ٍ َّ املحرك نستطيع فهم األسباب التي كانت ّ َّ الحقيقي ألن تبلغ هذه الذروة من واملوجه ِ التراجيديا. ُ لقد أ ِزهقت خالل السنوات املاضية أرواح مئات اآلالف من األبرياءُ ، وه ِدمت املنازل ُ وش ّرد البشر في ّ كل فوق رؤوس اآلمنين، ِ ِ مكان ،فأكلتهم ضواري الصحراء ،وشبعت من أجسادهم أسماك البحر ،وتدهور ُ االقتصاد ،وش ِغل الناس بقوتهم وتأمين أدنى فرصة للحياةّ ، حتى أصبحت الحياة َّ كارثية ٍ مستحيلة. اعم أنَّ كل ما حدث ،فهل يزعم ز ٌ ولكن ،ورغم ّ ِ ما حدث كان نهاية التاريخ أو َّأنه سيكون؟ أوَ ً ً ّ نصدق هذا الزعم؟ ّإن مراجعة بسيطة ّ املتفحص ال الخبير ،تخبرنا للتاريخ بعين بانعدام وجه املقارنة ،فلقد أنبأنا التاريخ بما هو أسوأ! ّ لقد عرفت منطقة املشرق العربي خالل تاريخها الطويل مثل هذه الكوارث ،بل ما هو َّ ُّ ّ املروجون لنهاية العالم أشد منها ،فهل اطلع ِ
من سورية والعراق ،ولذا فقد وجدت هذه ً ّ ومروجوها بيئة مناسبة لتظهر األحاديث ِ ُ برواياتها وتأويالتها وأن ت ّ حمل ما ليس تحتمل. فئة وال يقتصر استخدام هذه األحاديث على ٍ َّ َّ َّ ُّ اإلسالمية فكل املذاهب معينة، دينية تستعين برواياتها وتأويالتها لهذه األحاديث، ٌ تأويالت وفي املذهب اإلسالمي الواحد تظهر ُّ الرسمي وتبريرات متباينة لها ،فما يريده الدين ُّ الشعبي املحايد ،وهذا غير غير ما يريده الدين َّ ما يريده الدين املعارض ،وغير ما يتبناه الدين ً الخارج على هؤالء جميعا. َّ َّ بعملي ٍة القضية تكمن في النهاية بالقيام َّإن َّ انتقائي ٍة تصطفي وتنخب ،وتختار ما يناسب ً املوقف؛ وما َّ يجير َّأوال وأخيرا لخدمة األهداف ُ ّ َّ الخلفية ،والتي ت َلبس السياسية التي تكون في ً َّ ً ّ دينيا في حالة صراعات املشرق العربي لبوسا ِ الراهنة. َّ والعامة البسطاء من املسلمين، َّأما الدهماء فهم وقود هذه النزاعات وحطبها ،وعليهم َ ّ ُ واالقتناع بتبريرات ِاتباع ما ُيملى عليهم، َّ َّ َّ والسياسية. والروحية الدينية زعاماتهم َّ ال َّ شك أن ما حدث وما زال في العراق وسورية املأساويةَّ ، َّ ٌ لكن الثابت أن طبيعة أمر في غاية َّ الديكتاتورية والصراع الغاشم على األنظمة َّ السلطة واألطماع اإلمبراطورية للدول املجاورة لهذا املركزّ ،أدى لظهور حركات ٍ اديكالية وصلت أبعد ما يمكن ّ َّ تصوره من ر
23
هذه املنطقة قد ً مثال يقول اجترحت "وهجموا كالتتار أو هجموا كاملغول". َّ شك َّأن أحداث ال السنوات األخيرة كانت َّ مأساوية للغاية ،ولكن هل يمكن مقارنتها أحداث بفداحة العصر الوسيط ،أم ّأن شعوب املنطقة تعيش بال ذاكرة؟ سؤال ٌّ ٌ مهم آخر، َّثمة وهو ماذا كان يقول العصر مسلمو َ ممن عاشوا تلك األحداثْ ، ألم ي ْ الوسيط َّ قل قائلهم َّإنها أحداث نهاية الزمان؟ ألم َ ّ ليحذر الناس ويعظ يستجلب األحاديث َّإياها ِ َ وينذر باقتراب قيام الساعة. املؤمنين لقد مض ى على ذلك العصر وأحداثه ما يناهز ً عام تقريبا ،ومازال علماء الدين ألف ٍ اإلسالمي ّ َّ ولعل يرددون األقاويل نفسها، ِّ ِ التساؤل الوجيه ما الذي يدفع هؤالء الفقهاء إلى ِترداد تلك التقاويل والتأويالت ،أم ّأنهم يعيشون بالذاكرة املثقوبة ذاتها. َّ الشرقية من الجهل املدقع تعاني مجتمعاتنا ّ َّ والتخلف املتفش ي ،وتنتشر فيها ثقافة ِ
هجمات على التتار وغزوات املغول وحروب ّ الصليبيين؟ وهل خبروا عن خراب ِ البصرة ودمار بغداد واستباحة َّ ودمشق مكة وحلب واملوصل وبيت املقدس في تلك العهود؟ بل هل خطر في بال ّ املروجين َّأن أحد ِ مثل هذه األحداث َّ الكارثية كانت قد حدثت قبل اإلسالم في هذه املنطقة ذاتها. ّ ْ نذكر َّأن الحروب الصليبيةَّ أيكفي أن ِ استمرت ملئتي عام؟ َّ وأن الدماء سالت في ٍ ً ً الحواضر العربية سواقيا وأنهارا؟ وهل َّ نستعيد َّأن القرامطة استباحوا مكة وحرمها، واقتلعوا الحجر األسود من الكعبة الشريفة ُ ّ ُ َ ذكر بالزالزل التي دمرت ونقلوه إلى هجر؟ أم ن ِ ّ مر العصور والطاعون هذه الحواضر على ِ ً الذي فتك بشعوب املنطقة يوما ما. ُ ّ ذكر َّ َّ اآلدمية كانت تزكم بأن رائحة الجيف أم ن ِ ُ َ أميال من بغداد التي اجتاحها األنوف على بعد ٍ َّ الجمعية لشعوب املغول ،أم نقول َّأن الذاكرة
24
َّ َّ ممتدة من الجهل خلفية واسعة على َّ والتخلف. كما َّأن فترات الكوارث والحروب تخلق اليأس عند الناس فتدفعهم للبحث عن الخالص نزعة ضمن ٍ ّ َّ نكوصية متو ِثبة ً دوما وجاهزة ٍ إلفراز االستجابة، فالشعور باقتراب على النهاية ّ املستوى الفردي َّ ّ يعمم واملجتمعي َّ ويؤول بالنتيجة على َّأنه اقتر ٌ اب من نهاية للعالم. املركزية التي َّ َّ ُّ تمتع بها املشرق العربي خالل َّإن ً ّ جوهرية لهذه املنطقة، التاريخ تبقى سمة َّ اث عميق ّ ثنائي وترتكز هذه املركزية على تر ٍ ِ البنية فهو ٌّ ديني من جهة وحضار ٌّي من جهة أخرى .وعلى املستوى الدين ّي َّ َّ املركزية فإن هذه ِ تأخذ مكان القلب من العالم في املنظومة العرفانية للديانات اإلبر ّ َّ اهيمية وما ّ تفرع عنها، َّ َّ اإلسالمي ملختلف األحداث التي وإن التأويل ً تعصف باملنطقة يرتكز أساسا على هذه َّ املركزية. الطبيعة َّ وإن السؤال الذي ينبغي أال نتجاهله ما إذا َّ املركزية تعني َّأن الكوارث التي كانت هذه اف أخرى من العالم ال تعني حدثت في أطر ٍ
ذهنية قاصرة ُّ املؤامرة التي تنشأ من َّ ترد َّ كل ما ال تستطيع تفسيره إلى أسباب غير ً ّ َّ تشكل الثقافة عارضا موضوعية ،فيما ِ ّ ً ً َّ َّ تغلف الطبيعة استثنائيا وقشرة ظاهرية ِ ّ َّ الحضارية الهشة لهذه املجتمعات في عصرنا الراهن. َّ ويعاني املثقفون َّ عامة من ضمور الفكر النقدي ،إذ ال ال أكثر ّ ّ املثقفين يخضعون ز ِ ً قروسطية ّ ّ فكرية ،فليس غريبا أن لهيمنة َّ يسمع صوت ال زال يجادل في كروية األرض األرضية أو َّ ّ ّ حتى سير الجاذبية أو (كذبة) أرمسترونغ على سطح القمر. يحدث مثل هذا كثي ًرا في العالم اإلسالميّ، َّ األلفية الثالثة قبل بينما استقبل العالم ّ ّ اطالعاتهم سنوات، ويتعمد هؤالء تطويع ِ ّ السطحية عن العلم ومكتشفاته إلى َّ َّ املحدودية إطار من مأثوراتهم الدينية ضمن ٍ ٌ َّ خليط ّ ذهني ال الفكرية ،لتكون نتيجة ذلك ُّ َّ ً َّ ً ّ يصح علميا كما ال يصح دينيا ،ويسقط أمام امتحان العقل السليم ّ بساطة فيكشف بكل ٍ ِ دجل وبهتان. ما ينطوي عليه من ٍ وفي الواقع ،ال يمكن زحزحة تلك القناعات عند الناس قيد أنملة ،وتفشل ُّ دعوة إلى كل ٍ ّ ّ إسمتني والتدبر ،فنحن أمام واقع التفكير ٍ ً أسس تضرب عميقا في صلب ينبني على ٍ َّ ّ ّ اإلسالمي ،ألنه ينتشر املكون الجمعي للفكر ِ ِ
25
ً شيئا في سياق نهاية العالم ،فهل كوارث الحربين العامليتين واإلبادات التي َّ تعرض لها عشرات املاليين من البشر في أوربا واألمريكيتين وفي أفريقيا والصين وغيرها بال في هذا السياق. ليست ذات ٍ ً ّ ّ ّ الذهنية اإلسقاطية تعد سببا هاما في ولعل انتشار هذه األحاديث ّ فكل الطارئات أصبح ٌ مكان في الحديث الشريف والذكر لها الحكيم ،واألمر ال يحتاج ً دهاء أو تداعيات ّ فكرية فأكثر ما يكون ذلك من خالل ّلي عنق الحديث الشريف أو اآلية الكريمة وقسرهما ّ لتأدية ً جديد يتسق مع ما يراد شرحه، معنى ٍ ً وهو ما يحدث كثيرا في سياق اإلعجاز العلمي للقرآن الكريم ،والحقيقة ّأن تأويل أحاديث ّ الذهنية آخر الزمان يرتكز وينطلق من اإلسقاطية نفسها ،وبالنتيجة ّ ّ فإن املخرجات هي تقويل ال تأويل. ّ ولعل السبب الرئيس في انتشار أحاديث آخر الزمان وتأويالتها هو ما يمكن تسميته ّ ّ َّ ّ بصوابية يسلم بتضخم العقل النقلي الذي ِ القدماء من الفقهاءَّ ، وأنهم وصلوا غاية ّ للمتأخرين مهما الكمال في الفهم ،فال يمكن ِ بلغوا من العلم أن يبلغوا شأوهم. ُّ والحق َّأن هؤالء القدماء السابقين اجتهدوا َّ َّ والفكرية التي املعرفية وعملوا ضمن األدوات أتيحت لهم في عصورهم ،فجاءت اجتهاداتهم ً َّ َّ َّ خاصة وإيمانية على ظروف عملية ردودا
عاشوها وعاصروها ،والغريب َّأن ال رغبة ً كائنة في التجديد أو التفكير إذ ينحصر جهد الفقهاء املعاصرين في التصديق على اجتهادات القدماء والتوفيق بين الطوارئ نزعة واملستجدات مع آرائهم وأقوالهم وفق ٍ ّ ّ الدوغمائية. فكرية في منتهى ّإن العجب ُ العجاب أن يدير العلماء ظهورهم َّ إلى التاريخ ،فهم دون أدنى شك مطلعون على ْ َّ أحداث التاريخ فيما ُّ لكن أال يهم املسلمين، َّ ُي َ درك هذا التاريخ وأال يفهم أو ُيبحث ألخذ ُ درك العبرة فهذه مشكلة تستعص ي .أال ي ِ الفقهاء املعاصرون ّأن إسقاطات أسالفهم ّ التاريخية ألحاديث آخر الفقهاء السابقين ّ الزمان لم تجد طريقها إلى الصواب ،وأنها ّ َّ مصداقيتها مع مجرد أقوال فقدت كانت تجاوز العصر واألحداث. أم ّأنها العجلة إلعالن بداية أحداث نهاية الزمان ونهاية العالم ،فالظلم والطغيان سادا األرض ،ومن طبيعة املؤمنين البائسين املقهورين ضحايا الظلم واالستعباد أن يستعجلوا الخالص والفوز بالجنة ،أو لم تكن العصور السابقة مليئة بالظلم والطغيان ًّ وكان البسطاء واملستضعفون ضحية في الحالتين. ّإن الصحيح ّأن هذه املنطقة من العالم تعدّ املركز والقلب ،ولعل الحروب والصراعات
26
ّ الصواب إن قلنا إنه ال منطقة في العالم ً ً َّ البشرية ،وتتابعا في شهدت تواليا في الهجرات الدول كما حدث في هذه املنطقة ،لقد ّ ظل ً ً إنسان املشرق يائسا على الدوام باحثا عن الخالص فكان ّ يقوي اعتقاداته من خالل ما يعاصره من أحداث ولقد ظل على هذا الطريق حتى اآلن.
التي قامت خالل التاريخ في هذه املنطقة تستند في تبريراتها الدينية والجيوسياسية على هذه الحقيقة. ً والصحيح أيضا أن هذه املنطقة من العالم ّ ظلت على الدوام منطقة حروب ونزاعات ّ شكلت القاعدة فيها ،في حين كانت حاالت ّ االستثنائية ،وال نجانب السلم هي الحاالت
ً *املقال منشور سابقا في صحيفة كلنا سوريون
عبد القادر أمحد باحث وصحفي سوري ،حيمل ماجستري يف اللغة العربية وآدابها من جامعة حلب.
27
28
رأي 29
30
مصري اجلمهوريات بعد الربيع العربي
أمحد عيشة
ليس صدفة أن تكون الثورات العربية كلها في البالد ذات النظم الجمهورية ،هذه الثورات التي انطلقت في أضعف تلك النظم أوال ،بمعنى أقلها استبدادية ،وهي تونس، وكانت أكثر التجارب نجاحا رغم كل التعثرات التي تواجهها.
انقسمت أنظمة الحكم في البلدان العربية بعد االستقالل في أواسط القرن العشرين املاض ي إلى أنظمة حكم جمهورية ،وأخرى ملكية ،وبالطبع دافعت املنظومتان فرادى وجماعات عن حدود ً كياناتهم التي رسمها اتفاق سايكس بيكو ،الذي يدينونه ويشجبونه علنا ،بينما يدافعون عما رسمه بكل ما يملكون ،وضحايا الدفاع واالقتتال بين الكيانات أكثر مما قتل مع الحروب مع إسرائيل.
31
فمصر ،الدولة العربية الكبرى التي انتقلت للنظام الجمهوري عبر انقالب /ثورة 23تموز 1952بزعامة عبد الناصر ،والتي أرست دعائم الحكم االستبدادي الهش ،حيث تناوب على زعامتها ومنذ ذلك التاريخ أربعة رؤساء :عبد الناصر ( ،)1970-1954بعده أنور السادات ( ،)1982-1970تاله مبارك ( ،)2011-1982أما الوضع بعد الربيع العربي وثورة مصر فهو غير مستقر.
كانت األنظمة امللكية متمتعة باستقرار تقليدي نسبي ،قائم على عقد اجتماعي غير ً مكتوب يقض ي بتناقل الحكم وراثيا بين أفراد العائلة الحاكمة ،وقبول شعبي نسبي ،سيما أن أغلب األنظمة امللكية كانت من أصحاب النفط ،وممن يدور في فلكهم .أما البلدان ذات أنظمة الحكم الجمهوري وهي (مصر والجزائر وليبيا وتونس وسورية والعراق واليمن بشقيه ثم املوحد) فقد تمتعت بمواصفات استثنائية ،فالسمة املشتركة بينها أنها أنظمة انقالبات عسكرية ،اعتمدت بشكل أساس ي على الجيش واملخابرات ،وفيما بعد على شبكة محسوبيات زبائنية من املصالح االقتصادية.
تونس ،ومنذ استقاللها عام 1956حكمها "املجاهد" الحبيب بورقيبة ،الذي حاول فرض نظام علماني فظ ،مما خلق ردة فعل عميقة لدى الجمهور املسلم ظهرت بعض من نتائجه املترافقة مع ثورات الربيع العربي في
32
التاريخ أي تغيير لرئيس سوى باملوت أو القتل ،فصالح جديد ( )1970-1966أطاح به حافظ األسد عبر ما يعرف بحركته التصحيحية في تشرين الثاني ،1970والذي دام حكمه ملوته في 10حزيران ،2000لينتقل الحكم لولده بشار عبر مهزلة ال مثيل لها حتى في أكثر املشاهد هزالة ،وهو الذي ما يزال يقاتل من أجل كرسيه ،رغم الكوارث التي ً لحقت بسورية ،والتي حولها فعليا ملزرعة للغزاة مقابل بقاءه عدا عن مليون قتيل وتهجير ثلث السكان خارج بيوتهم وبلدهم.
العدد املتزايد للتوانسة بين أعضاء التنظيمات الجهادية اإلسالمية ،والذي خلفه وبعد موته ،زين العابدين بن علي ()1986 الذي هرب بعد الثورة الناجحة الوحيدة ً نسبيا أواخر عام .2010 ليبيا ،التي حولها العقيد معمر القذافي في أيلول 1969إلى جمهورية بأوصاف متعددة، والذي انتهى بمقتله في عام ،2013أثناء الثورة الليبية. ً ً ً اليمن ،الذي كان شماليا وجنوبيا ،شماليا ً متحالفا مع األنظمة امللكية في الخليج ً ً وجنوبيا يرفع راية املاركسية ومتحالفا مع شبيهاته من األنظمة الجمهورية العربية ومع ً االتحاد السوفياتي سابقا ،ثم توحدا فيما بعد تحت اسم الجمهورية اليمنية ،بزعامة الرئيس الشمالي ،علي عبد هللا صالح الذي قتل مؤخرا في الرابع من كانون األول ،2017 بعد أربع سنوات من مقتل القذافي.
العراق ،والذي انتقل للنظام الجمهوري عبر انقالب البعث في شباط ،1963لم يعرف سوى رئيسين :أحمد حسن البكر ومن بعده صدام حسين الذي أعدمته القوى الشيعية التي استلمت الحكم عقب الغزو األميركي للعراق عام .2003 الجزائر ،التي استقلت جمهورية بذات أوصاف جارتها ليبيا عام ،1962لم تشهد سوى ثالثة رؤساء ،ورابع عابر ،فمن أحمد بن بلال ( )1965-1963الذي سجنه رفيق دربه في الثورة الهواري بومدين (-1965 ،)1978الذي مات عام ،1978ليخلفه الشاذلي بن جديد ( ،)1992-1979ومن بعده يأتي محمد بوضياف( )1992 -1992وهو الرئيس العابر ،الذي مات اغتياال ،حيث لم
سورية ،التي كانت جمهورية باألساس عقب االستقالل، اشتهرت والتي بانقالباتها العديدة قبل تسلم البعث عام ،1963حيث لم تشهد منذ ذلك
33
يكمل العام في حكمه ،ليتبدل أكثر من رئيس خالل فترة االضطرابات التي سادت في الجزائر والذي شهدت البالد أثناء حكمة مذابح كبرى بعد انتصار جبهة اإلنقاذ اإلسالمية في االنتخابات البلدية والبرملانية عام ،1991 والهزيمة الساحقة لجبهة التحرير الوطني الجزائرية ،ليأتي من بعده الرئيس بوتفليقة ً ( ) -1999الذي ال يزال متشبثا بالكرس ي رغم عجزه الصحي.
مرشح ،وإنما كانت عملية استفتاء على مرشح حزبي أو عسكري .كما ال تعرف األدبيات السياسية والوقائع عبارة الرئيس السابق، وإنما املعتقل أو املقتول أو املتوفي ،وامليزة األكثر أهمية خنق الحياة السياسية والحريات العامة ،وتشكيل جبهات وطنية تقدمية أو ديمقراطية من خالل األحزاب ً الكاريكاتيرية القائمة وغالبا اليسارية والقومية.
ما هو مشترك بين أنظمة الحكم الجمهوري العربية االعتماد الكامل على الجيش واملخابرات في تدعيم الحكم ،وإنشاء أجهزة صورية للتمثيل السياس ي ،وغياب أي انتخابات رئاسية يتنافس فيها أكثر من
امليزة الجديدة لدى هذه األنظمة النزعة القوية للتوريث في رئاستها ،لدرجة صارت معروفة باسم الجمهوريات امللكية (الجملكية) ،وهو مصطلح حصري لجمهورياتنا العربية وأنظمتها الشمولية.
34
املتظاهرين ،حيث دخلت البالد بعد فترة بانتخابات يفوز فيها أول رئيس عربي ً بانتخابات ديمقراطية وبنسبة لم يعهدها أبدا الحكام العرب ،لكن املؤسسات العميقة الداعمة للحكم االستبدادي واملتمثلة في الجيش واملخابرات ومافيات الفساد املالي ،لم تترك أي فرصة تمر من دون أن توظفها بما في ذلك التذمر الشعبي إزاء ممارسات الرئيس مرس ي وجماعته املتلهفة للسلطة واالستحواذ على أجهزة الدولة ،وباالستفادة من تشابكاتها العربية والدولية ،تمكنت من اإلطاحة بالرئيس املنتخب ،وتسلم املجلس العسكري لينتهي األمر برئاسة مصر إلى أكثر ً الشخصيات ضعفا ،مما أفقد أي دور ملصر على املستوى العربي ،وألحقها بسياسات هزيلة للغير.
الربيع العربي والنظم الجمهورية. ليس صدفة أن تكون الثورات العربية كلها في البالد ذات النظم الجمهورية ،هذه الثورات ً التي انطلقت في أضعف تلك النظم أوال، بمعنى أقلها استبدادية ،وهي تونس ،وكانت ً أكثر التجارب نجاحا رغم كل التعثرات التي تواجهها من حاالت الصراع بين التيارات السياسية وخاصة العلمانية واإلسالمية، واألهم منها التحديات االقتصادية. ً تلتها في الدولة األكثر استقرارا وهي مصر ،التي تنحى رئيسها عن الحكم بعد عشرين يوم من التظاهرات في ميدان التحرير ،ومقتل مئات
الحالة متشابهة في البلدان األخرى الثالثة: ليبيا واليمن وسورية ،وإن في سورية األكثر بشاعة ،فتشاركها في شكل الحكم، واملؤسسات األمنية ،والنهب الكبير ملقدرات البالد ،وتشكيلها لشبكة من رأسمالية املحسوبيات ،واملنظمات الشعبية املنقولة عن تجربة النظم الديكتاتورية األخرى (كوريا الشمالية ،ودول االتحاد السوفياتي السابق) ،جعل من هذه األنظمة عصية ً ً تماما على التغيير إال بكلف عالية جدا على ً عموم البالد ،وصوال لحد التدمير الفعلي.
35
مصير سابقيه ،ولربما على يد داعميه الحاليين.
هذه األنظمة التي رهنت مصير البالد بمصير الديكتاتور ،فكانت النتيجة تدمير البالد وذهاب الدكتاتور بأبشع أشكال القتل (القذافي وصالح) ،حيث لم يبق إال دكتاتور ً سورية ،الذي رهن البالد كاملة للنفوذ اإليراني والروس ي ،وجعلها نقطة جذب ملختلف الفصائل التكفيرية من خالل القمع املتوحش واستخدام كافة أشكال التدمير للبشر والحجر ،وإخفاء مصير مئات األلوف من البشر في املعتقالت ،وتهجير املاليين ً ً ً داخليا وخارجيا ،لن يكون مصيره مختلفا عن
لقد قامت هذه الجمهوريات على عوامل متناقضة في تركيبتها ،فجمهوريتها تعني األبدية ،وديمقراطيتها تعني االستبداد، وحقوق املواطنين تعني ما عليهم تجاه نظامهم من طاعة ،وشعبيتها تعني تربية أزالم لها ،مما ً حول البالد إلى مزرعة يعيثون فيها نهبا ً وفسادا ،فمن الطبيعي أن تكون نهايتها كما نشهده.
أمحد عيشة مرتجم وصحفي سوري ،يقيم يف تركيا.
36
وسائل التواصل نوار اجلابري إن وسائل التواصل وهي جزء مهم من اإلعالم البديل، كان لها الفضل في نشوء وتصاعد الحراك ،لكن بذات الوقت عدم توقفها في لحظة كانت مهمة وتاريخية ساهمت بهدم كلما بنته فعلياً في مراحلها األولى. وحتى اآلن ما زالت وسائل التواصل تعمل كنجومية
وهمية بعد أن فقدت قدرتها على خلق أي تأثير حقيقي.
عرف اإلعالم البديل ،بأنه اإلعالم الذي ُي ّ ُي ّ قدم معلومات بديلة عن معلومات اإلعالم السائد ضمن ً شكل سياس ي أو اقتصادي معين ،مدعوما من الجمهور أو من الحكومات .وبالنسبة لنا هنا ،فإننا نتحدث عن اإلعالم البديل بشكله السياس ي ،من خالل التجربة الثورية السورية وتحويلها إلى حرب.
37
ُي ّ حدد هدف اإلعالم البديل على أنه يقوم ضد السلطات القائمة ُلي ّ قدم حقائق حيادية في ً مصالح مشتركة للفئات األكثر تهميشا بالنسبة للحكومات ،وبالتالي اكتساب جمهور عريض يدعم بعالقة ثنائية وتبادلية بين هذا ً اإلعالم وبين شرائح املجتمع .لكن هل فعليا أصبح اإلعالم البديل الذي ظهر مع نشوء ً الحراك الثوري السوري ،إعالما ُي ّعبر عن طموحات الفئات الواسعة من الشعب ببناء اجتماعي وفكري وثقافي وسياس ي يحترم الجميع!.
الخجولة لتأسيس إعالم بديل حقيقي عن إعالم النظام السوري .إعالم ُي ّ قدم سوريا ّ ومدنية وتاريخها وحياتها كصورة تقدمية ً تبتعد كليا عن طرح إعالم النظام الذي كان ً يعمل جاهدا لتقديم ذاته كنظام خالد لألبد، ونظام يحاول إيهام الناس أنه نظام ديمقراطي غير طائفي .مع اإلدراك الكامل للناس أن طائفية النظام بأبسط أشكاله كانت واضحة في إعالمه اليومي. وكي نذكر بدايات اإلعالم البديل ،كانت بالضبط مع قناة األورينت ،التي قدمت نفسها في البداية كصورة إعالمية سورية مستقلة ،إن كان على مستوى طرحها
بالطبع مع نشوء الحراك السوري ،بدأت تظهر على السطح جميع املحاوالت البدائية
38
لن يؤسس ألي منطق عقلي وسوري مدني ً مستقبال .ما يهمنا هو تناول جانب واحد في مسألة اإلعالم البديل ،وهي وسائل التواصل االجتماعي باعتبارها الجزء األهم من اإلعالم، من حيث قدرتها على تناقل املعلومة اليومية والسياسية وتحولها من آلة ثوران إلى آلة أسطرة وتشبيح على العقل.
السياس ي أم الثقافي .وبعد األورينت ظهرت الكثير من القنوات اإلعالمية األخرى، كسوريا الغد وحلب اليوم والكثير غيرها التي اهتمت بجانبها األكبر في نقل وقائع الصراع العسكري على األرض وتجييش هذا الصراع ً تدريجيا من منحى ثورة شعب سوري ضد نظام ديكتاتوري ،إلى صراع عسكري بين ميلشيات مسلحة ومليشيات نظام ،إلى مجاهدي املعارضة وعمالء النظام.
لقد كانت لوسائل التواصل أهمية بالغة في الدعوة لالنتفاض الشعبي ضد النظام السوري ،وهي (الفيس بوك واملدونات الشخصية) .وما يجعل وسائل التواصل من األهمية أكثر من اآللية اإلعالمية كالتلفزيون والراديو والصحف املكتوبة ،هو سرعة تناقل املعلومة وبساطتها وتعبيرها الشعبي عما ً يرغب أي إنسان قوله مهما كان معقدا أو ً بسيطا ،وهذا ما ساهم باالنتشار السريع للغضب الشعبي والدعوات للمظاهرات.
بالطبع كان هذا التجييش ليس لرغبة اإلعالم البديل أن يكون كذلك ،لكن الفعل الذي ً قاده النظام عسكريا على األرض من قتل وتدمير ،وآلة إعالمه التافهة والضاحكة والسخيفة في التعامل مع الواقع السوري باستهزاء في كثير من املواضيع ،دفع اإلعالم البديل كي يتخندق في تلك الجهة الطائفية التي أرادها النظام منذ البداية .ومع ّأن ما ً وصل إليه اإلعالم البديل نسبيا من تطرف خطابي بسبب سلوكية النظام السوري ،إال أننا ال نستطيع تبرئة الغباء الذي وصم به اإلعالم البديل ،وفقده إلمكانية الثبات على املوقف السوري املدني الذي هو هدف وفكرة اإلعالم البديل.
لقد كان عمل الفيس بوك في بداياته بمثابة مارد حكائي يجول في سماء سوريا .وبالرغم أن تلك املرحلة لم تكن تحوي نسب كبيرة من دعوات واضحة ومباشرة ضد النظام (إال ما ندر) إال ّأن التدوين على الفيس من خالل االمتعاض حول طبيعة الحياة والعمل بشكل اعتيادي من قبل الناس دون االقتراب الفعلي من هيكلية النظام السياس ي ،ساهم بفتح حلقة صغيرة في الجدار األمني الحديدي
لكن ما يهمنا هنا ليس نقد هذه التاريخية، ألنها بطبيعة الحال أمر جرى وانتهى ،مع التركيز أن استمرار هذا اإلعالم بشكله الحالي
39
اإلعالم ،وتحولت إلى واجهة إعالمية تأثيرية أكبر من أي حالة إعالمية أخرى.
للنظام السوري ،فجاء ذلك االمتعاض (الذي ً ال يوجد فعليا قانون يحاسب عليه) كجزء من طبيعة الحياة ،وهو ما كان الحالة األكثر ً رعبا لذلك النظام األمنيّ ، ألن ألية التعامل مع االمتعاض الشعبي الطبيعي هي من الصعوبة ً أن يحدد النظام أعدائه فعليا .وضمن صيرورة االنتشار السريع للمعلومة ً ً الفيسبوكية ،اتخذت ُبعدا سياسيا بدأ ً يتشكل في األفق تدريجيا.
على هذا املنوال أصبح الفيس بطريقة ما ُ املعبر األول عن سياسة الشعب املعارض ضد النظام ،بآليات تحليله الفردية وتقديم السياسة كحالة هوليودية ،وأصبح القاص ي والداني قادر ليس على الجدل والتحليل املنطقي والعمل على تكوين جماعات تؤدي مهمة سياسية أو ثقافية ،بل آلية تصارع على النجومية السياسية.
مع اشتعال املظاهرات أصبح الفيس ّ واملدونات اآللية الثقافية للرفض والتهكم والسخرية والنضال الترويجي لتغيير البنية. ربما لم تكن الصورة واضحة في وسائل التواصل كحالة إعالم بديل سياس ي ،لكنها كانت آلية استبصار وتحليل ساهمت بآراء في ً تشكيل بنية إعالمية بديلة تدريجيا ،ومع ّ تحول الصراع إلى حالة أرض عسكرية ونشوء آلة إعالمية تلفزيونية وراديوهات وصحافة، لم تتوقف مهمة وسائل التواصل ،الذي كانت يجب أن تتوقف مهمتها عند ذلك الحد، ً ُ وتفسح املجال فعليا لتشكيل بنية إعالمية حقيقية ،لكن طبيعة وسائل التواصل الجوهرية في السرعة والبساطة لم يكن من السهل إيقافها ،فاستمرت بالتدخل في شكل
ضمن هذا الشكل تحولت وسائل التواصل وباألخص الفيس من حالة تساهم في البناء إلى حالة تجييش للهدم ،وأصبح صورة للتعبير عن طريقة إلمالء النزوع الفردي الراديكالي ّ للبشر ،وسقوطها في مجاهل التخلف اإلعالمي املُ ّ تعصب. إن وسائل التواصل وهي جزء مهم من اإلعالم البديل ،كان لها الفضل في نشوء وتصاعد الحراك ،لكن بذات الوقت عدم توقفها في لحظة كانت مهمة وتاريخية ساهمت بهدم ً كلما بنته فعليا في مراحلها األولى. وحتى اآلن ما زالت وسائل التواصل تعمل كنجومية وهمية بعد أن فقدت قدرتها على خلق أي تأثير حقيقي. نوار اجلابري ناشط إعالمي سوري ،مقيم يف حلب
40
ملف العدد في النسوية وقضايا المرأة 41
42
قاسم أمني علياء الويسي
ويبرر أمين أسباب فقدها لحريتها ويضع اللوم على الرجال الذين وجدوا في جهل النساء تفوقاً وسلطة ال متناهية ،وإن لم تكن المشكلة األساسية في الرجل بالذات بقدر ما هي نظام المؤسسة االقتصادية
البطريركية. ً ً ينطلق قاسم أمين في كتابه ملعالجة مسألة املرأة عموما واملصرية خصوصا ،من بديهية نقدية وتاريخية ،هي سيطرة االجتماعي "األعراف" على املدني ،ويحاول مخاطبة الناس من هذه الزاوية بإطارها الديني التراثي. في أربعة بحوث رئيسية ،ومحورها هو املرأة "تربية املرأة ،حجاب النساء ،املرأة ّ واألمة ،العائلة"، عالج أمين بذكاء الباحث واملصلح ،قبل قرن من اآلن ،األسباب التي دعت لحصر املرأة بأدوار معينة، وتفنيده لألخطاء االجتماعية والثقافية السائدة في ذلك العصر.
43
ّ يوقعن على النصابين الذين يجعلون النساء ّ حقوقهن دون قدرتها على أوراق تنازل عن فهم ما تفعل.
فتحدث عن أسباب تفوق الرجل على املرأة ُويعيد ذلك ملسألة اشتغال الرجال بينما تم ّ إقصاء املرأة من العمل ،ما عدا املنزليُ ،ويركز ّ تعلم النساء كي يكون ّ لهن دور على ضرورة أكبر من مسألة خدمة الذكر ،هو دور التنشئة واملعرفة واملساهمة بالتطورّ ، ويفسر ذلك ،بأنه إن كان للمرأة نسبة تشكيل أي مجتمع بنصفه ،فمن املؤذي بقاء النصف دون إنتاج ،وهي لن تكون قادرة على اإلنتاج إن لم تدرك أبسط العلوم .وحتى في املستوى االجتماعي ،أنه إن كان للمرأة ضرورة وجود كيان ذكري ُيعيلها ،فما هو الحال الذي ّ ستصير عليه في لحظة موته ،أو إذا تطلقت، أو كان لها أبناء صغار! فيأتي تعليم املرأة كحماية لها .وحتى ليحميها من أشراك
ويبرر أمين أسباب فقدها لحريتها ويضع اللوم على الرجال الذين وجدوا في جهل النساء ً تفوقا وسلطة ال متناهية ،وإن لم تكن املشكلة األساسية في الرجل بالذات بقدر ما هي نظام املؤسسة االقتصادية البطريركية. وال يميز أمين بين الغنى والفقر ،فاملرأة متساوية بجهلها وال تختلف إال من ناحية امللبس ،وهذا الدور الذي يحصرها كي تكون أداة متعة للرجلُ .ويعيب على الطبقات الغنية والوسطى من الرجال ،أن تطورهم ودراساتهم وتعلمهم كان لهم وحدهم ولم
44
يمارسه الناس من حجاب ليس سوى تناقل األمم األخرى له إلينا ،فهو موجود لدى املسيحيين واليونان ،والخمار كان يستخدم في القرون الوسطى ،وعليه يكون الحجاب ً املوجود في البالد ليس خاصا بمجتمعاتنا وال استحدثه املسلمون .ويتحدث عن األعراف التي جعلت من املرأة بأكملها عورة وفي النص الديني ليست كذلك ،وإنما عبارة عن اجتهادات فقهية في أزمان سياسية خضعت ً لها بالد اإلسالم ،وهي باطلة شرعا .والدليل األكبر بما يورده، أن املرأة ال تقبل لها شهادة وال يتحقق زواجها إن لم ُيرى الوجه والكفين .فاملرأة أموالها تدير وتجارتها بنفسها ،وما خديجة بنت خويلد سوى مثالها األبرز.
تتماش ى النساء مع ذلك التطور ،وهذا أحد أهم أسباب الشقاء االجتماعي ،لكنه سيؤثر ً سلبا على مستوى اإلدراك والتفاهم العقلي، ً حتى وإن كانت املرأة صالحة والرجل طيبا. وينطلق بحديث مطول عن اكتشاف الحب وتاريخيته وفطرته التي زرعها هللا في اإلنسان، ً ً وهي بدورها يجب أن تكون سببا كافيا للمساواة ،فكيف يمكن لرجل يستحقر امرأته ويعنفها ويفرح لجهلها ثم في لحظة الحب تصبح مالكه األثير .هذا التناقض النفس ي والعقلي الذي يمتاز به الذكور ،هو دليل على اضطراب اجتماعي وثقافي وحتى ديني .واستخدام الرجل تخويف املرأة حول ً عدم طاعته في الحب ،ال يبقى حبيسا بينهما، بل سينتقل ليكون ً جزء من تربية على األبناء، ً تنقلها األم تدريجيا .ويأتي أمين باستشهاد النبي محمد في حديثه" :خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء" وقصد بها زوجته عائشة، وهي امرأة لم تؤيد بوحي وال معجزة ،وإنما ّ سمعت فوعت ،وعلمت فتعلمت .وهو الدليل الذي يورده أمين أن املرأة كيان قاد على ّ التعلم والتعليم بحسب املنهج الديني الذي يعيش املجتمع تخلفه في كنفه ،ويعيد أعرافه البالية إليه.
وأن مسألة الحجاب اتقاء الفتنة ،فهي تتعلق بقلوب الرجال الخائفين الذين تمت مطالبتهم بغض البصر وليس على املرأة تقديره وال ّ هن مطالبات بمعرفته .وعليه يصبح الحجاب عائق أمام التنوير العقلي ،ألن املرأة يصبح همها األوحد وتفكيرها محاولة حفظ وجهها كي ال تقع في معصية .وينحاز هذا التفكر إلى الغرق في مستنقع ّ يرسخه الرجل كون املرأة
ثم يناقش موضوع الحجاب باعتباره يجب أن ً منطبقا للشريعة اإلسالميةّ ، يكون وأن ما
45
أداة منزلية .لكن في هذا الجانب يعود أمين ُ للقول ،أن نظام الطبيعة اإللهية الذي فرض على املرأة أن تكون مثل جميع اإلناث تحمل وتنجب هو عمل بسيط ومادي وتشترك فيه مع الحيوانات ،فال يحتاج إال إلى بنية سليمة، أما العمل الثاني وهو التربية ،فهو عمل عقلي امتاز به النوع اإلنساني وهو محتاج في تأديته إلى تربة واسعة ،واختبار عظيم ومعارف مختلفة .وهذا هو الدور الذي يجب للمرأة أن تلعبه لتكوين عائلة ،وهي لن تستطيع إليه ً ً سبيال دون تحرير بنيتها العقلية أوال. والعائلة هي جزء من تكوين املجتمع الذي بدوره يشارك في تكوين األمم ،وعليه تصبح مهمة املرأة أعظم من مهمة الرجل التي تحتاج الوعي الالزم والكفاءة العقلية التي ال تفقدها ً أصال ،إنما تحتاج إلى قوانين تحررها لتطلق إمكانياتها في البناء.
وانتشار آفة األعراف التي تحط من شأن املجتمعات وال تسمح برقيها. ً وإن كان الكتاب كالسيكيا في إطاره العام نتيجة كتابته قبل قرن من اآلن ،لكنه ال يخلو من ثورة حقيقة على أنظمة اجتماعية بائدة، حاول فيه تحرير املرأة من الجهل والظلمة التي عاشتها على مدار التاريخ اإلنساني.
حاول قاسم أمين في كتابه تقديم حال املرأة في مصر ،بتناول بعض املواضيع املهمة، وأهمها التركيز على مسألة العلم ،والفهم الخاطئ للمعتقدات على حساب الدين،
علياء الويسي ناشطة نسوية ،تهتم بقضايا املرأة ،تقيم يف سوريا.
46
\1
ً عجبا! لم لم تؤمر الرجال بستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن؟ هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة املرأة واعتبر الرجل أعجزمن املرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه ،واعتبرت املرأة أقوى منه في كل ذلك حتى أبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم ألعين النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال، ومنع النساء من كشف وجوهن ألعين الرجال ً ً ً منعا مطلقا خوفا أن ينفلت زمام هوى النفس من سلطة عقل الرجل فيسقط في الفتنة بأية امرأة تعرضت له مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخلق؟! إن زعم زاعم صحة هذا االعتبار رأينا هذا اعترافا منه بأن املرأة أكمل استعدادا من الرجل ،فلم توضع حينئذ تحت رقه في كل حال؟ فإن لم يكن هذا االعتبار صحيحا فلم هذا التحكم املعروف؟.
/2 الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي ونشركل مذهب وترويج كل فكر .في البالد الحرة قد يجاهر اإلنسان بأن ال وطن له .ويطعن على
47
/5 قد صار من املقرر عندنا أن األمهات ال يفلحن في تربية األوالد حتى صار من املثل في الحطة ورداءة السير أن يقال :فالن تربية امرأة! على أننا نرى أن تربية املرأة في البالد الغربية تفوق تربية الرجال ،وأن أحسن الناس تربية هم من ساعدهم الدهرفي أن تتولى تربيتهم امرأة وليس هذا بغريب فإن املرأة تمتاز على الرجل بغرائز طبيعية هي بها أقوى استعدادا للنجاح في التربية ،ذلك أنها أصبر من الرجل فيما تحب، وأنها ألطف منه في املعاملة ،وأرق منه في العواطف واإلحساسات.
شرائع قومه وآدابهم وعاداتهم ويهزأ باملبادئ التي تقوم عليها حياتهم العائلية واالجتماعية، يقول ويكتب ما شاء هللا في ذلك وال يفكر أحد - ولو كان من ألد خصومه في الرأي ـ أن ينقص شيئا من احترامه لشخصه ،متى كان قوله صادرا عن نية حسنة واعتقاد صحيح .كم من الزمن يمر على مصر قبل أن تبلغ هذه الدرجة من الحرية؟. /3 التكاليف الشرعية تدلنا على أن املرأة وهبت من العقل مثل ما وهب الرجل .أيظن رجل لم يعمه الغرض أن هللا قد وهبها من العقل ما ً وهبها عبثا .وأنه آتاها من الحواس وآالت اإلدراك ما آتاها ألجل أن تهملها وال تستعملها؟.
/6 من احتقار املرأة أن يحال بينها وبين الحياة العامة والعمل فى أي ش يء يتعلق بها :فليس لها رأي في األعمال وال فكر في املشارب وال ذوق في الفنون وال قدم في املنافع العامة وال مقام في االعتقادات الدينية ،وليس لها فضيلة وطنية وال شعور ملي.
/4 جاء في القصص الدينية املسطورة في الكتب السماوية إن هللا خلق حواء من ضلع آدم .وفيه على ما أظن ،رمز لطيف إلى أن الرجل واملرأة ً ً يكونان مجموعا واحدا ال يتم إال باتحادهما، ومن هذا املعنى أخذ الغربيون تسميتهم املرأة بنصف الرجل ،وهو تعبير فصيح يدل داللة واضحة على أن املرأة والرجل هما شقان لجسم واحد ،مفتقر بعضه إلى بعض ليتم له الكمال باإلجماع.
/7 ً ً املرأة ال تكون وال يمكن أن تكون وجودا تاما إال إذا ملكت نفسها وتمتعت بحريتها املمنوحة لها ً بمقتض ى الشرع والفطرة معا ونمت ملكاتها إلى أقص ى درجة يمكنها ان تبلغها.
48
/8 والحق أن االنتقاب والتبرقع ليسا من املشروعات اإلسالمية ،ال للتعبد وال للدب ،بل هما من العادات القديمة السابقة على اإلسالم والباقية بعده .ويدلنا على ذلك أن هذه العادة ليست معروفة في كثير من البالد اإلسالمية ،وأنها لم تزل معروفة عند أغلب األمم الشرقية التي لم تتدين بدين اإلسالم. /9 وملا ساد الجهل على عقولهم، وتراكمت ظلماته في أذهانهم لم يعد في استطاعتهم أن يفهموا حقيقة الدين ،وشعروا أن ضعفهم ال يسمح لهم بأن يصعدوا إليه بعقولهم فأنزلوه من مكانه الرفيع ووضعوه مع جهلهم في مستوى واحد ،ثم أخذوا يتصرفون فيه تصرف الغبي األحمق.
من احتقاراملرأة أن يسجنها في منزل ويفتخربأنها ال تخرج منه إال محمولة على النعش إلى القبر. من احتقار املرأة أن يعلن الرجال أن النساء ً لسن محال للثقة واألمانة.
/10 من احتقار املرأة أن يقعد الرجل على مائدة الطعام وحده ثم تجتمع النساء ،من أم وأخت وزوجة ،ويأكلن ما فضل منه
/11 أليس من العار أن نتصور أن أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا ال يعرفن صيانة أنفسهن.
49
50
دعوا املرأة تعمل… ترمجة وإعداد :هالة احلسن ويمكن تفهم تشكيك العديد من االقتصاديين والمحللين بإمكانية التغيير .لكن ،وإدراكاً للضرورة االقتصادية ،يدفع القادة في جميع أنحاء العالم من أجل اإلصالح .وفي العامين الماضيين وحدهما ،قام 65بلداً بسنّ ما يقرب من 100تغيير قانوني لزيادة الفرص االقتصادية للمرأة.
في حزيران /يونيو املاض ي ،أقرت اململكة العربية السعودية الحقوق القانونية للمرأة ،مما شكل نهاية لواحدة من أبرز األمثلة على التمييز بين الجنسين في العالم .وقد أشيد بعملية إزالة الحظر ً باعتباره انتصارا ،في بلد يحد من حريات املرأة بشكل منهجي .ولكن بالنسبة للمسؤولين السعوديين، فإن انعكاس هذه السياسة يرتبط باالقتصاد أكثر من االهتمام بحقوق املرأة .في السنوات األخيرة، ً ً حتى البلدان املحافظة ثقافيا ،مثل اململكة الخليجية ،بدأت تدرك أنها ال يمكن املض ي قدما إذا تركوا نصف رأس املال البشري وراءهم.
51
وقد دافع املدافعون عن حقوق املرأة منذ زمن طويل عن املساواة بين الجنسين كقضية أخالقية .لكن في االقتصاد العاملي الحديث ،يعتبر القضاء على العقبات أمام املشاركة االقتصادية للمرأة ضرورة استراتيجية .وتؤكد مجموعة متزايدة من األدلة على العالقة اإليجابية بين مشاركة املرأة في القوة العاملة والنمو الشامل .وفي عام ،2013خلصت منظمة التعاون والتنمية في امليدان االقتصادي إلى أن وجود ً اقتصاد أكثر توازنا بين الجنسين يمكن أن يعزز الناتج املحلي اإلجمالي بنسبة تقدر بنحو %12في بلدان منظمة التعاون والتنمية في امليدان االقتصادي .وقد أصدر صندوق النقد الدولي تنبؤات مماثلة للبلدان غير األعضاء في منظمة التعاون والتنمية في ً امليدان االقتصادي ،مشيرا إلى أن زيادة مشاركة املرأة في االقتصاد ستحقق مكاسب الناتج املحلي اإلجمالي بنحو %12في اإلمارات ً العربية املتحدة و %34في مصر .ووفقا ملا جاء في تقرير أعده معهد ماكينزي العاملي لعام ،2015فإن سد الفجوات بين الجنسين في مكان العمل يمكن أن يضيف ما يقدر بنحو 12تريليون دوالر إلى الناتج املحلي اإلجمالي العاملي بحلول عام .2025
قائمة في كل منطقة من مناطق العالم ،سواء في االقتصادات املتقدمة النمو أو في البلدان ً النامية .ووفقا للبنك الدولي ،تواجه املرأة ً قيودا على الوظائف القائمة على نوع الجنس ً في 155بلدا ،بما في ذلك القيود املفروضة
ومع ذلك ،ال تزال الحواجز القانونية التي تحول دون حق املرأة في االنتخاب االقتصادي
52
ً يجلب أيضا السالم واالستقرار واالزدهار الذي تشتد الحاجة إليه في العديد من املناطق” .بيد أن التقدم سيتطلب أكثر من مجرد الخطاب النبيل .ولتحقيق خطوات حقيقية في إضعاف اإلمكانيات االقتصادية للمرأة ،سيتعين على الواليات املتحدة أن تستخدم ميزانيتها الدولية وميزانياتها الخارجية لدفع اإلصالح القانوني ،ليس فقط ً في الداخل ،بل أيضا في البلدان في جميع أنحاء العالم التي ال تستطيع فيها املرأة املشاركة الكاملة في االقتصاد.
على مسألة امتالك العقارات ،ومتطلبات املوافقة الزوجية على العمل ،والقوانين التي تمنعها من توقيع العقود أو الحصول على االئتمان .في العديد من الدول ،ال تزال املرأة محظورة على الوظائف التقليدية للذكور أو ً تواجه حدودا لعدد ساعات العمل .وفي روسيا ،ال يمكن للمرأة أن تبحث عن عمل في 456مهنة من النجارة إلى قيادة مترو األنفاق. وتحظر األرجنتين على النساء دخول مهن “خطيرة” ،مثل التعدين ،وتصنيع املواد القابلة لالشتعال ،وتقطير الكحول .ويمنع القانون الفرنس ي النساء من شغل وظائف ً ً تتطلب حمل 25كيلوغراما (حوالي 55رطال). وفي باكستان ،ال تستطيع املرأة تنظيف اآلالت أو تعديلها.
زخم لإلصالح الحالة االقتصادية إلزالة القيود املفروضة على املشاركة االقتصادية للمرأة واضحة. ففي اململكة العربية السعودية ،على سبيل املثال ،تكسب املرأة أكثر من نصف جميع شهادات الكليات والدراسات العليا ولكنها ال تشكل سوى %20من القوى العاملة .وهذا يعني أن اإلمكانيات االقتصادية لحوالي ثلث السكان ال تزال غير مستغلة. ً ً تواجه املرأة قيودا على الوظائف في 155بلدا، وحتى في البلدان التي يقل فيها التفاوت بين ً الجنسين كثيرا عن اململكة العربية السعودية ،سعى القادة إلى تحفيز النمو االقتصادي من خالل تيسير مشاركة املرأة. ففي التسعينيات ،ألغى املشرعون الكنديون
ويمكن تفهم تشكيك العديد من االقتصاديين واملحللين بإمكانية التغيير. ً لكن ،وإدراكا للضرورة االقتصادية ،يدفع القادة في جميع أنحاء العالم من أجل اإلصالح .وفي العامين املاضيين وحدهما ،قام ً بلدا ّ بسن ما يقرب من 100تغيير قانوني 65 لزيادة الفرص االقتصادية للمرأة. قالت إيفانكا ترامب ،مستشارة والدها، الرئيس األمريكي دونالد ترامب ،في ورشة عمل نسائية“ :إن إطالق العنان الكامل لقوة املرأة في اقتصادنا سيخلق قيمة هائلة ،ولكنه
53
عجلة التنمية االقتصادية من خالل زيادة مبادرات البنية التحتية ،مثل جلب الكهرباء إلى املناطق الريفية. وتقلل هذه املشاريع من عبء العمل غير مدفوع األجر عن طريق جعل العمل ً املنزلي أقل استهالكا للوقت ،مما يفسح املجال أمام العمل مدفوع األجر خارج املنزل .وتشهد البلدان التي اتبعت هذه اإلصالحات بالفعل نتائج إيجابية .في الهند ،بعد أن غيرت دولتان قوانين الوراثة في عام 1994ملنح املرأة نفس الحق في وراثة ممتلكات األسرة كالرجل، أصبحت النساء أكثر عرضة لفتح حسابات مصرفية ،وبدأت أسرهن في التمتع بقدر أكبر من االستقرار املالي، ً وفقا لدراسة أجراها البنك الدولي في عام .2010
ما يسمى بعقوبة الزواج ،وهي نتاج قانون ضريبي أدى إلى انخفاض دخل أصحاب الدخل الثانوي عن طريق مطالبة األزواج بدفع معدالت أعلى مقارنة بدافعي الضرائب الفرديين.
وباملثل ،ففي إثيوبيا ،ومنذ أن ألغت الحكومة شرط حصول املرأة على موافقة زوجها من أجل العمل خارج املنزل ،في عام ،2000دخل عدد كبير من النساء قوة العمل وحصلن على عمل بدوام كامل ،من ذوات املهارات العالية ً – وبالتالي أفضل أجرا .وبعد خمس سنوات، كانت النساء في املناطق الثالث التي نفذت فيها السياسة ألول مرة أكثر احتمالية للعمل خارج منازلهن بنسبة ،%28ومن املرجح أن تزيد
وفي اليابان ،وضعت أجندة “املرأة النسوية” التي وضعها رئيس الوزراء شينزو آبي للعامالت في مركز استراتيجية النمو في البلد من خالل زيادة استحقاقات رعاية الطفل وتحفيز اإلصالحات املالئمة لألسرة في مكان العمل. وفي بنغالديش ،يسعى وزراء الحكومة إلى دفع
54
نسبة النساء اللواتي يشغلن وظائف في وظائف أخرى بنسبة %33عن النساء في ً أماكن أخرى من البلد ،وفقا لتحليل للبنك الدولي.
أخرى ،انخفضت معدالت وفيات األمهات بشكل ملحوظ على مدى العقدين املاضيين، وأغلقت الفجوة بين الجنسين في التعليم ً االبتدائي تقريبا خالل نفس الفترة الزمنية، وقد انخفضت مشاركة املرأة في قوة العمل ً فعال من %52إلى %50على الصعيد العاملي ً بين عامي 1990و ،2016ويرجع ذلك جزئيا إلى القدرة على تحمل هذه القيود القانونية ومساعدة املرأة على النجاح.
لكن ،وعلى الرغم من هذه الفوائد الواضحة، ً ال تزال وتيرة التغيير بطيئة جدا .فقد قاتلت النساء السعوديات منذ ثالثة عقود قبل تحقيق إلغاء حظر القيادة .وحتى بعد هذا االنتصار الذي تحقق بشق األنفس، سيستمر نظام الوصاية السعودي شديد التقييد في منع النساء من فتح حساب مصرفي ،أو بدء أعمال تجارية معينة ،أو الحصول على جواز سفر ،أو السفر إلى الخارج دون إذن من قيود نسبية للذكور، يمكن القول بأنها أكثر ،وهو أمر هام في الحد من مشاركتهن االقتصادية الكاملة من الحظر ً املفروض على القيادة .ووفقا للبنك الدولي، فإن %90من اقتصادات العالم ال تزال لديها قانون واحد على األقل يعرقل الفرص االقتصادية للمرأة .وعلى الرغم من التحسينات السريعة في وضع املرأة في مجاالت
في عام ،2009عينت إدارة أوباما أول سفير أمريكي لقضايا املرأة العاملية لقيادة الجهود األميركية على هذه الجبهة .وفي عام ،2011 استضافت الواليات املتحدة االجتماع الوزاري األول ملنتدى التعاون االقتصادي آلسيا واملحيط الهادئ بشأن املرأة في االقتصاد ،الذي أدى إلى التزامات تاريخية بتعزيز إدماج املرأة في مكان العمل ،بما في ذلك من خالل اإلصالح القانوني .وفي عام ،2014عملت الواليات املتحدة مع قادة مجموعة العشرين لوضع هدف طموح لزيادة مشاركة املرأة في القوى العاملة بنسبة 25في املائة خالل العقد املقبل ،وهو هدف من شأنه أن يضيف ما يقدر بنحو 100مليون امرأة إلى قوة العمل العاملية.
وال تؤدي هذه اإلصالحات إلى زيادة دخل املرأة ً فحسب ،وإنما تؤدي أيضا إلى إحداث أثر ً مضاعف ،حيث أن النساء أكثر احتماال الستثمار إيراداتهن في صحة أطفالهن وتغذيتهم وتعليمهم.
وينبغي إلدارة ترامب أن تدعم هذه املبادرات وأن تضع سياسات جديدة من شأنها أن
55
ً تحفز املرأة اقتصاديا في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن اإلدارة تعرضت النتقادات مبررة لتقويض حقوق املرأة في مجاالت الصحة والتعليم وغيرها من املجاالت ،فإنها تعترف بأهمية املشاركة االقتصادية للمرأة. وفي تموز /يوليه ،وضعت واشنطن موارد دبلوماسية ومالية لتطوير مبادرة تمويل املشاريع الخاصة باملرأة ،وهي شراكة مع البنك الدولي والبلدان األخرى التي ستستفيد من تمويل قدره بليون دوالر لتحسين فرص حصول املرأة على رأس املال.
تنظيم املشاريع النسائية ،على اإلدارة الحالية ً اعتماد نهج أكثر شموال .ولن يتم الوصول إلى رأس املال إال إذا تم إلغاء الحظر القانوني لدخول املرأة في عالقات تجارية أو شغل مناصب متاحة للرجال. وينبغي أن تبدأ الواليات املتحدة بربط املساعدة اإلنمائية بالتقدم املحرز للمشاركة االقتصادية للمرأة ،وهي استراتيجية من ً شأنها أيضا أن تحافظ على التزام اإلدارة بكفاءة اإلنفاق العام .بعض املنظمات تفعل ذلك بالفعل .فعلى سبيل املثال ،تقوم مؤسسة تحدي األلفية ،وهي وكالة معونة تمولها الحكومة األمريكية ،بتقييم الوضع القانوني للمرأة في بلد معين عند اتخاذ قرارات
في نهاية املطاف ،مشاركة املرأة االقتصادية يحسن املجتمعات ويدفع بمعدالت النمو. ولتوليد عائدات حقيقية يمكن استثمارها في
56
طريق تحقيق التكافؤ بين الجنسين في االقتصاد العاملي.
بشأن ما إذا كان ينبغي تقديم املساعدة وتقييم العوامل بما في ذلك قدرة املرأة على توقيع عقد أو تسجيل نشاط تجاري ،واختيار مكان السكن ،والسفر بحرية ،والعمل كرئيس لألسرة ،والحصول على عمل دون إذن.
وعلى كل حال ،يجب تنفيذ اإلصالحات في السياق الثقافي الذي أدى إلى انتشار التمييز في املقام األول .ولن يعزز تعزيز املساواة على ً الورق بالضرورة حالة املرأة عمليا .والتقدم الحقيقي يتطلب اإلنفاذ ،الذي يعرض تحدياته الخاصة .ومع ذلك ،فإن إزالة الحواجز القانونية التي تحول دون املشاركة االقتصادية للمرأة أساسية .وبدون هذه اإلصالحات ،ال يمكن للمرأة أن تقيم حقها في املنافسة في السوق .وتبين البحوث أن اإلصالحات القانونية يمكن أن تعجل ً بالتغيرات املجتمعية األوسع نطاقا ،ال سيما عندما تقترن بمبادرات التعليم املجتمعي.
ويضطلع صندوق النقد الدولي بالفعل ببرنامج تجريبي يتضمن تقييمات للمساواة القانونية في عملية استعراض األوضاع في 20 ً ً بلدا تتلقى قروضا من صندوق النقد الدولي. وينبغي أن يوسع نطاق هذه السياسة لتشمل جميع البلدان املتلقية ،وأن يصبح هذا النهج ممارسة موحدة في املؤسسات املالية متعددة ً ً األطراف األخرى أيضا ،بدءا من املصارف اإلنمائية اإلقليمية ودون اإلقليمية. ً وأخيرا ،ينبغي لواشنطن أن توجه االنتباه إلى الحواجز القانونية املستمرة التي ال تزال تعرقل املرأة االقتصادية والفرص والنمو ً االقتصادي األوسع نطاقا .ويمكن أن تبدأ وزارة الخزانة األمريكية والدوائر الحكومية باإلفراج عن ترتيب سنوي للبلدان ،على غرار تقرير وزارة الخارجية األمريكية بشأن االتجار باألشخاص .وستؤدي هذه العملية إلى زيادة الوعي وخلق املنافسة وتحفيز اإلصالحات على الصعيد القطري .ومن املؤكد أن اإلصالحات القانونية ليست سوى خطوة واحدة على
ففي السنغال ،على سبيل املثال ،أدى الحظر املفروض على تشويه األعضاء التناسلية لإلناث ،مقترنا بحملة إعالمية ،إلى انخفاض معدل املمارسة بسرعة أكبر مما كان عليه الحال في البلدان املماثلة التي ظلت فيها قانونية .ومن خالل تشجيع اإلصالحات القانونية ودعم الجهود الشعبية لتغيير املعايير ،يمكن للواليات املتحدة أن تحسن بشكل ملموس املشاركة االقتصادية للمرأة. ً ولدى املض ي قدما في هذا البرنامج ،يجب على واشنطن أال تستجيب للناجعين الذين
57
ّيدعون أن تعزيز املساواة بين الجنسين يشكل إمبريالية ثقافية .وتتجاهل هذه التأكيدات انتشار الجماعات املحلية التي تقاتل من أجل إدماج املرأة في جميع أنحاء العالم ،بما في ذلك في اململكة العربية السعودية ،حيث تقوم النساء بحمالت من أجل الحق في القيادة منذ
أن قامت 40امرأة شجاعة ألول مرة بمظاهرة في أوائل التسعينيات .ويتجاهل هؤالء النقاد ً أيضا الحالة االقتصادية املقنعة إلدماج املرأة ،التي تغلف بالفعل التغيير في جميع أنحاء العالم.
املصدر: https://www.foreignaffairs.com/articles/2017-12-12/let-women-work?cid=nlc-fa_twofa20171214 خاص “شبكة املرأة السورية”
58
احلركة النسوية هدى عباس
تشكّل الحراك النسوي في العالم بعد إعالن الوثيقة الفرنسية حول مشاركة المرأة في صناعة القرار السياسي ،فبعد عام من إعالن الوثيقة ،أصدرت ماري كرافت ،كتابها "حقوق النساء" وفيه عاينت مشاكل المرأة حول الطغيان المنزلي ،وإنكار الحقوق السياسية.
أرس ى عصر التنوير األوروبي القواعد اإلنسانية الحديثة بحقوق البشر في الحرية واملساواة، ً ُمنتهجا ،ضمن أسسه ،القطيعة مع التاريخ القديم بكل مؤسساته وأشكاله ،منذ اللحظة التي أطلق فيها فولتير عبارته التي ما زال يتردد صداها حتى اليوم" :قد اختلف معك في الرأي ،لكني مستعد ً ألدفع حياتي ثمنا لحقك في قول رأيك" .ليتبعها بعد ذلك جان جاك روسو في كتابه "العقد االجتماعي" ويحدد التفسير الواقعي لعبودية اإلنسان وطرق خالصه.
59
منذ ذلك الوقت أضحى العالم أمام تغيير جديد وجذري وسيساهم بخلق بذور التوعية الشاملة في كافة مناحي الحياة، فمع اقتراب نهاية القرن الثامن عشر، أوروبا اجتاحت الثورات الشعبية التي ستعيد صياغة املفاهيم القديمة حول اإلنسان وأهدافه وطريقة حياته .ومن أهم تلك الصيغ ،الوثيقة التي ّ نصت على إعطاء املرأة حقوقها ومواطنتها عام .1791ومنذ ذلك التاريخ وضعت املرأة خطوتها األولى في الطريق املشترك الذي سيصنع الحياة واملستقبل، ً ً فأضحت املرأة عنصرا فاعال في الحياة البشرية ،وانطلقت من كونها أداة تنفيذية للمنهج الذكوري إلى كيان مشارك بكل التفاصيل .لم تكن الحقوق في ذلك الزمن على املستوى املطلوب ملعنى التحرر الذي يتمتع به املجتمع الذكوري ،لكن مع ذلك كان بادرة أولى في طريق سيؤدي إلى نضال تحرري. ّ تشكل الحراك النسوي في العالم بعد إعالن الوثيقة الفرنسية حول مشاركة املرأة في صناعة القرار السياس ي ،فبعد عام من إعالن
الوثيقة ،أصدرت ماري كرافت ،كتابها "حقوق النساء" وفيه عاينت مشاكل املرأة حول الطغيان املنزلي ،وإنكار الحقوق السياسية ،وفرص التعليم والعمل ،ونقدت مؤسسة الزواج باعتبارها دعارة قانونية .كان الكتاب بمثابة محرك لتوعية املرأة بخطورة واقعها ،ومن خالله اتسعت رقعة الحراك النسوي في العالم ،داخل فرنسا وبريطانيا وامتد إلى أمريكا ،خالل النصف األول من القرن التاسع عشر .لكن تلك الفترة كانت أضعف من تحقق ش يء واقعي ،العتمادها في الدرجة األولى على الطروحات العامة التي انتهجتها الثورات األوروبية في التحرر دون التوقف والتركيز على تفاصيل املعاناة وإيجاد أهداف واضحة للمرأة ،والسبب الثاني هو قيادة الطبقة البرجوازية من النساء لذلك
60
ـ والتيار الثالث كان ذو الطبيعة االشتراكية املتمثل في ليلي براون وكالرا زيتكن وألكسندرا كولنتاي ،الذي اعتمد املنهج املاركس ي في معالجة قضية املرأة باعتبارها جزء من نظم العالقات االقتصادية وأن تحررها يقوم على إنهاء االستغالل االقتصادي وليس محاربة الذكر أو دعوات للتحرر املطلق من املجتمع.
الحراك الذي اكتفى باملسائل العامة .لكن مع بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ً ً ّ يتشعب اتخذ الحراك طابعا ُمختلفا ،وبدأ بين عدة تيارات ،رغم نيلها حق التصويت السياس ي في بريطانيا وأمريكا وكندا وأملانيا والسويد ،وانتشار الحركات النسوية في كل ً أصقاع األرض وصوال إلى الهند واندونيسيا واليابان. اتخذ الحراك النسوي عدة تيارات ،سيطرت من خاللها على األفكار العامة حول موضوع املرأة: ّ ـ التيار األول كان هو الليبرالي الذي تمثل في هيلينا النغ وجرترود باومير ،حيث أتت طروحاته من خالل التحرر املطلق من السلطة االجتماعية واالقتصادية في الدرجة األولى املحكومة بالنظام البطريركي.
التيارات تلك الرئيسية الثالث التي سادت في املوجة األولى من تاريخ الحراك النسوي. وفيه حددت املرأة وبدأت تعي طبيعة العالم تشكيل ً ً اقتصاديا وسياسيا وعليه أصبحت املعطيات ً ً أكثر وضوحا واألهداف أكثر تحديدا.
ـ والثاني كان ذو الطبيعة الراديكالية املتمثل في جوستافا هيمان وأنيتا أوغسبورغ وجوزفين بتلر ،والذي اتخذ ً ً موقفا جذريا من أن االقتصاديات الجنسية هي سبب خضوع املرأة ،وتم طرح قانون الزواج الحر بشكل كامل ً ً غير منقوص ،حيث كان فعاال جزئيا، على حساب الزواج األبوي الساري، وانتشار دعوات مقاطعة الزواج.
ففي خطاب زيتكن التي ألقته في مؤتمر غوته للحزب االشتراكي الديمقراطي عام ،1896 حددت الصورة األولى ملهمة املرأة: ـ ال يوجد ش يء يمكن وصفه “بالحركة النسائية” قائم بذاته .توجد الحركة النسائية فقط في سياق التطور التاريخي ،ومن ثم هناك حركة نسائية
61
برجوازية وأخرى عمالية ،وليس بين هاتين ارتباط أكثر مما هنالك بين االشتراكية الديمقراطية واملجتمع البرجوازي".
ـ إن النشاط النسائي صعب ،فهو ً ً ً يتطلب عمال كثيرا وتفانيا كبيرا وتضحيات ضخمة ،لكنها تضحيات ستثمر وال مفر منها ،فالطبقة العاملة ال تستطيع بلوغ انعتاقها إال إذا ناضل كل ً أبنائها معا ،دون تمييز حسب الجنس. ً وحينها بدأت املرأة تكتسب حقوقها تدريجيا ضمن الشكل االقتصادي مع ظهور املوجة الثانية للحركة النسوية والتي بدأت مع أواسط القرن العشرين ،حيث بدأ الحراك النسوي بالتقهقر نتيجة الحربين العامليتين،
ولم تكتفي الحركة النسوية بتيارها االشتراكي، نتيجة اتساعه على حساب التيارين الليبرالي والراديكالي ،عند التفسير النظري ،بل دعت إلى التحرر في قضايا العمل واملساواة في األجر، واإلجازة املدفوعة لرعاية األطفال وحق التعليم ،في ذات الخطاب تكمل زيتكن:
62
عادت النسوية للحراك العاملي ،وساهمت بدور أساس ي في هذه النضاالت.
وبدأت املرأة تعود إلى وضعها التاريخي املنزلي. في تلك الفترة أصدرت سيمون دي بوفوار كتابها الجنس اآلخر ،الذي تبنى مقولة "رقي الوعي" لكنه كان أشبه بصرخة في الفراغ، رغم التفاف الكثير من الناشطات النسويات حول بوفوار وطروحاتها في ذلك الوقت ،والتي ً وجدن فيها تقاطعا ُبني على طرح" ،أن األنوثة ً ً التقليدية كانت وستظل تمثل مرضا عضاال، وأن تغيير العالم يجب أن يتم بشكل راديكالي مرهون بتغيير وضع النساء في العالم بشكل ً راديكالي أيضا". وكان من دعاة ذلك الطرح، روس ي بريدوتي، وكيلي أوليفر، وإليزابيث غروش ،وتوريل موي ،وتيريسا برينن .لكن رغم الجهود املبذولة كان االنحسار حليف الحركة.
لكن في هذه الفترة عاد الحراك النسوي ً لتياراته القديمة نسبيا ،واعتمادها بشكل أساس ي على الطروحات الفلسفية لبوفوار من جديد ،فعادت النسوية الراديكالية ً للظهور بشكل أعنف وأكثر تحيزا ،والتي طالبت بمحاربة السلطة األبوية وكل املؤسسات الذكورية بما فيها النقابات العاملية ،وتم طرح مبدأ النساء طبقة اجتماعية والرجال طبقة أخرى .وباملقابل انتشرت حركة النساء االشتراكيات ،حيث عقدن تحالفات مع الجماعات والطبقات املقموعة األخرى ،حركة معاداة اإلمبريالية، منظمات العمال ،أحزاب سياسية يسارية، وخضن نقاشات مضنية مع الرجال املقموعين في تلك املؤسسات عن أهمية النضال النسوي ،وكيف ينعكس القمع ضد النوع على العالقات األسرية والشخصية وفي بنية حركات وأحزاب التحرير ذاتها. لكن تلك الصراعات الديمقراطية للمرأة ونضالها عادت للتالش ي مع ظهور ديكتاتوريات العالم الثالث ووصول تاتشر في بريطانيا وريغن في أمريكا لسدة الحكم .حيث بدأت سياسة الحط من املجتمع والخصخصة ،فقد تم تخفيض الخدمات
لكن مع ستينيات القرن العشرين ،وانتشار حرب العصابات في أمريكا الالتينية والحراك الطالبي في أوروبا وصراعات التحرير في أفريقيا وثورات أسيا ضد األنظمة القديمة وهجمة البيض في أمريكا على العرق األسود،
63
الذين هبطوا إلى أحط درجة في السلم االجتماعي ،ودفعهم يأسهم إلى صب جام غضبهم على النساء واألقليات العرقية.
العامة التي تعتمد عليها النساء ،وتم محو املكاسب املحدودة للمرأة في حركة نقابة العمال .وتولدت طبقة تحتية جديدة معدمة من الفقراء والعاطلين عن العمل % 65منهم من النساء ،والعديد منهن أمهات غير متزوجات .وتم تقليل اإلغانة االجتماعية، وأدى خفض الدعم للصحة والتعليم إلى كارثة للمرأة التي تحتاج للخدمات الصحية أكثر من الرجل في الحمل والوالدة ورعاية األطفال. ً أدى ذلك أيضا في عهد ريغان إلى تصاعد العنصرية والعنف ضد املرأة من قبل الرجال
ذلك التاريخ للحركة النسوية بمراحل اضطراباته ونضاالته وانشقاقاته ما زال ً مستمرا حتى اليوم في كل أصقاع العالم الحديث ،وأصبح خارج نطاق التحديد االجتماعي والسياس ي ،وتحول بشكله العام إلى جانب راديكالي ،يفسر صورة القمع النسائي إلى الذكورة االجتماعية وليس لبنية االقتصاد العاملي.
المراجع -1 -2 -3 -4
كتاب الحركة النسوية ،واتكنزرويدا. كالرا زيتكن :الكلمة التي ألقيت في مؤتمرغوته للحزب االشتراكي الديمقراطي عام .1896 ُ أليس جاردن ? What Feminismمقال نشر في مجلة Culture & socity،French politicsالعدد الثاني .2010وتمت ترجمة املقال د .محمد السيد ،ونشرت الترجمة في مجلة الثقافة العاملية يوليو .2015 ويكبيديا ،النسوية وبيوغرافي النسوية في التاريخ.
هدى عباس ناشطة نسوية ،تهتم بقضايا املرأة ،تقيم يف سوريا.
64
املرأة واجملتمع.. سارة عز تحتاج قوى المعارضة إلى تسهيل عملية تمكين المرأة، والعمل حتى تصل إلى كلّ المراحل المطلوبة ،من أجل تثبيت حضورها بالحدّ األدنى الذي شرّعته الكوتا النسائية في محافل الشرعية الدولية واألممية.
كانت وال زالت املرأة في مجتمعنا أيقونة ذات شكل وأبعاد محددة ،غير مسموح لها باملجمل الخروج ً عن حدود هذه األيقونة ،لها ـ وليس دائما ـ حرية التنقل داخل حدود هذه األيقونة .قد يقول قائل َّأن هذا الكالم أصبح سفسطائي َوك ُث َر استهالكه ّ وأن اآلن للمرأة ما للرجل ،قد يكون هذا الرأي ً ً حد ما ،ولكن لنتوغل قليال في حقيقة واقع املرأة وال نكتفي بظاهر وضعها. صحيحا إلى ٍ
65
أوالدها فقط! وبهكذا ممارسات وعلى ّ مر العقود أصبحت األنثى ّ بحد ذاتها معجونة بهذه األفكار ،مهما قاست وعانت من ً صعوبات في الحياة ،ابتداءا من نظرات الناس املستنكرة ألدنى حرية من املمكن أن تمتلكها، ً وصوال لضرورة انصياعها للرأي العام مهما كلفها هذا من فقدان لشخصيتها ووجودها، ً وكأنها ال ّ ّ تتعدى كونها شيئا يملكه املجتمع ً وليست فردا به.
على الرغم من التطور امللحوظ بال شك في مجاالت مشاركة املرأة وانخراطها في أشكال الحياة املختلفة ،فال نستطيع إنكار ّأنها اليوم ً قادرة على التعلم والعمل بسهولة كبيرة جدا بمقارنة ما كان عليه وضعها منذ ّ عدة عقود َ دون عناء خوض الحروب مع األسرة واملجتمع املحيط بها ليتقبلوا هكذا أفكارّ ، ولكنها وعلى الرغم من هذا ال زالت غير قادرة على امتالك زمام أمورها ،فما زال الذكر وص ٌّي عليها ،وما ً تأخذه من حقوق يبقى خاضعا تحت إطار الهبة من هذا الوص ي ،وتبقى حقوقها تحت خطر التهديد إن ارتكبت ّ أي خطأ فإن الوص ي قادر بقرار ّ منه سلبها ُج ّل ما تمتلك من حياة، أو إن استبدل رأيه لسبب ما.
بالطبع عندما أقول املجتمع فأنا ال أقصده بذكوره فقط ،ال بل بإناثه ً أيضا ،ولألسف َّأن األنثى في مجتمعنا ً غالبا ما تكون السيف ذو النصل األكثر ّ حدة على ولعل هذا يعود َّ ُع ُنق شقيقاتها! ّ ألمور مرده ٍ ِ ً ُ كثيرة ،بداية إلى الطبيعة واألحكام املطلقة التي نشأت عليها ،فأصبحت الواحدة تقف في ّ الصف املقابل لألنثى في مشكلة ما ،لتضمن لنفسها السيرة الحسنة واملكانة داخل املجتمع وعلى ّأنها األكثر ّ مثالية في ر ّأيه ،فعلى لتحرش جنس ي سبيل املثال إذا تعرضت فتاة ٍ تجد املجتمع ـ بفتياته على وجه الخصوص ـ يصب الخطأ األكبر على تلك الفتاة التي
بالتأكيد املجتمع يحتوي على نماذج كثيرة ،وال يصح تعميم الكالم واألحكامّ ، وأن هنالك أشخاص قد خرجوا من تأثير بوتقة املجتمع املظلمة التي تلقي بظاللها عليهّ ، ولكن لنكن صريحين بكوننا داخل مجتمعات محافظة، ومن أراد أن ّ يحيا داخلها عليه أن يسايرها إلى حد ما ،وهذا التعايش سيخلق بال شك روح ٍ تتماش ى معه .في املجتمعات املتخلفة والتي يغلبها الجهل تبقى األنثى رمز الشرف ،ومكب ّ تنصب أخطاء انفعاالت املجتمع ،فعليها َّ شب األوالد وفي املجتمع جمعاء ،فإذا أخالقهم اعوجاج َّ فإن اللوم يقع على عاتقها فهي املسؤولة الوحيدة عن تربيتهم َّ وكأنهم
66
تجرأت على الخروج بلباس معين! ّ وكأن هكذا فعل يبيح أقبح جريمة من املمكن أن تحصل لإلنسان في حياته! فتجد ً ُ الفتيات كمن غ ِّي َب تماما عن التفكير باتخاذهن مواقف تدين الضحية وتبرئ الجاني فقط ّ وليبعدن عن ليبدون مثاليات َّ أنفسهن َ شبح التهمة ،وبأفكارهن التي تفيد بإباحة ّ كل ش يء للذكر وتحرمه على األنثى ،هذا غير مشاعر الحسد التي قد تتملكهن ّ وهن غير قادرات على الوصول َّ إحداهن ملكانة ما قد وصلت اليها حرية حصلت عليها وهنَّ أو على ّ غير قادرات على الحصول عليها، ً ّ برغبتهن فبدال من التصريح بالحياة واالعتراف بأمنياتهن تجدهن يخطئنها ويخرجنها عن دائرة املجتمع ،قليالت اللواتي يبدين إعجابهن بش يء تمتلكه فتاة ّ َّ هن غير قادرات على امتالكه. ً ّ الضحية وحيدة وهكذا غالبا ما نرى األنثى مآس ،وفي حاالت معينة مهما بلغ وضعها من ٍ إن استلمت األنثى منصب ما ،فإنها تسارع التخاذ القرارات القاسية باتجاه زميالتها ّ التحيز لهم ،وقد تتفانى في لتبعد عنها شبح
عملها لدرجات كبيرة لتدفع االتهامات التي ال ُب َّد أن تكون موجودة بأنها ليست بالكفاءة ّ املطلوبة وأنه هنالك العديد من الذكور من هم ّ أحق ّمنها باملنصب وأكثر قدرة على القيام ً به ،وهكذا نرى ّأنها دائما في حالة الدفاع، ويحيط بها جو من التوتر الدائم ألنها موضع اتهام دائم وقد تخسر ما تملكه! ونجد مهما بلغت املرأة من مكانة علمية أو اجتماعية في
67
االهتمام األكبر ولتهمل ما في الحياة من حيوات أخرى ،مع التأكيد الدائم أن األنثى ٍ املتعلمة واملثقفة تأخذ شكل يطلق عليه باملرأة املسترجلة! وبنفس الوقت نرى شباب هذا العصر يدعون الفتيات بالسطحية والسذاجة وما هنالك من صفات مشابهة ً متناسين دعوتهم لهكذا أمور مسبقا!!.
املجتمع فإنها تبقى خاضعة ذلك الخضوع ُ املستكين لزوجها ،فنرى تلك العبارات السائدة التي تؤكد َّأن املرأة رهينة زوجها َّ وأن مهمتها في خدمته هي األولى واألساسية ودونها ليس لها قيمة مهما بلغت من مكانة ،وهذا َ ليس من باب الحب لزوجها وال حتى من باب ً الواجب إن َّ صح التعبير ،ال بل يأخذ شكال ُ ّ التبعية املغلفة بالعبودية املبطنة، من أشكال ً ّ فهو سندها ومالذها ووجوده رحمة لها ألنها ّ األمرين في مواجهة هذا من غيره ستعاني َّ يعانين من العالم املتوحش! فنجد كثيرات َّ ولكنهن قانعات خاضعات ملا حياة قاسية، ٍ ّ اختار لهن القدر فال حياة للمرأة من بعد ً ً سندها وإن كان ظاملا متعديا عليها وعلى كيانها ّ تخص أهمية ونرى تلك األعراف املنتشرة التي
إن أردنا أن نتطور كمجتمع علينا إعطاء األنثى حرية تقرير مصيرها دون تسلط الوحش القادر على سلبها ما تملك ،فلتكن عندما تختار بيتها وزوجها متفانية لهما ،وليست مجبرة على القيام فيما تقوم به ،وكالمي هذا ً َ ليس دعوة ألن تخرج األنثى عن بيتها وأسرتها أو أن تتشبه بالذكور ،بل فقط ّأن تكون َّ هي ّ بدون تسلط من أحد ،وأال تكون كالكرة التي ً مبتعدة َّ كل تتقاذفها األلسن واآلراء املختلفة البعد عن ّ ماهية نفسها الحقيقية.
األنثى بشكلها وجمالها وجعل هذا األمر أهم ما تملكه الفتاة ،فيدفعنها لتولي مظهرها
سارة عز ناشطة سورية تهتم بقضايا املرأة تقيم يف فرنسا.
68
قانون محاية املرأة يف الشمال السوريّ…
نبال زيتونة تمّ توثيق عدد من حوادث خطف القاصرات من قبل وحدات حماية الشعب الكرديّة .حيث اختطفت الطفلة “الفا أنور حنان” ( 14عاماً) ،من أمام منزلها في قرية “معراتة” التابعة لمدينة عفرين ،واقتيدت ألحد مراكز التدريب التابعة لهم.
ّ الكردية في مناطق نفوذها في الشمال دخل قانون “حماية املرأة” ،الذي أقرته اإلدارة الذاتية السوري ،دخل ّ ّ ّ حيز التنفيذ عام .2014ويعتمد هذا القانون مبدأ املناصفة والتشاركية في إدارة ّ املؤسسات كافة .ويقض ي بـ “ املساواة الكاملة بين الرجل واملرأة في جميع مجاالت الحياة ،العامة والخاصة .كما يقض ي ّ بحق املرأة في تشكيل تنظيمات سياسية واجتماعيـة واقتصاديـة وثقافيـة”.
69
فإذا نظرنا إلى هذا ّ ً متقدما القانون ،نجده في ردم الفجوة التي ناضلت املرأة لردمها منذ عقود .وهو أشبه ّ التشريعية بالقوانين ّ املدنية املعمول بها في أوروبا ،كما ويعكس رؤية زعيم حزب العمال الكردستاني عبد هللا أوجالن لدور املرأة. ًّ ّ ّ تستحق التوقف عندها، ظاهريا فالتجربة ً ً باعتبارها نموذجا مهما في اعتماد مشاركة املرأة كركيزة أساسية إلدارة املجتمع وتنظيمه ،واملساهمة في بناء سوريا ّ ديمقراطية ،تصان فيها الحقوق والحريات، ّ وتحقق املساواة الكاملة بين املرأة والرجل، كما ورد في نصوص ذلك القانون. ّ نطمئن إلى إنصاف املرأة في ّ ظل لكن ،هل ّ سلطة ،صدرت بحقها عشرات التقارير التي ّ توثق انتهاكاتها لحقوق اإلنسان؟ ّ ُ ُ ّ لقد علمتنا نظم االستبداد ّأن العتمة ال تولد ّ تجميلية رتوش إال العتمة ،وما قوانينها سوى ٍ لواقع ّ ّ املنطقي أن تأخذ املرأة مر .إذ ليس من حقوقها كاملة ،في ّ ظل سلطة تمتلئ سجونها بمعتقلي الرأي من النساء والرجال ،وحتى
ً فضال عن مخالفتها قوانين حقوق األطفال؟!.. ً اإلنسان حينا ،وارتكابها جرائم على أسس ً ّ عرقية أحيانا أخرى. وما ذلك إال أسلوب قديم ،لفرض رؤية شمولية ،تسلب املرأة ّ ّ ّ حقها في أيديولوجية االختالف. ّ أيديولوجي ًا هناكّ ، تعرضت فاملرأة املختلفة كما الرجل؛ لالعتقال والتعذيب حتى املوت ً أحيانا ،كما طالها التغييب القسر ّي والتهجير. وفي الوقت الذي تجيز فيه سلطة اإلدارة ّ ّ الحق للمرأة بتشكيل تنظيمات الذاتية ّ ّ ومدنية ،نجدها تعمل على إغالق سياسية ّ ّ ّ الكردية، السياسية مقرات األحزاب ّ ومنظمات املجتمع املدني ،واملرأة في مناطق ً ولدواع سيطرتها بحجة عدم الترخيص حينا، ٍ
70
ً ّ أمني ٍة أحيانا أخرى .وقد ترافقت مع حاالت ّ اعتقال وخطف ،وحرق للمقرات ،في محاولة منها لحظر تلك األحزاب ،واالستفراد بالحكم، ّ الكردي ”هوشنك أوس ي” .وما حسب الكاتب ّ والفاشية التي ذلك إال دليل على االستبداد تمارسها هذه السلطة ،كما يرى أوس ي. أما الكاتب والسياس ّي“ ،أحمد موس ى” ،فيرى ّ ّ املقرات وحرقها ،إنما ّأن “سياسة إغالق
ّ ّ الذاتية سياسة األدلجة وقد اتبعت اإلدارة ّ ّ التعليمية ،إذ استندت هذه العملية حتى في ّ ّ ّ رئيسية ،تتصدرها العملية إلى ثالث قواعد املتطلبات األيديولوجية ،وثانيها اعتماد اللغة الكردية ،والقاعدة الثالثة مرتبطة بضرورات التغيير وإعادة تأهيل البنى التعليمية .وهذا ما ّ أوص ى به املؤتمر الثاني ملؤسسة اللغة ّ الكردية ،الذي عقد في مدينة عفرين ،إضافة إلى ترسيخ النظام التعليمي وفق مبادئ األمة ً الديمقراطية ،واستنادا إلى فلسفة قائد الشعب الكردي عبد هللا أوجالن ،ووجوب خضوع جميع األعضاء للتدريب األيديولوجي، والثقافي واملسلكي.
للضغط على تلك األحزاب لالعتراف باإلدارة الذاتية وشرعنتها ّ ّ بالقوة. وقد ّ تم إغالق أكثر من عشرين منظمة مدنية ،وذلك لدواع ّ ّ أمنية حسب زعم سلطة ٍ ّ الذاتية. اإلدارة ّ ّأما فيما يتعلق بالحراك النسوي في املناطق ّ توعوية الكردية ،فلم تكن أكثر من منظمات ّ ّ سياسية حسب الباحثة والناشطة وتبعية ّ الحقوقية “ميديا محمود” ،حيث فشلت هذه ّ اك نسو ّي .ويعود املنظمات في خلق حر ٍ ّ السبب برأي ميديا إلى استالب منظمات ً ّ النسوية املجتمع املدني عموما ،والتنظيمات ً ّ السياسية. خصوصا من قبل الجماعة وحقوق املرأة جزء من حقوق اإلنسان ،فمن ينتهك حقوق املرأة ،ينتهك حقوق اإلنسان. ّ بالتعددية ،ال يمكن أن ينظر ومن ال يؤمن بعين االعتبار إلى تنظيمات ال تتبعه إيديولوجيا.
جتنيد القاصرات تمنع قوانين حماية املرأة في مناطق اإلدارة ً ّ ّ وتعده جرما الذاتية تزويج القاصرات، يحاسب عليه القانونّ . لكنها ال تتوانى عن تجنيدهن كمقاتالت في صفوفها، واستقطابهن إلى معسكرات التدريب التي ً تقيمها بهذا الخصوص ،بالترغيب حينا، ً وباإلكراه والخطف أحيانا أخرى .على الرغم ّ ّ القانونية للتجنيد ثمانية السن من إعالنها ً عشر عاما.. وكان الناطق باسم هذه ّ القوات ،عزا التحاق ّ ّ كمتطوعات، العسكرية القاصرات بالفصائل
71
ّ نفسية أو وليس كتجنيد ،لظروف ّ ّ عاطفية ،أو لقناعات اجتماعية أو ً ّ سياسية أحيانا. ّ والشك ّأن هذه السياسة التي تتبعها ّ قوات ّ ّ ملف القاصرات ،تنطوي الذاتية في اإلدارة ُ على تناقضات واضحة .حيث يمنع تزويجهن من جهة ،ومن جهة أخرى ُيتاح ّ ّ لهن ّ العسكرية حرية االلتحاق بالوحدات املقاتلة. وقد ّ تم توثيق عدد من حوادث خطف القاصرات من قبل وحدات حماية الشعب ّ الكردية .حيث اختطفت الطفلة “الفا أنور ً حنان” ( 14عاما) ،من أمام منزلها في قرية “معراتة” التابعة ملدينة عفرين ،واقتيدت ألحد مراكز التدريب التابعة لهم. كما ّ تم توثيق تجنيد الطفلة “جيمن 14 ً عاما” ،تحت تهديد السالح .وكانت وحدات الحماية الشعبية اعتقلتها من حرم مدرستها ّ القحطانية .كما ”خولة بنت األزور” في بلدة ً الطفلة ”نسرين فصيح 14عاما” ،واعتقلت في سوق رأس العين ،ونقلوها إلى مركز للتدريب خارج املدينة .وأخبروا أهلها ّأن ابنتهم ليست الوحيدة هناك ،بل ّ يضم املركز آالف الرفيقات األخريات.
ً ً أيضا الفتاة “روس ي مكرمو 13عاما” من قرية ّ للدرباسية ،واختطفت من قوالن التابعة ً مدرستها أيضا عام .2014 وكانت السلطات نفسها التي منعت زواج ّ الدرباسية ال يتجاوز عمرها طفلة في مدينة ً ( )16عاما ،قامت بخطف أختها “أفين ً صاروخان” ( 11عاما) ،من أمام مدرستها في املدينة نفسها ،وفي وضح النهار.
72
وفي حاالت أخرىّ ، يتم زواج القاصرات بعد ّ ذويهن رشوة ّ مالية ملسؤولي اإلدارة دفع الذاتية.
التنسيق مع ،أو مساعدة الجماعات املسلحة التي ّ تجند األطفال ،والتي ال ّ تسرحهم من صفوفهاّ ، ّ الكردية تخرق وأن وحدات الحماية ّ الدولية منذ العام ،2013جميع التوصيات الخاصة بعدم تجنيد األطفال.
وقد ذكرت “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها قوات ّ لعام ،2015تحت عنوان “ ّ كردية تنتهك حظر تجنيد األطفال”؛ ّأن وحدات حماية وقعت عام ّ “ ،2014 الشعب ّ صك التزام” مع ّ ّ الحكوميةّ ، تعهدت منظمة ”نداء جنيف” غير فيه بتسريح جميع املقاتلين دون ّ سن الثامنة عشرة في غضون شهر .لكن رغم الوعود التي ّ قدمتها ،إال ّأنه ّ تم توثيق التحاق العديد من األطفال في معارك ،2015ويبدو أن بعضهم قد قتل. وحسب “هيومن ايتس ووتش”ّ ، فإن عشرة ر ً ّ من بين 59طفال ،دون سن الثامنة عشرة ،قد
التهجري
َ تتوان ّ ّ الذاتية عن تهجير قوات اإلدارة لم ّ املدنيين ،وجلهم من النساء واألطفال ،وهدم ّ منازلهم بتهمة مناصرة “داعش” .وقد وثقت ّ الدولية في تقريرها لعام 2016 منظمة العفو ّ ّ – ،2017أن قوات اإلدارة الذاتية سيطرت خالل عام ،2016على معظم املناطق السوري ،وارتكبت ّ ّ ّ عدة الحدودية في الشمال مجازر ّ بحق املدنيين العرب في تل تمر التابع ملحافظة الحسكة ،وهدمت منازلهم بتهمة مناصرة ”داعش” .وقد اعتمدت املنظمة على ّ املفوضية السامية لألمم املتحدة تقرير لشؤون الالجئين.
التحقوا بصفوف وحدات حماية الشعب، ووحدات حماية املرأة خالل عام .2015 ً أيضاّ ، فإن ّ قوات “األسايش” وبحسب التقرير ً ّ جندت عام ،2016اثني عشر طفال في ً صفوفها قسرا .رغم أن قانون التجنيد اإلجباري املعتمد لديهم ّ يحدد ّ السن بين – 18 ً ً كل عائلة أن ّ عاما ،وعلى ّ تقدم شابا أو 30 ّ استمر تجنيد الفتيان فتاة .لكن رغم ذلك والفتيات دون ّ سن الثامنة عشرة.
وفي تقرير عام ،2016 – 2015أشارت العفو الدلية إلى ّأن ّ ّ ّ الذاتية سيطرت قوات اإلدارة على مدينتي عفرين وكوباني “عين العرب”، ّ وعدة قرى محيطة بهماّ ، مجموعات ورحلت ٍ ً ّ سك ّ انية قسرا من عشر قر ًى وبلدات .ومنعت النازحين من العودة إلى ديارهم في بلدة سلوك التابعة ملحافظة الرقة في تموز .2016
وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش أصدرت ً ّ تقريرا ،طالبت فيه دول التحالف بالكف عن
73
ّ عرقيةّ ،أدت إلى صبغة فرار عشرات اآلالف من سكان تلك املناطق. كما وثق تقرير صادر عن السورية الشبكة لحقوق اإلنسان عام ،2016قتل أعداد من املدنيين بينهم 43امرأة ً و 51طفال ،على يد قوات االتحاد حزب وقوات الديمقراطي اإلدارة الذاتية.
ّ الدولية لعام ،2015وهو وفي تقرير العفو ّ بعنوان “ال مكان نذهب إليه”؛ ذكرت املنظمة الذاتية أحرقت قر ًى ّ ّ عربية ّأن قوات اإلدارة ّ ّ ركمانية شمالي سوريا ،وأجبرت سكانها، وت ّ وغالبيتهم من النساء واألطفال ،على املغادرة ّ تحت التهديد بالقتل .واعتمدت املنظمة في تقريرها على صور ملتقطة من األقمار ّ ّ الصناعية ،وشهادات سكان محليين وشهود ّ عيان .وقد ّ صنفت املنظمة هذه اإلجراءات في ّ ّ العرقي”. الجماعية” ،و”التطهير إطار “اإلبادة ّ السورية لحقوق اإلنسان، وكانت الشبكة
وقدم التقرير إحصائية للمعتقلين لدى قوات حزب االتحاد الديمقراطي وقوات اإلدارة ّ الكردية ،التي بلغت ما اليقل عن الذاتية ً ً 1651شخصا ،بينهم 111طفال ،و88 سيدة ،بينما بلغ عدد الضحايا بسبب ً التعذيب ما اليقل عن 16شخصا. وأكد التقرير أن اإلدارة الذاتية انتهكت وعلى نحو واسع القانون الدولي لحقوق اإلنسان لسكان يقبعون تحت سلطتها العسكرية ،عبر ّ ّ التعسفي والتعذيب، عمليات االعتقال ومارست انتهاكات صارخة للقانون اإلنساني الدولي عبر عمليات القتل خارج نطاق القانون ،والتعذيب والتشريد القسر ّي ،ونهب
أشارت إلى أن االنتهاكات الواسعة لقوات ّ الذاتية في املناطق الخاضعة اإلدارة لسيطرتها ،والتي ترافقت في بعض األحيان مع
74
ّأما منظمة “سارا” ملناهضة العنف ضد املرأة ،واملساواة بين الجنسين ،فقد ّ سجلت أكثر من ( )4000حالة عنف ضد املرأة في ّ الذاتية الثالثة (الجزيرة مناطق اإلدارة ّ وكوباني وعفرين) .توزعت بين القتل، ّ ّ وتعدد والتحرش واالغتصاب، واالنتحار، ً ّ الزوجات ،وزواج القاصرات .لكنها أيضا لم قريب، ِ تأت على ذكر تجنيد القاصرات ال من ٍ وال من بعيد. وأخي ًراّ ، البد أن نقول؛ ّأن سلطة األمر الواقع الذاتية” ،ال تستطيع ّ ّ سن القوانين “اإلدارة ّ ًّ ّ لعدم شرعيتها ،إذ تستوجب الفيدرالية نصا ًّ دستوريا إلقرارها وتطبيقها .وال عجب أن ّ ً يكون القانون مطوعا لخدمة أجندتها ،فهي املالك الحصر ّي والوحيد ّ لكل ما هو تحت سلطتها!
املمتلكات ،والقصف العشوائي ،وهي ترقى إلى جرائم حرب. العنف ضدّ املرأة واالغتصاب ّ يخص حاالت العنف واالغتصاب، وفيما فمن املفروض أن تظهر على األرض نتائج تطبيق قانون حماية املرأة بتخفيف هذه ً الحاالت وصوال إلى إنهائها .وكان مجلس “العدالة االجتماعية” التابع لإلدارة الذاتية، وثق 213حالة عنف ضد املرأة خالل عام ،2017في محافظة الحسكة الخاضعة لسيطرتها شمالي شرقي سوريا .وصلت 160 ّ حالة منها إلى املحاكم .كما وثق 30حالة زواج ثانية ،و 13حالة زواج قاصرات ،وثالث حاالت عنف جسدي ،وسبع حاالت ّ يتحدث عن تجنيد اغتصاب ،في حين لم القاصرات..
خاص “شبكة املرأة السورية”
75
76
املرأة يف األدب علي األعرج هذا االجتياح الضخم في القرن العشرين ليس سوى والدة عسيرة وردة فعل لتاريخ أدبي ذكوري قولب المرأة ضمن أشكال محددة ورسم لها مهماتها الورقية على مدار
خمسة آالف عام ،تحوّلت فيها من مُدوَّن ورقي إلى مُدوِّن واقعي ومشارك بصناعة التاريخ والفكر.
ً ً ً قد يبدو تعبير "األدب منجز ذكوري" تعبيرا جندريا قليال .لكنه ال يخلو من صحة إذا ما نظرنا إلى ُ ذلك التاريخ بعين املعطى الفكري ،قبل أن يدخل في قرنه الحالي ،فلم تحظى املرأة في التاريخ األدبي عبر مساراته ،بالكثير من االهتمام ال على مستوى االنجاز ،مقارنة باالنجاز الذكوري ،وال على مستوى النص ،مقارنة باملواضيع األكثر شمولية من ناحية املعالجات الفكرية والفلسفية.
77
جلجامش ،فرغم آلوهية عشتار ،لكنها تمتلك الجانب البشري في الحب والغيرة واالنتقام. هذه املساواة كانت تقدمية في زمن بدائي، وستتالش ى مع تطور املجتمعات.
لقد كانت املرأة عبر ذلك التاريخ عبارة عن آلية مساعدة للبحث مثلما كانت على مستوى املجتمع آلية لالقتصاد واملتعة .ولهذا ما يبرره ضمن السياقات التطورية للمجتمعات. ً فالعالم الحديث الذي تخلص جزئيا من األشكال التي تحكمه بمعيارها الالهوتي والسياس ي ،لم يتجاوز عمره الثالثة قرون، وخالل هذه الفترة أصبحت املرأة حاضرة بشكل أقوى ولو أنها بقيت حبيسة آلية مساعدة لتفسيرات العالم وليس كحالة مستقلة ،وهذا ما نشاهده في أغلب األعمال العاملية.
ذات األمر نشاهده في إلياذة هوميروس بعد قرون ،فامللحمة الحربية لعشر سنوات كان هيلين سببها الطروادية ،وهي أول امرأة بشرية (نصف إلهية) في تاريخ األدب ال تمت لأللوهية املطلقة بصلة في صناعة تاريخ أدبي ومحرك لألحداث بشكل مباشر.
بالطبع تاريخ األدب ال يقتصر في حضور املرأة على القرون األخيرة ،فأعظم كالسيكيات العالم القديم كان للمرأة دور حاسم بها ،من خالل إنشاء منظومة األسطورة األدبية، فعندما نتحدث عن ملحمة جلجامش ال يمكننا نسيان ذلك الحضور النسائي املتجسد بالتعليم الجنس ي (ضمن معيارها التاريخي) ومهمتها األساسية بترويض انكيدو: ّ ـ طرحت ثوبها ،انبطح عليها ،علمت الرجل الوحش وظيفة املرأة ،وها هو واقع في حبها.
وبرغم هذا الحضور النسائي في األدب إال أن ً الدور في هذه النصوص بقي ضعيفا ،ألنها لم تتجلى كعنصر بشري حقيقي له مفرزاته الذاتية ونمطيات تطور الشخصية التي تتأثر بالفعل ورد الفعل ،بل اقتصرت على تجسيد املرأة بثوابت محددة في السلطة والقوة والغيرة والخيانة .واستمر هذا النمط األدبي إلى القرن السادس عشر األوروبي وما يليه ً ليتحدد دور املرأة أدبيا بشكل مختلف وكبير.
وإن كان العالم القديم نظر إلى املرأة بهذه املهمة الجمالية والجنسية ،إال أنه قدمها على درجة مساواة في صناعة األسطورة ،وهذا ما سيجري أثناء رغبة عشتار لخلق ثور وقتل
78
لكن قبل الوصول إلى هذه الفترة األوروبية بعدة قرون ،ظهر إلى العالم اثنين من أعظم النصوص التي كانت ومازالت تحدد صياغة ً أدبية مختلفة لدور املرأة تاريخيا ،وهي كوميديا دانتي في القرون الوسطى ،وفيها عالج
املرأة الفاعل ،ليس على مستواها اإلنساني واألخالقي فقط ،بل دورها السياس ي والفكري والجنس ي ،كقائدة متحررة لهذه العمليات بأسرها وليست عنصر مساعد ،بداية ً بشخصية شهرزاد مرورا بكل الشخصيات النسائية في القصص الالحقة. هذه التجربة األدبية الخاصة ً ُ جدا بقيت حتى اليوم تضاهي أعظم األعمال الكبرى لتقديمها املرأة بأشكال مستقلة ولها حواراتها وفلسفاتها. لكن كل ذلك لم يحرر املرأة خارج إطار الشخصية الورقية ،إنها أشبه بمرحلة املخاض الذي سيلد .لقد كانت عبارة عن صورة الفئة املتحررة ورغباتهم الضمنية عما يجب أن تكون عليه املرأة.
منطق الخلود بحسب املسيحية ،ونشاهد األثر الذي تركه دانتي في شخصية بياتريس التي تعمل كمرشدة له في الجنة ،وهذا ما يتعارض مع منطق املسيحية الوسطى في النظرة للمرأة كش يء مشين ،فبياتريس تعلم جغرافية الجنة بينما رجال الدين يقضون خلودهم في الجحيم واملطهر والدوار األولى من ً ً الفردوس .فأضحت بياتريس نموذجا روحيا ّ والتبصر واألخالق ،على حساب للحكمة ذكورة الالهوت.
مع بدايات نهوض أوروبا وعصر التنوير والثورات الالحقة ،اتخذ األدب معايير نقدية ً وأصبحت املرأة حاضرة في كل عمل تقريبا، لكن اقتصر دورها على نمط املساعد وباألخص في األعمال املسرحية ،باستثناء امللك لير وبناته الثالث ،لكن مع نشوء فن الرواية بعد فترة الثورات األوروبية ،أصبحت املرأة حاضرة كقوة شاملة على طول العمل،
أما العمل الثاني فكانت قصص ألف ليلة وليلة التي ظهرت في الشرق بفترة أقل من ظهور الكوميديا ،ومن خاللها نشاهد دور
79
ّ ورسخت شخصيات فاعلة مازالت حتى اليوم ،كمدام بوفاري وآنا كارنينا وكاتيوشا وآزميرالدا والنساء الصغيرات للويزا ألكوت وحتى أغلب العناصر النسائية في شخوص دوستويفسكي .لكن هذه الشخصيات تمت معالجتها من املنطق األخالقي ،فلم يكن ً دورهم فاعال بمعناه القيادي أو الفكري، بقدر ما هو أشكال ذاتية تتطور ضمن بنية الشخصية نفسها تؤدي إلى هالكها أو انتصارها .لقد ُحصرت املرأة بهذا الدور األخالقي.
وسلمى الغرلوف أوائل أديبات العالم الحديث ،وحصول ثالثة منهن على نوبل لآلدابّ . وتحول هذا التدفق النوعي لألدب إلى تدفق كمي وأحد أشكال الحياة الطبيعية، لكنه لم يكتفي عند هذا الشكل األدبي ً ً املجرد ،بل أصبح مزيجا فلسفيا ،وهذا ما ّ قدمته سيمون دو بوفوار الشخصية الفكرية الفلسفية ذات التأثيرات الوجودية على أجيال كاملة ،إضافة لكاتبات أخريات، أناييس نن وسوزان سونتاغ وبولين رياج وإريس مردوخُ ،ليلحق ّ بهن كاتبات مميزات، ألفريدة يلينيك وإيزابيل الليندي وتوني موريسون وأميلي نوثومب ،وآالف من الكاتبات اللواتي اشتهرن في القرن املاض ي حتى اليوم .ولم يقتصر هذا التوسع على دول العالم الغربي ،بل رافقه على املستوى الشرقي والعربي عشرات املئات من الكاتبات الذين صاغوا تاريخ البالد من وجهة نظر نسائية ،في اليابان وكوريا وإيران والهند والصين وتركيا والوطن العربي بأكمله.
مع اتساع رقعة األدب وآلياته في القرن العشرين وظهور املدارس الفلسفية ونهوض الحراك النسوي في العالم ،بدأت املرأة بالظهور بشكل تأثيري مباشر في الفكر واألدب ،وكانت بداياتها مع الشخصية الورقية ميس ماربل التي أنتجتها مخيلة أجاثا كريستي ،والتي طرحت املرأة بإطار قدرة فائقة على التحليل واالستنتاج ودورها في صناعة الخير البشري والعالم الحديث .ما فعلته أجاثا وميس ماربل مجتمعتين هو كسر التابوهات األدبية التي قولبت املرأة (كشخصية ورقية وكمنجز واقعي) ضمن حدود خاصة على ّ مر التاريخ ،وفتحت الباب ألعداد هائلة من األديبات في القرن املاض ي اللواتي رافقن فترة أجاثا ،فأضحت فرجينا وولف وسيغريد اوندست وغابريال ميسترال
هذا االجتياح الضخم في القرن العشرين ليس سوى والدة عسيرة وردة فعل لتاريخ أدبي ذكوري قولب املرأة ضمن أشكال محددة ورسم لها مهماتها الورقية على مدار خمسة تحولت فيها من ُم َّ آالف عامّ ، دون ورقي إلى ُ ّ دون واقعي ومشارك بصناعة التاريخ م ِ والفكر.
80
شخصية العدد
عبد الرمحن الشهبندر خالد علوش لم يتوقف الشهبندر يوماً عن العمل الوطني منذ بداياته، فعمل بكل ما استطاع في الطب والسياسة والصحافة والتدريس والترجمة للرفع من مستوى سوريا ساعياً لتنال استقاللها وتنويرها وحضارتها .لقد كان عربي النزعة ،يميل إلى التسامح ونبذ التعصب واإلعراض عن
العنف والجنوح إلى السلم.
في عام ،1920عندما قبل امللك فيصل إنذار الجنرال غورو بشأن الجيش والنقد الفرنس ي وسكة الحديد ،التقى الشهبندر بامللك فيصل في املؤتمر الوطني السوري الذي كان يضم مناضلي سوريا ّ واشتد الجدال بينهما حول قبول الشروط الفرنسية ،فقال من هنانو إلى العظمة إلى الشهبندر، فيصل" :أنا امللك وأنا من ساللة النبي" .فأجابه الشهبندر" :وأنا ابن هذا البلد ،وأرفض كل وصاية، وأطالب بتشكيل حكومة قومية ثورية".
83
تلك الحادثة الشهيرة نفضت الغبار عن مستقبل زاهر سيكون لسوريا ،وكشفت اللثام عن وطنية البعض وعمالة البعض اآلخر ،لقد كانت اللحظة التي انتفضت فيها سوريا بأسرها ،وبكل مكوناتها ضد فرنسا وعمالئها. ُوِلد عبد الرحمن بن صالح الشهبندر عام 1882في مدينة دمشق ،حيث كانت ال تزال تحت الحكم العثماني ،ألسرة دمشقية عريقة تعمل بالتجارة. نشأ الشهبندر يتيم األب ،فقد توفي والده وهو ّ ابن ستة أعوام ،فربته أمه ،مركزة على تعليمه بالدرجة األولى ،فتلقى علومه االبتدائية واإلعدادية في دمشق ،ليكمل دراسته الثانوية في القسم االستعدادي التابع للجامعة األمريكية ببيروت ويتخرج منها عام .1901في تلك األثناء كان أن ألقى خطبة في الثانوية كانت حول االجتهاد والتقليد االجتماعي والديني .على إثر ذلك اقتيد عام 1902إلى املحاكم بتهمة اشتراكه في الحركة اإلصالحية وتأليف رسالة عن الفقه ّ والتصوف ومقالة في جريدة املقطم املصرية كانت حول موضوع خالفة السلطان عبد الحميد ،لكن صغر سنه أنقذه من املوت.
ّ تخرج سنة .1906وألقى حينها خطبة حفلة ّ التخرج ،فاختار موضوع التسامح الديني ّ التعصب، الذي قاد فيه حمل عشواء على ً ً وتم تعينه في السنة ذاتها أستاذا وطبيبا لتالميذ الجامعة بسبب ملعانه الثقافي والعلمي. في عام 1908عاد إلى دمشق واتصل بالشيخ عبد الحميد الزهراوي وبمجموعة من السوريين الوطنيين وببعض أحرار األتراك، الذين سيشكلون فيما بعد الحركة العلمانية في تركيا ،حيث ساهم معهم باالنقالب على السلطان عبد الحميد ،وانضم إلى الهيئة املركزية لحزب االتحاد والترقي الذي تأسس بعد إعالن الدستور ،لكن سياسة الحزب لم تعد مثلما نشأت عليه ،وشعر بأنها سياسة تتجه نحو تتريك العناصر العربية لذلك
بعد تلك الحادثة عاد إلى لبنان ليكمل دراسة الطب في الجامعة األمريكية ،فبقي هناك حتى
84
ً ً لم يكن الشهبندر واثقا من اإلنكليز كثيرا لكنه ً ً مع ذلك عمل جاهدا ليأخذ تصريحا من البريطانيين ،أن الدول التي تنال استقاللها من العثمانيين بقيادة الجيش لعربي تحت راية الشريف حسين تبقى مستقلة وال تخضع ألي سلطة خارجية ،ورغم خطورة التصريح على املصالح البريطانية لكن لم يكن لديها من خيار سوى إعطاءه .كان الشهبندر يفهم الواقع السياس ي ويتعامل ضمن آلياته ،ولهذا كان أحد الرجال املستهدفين من الغرب لخبرته ووطنيته.
جابهها بشدة ،وأخذ يرفع راية املطالبة بحقوق العرب القومية. بعد ذلك بعامين ّ تعرف إلى سارة العظم ،ابنة تقي الدين وتزوجها عام ،1910زواجه ذاك دعم الشهبندر ّ ليتقدم إلى الواجهة السياسية ملا ُعرف عن عائلة العظم من نشاط تاريخي قديم في املجال السياس ي والوطني ،وهي ذات نفوذ عالي ومقام اجتماعي رفيع .وفي عام ّ 1912سافر إلى أوروبا ملزيد من العلم وتعلم السياسة ،وعاد مع بداية الحرب العاملية، فانتظم في سلك الجندية وسافر إلى البلقان للمشاركة في الحرب ،لكن بعد عام واحد ّ عين ً ً طبيبا خاصا ألحمد جمال باشا القائد التركي في بالد الشام ،وحين ّ اشتدت سياسة التتريك ً غادر سوريا متجها إلى العراق ثم الهند ليستقر في القاهرة عام 1916فعينته ً السلطات اإلنكليزية طبيبا لألسرى ،وفي السنة ذاتها أسهم في تنظيم الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين في الحجاز، وترأس تحرير جريدة الكوكب في القاهرة، لكنه ما لبث أن تركها بعد تكشفها له عن ً تبعيتها لإلنكليز .في تلك الفترة أيضا ساهم بتأسيس حزب االتحاد السوري مع بعض األحرار ،وقد بقي الحزب في القاهرة حتى معركة ميسلون.
بعد استقالل سوريا عن الحكم العثماني عام 1919عاد إلى سوريا فكان من أوائل من ً عينتهم الجامعة السورية أستاذا في كلية الطب وكلية الحقوق ،وحين دخل امللك ً فيصل دمشق عام 1920ونودي به ملكا ً عليها ،عين الشهبندر وزيرا للخارجية ،فحشد ً الفرنسيون جيشا في ميسلون ،وهاجموا دمشق ،فاستشهد يوسف العظمة وقبض على بقية الوزراء ،وحكم عليهم بالسجن املؤبد في جزيرة أرواد ،لكن الشهبندر هرب ً من سوريا إلى مصر وأقام فيها عاما ،ليعود ً بعدها ويبدأ بتنظيم البالد سياسيا ً واجتماعيا ،لكن الفرنسيين ألقوا القبض ً عليه وتم الحكم عليه بعشرين عاما ،لكنهم أطلقوا سراحه في أواخر عام ،1923وبعد
85
املجاهدين كل إمكانية للدعم السياس ي والعسكري في الجنوب ،وهو ما أغضب الفرنسيين ودعاهم ملالحقته وكادوا يقبضون عليه ،لوال أنه هرب إلى جبل العرب ومنه إلى شرقي األردن ثم القاهرة .عندما وصل ملصر تناهت إليه أخبار القرارات الفرنسية عام ،1927حيث تم إصدار حكم ّ فاضطر للبقاء مع غيابي باإلعدام عليه، عائلته ملدة عشر سنوات هناك يتابع نضاله ضد الفرنسيين وباألخص عمله في اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني، باإلضافة لكتاباته الصحفية التي كانت تتناقل في مصر وسوريا ،وتزيد من حدة الغضب الشعبي السوري اتجاه الفرنسين .إن ً عدم بقائه صامتا كان يثير حنق فرنسا عليه دون القدرة على الوصول إليه ،وهو ما ُ استدعاها بعد عشر سنوات أن تصدر ً مرسوما ُيلغي حكم اإلعدام عليه في عام ،1937فعاد إلى دمشق بحفاوة شعبية نادرة، وكان في كل يوم يقوم الناس بزيارته ويلقي ً فيهم خطبا تزيد من حماسة الشعب ضد الفرنسيين ،كما عارض معاهدة 1936وهو األمر الذي زاد حدة االنقسام بين السورين، بين مؤيد لحكومة هاشم األتاس ي والكتلة
خروجه سافر إلى أوروبا وأمريكا للدفاع عن قضية بالده ،فكان اول زعيم سوري يرفع قضية سوريا إلى الحافل الدولية. عاد إلى سوريا عام 1924وأسس حزب الشعب وتولى رئاسته وأخذ يعمل من جديد في تنظيم العمل السياس ي ويدعو إلى الوحدة العربية ويطالب بإلغاء االنتداب ،وإقامة جمهورية سورية في نطاق االتحاد مع جميع البلدان العربية املستقلة ،فاتصل مع الزعيم إبراهيم هنانو قاد ثورة الشمال ومع محمد ّ العياش زعيم الثورة في املنطقة الشرقية ،كما تواصل مع فوزي القاوقجي في حماه ،رغم اختالفه معه ،حيث كان القاوقجي في بداياته يعمل لصالح الفرنسيين ،لكن بعد اعتقال وجهاء حماهّ ، تغيرت رؤى القاوقجي وهو ما دعا الشهبندر للتحالف معه ودعمه في ثورته .وحين نشبت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان األطرش عام ،1925نظم مع
86
كتب الشهبندر الكثير من املقاالت في مجلتي املقتطف والهالل ،وقد ُجمعت في كتاب القضايا العربية الكبرى ،كما صدرت مذكراته ً بعد وفاته ،وكتب عنه محمد كرد علي فصال ً ً مطوال في مذكراته أيضا ،هذا وقد ترجم الشهبندر كتاب "في السياسة الدولية" لديزل بورنس عام 1925عن اللغة اإلنكليزية. ً لم يتوقف الشهبندر يوما عن العمل الوطني منذ بداياته ،فعمل بكل ما استطاع في الطب والسياسة والصحافة والتدريس والترجمة ً لرفع من مستوى سوريا ساعيا لتنال استقاللها وتنويرها وحضارتها .لقد كان عربي ً النزعة ،معاديا لألتراك ،ولسياسة اتفاق ً العرب معهم ،مناوئا لالستعمار األجنبي في الوطن العربي عامة وسورية خاصة ،كما كان طوال حياته يميل إلى التسامح ونبذ التعصب واإلعراض عن العنف والجنوح إلى السلم، ومواقفه من الثورات السورية هو إليمانه بضرورة استقالل بالده كاملة نحو حرية مطلقة دون خضوع ألي سلطة خارجية. ً ً سيبقى عبد الرحمن الشهبندر نموذجا وطنيا في تاريخ الذاكرة السورية ،إنه شهيد الوطن والتنوير.
الوطنية املؤيدة للمعاهدة وبين الشهبندر وأنصاره التي كان يعدد مساوئ املعاهدة وعيوبها ويدعو لضرورة االستقالل الكامل والسيادة املطلقة. ً لم تستطع فرنسا يوما إسكات الشهبندر رغم كل ما فعلته ،ولم يصبح لديها من خيار سوى ً التخلص منه نهائيا ،وهو ما دعاهم لتدبير عملية اغتياله بواسطة بعض املتشددين الدينيين في عام ،1940عندما دخل عليه ثالثة أشخاص مسلحين وأطلقوا النار عليه في عيادته بحي الشعالن بدمشق ،حيث ّ تم إلصاق التهمة بثالثة من زعماء الكتلة الوطنية وهم سعد هللا الجابري وجميل مردم بك ولطفي الحفار ،فهربوا خارج البالد بعد صدور مذكرات توقيف بحقهم. لم يطل أمر اغتياله حتى ألقي القبض على قاتلي الشهبندر بعد فترة وتم االعتراف أن سبب االغتيال هو سبب ديني ألن الشهبندر ّ تعرض للدين في أحد خطبه ودعا للتنوير ّ والتقدمُ ، ودفن في قبر جوار صالح الدين ُ األيوبي قرب الجامع األموي .وإلى اآلن ما زالت قضية الشهبندر وعملية اغتياله ُمغلقة في األرشيف الوطني الفرنس ي.
خالد علوش ناشط إعالمي سوري ،يقيم يف تركيا
87
88
من ذاكرة السجن 89
90
ما عجبك تطلع إال ضد الرئيس بسام يوسف أستعيد وجه أمي ،أمي التي ظلت صامتة طيلة الدقائق القليلة التي أمضوها في بيتنا ،منذ وصولهم وحتى اقتيادي إلى سيارتهم ،لم تقل إال جملة واحدة ،مازال صوتها وهي تنطق جملتها الوحيدة المختنقة والمتوسلة ( :ياخالتي لوين آخدينو ؟؟) يتكرر بال توقف في
ذاكرتي.
ّ أتكور في زنزانتي العارية ،قبل قليل أعادوني من جولة التعذيب األخيرة ،موجات من األلم الشديد تجتاح جسدي كله ،من قدمي حتى رأس ي ،أتحسس برؤوس أصابعي وجهي ّ املتورم ،الذي يحترق كما لو أنه فوق صفيح ساخن ،وما إن أتلمسه حتى يزداد األلم؛ فأبعد أصابعي ،وأتحسس بلساني أسناني التي فقدت مالستها ،وغطتها نتوءات حادة ،أفكر :ربما تكون قد ّ تكسرت بعد لكماتهم التي استقبلوني بها.
91
ً واقفا ،يداي ّ مقيدتان كنت ال أزال وراء ظهري ،وعصبة بالستيكية مرنة ّ عيني ،عندما وسميكة تغطي أطاحت بي لكمة عنيفة على وجهي، ُ شهقت ،وأحسست أن فمي يمتلئ ببقايا صلبة ،كانت تنطحن بسهولة ُ سقطت ،لكن قبل أن تحت أسناني، أصل األرض تلقفتني أيد ما، وأوقفتني ،لتهوي لكمة أخرى ً ّ يتطوح يمينا وأخرى ...كان جسدي ً ً ً ويسارا وأماما وخلفا ...لكمات متالحقة تنهال من الجهات كلها ،وأنا أشهق ،وأحاول -بحدس الروح -أن ّ ُ علي أخرى، أتجنب لكمة ما ،فتقع وأنا ال أرى جهات الخطر؛ ال يحق لي أن أرى؛ ألننا نحن السجناء ّ محرم علينا أن ّ نتعرف إلى وجوه الجالدين. لقد كففت عن استكشاف ماحل بأسناني، كانت حركة لساني تؤملني؛ فتوقفت ،وأحاول ً أن أحرك جسدي قليال ،وأتوقف ...اللعنة!! من زرع أرض هذه الزنزانة اليابسة بكل هذه ّ الكتل اإلسمنتية املسننة ،أي عقل هذا الذي يشتغل على صناعة كل هذا األلم؟ أحاذر أي حركة في تكوري داخل زنزانتي املعتمة؛ فهذه الكتل املسننة اللعينة تنغرز في جسدي بال ً رحمة؛ فأتوقف عن محاوالتي الوجلة أيضا.
أستعيد وجه أمي ،أمي التي ظلت صامتة طيلة الدقائق القليلة التي أمضوها في بيتنا، منذ وصولهم وحتى اقتيادي إلى سيارتهم ،لم تقل إال جملة واحدة ،مازال صوتها وهي تنطق جملتها الوحيدة املختنقة واملتوسلة( :يا خالتي لوين آخدينو؟؟) يتكرر بال توقف في ذاكرتي، ال أدري ملاذا صمتت ،بعد أن أجابها ضابط ً املخابرات ساخرا" :ال تخافي ،فنجان قهوة بس" ،يبدو أنها أيقنت :أن ال فائدة من
92
أال أسمع صوت أزيز الكبل وصفيره وارتطامه ،لكأنني اقتنعت أن ال جدوى من الصراخ وال من التوسل؛ فتركت جسدي لهم، ّ تخليت عنه ،هجرته ،تركتهم يفتتونه كيفما يشاؤون ،أصبحت جثة صامتة.
الحديث معهم؛ فصمتت .لكن دموعها ظلت ً تسيل بهدوء ،لم تقل شيئا ،راحت تراقبني وأنا أخطو خطواتي األخيرة باتجاه سياراتهم. مشيت بين حشد عناصر املخابرات الذين ً صامتا ،أنا اآلخر ّ تحجبت جاؤوا العتقالي بالصمت .ثم ما إن أصبحت داخل إحدى السيارات حتى بدؤوا بضربي ،أحكموا وضع ش يء ما سميك على ّ عيني؛ منعني عن رؤية أي ش يء من حولي ،ووضعوا ّ يدي خلف ظهري، وقيدوهما بقيد معدني ضيق ،وكبسوا رأس ي؛ ً ّ ً ّ متكورا ،يداي تنتفضان أملا بسبب فتصيرت حديد القيد املغروز فيهما ،وضرباتهم تنهال ّ علي كيفما اتفق.
جولة تعذيب أخرى ...وتعقبها أخرى ...والنهار ً يمض ي بطيئا ،وعندما يرتاحون بين جولة وما ً ً بعدها ،يتركونني متكورا وعاريا إال من سروالي الصغيرّ ، ويدي مقيدتين وراء ظهري ،فأحاول التكور أكثر لكنني ال أستطيع؛ لم يعد هذا الجسد املدمى جسدي :لم تعد يداي لي ،وال رأس ي لي ،ولم تعد أي قطعة من هذا الجسد لي. وكان الليل قد ل ّيل ،عندما انتهى يوم عملهم؛ ّ إبطي ،وسحبوني من فأمسكني اثنان من
عندما وصلت السيارة إلى باحة فرع املخابرات العسكرية في الالذقية ،فتحوا بابها ،وبركلة ُ قوية من أحدهم قذفت خارج السيارة ،ثم أنهضوني ،وبما يشبه السحل سحبوني إلى جوف البناء ،وإلى غرفة التحقيق.
الطابق الثالث إلى املنفردات في الطابق األرض ي ،وفتحوا باب إحداها ،ونزعوا القيد عن ّ يدي ،والطميشة عن ّ عيني ،وألقوني على أرضها ،ورموا ثيابي فوقي ،وغادروا.
جولة من التعذيب ،ثم أخرى ،وأخرى؛ فهم في البداية ال يريدون منك إال أن تنهار ،وأن تتوسل ،وأن تستغيث ،ثم بعدها ،بعدها فقط ،يسألون ،ويباشرون.
ينتفض جسدي تحت موجات ألم تتواتر بسرعة ،أشعر أن كتل اإلسمنت املسننة ً املزروعة عمدا في أرض الزنزانة اليابسة، تمزق جسدي لكنني ال أقدر على تحريكه. ً أسمع أصواتا قريبة مني ،ثمة أشخاص يتهامسون ،ثم يرتفع صوت أحدهم أكثر، ويسأل:
وأنا في البداية صرخت ،وصرخت ،كان صفير اختراق الكبل -الذي أجلد به -للهواء قبل ً ً وصوله إلى جسدي يبعث في نفس ي رعبا هائال، ُّ سكت ،حاولت ثم بعد أن تعبت من الصراخ،
93
-
هل غفوت ،أم غبت عن الوعي ،أم ...أفتح ّ عيني في الظلمة ،ال أدري أين أنا ،كل ش يء غائم ،لكن صوت قرقعة حادة ملفتاح في قفل باب زنزانتي يذكرني أين أناَ ،ي ِص ُّر باب الزنزانة املعدني بصوت حاد ،ثم أشعر كما لو أن حزمة من ضوء تسقط على وجهي ،أحاول ً فتح عيني املتورمتين عبثا ،لكنني أشعر أن
أنت ...شو اسمك؟
ً أحاول أن أقول شيئا ،لكنني ما إن أفتح فمي حتى أشعر بألم حاد في فكي؛ فأصمت.
يسألني مرة أخرى بصوت أقوى: -
أنت يا جديد ،...شو اسمك؟؟
اللوحة للفنان اإلماراتي عبد الرحيم سالم
ً أحدا ما يقف عند باب الزنزانة ،وأسمع ً صوت تنفسه ،يصمت قليال ،ثم يسألني بلهجته املتغطرسة:
أقول بكل قدرتي: -
اسمي بسام يوسف.
ال يخرج صوتي ،محاولة الكالم تبعث في فكي ّ ً متكورا موجة حادة من األلم ،أصمت ،وأبقى بال حركة.
-
94
هنت من الديلي...؟ (أنت من الدالية؟)
وعلى الرغم من محاوالته كلها ،وفنونه في التعذيب كلها ،فإني لم أتمكن من تذكر حليب رضاعتي؛ لكي أستجيب إلى طلبه بنسيانه ،ويبدو أنني قد نسيته قبل أن ألتقي ً هذا الجندي األسدي الباسل ،لم أكن قادرا ً على أن أتذكر شيئا ...لقد كنت أنتفض تحت لسعات ألم ال يوصف فقط ،لقد كان جسدي يتمزق ،وصرخاتي التي أطلقها ً معتقدا أنها تمأل سماء هذا العالم ،لم تكن أكثر من أنين عميق متواصل...
أهز برأس ي باإليجاب ،ولكن رأس ي ال يتحرك؛ فيركلني بحذائه على قدمي: يا ّكر… مسألك :هنت من الديلي...؟؟ أصمت؛ فيركلني مرة أخرى بقوة ،وينتفض جسدي بموجة ألم حادة ،وأواصل صمتي، ً فيركلني ركلة أخرى أشد عنفا ،ثم وبصوت أقرب إلى العواء: -
متطلع ضد الرئيس يا عرص ...وهللا ّ لنسيك الحليب اللي رضعتو ...وهللا ألعدمك.
وهو ،الجندي الباسل ،ككلب مسعور يواصل لهاثه ،والكبل الذي بيده يهوي بكل ما يستطيع من القوة ،وجملة واحدة يرددها بال توقف:
ينخبط باب الزنزانة بقوة ،ثم يقرقع مفتاحها مرة أخرى ،وتعود الظلمة ،بينما تبتعد خطوات من سينسيني حليب الرضاعة. أعود إلى غيبوبتي مرة أخرى ،لكن بطل نسيان الحليب ،يبكر في طلبي ،لم يكن موعد بدء ً العمل صباحا قد حان ،عندما تم اقتيادي مرة أخرى إلى غرف التحقيق. كان ّ يفح مثل أفعى وهو ينهال بكبله الرباعي ً فوق جسدي الوحيد املطروح أرضا: -
-
آيليييييي ضد السيد الرئيس؟؟!!
لم تكن سوريا حاضرة ،وال اإلمام علي ،وال الوطن ،وال أي ش يء ،وحده السيد الرئيس ُيعلن عن حضوره الطاغي بعنصر مخابرات مسعور ،وبكبل يستطيع أن يفتت لحم ضحيته :إنه الرئيس ،الرئيس األوحد ،الفرد الصمد ،املالك السيد ...ونحن عبيده الجاحدون املارقون الكافرون به ،نحن الناكرون فضله ّ ومنه وخيره ...نحن من نتنفس هواء ،ما كان ليكون ،لوال عطاءاته وفضله.
وهللا لربي الديلي فيك ...ولك هنت ضد السيد الرئيس ...؟؟!! ما عجبك تطلع إال ضد السيد الرئيس...؟؟ وهللا بقبل تطلع ضد اإلمامو علي ،أما تطلع ضد السيد الرئيس!!! العمى بعيونك العمى...
95
أشهق بعد دفقة ماء باردة على جسدي الذي تتوهج جروحه كجمر ،تؤملني دفقة املاء الباردة أكثر من ضربات الكبل؛ فتسحبني من غيبوبتي ،وأجاهد بكل ما أستطيع لكي أفتح عيني ،لكنهما تظالن مغلقتين ،وإن كنت ال ً أعرف يقينا ،إن كنت قد تمكنت من فتحهما ً أم ال؛ فالظلمة التي أغرق فيها ال تنقص أبدا، وذاكرتي التي تبحث عن ش يء ما؛ لكي تحدد أين أنا ،ال تعثر على أي ش يء ،وتغيم ،وتدور قبل أن تباغتني دفقة ماء أخرى؛ فأشهق مرة أخرى ،وأشعر كما لو أنني بال ذاكرة ،ال ش يء
في صباح اليوم الثالث من اعتقالي فتح ً السجان باب زنزانتي ،وهو يزعق طالبا مني الوقوف ،حاولت فتح ّ عيني فلم أستطع ،كان الورم قد تضاعف ،ولم تنفع ركالت السجان وال زعيقه وال شتائمه وتهديداته ،في سكب ما يكفي من القوة في جسدي؛ لكي أنهض ،كنت ً ً ً جسدا متيبسا ومتورما ،وكانت كل خلية فيه تنتفض بلسعات ألم ال تحتمل ،وهكذا اضطر إلى االستعانة بعنصر آخرّ ، فجروني مثل كيس ،كنت أصرخ مع كل خطوة ً يخطوانها ،لكن صرخاتي ،هي أيضا ،كانت أعجز من أن تتجاوز ذلك األنين العميق الذي ال يتوقف. ً وكان يوما آخر من الجحيم في غرفة التحقيق ،فالجسد الذي تفتت ،وتورم، وتفصدت جروحه ،قد فقد- خالل يوميه املاضيين -طاقته على التحمل كلها ،لقد كانت ُ ّ لسعة الكبل ،الذي يهوي فوق الجروح ،تفجر ً أملا ال يمكن وصفه ،وال يمكن لصراخ في العالم أن يقوله ،وال يمكن ألي آلهة أن ً تخفف بعضا منه ،ثم بعد قليل من بدء جولة التعذيب ُيعلن الجسد املنهك زوغانه؛ فيعطل حواسه كلها؛ ليفعل آخر ما يمكنه فعله.
حولي ،والعالم أسود وحارق ،لكنني أستعيد ً ً شيئا فشيئا قدرتي على التذكر ،بعد أن أسمع صراخهم وشتائمهم ،أتذكر أين أنا، وألعن حظي؛ ألنني ما زلت على قيد الحياة. في جولة أخرى سوف يغمى ّ علي ،وسوف ُيسكب فوقي املاء البارد مرة أخرى ،وسأسمع
96
سيل الشتائم املصحوب بركالت أحذيتهم، ً وستظل جملتهم املستنكرة تتردد دائما: -
ضد السيد الرئيس!!؟؟
-
قلتلي هنت ضد السيد الرئيس!!!
قرروا عالجي في الزنزانة ،ومن يتولى أمر عالجي هو سجين آخر ،عرفت أنه طبيب، ً ً سيكون هذا مهما جدا لي ،ثمة ش يء آخر بالغ األهمية وهو أن الطبيب السجين الذي يعالجني ،قد استطاع أن يدخل إلى زنزانتي نصف بطانية عسكرية وجدها فوق سطح الزنازين ،وهكذا استطاع بها وبما ّ لدي من ثياب ،أن يخفف من حدة النتوءات القاسية في أرضية الزنزانة.
ً ال أدري ،ملاذا يصرون على ترديدها دائما، لكأنما يحتاجونها؛ لكي تحفز فيهم القدرة على سحق اآلخر بال رحمة ،إذ ما إن يصرخ بها أحدهم حتى تنتابهم موجة هيجان جديدة، ً تتحول إلى عنف مجنون ،ينصب انصبابا فوق الجسد املقيد أمامهم ،وما إن تبرد ً ضغينتهم ضده قليال ،حتى يبادر أحد ما ليحفزهم من جديد ،فيطلق املعزوفة عينها:
صرت أجلس في زاوية الزنزانة ،أسند رأس ي على ما يشبة وسادة ،صنعها لي الطبيب السجين من قميص ي الداخلي ،بعد أن حش ى ً به فردتي حذائي وربطه جيدا ،فحذائي لم ً يعد له أي فائدة؛ ألن ّ رجلي املتورمتين كثيرا، لم يكن باإلمكان إدخالهما في فتحته.
لتبدأ معركة جديدة بينهم وبين الجسد املسجى أمامهم. ً ثم أحضروا شخصا ما لرؤيتي ،أظنه كان ً طبيبا ،وقد كنت ،كتلة من اللحم املدمى مشلوحة فوق بالط وسخ في غرفة تحقيق قذرة ،غير قادر على الحركة ،عندما اقترب مني شخصان ،قلبني أحدهم بعنف ،ليرى الجهة األخرى من جسدي ،وسمعت ً الشخص اآلخر يقول له هامسا: -
هنا ال يمكنك أن تعرف الليل من النهار ،ثمة مؤشر وحيد يمكنك أن تستدل به على الوقت ،إنه مواعيد قدوم الطعام ،أو مواعيد التحقيق ،ما تبقى هو زمن لأللم والعتمة والصمت والذاكرة. ً أجلس في العتمة الدائمة ،أحيانا بعد أن ً قرروا أن يتركوا باب زنزانتي مفتوحا؛ كي يتمكن الطبيب من مواصلة عالجي ،وكنت ً أطلب منه أال يغلق الباب تماما ،حتى يتسرب الضوء الخافت من خالل الشق الصغير.
أوقفوا التعذيب ،لقد بدأت جروحه تلتهب ،سيكون األفضل لو نقلناه إلى املشفى ،أعرف أن هذا غير ممكن ،لكن ً عالجه أصبح ضروريا.
97
98
آداب وفنون
99
100
القراءة التفاعلية وداللة النص
د .يوسف إمساعيل
إن ما نحاول استفزازه في تلك المالحظات السريعة هو تحريك القراءة النمطية المظهرية إلنتاج قراءة مخاتلة تتقاطع مع السابقة وتفيد منها ،وقد تسير بالتوازي معها أو تناقضها .ولكن ذلك كله في إطار المعطيات الموضوعية والعناصر الفاعلة في داخل النص بغض النظر عن سياقه الخارجي إال بالقدر الذي يستدعيه السياق الداخلي للمكونات اللغوية واألسلوبية.
على الرغم من أن تراثنا النقدي البالغي حافل باإلشارات إلى مشروعية حضور داللتين متناقضين في النص الواحد كأسلوب املدح والذم حيث تمدح ظاهريا وتقدح باطنيا وكالتورية والكناية ..إلخ، ولكن تلك األساليب لم تؤسس مفاهيم منهجية للقراءة وظلت في إطار الصيغ والعناصر املنفصلة عن بعضها بوصفها محسنا بالغيا أسلوبيا يسم جملة أو مفردة ولكنه ال يخرق نظاما دالليا كليا لحوامل النص وبنيته الداللية املركزية.
101
إلنتاج قراءة مخاتلة تتقاطع مع السابقة وتفيد منها ،وقد تسير بالتوازي معها أو تناقضها .ولكن ذلك كله في إطار املعطيات املوضوعية والعناصر الفاعلة في داخل النص بغض النظر عن سياقه الخارجي إال بالقدر الذي يستدعيه السياق الداخلي للمكونات اللغوية واألسلوبية.
ووفق ذلك فإن القراءات التي تندرج في ذلك ّ اإلطار ركزت على النصوص التي تعلن خطابها ً الخفي تصريحا كموقف املعري من ابن القارح في رسالته وكأساليب التورية وفنونها في شعر العصور العربية املتأخرة .إال أن ذلك كان يعمل جزئيا في النص ولم ّ يفعل نقديا إلنتاج منظومة مفهومية متكاملة ملشروعية القراءة لخطابين متناقضين في النص الواحد. ولذلك فإن حوامله املعرفية كانت ضعيفة كنتائجه واقتصر على املدح من حيث يراد القدح والعكس غير وارد ،أو املعنى البعيد واملعنى القريب .وذلك ال يحمل شمولية في يمس الخطاب بوصفه ً ّ نتاجا الداللة وال ً مقروءا عبر اإلشارات مرة أخرى أو ما نسميه ً سيمياء التأويل انطالقا من العبارة إلى اإلشارة في النص مع اإلفادة من املوسوعة املعرفية للقارئ املؤول.
وسنرى ذلك في النص التالي .يقول الخبر)1(:
( ُحكي أن املأمون طلب من علي بن هشام أن يعمل له دعوة ،ولم ُيمهله الزمان الذي كان يمكن أن يحتفل فيه لدعوته ،فلما دخل املأمون َ ّ دار ّ التجمل ما علي شاهد من آالت ً أحدا ًً ُ ُ تبلغ ظننت أن حار له ،فقال :ما ُ مروءته ُ ونبله إلى ما أرى .فخاف محمد بن عبد علي من املأمون فقال :يا َ امللك على ّ أمير ًّ عليا شعر بأنا نهجم عليه، املؤمنين إن ّ فاستعد لنا ،واستعار ،فلم يفطن عليّ ّ وظنه يذهب إلى االستنقاص ملقصوده، ّ َ بمروءته ،فبذر ،وحلف برأس املأمون ،إن ً كان استعان بأحد في ّ تجمله ،واستعار شيئا. فلما جلسوا على الطعام غمز املأمون أبا َ أحمد ولد الرشيد ،فقال أبو أحمد :أشتهي ً ْ فنقلت ِصحاف ( )2املخ ،وهو يأكل ُمخا، ويستزيد ،فلما شعر الطباخ بمقصوده ،قال ألستادار(ّ )3 علي بن هشام :ويحك إن هو ال، ّ إنما قصدوا الزري( )4على مروءة سيدنا
وكان من نتائج ذلك أن هيمنت قراءة نمطية على تراثنا األدبي تعلي من شأن القراءة املظهرية وتقف عند العناصر األدبية في النص بوصفها عناصر مستقلة وجزئية فاعلة بذاتهاّ . وأدت النمطية كذلك إلى التكرار ً وإعادة إنتاج ما هو ّ مكون سابقا ،ناهيك عن إمكانية االختالف في الرؤى واألصوات. إن ما نحاول استفزازه في تلك املالحظات السريعة هو تحريك القراءة النمطية املظهرية
102
ّ ونبله ،وال ينبغي لنا أن نمكن من ذلك ،وقد ُ ذبحت كل ما عندي ،ومألت الصحاف بمخه ،وهم غير مقتنعين ،وليس يمأل ُ عيونهم إال املخ املهر ّي؛ وكان لعلي مهر يسابق الريح ،وقد اشتراه بعشرة آالف درهم ،فقال له :وما انتظارك به ،فقال :نستأذنه ،فقال: ليس هذا وقت إذن! فبادر الطباخ إلى ّ الفصيل( )5فذبحه وخلص عظامه وسلقها واستخرج املخ .وصار يمدهم بصحاف املخ، وهم يأكلون ،وأبو أحمد يستزيد إلى أن استحيا املأمون ،وغمز أبا أحمد فأمسك). إن َ الشخصيات الفاعلة في الحدث ،في جميع ِ ً ٌ شخصيات ُم ّ عرفة لغويا ذلك النص ،هي ً ً ودالليا ،حاضرة بمسمياتها ،فال نجد ،عالقة ًّ عمودية بين فوق وتحت ،أو بين معرفة ونكرة .كما أن صيغ الخطاب في النص ال تجري على صيغ األمر ،وتسود فيها لغة ُ واصفة للحدثُ .يضاف إلى ذلك ّأن طبيعة ً الدعوة ليست منطلقة من املضيف إلى ٌ طلب املستضاف ،بل بالعكس ،هي عبارة عن ٍ من املأمون باستضافته من قبل علي بن هشام ،ومعه أبو أحمد ابن الرشيد ومحمد بن عبد امللك ،أي :أن العالقة القائمة بين ٌ ٌ أفقية ُ غير ِآم ٍرة .ومما الشخصيات هي عالقة يؤكد ذلك ّأن املأمو َن لم ينتظر ًّ عليا ُليعد ّ َ وجاء للدعوة ،وإنما فاجأه بالحضور، تعريضه بنقص املائدة مما يحبه أبو أحمد
ُ مازحة من خالل غمزه بصيغة ابن الرشيد ٍ ٍ ألبي احمد يبين ذلك أن املائدة هي مائدة أصدقاء يتالطفون في الحديث وال يوجد بينهم سيد ومسود .ويدعم تلك القراءة طلب املستضاف تجهيز دعوة من املضيف .وهذه ال تحدث إال بين األصدقاء .وتؤكد ذلك املفاجأة بحضور املأمون وصحبه إلى دار علي بن هشام قبل تحديد موعد الدعوة أو منح الوقت الكافي للتجهيز لها .وكذلك املمازحة من خالل
103
النص .القسم األول يبدأ من لحظة دخول املأمون دار علي واندهاشه بما شاهد. والقسم الثاني من اللحظة التي غمز فيها املأمون ابن الرشيد ملمازحة املضيف .أما ما تقدم من بداية الخبر إلى حين دخول املأمون َ دار ّ علي فهو بمثابة التوطئة للحالتين اللتين تهيمنان على النص .الحالة األولى التوتر والثانية االنفراج.
التعريض بمائدة علي بن هشام ،وال يفعل ذلك إال الصديق ّ املقرب. القراءة تشير املظهرية إذن إلى أن املأمون هنا حاضر بصفته ً االجتماعية بعيدا عن أي مظهر سياس ي سلطوي. غير أن ما يثير الشك في صوابية ذلك اإلشارة العابرة التي وردت في النص في سياق تدخل الراوي وتثير االنتباه لتفصل القول بين خطابين يمكن القول بأنهما متناقضين ،وهي (فخاف محمد بن عبد امللك على ّ علي من املأمون) بل هي عبارة تفصل بين خطابين ظاهر وخفي.
التوتر :إن اجتماع الصحبة ـ ظاهريا ـ املؤلفة من علي بن هشام ومحمد بن عبد امللك وأبي أحمد ولد الرشيد واملأمون جاء بناء على طلب من املأمون ،أي أن الضيف يطلب من املضيف أن يعمل لهم مأدبة .وقد نفسر ذلك لصالح الحضور االجتماعي للمأمون بين حاشيته وأصحابه وربما يدعم ذلك ظاهريا أن املأمون لم يمهل عليا لكي يجهز للدعوة بل فاجأه بالحضور من دون إشارة إلى قدومه. ّ وهنا يجب أال يغيب عنا موقعه السيادي وفق دوره شخصية فاعلة في النص أي أنه طالب الدعوة نيابة عن اآلخرين ،ثم مبادرته بقيادتهم أو جمعهم للذهاب إلى علي من دون موعد سابق. ً ولكن عليا فاجأ املأمون من دون قصد وأدهشه وحيره باستعداده املنجز .فماذا كان رد فعل املأمون؟ قال املأمون (ما ظننت أن ً أحدا تبلغ مروءته ونبله ما أرى) القراءة
إال أننا بحاجة إلى اكتشاف اإلشارات النصية التي تسمح لنا بقراءة الخطاب الخفي في النص ،ذلك الخطاب الذي لم يصرح به صاحب الخبر وال يمكن الوصول إليه إال عبر االنتقال من العبارة الواضحة إلى اإلشارة الحاملة لدالالت النص املوازي واملخفي خلف ّ املصرحة بالخطاب املظهري. العبارات ِ كإجراء تحليلي سنقسم النص إلى قسمين طبقا لحالتين تسم العالقة بين شخصيات
104
يكون لعلي عين عند املأمون .وهذا ال يمكن التسامح بشأنه وليس بعدا اجتماعيا لحضور املأمون هنا وإنما له داللة واضحة للحضور السلطوي السياس ي للمأمون الخليفة ، وخاصة أن املأمون لم يمهل عليا الزمان ليستعد .ونستطيع تأكيد ذلك حين يكون بإمكاننا تبديل قول املأمون (ما ظننت أن ُ أحدا تبل ُغ مروءته ونبله إلى ما أرى) بعبارة أخرى وردت في رواية أخرى من املخطوط الذي ورد به ذلك النص ،وتقول العبارة (ما َّ ظننت أن أحدا تبل َغ من املأمون ) ( )6وهي العبارة ذاتها لفظا ولكنها ناقصة مع تغير بنية الفعل تبلغ مما أدى إلى اختالف خطاب العبارة من الظاهر إلى املكنون .ولكن يجب التنويه أيضا إلى أن املأمون لم يكن يشك في ّ علي قبل دخوله داره ،فهو حين طلب تجهيز دعوة كان مرهقا من أعباء السياسة وبحاجة إلى الخروج من متاعب السلطة وال مساحة له في ذلك إ مع أصدقائه أو حاشيته .والدليل ً على ذلك انه لم يمهل عليا ،إذ سرعان ما خرج إلى بيت علي؟ وكان يمكن أن ينس ى األمر إلى أن يذكره ربما علي أو محمد بذلك .أال يعني ذلك إذن أن توجس املأمون حضور سياس ي له وكذلك خوف محمد على علي؟ ومما يخاف عليه من غير بطش املأمون لتوجس أدركه في نفسه وإن ّ عبر عن حيرته بخطاب ظاهره مدح لعلي وباطنه قلق وتوجس .ولذلك كان رد
املظهرية لهذا القول تؤيد قراءة حضور املأمون في الدعوة ببعده االجتماعي من دون بعده السياس ي السلطوي ،ولكن ما ينفي ذلك ً سريعا الجملة التالية لقول املأمون التي تعبر عما انتاب محمد بن عبد امللك من خوف على علي (خاف محمد ...على ّ ّ علي . )..مما خاف محمد وما دواعي الخوف إذا كان املأمون هنا هو صاحب اجتماعي ال غير .يضاف الى ذلك ً أن عليا كان جاهزا بمائدته بل إنه فاجأ الصحبة؟ في الجملتين تنافر على مستوى الخطاب الظاهر ،واتساق على مستوى الخطاب الخفي ال يمكن ردم الفجوة بينهما إال من خالل إدراك البعد الذي فهمه محمد في قول املأمون ،وال شك انه غير ظاهر وإنما تخفى بجملة مدح لعلي من قبل املأمون. ويمكن فهم ذلك إذن بالسؤال التالي ما الذي فاجأ املأمون؟ هل ما شاهد من آالت التجمل عند علي؟ أم استعداد علي لحضور املأمون وكأنه على علم مسبق بموعد حضوره؟ .ولكن الذي خلق الفجوة في حالة التلقي هي العبارة ً التي تشير إلى الخوف الذي انتاب محمدا، ذلك الخوف الذي ال نرى له مبررا إذا كان الخطاب الظاهر هو املقصود ،إن كان من قبل املأمون أو من قبل محمد بن عبد امللك. وبناء عليه يمكن القول إن املفاجأة التي شعر بها املأمون بعثت في نفسه الخوف من علي، فقد أثار ذلك في نفسه دائرة من الشكوك كأن
105
محمد ال يتسق مع خوفه وال مع واقع الوضع املادي لعلي إذ قال (يا أمير املؤمنين ً ّ إن عليا شعر بأنا نهجم عليه ،فاستعد لنا، واستعار) وهل كان علي بحاجة وهو من حاشية امللك وأصدقائه الستعارة ما يجمل به مائدة الخليفة وممن سيستعير؟ فإذا كان هو ال يملك ما يجمل به مائدة الخليفة فمن سيملك ذلك؟ وألن ذلك غير وارد وفق تلك الوضعية فإن محمدا أراد من جملته تغطية الخطاب الخفي في جملة املأمون وإبعاد القلق عن ذهن املأمون عبر تغيير املوضوع ونقله الى ما هو ظاهر للعيان حتى ال تتداعى أفكار القلق عند املأمون الى ما ال تحمد عقباه .ولكن على الرغم من محاولة النقل تلك فإن خوف محمد وإدراكه لتوجس املأمون انعكس على لغته من دون قصد إذ قال (شعر بأنا نهجم عليه، فاستعد لنا) فالهجوم واالستعداد لغة حربية بين متحفزين عدوين ال صاحبين .وما يدعم ذلك أيضا صوت الراوي إذ يقول بعد جملة محمد (فلم يفطن علي ملقصوده وظنه يذهب ّ إلى االستنقاص بمروءته فبذر وحلف برأس املأمون إن كان استعان بأحد في تجمله )..وهو يريد مقصود الخليفة؟ وفهمه الخاطئ أعلن براءته وبراءة محمد بن عبد امللك وأبي أحمد ولد الرشيد من شك املأمون بأحدهم .ولكننا ال نستبعد توجس املأمون من ّ أي منهم ألنه هو
املستحوذ على السلطة بكل صورها وتجلياتها ،وذلك االستحواذ يدعوه إلى الشك ً بأقرب الناس إليه وهو الذي خاض صراعا على السلطة ضد أخيه األمين انتهى بمقتل األخير ،كما أنه جزء من الصورة التاريخية للخليفة املستحوذ في الثقافة العربية السياسية. االنفراج :كما اتضح في القسم األول فإن التوتر كان سيد الخطاب الخفي بسبب الحضور السياس ي للمأمون في هذا النص وان
106
ً إذا كان جالسا مع أصحابه بصفته االجتماعية وليس السياسية؟ وهل كان يمكن ألبي أحمد أن يفعل ذلك من دون اخذ اإلشارة الخضراء من املأمون؟ ال شك أن تلك إشارات على الحضور السياس ي للمأمون في هذا النص على الرغم من أن الخطاب الظاهر ّيبن أن حضوره اجتماعي .ومما يؤكد ذلك أيضا أن املضيف ال يملك حضورا في سواد النص إذ لم يقدمه الراوي إال عبر صوته هو حين قال بأنه حلف برأس املأمون بأنه لم يستعر شيئا من أحد ،فصمته الشديد وغيابه فيزيائيا عن النص يشير إلى هيمنة الخليفة وخطابه وقلقه وتوجسه ومحاولة محمد تبديد تلك املخاوف وذلك القلق .يضاف إلى ذلك براءة علي من شك املأمون ألنه لم يفطن إلى البعد الذي فطن إليه محمد بن عبد امللك على الرغم من أنه ينظر إلى عالقته مع املأمون في بعدها العمودي الذي يربط بين طرفين (فوق× تحت) .وما كرم علي بذبح كل ما يملك من حيوانات مع مهره الغالي الثمن إال تتويجا لتلك العالقة ولذلك الحضور السياس ي للمأمون في النص ،آلن هذه املبالغة املفقرة في الكرم ال تكون بين األصدقاء وإنما بين طرفين: فوق وتحت .يستطيع من هو تحت أن يعوض خسارته من خالل محافظته على العالقة مع الفوق .ويفهم ذلك ـ بوعي أو دون وعي ـ استادار علي ويطلب ذبح املهر من دون العودة
كان ظاهريا هو حضور اجتماعي .ولكن بعد أن استطاع محمد بن عبد امللك إزالة التوترـ ولو مرحليا ـ أخذت الجلسة طابع املمازحة وهي الغاية املنوطة بها لالبتعاد عن هموم السلطة وأعبائها .ولكن على الرغم من ذلك ال يمكن القول بأننا سنرى في هذا القسم اآلن حضورا اجتماعيا للمأمون وإنما سنرى أيضا حضوره سلطة سياسية وفق إشارات النص وليس عباراته. في هذا القسم يغمز املأمون أبا أحمد ولد الرشيد إلطالق املمازحة ،وهو الذي يوقفها في ً ً أيضا .فهو ّ املخول سلطويا بفتح نهاية النص تلك املمازحة وإيقافها ،وال تملك أي شخصية أخرى القدرة على ذلك إال إذا كانت الشخصيات األخرى كلها حاضرة قي النص ببعدها االجتماعي بما في ذلك شخصية املأمون والعالقة بينهما أفقية .وهذا غير صحيح في تلك املأدبة على األقل أو هذا النص ،فالقسم الثاني يبدأ وينتهي بحوامل فعل األمر وإن اختفت صيغته .ففي بداية القسم الثاني يقول الراوي (غمز املأمون أبا ً أحمد ...فقال أبو أحمد :اشتهي مخا) وفي نهاية القسم الثاني والنص أيضا (استحيا املأمون ،وغمز أبا أحمد فأمسك) يضاف إلى ذلك السؤال التالي :ملاذا أشار املأمون إلى أحمد بذلك ولم يقم هو باملمازحة
107
اجتماعية /فئوية أو عنصرية .أي انه طرف في معادلة (فوق × تحت) بشكل دائم يمارسها وفق الجهة التي يقف فيها في هذه اللحظة أو تلك أو تمارس عليه .وال يمكن أن يتخلص منها إال عبر إحساسه بالندية والتوازي في إطار الحرية والدور الفعال له ولآلخر ـ وفي إطار التكامل اإلنساني .غير أن التقاط ذلك مرتبط بقراءة مكونات النص واالنتقال بدالالتها من العبارة إلى اإلشارة ،مع اإلدراك بأنها قراءة مخاتلة تحتاج إلى مفتاح مركزي يوجه القراءة الظاهرة إلى القراءة التفاعلية.
إلى سيده .ويبدو في القراءة الظاهرية أن موقفه نابع من عدم الرغبة في إظهار سيده بموقف البخيل ،ولكن أال يدرك االسادار أن سيده حريص على عالقته مع املأمون مهما كان ثمنها ولذلك يجب أن يتصرف بناء على إدراكه ذاك. وعليه فإن النص يحمل خطابين :خطاب ظاهر يقدم املأمون شخصية اجتماعية في هذا النص .وخطاب خفي يقدمه شخصية سياسية سلطوية .ويمكن تعميم هذه النتيجة على النصوص املشابهة من حيث تصنيف الشخصيات الحاضرة في النص ،ألن البعد السلطوي في عالقات اإلنسان حاضر بشكل مستمر في املجتمعات غير الحرة ،إن كان ذلك البعد سلطة سياسية أو دينية أو
اهلوامش
1ـ رسالة آداب املؤاكلة .بدر الدين الغزي .تحقيق عمر موس ى باشا .مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق .املجلد الثاني واألربعون . الجزء الثالث والرابع 1967ص 503ـ 524 2ـ صحاف :األواني التي يوضع بها الطعام 3ـ ـاألستادار :وظيفة من وظائف أرباب السيوف يتولى صاحبها أمر بيوت السلطان كلها من املطابخ والشراب والحاشية ،وهو الذي يحكم في باب السلطان ويحكم في غلمانه وباب داره ،وإليه أمر الجاشنكيرية ،وله مطلق التصرف في استدعاء ما يحتاجه كل من في بيت السلطان من النفقات .املحقق ص 515نقال هن القلقشندي .صبح األعش ى .ج 4ص20 4ـ الزري :زرى عليه عابه 5ـ الفصيل :يسمى الولد فصيال حين يفصل عن أمه بعد الرضاعة .وسمي الفصيل من أوالد اإلبل وقد يقال في البقر .ويريد في النص ولد الفرس 6ـ آداب املؤاكلة .بدرالدين الغزي .مخطوط رقم ق 2456الخزانة امللكية الرباط .ورقة 5
108
اخلادم األخرس رضوان عبيد ورغم مرور ستين عاماً على ظهور النص ألول مرة ،يبقى الخادم األخرس حاضراً وبقوة ليس على مستوى الفكر المختلف الذي صنعه بنتر برؤية العالم واإلنسان كحالة قلقة ،بل أيضاً باإلبداع التجديدي لفن المسرح العالمي.
في خمسينيات القرن املاض ي ،كانت إنكلترا قد استيقظت من صدمة حضاريةّ ، تجسدت بخروجها ً من الحرب العاملية الثانية ،دون أن تعي كليا أهمية العالم وتغيراته الثقافية التي نشأت بعد الحرب، بالرغم من انتصاراتها السياسية كمنظومة دولة .كانت ما تزال ترى بنفسها تلك اإلمبراطورية التي ال ً ً تغيب عنها الشمس ،لكن واقع األمر كان شيئا مختلفا.
109
لقد عاشت انكلترا مرحلة ما بعد الحرب بنوع من ّ والتعيش على التوهم أنقاض التاريخ وروعته وقوته ،لكن ظهرت في تلك الفترة فئة شبابية بدأت تدرك باإلحساس العميق مأساة انكلترا وترديها، ّ املتعيشة على فالثقافة شعرية شكسبير وتراجيديات مارلو وسخرية بن جونسون ،لم تعد تواكب التحوالت الضخمة في العالم ،والكبرياء اإلنكليزي ً بتاريخيته لم يعد قادرا على االستمرار في النمط القديم ،وما ساهم بتضخيم ذلك األمر ،هو نشوء عباقرة تحيط بإنكلترا وتصاعد حركات الفالسفة واملفكرين واألدباء الثائرين ضد سقوط اإلنسان.
ّ ً معبرا عن الرفض القطعي لكل خيالية ليأتي ما حملته الحرب لإلنسان .لقد كانت تجربة ً ُ العالم الغربي ثقافيا وباألخص املسرح ،تنذر بعودة مسرحية لنمط ما بعد حداثي، ُمسقطة فيه كل تجليات العمل املسرحي التقليدي ،وانهيار ملفهوم السينما الوليد. كانت إنكلترا في تلك املرحلة تراقب بدهشة ً غامضة األعمال األكثر إبداعية وتحديا فيما بينها ،كانت تشاهد الصراعات النصوصية واألسلوبية ملفاهيم العمل املسرحي لدى ّ الكتاب الذين امتلكوا حظوة التدخل املنهجي في عمل املخرج ،إنها مرحلة سيطرة النص بكل معنى الكلمة .تلك املراقبة الثقافية اإلنكليزية لتفاقم صراعات الوعي في األنماط الجديدة، كما جرت بين بريخت ويونسكو وخالفات التعبير عن املنهج الواحد بين سارتر وكامو ومنهجية التضاد بين أونيل وويليامز ،كانت جميعها تنصب بهدوء في الدائرة اإلنكليزية
فمن مرحلة البحث عن املعنى البشري ألدباء الوجودية إلى عبثة بيكيت بعد الحرب إلى حيونة اإلنسان عند بونسكو إلى السعي للتحرر لدى بريخت إلى قسوة الواقع عند ويليامز إلى امتهان اإلنسان لدى ميلر ،كانت أوروبا وأمريكا (بأدبائها وشعرائها ومسرحيها) القارتان الخارجتان من عمق معنى تهميش ي ً تعانيان فعليا من صعوبة بالغة في االستمرار كنمط قديم ،فكان الوعي الثقافي في بعض البلدان ماعدا إنكلترا ،يتصاعد بسرعة
110
املتابعة للتطور الثقافي ألوروبا وأمريكا ،دون معرفة منهجية للخالص من نير الكالسيك التاريخي لشكسبير ومارلو ،فأتت محاوالت خجولة وتجريبية كان من روادها "برنارد كوبس ،جون آردن ،أرنولد ويسكر ،جون أوزيورن" وغيرهم آخرون ،الذين ارتبطت أسمائهم بمسرح الرويال كورت ،بمن فيهم هارولد بنتر.
ربط بنتر شخوصه وحواراتهم بعملية فعل ممارس نشاهده أثناء العرض ،وهو فعل إنجازي يحمل تناقضات الشخوص في حبكتهم الدرامية ،إنهم على عالقة مع كل ش يء ،يؤثرون ويتأثرون بطريقة بشرية وإن أتت في بعض أجزائها كوميدية ،إنهم أكثر عقالنية في الخوف والبحث عن املعنى من شخصيات "في انتظار غودو" الذي جسدهم بيكيت في شخصيتي "استراغون وفالديمير"، ُ الذين ق ِّدموا كشخصيات دراماتيكية وراديكالية في عملية بحثهم عن املعنى ،لقد أخذوا معنى الوجود إلى أقص ى حد ممكن، وأصبح من املستحيل إعادته مرة أخرى .لكن ً بنتر كان حذرا في تلك املسألة ،وهنا تكمن فرادته رغم محاولته االستقاء من بيكيت. فشخصياته "بن Benو غس "Gusاللذان ينتظران أوامر ويلسون عن طريق الهاتف، ويمضيان الوقت في التشكيك والريبية الذاتية إزاء العالم ،يتعامالن مع املحيط املادي بصورة واقعية ومتسائلة عن الهدف النتظارهما دون تكرار للتساؤل كما نجده عن بيكيت .تلك الحالة أفردت للشخصيتين مساحة مستقلة للتفكير الحر ،رغم البنية الدرامية الخاصة لكل منهما والتي استقاها بنتر من شخصيات بيكيت ،فـ Gusأكثر هزلية وعفوية من ،Benو Benأكثر انتباه وذكاء من ُ .Gusتلك الثنائية التي افترضت في أغلب
لكن بنتر كان الوحيد الذي فكر بطريقة ً مختلفة نسبيا إلنقاذ التاريخ املسرحي ً اإلنكليزي ،فأتت أعماله خالل أربعين عاما الحقة لتتوج إنكلترا مرة جديدة كثقافة مسرحية أسست الستمرار ذلك الفن رغم التطور الهائل الذي تعرض له العالم فيما بعد وباألخص مراحل تصاعد السينما والتلفزيون. في النص الذي كتبه بنتر وصدر عام 1961 "الخادم األخرس "The Dumb Waiterرغم ً أسلوبيته التجديدية ،فهو ال يخلو أبدا من التأثر العميق بأعمال غيره من الكتاب وباألخص صاموئيل بيكيت ،وإن كانت ً الحبكة الدرامية مختلفة كليا ،لكننا نرى في النص ذلك التوجس املخيف من عالقة اإلنسان مع العالم الخارجي ،والريبية إزاء كل فعل يقوم به ،مع أنسنة للحوار والشخوص أكثر من عمل بيكيت "في انتظار غودو" .لقد
111
األعمال بعد الحرب، ونشاهدها لدى كثيرين ما عدا بريخت ،لم يستطع بنتر النجاة منها، إنها بمثابة ركيزة معرفية ضرورية للتعبير عن التشاؤم واالختالف البشري في ذلك الوقت. لم يقتصر تأثر بنتر في عمله ببيكيت فقط ،بل نشاهد في القسم اآلخر من العرض ،أثناء اكتشاف املصعد ،وعالقة الشخصيتين معه، نالحظ تلك التراجيدية االكتشافية مع توجسها من ذلك الجزء من الجدار ،إنها العالقة األقرب للتراجيدية األمريكية القاسية التي عمل عليها ويليامز وميلر في بلدان ما خلف البحار ،في نصوصهما ،لحظة االكتشاف الجديد هي لحظة انهيار اإلنسان ودخوله في دوامة من القسوة الحياتية التي لن ً يستطيع إليها حال ،وهذا بالضبط ما نقرأه في عمل بنتر ،داخل القسم الثاني من الخادم األخرس.
املصعد ،مرحلة إنجاز وتحقيق رغبة العالم الخارجي دون فهم ملا يقومان بذلك ،رغم أنه ليس عملهما .إن ذلك الجمع بين مشابهات بيكيتية وويليامزية ،خلق لدى بنتر النص املميز في مرحلة صعوده املسرحي .اللغة البسيطة والحدث الغامض والخوف من الخارج والتشكيك بالذات والواقع املجهول، إنها بالضبط ما كانت تحتاج إليه الثقافة اإلنكليزية في ذلك العهد. بالعودة إلى الخادم األخرس ،نالحظ تمحور شخصية Benالقلقة في ارتباطه بالجريدة التي هي منفذه الوحيد للتواصل مع الخارجي، معرفته بكل ما يجري ،على الرغم أنها معرفة سطحية تتجسد في الجانب املأساوي الغبي لإلنسان .إنها حوادث املوت بطرق غريبة وعنيفة ،فالرجل السبعيني الذي يمر تحت سيارة ويموت ثم الفتاة ذات الثمانية أعوام
إنها مرحلة انتقال من العبث الحياتي والتفكير دون جدوى ،واآللية التي يقومان بها ّ في عملهما دون تساؤل مطول واالنتظار ملخابرة ويلسون ،تصبح بعد اكتشاف
112
واضح أو حلول ،وفي لحظة شعورهما باليأس ووصل املخابرة من ويلسون بتلقي التعليمات التي ُتكشف بأن Benو Gusليسا سوى قاتلين مأجورين يقومان بعملهما دون أي ً تفكير ،وهو ما ُيعيدنا تدريجيا إلى لحظة البداية عند قراءة Benللجريدة وبحثه عن الحوادث واندهاش ُ Gusببعد ساخر ،وهي عالقتها بفكرة املوت من حوادث عفوية دون شعورهما من قذارة ممارستهما القتل ،ذلك التناقض البشري في املبدأ كان العملية الفاصلة في استقاللية نص بنتر عن مشابهاته ً البيكيتية والويليامزية ،وهو ما حدد فعليا أحد الخطوط الرئيسية ملسرح بنتر واملسرح اإلنكليزي فيما بعد. ً ورغم مرور ستين عاما على ظهور النص ألول ً مرة ،يبقى الخادم األخرس حاضرا وبقوة ليس على مستوى الفكر املختلف الذي صنعه بنتر ً برؤية العالم واإلنسان كحالة قلقة ،بل أيضا باإلبداع التجديدي لفن املسرح العاملي.
التي تقتل القطة ،هي محور املعرفة لـ Ben قبل أن يصبح انشغاله التدريجي بتفسير وقائع اللحظة التي يعيشها مع صديقه .Gus بينما تتمحور شخصية Gusالعفوية حول الرغبة البشرية اليومية بالتعامل مع األشياء، إنه لحوح اتجاه الشاي والبسكويت ،وتصبح ً شخصيته أكثر قلقا لعدم توفر الغاز ورائحة ً سريره الكريهة ،إنه ينتظر دائما التفسير العقالني من .Benعلى هذا املستوى تتصاعد الشخصيتين في ُبعدهما البيكيتي لينتقال إلى املستوى الويليامزي ويصبحا شبه عبيد اتجاه املصعد حيث يحاوالن تنفيذ األمور التي تأتي بأوراق لتحضير الطعام دون فهم واضح لطبيعة العالم الخارجي الذي يتواصل معهما، لكن يدلل بينتر إلى أن املصعد يرتبط بمطعم في األسفل دون معرفة املطعم ما يجري في الغرفة العلوية أو من هم األشخاص املاكثين فيها أو ما هي مهمتهم .ما أراده بنتر هو تقديم شخصيتيه على هذا املستوى فقط من االرتباك بالعالقة الخارجية دون تفسير
رضوان عبيد ممثل وخمرج مسرحي سوري ،يقيم يف سوريا
113
اللوحة للفنان السوري الراحل نذيرنبعة
114
سعال
رفعت إلغاز*
الترجمة عن التركية :نور عبداهلل
ال أدري إن كان من الفرح أم من الضغط الممارس والتحقيق معي على مدى خمس عشرة دقيقة ،بدأت أشعر بدغدغةٍ في حلقي ،وحرقةٍ تمتدُّ إلى األسفل، تخريش ،حكّة ..سعال ..قد جاء ..والتصق بحلقي!!
ّ ً هذا ّ السعال اللعين ،سوف يهلكني ،سيخرب بيتيُ ،ويخزيني ،يختار توقيته بحيث يقلب أموري رأسا على عقبُ .أعاني من مرض صدري ،التهاب في القصبات الهوائيةُ ، لست أدريّ ،ربما من التدخين ،أو من ّ تغير الجو ،أو من الرياح املوسمية ،أو من الشمالية ،لكن هذا ال يعني أن أسعل ليل نهار.
115
ً عندما أكون وحيدا في غرفتي وليس بجانبي من أستحي منه ،ال يصدر ّ عني أي صوتّ ،أما ً ُ حللت ضيفا على أحدهم ،أو قابلت لو ً لضرورات العمل شخصا ذا بنطال مخطط وربطة عنق ،وهندام أنيق، ً سأقوله وأبدأ بالهراء ،وال أعود قادرا على اإلمساك بزمام األمور املنفلتةّ ، وأول ما يتبادر إلى ذهني كي ال أرى القرف واالشمئزاز البادي على وجه الشخص املقابل هو أن ّ أشمع الخيط وأهرب. ً حدث هذا خالل السنين التي قضيتها عاطال عن العمل ،رأيت بريق أمل في الحصول على ّ الحارة في مدينة عمل في فندق في الينابيع يالوفا بوساطة قريب محترم لصديق لي، بدأت باالستعدادات لتجهيز نفس ي قبل يومين أو ثالثة ّأيام ،وفي اليوم املوعود سلكت ّ طريق منتجع يالوفا ،لم يتأخر مفعول بطاقة التوصية التي أحضرتها بالظهور ،فبعد أن قرأ املدير الذي كنت في غرفته بطاقة التوصية، أصغى إلى جرس الطعام الذي بدأ يدق ،وقال ً ّ فلتتفضل إلى الطعام ّأوال” .كان كل ش يء لي“ : ً في الفندق جميال ،هواؤه وماؤه وطعامه ،كنت قد نسيت سنين بطالتي ،وبدأت من جديد أحب الحياة ،وأعتاد على الناسّ ، ُّ حتى أنني ّ كونت صداقات خالل فترة الغداء ،وقد بدا لي ً صوت الجاز الذي كاد يثقب أذني لطيفا، وبينما كنت أشرب قهوتي أخبروني أن املدير
ّ عندها يلحظ ُّ كالحية السعال النائم في داخلي ً أوالَّ ، وبخبث يبدأ ثم املل ّتفة ،فيفتح عينيه ٍ بدغدغة حلقي ،يلتصق به ويبدأ بتخريشه، ًّ مرة فال يذهب ،أبلعه ثانية فال أبلع ريقي يذهب ،أقول “هاه” فال يختفي ،أقول “أهاه” فيزداد بعناد ،أحاول تجاوزه ب “أوهوو” ولكن دون جدوى ،ينفلت السعال املتسلسل ،ويا له من سعال ،كالقنبلة ،ليته كان كالقنبلة ،فهي مرة واحدة ،تعمل عملهاّ ، تنفجر ّ وتخرب ما تخربهَّ ، ّ ثم تختفي ،لكن سعالي ليس كذلك، ّ إنه كخرطوشة كستناء ،مفرقعة ،ما إن ً تنفجر ّ حتى تتسلسل مفرقعة ،فال يبقى للحديث ٌ طعم وال للمقابلة معنى ،أنس ى ما
116
ّ العائلة واألوالد ،ويخافون من تسكعهم في الفندق ،فأجبته“ :لقد انفصلنا” ،ولكي ُ يضمن الوضع أكثر قال“ :لن تكثر من الذهاب ً ّ اطمئنوا، واملجيء إلى اسطنبول إذا” أجبت“ : ً ً لن أقض ي الوقت ذهابا وإيابا إلى إسطنبول، بسبب وبال سبب ،بينما الناس في اسطنبول تتمنى القدوم إلى هنا” َ ض ِح َك وقال وكأن ً ً خاطرا خطر على باله“ :ال أريد ضيوفا ،”..كان ً جوابا يعجبه ،فقلت“ :أنا ٌ هارب يجب أن أجد منهم” ،فقال“ :يمكنك أن تهرب منهم ،لكنهم بعد اآلن سيتصلون بك ،لسبب ما يكثر أصدقاء من يعمل هنا” ،ولكي تتالش ى ريبته قلت“ :لن أكون بحاجة ألصدقاء ما دمت َ َ ً إذا فقد ّ كنا متفاهمين أعمل هنا” ،ض ِحك، ً على األغلب”،حاليا ستستقر في غرفة بثالث ّ أسرة ،فيما بعد ننقلك على غرفة بسرير واحد”ّ ”، حتى لو لم تنقلوني ،ال يهم” ً ً كان ُي َس ُّر لكل ش يء أقوله ،أنزل دفترا سميكا من الرف ،وسألني عن اسمي وكنيتي ،وكتب فيه ما أمليته ،وأضاف مالم أمله ،أوه ،سنتان من البطالة ،والضيق وا ِملحن كانت قد انتهت! وأخي ًرا ّ تنفست الصعداء. ال أدري إن كان من الفرح أم من الضغط املمارس والتحقيق معي على مدى خمس بدغدغة في عشرة دقيقة ،بدأت أشعر ٍ حلقي ،وحرقة ُّ تمتد إلى األسفل ،تخريش، ٍ ّ حكة ..سعال ..قد جاء ..والتصق بحلقي!!
يطلب رؤيتي ،دخلت إلى غرفة املدير بينما أزرر أزرار بدلتي التي فقدت لونها وشكلها بل ّ وحتى شخصيتها على مدار سنتين ،أشار لي ّ جاللة املدير إلى مقعد يتسع لشخصين مثلي وقال” ّ تفضل بالجلوس”. سؤاله ّ األول كان هل سأقبل بثالثمائة ليرة كراتب شهري أم ال ،نحن في سنة ..!1946ال أعلم إن كان يلزم أن أشرح قيمة الثالثمائة ليرة! ..ويضاف إلى الثالثمائة ليرة سرير نظيف أنام عليه ،حوض استحمام أدخله متى أشاء، صالة طعام يصدح فيها صوت الجاز ،هواء نظيف ،ووقت كثير للقراءة والكتابة. وبدون تفكير قلت“ :موافق”. ّ ّ ّ مهمة املهمة التي كنت سأتوالها هي باستطاعة أي شخص يعرف القراءة والكتابة ّ توليها .سألني عن تعليميّ ، وحتى ال أثير الريبة ّ ً ً اخترعت تعليما مناسبا للمهمة التي سأتوالها، وقلت” تعليم ّ متوسط” لو أنني أجبت بتعليمي الحقيقي ،للعب الفار في ّ عبه. سألني “ماهي الوظائف التي شغلتها إلى اآلن”؟ ً ّ متعددة” أجبت، “اشتغلت كاتبا في أماكن ّ وحتى ال أثير الشك في نفسه كان يجب أن ً أضيف عمال يتناسب مع مهمتي الجديدة، ً محام أيضا” وقد أعجبه أن “وعملت في مكتب ٍ محام من قبل ،ونظر أكون عملت في مكتب ٍ َ إلي بإعجاب“ :جيد”“ ،العائلة واألوالد؟” سأل، كنت أعلم أن مسؤولي الفنادق ال يحبذون
117
ً وجدته يحسب شيئا ما ”،أنت مريض إذن” قالها وهو ينظر َّ إلي بقسوة“ ،منذ زمن بعيد عانيت من مرض ،لكنني شفيت”“ ،من الواضح أنك لم تشف بعد ،البد أن تفحص رئتيك”. ً “معكم حق ،يجب أن أفحصها” قلتها محاوال ً ً التملص من الحديث“ ،ال تضع وقتا أبدا” ً ً ألقى نظرة وهمية على الدفتر أمامه واستكمل“ :لقد أخذت اسمك وعنوانك، هناك متقدمون آخرون على هذه الوظيفة، سوف نعلمك بالنتيجة على عنوانك” ،لم يكن ً معنى فنهضت ،قال“ :مع قد بقي لجلوس ي السالمة ،سوف أعلمك بالنتيجة” وهو يرجع خطوة للوراء كي ال يصافحني”،ال تكلفوا نفسكم ،النتيجة واضحة” قلت ..كانت القلعة التي بنيتها في خيالي قد ّ تهدمت على رأس ي بسبب سعال.
صدر عني “هاه” خفيفة ،فلم تنفع“ ،أوهووو” دون جدوى ،..انفلتت “أوهووووو” متسلسلة ،فأحسست ّ بهزة كادت تقتلع رئتي ّ من مكانها ،سعلت بال انقطاع ،كلما سعلت ّ ً انقطعت أنفاس ي ،كان املدير يراقبني مقطبا ً حاجبيه ،استقام فجأة حمل إبريق املاء من ً كأسا من املاء ّ ّ ومده لي: وصب على املنضدة ً ّ “خذ رشفة” ،لكنه سحب الكأس الذي مده ً ّ ً ّ فجأة وكأنه تذكر شيئا ،ولكي أنقذه من هذا املوقف أشرت له بيدي أن ال حاجة ،مددت يدي إلى جيبي الخلفي أللتقط منديلي ،لم يكن هناك منديل في جيبي… ومتى كنت أجد منديلي في جيبي عندما أحتاجه!! أحسست وكأنني بهلوان سقطت عصاه وهو يمش ي على ً ً الحبل ،وبقي وحيدا عاجزا ،واآلن ماذا كنت ً سأفعل؟ ..قلت“ :عفوا” وهرعت إلى الخارج، ارتميت من الباب ،أحسسته ينظر ّ إلي بشفقة ،وعندما عدت ودخلت غرفة املدير
* رفعت إيلجاز :شاعر وكاتب تركي ولد في مدينة كاستامونو عام 1911وتوفي في اسطنبول عام 1993صدر له العديد من الروايات ودواوين الشعر والقصص الفكاهية وقصص األطفال ،وقد عرف بروايته مدرسة املشاغبين التي أصبحت ً ً مسلسال فيما بعد ،درس في دار املعلمين وعمل معلما للمرحلة ً اإلعدادية وبعدها مديرا للمدرسة ،بعدها درس في كلية اآلداب ودرس في الجامعة ،من مؤلفاته :في الشعر :الصحبة -1943 كان الصباح في أوسكودار -1954منبهر -1962في أوتار آذاننا 1983ومن رواياته :مدرسة املشاغبين -1957بيجامات-1959 البحراألسود -1969الليالي املظلمة -1974عمارة األطفال -1984نصرالدين خوجا وتالميذه (جحا وتالميذه) .1984
118
الشجرة الخضراء إعداد :جوان أمحد حسني
شخصيات العمل الولد :طالل البنت :رندا ّ شخصيات أخرى :املعتقل ـ شخصيات مسلحة الولد :وملاذا كنت تبكين؟ البنت :كنت أريد من أمي أن تشتري لي ثوبا أحمر. الولد :وملاذا لم تشتر لك ثوبا أحمر؟ البنت :قالت لي أميّ ،إن شراء الخبز أكثر ّ أهمية من شراء ثوب أحمر (صمت) الولد :أنا أحب اللعب .فهل تلعبين معي؟
(تقف الطفلة بجانب صخرة وتبكي.... فجأة يظهرطفل) البنت :من أنت؟ الولد :اسمي طالل ،فما هو اسمك؟ البنت :اسمي رندا. الولد :ملاذا كنت تبكين؟ البنت :ضربتني أمي الولد :ملاذا ضربتك؟ ّ البنت :ألنني كنت أبكي
119
البنت :زعلت؟ كنت أمزح ...أتستطيع أن تركض أسرع مني؟ (يركض االثنان ضاحكين حول شجرة خضراء) البنت :أنا اآلن ملكة.. الولد :وأنا اآلن قائد جيوش امللكة. البنت :اهجم بجيوشك على األعداء. الولد :هجمت جيوش ي على األعداء وانتصرت ّ عليهم وها هم آالف األسرى أذالء يركعون أمامك. ّ البنت :إني أعفو عنهم .وأمر بإعادتهم إلى بيوتهم وأوالدهم
(تهزرندة رأسها موافقة ...يلعبان ....تقلد البنت صوت عصفور ....يقلد الولد نعيق الغراب) البنت( :تشير إلى السماء) انظر إلى هذه الغيمة البيضاء! ما أجملها. الولدّ :إنها ليست غيمة. البنت :إذا لم تكن غيمة ....فماذا تكون؟ الولدّ :إنها طير أبيض كبير. البنتّ : ولكنني ال أبصر جناحيه! الولدّ :إنه يطير ّ بمحرك..... البنت( :تضحك) ...أنت أبله (يزعل الولد)
120
الولد :ال أريد أن أموت البنت :بل ستموت وأزور قبرك وأضع عليها وردة بيضاء. الولد :ماذا ستفعلين لو كنت وردة؟ البنت :سأنبت فوق ّ قمة جبل ال يستطيع بلوغها ّ أي إنسان الولد :ما الفائدة من وردة ال يراها أحد. البنت :ومن قال لك أن ال أحد سيراني .ستراني السماء الزرقاء والغيوم واألمطار والنجوم والشمس والقمر ...وستراني النسور (صمت) (يظهر رجال مسلحون ببنادق ..يبعدون ً رندة وطالل .يجرون رجال ممزق الثياب ويوثقونه بالشجرة ...يقفون مصوبين أسلحتهم باتجاه الرجل ...نار)
(صمت) ّ الولد :أنا اآلن شحاذ البنت :وأنا اآلن ّ غنية .أملك أربعين ّ جرة مملوءة بالذهب. (الشحاذ يطرق باب قصرالبنت) الولد :أريد رغيف خبز ....أنا جائع ....رغيف خبز ّ ّ البنت :البنت الغنية ال تعطي الشحاذ رغيفا بل ستعطيه ّ جرة ذهب الولدّ : جرة واحدة فقط؟ ّ ّ الشحاذ ّ الطماع ،أن الطمع البنت :اعلم ّأيها ّ ضر ما نفع... البنت :أنت اآلن ّ لص... الولد :أنا اآلن ّ لص ورجال الشرطة يطاردونني ويطلقون النار ّ علي ..وانتقل إلى املستشفى البنت :وهناك في املستشفى تموت..
ّ للقصة هي "الشجرة الخضراء" من مجموعة قصص بعنوان (دمشق الحرائق) العنوان األصلي للكاتب الكبير (زكريا تامر) الطبعة األولى .1973
121
اللوحة للفنان السوري الراحل نذيرنبعة
122
رسائل الليل والنهار حسني جرود
-1في األيام األخيرة ص غيري يسير في الشوارع شخ ٌ ص غيري يقرأ الكتب شخ ٌ كنت أعرف أنَّ هناك مرحل ًة أخيرةً في الفلسفة هل بلغتها؟ / ال أثق بأحد حتى بنفسي ليس لديَّ شيء أخسره لم أعرف مدينةً يومًا ش في بيت ولم أع ْ 123
ل َم أنا خائف؟ وما هي الجنة قبل أن ترسمها من قبلها عدم وبعدها عدم
أنا الكلب الذي ينتظرك أيَّتها الحضارة / أتخيَّل ضحكاتك في مكانٍ بعيد يا من تجهلين وجودي كم أنت ثرثارةٌ في هذا الصمت / كنت أظن أن الحياة حلم ثم صرت أقول :الحياة كذبة ربما‹‹ :حل ٌم كاذب›› ،اختصارٌ مناسب ال إنها حل ٌم جميلٌ جدًا لدرجة الكابوس / هل سأحيا إلى الغد، إن لم أعرف الحقيقة المطلقة؟ ال أجرؤ حتى على الهرب من الجنة قبل أن تطردني حواء /
-2في األيام األخيرة رسمتُ صورةً جميلة لعالمٍ زائل سرت في شوارع سائلةْ ورأيت الفتةً تغنِّي عرفت الصبر يغلي على الجبين رأيت النشوة الضائعة أمل الليل الكتيم ينزاح بين نهارٍ لم يصبح كالقادم من عتمات الغيب ونهار يتخفّى ملتئمًا في ألوان الريب
124
بأرض سماي؟ من قتل اآلخر؟ وأنا كنت اآلخر كان أناي ‹‹التاء المبسوطة ضحكةْ والتاء المربوطة شرفةْ وحياتي تبرز في وقفةْ›› من قال ألغنيتي عيشي إال اسْمَي / من قتل اآلخر؟ من قال ألغنيتي كوني؟ هي من قد جاءت كالسهم وأنا القلب الجاهز والمتخم للدمع هي راحت كالسيل نداءً وأنا ميعادٌ مجهولٌ ل ضيف في فص ٍ هل كنت القلمَ وكان السيف؟
/ جرَّبتُ العيشَ كحل ٍم بكرٍ صافٍ ل غافٍ جرَّبني الحلمُ كحجرٍ طف ٍ ونسينا الصيفَ وعشنا الصيفْ
-3في آخر أيامي العشرة تشظَّيتُ اثنين لفرط حياتي حلمٌ غام بعيدًا جس ٌد عام وحيدًا بعد نجاتي / من قتل اآلخر؟ من عرَّق كل أراضي القفر
125
بأنني أنسى وينسدل الستار / الحياة موقفٌ سخيفٌ وُضعْنا به / األحجار التي استندنا إليها تمتص الضوء ُّ / الغرفة التي فتحنا نوافذها هي عشٌّ للدبابير / الصوت الذي ال يسمعه سوانا يصمُّ اآلذان / ال أحب أن أكون جدارًا أستخدم الكوميديا
/ العودة من بحر الحب مجرد سقطةْ ومكاني في هذي األرض حديثٌ مرسل عالمي المجهول حديثٌ وقديمٌ جريءٌ وعقيمٌ مثرٍ معدمْ وأنا بين الحالين ألملم نفسي ت عن المعصمْ وأزيل الوق َ وأداري الصمتَ لكي يأتي ل األلقَ عن النقطةْ وأزي ُ ().
إسمنت فيا صديقي هكذا أنسى أقول ،يقول
126
أو منهم ال تملك خيال كلب / أن تحلَّ بعض المشاكل نهائيًا / أن تستمتع بأيامك وتنتظرها / أن ال تستطيع تخيُّل ما حدث / بعد أن التقى جدارًا عاد وفمه يثرثر كثيرًا ليقنعني بينما عيناه تضحكان
لتخفيف الموقف لكن عينيه ال تضحكان / الطريق الذي سيغدو بعد قليل بزَّاقةً تسبح في الملح / أن تعرف خطوط سيرٍ ال تحبها أن تفكَّ رموز السكان المستعمرين أن تنظر ببرود ألخبار الطقس رغم أنك تقيم في العراء / أن تنزلق إلى آتون اليومي وتنزل من القصيدة / أن تصبح واحدًا بهم 127
مسألة حظ / ستهدأ الريح ونخرج / مع أننا لسنا نمالً هذا ال يبشر بالكثير
الزاوية يجمعنا هذا الفصل ال الشوق وال الوقت وال المعنى / بقعة زيت تتوسع على رداء / إنه فصل كئيب كي يعيش في زاوية / أقول لنفسي: سأهرب.. لكن ليس اآلن.. خيانتي قنبلة موقوتة وحياتي
128
االنحياز إلى الحياة هيئة التحرير ال يمكن حصر دور وسائل اإلعالم عامة في دور ما ،أو عدة أدوار مجتمعة ،لكن يمكننا تأطير هذه األدوار كلها ضمن إطار عام واسع ،إنه باختصار :المساهمة بصياغة وعي وثقافة مجتمع ما. في زمن الحرب أو النزاعات الساخنة ،تغدو هذه المهمة بالغة الحساسية ،وبالغة الصعوبة ،وتحتاج أكثر من أي وقت آخر إلى حرفية عالية ،ووعي ومسؤولية عاليين. اإليقاع الصاخب للحرب وللموت ،يغيّبُ إيقاعات الحياة الهادئة ،ويخفّف كثيرًا من القدرة على سماع ما تبقى من األصوات ،لكنه ال يلغيها تمامًا ،في هذه المساحة من عدم اإللغاء يكمن دور اإلعالم. يجب أن ال يغيب عن اإلعالمي في كل الصراعات وعلى اختالف صيغها ،أنه نصير قيم الحياة وأنه ليس نصير هذا الطرف أو ذاك ،فاالنتصار للحياة ولقيمها ولمعاييرها اإلنسانية هو المعيار األساس الذي يجب البناء عليه دائمًا ،وتحت سقف هذا المعيار يمكن أن تتمايز االصطفافات ،ومن منا ال يعتقد أنه نصير اإلنسانية وقيمها في الموقف الذي يقفه؟؟ ،هنا المشكلة ...فالجميع يتوهمون أنهم وفوق أشالء اآلخرين يصنعون الحياة وقيمها. يمكنني القول إن المساهمة في تأجيج أي حرب أو عنف هو نقيض لدور اإلعالم ،وأن االنتصار ألي طرف هو مشاركة في تأجيج العنف والحرب ،من هنا تأتي المسؤولية العالية للعمل اإلعالمي في زمن النزاعات. على اإلعالم أن يساهم في تعزيز قيم الحياة؟؟ في تعزيز الحوار؟؟ وثقافة االختالف؟؟ وفي إضعاف صوت الحرب ليعلو صوت الحياة؟؟. "كلنا سوريون" ما زالت مصرة على عدم تغييب أوجه الحياة األخرى ،ما زالت حريصة على إبقاء مساحات للسينما وللمسرح وللشعر وللموسيقى و..و... "كلنا سوريون" انحازت إلى الثورة السورية بوصفها فعل لصياغة الحياة الحقيقية اإلنسانية.
129
اللوحة للفنان السوري محمد عماد محوك
130
131
132