قصة بيروت وحكاية لبنان تاريخ الفوضى والتناقض والحياة

Page 1

‫ﻗﺼﺔ ﺑﲑﻭﺕ ﻭﺣﻜﺎﻳﺔ ﻟﺒﻨﺎﻥ‬

‫ﻧﺼﻮﺹ ﻭ ﺷﻬﺎﺩﺍﺕ ‪..‬‬

‫ﻋﺎﺩﺍﺕ ﺇﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﺒﻨﺎﻧﻴﺔ‬ ‫ﻣﺤﻤﺪ أﺑﻲ ﺳﻤﺮا‬

‫اصدارات ‪:‬‬ ‫االعالم الجديد‬


‫سائقو الجحيم ومضافات االحياء‬ ‫في بالد الفوضى والتسيب )‪(١‬‬

‫وسط ما يعيشه لبنان اليوم من تخبط في معضالت وحوادث وفوضى ويأس من عدم‬ ‫القدرة على التصدي لھا ومعالجتھا‪ ،‬فينضاف جديدھا المفاجئ الى قديمھا المزمن‪،‬‬ ‫ھل يبدو ترفا ً وصف ما يبعثه سائقو الدراجات النارية من سُعار وفوضى ورعب‬ ‫في الشوارع‪ ،‬وكيف يمكن وصف “المضافات” الشبابية‪ ،‬األھلية واألمنية‪ ،‬المتكاثرة‬ ‫في األحياء الشعبية؟‬ ‫ً‬ ‫بداية‪ ،‬أين الترف في مشھد شاب أو فتى مراھق ينطرح فجأ ًة على االسفلت‪ ،‬وحيداً‪،‬‬ ‫مجھوالً‪ ،‬وبال حراك‪ ،‬بعدما كان قبل ھنيھات طائراً يسابق الھواء والزمن بد ّراجته‬ ‫النارية‪ ،‬يطوّ ح بھا منتشيا ً وسط الشارع‪ ،‬لتصدمه سيارة مسرعة‪ ،‬وتقذفه مع د ّراجته‬ ‫ونشوته امتاراً في الھواء‪ ،‬ليھوي ويرتطم رأسه باألرض الصلبة‪ ،‬او بحافة‬ ‫الرصيف؟!‬ ‫إذذاك‪ ،‬أال تتحطم حياة بكاملھا وسط جمھرة من العابرين الذين ربما تروّ عھم الحادثة‬ ‫المفاجئة‪ ،‬وتروّ ع سائق السيارة الذي قد يحاول الھرب خائفا ً مذعوراً‪ ،‬أو يترجل من‬ ‫سيارته مصعوقا ً ھلعا ً مسرعا ً نحو الشاب أو الفتى المجھول المنطرح ارضاً‪،‬‬ ‫يُحتضر مرتعشاً‪ ،‬أو بال حراك؟‬


‫نعم‪ ،‬إن سُعار استعمال الد ّراجات النارية وفوضاھا في الشوارع‪ ،‬ھو واحدة من‬ ‫كوارثنا المتناسلة وسط دبيب الفوضى الوطنية والسياسية واألھلية واألخالقية‬ ‫والقانونية الكبرى التي تتخبط فيھا البالد كل يوم‪ ،‬بل إنھا من نتائجھا المشھدية أو‬ ‫المشھودة‪ .‬فسائقو ھذه الد ّراجات المتكاثرة كالفطر في الشوارع واألزقة وعلى‬ ‫األوتوسترادات كلھا‪ ،‬يمتطونھا ويقودونھا مسعورين‪ ،‬كأنھم يخوضون حربا ً أو‬ ‫يذھبون الى الحرب‪ ،‬أو يفرّ ون من الحرب‪ .‬المقصود بالحرب ھنا‪ ،‬ليس كناية وال‬ ‫تشبيھا ً وال استعارة‪ ،‬بل الحرب الحقيقية والفعلية‪ .‬فالذاھبون الى الحرب‪ ،‬أو الفارّون‬ ‫منھا‪ ،‬تكاد تنطبق عليھم حال سائقي الد ّراجات النارية في شوارع لبنان‪ :‬الذعر‪،‬‬ ‫الفوضى‪ ،‬تعليق الزمن العادي والحياة العادية‪ ،‬والقوانين والمسؤولية‪ ،‬تضخيم‬ ‫الفردية واألنانية وانفجارھما على غير ھدىً في األماكن العامة والحياة العامة‪ .‬كأنما‬ ‫العالم مشرف على ھاوية أو كارثة‪.‬‬

‫نشوات قاتلة‬ ‫الحق أن اللبنانيين حين يخرجون صباحا ً من بيوتھم‪ ،‬يراودھم شعور بأنھم‬ ‫ينخرطون في متاھة من المفاجآت وغياب األمن واألمان في الشوارع المشرّعة‬ ‫على فوضى السير وازدحاماته‪ ،‬وإغالق الكثير من الطرق بحواجز اإلسمنت‬ ‫واألمن الذاتي‪ ،‬فتضيق مساحات المدن وضواحيھا وأحياؤھا وشوارعھا‪ ،‬ويشعر‬ ‫كثيرون بأن عليھم أالّ يسلكوا طرقا ً وشوارع خارج مناطقھم األليفة‪ .‬أما سائقو‬ ‫الد ّراجات النارية‪ ،‬وھم في معظمھم من الشبان والفتيان‪ ،‬فينفلتون كالجراد في‬ ‫االتجاھات كلھا على الشوارع والطرق‪ ،‬بعدما يئست إدارة السير في قوى األمن‬ ‫الداخلي من حمالتھا الكثيرة المتعاقبة لتنظيم انفالتھم الفوضوي العارم‪ ،‬وتقنينه‬ ‫والح ّد منه‪ ،‬لتنصرف تلك القوى الى الغرق في مستنقع المعضالت المستجدة في كل‬ ‫يوم وساعة‪.‬‬ ‫ما إن يمتطي شبّان الد ّراجات النارية وفتيانھا ورجالھا أحياناً‪ ،‬د ّراجاتھم ھذه‪ ،‬حتى‬ ‫يصيروا في ح ٍّل من أي وازع قانوني وأخالقي عام أو خاص وذاتي‪ :‬ال يتقيّدون‬ ‫باتجاھات السير‪ ،‬وال باإلشارات الضوئية القليلة أصالً‪ .‬يطلقون أبواق د ّراجاتھم‬ ‫متصل وسط السيارات المسرعة أو المتوقفة بفعل اإلشارات أو اإلزدحام‪.‬‬ ‫على نحو‬ ‫ٍ‬ ‫كأسھم نارية مفرقعة في الفسحات الضيقة‬ ‫يزاحمون السيارات‪ ،‬يعبرون مسرعين‬ ‫ٍ‬ ‫بين أرتالھا‪ ،‬يسيرون حذوھا‪ ،‬ملتصقين بھا‪ ،‬ينعطفون فجأ ًة أمامھا وفي ك ّل اتجاه‪،‬‬ ‫كأنما األرض تنشطر ويخرجون منھا مندفعين‪ .‬بعضھم يحلو له أن يرفع عن‬ ‫األرض عجلة د ّراجته األمامية‪ ،‬منتشيا ً بانطالقة عكس اتجاه السير‪ ،‬متكالً على أن‬ ‫يتفاداه سائقوا السيارات ويفسحوا له لإليغال في نشوته‪ ،‬فينعطفون بسياراتھم جانبا ً‬


‫خائفين ھلعين من تلك النشوة الرعناء التي تحمل بعض الد ّراجين على م ّد ألسنتھم‬ ‫خارج أفواھھم معلنين انتصارھم البذيء على سائقي السيارات‪ ،‬أو يشتمونھم‬ ‫متوارين في الزحام‪.‬‬ ‫كثيرون ينطلقون بد ّراجاتھم على األرصفة فيروّ عون المارة من المشاة الذين‬ ‫ينصاعون عنوة‪ ،‬ھاربين خائفين على أنفسھم من أن تعاجلھم صدمة الد ّراجين‪،‬‬ ‫فتوقعھم أرضا ً‪ .‬ھناك بعض من مستعملي الد ّراجات يُركِبُ خلفه امرأة أو فتاة‪،‬‬ ‫زوجته أو أخته أو خطيبته أو صديقته‪ ،‬ويضع أمامه بين جسمه ومقود الدرّاجة طفله‬ ‫الصغير‪ ،‬واقفا ً أو قاعداً بين فخذيه‪ .‬وأحيانا ً ترى طفلين اثنين على ھذه الحال‪ .‬أما‬ ‫سائقو د ّراجات الديليفري‪ ،‬فإن عملھم نفسه يتطلب السرعة في توصيل طلبات‬ ‫الزبائن المنتظرين‪ .‬لكن بعضھم قد يتفادى السرعة‪ ،‬لئال يتورط في حادثة تفقده‬ ‫عمله‪ .‬وھذا ما ال يفعله من يحملون على د ّراجاتھم شعَّاالت الجمر المشرقط وسط‬ ‫الشوارع‪ ،‬لتوصيلھا الى مد ّخني النراجيل في البيوت أو المتاجر أو على مضافات‬ ‫األرصفة‪.‬‬

‫ثارات الماضي والحاضر‬ ‫ھذه الحمّى اليومية الراھنة على صلة وثيقة بمھرجان فتيان الشوارع واألحياء‬ ‫المرتبطة بالمنازعات األھلية والحزبية منذ العام ‪ ٢٠٠٥‬وحتى اليوم‪ .‬فزمر فتيان‬ ‫الد ّراجات النارية وشبّانھا‪ ،‬غالبا ً ما استعملتھم القوى واألحزاب األھلية في احتقاناتھا‬ ‫وعراضاتھا وعداواتھا‪ ،‬فأخذوا ينطلقون زمراً زمراً‪ ،‬زاعقين في الشوارع واألزقة‪،‬‬ ‫بوصفھم مجموعات حماية واتصال وھجوم‪ .‬قبل ذلك‪ ،‬في أيام االحتالل السوري‪،‬‬ ‫ظھر فتيان الد ّراجات وشبّانھا ظھوراً قويا ً في الشوارع بعد مباريات كرة القدم‬ ‫وعراضات مش ّجعيھا المتصلة باالحتقان األھلي والطائفي الناجم عن النعرات‬ ‫المحلية ضد ممارسات رجال المخابرات السورية في األحياء‪.‬‬ ‫اليوم تجمعت ھذه األسباب والبواعث كلھا في خلفية السلوك الذي يسلكه مستعملو‬ ‫الد ّراجات النارية‪ ،‬ثم أضيفت اليھا الفوضى العارمة التي تستنقع فيھا البالد بفعل‬ ‫الحروب في سوريا التي دفعت الى لبنان بأكثر من مليون ونصف المليون من‬ ‫الالجئين السوريين‪ .‬على ھذا النحو تظھر حمّى استعمال الد ّراجات النارية كمرآة لما‬ ‫تتخبط فيه البالد‪ .‬وكما كان مسلّحو الميليشيات في أيام حروبنا‪ ،‬أعلى مرتبة وشأنا ً‬ ‫من المدنيين غير المسلحين‪ ،‬فإن مستعملي الد ّراجات النارية اليوم يتمتعون بدالّ ٍة‬ ‫استثنائية على سائقي السيارات والمشاة‪ .‬مصدر ھذه الدالة التي تجعل ھؤالء أشبه‬ ‫بـ”سائقي الجحيم” في ألعاب السيرك القديمة‪ ،‬ھو شعورھم بأنھم متواضعو المرتبة‬


‫االجتماعية‪ ،‬وبأنھم في ح ٍّل من المراتب واألخالقيات العامة المنحسرة أصالً‪ ،‬ما إن‬ ‫يمتطون د ّراجاتھم التي بھا يثأرون من تواضعھم االجتماعي‪ ،‬خارج أيّ وازع عام‬ ‫وذاتي في بالد الفوضى والتسيّب‪.‬‬

‫طغيان الذكورة‬ ‫ھناك فئة ال يستھان بعددھا من سائقي الدراجات النارية‪ ،‬يغلب عليھا كونھا من‬ ‫َّ‬ ‫البطالين‪ ،‬أو العاملين أعماالً يومية متقطعة متواضعة‪.‬‬ ‫فتيان األحياء والشوارع‬ ‫يتخلل ھذه الفئة شبان وفتيان يشكلون نوىً )جمع نواة( وعُصبا ً وشبكات من‬ ‫الجمھور الذكوري الطاغي على محازبي الجماعات األھلية في األحياء والشوارع‪.‬‬ ‫ھؤالء ھم غالبا ً المادة البشرية لـ”المضافات” األھلية الناشئة والمزدھرة والمنعقدة‬ ‫حلقاتھا اليومية في أماكن ثابتة على نواصي الشوارع واألرصفة في األحياء الداخلية‬ ‫وعلى تخومھا وأطرافھا‪ .‬يتغذى انعقاد ھذه “المضافات” من مواسم االحتقانات‬ ‫األھلية‪ ،‬ويزدھر في خضم حوادث سياسية وأمنية‪ ،‬وكلما ألقى أحد زعماء‬ ‫الجماعات الطائفية الجماھيرية‬ ‫خطبة متلفزة‪ ،‬غالبا ً ما استوجبت‬ ‫ً‬ ‫إطالق النار غضبا ً وابتھاجا ً‬ ‫ونكاية‪،‬‬ ‫وخصوصا ً في األحياء المختلطة‬ ‫طائفيا ً‪ .‬كما أن االحتقانات‬ ‫ومناسباتھا تتغذى من انعقاد‬ ‫“المضافات”‪ ،‬السيما بعد نشوء‬ ‫ظاھرة األمن الذاتي وشيوعھا‪ ،‬في أعقاب التفجيرات األخيرة في ضاحية بيروت‬ ‫الجنوبية وطرابلس‪ .‬للدراجات النارية مساھماتھا في ازدھار ھذه “المضافات” التي‬ ‫غالبا ً ما ُتر َكن الدراجات الكثيرة على ضفافھا‪ ،‬و ُتالزم انعقادھا‪ ،‬إلقامة جسور‬ ‫التواصل األھلي واألمني بينھا في أوقات من النھارات والليالي‪.‬‬

‫من الرخاء الى الفوضى )‪(٢‬‬ ‫نستعير ھنا كلمة “مضافة” ذات الرجع والحمولة والداللة البدوية والعشائرية‪.‬‬ ‫فاإلجتماع العشائري ال تزال تقاليده وثقافته حيّة فاعلة في ثنايا شبكات االجتماع‬ ‫األھلي المحلي الفوضوي الراھن لكثير من الجماعات والتجمعات السكانية في‬ ‫الريف وضواحي المدن‪ ،‬وفي األحياء العشوائية والشعبية المدينية المكتظة المختنقة‪.‬‬


‫ھذه غالبا ً ما تحاصر فوضاھا المنفجرة األحياء السكنية للفئات المتوسطة المجاورة‬ ‫لھا‪ ،‬وتخنقھا ايضا ً‪.‬‬ ‫فسكان األحياء المدينية المتوسطة ليس من عاداتھم وثقافتھم أن تستولي دورةُ‬ ‫حياتھم اليومية على األماكن العامة في أحيائھم )األرصفة‪ ،‬نواصي الشوارع‪ ،‬مداخل‬ ‫ّ‬ ‫ومنظم‪ ،‬منصرفين‬ ‫البنايات(‪ .‬بل إنھم يرتادون ھذه األماكن على نحو وظيفي عابر‬ ‫الى أعمالھم ومشاغلھم‪ ،‬من دون أن يخلّفوا أثراً واضحا ً أو ناتئا ً فيھا‪ .‬فاإلنكفاء على‬ ‫ذات النفس‪ ،‬الفردية واألسرية‪ ،‬وعلى شبكات من العالقات الخاصة‪ ،‬من سمات‬ ‫اجتماع الفئات المدينية المتوسطة والعليا‪ ،‬من حيث المبدأ‪ ،‬وخصوصا ً في أوقات‬ ‫حين وآخر‪ ،‬على ما‬ ‫األزمات وتفشي االحتقانات األھلية واستنقاعھا وانفجارھا بين‬ ‫ٍ‬ ‫ھي عليه حال لبنان الممعن‪ ،‬منذ سنوات‪ ،‬في تفككه وتمزقه إربا ً مناطقية وأھلية‬ ‫وعصبية وطائفية متباعدة نفسيا ً على قاعدة الھويات الخاصة‪ ،‬على الرغم من ضيق‬ ‫المساحات والمسافات بينھا‪ ،‬فيظھر االحتقان والتمزق بين شارعين متجاورين في‬ ‫أحياء مختلطة طائفيا ً‪.‬‬ ‫تتكاثر مضافات الشبان والفتيان‪ ،‬يخالطھم رجال وأوالد‪ ،‬في األحياء الشعبية‬ ‫الصافية والمختلطة طائفيا ً‪ .‬وقد تكون المضافة استعادة واستئنافا ً للحلقات التي كانت‬ ‫ُتعقد في ساحات القرى‪ ،‬والتي تطورت في أيام الرخاء واإلصطياف اللبنانيين في‬ ‫الستينات والسبعينات من القرن العشرين‪ ،‬فتحولت “كسدورة” على “الكروسة”‪،‬‬ ‫سيراً على األقدام أو في السيارات‪ .‬وذلك في عصارى النھارات القروية ومساءاتھا‬ ‫الصيفية المقمرة التي كان يتخالط فيھا الشبان والصبايا العائدون من بيروت‬ ‫“متم ّدنين” وفي أزياء عصرية يتباھون بھا ويستعرضونھا صيفا ً في قراھم‪ ،‬مع‬ ‫السيارات الجديدة التي غالبا ً ما يستعيرونھا من آبائھم‪ ،‬للكسدرة بھا بين قرى‬ ‫االصطياف وبلداته المزدھرة‪ .‬قد يكون لھذه العادات والطقوس المحدثة مصدرھا أو‬ ‫مرجعھا األقدم زمنا ً في القرى‪ ،‬أيام كان ما يسمّى “طريق العين” في الفولكلور‬ ‫والغناء الفيروزي – الرحباني‪ ،‬عالمة بارزة في االجتماع اللبناني الريفي‪.‬‬

‫في حماية الشباب‬ ‫ھذا كله قوّ ضته الحروب في لبنان‪ ،‬ونقلت مجموعات كبرى من الفئات العمرية‬ ‫الشابة‪ ،‬من تلك العادات والطقوس الرخيّة‪ ،‬الى متاريس الحرب في المدن والبلدات‪.‬‬ ‫أما اليوم‪ ،‬بعد مضي أكثر من عقدين على حروبنا‪ ،‬فإن االجتماع الريفي أو القروي‬ ‫والمديني في لبنان يكاد يذوب في حمى بوتقة فوضوية واحدة متصلة من العمران‪،‬‬


‫الذي يختلط ماضيه المتداعي َ‬ ‫الخ ِرب بحاضره العشوائي‪ ،‬لنقيم ونعيش في زمن‬ ‫اجتماعي وعمراني من سماته السُعا ُر والفوضى واالحتقان والكآبة‪.‬‬ ‫ليست الدراجات النارية وجحيمھا في الشوارع‪ ،‬وكذلك المضافات األھلية الشبابية‬ ‫والذكورية الناشطة على األرصفة والنواصي في األحياء الشعبية‪ ،‬إال من ظواھر‬ ‫زمننا االجتماعي والعمراني المستعر ھذا‪.‬‬ ‫قد تكون ھذه المضافات وليدة اإلستنقاع واالحتقان والسعار في حياتنا اليومية‬ ‫واالجتماعية‪ .‬ربما ھي بديل من العراضات والمھرجانات الشبابية األھلية والحزبية‬ ‫التي شھدنا حوادثھا الكثيرة المتنقلة وخبرناھا ما بين ‪ ٢٠٠٥‬و‪ ٢٠٠٨‬الذي انتھت‬ ‫حوادثه بـ”اتفاق الدوحة” بعد الحملة التأديبية العسكرية لـ”حزب ‪ ”e‬وحلفائه على‬ ‫كثير من المناطق‪ ،‬السيما بيروت والجبل‪ .‬فبعد تلك الحملة الدامية‪ ،‬كثر الحديث عن‬ ‫احتالل بيروت أمنياً‪ ،‬وعن الرغبة في إخالئھا من السالح‪ .‬لكن تزاحم الحوادث‬ ‫الحقب وشعاراتھا‪،‬‬ ‫والمستجدات السياسية واألمنية في لبنان‪ ،‬غالبا ً ما يطوي‬ ‫َ‬ ‫ويجعلھا من المنسيات‪ ،‬فيما تتجدد األزمات والحوادث وتتراكم الى ما ال نھاية أو‬ ‫مستقر‪.‬‬ ‫نشأ عن الحملة العسكرية التأديبية على أحياء بيروت ما يشبه إذعانا ً أھليا ً محتقنا ً‬ ‫ومغلوبا ً على أمره‪ ،‬في مقابل ھيمنة أھلية شبه أمنية لمحازبي الثنائي الشيعي‪“ ،‬أمل”‬ ‫و”حزب ‪ ،”e‬و”السوري القومي االجتماعي”‪ ،‬وسواھم من الشراذم المحلية الملحقة‬ ‫بھم‪ ،‬على كثير من األحياء البيروتية المختلطة طائفياً‪ ،‬الشعبية منھا والمتوسطة‪،‬‬ ‫وصوالً الى األحياء ذات الماضي الكوزموبوليتي في رأس بيروت‪ .‬مع مرور‬ ‫الوقت وتراجع االحتقان العام‪ ،‬شكلت المضافات الشبابية في األحياء‪ ،‬الوجه األھلي‬ ‫ُ‬ ‫تخفت حينا ً وتزدھر احياناً‪ ،‬وفقا ً للظروف‬ ‫المخفف لتلك الھيمنة‪ .‬ھذه المضافات‬ ‫والحوادث السياسية واألمنية المتناسلة‪ .‬أما وظيفتھا وغاياتھا فمتنوعة ومتداخلة‪:‬‬ ‫إشعار األھالي أو السكان من لون طائفي معيّن بأنھم يسيطرون على األماكن العامة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مرفرفة على‬ ‫وبأنھم في “حماية الشباب” وصور الزعماء والقادة والشھداء المرفوعة‬ ‫المضافات‪ ،‬الى جانب األعالم والشعارات الحزبية التي ال تخلو من التھديد والوعيد‬ ‫من أمثال‪“ :‬ويلكم اذا نفد صبره”‪ .‬في مقابل وظيفة السيطرة والحماية‪ ،‬ھنالك وظيفة‬ ‫أخرى معاكسة للمضافات الشبابية الحزبية‪ :‬إشعار األھالي من لون طائفي آخر بأنھم‬ ‫مھ َّددون ومغلوبون على أمرھم ومرا َقبون‪ ،‬بل في عراء من الحمايات األھلية‪،‬‬ ‫وعليھم االذعان واالنكفاء‪.‬‬


‫غلبة ومآرب أھلية‬ ‫في ھذا المعنى تشكل المضافات حاميات أھلية وأمنية لفئة مسيطرة من السكان‪،‬‬ ‫ومھ ِّددة وغالبة لفئة أخرى‪ .‬أليست‪ ،‬اذاً‪ ،‬وجھا ً من وجوه غلبة أھلية‪ ،‬وحرب أھلية‬ ‫خفيّة السالح الذي غالبا ً ما تنطلق في الھواء رشقات رصاصه من ھذه المضافات‬ ‫ً‬ ‫غاضبة محتفلة متوعدة‪ ،‬في اثناء االطالالت الخطابية المتلفزة لھذا‬ ‫وجوارھا‪،‬‬ ‫الزعيم أو القائد المنتصر أو ذاك؟ ھذا فيما ھو يقول ألنصاره وجمھوره إن عليه إن‬ ‫يمتنع عن إطالق النار في مثل ھذه المناسبات‪ ،‬كأنه في قوله ھذا يطلب عكسه‬ ‫ونقيضه! أليس ھذا مركبا ً اساسيا ً ومبدئيا ً في سياسات الجماعات اللبنانية التي غالبا ً‬ ‫ما تضمر خالف ما تنطق به من شعارات مستھلكة‪ ،‬وتسلك وترسم مآربھا انطالقا ً‬ ‫مما تضمره‪ ،‬استئناسا ً بسياسات الرياء والمراوغة والتقيّة؟‬

‫مستنقع اإلحباط والقنوط‬ ‫اذا كانت المضافات قد نشأت في ھذه الظروف والسياقات االجتماعية واألھلية‬ ‫المحتقنة‪ ،‬فكيف يمكن وصف روّ ادھا وجمھورھا وصفا ً تفصيليا ً موضعيا ً وعيانياً؟‬ ‫قد يحتاج مثل ھذا الوصف الى استطالعات ومشاھدات ميدانية يومية شبه‬ ‫إتنوغرافية‪.‬‬ ‫غالبا ً ما تنعقد المضافات وتزدھر في أوقات ما بعد الظھر واألمسيات والسھرة‪ ،‬ألن‬ ‫ناشطيھا وروّ ادھا الشبان والفتيان والرجال‪ ،‬يستغرقون في نوم متأخر في‬ ‫الصباحات‪ .‬وھم في لقاءات المضافات ھذه‪ ،‬تشتبك في صالتھم عالقات الجوار‬ ‫السكني في الحي بعالقات القربى والنسب واالنتماء الى قرية ومنطقة سابقتين على‬ ‫اإلقامة في األحياء المدينية‪ .‬ويجمع ھذه الصالت ويش ّدھا الى بعضھا ويعضدھا‬ ‫االنتساب الى طائفة معينة‪ ،‬والوالء لتنظيم أھلي طائفي معيّن‪.‬‬ ‫ھذا النسيج الفسيفسائي المتشابك يجد مظھراً مسرحيا ً وظائفيا ً النعقاده وتجلّيه في‬ ‫المضافات‪ .‬فبدل أن يتفرق شبّان األحياء ك ٌّل الى غاية وشاغل وعمل‪ ،‬يجدون في‬ ‫التئام المضافة في حيّھم السكني حضنا ً حميما ً وأليفا ً يعوّ ضھم عن البطالة والتشتت‬ ‫والذوبان في أدوار حياة مھنية واجتماعية قوامھا االنصراف الى سياقات ومسالك‬ ‫متباينة ومختلفة‪ ،‬يفترضھا القيام بأود النفس الفردية والشخصية‪ .‬غالبا ً ما يكون‬ ‫ھؤالء الشبّان والفتيان من أصحاب السير التعليمية والمدرسية المضطربة والمنقطعة‬ ‫وغير المكتملة‪ .‬لذا ينصرفون الى أعمال ومھن صغيرة متواضعة ال تحتاج الى‬ ‫خبرات وتأھيل وإعداد‪ ،‬إال في الحدود الدنيا‪ .‬غير أنھم غالبا ً ما ال يستقرّ ون في ھذه‬ ‫األعمال والمھن‪ ،‬فيتنقلون بينھا محبطين قانطين‪ ،‬قبل أن يتركوھا الى بطالة تجد‬


‫مالذھا في شبكات العالقات والحياة على األرصفة في األحياء السكنية‪ ،‬حيث تكون‬ ‫شبكات المنظمات األھلية وأجھزتھا الجماھيرية في انتظارھم‪ ،‬فتتلقفھم وتدرجھم في‬ ‫أطرھا الفضفاضة التي يشكل الحي والشارع مسرحھا اليومي‪.‬‬ ‫الشبان والفتيان من إحباطھم وقنوطھم‪ ،‬وتمنحھم‬ ‫ھكذا تنتشل ھذه األطر المفتوحة‬ ‫َ‬ ‫دوراً وقوة ومعنى‪ ،‬فينخرطون فيھا انخراطا ً عضوياً‪ ،‬يجعلونه ھوية لھم ومأوى‬ ‫ومالذاً‪ .‬في ھذا السياق ينشئ ھؤالء الشبان والفتيان المضافات على األرصفة‬ ‫والنواصي في األحياء‪ ،‬فيداومون على ارتيادھا وتكريسھا مكانا ً للقاءاتھم وجلساتھم‬ ‫اليومية‪ :‬يلعبون الورق‪ ،‬يشربون الشاي‪ ،‬يأكلون المناقيش‪ ،‬يتنقلون من مضافة الى‬ ‫مضافة على صھوات د ّراجاتھم النارية‪ ،‬يجمع بينھم الوالء الى تنظيم أھلي واحد‪،‬‬ ‫يمكن تسميته مستنقع االحباط والقنوط‪.‬‬

‫العمران نموذجا ً لسياسات الخراب اللبنانية )‪(٢‬‬

‫ھل وصل لبنان إلى مرحلة استحالة تدارك سقوطه في مھاوي معضالت مزمنة؟‬ ‫من زاوية ھذا السقوط‪ ،‬أين ھي معضلة التكالب العشوائي على العمران والبناء؟‬ ‫على الشواطئ والروابي والجبال ينصب اللبنانيون أبراج شموخھم وسط حفلة‬ ‫تنكرية يزدرون فيھا تراثھم الحضاري المعماري‪ ،‬فيما ھم يتزاحمون على ھدمه‪،‬‬ ‫وعبادة كل ما ھو ھوية عصبوية خرافية من ھذا التراث‪ ،‬ليظل لبنان بلداً منذوراً‬ ‫للحروب والدمار‪.‬‬ ‫على مدخل من مداخل زقاق البالط وأمثاله من األحياء البيروتية التي صمدت بعض‬ ‫بيوتھا وقصورھا التراثية المھجورة المھملة والمتداعية أمام زحف الھبّات العقارية‬ ‫المتعاقبة وتشييد األبراج المحدثة الشاھقة‪ ،‬نصبت وزارة الثقافة اللبنانية الفتات‬


‫معدنية كتبت عليھا‪“ :‬حي ذو طابع تراثي”‪َ .‬نصْ بُ ھذه الالفتات‪ ،‬وإعداد ما يسمّى‬ ‫“الئحة جرد” للبيوت والمباني التراثية‪ ،‬ھو ما استطاعت الوزارة الجديدة‪ ،‬شبه‬ ‫اإلسمية او االفتراضية في عملھا وسلطاتھا‪ ،‬أن تفعله )مع مديرية اآلثار الملحقة‬ ‫بھا( في مجال المحافظة على بقايا التراث المعماري اآليل الى االنقراض المتسارع‬ ‫في لبنان‪ ،‬لتبقى تلك الالفتات شاھداً على انقراضه‪ ،‬كمعلّقات الوقوف على األطالل‪.‬‬ ‫ھذه الوظيفة لالفتات ليست مجازية قط‪ .‬فالكثير من البيوت والقصور والمباني‬ ‫التراثية في األحياء المنصوبة فيھا الالفتات‪ ،‬سارع وارثو مالّكھا أو وكالؤھم الى‬ ‫المساھمة‪ ،‬خفية وبإرادة صلبة‪ ،‬في تنشيط تداعيھا وانھيارھا‪ ،‬فسيّجوھا وألصقوا‬ ‫على السياجات الفتات كتبوا عليھا‪“ :‬انتبه‪ k‬ھذا المبنى آيل الى االنھيار” أو‬ ‫“السقوط”‪ .‬غاية ھذا اإلعالن ماكرة وخبيثة‪ .‬ففي معرض إدعاء تنبيه العابرين قرب‬ ‫المبنى الى تالفي الخطر و”المحافظة على السالمة العامة”‪ ،‬ال يشاء المعلنون رفع‬ ‫ً‬ ‫نكاية‬ ‫المسؤولية عنھم فحسب‪ ،‬في حال انھيار المبنى على عابرين‪ ،‬بل يتم ّنون‪،‬‬ ‫بالوزارة والفتاتھا والئحة جردھا‪ ،‬أن ينھار المبنى في أسرع وقت‪ ،‬ويؤذي عابرين‬ ‫لتتحمل الوزارة نفسھا نتائج إدعاء المحافظة الشكلية على التراث المعماري‪ .‬وذلك‬ ‫بمنعھا أصحاب البيوت التراثية‪ ،‬منعا ً ھمايونياً‪ ،‬من التصرف بملكھم المھجور‬ ‫الخرب الذي لن يحرره سوى انھياره من الالئحة الھمايونية التي تجعله موقوفا ً‬ ‫وتحرمھم من أن يجنوا ثروات من بيعھم العقار أو من تشييدھم في مكانه بناية‬ ‫حديثة شاھقة في واحدة من الھبّات العقارية الملتھبة في بيروت ولبنان كله‪.‬‬ ‫في ما تظھره وتخفيه‪ ،‬ال تل ّخص ھذه الوقائع‪ ،‬السلوك الماكر لفئات واسعة من‬ ‫اللبنانيين‪ ،‬وإلجراءات مؤسساتھم اإلدارية العامة‪ ،‬في مجال العمارة والتنظيم المدني‬ ‫والعمراني‪ ،‬بل ھي نموذجية في داللتھا الى ممارساتھم األخالقية والسياسية‬ ‫والحقوقية واالجتماعية والثقافية‪ .‬المكر في ھذا السلوك‪ ،‬قرينه الجشع واألنانية‪،‬‬ ‫و”من َبعد حماري ما ينبت حشيش” أو “الطوفان”‪ ،‬على ما يقول المثل العامي‬ ‫الشائع والحبيب على قلوب معظم اللبنانيين‪ ،‬والذي يكاد أن يكون االبرز واألقوى‬ ‫في فوضى سلوكھم وعالقاتھم وإدارتھم مؤسساتھم العامة‪ ،‬منذ أزمنة بعيدة‪.‬‬


‫عشوائية مزمنة‬ ‫من نافل القول إن حروب اللبنانيين )‪ (١٩٩٠ – ١٩٧٥‬دمّرت مجتمعھم وعمران‬ ‫بلدھم ودولتھم التي ارتضوا بھا على مضض‪ .‬لكن ھذا التدمير المديد‪ ،‬كانت له‬ ‫سوابقه البطيئة‪ ،‬وخصوصا على صعيد العمران والبيئة في المدن كما في األرياف‪.‬‬ ‫ففي دراسة وضعھا العام ‪ ١٩٩٦‬الخبير العمراني والبيئي الدكتور عادل مرتضى‪،‬‬ ‫نجد أن العامل األساسي المزمن في تردي األوضاع العمرانية والبيئية اللبنانية‪ ،‬ھو‬ ‫بدائية التخطيط والتنظيم في تصنيف استخدام األراضي والعمران عليھا‪ ،‬من دون‬ ‫تطوير وتحديث يذكران‪ ،‬منذ نشوء الدولة اللبنانية الحديثة العام ‪ ١٩٢٠‬حتى اليوم‪.‬‬ ‫تتجلى البدائية المزمنة في وجھين اثنين الستخدام األراضي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ومنظمة‪ ،‬يُسمح بالبناء عليھا وفق معايير غائمة‪ ،‬واھية وبدائية‪ ،‬ال‬ ‫أراض مص ّنفة‬ ‫ ٍ‬‫تلحظ التوسع العمراني وال تحدده في المنطقة ومحيطھا‪ ،‬وال تحدد العالقة بين‬ ‫المناطق وامتداداتھا المحتملة‪ ،‬وال بين األبنية المتجاورة‪ .‬إضافة الى ھذا اإلھمال‬ ‫البنيوي العام‪ ،‬ھناك أيضا ً غياب كلّي لالھتمام بالمعايير الفنية والمعمارية والجمالية‬ ‫لألبينة‪ ،‬وبعالقات التجانس والتالؤم بينھا وبين الفضاء العام‪ ،‬من شوارع وطرق‬ ‫وسواھا من خدمات مشتركة‪ .‬تبلغ مساحة األراضي المشمولة بھذا التصنيف عشر‬ ‫مساحة لبنان فقط‪.‬‬ ‫أراض غير مص ّنفة تشمل المساحة المتبقية من لبنان‪ ،‬وينطبق عليھا قانون‬ ‫ ٍ‬‫االستثمار العام البدائي‪ ،‬أي الالقانون والالتنظيم‪ ،‬ومن دون أي تمييز بين‬ ‫االستعماالت المختلفة لألراضي‪ .‬ھذا ما أدى إلى ترك المبادرة لمالّك األراضي في‬ ‫استعمالھا كما يشاؤون ويرغبون‪ ،‬بال حسيب أو رقيب‪ ،‬وال تنظيم وتخطيط‪.‬‬ ‫ھذا التصنيف العام البدائي لألراضي‪ ،‬ھو العامل البنيوي األبرز في الفوضى‬


‫العمرانية القائمة منذ خمسينات القرن العشرين والمستمرة حتى اليوم على حالھا‪ ،‬في‬ ‫ظل عدم وضع مخطط توجيھي شامل ومتكامل‪ ،‬متجانس ومركب‪ ،‬للعمران في‬ ‫لبنان‪ .‬بدون ھذا المخطط الذي ينسّق التوسع العمراني‪ ،‬يستبقه ويرشده‪ ،‬ويحدد‬ ‫استعماالت األراضي تحديداً دقيقاً‪ ،‬سيبقى لبنان غارقا ً في عشوائية عمرانية‪ ،‬صار‬ ‫من المستحيل تداركھا على األرجح‪ ،‬إال على نحو جزئي‪ .‬يشھد على ذلك ما نحن‬ ‫فيه اليوم من فوضى بلغت أش ّدھا في السنين االخيرة‪ .‬وكان بعض االختصاصيين‬ ‫والمھندسين أشاروا إليه وتوقعوه منذ نھاية الخمسينات‪ ،‬لكن من دون جدوى‪ ،‬فبقيت‬ ‫المخططات التوجيھية عشوائية وجزئية وآنية‪ ،‬ومحدودة التأثير في حركة العمران‬ ‫وتوسعه بقفزات مضاعفة‪.‬‬

‫تجار حروب‬ ‫ّ‬ ‫كان لغياب المخطط التوجيھي الشامل أثره البالغ في ما آلت إليه أحوال لبنان‬ ‫العمرانية والبيئية وفي نوعية الحياة‪ .‬لكن ھذا الغياب الذي تقع مسؤوليته على‬ ‫اإلدارة العامة والعھود السياسية والحكومات المتعاقبة‪ ،‬ال يعفي اللبنانيين‪ ،‬مجتمعا ً‬ ‫وجماعات ومنظمات ناشطة في المجتمع المدني وت ّجار بناء وھيئات ونقابات‪ ،‬من‬ ‫ھذه المسؤولية‪ .‬فالمجتمع استغل غياب التخطيط والتنظيم والقوانين‪ ،‬بل احتال على‬ ‫القليل القائم منھا‪ ،‬وترك العمران والبناء يتوسع فوضويا ً وعشوائيا وفق حاجاته‬ ‫الملحة‪ ،‬وفي خدمة مصالحه اآلنية واألنانية الخاصة والمدمرة‪ .‬اذ يندر أن رفعت‬ ‫ً‬ ‫محتجة على ما تتعرض له‬ ‫جماعة أو ھيئة أو نقابة مھنية أو منظمة حقوقية صوتھا‬ ‫البالد من تشويه وتدمير عمرانيين وبيئيين‪ ،‬اال اذا كان األمر يتعلق بشؤون جزئية‬ ‫أو فئوية خاصة‪ .‬أما تلك الفئة من سماسرة العقارات وت ّجار البناء الجاھز‪ ،‬فاستغلت‬ ‫غياب التخطيط والقوانين في أزمنة الحرب وقبلھا بسنين طويلة‪ ،‬وراحت تشيّد‬ ‫المباني كيفما اتفق‪ ،‬من دون أي حساب إال لألرباح السريعة‪ .‬ھذه الظواھر كلھا‪ ،‬لھا‬ ‫مصادرھا العميقة في الذھنية واألخالق اللبنانيتين‪ .‬وھي تجلّت أبھى تجلّيھا في‬


‫مجال العمران والبناء‪ ،‬فبنى اللبنانيون مدنھم وأحياءھم وقراھم ومساكنھم كأنھم‬ ‫“ت ّجار حرب” في بلد غير بلدھم وعلى أرض غير أرضھم‪.‬‬ ‫حين عصفت الحروب بلبنان وأھله‪ ،‬وأخذت تدمّر عمرانه وتشرّد جماعاته‬ ‫وتھجّ رھا‪ ،‬كان على اللبنانيين أن ينتظروا طوال عقدين من سنوات القتل والتدمير‬ ‫والتشرد والھجرات‪ ،‬كي يستفيقوا من الكابوس على بلد صار نحو نصف شعبه من‬ ‫المھ ّجرين الذين احتل قسم كبير منھم بيوت اآلخرين ومنازلھم‪ ،‬والذ قسم آخر‬ ‫ببنايات قيد االنشاء أو متصدعة ومبقورة في األحياء القريبة من خطوط التماس‬ ‫الحربية‪ ،‬وخصوصا ً في وسط بيروت التجاري القديم وسواه من المناطق واألحياء‬ ‫الراقية التي ھجرھا ساكنوھا‪.‬‬ ‫في االثناء كانت أحياء وبلدات وقرى تدمَّر ويھجَّ ر أھلھا‪ ،‬ويحتلّھا أھل آخرون‪،‬‬ ‫ينھبونھا ويقيمون في خرائبھا‪ .‬أما الضواحي المدينية التي كان بعضھا ال يزال قرى‬ ‫ريفية ساحلية‪ ،‬فتوسع فيھا العمران العشوائي على مثال مخيمات الالجئين‬ ‫الفلسطينيين‪ ،‬من دون أن يتوقف ھذا النوع من العمران‪ ،‬بل تزايد أضعافا ً مضاعفة‬ ‫في سنوات ما بعد الحرب‪ ،‬فلم تبق في ھذه الضواحي مساحة صغيرة تخلو من‬ ‫اإلسمنت والجدران المتالصقة‪.‬‬ ‫حتى التالل والروابي والجبال القريبة من المدن الساحلية والداخلية‪ ،‬انغرست فيھا‬ ‫البنايات انغراسا ً فوضويا ً ومتالصقا ً متشامخا‪ ،‬بال تخطيط طرق وشوارع وال بنية‬ ‫خدمات تحتية‪ ،‬إال ما جادت به ضرورات ت ّجار البناء الجاھز واألھالي المستعجلين‪،‬‬ ‫فنشأت كتل ضخمة من العمران العشوائي غير الرخيص في التكلفة المادية‪ ،‬على‬ ‫التالل والجبال قبالة الساحل‪ .‬ھذا كله لم يتوقف بعد الحرب‪ ،‬بل استمر وال يزال‬ ‫قائما ً حتى اليوم‪ .‬من نتائجه تقلص األراضي الزراعية من ‪ ٢٠‬ألف ھكتار عشية‬ ‫الحرب إلى ما يقل عن ‪ ٩‬آالف ھكتار‪ .‬في سھل البقاع الزراعي أقيمت المباني شبه‬ ‫العشوائية على جانبي الطرق وسط السھل‪ .‬ھكذا فقد لبنان في السنوات الثالثين‬ ‫المنصرمة معظم ثروته النباتية والحرجية التي تقلصت إلى ‪ ٤‬في المئة من مساحته‬ ‫اإلجمالية‪ .‬وفي الجبال يقضي انتشار المقالع والكسّارات على األحراج المتبقية‪،‬‬ ‫ويغيّر معالم الطبيعة ويلوّ ث المحيط بالغبار‪.‬‬ ‫وبحسب نقابة المھندسين أصبحت مخططات ونظم عمران المدن والقرى اللبنانية‬ ‫قديمة ال تتماشى مع الظروف القائمة‪ .‬فھناك مناطق كبرى كثيرة بُنيت بكاملھا‪،‬‬ ‫وأحياء سكنية وتجارية نشأت في زمن الحرب وما بعدھا‪ ،‬ال تزال كلھا خالية تماما ً‬ ‫من البناء في سجالت الدوائر العقارية وفي مخططات التنظيم المدني‪ .‬الضاحية‬ ‫الجنوبية مثالً‪ ،‬ال تزال نسبة ‪ ٦٠‬في المئة من مساحتھا خالية من البناء في سجالت‬


‫الدوائر العقارية‪ ،‬بينما تؤكد الوقائع اليومية والمشاھد العيانية أن المساحات القابلة‬ ‫للبناء فيھا يكاد يندر وجودھا‪.‬‬

‫عبادة الخاص‪ :‬ازدراء العام‬ ‫وضعت الحرب أوزارھا‪ ،‬واندفعت الھبّات العمرانية والعقارية بقوة فوضوية الفتة‪،‬‬ ‫لتعوّ ض ما فات من انكماش في زمن الحرب‪ .‬فھا ھو الشريط الساحلي اللبناني‬ ‫الضيق والجبال المطلة عليه‪ ،‬يتحوّ الن عقاراً واحداً موحداً تتناھبه فوضى اإلسمنت‬ ‫وتعدياته‪ ،‬وفق روزنامة الجماعات المختلفة‪ .‬فبعضھا يندفع تحت إلحاح توسع‬ ‫ديموغرافي وعمراني‪ ،‬وفائض من القوة األھلية المسلحة في مناطق كثيرة‪ .‬وبعضھا‬ ‫اآلخر ينكفئ ديموغرافيا ً وعمرانيا ً للدفاع عن ھوية وملك عقاري‪ ،‬مھددين في‬ ‫مناطق أخرى‪ ،‬ضعفت سطوة أھلھا وما عاد ينفعھم طلب الحماية من أجھزة‬ ‫ومؤسسات دولة سائبة وعلى حافة االنھيار‪ .‬ھذا ما يجعل من لبنان العمراني‬ ‫والعقاري مرآة لجغرافيا بشرية وديموغرافية وسكانية لحروب اللبنانيين العلنية‬ ‫والخفية في أوقات سلمھم األھلي البارد‪ ،‬ومرآة لنمط عيشھم و”تعايشھم” وأعمالھم‬ ‫المتدافعة لجعل العقار مصدراً أساسيا ً لإلستثمار واإلثراء السريع‪ .‬وذلك حتى في‬ ‫مناطق العمران العشوائي المكتظة البائسة التي يستعمل أھلھا فائض قوتھم في‬ ‫التنافس المحموم على االستيالء على أمالك خاصة وعامة‪ .‬العامل الحاسم في‬ ‫استثمار الھبّات العقارية والعمرانية‪ ،‬العشوائية‪ ،‬المشروعة منھا وغير المشروعة‬ ‫منھا‪ ،‬ھو الفوضى والتربص والتحاسد والتسابق على اقتناص الفرص وصوالً الى‬ ‫ربح وإثراء سريعين‪.‬‬ ‫ھذه ھي حال بيروت الكبرى اليوم‪ ،‬الممتدة من الدامور جنوبا ً وجونيه والمعاملتين‬ ‫شماالً وعاليه شرقاً‪ ،‬حيث تغلب على العمران والبناء فوضى تشمل حتى المميز‬


‫والمرتفع األسعار والنخبوي منھما‪ .‬فمن مفارقات حياتنا اللبنانية أن اللبنانيين على‬ ‫العموم‪ ،‬يتشددون ويغالون في طلب الرفاه واألناقة في حياتھم الفردية والخاصة‪،‬‬ ‫سكنا ً وأثاثا ً وملبسا ً واقتناء سيارات فخمة وسواھا من سلع الرفاه واالستھالك‪ ،‬في‬ ‫مقابل مغاالتھم في إھمال االھتمام بأيٍّ من شؤون الحياة العامة المشتركة‬ ‫ومستلزماتھا في العمران والبناء والخدمات وتنظيم السير وسواھا من وسائل النقل‪،‬‬ ‫وفي استعماالت األرصفة وأماكن االستراحة والترفيه العمومية‪ .‬األرجح أن وج َھي‬ ‫المغاالة ھذين‪ ،‬ليسا متعارضين إال شكلياً‪ ،‬إذ ھما يتقاطعان ويتداخالن في صدورھما‬ ‫عن ثقافة وسلوك لبنانيين – وإن بتفاوت بين الجماعات – يحكمھما االستئثار‬ ‫واألنانية المستعجالن والمنفلتان من كل ضابط‪.‬‬ ‫وإال‪ ،‬ما معنى اإلمعان في تدمير كل ما ھو مشترك وعمومي‪ ،‬وفي أحسن األحوال‬ ‫إنعدام المسؤولية حياله‪ ،‬وتركه لإلھمال والتأكل واالنحطاط‪ ،‬في مقابل اإلمعان‬ ‫ال َم َرضي في طلب الرفاه الفردي والشخصي والخاص؟! كأن اللبنانيين ال يستثمرون‬ ‫طاقاتھم وجھودھم وما يتمتعون به من حرية وحس “جمالي” تزييني‪ ،‬إال في المجال‬ ‫الفردي الخاص‪ ،‬تاركين العام والمشرك إما للتسيب وإما لإلستيالء عليه والتصرف‬ ‫به كملك خاص‪ .‬مثل ھذه الثقافة تنطوي على تقديس الخاص ونصبه وثنا ً للعبادة‪،‬‬ ‫في مقابل ازدراء العام والمشترك ومناصبته العداء والحرب‪.‬‬ ‫من األمثلة الراھنة والجزئية على ھذا السلوك‪ ،‬ما يحدث في ساحة السوديكو نزوالً‬ ‫إلى تقاطع شارع بشارة الخوري مع طريق الشام‪ .‬فالمنطقة ھذه لم تعثر على ھوية‬ ‫ووظيفة عمرانيتين‪ .‬ساحة الشيخ الرئيس الراحل بشارة الخوري‪ ،‬وتمثاله‪ ،‬متروكان‬ ‫للتسيّب واإلھمال منذ سنين‪ ،‬برغم أنھما مسرح تقاطع سير وعبور كثيف ما بين‬ ‫“البيروتين”‪ ،‬وھما قريبان من وسط بيروت الجديد والفخم‪ ،‬وتصب فيھما تقاطعات‬ ‫السوديكو ورأس النبع وحوض الوالية والخندق الغميق‪ .‬لذا ھبّ العمران الخاص في‬ ‫جنبات الساحة‪ ،‬مختلطا ً باإلنشاءات العامة )جسر ونفق كبيران(‪ ،‬من دون أن تنبئ‬ ‫ھذه الھبّة بالھوية العمرانية للساحة ومحيطھا القريب‪ .‬لكن األكيد والواضح أن‬ ‫العمران الجديد جرف عدداً من البيوت البيروتية القديمة أو التراثية التي ھُدمت وال‬ ‫تزال بقايا بعضھا تنتظر استكمال الھدم‪ ،‬من دون أن يعبأ أحد بالفتات وزارة الثقافة‬ ‫وعبارتھا “حي ذو طابع تراثي‪”.‬‬


‫أبراج الشوارع الضيقة‬ ‫من الظواھر العمرانية والمعمارية المستجدة في بيروت السنوات الخمس عشرة‬ ‫األخيرة‪ ،‬ظاھرة تشييد أبراج سكنية شاھقة على جنبات شوارع داخلية ضيقة‪ ،‬وعلى‬ ‫واجھة العاصمة البحرية‪ .‬األبراج ھذه يشيَّد ك ٌّل منھا على نحو مستقل عن شارعه‬ ‫ومحيطه‪ ،‬فال يُحسب أيّ حساب لمقدرة الشارع والمحيط على استيعاب ما يحتاجه‬ ‫البرج من خدمات متنوعة‪ ،‬كأنه يتعالى ويشھق وحيداً في صحراء‪ .‬لكنه يتعالى‬ ‫ً‬ ‫حقيقة وواقعا ً في زحمة واختناق عمرانيين يضاعفھما البرج المتسامق في‬ ‫ويشھق‬ ‫صلف وفخامة ھما مرآة صورة من يشيَّد لھم عن أنفسھم وتمايزھم‪ ،‬غير آبھين بما‬ ‫يحوط بالبرج من ازدحام واختناق عمراني‪ .‬أما بحر بيروت ف ُس َّد بسلسلة من‬ ‫األبراج ال تقيم أيّ وزن للتآلف والتجانس مع تراث المدينة العمراني‪ ،‬البحري‬ ‫والمتوسطي‪ ،‬وال مع حاجات ساكنيھا‪ .‬ھذا مع العلم بأن عدداً ال بأس به من شقق‬ ‫ھذه األبراج ال يزال شاغراً في انتظار زبائن من نخب تحصّل ثرواتھا في الخارج‬ ‫على األرجح‪ ،‬وال تكلف نفسھا عناء االستثمار في غير العقار والمضاربات‬ ‫العقارية‪.‬‬

‫فخامة وفوضى‬ ‫أما المشروع العمراني األبرز في لبنان ما بعد الحرب‪ ،‬فھو مشروع إعمار وسط‬ ‫بيروت الذي بدأت ترتسم مالمحه ومعالمه ووظائفه الجديدة الراھنة والمستقبلية‪ .‬لقد‬ ‫مبان جديدة‪ ،‬وظھرت األنشطة المدينية للوسط‪،‬‬ ‫ُرمّمت المباني التراثية‪ ،‬وشيِّدت‬ ‫ٍ‬ ‫وأنشئت خدمات البنية التحتية بمواصفات رفيعة‪ .‬لكن الالفت أن إدارة شؤون الوسط‬ ‫وخدماته التي ال تتوالھا شركة “سوليدير” بل تضطلع بھا المؤسسات العامة‬ ‫والحكومية‪ ،‬بدأ يظھر أنھا تعاني من بعض الفوضى والتضارب اللذين ينعكسان سلبا ً‬


‫على الوظائف واألنشطة المدينية في الوسط الجديد‪ .‬فالشوارع الكثيرة المحيطة‬ ‫بمجلس النواب‪ ،‬مقفلة وال يسمح بالمرور فيھا لغير المشاة‪ ،‬ألسباب “أمنية” تجعلھا‬ ‫أشبه بمنطقة مقتطعة من الوسط‪ ،‬وتسري عليھا إجراءات استثنائية خاصة‪ .‬الطرق‬ ‫التي تحوط مبنى اإلسكوا‪ ،‬أقفلت أخيراً لألسباب نفسھا‪ .‬وكانت أُقفلت شوارع‬ ‫إضافية قبل إقامة الرئيس سعد الحريري في ما يسمّى “بيت الوسط”‪ .‬ھذا كله ضيّق‬ ‫مساحة الوسط المديني وقلل عدد الشوارع المفتوحة فيه‪.‬‬ ‫لكن ھذه أيضا ً تتكاثر على جنباتھا‪ ،‬وفي وسطھا أحياناً‪ ،‬الحواجز اإلسمنتية‬ ‫المصطفة لمنع إيقاف السيارات‪ ،‬وألداء مھام تنظيمية في إدارة السير وتبديل‬ ‫اتجاھاته‪ ،‬بديالً من اإلشارات الضوئية ومن وظائف شرطة السير‪ .‬في ظھيرة كل‬ ‫نھار جمعة‪ ،‬تق َفل الشوارع المحيطة بجامع محمد األمين‪ ،‬وتتحول مرأبا ً ضخما ً‬ ‫لسيارات المصلّين في المسجد‪ .‬وفي الشوارع التي تتكاثر فيھا المحال التجارية‬ ‫والمطاعم‪ ،‬يأبى زبائنھا أن يمشوا خطوات قليلة للوصول اليھا‪ ،‬ويصرّون على‬ ‫الخروج من سياراتھم الفخمة أمامھا‪ .‬لذا غالبا ً ما يقوم “الفاليه الباركينغ” التابعون‬ ‫للمحال والمطاعم بالتواطؤ مع عناصر شرطة السير على أن يوقف الزبائن‬ ‫سياراتھم على جنبات الشوارع أمام المحال والمطاعم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مجتمعة الى اختناقات سير في الكثير من نواحي الوسط‬ ‫تؤدي ھذه الظواھر‬ ‫وشوارعه‪ .‬في ھذا السياق تبرز ظاھرة تكشف عن حال من الفوضى التنظيمية‬ ‫واإلدارية واألمنية في تدبير شؤون حيّز مديني عام يعتبر األحدث واألكثر جدة في‬ ‫بيروت‪ ،‬وال يزال الكثير من مرافقه ومبانيه قيد االنشاء والتجھيز‪ .‬ھذا يبشر بأن‬ ‫التحديث والتجديد العمرانيين في ديارنا يقتصران على اإلطناب في فخامة الشكل‪،‬‬ ‫فيما ُتترك شؤون إدارة الفخامة المظھرية والشكلية وتنظيمھا لما ھي عليه مؤسسات‬ ‫الدولة وأجھزتھا اإلدارية واألمنية العامة من فوضى وتخلف واھتراء موروث من‬ ‫زمن الحرب‪ ،‬ما قبلھا وبعدھا‪.‬‬


‫سياسات الخراب‬ ‫ھل وصلنا في لبنان اليوم إلى مرحلة استحالة تدارك السقوط في مھاوي معضالت‬ ‫مزمنة‪ ،‬متراكمة‪ ،‬متداخلة‪ ،‬متناسلة‪ ،‬لم نعد نقوى على جبھھا‪ ،‬فيما ھي تكبر‬ ‫وتتضخم ككرة من الثلج‪ ،‬فتتضاعف سرعتھا في تدحرجھا بنا إلى الھاوية؟‬ ‫طوال العقد األخير من القرن العشرين حتى العام ‪ ،٢٠٠٥‬كان شعاران إثنان‬ ‫يتعايشان عنو ًة وقسراً تحت راية اإلحتالل السوري األسدي للبنان‪ :‬إعادة إعمار ما‬ ‫دمّرته الحروب‪ ،‬وبنا ُء جھاز مقاومة إسالمية‪ ،‬فئوية و”سرّ ية”‪ ،‬تديرھا إيران‬ ‫الخمينية وسوريا األسد‪ ،‬باسم تحرير الجنوب وفلسطين‪ ،‬ولو على جثة لبنان‪.‬‬ ‫ھا نحن اليوم على وشك أن ننسى أن تلك الحقبة انتھت بسلسلة من االغتياالت‬ ‫اإلجرامية التي لم يوقفھا إال “حرب الوعد الصادق” واحتالل وسط بيروت الجديد‬ ‫طوال ما يزيد على السنة‪ ،‬من دون أن ينتھي ذلك االحتالل إال بحملة عسكرية‬ ‫تأديبية سمّاھا أصحابھا “عملية جراحية” صغيرة عابرة الستئصال “المرت ّدين‬ ‫الخونة” للمقاومة األبدية‪.‬‬ ‫ھي المقاومة نفسھا التي استدارت شرقا ً وشما ً‬ ‫ال لمساعدة األسد اإلبن في استئصال‬ ‫الغالبية الساحقة‪“ ،‬الخائنة والعميلة والتكفيرية”‪ ،‬من الشعب السوري الذي أخذت‬ ‫شبّانه سكرة “الربيع العربي” الزاحف تحت شعار‪ :‬الحرية والكرامة االنسانية‬ ‫والعدالة االجتماعية‪ .‬فأيّ مقاومة‪ ،‬ومقاومة َمن وماذا‪ ،‬ھي ھذه المقاومة التي تنتقل‬ ‫ُغرق سوريا بالدماء‪ ،‬يدمّر عمرانھا‪ ،‬يبيد غوطة‬ ‫من بلد إلى بلد‪ ،‬لنجدة مستبد س ّفاح ي ِ‬ ‫عاصمتھا بالغازات السامة‪ ،‬يھ ّجر الماليين من شعبھا‪ ،‬ليصل أكثر من مليونين بقليل‬ ‫الى لبنان الجئين عراة‪ ،‬يبحثون عن مالذ ومأوى في بلد منھك تمزقت أوصاله‪،‬‬ ‫وتوشك دولته على االنھيار‪ ،‬كي يظل بلد “وعد المقاومة الصادق” المنذور للحروب‬


‫والدمار؟!‬ ‫تقاتل المقاومة في سوريا‪ ،‬يزداد عدد النازحين منھا الى لبنان‪ .‬تدفقھم المستمر‬ ‫حليف المقاومة األكبر‪ ،‬وأحد دھاقنة الحرب والسياسة في لبنان‪ .‬رعبه ھذا‬ ‫يرعب‬ ‫َ‬ ‫يخرجه عن طوره‪ ،‬وكعادته في إطالالته االسبوعية المتكررة‪ ،‬يقف غاضبا ً متوعداً‬ ‫حاقداً صلفاً‪ ،‬وكمن يدفن رأسه وغضبه في الرمال يقول‪ :‬أال فل ُتنصب الخي ُم لالجئين‬ ‫السوريين في السرايا الحكومية‪ .‬من قوله ھذا ينض ُح مقدار من العنصرية الدفينة‬ ‫والحقد والشماتة الصبيانية التي تزدري رئاسة الحكومة ما بعد اتفاق الطائف‬ ‫باعتبارھا حصنا ً منيعا ً يخصّ إحدى الجماعات الطائفية اللبنانية المرحبة باستضافة‬ ‫الالجئين السوريين‪.‬‬ ‫نسوق ھذه الوقائع المتدافعة بوصفھا نموذجا ً لسياسات دھاقنة السياسة والحرب‬ ‫والمعضالت التي يتخبط فيھا لبنان اليوم‪ .‬ومن زاوية ھذه السياسة ومعضالتھا‪ ،‬أين‬ ‫ھي معضلة التكالب العشوائي على العمران والبناء؟ أليست المظھر المادي األبرز‬ ‫إلجماع اللبنانيين على مراكمة المعضالت وتكديسھا‪ ،‬ومعالجتھا بالھرب منھا الى‬ ‫األمام‪ ،‬كمن يدفن رأسه في الرمال؟ على الشاطئ والروابي والجبال ينصبون أبراج‬ ‫شموخھم وھروبھم‪ ،‬وسط حفلة تنكرية إلزدراء تراثھم الحضاري المعماري‪،‬‬ ‫متزاحمين على تقويضه وھدمه‪ ،‬وعلى عبادة كل ما ھو ھوية جزئية‪ ،‬عصبوية‬ ‫وخرافية‪ ،‬من ھذا التراث الذي يرفعون على انقاضه صروح حداثتھم المظھرية التي‬ ‫تحجب البحر والسماء‪.‬‬ ‫ھل مصادفة أال تبقى في بيروت مساحة تذ ِّكر بذلك التراث‪ ،‬سوى مساحة الجامعة‬ ‫تقو عليھا حداثة الخراب الزاحفة‪ ،‬فصمدت‬ ‫األميركية في بيروت؟ كأنھا وحدھا لم َ‬ ‫على حالھا فسحة لعمارة “أميركية” من زمن التحديث العثماني‪.‬‬

‫السديم الفاشي )‪(٣‬‬ ‫ھل من اسم محدد لما يعيشه اللبنانيون اليوم من تخبط واھتراء وخوف وھلع؟ إنه‬ ‫الفساد الذي يسمّيه الروائي والفيلسوف اإليطالي أمبرتو ايكو “الفاشية األصلية‪،‬‬ ‫البدائية واألبدية”‪ ،‬بوصفھا خليطا ً متنافراً من افكار ومشاعر وممارسات متنافضة‪،‬‬ ‫تشكل نوعا ً من السديم الفاشي‪ ،‬او الفاشية السديمية‪.‬‬


‫في ھدأة العصر من نھار السبت ‪ ٣١‬آب المنصرم‪ ،‬لعلعت فجأة موجات متالحقة من‬ ‫الطلقات النارية في أرجاء واسعة من أحياء بيروتية‪ .‬المرأة المسترخية المستمتعة‬ ‫استمتاعا ً حزينا ً وموحشا ً برشفات من شاي ما بعد القيلولة‪ ،‬جالسة بين أصص‬ ‫نباتات بيتيّة على شرفة منزلھا العالية في حي من تلك األحياء‪ ،‬ھرعت ھلعة‪،‬‬ ‫منحنية‪ ،‬مطأطئة الرأس‪ ،‬من الشرفة إلى صالون بيتھا‪ .‬سھى‪ ،‬سھى‪ ،‬أين سھى؟!‬ ‫ً‬ ‫راكضة في أرجاء الصالون‪ ،‬بحثا ً عن ھاتفھا‬ ‫اخذت تر ّدد في صوت مختنق‪،‬‬ ‫المحمول‪ .‬كانت تعلم أن سھى‪ ،‬ابنتھا الصبية‪ ،‬خرجت من المنزل قبل ساعة أو‬ ‫اثنتين‪ .‬رصاص‪ ،‬رصاص‪ ،‬إنه رصاص‪ ،‬بدأت “الضربة”؟‪ ،‬ولولت وسط دويّ‬ ‫الطلقات المتمادي‪ ،‬ثم صرخت قائلة لزوجھا في الصالون‪ ،‬أن يش ّغ َل جھاز‬ ‫التلفزيون‪.‬‬ ‫فجأ ًة ظھرت على شاشة التلفزيون صورة للرئيس األبدي لمجلس النواب وحركة‬ ‫“أمل”‪ .‬في أسفل الشاشة شريط ثابت مكتوب عليه‪ :‬االستاذ نبيه بري يلقي كلمة‬ ‫متلفزة‪ ،‬بعد إلغاء المھرجان الخطابي في الذكرى الـ‪ ٣٥‬لتغييب اإلمام موسى‬ ‫الصدر‪ ،‬بسبب الظروف األمنية في البالد‪ .‬على شريط آخر متحرك أسفل الشاشة‪،‬‬ ‫ظھرت عبارة أخرى‪ :‬طلق ناري أصاب امرأة في بعلبك أثناء تشييع مقاتل من‬ ‫“حزب ‪ ”e‬قُ ِت َل في سوريا‪ .‬للحظ ٍة عابرة تخيّل زوج المرأة أن إطالق النار يشمل‬ ‫مناطق لبنانية كثيرة‪ ،‬جنوبا ً وبقاعاً‪ ،‬مروراً بالعاصمة وضاحيتھا الجنوبية‪ ،‬ثم سمع‪،‬‬ ‫وسط تمادي موجات الرصاص‪ ،‬صوت سيارة إسعاف في الشوارع القريبة التي‬ ‫تخيّلھا كئيبة خاوية‪ .‬استعاد للمدينة صوراً تعود الى أواسط ثمانينات القرن الماضي‪،‬‬ ‫رسّختھا في مخيلته وحواسه نصوص تھ ّكمية سوداء ھاذية‪ ،‬كتبھا الشاعر محمد‬ ‫العبد‪ e‬في عنوان “بعد ظھر نبيذ احمر‪ /‬بعد ظھر خطأ كبير‪”.‬‬


‫في النص الذي حملت المجموعة عنوانه‪ ،‬سجل العبد‪ e‬صوراً عن أحوال مثقفين‬ ‫وأحزاب وقتلة وسماسرة وجماھير رعاعية وقادة‪ ،‬وفساد ھائل يضرب جذوره‬ ‫عميقا ً عميقا ً في نسيح الحياة اليومية اللبنانية‪.‬‬ ‫***‬ ‫حال المرأة الھلعة وسط دويّ الطلقات النارية‪ ،‬وحال سواھا من الناس “المدنيين”‬ ‫القابعين في بيوتھم في سائر المناسبات المماثلة وغيرھا من يومياتنا اللبنانية‬ ‫المسمومة بدبيب الخوف من انفجارات السيارات المفخخة‪ ،‬تذ ِّكر أيضا ً بمناخات فيلم‬ ‫صور مشاھد من الحياة اليومية‬ ‫“يوم خاص” للمخرج االيطالي إيتور سكوال الذي َّ‬ ‫في روما أيام الفاشية‪.‬‬ ‫اليوم‪ ،‬ال يزال الفساد الھائل نفسه يضرب عميقا ً في نسيج حياتنا اللبنانية‪ .‬وھو‬ ‫الفساد الذي يسمّيه الروائي والفيلسوف السيميولوجي االيطالي‪ ،‬أمبرتو إيكو‪،‬‬ ‫“الفاشية األبدية” في كتابه “دروس في األخالق”‪ .‬يرى إيكو أن “الفاشية عبارة عن‬ ‫كتلة توتاليتارية غامضة”‪ ،‬ليست لھا “إيديولوجيا موحدة‪ ،‬بل ھي خليط من أفكار”‬ ‫ومشاعر وممارسات “متنوعة ومليئة بالمتناقضات”‪ .‬الخليط ھذا‪“ ،‬قابل للتكيف مع‬ ‫الوضعيات كلھا”‪ .‬لذا يمكن التعرف إلى الفاشية في “الئحة من الخصائص النوعية”‬ ‫لما يسمّيه صاحب “إسم الوردة”‪“ ،‬الفاشية األصلية‪ ،‬أي البدائية واألبدية” التي‬ ‫يستحيل أن “تجتمع” خصائصھا “في نظام واحد”‪ .‬ذلك ألن معظم تلك الخصائص‬ ‫يناقض بعضھا البعض اآلخر‪“ ،‬لكن يكفي تحقق خاصية واحدة لكي نكون )في(‬ ‫سديم فاشي‪”.‬‬ ‫من ھذه الخصائص‪ :‬عبادة اإلرث أو التراث‪ .‬نزعة تقليدية ترفض العالم الحديث‪،‬‬ ‫وتعشق التكنولوجيا‪ .‬نزعة العقالنية ترتبط بعبادة الفعل من أجل الفعل‪ .‬إيمان‬ ‫باإلجماع يبحث عن استثمار الخوف من االختالف‪ .‬كبت فردي واجتماعي‪ ،‬ونداء‬ ‫الى الطبقات الوسطى المكبوتة التي ھمّشتھا األزمات أو اإلذالل السياسي‪ ،‬ويضاف‬ ‫الى ذلك الرعب من الضغوط التي تمارسھا مجموعات اجتماعية دونية‪ .‬كراھية‬ ‫اآلخر المنبعثة من مر ّكب ھوسي قوامه الخوف من المؤامرة‪ ،‬ومن الشعور بالمھانة‬ ‫حيال غنى العدو وقوته‪ .‬التسليم بمبدأ الحرب الدائمة والنظر الى النزعة السلمية‬ ‫بوصفھا تواطؤاً مع العدو‪ .‬تمجيد البطولة المرتبط وثيقا ً بتمجيد الموت‪ .‬فالبطل‬ ‫الفاشي يتمنى الموت ويستعجله‪ ،‬ويمكن أن يقتل كثيرين في طريقه الى البطولة‪.‬‬ ‫الزعيم ھو الصوت المعبّر عن جموع الشعب التي ال تشكل سوى وظيفة أو دور‬ ‫مسرحي أو تلفزيوني‪.‬‬


‫في إيراده ھذه الخصائص التلفيقية للفاشية األصلية‪ ،‬ينھي أمبرتو إيكو كالمه بعبارة‪:‬‬ ‫“ال تنسوا أن الحرية والتحرر واجب ال ينتھي أبداً”‪ ،‬قبل أن يختم بمقتطف شعري‬ ‫لفرنكو فورتيني‪:‬‬ ‫“على حافة الجسر‪ /‬رؤوس المشنوقين‪ /‬في ماء العين لعاب المشنوقين‪ /‬على بالط‬ ‫السوق أظفار المعدومين بالرصاص‪ /‬على حشائش المرج الجافة‪ /‬أسنان المعدومين‬ ‫بالرصاص‪ /‬عُضَّ الھواء‪ /‬عُضَّ الحجر‪ /‬لحمنا لم يعد لحم اإلنسان‪ /‬قلبنا لم يعد قلب‬ ‫اإلنسان‪ /‬لكننا قرأنا في عيون الموتى‪ /‬وعلى األرض‪ /‬الحرية سنحققھا‪ /‬ولكن‬ ‫قبضت عليھا أيدي الموتى‪”.‬‬

‫بالد العنف والجريمة )‪(٤‬‬

‫ً‬ ‫متنقلة في المدن والمناطق اللبنانية‪ ،‬فتختلط‬ ‫تتكاثر حوادث العنف والقتل وتتناسل‬ ‫فيھا وتلتبس االسباب والدوافع الناجمة عن خالفات وخصومات ونكايات وثارات‬ ‫“فردية” وأھلية وعائلية وأسرية وزوجية‪ ،‬حتى أن خالف أقارب أو جيران على‬ ‫ركن سيارة‪ ،‬أو خالف شخصين غريبين على أفضلية المرور‪ ،‬قد يؤدي الى‬ ‫شجارات تتشارك فيھا جموع‪ ،‬و ُتستعمل فيھا بنادق حربية‪ ،‬فتنتھي بقتيل أو أكثر‪،‬‬ ‫مما ينذر بتجددھا ثارات متناسلة‪ .‬كأنما العنف اللفظي والمعنوي والجسماني‬ ‫والمسلح‪ ،‬صار أحد متون لغة التعبير و”التواصل” في عالقاتنا وحياتنا اليومية التي‬ ‫تقيم في مفاصلھا وثناياھا ودوائرھا أطياف وظالل وركام من اجتماع قد يص ّح‬ ‫وصفه بالحربي المتمدن‪ ،‬أو اجتماع التمدن الحربي‪.‬‬


‫حوادث العنف والقتل المتصلة بالعالقات والحياة الزوجية واألسرية والعاطفية‪ ،‬التي‬ ‫غالبا ما تكون النساء ضحاياھا‪ ،‬تثير صيحات ساخطة ومتھكمة أحيانا ً في مواقع‬ ‫التواصل االجتماعي االلكترونية‪ .‬اما الصيحات التي يطلقھا ناشطات وناشطون في‬ ‫جمعيات ومنظمات مدنية وحقوقية‪ ،‬فغالبا ً ما تتوسل بھذه الحوادث وتجعلھا مناسبات‬ ‫مؤاتية إلطالق حمالت استنكار واحتجاج تطالب بإقرار تشريعات وقوانين مدنية‬ ‫خاصة لحماية المرأة من العنف‪ .‬غالبا ً ما تتلقف الناشطات أخبار الحوادث من‬ ‫وسائل االعالم التي تتسابق على نشرھا وإذاعتھا وتصويرھا وإجراء تحقيقات عنھا‪،‬‬ ‫من دون أن تغيب اإلثارة عن ھذا التسابق‪ .‬يلي ذلك قيام الناشطات وجمعياتھن‬ ‫ومنظماتھن بإدراج الحوادث في توجھات وبرامج وحمالت ضد ما يسمّى “العنف‬ ‫الزوجي” أو “األسري” أو “المنزلي” أو “العنف ضد النساء” والتحرش بھن‬ ‫واغتصابھن‪ .‬غالبا ً ما تتصدر الحمالت ھذه‪ ،‬المظالم التي تتعرض لھا العامالت‬ ‫األجنبيات والنساء في حياتھن البيتية والزوجية‪.‬‬ ‫الالفت في ھذه البرامج والحمالت والمطالبات عزلھا ھذا النوع من العنف وجرائمه‬ ‫المتكاثرة في لبنان‪ ،‬عن السياقات والظروف والمناخات االجتماعية والسياسية العامة‬ ‫السائدة في البالد‪ ،‬والمتسمة بدبيب العنف المتمادي والمتناضح في شتى ميادين‬ ‫الحياة اليومية‪ .‬العزل ھذا‪ ،‬ھدفه حمل العنف ضد النساء وقتلھن على مجريات‬ ‫العيش في مجتمع مدني عادي أو طبيعي‪ ،‬تحتاج النساء فيه لتشريعات حقوقية‬ ‫وقوانين مدنية خاصة‪ ،‬لحمايتھن مما يتعرضن له في حياتھن الزوجية )الضرب‬ ‫المبرح حتى القتل احياناً‪ ،‬االغتصاب الزوجي‪ ،‬وسواھا من المظالم(‪ ،‬وفي الشوارع‬ ‫)التحرش الجنسي‪ ،‬اللفظي والجسماني‪ ،‬واالغتصاب أحيانا ً(‪ .‬كأن ھذه األنواع من‬ ‫العنف معزولة ومستقلة عن ثقافات الحياة اليومية‪ ،‬االجتماعية والسياسية‪ ،‬وأشكال‬ ‫التعبير والعالقات‪ ،‬المشرعة على انتھاكات تبدو انھا األصل والمتن في المجتمع‬ ‫اللبناني الراھن‪.‬‬ ‫غاية الناشطات والناشطين المدنيين والحقوقيين وجمعياتھم ومنظماتھم‪ ،‬من عزل‬ ‫العنف والمظالم الواقعة على النساء‪ ،‬وتجريدھا من دبيب العنف العام‪ ،‬استسھال‬ ‫توجيه الحمالت وصبّ المالمة والتبعات على غياب التشريعات والقوانين‪ ،‬وعلى‬ ‫تقاعس األجھزة األمنية والمؤسسات القضائية واإلدارية‪ ،‬وصوالً إلى معزوفة‬ ‫“غياب الدولة” اللبنانية عن تطبيق القوانين ومالحقة مرتكبي جرائم العنف والقتل‬ ‫ضد النساء‪ ،‬واالقتصاص منھم‪ .‬ھذا مع العلم بأن اللبنانيين‪ ،‬جماعات وافراداً‪ ،‬ال‬ ‫يتفقون على حقيقة في كالمھم اليومي‪ ،‬اتفاقھم على حقيقة انھيار دولتھم وغيابھا‪،‬‬ ‫الى حد قولھم الدائم انھم يعيشون في مجتمع بال دولة وقوانين‪ ،‬يتمتع بحريات‬ ‫فوضوية قصوى‪ ،‬مدمرة وقاتلة‪ .‬وبما أن ھذه الحرية الفوضوية أمست بنيوية في‬


‫معظم ميادين الحياة‪ ،‬أمسى الكالم اليومي عنھا شبيھا ً بك ّفارة عامة يمارسھا كل من‬ ‫الجماعات واالفراد‪ ،‬للتعايش مع الفوضى واالرتكابات والممارسات العنيفة‪ ،‬كأنھا‬ ‫قدر لبناني محتوم ال را ّد له وال وازع‪.‬‬

‫ناشطو المجتمع المدني‬ ‫تجريد الجرائم وعزلھا من السياقات والظروف االجتماعية والسياسية العامة‪ ،‬ومن‬ ‫ثقافة الحياة اليومية العامة السائدة في االجتماع اللبناني الراھن‪ ،‬ينطويان على‬ ‫غايات متالزمة متداخلة‪:‬‬ ‫إضفاء طابع مدني على العنف والجرائم المرتكبة ضد النساء‪ ،‬والتغاضي عن‬‫جذرھا العميق في ثقافة الجماعات األھلية وعالقاتھا‪.‬‬ ‫إرادة ھرب مزمنة ومتعمدة من النظر الى الجذر األھلي للعنف‪ ،‬الذي صار يالبس‬‫ثقافتنا االجتماعية والسياسية األھلية والعصبية‪ ،‬وكذلك أشكال العالقات والتواصل‬ ‫والتعبير في كثير من دوائر حياتنا المحلية‪ .‬فالعنف يكاد يكون الظاھرة األبرز في‬ ‫تصريف الخالفات والمنازعات بين الجماعات واألفراد‪ ،‬وكذلك في التعبير عن‬ ‫األفراح واألتراح‪ ،‬في الظروف اللبنانية الراھنة والمزمنة‪.‬‬ ‫حاجات الناشطات والناشطين في جمعيات الحقوق المدنية واالنسانية ومنظماتھا‬‫المحلية الوثيقة الصالت بمنظمات دولية وغير حكومية‪ ،‬أوروبية وغربية‪ ،‬إلى‬ ‫تصوير المجتمع والدولة و”المواطنين” في لبنان تصويراً مجرداً أو متخيالً يناسب‬ ‫طموحاتھم وصورھم عن أنفسھم ونمط حياتھم وعالقاتھم الفردية والمدنية‪ ،‬على‬


‫ھوامش الجماعات األھلية وثقافتھا العضوية العصبية التي تتوسل بالعنف والقتل في‬ ‫تصريف خالفاتھا ومنازعاتھا‪ ،‬أحقادھا ونكاياتھا‪.‬‬ ‫حاجة الجمعيات والمنظمات المدنية والحقوقية‪ ،‬وكذلك حاجة العاملين فيھا‪ ،‬الى‬‫التماسك والعمل في منأى من تجاذبات العصبيات واالنقسامات األھلية التي تھدد‬ ‫تماسكھم وعملھم‪ ،‬خشية أن تتسلل إلى متن نشاطھم المدني والحقوقي‪.‬‬

‫ثقافة العنف ودھاقنته‬ ‫تتكامل ھذه العوامل وتبلغ غايتھا بإلقاء أسباب حوادث العنف وجرائمه وتبعاتھا على‬ ‫كيان معنوي مجرد وموحد‪ :‬الدولة والقوانين والتشريعات المدنية الحقوقية‪ .‬كأنما ھذا‬ ‫الكيان متفق على وجوده وعلى آليات عمله‪ ،‬وعلى استقالله المعنوي عن الجماعات‬ ‫وعصبياتھا وثقافتھا األھلية العصبية السائدة‪ ،‬التي غالبا ً ما تتوسل بالعنف وتمجده‬ ‫في شعاراتھا وخطب مق ّدميھا وزعمائھا ودھاقنتھا المفوّ ھين الصادحين على إيقاع‬ ‫ز ّخات رصاص األحقاد والثارات والغضب والفرح واالنتصارات واالحتفاالت‪،‬‬ ‫وانفجارات ألعابھا النارية في كثير من أحياء المدن والبلدات والقرى‪.‬‬ ‫الحق أن تراثنا عريق في ھذا المجال‪ .‬ففي المرويات الزغرتاوية – اإلھدنية القديمة‬ ‫قول شائع مأثور يك ّني عن طرب االھالي بزخات الرصاص التي إذا ما سمعھا‬ ‫أحدھم من بعيد‪ ،‬يقول مخاطبا ً الرصاص‪“ :‬صوتك حنون”‪ .‬بلغ التغني بثقافة العنف‬ ‫ً‬ ‫وأدواته ذورته “السياسية” في القول المأثور األحدث زمنا ً‬ ‫وداللة جماھيرية‪:‬‬ ‫“السالح زينة الرجال”‪ .‬في اثناء كتابة ھذه السطور ھا ھي ز ّخات الرصاص ال‬ ‫تتوقف عن الزغردة مع المفرقعات النارية من على الشرفات في كثير من أحياء‬ ‫بيروت‪ ،‬تعبيراً عن احتفال بعض األھالي وفرحتھم بفوز أبنائھم وبناتھم في‬ ‫امتحانات الشھادات الرسمية‪ .‬ر ّداً على ھذه االحتفاالت كتب أحدھم على صفحته في‬ ‫الـ”فايسبوك” متمنيا ً فشل أبناء المحتفلين في دراساتھم الجامعية‪ .‬الالفت أن‬ ‫االحتفاالت الطروبة بدويّ الرصاص والمفرقعات‪ ،‬لم تقتصر على أحياء شعبية‪ ،‬بل‬ ‫تجاوزتھا الى أحياء لفئات اجتماعية متوسطة‪ ،‬حيث اختلطت بدويّ المفرقعات‬ ‫الرمضانية في أمسيات ما بعد اإلفطارات العامرة‪.‬‬ ‫قبل أيام من ھذه االحتفاالت‪ ،‬احتفلت عشيرتا زعيتر وحجوال في الليلكي‪ ،‬بتجديد‬ ‫ثاراتھا المتناسلة فصولھا منذ ‪ ١٤‬شھراً‪ ،‬على ما كتب عباس الصباع في “النھار”‬ ‫)‪ ٢٦‬حزيران ‪ ،(٢٠١٣‬مشيراً الى أن العشيرتين “تدينان بالوالء للثنائي الشيعي”‪،‬‬ ‫“امل” و”حزب ‪ .”e‬ابتدأت فصول الثأر العشائري بـ”تالسن” بين شابين من‬ ‫العشيرتين سببه خالفھما على أفضلية “مرور سيارة”‪ ،‬فأردى أحدھما اآلخر بطلقات‬


‫بندقية أو مسدس‪ .‬أما الفصل األخير من عمليات الثأر‪ ،‬فاستمرت اشتباكاته ثالثة أيام‬ ‫متصلة‪ ،‬وتدخل مشايخ ونواب عبثا ً لوقفھا‪ ،‬فتبادلت العشيرتان حرق محطة‬ ‫محروقات قرب “مدرسة االمام الخميني”‪ ،‬ومطعم لشخص من آل زعيتر‪ .‬قبل‬ ‫توقف االشتباكات بعد تدخل وحدات من الجيش اللبناني‪ ،‬نزحت من الليلكي الى‬ ‫الحدت عائالت لتأمين الھدوء والسكينة ألبنائھا كي يتمكنوا من التحضير المتحانات‬ ‫الشھادات الرسمية التي ال بد من أن يكون الرصاص قد زغرد للناجحين فيھا‪.‬‬ ‫ير ُد ذكر ھذه االيقاعات الخلفية وغيرھا من أمثالھا‪ ،‬للقول إن العنف الرمزي‬ ‫والمعنوي والمادي المسلح أصيل في ثقافات الجماعات المحلية في تعبيرھا عن‬ ‫أفراحھا وأتراحھا وأحقادھا وغضبھا وسخطھا وثاراتھا الھاجعة والمتجددة‪ .‬فالثقافة‬ ‫ھذه تشكل ركنا ً تعبيريا ً أساسيا ً في االجتماع والسياسة‪ ،‬وفي تصريف الجماعات‬ ‫واألفراد شؤون حياتھم اليومية‪ ،‬فيسود اإلستقواء بالتضامن العصبي للخروج على‬ ‫الدولة ومؤسساتھا وقوانينھا وتشريعاتھا التي أمست صورية أصالً لكثرة ما تتعرض‬ ‫لالنتھاكات في ميادين الحياة اليومية المختلفة‪.‬‬ ‫الالفت في ھذا السياق أن إحدى الجمعيات المدنية والحقوقية البيروتية الناشطة في‬ ‫مجال مكافحة العنف االسري والزوجي ضد النساء‪ ،‬قامت بتحريض نساء مع ّنفات‬ ‫لجأن اليھا واستنجدن بھا‪ ،‬على توجيه رسائل )نشرتھا صحف بيروتية كثيرة(‬ ‫تستعطف الدھاقنة من زعماء الجماعات وأمراء الحرب والطوائف في لبنان‪،‬‬ ‫وتستجديھم‪ ،‬إلقرار قانون ضد العنف األسري والزوجي في مجلس النواب‪ .‬كأن‬ ‫الدھاقنة ھؤالء روّ اد مجتمع مدني وحقوق مدنية وانسانية‪ .‬ھذا مع اإلشارة الى أن‬ ‫الجماعات التي وجھت تلك الرسائل منعھا خوفھا ورعبھا من توجيھھا الى كبير‬ ‫الدھاقنة اللبنانيين في الخروج على الدولة ومؤسساتھا التي اجتاحھا رجاله وسيطروا‬ ‫على مفاصلھا‪ ،‬قبل خروج جيشه على حدودھا الجغرافية الدولية الواھية أصالً‪،‬‬ ‫لخوض حروب أھلية – إقليمية‪ ،‬يجري وصفھا باالستباقية والجھادية والمقدسة‪،‬‬ ‫فتختلط في ھذه الصفات ومثيالتھا الحروب الدينية القديمة بالحروب االستعمارية‪،‬‬ ‫وبحروب أزمنة ما بعد الحداثة‪.‬‬


‫ماضي األيام اآلتية‬ ‫وسط ھذا االختالط الذي يق ّدس ثقافة العنف األھلي السياسي‪ ،‬وينصّبھا مثاألً يمتنع‬ ‫التشكيك في مقدساته‪ ،‬ال يبقى لناشطي المجتمع المدني وناشطاته ولإلعالميين أيضاً‪،‬‬ ‫اال ذلك الكيان المعنوي المغيّب والمسمّى الدولة‪ ،‬لالحتجاج عليه وض ّده‪ ،‬وتحميله‬ ‫المسؤولية عن حوادث العنف والقتل ذات الطابع “الفردي” و”الشخصي” في الحياة‬ ‫االجتماعية ونسيجھا المعتبر “مدنيا ً”‪ ،‬على الرغم من أن تلك الحوادث وثيقة الصلة‬ ‫بجذور ثقافة العنف األھلي‪ ،‬وبطاعون االنقسامات والعداوات السياسية‪.‬‬ ‫الشاعر محمد العبد‪ e‬اكتشف ھذه الجذور في بدايات حروبنا الملبننة‪ ،‬فكتب أنه‬ ‫استفاق مر ًة من نومه وخرج الى الشرفة‪ ،‬فوجدھا حربا ً أھلية‪ ،‬بعدما كان يحسبھا‬ ‫حربا ً طبقية‪ ،‬على ما كان يتوھم “الرفاق الشيوعيون” وسواھم من اليساريين‪.‬‬ ‫أما وضاح شرارة فكان كتب قبل سنين كثيرة من كتابه “دولة حزب ‪ ،”e‬مقولته‬ ‫الشھيرة في “حروب االستتباع”‪ ،‬فاستھلھا بالتنبه الى جذور العنف ودبيبه في نسيج‬ ‫ّ‬ ‫المغطى بقشرة رقيقة من العالقات الرأسمالية والمدنية المحدثة التي‬ ‫االجتماع األھلي‬ ‫سرعان ما تمزقت وتكشفت عن “مئات محمد دبوسي يعيشون بيننا”‪.‬‬ ‫دبوسي ھذا ھو أحد مرتكبي جرائم الشرف الكثيرة المدوية‪ :‬قتل شقيقته على شاطئ‬ ‫خلده‪ ،‬ما بين صروح الحداثة اللبنانية في ستينات القرن العشرين وسبعيناته‪ :‬المسابح‬ ‫الناشطة المزدھرة‪ ،‬مطار بيروت الدولي‪ ،‬وكلية العلوم في الشويفات‪ .‬بعد غسله‬ ‫بالدم شرف الرجولة واألھل‪ ،‬قطع دبوسي رأس ضحيته‪ ،‬وحمله الى دارة المير‬ ‫مجيد ارسالن‪ ،‬ليريه رأي العين الشرف المغسول‪ ،‬كي يكون األمير سنده وظھره‬ ‫أمام القضاء‪.‬‬ ‫ذلك أيام كان اللبنانيون يتغ ّنون بازدھار بلدھم وحداثته وتقدمه‪ ،‬من دون أن يروا في‬ ‫العنف األھلي وجرائمه اال بقايا ثقافة نافلة تتكفل العالقات الرأسمالية الزاحفة على‬ ‫المجتمع اللبناني تجفيفھا ومحوھا‪ ،‬فإذا بتلك البقايا تستفيق استفاقة المكبوت‪ ،‬وتجعل‬ ‫العالقات الرأسمالية والحداثة اللبنانية من أضغاث األوھام أو األحالم‪.‬‬

‫مجتمع التح ّلل العاري‬ ‫مقارنة سريعة بين أخبار حوادث العنف والترويع والخطف والقتل‪“ ،‬غير السياسية”‬ ‫أو غير المتصلة مباشرة بشبكات منظمات أمنية – سياسية‪ ،‬في يوميات صحف‬ ‫النصف األول من سبعينات القرن العشرين اللبنانية‪ ،‬وبين أخبار الحوادث المماثلة‬ ‫في صحفنا اليوم‪ ،‬تبيّن أن حوادث عنف السبعينات في عشايا الحرب )‪ (١٩٧٥‬كانت‬


‫وثيقة الصلة بانتشار السالح الفلسطيني المقاوم ومنظماته الكثيرة وزبانيتھا اللبنانيين‪.‬‬ ‫ھذا إضافة إلى أن تلك الحوادث لم تكن تحظى باستنھاض علني واضح للعصبيات‬ ‫األھلية والمحلية والعائلية العارية التي تالبس حوادث العنف وتستنھضه في يومياتنا‬ ‫الراھنة‪.‬‬ ‫فما كان يبدو ضبابيا ً ويط ّل ضبابه من ثنايا العالقات االجتماعية والسياسية ونظامھا‪،‬‬ ‫تصلّب اليوم عميقا ً وطغى على النسيج االجتماعي‪ ،‬فصارت التشكيالت والنعرات‬ ‫العصبية والعصبوية‪ ،‬من طائفية ومناطقية وعشائرية وعائلية‪ ،‬أقرب إلى تكوّ ن بنية‬ ‫تنظيمية أساسية في مجتمع متحلل‪ .‬لذا أخذت تبرز حوادث القتل “الفردية” وسواھا‬ ‫من المنازعات اليومية في األزقة والشوارع واألحياء والقرى‪ ،‬وصوالً الى تراشق‬ ‫مق ّدمي الطبقة السياسية‪ ،‬ودھاقنتھا‪ ،‬في ھيئة حوادث أھلية في مالبساتھا وفي ما‬ ‫تستنھضه من ردود فعل محلية تنخرط فيھا جموع من األھالي في األحياء والمناطق‬ ‫والقرى‪ .‬كأن كل مجموعة من ھذه الجموع المتجاورة تسعى الى ترسيخ حقھا‬ ‫وسلطتھا المكتسبين بالقوة الذاتية العارية‪ ،‬في غياب أي سلطة للقانون ومؤسسات‬ ‫الدولة والحكم‪ .‬ھكذا ُتظھر حوادث العنف والقتل والخطف والمشاجرات الدابّة اليوم‬ ‫في المجتمع اللبناني‪ ،‬أن ھذا المجتمع تحلل الى وحدات طائفية ومناطقية وجھوية‬ ‫وأھلية وعشائرية وعائلية‪ ،‬عارية ومتنابذة‪ ،‬ال يكاد يجمعھا جامع سوى تبادل الريبة‬ ‫والتربص والمخاوف واألحقاد التي تطابق الحدود الجغرافية أو العقارية للجماعات‬ ‫ووحداتھا الصغرى‪.‬‬ ‫الحوادث التي ُتظھر ھذه الحال من التحلل الفوضوي أكثر من أن تحصى‪ .‬يبرز ھذا‬ ‫جليا ً في جريمة قتل شاب مصري وسحله في مھرجان أھلي غاضب وصاخب‪،‬‬ ‫وتعليق جثته على عمود إنارة في ساحة كترمايا‪ ،‬وتصوير مشاھد ھذا المھرجان‬ ‫تصور األعراس ومواكب سياراتھا في‬ ‫بعدسات كاميرات الھواتف المحمولة‪ ،‬كما‬ ‫َّ‬ ‫البلدات والقرى‪ .‬الحال نفسھا تظھر أيضا ً في جريمة أخرى أحدث زمنا ً‪ :‬بتر العضو‬ ‫الجنسي لشاب من الطائفة السنية من قرية عكارية‪ ،‬ألنه تزوج فتاة من بلدة بيصور‪،‬‬ ‫رغما ً عن إرادة أھلھا الدروز‪.‬‬ ‫الحق أن ھذه الحادثة االخيرة التي لم تنته فصولھا حتى كتابة ھذه السطور‪ ،‬تكاد أن‬ ‫تكون مرآة لألسوار األھلية‪ ،‬المعنوية والمادية والجغرافية‪ ،‬التي ترفعھا حولھا‬ ‫الجماعات اللبنانية الكبرى والصغرى‪ ،‬من دون أيّ وازع من قانون ومؤسسات‬ ‫دولة جامعة‪ .‬ففيما قوّ ضت شبكات التواصل اإللكتروني الحدود بين الجماعات‬ ‫واألفراد‪ ،‬وأتاحت للشاب ربيع األحمد العكاري أن يتواصل مع الشابة ردينة مالعب‬ ‫في بلدة بيصور قرب عاليه‪ ،‬فتزوجا خفية عن أھل الشابة‪ ،‬وأقاما في منطقة بعيدة‬ ‫من أھلھما‪ ،‬تمكن أشقاء الزوجة العروس من استدراج الزوجين الى مطعم في‬


‫بيصور‪ ،‬حيث خطفوا الزوج واعتدوا عليه وحطموا أسنانه وبتروا عضوه التناسلي‪،‬‬ ‫قبل رميه في ساحة البلدة‪ ،‬كناية عن غسلھم العار في العالنية العامة البلدية‬ ‫واألھلية‪.‬‬ ‫إحدى المحطات التلفزيونية ص ّدرت الخبر عن ھذه الحادثة في نشرتھا اإلخبارية‬ ‫المسائية‪ ،‬كأنھا وقعت على صيد ثمين‪ .‬وھي اعتمدت في عرضھا الخبر أسلوبا ً فجا ً‬ ‫في إثارته‪ ،‬على ما تعوّ دت أن تفعل في كثير من أخبارھا‪ ،‬لجذب المشاھدين‬ ‫الجائعين الى مثل ھذه اإلثارة‪ ،‬ولزيادة رصيدھا اإلعالمي لديھم‪.‬‬ ‫بدأت المحطة نشرتھا اإلخبارية بالعبارة اآلتية‪“ :‬من الحب ما قطع”‪ ،‬ثم نقلت عن‬ ‫الشاب األحمد قوله‪“ :‬شلّحوني ثيابي وقصّولي إياه”‪ .‬وقد استغرق الخبر أربع دقائق‬ ‫في مستھل النشرة‪ .‬متبادلو التعليقات على صفحات الـ”فايسبوك”‪ ،‬جعل كثير منھم‬ ‫الحادثة مداراً لمزيج من السخرية والتھكم الجنسيين والطائفيين‪ .‬إحدى الناشطات في‬ ‫مجال الحقوق المدنية‪ ،‬أنشأت على الـ”فايسبوك” صفحة خاصة مستقلة أطلقت‬ ‫ً‬ ‫ناسية مأساة الشاب األحمد‬ ‫عبرھا “حملة ضغط للكشف عن مصير ردينة مالعب”‪،‬‬ ‫الذي تبيّن بعد أيام من خروجه من المستشفى‪ ،‬أن مالك المنزل المتواضع الذي‬ ‫يستأجره في طبرجا‪ ،‬رفض عودته إليه وطرده منه‪ ،‬ألن أھل البلدة الساحلية يأبون‬ ‫أن يقيم بينھم شخص ساءت سمعته‪ ،‬جراء الحادثة التي تعرض لھا‪ ،‬على ما قال‬ ‫األحمد في تحقيق تلفزيوني رصين عن الحادثة وتداعياتھا وأمثالھا من حوادث‬ ‫العنف والقتل‪ّ ،‬بثته محطة تلفزيونية محلية‪.‬‬ ‫وروى األحمد أيضا ً أن محاوالته استئجار مسكن في مناطق أخرى‪ ،‬باءت بالفشل‪،‬‬ ‫ألن ال ُمالّك رفضوا طلبه فور تعرفھم إليه ومعرفتھم أنه “بطل” الحادثة التي أظھرته‬ ‫ً‬ ‫فضيحة‬ ‫في مشاھد كثيرة على شاشات التلفزة الجائعة والنھمة‪ .‬لقد صار األحمد إذاً‪،‬‬ ‫أو عاراً اجتماعيا ً وتلفزيونياً‪ ،‬بسبب براءته وعريه األھلي والعصبي اللذين حماله‬ ‫على الظھور المتكرر في العالنية العامة اإلعالمية‪ ،‬راويا ً مأساته التي ستطويھا‬ ‫قريبا ً‬ ‫مآس أغرب منھا وأعصى على التوقع والتخيل في مجمتع سبّاق في فنون‬ ‫ٍ‬ ‫الجريمة‪ ،‬وفي تحلّله المتمادي‪ ،‬وتحويله المجاز والخيال وقائع مادية عارية‪.‬‬ ‫قد يالحظ المتتبع تفاوتا ً في أعداد حوادث العنف والقتل والثأر وتباينا ً في أنواعھا‬ ‫بين المناطق‪ .‬أحيانا ً تتكاثر ھذه الحوادث في األحياء العشوائية من ضواحي ضاحية‬ ‫بيروت الجنوبية‪ .‬وأحيانا ً تتصدر عكار وقراھا حوادث العنف والقتل‪ .‬فبعد يومين‬ ‫من حادثة األحمد – مالعب‪“ ،‬تطور خالف بين أفراد من آل المصري في بلدة‬ ‫ببنين العكارية‪ ،‬الى تبادل النار‪ ،‬فقُتل عبد السالم المصري‪ ،‬وجُرح خمسة آخرون‬ ‫من العائلة نفسھا )“النھار” ‪ ١٩‬تموز ‪.(٢٠١٣‬‬


‫العنف والقتل في ھذه الحادثة عائليان‪ ،‬حيث تتناسل العداوات والثارات في العائلة‬ ‫الواحدة‪ ،‬من دون حاجة إلى عائلة أخرى لتبادل الثأر‪ .‬ھذا فيما ال تزال حادثة قتل‬ ‫كرم البازي زوجته روال يعقوب في حلبا‪ ،‬حيّة راعفة في البلدة العكارية وفي وسائل‬ ‫اإلعالم وحمالت الناشطين المدنيين‪.‬‬ ‫يبدو أن أعداد مثل ھذه الحوادث مرشحة الى االرتفاع في المقبل من األيام‪ ،‬بعدما‬ ‫أظھرت إحصاءات أن امرأة ُتقتل شھريا ً في لبنان في السنوات األخيرة‪ ،‬بسبب‬ ‫جرائم الشرف والخالفات العائلية والزوجية‪ .‬فالتحقيقات القضائية لم تحسم بعد ما إذا‬ ‫كانت بثينة الزين قد انتحرت حرقا ً أم أن زوجھا أحرقھا‪ ،‬بسبب زواجه من طليقة‬ ‫شقيقھا‪ .‬في ‪ ٨‬شباط ‪ ٢٠١٣‬قُتلت بغداد العيسى في قرية الوزاني‪ ،‬بطعنات س ّددھا‬ ‫شقيقھا الى خاصرتھا لدواعي غسل الشرف‪ .‬أما صونيا ياغي فقتلھا شقيقھا أيضا ً‬ ‫بطلقات نارية في منطقة باب الرمل بطرابلس‪ ،‬بعدما شاھدھا برفقة شاب في‬ ‫الشارع‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬اذا كانت الثقافة المح ّرضة على ارتكاب جرائم الشرف والثارات العشائرية‪،‬‬ ‫تختلف عن بواعث الجرائم االخرى‪ ،‬فإن حوادث العنف والقتل تتشابه في معظمھا‬ ‫في استسھال األفراد والجماعات اإلقدام على االحتكام إلى القوة الذاتية العارية‪،‬‬ ‫العضلية والمسلّحة غالباً‪ ،‬في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحياة اليومية‬ ‫وشجونھا‪.‬‬ ‫في عراك‪ ،‬بين أفراد عائلتين في بلدة بالنة الحيصة في عكار‪ ،‬استعمِلت فيه العصي‬ ‫والسكاكين‪ ،‬قُتِل شخص بضربة عصا على رأسه )“النھار”‪ ٢٢ ،‬تموز ‪.(٢٠١٣‬‬ ‫وفيما قامت عائلة في بلدة شقرا الجنوبية‪ ،‬محاطة برھط من مقاتلي “حزب ‪”e‬‬ ‫ومقدميه‪ ،‬بتشييع ابنھا “المقاوم” الذي “سقط أثناء قيامه بواجبه الجھادي في سوريا”‬ ‫)“النھار”‪ ٢٢ ،‬تموز ‪“ ،(٢٠١٣‬ادعت النيابة العامة العسكرية على ستة موقوفين‬ ‫فاتھموا بـ”تأليف عصابة‬ ‫لبنانيين ضبطت في حوزتھم ثالث بنادق حربية وذخائر”‪ِ ،‬‬ ‫مسلحة للقيام بأعمال إرھابية”‪.‬‬ ‫لكن المتھمين “أفادوا أنھم يؤيدون المعارضة السورية”‪ ،‬في إشارة منھم الى تبرير‬ ‫حيازتھم األسلحة )“النھار”‪ ٢٠ ،‬تموز ‪.(٢٠١٣‬‬ ‫فبأيّ معايير قانونية وحقوقية ووطنية يُعتبر نصير المعارضة السورية المسلح‬ ‫“إرھابيا ً”‪ ،‬قبل أن يستخدم سالحه في نصرتھا‪ ،‬بينما يشيّع مقاتل “حزب ‪ ”e‬الى‬ ‫مثواه َّ‬ ‫معززاً مكرَّ ما ً بوصفه “جھاديا ً”‪ ،‬بعد قتاله الى جانب النظام السوري؟!‬


‫في ھذه الحال‪ ،‬ما الذي يحمل أھالي الموقوفين بتھمة “االرھاب” على القبول بھذه‬ ‫التھمة التي تنقلب “جھاداً مقدسا ً” في عقيدة “حزب ‪”e‬؟!‬ ‫وما الذي يحول دون إقدام أھالي “اإلرھابيين” وصحبھم وجماعتھم على نصرة‬ ‫أبنائھم الموقوفين بالسالح‪ ،‬إذا استطاعوا الى ذلك سبيالً‪ ،‬على ما فعل أحمد االسير‬ ‫وجماعته في صيدا؟!‬ ‫ھذا فيما حاصرت جماعة من أھالي بلدة بليدا الجنوبية دورية اسبانية تابعة‬ ‫لـ”اليونيفيل”‪“ ،‬لالشتباه في أن عناصرھا تقوم بالتقاط صور في البلدة‪ ،‬فاستمر‬ ‫الحصار نحو ساعة حتى تدخل الجيش اللبناني” )“النھار”‪ ٢٢ ،‬تموز ‪ ،(٢٠١٣‬من‬ ‫دون أن يعتقل الجيش أ ّيا ً من المحاصرين‪ ،‬فيما “نفى مصدر في “اليونيفيل” أن‬ ‫تكون عناصر الدورية قد التقطت أيّ صور في البلدة” التي يبدو أنھا تتمتع بحكم‬ ‫ذاتي أھلي في حمى “الحزب المقاوم”‪.‬‬ ‫أما في حي آل الكيال في بعلبك‪ ،‬فقد أقدم‬ ‫“مجھولون” على حرق “جرافة تابعة لبلدية‬ ‫المدينة‪ ،‬وأقفلوا مكبّ النفايات” في الحي‬ ‫نفسه‪ ،‬بعدما قامت “دورية من مخابرات‬ ‫الجيش اللبناني بتوقيف مطلوب بمذكرة‬ ‫توقيف” في الحي الذي اتھم أھله البلدية‬ ‫بـ”التورط في عملية التوقيف” )“النھار”‪٢٠ ،‬‬ ‫تموز ‪.(٢٠١٣‬‬ ‫في ھذه الحال‪ ،‬كيف يكون مجھوالً من أقدم على حرق الجرافة؟! من يوميات‬ ‫حوادث العنف المتنقلة في الديار اللبنانية‪ ،‬أقدم مسلحان يمتطيان دراجة نارية على‬ ‫إطالق النار على عناصر حاجز لقوى االمن الداخلي‪ ،‬في محلة كورنيش المزرعة‪،‬‬ ‫بعد احتجاز عناصر الحاجز سيارة مخالفة‪ ،‬زجاجھا “مفيّم” )داكن(‪ ،‬فاضطر‬ ‫عناصر األمن الى الرد على مصادر النار‪ ،‬مما أدى الى إصابة أحد المھاجمين‪،‬‬ ‫وتوقيف رفيقه )“النھار”‪ ٢٠ ،‬تموز ‪(٢٠١٣‬‬

‫صندوق الفرجة‬ ‫ھذا غيض من فيض يوميات حوادث العنف والقتل المتناسلة في مجتمع التحلّل‪،‬‬ ‫مجتمع التمدن البدائي والدبيب البطيء لعنف الحروب المتمدنة‪ .‬مجتمع تھجم فيه‬


‫وسائل اإلعالم والتواصل االلكتروني ھجوما ً محموما ً على أخبار تحلّله الذي تحسب‬ ‫كل جماعة أنھا في منأى منه‪ ،‬ويحسب الجميع أنه ال يصيبھم‪ ،‬بل يصيب اآلخرين‪.‬‬ ‫كأن ھذه البالد صندوق للفرجة‪ ،‬يھزج كثير من س ّكانه فرحين‪ :‬تعا تفرّج يا سالم‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫دولة خارجة على الدولة! )‪(٥‬‬ ‫المبنى ب‪.‬‬

‫منذ العام ‪ ١٩٩٨‬تتسارع وتائر الشغب والتمرد في سجن رومية المركزي‪ ،‬وكذلك‬ ‫حوادث الفرار ومحاوالت الفرار‪ .‬معظم ھذه الحوادث مسرحھا المبنى ب‪ .‬الذي‬ ‫“ينزل” فيه الموقوفون االسالميون‪ ،‬وفي طليعتھم عناصر “فتح اإلسالم”‪ .‬وفي ظل‬ ‫التسيب والفساد المستشريين في إدارة السجن‪ ،‬يبدو حبل الشغب والتمرد والعنف‬ ‫والجريمة فيه مشرّع على الغارب‪.‬‬ ‫قبل انتفاضة السجناء في سجن رومية المركزي في نيسان ‪ ،١٩٩٨‬لم يكن الخبر‬ ‫ف‬ ‫عن السجون ونزالئھا وحوادثھا حاضراً في التداول اللبناني العمومي‪ ،‬وال ع ُِر َ‬ ‫لبنان بوصفه بلد مداھمات أمنية واعتقاالت وسجون‪ ،‬خالفا ً للبلدان العربية الشھيرة‬ ‫بأنظمتھا المخابراتية ومعتقالتھا وأدب سجونھا‪ ،‬وخصوصا ً العراق البعثي الص ّدامي‬ ‫و”سوريا األسد”‪ .‬لكن انتفاضات السجناء في رومية واالخبار المدوية عنھا لم‬ ‫تكرّ س للبنان صورة بلد اعتقاالت وسجون‪ ،‬قدر ما كشفت عن حال اإلھمال‬ ‫والفوضى والتخلف في نظام ھذه السجون وإدارتھا‪ ،‬وعن أن بلد “الحريات في‬ ‫الشرق” والحروب األھلية الملبننة لم يكن يوماً‪ ،‬ولن يكون‪ ،‬بلد اعتقاالت وسجون‪.‬‬ ‫بل ان ما حدث في ‪ ١٩٩٨‬افتتح سلسلة متتالية من االنتفاضات والفرار من سجن‬ ‫رومية‪ ،‬ال تزال تتكرر فصولھا حتى اليوم‪ ،‬وال يبدو أنھا ستتوقف في األيام المقبلة‪.‬‬ ‫في سنوات الحرب خلت السجون اللبنانية من نزالئھا تقريباً‪ ،‬لكنھا راحت تغصُّ‬ ‫وتزدحم بھم في زمن الوصاية السورية على لبنان الذي ظلت سجونه على حالھا‪،‬‬


‫بل تدھورت أنظمتھا وخدماتھا وإدارتھا وضاقت مساحاتھا وازدادت قسوة وإھماالً‬ ‫عما كانت عليه قبل الحرب‪ ،‬واستشرى فيھا الفساد الذي أخذ يضرب معظم‬ ‫مؤسسات الدولة‪ ،‬بعدما دمرتھا الحرب‪ ،‬من دون أن تقوى حكومات الوصاية على‬ ‫انتشالھا من لجة االنحطاط والفوضى والفساد‪.‬‬ ‫وھكذا جاءت انتفاضة سجناء رومية نذيراً من ذلك القاع االجتماعي الذي ُك ِّدس فيه‬ ‫من ساقتھم أقدارھم وأفعالھم الى بؤسه وقسوته‪ ٣٠ :‬سجينا ً في زنزانة ال تستوعب‬ ‫أكثر من عشرة‪ ،‬ثالثة آالف سجين ينتظرون المعاينة الصحية لدى طبيب واحد‪.‬‬ ‫أعداد كبرى من السجناء موقوفون منذ سنوات من دون محاكمة‪ ،‬ومنھم مرتكبو‬ ‫مآس انسانية منھا الى جرائم‪ .‬لم يكن بين السجناء‬ ‫جرائم مخدرات ھي أقرب الى‬ ‫ٍ‬ ‫المنتفضين آنذاك سوى ‪ ٢٣‬سجينا ً موقوفين بتھمة الخطف واالرھاب واالعتداء على‬ ‫أمن الدولة‪ .‬وبعدما أحرق المنتفضون الفرش واألغطية وحطموا زجاج النوافذ‬ ‫وخلعوا بوابات الزنازين‪ ،‬وشطب بعضھم جسمه بآال ٍ‬ ‫ت حادة‪ ،‬أذاعوا مطالبھم‪،‬‬ ‫فجاوبھم وزير الداخلية‪ ،‬ميشال المر آنذاك‪ ،‬عبر مكبر للصوت قائالً إن ‪ ٨٠‬في‬ ‫المئة من المطالب محقة‪ ،‬و‪ ٩٥‬في المئة منھم يمكن أن يكونوا بريئين‪.‬‬ ‫ثم وعد بعرض أوضاع السجون في جلسة مجلس الوزراء‪ ،‬بغية إصالحھا وتحسين‬ ‫خدماتھا وأنظمتھا‪ ،‬لكن االنتفاضة تالشت بعد يومين‪ ،‬وذھبت الوعود أدراج الرياح‪،‬‬ ‫وتفاقم االكتظاظ والبؤس واإلھمال في زنانين رومية التي استضافت في مطلع العام‬ ‫‪ ٢٠٠١‬موجات متالحقة من المعتقلين والموقوفين اإلسالميين بتھم اإلرھاب‬ ‫واالعتداء على أمن الدولة في حادثة الضنيّة الشھيرة التي ھ ّزت لبنان في الليلة‬ ‫األخيرة من األلفية الثانية‪ .‬ومذذاك برز “المبنى ب” بوصفه مرتعا ً للموقوفين‬ ‫االسالميين من دون محاكمات‪ ،‬وأخذ أھالي ھؤالء ينظمون وقفات احتجاجية‬ ‫بمساعدة ھيئات دينية لإلسراع في محاكمة أبنائھم السجناء على ذمة التحقيق‪ ،‬والذين‬ ‫قاموا بدورھم بحركات احتجاج داخل السجن‪ ،‬منھا إضراب بعضھم عن الطعام في‬ ‫أيار ‪ ،٢٠٠٢‬عشية االعالن عن بدء محاكماتھم‪.‬‬ ‫لكن فصول موقوفي الضنية اإلسالميين ظلت مفتوحة حتى عشايا االنتخابات‬ ‫النيابية األولى من دون وصاية سورية في صيف ‪ ،٢٠٠٥‬والتي أدت الى عقد‬ ‫صفقة “سياسية” ضربت عرض الحائط باإلجراءات القضائية والقانونية‪ ،‬فجرى‬ ‫اإلفراج عن عدد من الموقوفين اإلسالميين ألسباب انتخابية‪ ،‬في مقابل اإلفراج عن‬ ‫قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع‪ ،‬في عملية تذكير بتبادل طائفي للمخطوفين في‬ ‫زمن الحرب‪.‬‬


‫انتفاضات وفرار‬ ‫لم ينه ذلك قصة “المبنى ب‪ ”.‬في سجن روميه‪ ،‬بل ھو تكرس سجنا للموقوفين‬ ‫االسالميين قبيل انفجار حرب مخيم نھر البارد بين الجيش اللبناني ومسلحي منظمة‬ ‫“فتح االسالم” في ايار ‪ ،٢٠٠٧‬فتكدس في المبنى مئات من المعتقلين بتھمة االنتماء‬ ‫الى تلك المنظمة وسواھم من االسالميين‪.‬‬ ‫ھؤالء جلھم من الفلسطينيين والسورييين الى اسالميين طرابلسيين وعكاريين‪.‬‬ ‫وفي تقرير ُنشر على مدونة “الخيام لتأھيل ضحايا التعذيب”‪ ،‬ورد ان ‪ ٥٠‬سجينا ً في‬ ‫روميه توفوا العام ‪ ٢٠٠٧‬نتيجة تدھور الخدمات الصحية في سجن اختصرت‬ ‫ادارته سبب وفاتھم بالسكتة القلبية‪ ،‬من دون ان تجري تحقيقا ً في االمر‪.‬‬ ‫ومنذ مطالع العام ‪ ٢٠٠٨‬تتالت في السجن حوادث الشغب والتمرد في مبنيي‬ ‫المحكومين والموقوفين‪ ،‬اضافة الى حوادث فرار ومحاوالت فرار من المبنى ب‬ ‫خصوصا ً‪.‬‬ ‫بدأ ذلك في ‪ ٢٤‬نيسان ‪ ٢٠٠٨‬بعملية شغب في مبنى المحكومين‪ ،‬تحولت تمرداً‬ ‫احتجاجا ً على انعدام التدفئة والتبريد وسوء التغذية وغياب االس ّرة واھتراء‬ ‫المراحيض وعدم وجود مياه ساخنة في السجن‪ ،‬فأحرق السجناء الفرش واألغطية‪.‬‬ ‫استمر التمرد حوالى ‪ ٩‬ساعات‪ ،‬وتمكن السجناء من اسر عريف و‪ ٥‬مجندين من‬ ‫قوى االمن‪ ،‬فجرت مفاوضات بين ادارة السجن وقائدي التمرد‪ ،‬احدھما فلسطيني‬ ‫واآلخر لبناني‪ .‬وبيّنت تحقيقات صحافية ان االنقسامات والنعرات واالحتقانات‬ ‫القائمة في المجتمع اللبناني انتقلت الى السجناء وأخذت تحدث شجارات في ما بينھم‪،‬‬ ‫كما تر ّدد ان رجال االمن يعاملون السجناء بناء على انتماءاتھم الطائفية‪.‬‬ ‫أعقبت ھذا التمرد عملية فرار موقوف من “فتح االسالم” السوري طه احمد حاجي‬ ‫سليمان من “المبنى ب‪ ”.‬فجر ‪ ١٨‬ايلول ‪ ،٢٠٠٩‬فيما قُبض على سبعة سجناء‬ ‫آخرين من المنظمة عينھا حاولوا الفرار بواسطة أغطية موصولة كحبال م ّدوھا من‬ ‫الطبقة الثالثة من مبنى المحكومين الى باحة السجن الرئيسة‪ ،‬بعد قيامھم بقطع حديد‬ ‫نافذة القاووش بنصلة منشار‪ .‬وتبيّن ان عملية قطع قضبان الحديد والتحضير للفرار‬ ‫استغرقتا اسبوعين‪ ،‬وضع السجناء في اثنائھما معجونا ً اسود في مكان القضبان‬ ‫المقطوعة تضليالً للحراس‪ .‬وصبيحة عيد االضحى في ‪ ٢٢‬تشرين الثاني ‪٢٠١٠‬‬ ‫تمكن السجين وليد البستاني من الفرار‪ ،‬فيما باءت بالفشل محاولة زميله السوري‬ ‫منجد الفحام اللحاق به‪.‬‬


‫كال السجينين من “فتح االسالم”‪ ،‬وبيّنت تحقيقات المفتشية العامة في قوى االمن‬ ‫الداخلي تورط مجند في قوى االمن في تسھيل عملية الھرب‪ ،‬بتأمينه للسجينين‬ ‫جھازا صامتا )صاروخا( لقطع الحديد يعمل على البطاريات‪ ،‬فقطعا به حديد نافذة‬ ‫القاووش‪ .‬وبواسطة حبل أمّنه لھما المج ّند تمكن البستاني من النزول من الطبقة‬ ‫الخامسة الى باحة السجن الخارجية‪ .‬وھذا ما لم يستطعه الفحام بسبب انقطاع الحبل‪،‬‬ ‫فھوى الى الباحة واصيب بكسور في عظامه ادت الى بقائه مغميا ً عليه يئن حتى‬ ‫غروب نھار العيد‪ ،‬فسمعت احدى الزائرات انينه وأبلغت الحراس الذين نقلوه الى‬ ‫مستشفى السجن‪ .‬اما البستاني فكان انتظر خروج قوافل الزوار واندس بينھم وخرج‬ ‫من بوابة السجن الرئيسية‪.‬‬

‫حافال بالتمرد‬ ‫كان العام ‪ ٢٠١١‬حافال بتمرد سجناء رومية وبفرار بعضھم‪ .‬ففي مطلع نيسان من‬ ‫ذلك العام بدأ السجناء تمرداً واسعا ً ضد ما اعتبروه إجراءات انتقامية قام بھا ضدھم‬ ‫ضابطان من قوى األمن الداخلي في بداية احتجاجھم على سوء المعاملة‪.‬‬ ‫استمر التمرد ثالثة أيام ما بين ‪ ٥‬نيسان و‪ ٨‬منه‪ ،‬أشعل السجناء في أثنائھا حرائق‬ ‫في المبنى ودمروا بعض محتوياته‪ ،‬فقتل السجين روي عازار في انفجار قنبلة‬ ‫صوتية حاول رميھا على عناصر القوة األمنية أثناء قيامھا بعملية دھم السجن إلنھاء‬ ‫التمرد‪ .‬أما السجين جميل أبو غني فقضى بأزمة قلبية حادة في نھاية عملية الدھم‪.‬‬ ‫لكن الجديد كان قيام أھالي السجناء بتجمعات احتجاجية أمام السجن‪ ،‬وإذ لم ُيسمح‬ ‫لھم بالدخول إليه‪ ،‬قاموا برشق رجال األمن بالحجار وقطعوا الطريق المجاورة‬ ‫للسجن‪ ،‬ما حمل عسكريا ً من فوج المغاوير على قيادة سيارته مسرعا ً محاوال تفريق‬ ‫المعتصمين‪ ،‬فصدم إمرأة ھوت إلى األرض وأصيبت برضوض في رجلھا‪ ،‬فنقل‬ ‫االھالي االعتصام الى أمام مجلس النواب‪.‬‬ ‫بعد أربعة أشھر‪ ،‬في منتصف ليل ‪ ١٣‬آب ‪ ،٢٠١١‬نشر خمسة سجناء في “المبنى‬ ‫ب” حديد شباك زنزانتھم‪ ،‬وخرجوا منھا تباعا ً ھابطين بواسطة شراشف موصولة‬ ‫إلى باحة السجن الخارجية‪ ،‬ثم إندسوا بين الزوار وفروا‪ .‬ثالثة منھم ينتمون إلى‬ ‫“فتح اإلسالم”‪ ،‬ھم السوريان عبد‪ e‬سعد الدين الشكري وعبد العزيز أحمد‬ ‫المصري‪ ،‬واللبناني عبد الناصر سنجر‪ .‬أما اآلخران فھما موقوف سوداني وآخر‬ ‫كويتي من تنظيم “القاعدة” يدعى “أبو طلحة‪”.‬‬ ‫العام ‪ ٢٠١٢‬كان حافال بدوره بعمليات الفرار‪ .‬فقبل فرار ثالثة سجناء من “المبنى‬ ‫ب”‪ ،‬من دون أن تتمكن قوى األمن الداخلي من تحديد دقيق لطريقة فرارھم‪ ،‬قامت‬


‫القوى األمنية في ‪ ١٩‬كانون الثاني ‪ ٢٠١٢‬بتوقيف امرأة حاولت إدخال أجھزة‬ ‫ھاتف خليوية في وجبة طعام تحملھا إلبنھا السجين‪.‬‬ ‫ما أن علم اإلبن بتوقيف أمه‪ ،‬حتى عمد مع رفاقه السجناء إلى إثارة شغب في‬ ‫السجن‪ ،‬استمر حتى السابعة مساء‪ ،‬ولم يتوقف إال بعدما علم اإلبن بأن األم سيطلق‬ ‫سراحھا بسند إقامة‪ .‬لكن الفضيحة تجلت في أن فرار السجناء الثالثة جرى‬ ‫بالتواطئ مع عناصر من قوى األمن‪ ،‬وفي أن كاميرات المراقبة في السجن معطلة‬ ‫منذ العام ‪.٢٠١٠‬‬ ‫ھذا إضافة إلى قدرة السجناء الدائمة على االتصال عبر الھواتف المحمولة بالخارج‬ ‫وبنواب وسياسيين ومسؤولين كباراً‪ .‬وفي ‪ ١‬تشرين الثاني ‪ ٢٠١٢‬أحبط رجال‬ ‫األمن محاولة فرار سجناء من “فتح اإلسالم”‪ ،‬بعد ضبطھم شادوراً نسائيا ً وحباال في‬ ‫إحدى قواويش السجن‪ .‬بعد حوالى شھر‪ ،‬أي في ‪ ١٣‬كانون األول‪ ،‬أحبطت قوى‬ ‫األمن محاولة فرار جماعية لعشرين موقوفا ً من “فتح اإلسالم”‪ ،‬قاموا بقطع حديد‬ ‫نوافد مشغل السجن‪ ،‬وبإحداث ثغرة في جدار يصلون عبرھا إلى مكتبته التي كانوا‬ ‫أحرقوھا في عمليات شغب سابقة‪ .‬وفي ‪ ٢٣‬من الشھر عينه حدث تململ بين سجناء‬ ‫مبنى المحكومين‪ ،‬بعد تلقيھم أوامر بنقلھم إلى مبنى آخر‪.‬‬ ‫في الشھر األول من العام الحالي تزايدت وتيرة الحوادث في السجن‪ :‬في ‪ ٢‬كانون‬ ‫الثاني الماضي‪ ،‬وقعت أعمال شغب وإحراق فرش وأغطية في “المبنى ب‪”.‬‬ ‫احتجاجا ً على انقطاع المياه‪ ،‬وقام سجناء بخطف عسكريين من الحراس‪ ،‬ثم أطلقوا‬ ‫سراحھم‪.‬‬ ‫لكن الحادثة األخيرة كانت االنتحار المشبوه للسجين الفلسطيني في المبنى ب غسان‬ ‫قندقلي الذي قيل إنه شنق نفسه بوشاح من الصوف في المرحاض في ‪ ١٧‬كانون‬ ‫الثاني الماضي‪ .‬وثمة اعتقاد بأن قندقلي تم شنقه‪ ،‬على ما ذھبت إليه الظنون الناجمة‬ ‫عن إحباط قوى األمن في ‪ ٢١‬من الشھر نفسه‪ ،‬عملية فرار جماعي إلسالميين في‬ ‫“المبنى ب‪ ،”.‬بعدما خططوا طوال ثالثة أشھر للعملية‪ ،‬فقطعوا قضبان الحديد في‬ ‫الباب الفاصل ما بين المبنى وبرج المراقبة‪ ،‬ونصبوا شراشف موصولة على أربعة‬ ‫خطوط بطول عشرات األمتار للتزحلق عليھا من البرج إلى الخارج‪ .‬وشاع أن خلية‬ ‫أو حلقة من السجناء اإلسالميين أجرت محاكمة لقندقلي بعدما وجھت إليه تھمة‬ ‫اإلغتصاب والقتل‪ ،‬وحكمت عليه باإلعدام ونفذته شنقا ً في المرحاض‪.‬‬


‫اإلھمال والتس ّيب‬ ‫تجمع األخبار والتحقيقات الصحافية‪ ،‬وكذلك روايات بعض اإلسالميين المفرج عنھم‬ ‫من سجن رومية بعد قضائھم سنوات فيه‪ ،‬على أن سجناء “فتح اإلسالم” وسواھم من‬ ‫أصحاب الميول اإلسالمية‪ ،‬يقيمون ما يشبه إمارات داخل السجن‪ ،‬أي خاليا دعوية‬ ‫وإرشادية‪ ،‬فيصدرون فتاوى وأحكاما ً تتعلق بسلوك السجناء‪ ،‬كأنھم امراء ودعاة في‬ ‫“مجتمع” إسالمي خاص بھم‪ .‬وقد ساعدھم في ذلك ما قاموا به من أعمال تمرد‬ ‫وعصيان متعاقبة‪ ،‬أرغمت إدارة السجن األمنية على تركھم وشأنھم وتالفي التدخل‬ ‫في شؤونھم‪ .‬حتى ان بعض الروايات والشھادات يفيد بأن السجناء اإلسالميين‬ ‫صارت لھم كلمتھم في اختيار ضباط األمن الذين يشرفون على إدارة السجن‪.‬‬ ‫ولإلنتماءات والوالءات الطائفية نصيب وافر في تعاطف عناصر القوى األمنية مع‬ ‫السجناء وغض النظر عن أفعالھم وعما يصل إليھم من الخارج‪ .‬ويبلغ التعاطف‬ ‫وغض النظر ح ّد تواطىء بعض رجال األمن مع اإلسالميين لقاء رشاوى‪ ،‬مما يتيح‬ ‫للسجناء الحصول على ما يحتاجون إليه من أجھزة اتصال‪ ،‬إلى آالت ووسائل‬ ‫يستعملونھا من عمليات الفرار‪ .‬وحين أقيمت في “ساحة النور” )عبد الحميد كرامي‬ ‫سابقا ً( الطرابلسية خيمة إعتصم فيھا إسالميون قبل حوالى سنة‪ ،‬من أجل تسريع‬ ‫محاكمة الموقوفين اإلسالميين‪ ،‬كان التواصل الھاتفي يوميا ً ما بين المعتصمين وأحد‬ ‫مشايخ “فتح اإلسالم” في السجن‪ ،‬فيتلقى المعتصمون منه إرشادات تتعلق بتصعيد‬ ‫اإلحتجاج والتظاھر‪ ،‬ويطلعونه على ما يجري ويحدث في ساحة اإلعتصام‪.‬‬


‫في حال جمع ھذه الوقائع‪ ،‬مع التسيب واإلھمال وسوء الخدمات في سجن رومية‪،‬‬ ‫يمكن القول إن ذلك السجن ليس أقل من قنبلة موقوتة قابلة إلنفجارات متتالية في‬ ‫ظروف ومواقيت‪ ،‬يختارھا السجناء بالتنسيق مع أھلھم وجماعاتھم خارج السجن‬ ‫الذي تشبه اإلقامة فيه اإلقامة في الجحيم‪ .‬فالقوانين واألنظمة المتعلقة بإدارة السجون‬ ‫وتصنيف السجناء غائبة تماما ً في لبنان‪ ،‬على ما أشار عمر نشابه في كتابه “سجن‬ ‫روميه إن حكى”‪.‬‬ ‫والغياب يشمل تصنيف السجناء وفقا ً لجرائمھم وسجلھم اإلجتماعي والنفسي‪ ،‬ويشمل‬ ‫كذلك برامج تأھيل وعناية تضمن إنزالق السجناء إلى العنف والشذوذ والجريمة‬ ‫داخل السجن‪ .‬فقوى االمن الداخلي المولجة بادارة السجون في لبنان غير مؤھلة‬ ‫اصالً لھذه المھمة‪ .‬والضباط المشرفون على االدارة ال يتلقون تدريبا ً مھنيا ً‬ ‫متخصصا ً للتعامل مع السجناء‪ .‬فالقانون الصادر العام ‪ ١٩٦٤‬عھد إلى قوى االمن‬ ‫الداخلي ادارة السجون موقتاً‪ ،‬واقترح انشاء مديرية خاصة لھذه الغاية‪ ،‬على ان‬ ‫تخضع الدارة وزارة العدل‪ .‬لكن ھذه المديرية ال تزال حبراً على ورق حتى‬ ‫الساعة‪ .‬ومنذ افتتاحه في مطلع السبعينات‪ ،‬ال تزال تجھيزات سجن رومية على‬ ‫حالھا من دون تجديد وال صيانة‪ .‬ثم ان السلطات اللبنانية ال تولي اھتماما ً للحد‬ ‫االدنى من حقوق االنسان والمعايير الدولية في ادارة السجون‪.‬‬

‫الحلول المؤجلة‬ ‫المدير العام لقوى األمن الداخلي اللواء اشرف ريفي اشار بعد تمرد السجناء في‬ ‫مطلع نيسان ‪ ،٢٠١١‬إلى ان عددھم في روميه يبلغ ‪ ٣٧٠٠‬سجين‪ ،‬وكاد تمردھم ان‬ ‫يصل إلى حد سيطرتھم على السجن‪ .‬وقسم ريفي السجناء إلى “فئات ثالث متنافرة”‬ ‫تقوم بينھا عالقات قابلة النفجار عنيف قد يؤدي إلى “مذابح”‪ .‬الفئة االولى ھي‬ ‫“المجموعة الجنائية” التي تشمل الموقوفين بجرائم قتل وسرقة وتعاطي مخدرات‬ ‫واإلتجار بھا‪ .‬الفئتان االخريان تجتمعان تحت عنوان “ذوي الخصوصية االمنية”‪.‬‬ ‫االولى تضم عناصر “فتح االسالم” وسواھم من االسالميين‪ ،‬والثانية تضم الموقوفين‬ ‫والمحكومين في جرائم التعامل مع العدو االسرائيلي‪ .‬وتستفحل بين ھاتين الفئتين‬ ‫عداوات قابلة لالنفجار في اي لحظة‪ .‬عدم وجود سجون خاصة ح ّتم وضع ھذه‬ ‫الفئات المتنافرة في سجن واحد‪ ،‬بعد عزل كل فئة عن االخرى‪ .‬لكن عمليات التمرد‬ ‫أدت إلى ازالة معظم األبواب الفاصلة بين ھذه الفئات‪ ،‬من دون ان يعاد اصالح‬ ‫االبواب‪.‬‬ ‫في ‪ ٢٧‬آب ‪ ٢٠١٠‬وجه ريفي كتابا إلى مجلس الوزراء يحذر فيه من احتمال‬ ‫“انفجار” كبير في سجن رومية‪ .‬استند الكتاب إلى تقرير اشار إلى الخطر المتفاقم‬


‫الناجم عن عدم احالة ‪ ٢٨٠‬موقوفا اسالميا إلى المحاكمة‪ ،‬وعن عدم توزيعھم‬ ‫وعزلھم‪ ،‬ما دامت التوجھات إياھا تجمع بينھم وتشكل خطراً عليھم وعلى سواھم‬ ‫من السجناء‪ .‬واعترف االمنيون‪ ،‬وفقا ً للتقرير‪ ،‬بأن الفساد اصاب الجسم االمني في‬ ‫السجن‪ ،‬مما سھل حصول السجناء على الھواتف الخليوية والحبوب المخدرة‪،‬‬ ‫وغيرھا من االدوات التي تم ّكنھم من الفرار‪ .‬والمراقبة االلكترونية وسواھا من‬ ‫التجھيزات االمنية معدومة في سجن رومية‪ ،‬وما استقدم منھا تبين أنه غير صالح‬ ‫للعمل‪ .‬واذا اضيف إلى ھذا كله ان حوالى ‪ ٥‬آالف سجين محشورون في سجن ال‬ ‫يتسع ألكثر من الفين‪ ،‬نعلم بماذا تنذر حال االھمال والتسيب القائمة في ھذا السجن‪.‬‬ ‫ومما اقترحه تقرير ريفي لحل ھذه المعضلة‪:‬‬ ‫استعجال القضاء في بت ملفات الموقوفين‪.‬‬‫ايجاد حل جذري لترحيل االجانب المنتھية محكومياتھم‪.‬‬‫االسراع في عملية الحاق ادارة السجون بوزارة العدل‪.‬‬‫العمل على ايجاد سجن خاص للموقوفين من ذوي الحاالت األمنية الخاصة‪.‬‬‫*********************‬

‫‪-------------------‬‬


‫الفولكلور اللبناني والتأريخ الغائب )‪(٦‬‬

‫الناطور من أشخاص الحنين في األغاني اللبنانية وفي لوحات المسرح الغنائي‬ ‫االستعراضي اللبناني في الربع الثالث من القرن العشرين‪ .‬ھو في صور الحنين‬ ‫الفولكلوري تلك‪ ،‬شخص مرسوم بألوان مائية رقيقة زاھية‪ ،‬وجوّ اب دروب وبساتين‬ ‫وحقول ومزارع و”حفافي” أقنية ري‪ .‬في خيمة “المنطرة” يُمضي ناطور األغاني‬ ‫واللوحات الفولكلورية أوقاتا ً من نھاراته ولياليه وحيداً أو مع رجل “برّ ي” مثله من‬ ‫الرعاة أو الم ّكارين العابرين‪ .‬ضوء فانوس شحيح أو ظالل من ضوء القمر والنجوم‬ ‫البعيدة‪ ،‬تنير الخيمة في عتمة األوقات الليلية‪.‬‬ ‫لكن الناطور في المرويات العامّية غيره في ھذه الصور واللوحات‪ .‬من ھذه‬ ‫المرويات في قرى الساحل يطلع النواطير رجاالً اش ّداء‪ ،‬غالبا ً ما يبدأون عملھم‬ ‫وافدين أو طارئين على دوائر االجتماع القروي‪ ،‬فيؤھلھم دورھم وعملھم “البرّيان”‬ ‫وإقامتھم على تخوم تلك الدوائر‪ ،‬لالنتقال الى أعمال وأدوار اخرى في خض ّم تغير‬ ‫نمط العيش والعالقات االجتماعية‪.‬‬

‫حماة السقي والنواطير‬ ‫في مرويات خليل الفغالي وميشال االبيض يستمد النواطير حضورھم من الوظيفة‬ ‫الحيوية التي يو ّكلھم بھا األھالي في نمط حياتھم القروية الزراعية‪ :‬حماية البساتين‪،‬‬ ‫االشراف على توزيع مياه الري من االقنية‪ ،‬ومراقبة تدفقھا وجريانھا فيھا‪،‬‬ ‫ووصولھا‪ ،‬في مواقيت معينة الى اراضي السقي‪ ،‬من سفوح الجبل )الحازمية‪،‬‬ ‫الحدت‪ ،‬وكفرشيما(‪ .‬كان عمل النواطير يتطلب نوعا ً من الرجال االش ّداء في مجتمع‬


‫كانت القوة العضلية او البدنية من اعمدة اعماله ومھنه وقيمه وعالقاته العاميّة‪.‬‬ ‫ال يخفى تأثير شخصية الناطور ودوره وحضوره في مجتمعه الزراعي وقيمه‪ ،‬على‬ ‫نشأة الفغالي وميوله منذ طفولته التي ارتسم فيھا الناطور مثاالً له ولسواه من امثاله‪.‬‬ ‫فإبن عم والده‪ ،‬المدعو مسعود‪ ،‬والمولود عام ‪ ١٨٨٨‬في المريجة‪ ،‬كان من ف ّتوات‬ ‫مرفأ بيروت منذ عشايا الحرب العالمية األولى حتى نھاية الحرب العالمية الثانية‪،‬‬ ‫قبل تعيينه ناطوراً على بساتين السقي في المريجة وتحويطة الغدير‪ ،‬وصوالً إلى‬ ‫كروم الزيتون في صحراء الشويفات‪ ،‬فانجذب الفغالي الفتى الى شخصية قريبه‬ ‫ودروه‪ ،‬وحكاياته ورحالته‪ :‬شاربان مفتوالن‪ ،‬على خصره مسدس وخنجر وجناد‬ ‫من الخرطوش‪ ،‬وبندقية صيد معلقة بكتفه‪ .‬اثناء رحالتھما معا ً في الحقول‬ ‫والبساتين‪ ،‬افتتن الفتى بحكايات الناطور القديمة‪ ،‬ايام كان يھرّب في قاربه الصغير‬ ‫مھاجري جبل لبنان من المرفأ الى البواخر في عتمات الليل‪ ،‬كما يھرّب اسلحة‬ ‫المھاجرين العائدين من أميركا الى لبنان‪.‬‬ ‫تبدو ھذه الصور كأنھا مستلة من فيلمي األخوين رحباني “سفر برلك” و”نجمة بنت‬ ‫الحارس”‪ .‬لكن الالفت فيھا ھو خبر الفغالي عن اكتساب قريبه مسعود دور الف ّتوة‬ ‫خارج ضيعته المنقطع عنھا طوال عمله في المرفأ‪ .‬ھذه الواقعة تتكرر ايضا ً في‬ ‫مرويات ميشال األبيض‪ :‬بنية النواطير البدنية القوية التي تم ّكنھم من القيام بعملھم‬ ‫“البرّي”‪ ،‬تصدر عن ميل فطري وعن عامل آخر اجتماعي‪ :‬نشأة ھؤالء الرجال‬ ‫وإقامتھم خارج دوائر االجتماع‪ ،‬وعلى تخومه‪ ،‬كأنھم من الط ّفار أو الطيّاح التائھين‬ ‫في المرويات الشعبية اللبنانية في عشايا الحرب العالمية األولى وغداتھا‪ .‬ھنا ايضا ً‬ ‫يحضر ما رواه منصور الرحباني من سيرة والده العائد من مصر وتيھه طيّاحاً‪ ،‬قبل‬ ‫إنشائه مقھى على فوار انطلياس‪ ،‬واستقراره في الضيعة الساحلية‪.‬‬ ‫في وجه من وجوھھا‪ ،‬تشير ھذه المرويات والصور المتكررة في الفنون‬ ‫الفولكلورية‪ ،‬الى أن النواطير وأصحاب المقاھي والخمّارات فيھا‪ ،‬غالبا ً ما يشرعون‬ ‫في أعمالھم ھذه بعد عودتھم من رحالت تشرد وفرار‪ ،‬لالقامة واالستقرار‬ ‫والتوطن‪ ،‬أو بعد ھجرتھم لالقامة في موطن جديد‪ ،‬لكن على تخوم دوائر السكن في‬ ‫مجتمع محلي اخذ ينحو نحو االستقرار‪ ،‬وتنشأ فيه أعمال وأدوار جديدة ومتجددة‪،‬‬ ‫بعيد الحرب العالمية االولى‪ .‬ھذا ما تنقل صور ًة عنه ومثاالً له السيرة العائلية آلل‬ ‫األبيض التي توطنت في السقي على تخوم دوائر السكن في حارة حريك‪.‬‬ ‫روى ميشال األبيض ان والده الياس‪ ،‬المولود مطلع القرن العشرين في فالوغا‬ ‫بأعالي المتن‪ ،‬اصطحبه من موطنه األول ھذا‪ ،‬رجل من آل الدكاش )كبرى عائالت‬ ‫حارة كريك وأقدمھا توطنا ً فيھا( كان يصطاف وعائلته في فالوغا‪ ،‬وش ّغله في‬


‫كرخانة للحرير في الحارة بعيد الحرب األولى‪ .‬بعد مدة قصيرة اشترى عامل‬ ‫الكرخانة الشاب “عودة” )قطعة ارض صغيرة‪ ،‬يكني اسمھا عن عودة من مھجر‬ ‫لالستقرار في موطن( على طرف بساتين سقي الحارة الشرقي الخالي من السكن‪،‬‬ ‫فأنشأ فيھا كوخاً‪ ،‬واخذ يزرع العودة‪ ،‬ثم سرعان ما استقدم زوجته وبكر اطفاله من‬ ‫فالوغا إلقامة زراعية دائمة في السقي‪ ،‬حيث أنجب سبعة اوالد‪ ،‬منھم الراوي‬ ‫المولود عام ‪.١٩٣٠‬‬ ‫في االثناء كان الياس األبيض قد استقدم ايضا ً الى موطنه الجديد إخوته الثالثة مع‬ ‫ابنائھم الذين تزايد عددھم‪ ،‬فصار لكل من االخوة الثالثة ما بين خمسة أوالد وسبعة‪.‬‬ ‫ھكذا نشأت “ديرة” زراعية عائلية مع توسيع أمالك آل األبيض‪ ،‬بعيداً من دوائر‬ ‫السكن في الحارة‪“ :‬على باب البوغاز )الخالء الذي تعبره الرياح قوية باردة في‬ ‫الشتاء( حيث ساعدتنا كثرتنا – قال الراوي – على التصدي للغرباء‪ ،‬برغم كوننا‬ ‫أصغر عائلة في الحارة”‪.‬‬ ‫الغرباء ھؤالء‪ ،‬ھم طالئع عشيرة آل المقداد النازلين من جرود جبيل‪ ،‬الى الطرفين‬ ‫الشماليين لكل من برج البراجنة )الشيعية( وحارة حريك )المسيحية(‪ ،‬في مطالع‬ ‫العشرينات من القرن العشرين‪ ،‬وفقا ً لرواية رستم المقداد المولود في حي آل المقداد‬ ‫العشائري لجھة الحارة في العام ‪ .١٩٤٤‬ميشال األبيض الذي أبى ان يذكر من ھم‬ ‫“الغرباء”‪ ،‬اكتفى بالقول انھم من “خارج” الحارة‪ ،‬وكانت تحصل “بيننا وبينھم‬ ‫مناوشات”‪ ،‬مشدداً على موقع اقامة عائلته الموسعة في “الخالء على الحدود ما بين‬ ‫الحارة والرويس وبرج البراجنة‪ .‬وھذا ما ن َّشأنا – أضاف – على أدوار التصدي‬ ‫والمنازلة التي تتطلب الشدة والسطوة والبأس”‪.‬‬ ‫راوي آل المقداد ش ّدد على ذلك ايضا ً‪“ :‬كان رجال آل األبيض ّ‬ ‫بطاشين ال‬ ‫يرحمون”‪ ،‬قال رستم‪ ،‬من دون ان يتك ّتم عن انه كان من المعدن نفسه‪“ :‬شيخ شباب”‬ ‫عشائري في الحي العشائري على طرف حارة حريك‪ ،‬غير بعيد من “ديرة” آل‬ ‫األبيض العائلية التي سميت حي األبيض في مواجھة حي المقداد‪.‬‬ ‫لم يقل راوي آل األبيض ان الدور الذي تص ّدت له عائلته ونشأت عليه‪ ،‬ذوداً عن‬ ‫حارة حريك المسيحية‪ ،‬ولحيازة االنتساب اليھا والتأصل فيھا‪ ،‬شبيه بأدوار الحاميات‬ ‫العسكرية في الثغور التي يتكرر حضورھا في التراث العربي االسالمي‪ ،‬ومنھا‬ ‫التراث العثماني المتأخر زمناً‪ ،‬والذي كانت ظالله ال تزال ماثلة في االجتماع‬ ‫اللبناني‪.‬‬


‫الدور ھذا جعل آل األبيض أصحاب “صوالت وجوالت” في موطنھم الجديد‪ ،‬أو‬ ‫“ديرتھم” – الحامية التي استمدت إسمھا من كنيتھم العائلية‪ .‬الدور العائلي نفسه ھو‬ ‫الذي أھّل ع ّم الراوي‪ ،‬حليم‪ ،‬بكر إخوته الوافد من فالوغا‪ ،‬ليعيّن ناطوراً على‬ ‫بساتين الحارة وأقنية مياه الري فيھا‪ ،‬ألنه كان “صاحب أدوار ومراجل وقبضنة”‪،‬‬ ‫تعضدھا شكيمة رجال العائلة الموسعة وشبّانھا في السقي‪ ،‬على تخوم المجتمع الذي‬ ‫وفدوا اليه‪ ،‬وأقاموا نواة سكنية خارج مركزه السكني األقدم عھداً‪ ،‬ودافعوا عنه‪،‬‬ ‫وعملوا في مھن تتطلب جھداً عضليا ً أكسبھم قوة وبأسا ً أقرب الى فطرة الطبيعة‪.‬‬ ‫والد الراوي‪ ،‬بعد انھيار االعمال الزراعية والصناعية المتصلة بالحرير‪ ،‬عمل‬ ‫“مو ّرق بناء”‪ :‬تطيين جدران البيوت والمباني وسقوفھا باالسمنت‪ .‬ھذه مھنة‪ ،‬الى‬ ‫سواھا من أعمال البناء‪ ،‬كالطرش والدھان‪ ،‬راجت وانتشرت بين أبناء الفئات‬ ‫العامية في حارة حريك والمريجة‪ ،‬وعمل فيھا اثنان من إخوة الياس األبيض‬ ‫وأوالدھما‪ ،‬فصاروا من ملتزمي أعمال “التوريق” في المباني الجديدة‪ ،‬الى جانب‬ ‫الزراعة وتربية األبقار وبيع حليبھا‪.‬‬ ‫بعدما كانت والدة الراوي تنقل على رأسھا الخضر في مواسمھا لبيعھا في سوق‬ ‫بيروت للخضر – مروراً بقصقص على حدود المدينة‪ ،‬حيث كان يدفع الباعة‬ ‫“دخولية” ليُسمح لھم باجتياز الحدود – صار والده صاحب مزرعة أبقار )‪– ٤٠‬‬ ‫‪ ٥٠‬رأسا ً( من كبريات مزارع الحارة‪.‬‬

‫قبضايات مافيا محلية‬ ‫في مطلع األربعينات كان الراوي ميشال األبيض ال يزال في العاشرة من عمره‪،‬‬ ‫عندما أخذ عمّه الناطور يتعاطى تجارة السالح في بطانة رجل يدعى إميل الخوري‪،‬‬ ‫وحمايته‪ .‬في مخيلة الراوي تبدو صورة الخوري أقرب الى نوع من رجال مافيا‬


‫محليين‪ ،‬يكثر حضورھم في مرويات الفغالي المشغوف برواية أخبارھم‪ .‬وھي‬ ‫أخبار تكشف عن نشوء ھذا النوع الجديد من الرجال في أدوارھم وشبكات عالقاتھم‬ ‫على مسرح الحياة العامة المحلية وفي كواليسه في قرى الساحل وأحياء بيروت‪.‬‬ ‫تحوي ھذه الشبكات رجاالً – وسطاء متنوّ عي األدوار‪ ،‬أبرزھم من يسمّيھم الكالم‬ ‫اللبناني الدارج‪“ :‬المفاتيح االنتخابية” و”قبضايات األحياء”‪ .‬ظھر ھؤالء الوسطاء في‬ ‫سياق تحوّ ل ھجين في بنية العالقات االجتماعية – السياسية مع قيام دولة لبنان‬ ‫الكبير‪ ،‬وبلغ ذروته في العشايا والبدايات الستقالل لبنان عن االنتداب الفرنسي الذي‬ ‫ترك إدارة الحياة السياسية وتسيير دفة الحكم واالدارة العامة في الدولة الناشئة‪،‬‬ ‫ألقطاب الجماعات اللبنانية وزعمائھا السياسيين‪.‬‬ ‫بعد تفلتھم من قبضة المندوب السامي واالدارة الفرنسيين‪ ،‬أخذ ھؤالء األقطاب‬ ‫والزعماء من دھاقنة السياسة األھلية يتنافسون ويختصمون على بناء عصبيات‬ ‫وشبكات أھلية وشعبية في النسيج االجتماعي للجماعات والمناطق‪ ،‬لتكون – وفقا ً‬ ‫لسيرة الفغالي االجتماعية ومروياته – ركيزة زعاماتھم ومعاركھم وأحالفھم في‬ ‫االنتخابات النيابية‪.‬‬ ‫لعب األدوار األبرز في ھذه الشبكات والعصبيات‪ :‬أقطاب العائالت ووجھاؤھا‬ ‫وأعيانھا المحليون‪ ،‬المخاتير وأعضاء المجالس البلدية‪ ،‬الموظفون اإلداريون‪،‬‬ ‫الفتوات و”مشايخ الشباب” والقبضايات في القرى والبلدات وأحياء المدن‪ ،‬العاملون‬ ‫َّ‬ ‫في مھن النقل ومواقف السيارات‪ .‬وفي ظل ضعف المنظمات والھيئات الحزبية‬ ‫المستقلة عن النسيج األھلي العصبي‪ ،‬استعمل دھاقنة السياسة تلك الشبكات المتنوعة‬ ‫ً‬ ‫خدمة‬ ‫جسوراً لتجييش األھالي‪ ،‬وفي إثارة ھياجھم في األحياء والشوارع‪ ،‬وتھدئتھم‬ ‫لحاجاتھم ونفوذھم‪.‬‬ ‫كان ھنري فرعون وحبيب أبو شھال ورياض الصلح وسواھم‪ ،‬من أقطاب ھذه‬ ‫المنافسات والمعارك‪ ،‬فيما كانت قرى الساحل منقسمة معسكرين في والئھا‬ ‫االنتخابي‪ :‬كتلوي ودستوري‪ .‬األغلب أن فرعون كان صاحب النفوذ األوسع في‬ ‫تكوّ ن تلك الشبكات‪ ،‬بسبب شبكة مصالحه وأعماله الواسعة‪ ،‬والسيما قوة نفوذه في‬ ‫أعمال ميدان سباق الخيل وبين ُمالَّك الخيول‪ ،‬ناھيك بقدرته المالية الكبيرة وتمويله‬ ‫المعارك االنتخابية للكتلة الدستورية‪.‬‬ ‫آل األبيض وإميل الخوري في حارة حريك من محازبي ھذه الكتلة‪ .‬روى ميشال‬ ‫األبيض أن الخوري كان يستيقظ من نومه في الحادية عشرة ظھراً‪ ،‬فيجد في‬ ‫صالون بيته جمعا ً من الناس ينتظرون خروجه من غرفة النوم “مط ّقما ً”‪ :‬يرتدي بذلة‬


‫إفرنجية وربطة عنق‪ ،‬ويعتمر طربوشه المائل‪ .‬طلبا ً ألنواع شتى من الخدمات‪ ،‬يأتي‬ ‫ھؤالء المنتظرون الى بيته‪ ،‬تقودھم اعتبارات وعوامل متنوعة متداخلة‪ :‬عضويته أو‬ ‫عضوية أخيه في مجلس حارة حريك البلدي‪ ،‬نفوذه وسطوته وصيته بين أھاليھا‪،‬‬ ‫حظوته لدى أقطاب وزعماء سياسيين في الحكم يؤمّنون له شبكة عالقات بكبار‬ ‫الموظفين في االدارة العامة ومتوسطي مراتبھا‪ ،‬وبالجھاز القضائي وبضباط في‬ ‫قوى األمن والجيش‪.‬‬ ‫رجال من ھذا النوع غالبا ً ما ال ُتعرف لھم مھنة وعمل علنيان محددان‪ ،‬سوى‬ ‫الظھور المتدرج على مسرح الحياة العامة المحلية الذي تختفي دائما ً في كواليسه‬ ‫شبكة عالقات رمادية ومتشعبة‪ ،‬بدونھا ال قيامة لذلك المسرح وأدواره العلنية‪ ،‬وال‬ ‫قيامة لما يسمّى في لبنان عالقات وحياة سياسية قوامھا الخطوة والوالء واالستزالم‬ ‫والمحسوبية والشقاق واألحالف العائلية واألھلية‪.‬‬ ‫رجل مثل إميل الخوري الذي ال تغيب أخباره عن مرويات قدامى الح ّكائين العاميين‬ ‫في قرى الساحل‪ ،‬كان صاحب دور فاعل على ذلك المسرح الرمادي وفي كواليسه‪،‬‬ ‫وصوالً الى بيروت وبلدات االصطياف كعاليه وبحمدون‪ ،‬ما بين االربعينات‬ ‫والخمسينات‪.‬‬ ‫دوره ذاك ھو نسخة جديدة ومتطورة لدور آل األبيض وناطورھم كـ”حامية” محلية‬ ‫على تخوم حارة حريك أيام كانت ظالل الزمن العثماني وتقسيماته السلطانية‬ ‫االدارية )متصرفية جبل لبنان‪ ،‬والية بيروت( ال تزال ماثلة في العالقة ما بين‬ ‫الجماعات اللبنانية‪ ،‬وفي عالقاتھا الداخلية‪ .‬وما انضمام الناطور األبيض الى حاشية‬ ‫الخوري وبطانته‪ ،‬اال مرآة لسطوع نجم األخير كشخصية شبه مافيوية يشير اليھا‬ ‫مشھد حضوره في صالون بيته‪.‬‬ ‫ھذا ما يؤكده الراوية الفغالي بقوله‪ :‬اميل الخوري “فرخ قبضاي” ظھر في حارة‬ ‫حريك في بدايات عھد االستقالل‪ ،‬وكان ھنري فرعون وليّه وحاميه‪ ،‬وراعي شبكة‬ ‫عالقاته ونفوذه في االدارة العامة لقاء تجيير الخوري حظوته وسطوته المحليتين‬ ‫لصالح القطب النيابي الكاثوليكي االبرز‪ ،‬والذي به كان “شيخ الشباب” المافيوي‬ ‫الطابع في الحارة‪ ،‬يستقوي ويتجرأ على اطالق النار من مسدسه في الھواء ترويعاً‪،‬‬ ‫أو مصيبا ً خصومه عندما تدعوه الحاجة والظروف‪.‬‬ ‫في المقابل كان وليّ أمر الرجل المافيوي‪ ،‬يتكفل تخليصه من تبعات افعاله‪ ،‬ويمده‬ ‫بأسباب الحظوة التي تم ّكنه من تلبية طالبي خدماته في صالون بيته‪ :‬تصريف‬ ‫معامالتھم في االدارة العامة‪ ،‬تخليصھم من احكام قضائية‪ ،‬مساعدتھم في ارتكاب‬


‫مخالفات والتملص من القوانين‪ ،‬السعي في حيازة ابنائھم وظائف حكومية‪ k‬الى‬ ‫آخر قائمة ھذه األعمال واالدوار الرمادية التي غالبا ً ما تسيّر شؤون االدارة العامة‬ ‫اللبنانية ومعامالتھا الصغيرة منھا والكبيرة‪.‬‬

‫رحلة في منسيات “المكشوف” )‪(٧‬‬

‫لم أعثر على نسخ ورقية من أعداد “المكشوف” االسبوعية اللبنانية التي كانت‬ ‫تصدر في بيروت ما بين ‪ ١٩٣٥‬و‪ ،١٩٤٩‬واشتھرت كجريدة أدبية رائدة لمؤسسھا‬ ‫وصاحبھا فؤاد حبيش )‪ (١٩٧٣ – ١٩٠٤‬بصفته “رئيس التحرير المسؤول”‪ ،‬الى‬ ‫جانب التعريف بھا “جريدة أدب وفن وسياسة”‪ ،‬على ما يتصدر غلف أعدادھا كلھا‬ ‫التي أمضيت بضعة نھارات أتصفح الكثير منھا على شاشة “ميكروفيلم” في مكتبة‬ ‫الجامعة االميركية في بيروت‪.‬‬ ‫من دون خطة مسبقة وبال نظام‪ ،‬دوّ نت أثناء تصفحي وقراءتي المتقطعة‪ ،‬طائفة‬ ‫مشتتة من عناوين أبواب ومقاالت ومقتطفات منھا‪ ،‬وأسماء كتاب وشعراء‬ ‫وصحافيين‪ ،‬ومالحظات وتعليقات وخواطر‪ .‬ھي رغبة تقصي تراث الصحافة‬ ‫والحركة األدبية‪ً ،‬‬ ‫لغة وموضوعا ٍ‬ ‫ت وأعالماً‪ ،‬ما قادني الى “المكشوف” التي لم أكن‬ ‫أعلم عنھا سوى أنھا كانت رائدة في صناعة الصحافة األدبية في لبنان طوال ‪١٥‬‬ ‫سنة‪ .‬ألوف من الصفحات والمقاالت‪ ،‬مئات من االسماء والعناوين‪ ،‬تواترت تباعا ً‬ ‫وسريعا ً أمام ناظريّ على شاشة جھاز “الميكروفيلم”‪ ،‬فأصابني ما يشبه الدوار‬ ‫والضياع‪.‬‬


‫بعض الصفحات والموضوعات واالسماء م ّر بصري سريعا ً عليھا‪ ،‬وبعضھا اآلخر‬ ‫استوقفني مطوّ الً‪ ،‬فقرأت ھذا المقال أو ذاك‪ ،‬ودوّ نت مالحظاتي آمالً في استعمالھا‬ ‫للتعريف بالمجلة القديمة‪ .‬لكنني في الحالتين‪ ،‬غرقت ھائما ً مأخوذاً بتلك اللذة الغريبة‬ ‫أثناء رحلتي على بساط ريح‪ ،‬نسيجه الكلمات واالسماء المنبثقة من فجوة في الزمن‪،‬‬ ‫والمنداحة سريعا ً أو بطيئا ً أمام عينيّ ‪ ،‬مبعثرة كقطع بازل طالعة من ذلك الماضي‬ ‫البعيد اآلفل والمنقطع‪ ،‬الذي تبعث محاولة تأليف صوره وعناوينه واتجاھاته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المعذبة تشبه اختبار توليد زمن وحوادث وشخصيات‬ ‫وتأويلھا‪ ،‬ضربا ً من المتعة‬ ‫وسياقات روائية‪.‬‬ ‫ھذه الحال الزمت قراءتي مدوّ نات الرحلة بعد الفراغ منھا‪ ،‬للعثور على خيوط‬ ‫تمكنني من تنظيم قطع البازل المتناثرة التي جمعتھا من المتاھة‪ ،‬علّھا تفضي الى‬ ‫رواية استقصائية وصفية لمالمح جزئية من تاريخ حقبة من الحياة الصحافية‬ ‫واألدبية المنصرمة في لبنان‪.‬‬

‫التاريخ المجھض‬ ‫في البداية ال بد من مالحظة أولى يخلص اليھا متصفح الدوريات القديمة‬ ‫كـ”المكشوف” وسواھا‪ :‬تقنيات التوثيق واألرشفة‪ ،‬وجمع المطبوعات والكتب‬ ‫وتنظيمھا وتبويبھا واستعمالھا في مكتبات الجامعات غير الحكومية‪ ،‬متقدمة بأشواط‬ ‫على برامج التدريس والبحث وأساليبھما في مجاالت العلوم االنسانية في ھذه‬ ‫الجامعات‪.‬‬


‫أما استبعاد الجامعة اللبنانية من ھذه المقارنة‪ ،‬فھو من تحصيل الحاصل‪ ،‬وال يبعث‬ ‫على غير التذكير بالحال المزرية التي انحدرت اليھا ھذه الجامعة منذ بدايات الحرب‬ ‫)‪.(١٩٩٠ – ١٩٧٥‬‬ ‫والحال ھذه تطاول أساليب التدريس والبحث واالدارة واختيار المدرّ سين‪ ،‬وتبلغ‬ ‫ذروتھا في مجاالت التوثيق واألرشفة وجمع الكتب والمطبوعات وتنظيم المكتبات‬ ‫التي أُھملت محتوياتھا وبليت وغزاھا التلف والغبار من دون أن ُتستعمل في حال‬ ‫توافرھا في كليات الجامعة اللبنانية وفروعھا المتناسلة‪.‬‬ ‫“المكشوف” التي صانتھا تقنيات “الميكروفيلم” في مكتبة الجامعة االميركية‪ ،‬بليت‬ ‫صفحاتھا الورقية واھترأت‪ ،‬من دون أن تحظى بدراسة تعرّ ف بھا وتضعھا في‬ ‫سياق ال يزال مفقوداً للحياة الصحافية والثقافية التي لم يؤرخ بعد ألشكالھا الكتابية‬ ‫وموضوعاتھا وأعالمھا‪.‬‬ ‫أما مشروع إعادة طباعة منتخبات من أعداد “المكشوف”‪ ،‬فقد أجھض قبل حوالى‬ ‫‪ ١٠‬سنين من دون أن يبصر النور‪ ،‬فذھب سدىً ‪ ،‬جھد االختيار والتبويب والطباعة‬ ‫األولية الذي أنجزه الشاعر أنسي الحاج‪ ،‬ومات المشروع جنينا ً من دون أن يرثيه‬ ‫أحد‪ ،‬في وقت درج صحافيون وك ّتاب وشعراء على رثاء مظاھر الحياة الثقافية‬ ‫وأماكنھا الراحلة‪ ،‬والسيما المقاھي التي أُقفلت في شارع الحمراء‪.‬‬ ‫جاءت تلك المراثي شبيھة بالبكاء على االطالل في إطار ما يعتبره كثيرون أفول‬ ‫حقبة ثقافية بيروتية ولبنانية زاھية‪ ،‬ھي ستينات القرن العشرين والنصف االول من‬ ‫سبعيناته التي رُفعت أعالمھا ورفعت نشاطاتھا وأماكنھا أنصابا ً للحنين والتبجيل‪،‬‬ ‫بدل التأريخ لھا ولھم وألدوارھم‪.‬‬ ‫لذا ظلت الصحافة والحركات األدبية وتياراتھا وأنواع الفنون المختلفة‪ ،‬بال تأريخ‬ ‫ُكتبت منه شذرات ضئيلة مشتتة‪.‬‬ ‫ھذا ما يجعل تصفح “المكشوف” وتدوين مالحظات وانطباعات وخواطر حول‬ ‫مادتھا‪ ،‬محاولة ال تتجاوز وضع إشارات وعالمات متباعدة مختنقة الضوء في‬ ‫ضباب تاريخ غائب وفي محاق عتمته‪ .‬فالحساسية التاريخية ضعيفة في ثقافتنا‬ ‫العربية التي غالبا ً ما تعوّ ض عن ذلك الضعف باإلنشاء الخطابي واللفظي الممتلئ‬ ‫بفراغ اللغة من مادتھا الحيّة ومن الوقائع المتدافعة‪ ،‬بدل أن تنجبل الكتابة ولغاتھا‬ ‫بمادة العيش والعالم المولّدة للروايات التاريخية‪.‬‬


‫المن ّ‬ ‫شط الثقافي‪ :‬فاعلية الحضور الخفي‬ ‫لم ُتكتب لمؤسس “المكشوف”‪ ،‬فؤاد حبيش‪ ،‬وال لسواه من المؤسسين في الحياة‬ ‫الثقافية اللبنانية المعاصرة‪ ،‬من أمثال ميشال أسمر )‪ ،(١٩٨٥ – ١٩١٤‬مؤسس‬ ‫“الندوة اللبنانية” )‪ ،(١٩٧٥ – ١٩٤٦‬سير تأريخية‪ .‬فالرجالن يتميزان ويتشابھان‬ ‫في أن حضورھما الفاعل في الحركة الصحافية واألدبية والفكرية‪ ،‬اختفى خلف‬ ‫نشاط المؤسسة التي أنشأھا ك ٌّل منھما‪ ،‬والتصق بھا اسمه وحضوره حتى الذوبان‬ ‫واالمحاء‪ .‬والحق أن ھذا النوع من الحضور – االختفاء‪ ،‬أو الحضور الخفي‪،‬‬ ‫يختلف عن حضور االعالم – النجوم في أن كالً منھما لم تصدر شھرته عن إنتاجه‬ ‫الشخصي في مجال الصحافة واألدب والثقافة‪ ،‬بل عن فاعلية مؤسسته‪ ،‬وج َّدتھا‬ ‫وريادتھا‪ ،‬بعد مبادرته الشخصية الى إنشائھا وإدارتھا بنفسه‪.‬‬ ‫قوة حضور مؤسستيھما وتأثيرھما في المجال العام‪ ،‬أديا في حالة حبيش وأسمر‬ ‫الى صناعة اسم وشھرة لك ٍّل منھما‪ ،‬مست َم َّدين من جھدھما ونشاطھما في استقطاب‬ ‫طاقات وأسماء أدبية وثقافية بارزة‪ ،‬وفي إنشاء جسور للتفاعل بين ھذه الطاقات‪،‬‬ ‫وبينھا وبين جمھور واسع في الحياة العامة‪ .‬لقد ذاب الرجالن واختفيا في عمل‬ ‫توليفي وتأطيري مر ّكب‪ ،‬وحضرا في نسيجه ومفاصله كمح ّفزين ومن ّ‬ ‫شطين‪ ،‬كأنھما‬ ‫جنديان مجھوالن ومعلومان في وقت واحد‪.‬‬ ‫مثل كل فكرة جديدة ومبادرة الى تجريبھا وتحقيقھا‪ ،‬لم يكن مشروع ك ٌّل منھما‬ ‫واضح المعالم واألفق في بداياته‪ .‬تجربتھما في العمل الصحافي والثقافي المزدھر‬ ‫والناشط في ثالثينات القرن العشرين‪ ،‬كانت دليلھما الى توافر قابليات يمكن جذبھا‬ ‫الى مشروع جديد‪ ،‬ما كان له أن يقوم وينطلق إال بمشاركة وجھود جماعية‪ ،‬شغل‬


‫الرجالن دورين محوريين فيھا‪ ،‬وكان استقطابھا في أصل مشروعيھما وفصليھما‪.‬‬ ‫وما إن نجح المشروعان وارتسم لھما أفق في الحياة الصحافية واألدبية والثقافية‪،‬‬ ‫حتى انعطفت حياة ك ٍّل منھما ونشاطه ومساره ومصيره انعطافا ً جديداً حاسماً‪،‬‬ ‫أخرجه من الظل واإلغفال الى الضوء والعلن في زمنه‪ ،‬وبعد رحيله الى عالم‬ ‫الغيب‪.‬‬ ‫حين يقال “المكشوف” يحضر فوراً اسم فؤاد حبيش قبل كل اسم آخر من المساھمين‬ ‫في صناعة شھرتھا بعد استقطابھا نخبة واسعة من الكتاب والشعراء والصحافيين‬ ‫أمثال الياس أبو شبكة ورئيف خوري وعمر فاخوري ومارون عبود وسعيد عقل‬ ‫وتوفيق يوسف عواد وخليل تقي الدين وفؤاد أفرام البستاني وسواه من البساتنة‪،‬‬ ‫وكامل مروة ولويس الحاج وفؤاد حداد )أبو الحن(‪ .‬ھؤالء وغيرھم كثر‪ ،‬كان لھم‬ ‫حضورھم الدائم والمتقطع في “المكشوف”‪ ،‬وساھموا في نھضتھا كما ساھمت ھي‬ ‫في شھرتھم طوال ‪ ١٥‬سنة‪.‬‬ ‫وال يمكن أن يقال “الندوة اللبنانية” من دون الحضور الفوري إلسم ميشال أسمر‪،‬‬ ‫قبل غابة من أسماء المثقفين والمفكرين والسياسيين الذين وقفوا على منبر “الندوة”‬ ‫محاضرين‪.‬‬ ‫دور ك ٍّل من حبيش وأسمر ونشاطه التأطيري‪ ،‬وليدا خبرة وممارسة وعالقات‬ ‫وميول ثقافية سابقة في حياة الرجلين على إنشاء ك ٍّل منھما إطاراً منظما ً لنشاطات‬ ‫يشارك فيھا سواه من أمثاله‪ .‬إنھما دور وإطار يشيران الى ما يسمّى “المن ّ‬ ‫شط‪/‬‬ ‫المنسّق الثقافي” الذي ينصبُّ عمله على توظيف رؤيته وجھده وعالقاته في إقامة‬ ‫جسور وفضاءات للتعارف والتبادل والتفاعل والتثاقف ما بين ناشطين وفاعلين في‬ ‫ميادين الثقافة واالفكار واألدب والسياسة والصحافة‪.‬‬ ‫ھذه األطر والجسور‪ ،‬أكانت مؤسسة أم منبر ًا أم صحيفة أم مجلة أم حلقة في‬ ‫مقھى‪ ،‬ھي ما يسمّيھا المفكر االلماني يورغين ھابرماس “دوائر العالنية العامة” في‬ ‫كتاب له بھذا االسم‪ ،‬معتبراً أن ال قيامة للمجتمع المديني‪ ،‬المدني الديموقراطي‪ ،‬من‬ ‫دون وجود ھذه الدوائر وتوسعھا‪ ،‬وتكاثر روادھا وسجاالتھم‪ ،‬وتع ّدد آرائھم‬ ‫وتفاعلھا‪ .‬في قلب ھذه الدوائر المتناسلة‪ ،‬المتقاطعة وغير الثابتة والزئبقية‪ ،‬يولد‬ ‫ّ‬ ‫المؤطر أو المنسّق أو المن ّ‬ ‫شط‪ ،‬ودوره كقطب يعمل على تشبيك مبادرات وعالقات‬ ‫ومراكمتھا وإطالقھا‪.‬‬ ‫ھذا ما باشره وبادر اليه فؤاد حبيش بعد سنة واحدة على إصداره “المكشوف” في‬ ‫العام ‪ .١٩٣٥‬وھذه حال ميشال أسمر حين تأسيسه “الندوة اللبنانية” بعد حوالى ‪١٠‬‬


‫سنين‪ .‬لكن الدور الذي تصدى له ك ٌّل منھما لم يولد فجأة وال من فراغ‪ ،‬بل سبقته‬ ‫خبرات وتجارب مھّدت له في حياة الرجلين الشخصية والمھنية والثقافية‪ ،‬وفي‬ ‫التجربة التاريخية العامة التي تتجاوز حياتھما الى البيئة االجتماعية التي صدرا عنھا‬ ‫ونشأا فيھا وتفاعال في إطارھا الزمني )حقبة ما بين الحربين العالميتين(‬ ‫واالجتماعي )جبل لبنان وبيروت( والمھني )الصحافة ومنتدياتھا وحلقاتھا األدبية(‪.‬‬ ‫في ھاتين الحقبة والبيئة‪ ،‬تكونت العوامل والخبرات والتجارب التي أدت‪ ،‬على نحو‬ ‫بطيء‪ ،‬الى نشوء دوائر العالنية العامة اللبنانية‪ ،‬الثقافية والسياسية‪ ،‬فنمت في ھذه‬ ‫الدوائر أشكال تعبير ومھن وأنماط تفكير وتذوق وتواصل وشبكات عالقات جديدة‪،‬‬ ‫نجمت كلھا عن تحوالت مديدة في جبل لبنان وبيروت‪ ،‬اللذين قامت بينھما‪ ،‬منذ‬ ‫أواسط القرن التاسع عشر‪ ،‬جسور تواصل وتفاعل مھّدت لتكوّ ن النواة االجتماعية‬ ‫والسياسية والثقافية واالقتصادية لدولة لبنان الكبير الوليدة في العام ‪.١٩٢٠‬‬ ‫بدأت تلك الجسور والدوائر تنشأ وتنمو في إطار ما سمِّي التحديث أو االصالح‬ ‫العثماني‪ ،‬وتزامن نموّ ھا مع منح السلطان العثماني امتيازات واسعة لقناصل الدول‬ ‫األوروبية وت ّجارھا وبعثاتھا التبشيرية والتعليمية وجالياتھا في واليات األمبراطورية‬ ‫طوال تفككھا المديد‪ .‬وھذا ما أدى الى والدة نوع جديد وغير مسبوق من الحراك‬ ‫االجتماعي والحريات العامة‪.‬‬ ‫ولعل توسع قاعدة التعليم االرسالي األوروبي واالميركي‪ ،‬ونشوء الصحف وتكاثرھا‬ ‫الى جانب المنتديات والجمعيات على اختالفھا‪ ،‬ھي العالمات األبرز على ذلك‬ ‫الحراك وتلك الحريات في ك ٍّل من مجتمع جبل لبنان وبيروت التي توسعت عمرانيا ً‬ ‫وخرجت من أسوارھا القديمة‪ ،‬وتكاثرت مدارسھا االرسالية‪ ،‬ونشأت فيھا جامعتان‬ ‫سرعان ما صارتا‪ ،‬بعد قيام دولة لبنان الكبير‪ ،‬األھم في الشرق االوسط‪.‬‬

‫الضابط اليتيم في ح ّمى الصحافة واألدب‬


‫يحتاج انشاء سيرة تأريخية لفؤاد حبيش بوصفه من ّ‬ ‫شطا ً صحافيا ً وأدبياً‪ ،‬ولدوره‬ ‫واثره في الحركة الصحافية واألدبية‪ ،‬الى عمل تراكمي واسع‪ ،‬بطيء ومتنوع‬ ‫المصادر‪ ،‬يفوق ما يحتاج اليه انشاء سير ألعالم األدب والصحافة ونجومھما‬ ‫المكرسين مع إنتاجھم انصابا ً في الذاكرة الجماعية العامة‪.‬‬ ‫يقوم ھذا العمل على تقصي المعلومات واألخبار‪ ،‬جمعھا وتنسيقھا‪ ،‬تأويلھا‬ ‫واستدخال عناصرھا وخيوطھا في نسيج متنوع االلوان والسياقات‪ .‬وھذا ال توفره‬ ‫اال مخيلة تأريخية تعتمد التأليف والتوليف والتركيب اسلوبا ً يقترب من الفن الروائي‬ ‫الذي يخالف اسلوب السرد الميكانيكي الحدثي المتسلسل والشائع تكراراً في‬ ‫المصادر المدرسية واالكاديمية‪ .‬فھذه غالبا ً ما تحوّ ل التأريخ سلسلة من االخبار‬ ‫الجامدة عن الحوادث والوقائع‪ ،‬تبدأ بوالدة االشخاص‪ ،‬وتتوقف في محطات من‬ ‫حياتھم‪ ،‬معروفة وشائعة كالمحفوظات‪ ،‬وتنتھي بموتھم‪.‬‬ ‫اما السيرة التأريخية لألشخاص وأدوارھم‪ ،‬فدأبھا االقتراب بھم ليكونوا شخصيات‬ ‫روائية‪ ،‬وھذا ما ال ت ّدعيه ھذه المحاولة عن فؤاد حبيش الذي ولد العام ‪ ١٩٠٤‬في‬ ‫بلدة غزير الكسروانية صادراً عن عائلة من العائالت االقطاعية‪ ،‬مضى اكثر من‬ ‫‪ ٥٠‬سنة على بدايات تصدع عالمھا مع تصدع نظام االقطاع واالمارة‪ ،‬بعد انطالق‬ ‫الحركات العامية الفالحية في جبل لبنان اواسط القرن التاسع عشر‪.‬‬ ‫سبق ھذا االنطالق بروز السلك الديني الكنسي والرھباني ودوره في التنظيم‬ ‫والتأطير االجتماعيين في مجتمع الجبل‪ ،‬فتوسعت قاعدة التعليم المحدث المتصل‬ ‫بذلك السلك وبالبعثات التبشيرية والتعليمية االوروبية واألميركية‪ ،‬وتراجع دور‬ ‫ملكية االرض والعالقات والعائالت االقطاعية في مراكمة القوة والثروة والنفوذ‪،‬‬ ‫وجرى توظيف ذلك الدور وتلك العالقات في سياقات جديدة مدارھا االرتقاء‬ ‫االجتماعي والثقافي والمھني عبر التعليم والتجارة‪.‬‬ ‫الشذرات القليلة المتداولة من سيرة فؤاد حبيش الحدثية‪ ،‬تشكل مرآة لھذين الحراك‬ ‫والتحول‪ .‬تروي سھام ايليا ابو جودة في بحثھا الجامعي حول “الحركة االدبية في‬ ‫لبنان ‪ ١٨٤٥ – ١٩٣٥‬من خالل جريدة “المكشوف”‪ ،‬الذي أع ّدته العام ‪ ١٩٩٧‬في‬ ‫الجامعة االميركية في بيروت‪ ،‬ان “الشيخ اسد حبيش )والد فؤاد( كان مدير القلم‬ ‫التركي في متصرفية جبل لبنان‪ .‬وأتقن العربية والتركية وااليطالية”‪ ،‬لكنه توفى‬ ‫حينما لم يكن ابنه فؤاد قد تجاوز الطفولة‪ .‬بعد تعلمه االولي في مدرسة “المزار”‬ ‫بغزير‪ ،‬أُدخل في العام ‪ ١٩١٣‬الى مدرسة الحكمة التي أسسھا في بيروت المطران‬ ‫يوسف الدبس )‪.(١٩٠٧ – ١٨٣٣‬‬


‫لكن سنوات الحرب العالمية االولى سرعان ما أعادت الفتى الى مسقطه واھله‪،‬‬ ‫حيث تابع تعليما ً بدائيا ً في “مدرسة تحت السنديانة”‪ .‬ويبدو انه عاش فتوة‪ ،‬بل‬ ‫طفولة‪ ،‬شقية في تلك السنوات‪ ،‬متنقال بين غزير وجونيه مع رفاق له يلعبون القمار‬ ‫والبليار وطاولة الزھر‪.‬‬ ‫ما ان انتھت الحرب حتى استدعاه ابناء عمومته الى القاھرة‪ ،‬فسافر اليھا وامضى‬ ‫فيھا سنتين دراسيتين في “المدرسة العلمانية الفرنسية” قبل عودته الى لبنان العام‬ ‫‪ ،١٩٢٢‬فلم يستطع الدخول الى كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف‪ .‬كان الجيش‬ ‫اللبناني في بداية تأسيسه غداة قيام دولة لبنان الكبير تحت سلطة االنتداب الفرنسي‪،‬‬ ‫فالتحق فؤاد حبيش بالمدرسة الحربية التي انشأھا الفرنسيون في دمشق‪ ،‬وتخرج‬ ‫منھا برتبة ضابط مترجم العام ‪ ،١٩٢٤‬فأمضى ‪ ١٠‬اشھر على رأس قسم الترجمة‬ ‫العسكري في حماة‪ ،‬قبل عودته الى بيروت‪.‬‬ ‫شبكة عالقات القربى لعبت دوراً في زواجه من يمنى لحود ابنة خالته زاھدة حبيش‬ ‫التي يعود نسب امھا الى عائلة الدحداح‪ .‬للقربى حضورھا في صلة فؤاد حبيش‬ ‫بفؤاد شھاب )قائد الجيش اللبناني الحقا ً( الذي تنتسب امه الى آل حبيش‪.‬‬ ‫العائالت ھذه‪ ،‬الى كسروانيتھا‪ ،‬كانت من عائالت المقاطعجية التي تعلوھا مرتبة آل‬ ‫شھاب االميرية‪ ،‬وأدى انھيار النظام االقطاعي ومراتبه الى تشتتھا في المھاجر‬ ‫واالعمال المحدثة‪ ،‬ومنھا الصحافة التي استھوت فؤاد حبيش في وقت نشاطھا‬ ‫وازدھارھا القوي الالفت في العاصمة اللبنانية الجديدة آنذاك‪.‬‬ ‫ففي بيروت العشرينات كانت تصدر عشرات الجرائد التي اجتمعت معظم مكاتبھا‬ ‫في الوسط المديني حول ساحة الشھداء وفي االسواق‪ .‬تحلّق في تلك المكاتب مئات‬ ‫من الشبّان المتعلمين‪ ،‬مأخوذين بسحر الكلمة واالدب‪ ،‬وبعھد جديد للحرية في‬ ‫التعبير والحراك االجتماعي والسياسي‪ ،‬وفي تداول الرأي في العالنية العامة‪ .‬وفي‬ ‫تلك المكاتب وعلى صفحات الجرائد‪ ،‬تجاور وتخالط ابناء العائالت من اصحاب‬ ‫النسب والمراتب القديمة وابناء العامة العصاميين المتعلمين الذين كانت غالبيتھم من‬ ‫المسيحيين‪.‬‬


‫عصبة العشرة‬ ‫لم يبق فؤاد حبيش ھاويا ً للصحافة‪ ،‬بل ترك عمله ضابطا ً مترجما ً في المؤسسة‬ ‫العسكرية‪ ،‬وانخرط في المھنة الجديدة الواعدة‪ ،‬فحرر في ما ال يقل عن اربع‬ ‫جرائد‪ ،‬قبل ان يلتحق بـ”المعرض” الجريدة االسبوعية االدبية‪ ،‬لمؤسسيھا وصاحبيھا‬ ‫ميشال ابو شھال )‪ (١٩٦٥ – ١٨٩٨‬وميشال زكور )‪ .(١٩٣٧ – ١٨٩٣‬كانت‬ ‫“المعرض” من اھم الجرائد في بيروت النصف الثاني من العشرينات والنصف‬ ‫االول من الثالثينات‪ ،‬وتحلق على صفحاتھا وفي مكتبھا ك ّتاب بارزون‪ ،‬انشأوا في‬ ‫العام ‪ ١٩٣٠‬شلة ادبية – صحافية ناشطة عُرفت وذاعت صيتھا باسم “عصبة‬ ‫العشرة” التي تألفت نواتھا من أربعة‪ :‬ميشال ابو شھال‪ ،‬الياس ابو شبكة‪ ،‬خليل تقي‬ ‫الدين‪ ،‬ولولبھم الصحافي فؤاد حبيش‪ .‬احيانا ً يقال ان واحدھم كان يكتب ويو ّقع بعدد‬ ‫من اسماء مستعارة‪ ،‬فصاروا عشرة على صفحات “المعرض”‪ ،‬بينما ھم اربعة في‬ ‫مكاتبھا يتحلق حولھم‪ :‬كرم ملحم كرم‪ ،‬يوسف ابرھيم يزبك‪ ،‬توفيق يوسف عواد‪،‬‬ ‫عبد‪ e‬لحود‪ ،‬ميشال اسمر )اسس الحقا ً عصبة ادبية ھي “ندوة االثني عشر‪ ،‬قبل‬ ‫انفراده بتأسيس “الندوة اللبنانية” العام ‪.(١٩٤٦‬‬ ‫اما سادس الستة المتحلقين حول نواة “عصبة العشرة” فكان تقي الدين الصلح‪.‬‬ ‫والالفت ان الصلح كان يھوى التمثيل المسرحي قبل الصحافة والى جانبھا‪ ،‬وفقا ً لما‬ ‫كتبه جان داية في “ملحق النھار” في ‪ ٢٣‬ايار ‪ .٢٠١٠‬ففي العام ‪ ١٩٢٤‬لعب تقي‬ ‫الدين الصلح‪ ،‬ايام كان طالبا ً في الجامعة االميركية في بيروت‪ ،‬الدور الرئيسي في‬ ‫مسرحية “قضي االمر” لكاتبھا سعيد تقي الدين‪ ،‬رئيس جمعية “العروة الوثقى” في‬ ‫الجامعة‪.‬‬


‫ھذه االدوار والتجارب المتدافعة والمتقاطعة في مسارات ذلك الجيل الشاب‪:‬‬ ‫المسرح‪ ،‬الصحافة‪ ،‬الجمعيات او “العصب” االدبية والصحافية‪ ،‬من عالمات والدة‬ ‫اطر ودوائر وشبكات متنامية في حياة مدينة جديدة مسرحھا وسط بيروت القديم‪،‬‬ ‫حيث توسع انتشار المسارح والمقاھي ودور السينما والمالھي ومكاتب الصحف‬ ‫التي كانت محطات في مسيرة كثيرين من شبّان العائالت القديمة والجديدة الى النيابة‬ ‫والوزارة والسلك الديبلوماسي الناشئ‪.‬‬ ‫خاضت “عصبة العشرة” على صفحات “المعرض” معارك ادبية حامية ضد التقليد‬ ‫في االدب والشعر “المخضرم” الذي كان يمثله بشارة الخوري )األخطل الصغير(‬ ‫صاحب جريدة “البرق”‪ ،‬فشكلت تلك المعارك محوراً اساسيا ً في الحياة األدبية‬ ‫والصحافية آنذاك‪.‬‬ ‫مما كتبه الياس ابو شبكة عن لقاءات “عصبة العشرة” في مكتب ادارة تحرير‬ ‫“المعرض” حيث كانوا يتناولون طعام الغداء ويتناقشون في شؤون االدب والسياسة‪،‬‬ ‫يستشف القارئ أن النراجيل وكركراتھا‪ ،‬وربما الطرابيش على بعض الرؤوس‪،‬‬ ‫كانت حاضرة في تلك الجلسات التي يسمّي شاعر “غلواء” و”أفاعي الفردوس”‬ ‫جالّسھا االعضاء “الجنود الروحيين )الذين( لن تقف عينك على مشھد ألطف وأكمل‬ ‫من مشھدھم”‪ .‬وھم كانوا يكتبون مقاالتھم النقدية الالذعة بأسماء مستعارة‪“ :‬جوّ ابة”‪،‬‬ ‫“منخل” لفؤاد حبيش‪“ .‬غضبضب”‪“ ،‬رسام” اللياس ابو شبكة‪ .‬كانت ھذه المقاالت‬ ‫تتصدى لـ”شيوخ االدب التقليدي” ولرجاالت السياسة الذين “ھجاھم” ابو شبكة في‬ ‫مقاالته ورسومه الكاريكاتورية لـ”ھتك ستورھم واقنعتھم المستعارة”‪.‬‬ ‫لذا ّ‬ ‫عطل رئيس الجمھورية شارل دباس “المعرض”‪ ،‬فظلت صامتة حوالى سنتين‬ ‫اواسط الثالثينات‪ .‬وحين عادت الى الصدور كان “فرسانھا قد تفرقوا‪ ،‬فالتزمت‬ ‫جانب االعتدال واالتزان”‪ ،‬قبيل الوفاة المفاجئة العام ‪ ١٩٣٧‬ألحد مؤسسيھا‪ ،‬ميشال‬ ‫زكور‪ ،‬وھو في منصب وزير في الحكومة‪ ،‬فانتقل نشاط “عصبة العشرة” الى‬ ‫“المكشوف” التي اسسھا فؤاد حبيش‪.‬‬

‫شبكات عائلية ومؤسسات‬ ‫الالفت أن ھذه الشذرات من سيرة مؤسس “المكشوف” كتبھا عيسى فتوح في‬ ‫حزيران ‪ ٢٠٠٥‬في العدد ‪ ٢٤٠‬من “مجلة الجيش” اللبنانية‪ ،‬ضمن تحقيق في ‪٤‬‬ ‫حلقات عن “الصالونات االدبية في لبنان”‪ .‬فما الذي يحمل مجلة عسكرية على كتابة‬ ‫مثل ھذه التحقيقات؟! الجواب‪ :‬الى تخرجه ضابطا ً مترجما ً من المدرسة الحربية في‬ ‫دوراتھا األولى‪ ،‬كانت تربط فؤاد حبيش صلة مصاھرة باللواء فؤاد شھاب‪ .‬وھذه‬


‫واقعة جزئية من سلسلة من امثالھا تشير الى ان المدرسة الحربية في المؤسسة‬ ‫العسكرية اللبنانية منذ بدايات نشوئھا‪ ،‬استقطبت شبانا ً من شبكات عائلية محددة‬ ‫تجمعھا عالقات القربى والمصاھرات‪ .‬من ھذه الشبكات‪ :‬آل البستاني‪ ،‬آل لحود‪ ،‬آل‬ ‫شھاب‪ ،‬آل نجيم‪ ،‬وسواھم من العائالت التي تكاثر ابناؤھا بين كبار الضباط‬ ‫والمراتب العسكرية القيادية العليا‪ .‬والشبكات العائلية لھا دورھا المماثل تقريبا ً في‬ ‫سلك الرھبانيات الذي ش ّكل رافعة اساسية ألبناء ھذه الشبكات وسواھم من العامة في‬ ‫التعليم الرھباني واالرسالي في المجتمع المسيحي‪ ،‬قبل أن تلتحق به )التعليم(‬ ‫وتستفيد منه فئات اجتماعية من المسلمين‪.‬‬ ‫لكن في حالة فؤاد حبيش‪ ،‬ھنالك عامل اضافي مھني ّ‬ ‫وثق صلته بالمؤسسة‬ ‫العسكرية‪ .‬فبعد تأسيسه“ دار المكشوف” للنشر‪ ،‬تعھد اصدار مجالت كثيرة‪:‬‬ ‫“المدرسة”‪ ،‬االذاعة”‪“ ،‬الراديو”‪“ ،‬الجندي اللبناني”‪“ ،‬الشرف العسكري”‪“ ،‬الحرب”‪،‬‬ ‫و”قرأت لك”‪ .‬وھذا ما حمل “مجلة الجيش” على استذكاره في العام ‪.٢٠٠٥‬‬ ‫يبقى أن نشير في ھذا السياق الى أن “دار المكشوف” كانت “امبراطورية نشر”‬ ‫أدبي ولقطاعات مھنية وتربوية ما بين الثالثينات والخمسينات من القرن العشرين‪،‬‬ ‫ايام كانت الكلمة المكتوبة في الصحف والمجالت‪ ،‬والكلمة المسموعة عبر‬ ‫االذاعات‪ ،‬الفضاء االساسي األرحب للتواصل والتعبير والترفيه وتناقل المعلومات‬ ‫لدى الفئات االجتماعية والعمرية والمھنية المختلفة في تلك الحقبة التي شھدت طفرة‬ ‫في اصدار مجالت ومطبوعات ترفيھية واعالنية ومعرفية خاصة بقطاعات جديدة‬ ‫ناشئة ومتوسعة‪ .‬لكن الالفت ان ھذه القطاعات المھنية والتربوية‪ ،‬استنكفت عن‬ ‫انتاج ما تحتاجه من مطبوعات وعن اختبار طاقاتھا في نقل تجاربھا الى مجال‬ ‫الكتابة‪ ،‬بتلزيم تحرير واصدار ما تتطلبه من المطبوعات الى ھيئات تحرير‬ ‫ومؤسسات نشر محترفة وغريبة عنھا وعن حاجاتھا وتجاربھا وخبراتھا المھنية‪.‬‬ ‫ھذا فيما كانت “دار المكشوف” اول دار لبنانية ارست تقاليد مؤسسية للنشر‪ ،‬بفصلھا‬ ‫ھذه المھنة عن مھنتي الطباعة وبيع الكتب‪ ،‬بعدما كان الناشرون أصحاب مطابع‬ ‫ومكتبات تجارية‪.‬‬


‫أخبار الشھوة المدبلجة‬

‫ال نملك معطيات وافية تمكننا من تقديم شبكة العوامل التي حملت الشيخ فؤاد حبيش‬ ‫حينما كان في مطلع الثالثين من عمره‪ ،‬على الخروج على التقاليد السائرة في العمل‬ ‫الصحافي الناشط والمزدھر‪ ،‬وعلى أنواع المادة التي كانت تقدمھا الجرائد إلى‬ ‫القراء في بيروت ثالثينات القرن العشرين‪.‬‬ ‫يتطلب تقديم تصور ما عن ھذه العوامل‪ ،‬العودة الى ما كان يكتبه حبش وسواه في‬ ‫“المعرض” وسواھا‪ ،‬كما يتطلب أيضا ً توافر سيرة اجتماعية – ثقافية ما‪ ،‬حقيقية‬ ‫للرجل‪ ،‬لم ُتكتب بعد‪ ،‬شأن غيرھا من سير روّ اد الصحافة وك ّتابھا في تلك الحقبة‪،‬‬ ‫وشأن التأريخ الفعلي للصحافة والعمل الصحافي وموضوعاته‪ .‬وفي ظل غياب مثل‬ ‫ھذه السير وذلك التأريخ‪ ،‬يصعب اجالء دواعي فؤاد حبيش الى اصدار جريدة‬ ‫اسبوعية تبدو اليوم اقرب الى جريدة األمس لـ”االثارة الجنسية” ولما يحفّ بھا من‬ ‫صور وأھواء ومن حوادث وأصداء اجتماعية‪.‬‬ ‫ويظل ضربا ً من الحدس التقريبي التعرف إلى ما دار في وعي الرجل ومخيلته كي‬ ‫ينشئ تلك الجريدة التي ال ندري إن كان أحد ما في ثالثينات بيروت والقاھرة‪ ،‬قد‬ ‫سبقه في انشاء مثيل له‪ ،‬فاستلھمه حبيش ونسج على منواله‪ :‬جريدة توقف مادتھا‬ ‫كلھا تقريبا ً على إثارة مدارھا ومحورھا النساء والجنس‪ ،‬كما تحضر أخبارھن‬ ‫وأخباره في بعض الحصف والمطبوعات الغربية‪ ،‬الشعبية والرائجة آنذاك‪ ،‬على‬ ‫األرجح‪ .‬إثارة يجري استلھامھا‪ ،‬ترجمتھا ودبلجتھا )على نحو ما تجري اليوم دبلجة‬ ‫المسلسالت التلفزيونية المكسيكية والتركية(‪ ،‬لتقديمھا في مطبوعة عربية اللغة‬ ‫والتھويم والتخييل االجتماعيين والثقافيين‪ ،‬ليخالف حبيش في ھذا سربه الصحافي‬ ‫والكتابي في “عصبة العشرة”‪ .‬يتبادر ھنا حدس ما‪ ،‬بعيد‪ ،‬بأن حبيش رغب في ان‬


‫يقدم مادة صحافية تكسر الجدية والرصانة السائدتين في الكتابة آنذاك‪ .‬كما يتبادر‬ ‫حدس آخر بأن ما دار في وعيه ومخيلته‪ ،‬استلھم على نحو معكوس أشعار صديقه‬ ‫في “العصبة” إلياس ابو شبكة‪.‬‬ ‫ففي مقابل حمّى الشھوات وفحيحھا األسود اآلثم والملتاع‪ ،‬وفي مقابل آالم ح َُرقِھا‬ ‫الناجمة عن عدم تلبيتھا ج ّراء تم ّنع المرأة وامتناعھا وشبقھا المستتر مع “خيانتھا”‬ ‫واختبائھا خلف حجب التقاليد والحشمة والفضيلة‪ ،‬كما في قصائد “أفاعي الفردوس”‬ ‫– التي يقال ان ابو شبكة كتبھا متأثراً بـ”أزھار الشر” البودليرية وبالرومنطيقية أو‬ ‫“الواقعية الرمزية” – في مقابل ھذا كله‪ ،‬عمل فؤاد حبيش على دبلجة مادة صحافية‬ ‫عن فحيح الشھوات واألھواء وأصدائھا في أخبار الحوادث والوقائع االجتماعية‬ ‫والقصص االوروبية في حقبة ما بين الحربين العالميتين‪ .‬لكنه نزع عن ذلك الفحيح‬ ‫مشاعر اإلثم واللوعة وآالم حرقھا‪ ،‬وق ّدمه في أسلوب نثري‪ ،‬قصصي وإخباري‪،‬‬ ‫يجمع اإلثارة والتشويق واللھو إلى واقعية حسية مفترضة‪.‬‬

‫رسول العري والبصبصة‬ ‫استھل فؤاد حبيش تسمية جريدته االسبوعية الجديدة “المكشوف” من فكرته‬ ‫وتصوّ ره عنھا وعن مادتھا ومتطلبات جمھورھا المفترض‪ :‬الرغبة في ھتك‬ ‫األسرار والحجب عن المرأة وجسمھا‪ .‬وذلك بتعريضھا في اإلخبار والقص‬ ‫المفترض انھما حدثيان وواقعيان‪ ،‬إلى حساسية جديدة ھي وليدة السفور والتعرية‪،‬‬ ‫وفقا ً لمبدأ الواقع اإلباحي‪ ،‬على خالف مبدأ اإلعالء الطھراني والروحاني للرغبات‬ ‫والشھوات‪ ،‬وإلستتار النساء وأجسامھن خلف حجب التقاليد المحافظة والفضائل‬ ‫االخالقية واالجتماعية البالية‪.‬‬ ‫غداة تأسيسه “المكشوف” وإصدارھا‪ ،‬نشر حبيش “بيانه التأسيسي” وبيان جريدته‪،‬‬ ‫في كتابين ھما “السجينات – بحث في حب النساء الشاذ”‪ ،‬و”رسول العري” الذي‬


‫صار لقبا ً له‪ ،‬وإسما ً آخر لجريدته التي جرى تداول اسمھا في صيغة المذ ّكر‪ ،‬فقيل‬ ‫و ُكتب “ھذا المكشوف”‪ ،‬بعدما صدرت اسبوعيا ً ابتدا ًء من أول أيار ‪ .١٩٣٥‬الالفت‬ ‫ان أعدادھا األولى خلت من اسماء ك ّتاب أو محرّري مادتھا ومدبلجيھا‪ ،‬سوى اسم‬ ‫“محررھا المسؤول” فؤاد حبيش فقط‪.‬‬ ‫على صفتحھا األولى في عددھا األول “قصة لم يسبق نشرھا” ھي “قصة غرام‬ ‫النبيالت” إلى جانب صورة امرأة تنكشف أجزاء مثيرة من جسمھا‪ .‬وتكرُّ سبحة‬ ‫أشباه ھذا العنوان على صفحات العدد األول كلھا‪“ :‬العري في الحب – أتفضل أن‬ ‫تكون عاريا ً أم البساً؟”‪“ ،‬الحب في الكتب”‪ ،‬تحته عنوان فرعي‪“ :‬زوجة متط ّرفة في‬ ‫تقواھا”‪ ،‬ثم “القضايا القذرة والمحاكمات السرية”‪“ ،‬مد ّرسة ال تكره الشھوات”‪.‬‬ ‫طوال السنة األولى من صدورھا تتع ّزز مثل ھذه العناوين واألبواب وتتناسل‬ ‫متزايدة‪ ،‬كأنھا قصص وحكايات متسلسلة‪“ :‬قصة زواج حكيم” )طبيب(‪،‬‬ ‫“المطارحات الغرامية التي تفضلھا المرأة”‪“ ،‬كيف تحب رجالً متزوجا ً”‪“ ،‬العاشق‬ ‫الحقيقي‪ :‬واجبه قبل الحب وفيه وبعده”‪“ ،‬جسد ملتھب”‪“ ،‬مخدر جديد يستعبد النساء‬ ‫ويوقظ شھواتھن”‪“ ،‬ما ھي اللذة التي تفضلھا في الحب‪ :‬فوق الصخور‪ ،‬القبلة‬ ‫الجارحة‪ ،‬العضة في األذن؟”‪“ ،‬الغرام في اسبانيا يشمل الكبار والصغار”‪“ ،‬المغازلة‬ ‫في السينما‪ :‬بغاء القاصرات‪ ،‬أسعار الحب”‪“ ،‬كيف سحر ھتلر الفاتنة بريجيت”‪،‬‬ ‫“اللھو والحب في لندن”‪“ ،‬الجرائم في بولونيا”‪“ ،‬ريق امرأة يشفي من سم األفاعي”‪،‬‬ ‫“مومس تتحدث إلى ابنھا”‪“ ،‬السحاقيات عند اليونان”‪“ ،‬الفحش المقدس في بالد‬ ‫المھاتما غاندي”‪ k‬إلخ‪.‬‬ ‫على صفحات ‪ ٣٣‬عدداً صدر األخير منھا في ‪ ٧‬كانون الثاني ‪ ،١٩٣٦‬ظل‬ ‫“مكشوف” فؤاد حبيش بوصفه “وان مان شو” تقريباً‪ ،‬رسوالً لھذا النوع من العناوين‬ ‫والكتابة االسبوعية المترجمة والمدبلجة والمع ّدة والمنقولة عن صحف ومطبوعات‬ ‫أوروبية معظمھا فرنسية‪ .‬إلى جانب ھذه العناوين وموضوعاتھا‪ ،‬صور اباحية‬ ‫لنساء ومضاجعات شديدة اإلثارة‪ ،‬يقوم بحفرھا على معدن الزنك حرفيّ أو ف ّنان‬ ‫“الزنكوغراف”‪ ،‬فتشير “المكشوف” إليه في بعض أعدادھا باسم “بغدادي” الذي يبدو‬ ‫ان رقابة المطبوعات آنذاك أخذت تحذف بعض صوره الشديدة اإلباحية‪ .‬لذا‬ ‫أصدرت الجريدة بعض أعدادھا بمساحات بيضاء على عدد من صفحاتھا‪ ،‬بسبب‬ ‫حذف الرقابة تلك الصور‪.‬‬


‫المرأة محور اإلعالنات‬ ‫تتخلل ھذه العناوين والموضوعات المثيرة إعالنات محلية تشير الى ظھور مھن‬ ‫وخدمات وسلع جديدة متناسبة مع “ثقافة السفور اإلباحية” التي تشيعھا “المكشوف”‪:‬‬ ‫“الدكتور جرجي ربيز االختصاصي باألمراض التناسلية”‪“ ،‬عيادة طبيب األسنان”‬ ‫لطبيب في محطة الناصرة‪“ ،‬كريم ھالينا المزيل للنمش”‪ .‬بعض االعالنات تحظى‬ ‫بمقدمات مثيرة مطولة‪“ :‬ماذا يحب الرجل في المرأة؟”‪ ،‬والجواب‪“ :‬جمالھا الطبيعي‬ ‫الخالب‪ ،‬صفاء الوجه‪ ،‬نقاء البشرة”‪ .‬عليك إذاً بـ”كريم سندس”‪.‬‬ ‫ثم دعاية لـ”الشوكوال الوطنية‪ ،‬صنع معامل الجميل الشھيرة‪ :‬تجدھا خصوصا ً في‬ ‫صيدلية الجميل بساحة الشھداء”‪ .‬لالصطياف والفنادق والمطاعم والخمور حصتھا‬ ‫من الدعاية‪“ :‬نزل قاصوف في ضھور الشوير”‪“ ،‬فندق الھنود في دير القمر”‪،‬‬ ‫“عرق الزوق الفاخر”‪“ ،‬مطعم عارف الجديد المشرف على سينما روكسي”‪،‬‬ ‫“الويسكي اللذيذة الخالية من الضرر‪ :‬أمباسادور”‪“ ،‬حتي إخوان ألوراق السفر إلى‬ ‫جميع أنحاء العالم”‪ ،‬وإعالن عن شركة جديدة لنقل المصطافين‪ ،‬وعن “دليل‬ ‫االصطياف لمؤلفه اسكندر يارد”‪ ،‬ولالعالنات على صفحات “المكشوف” عليك ان‬ ‫“تخابر في شأنھا االدارة في سوق اياس – قرب البركة”‪.‬‬ ‫إلى جانب حلقات “رواية” متسلسلة عنوانھا “اإلغواء” ألنيس دية‪ ،‬مقالة عن‬ ‫“بائعات اللذة في فرنسا ولبنان”‪ ،‬يرد فيھا ان “حمالت الصحف واألحاديث الخاصة‬ ‫أثمرت اخيراً عن ضرورة التساھل بالسماح لبائعات اللذة ممارسة حرفتھن في‬ ‫أماكن االصطياف”‪ ،‬حيث تنقل الجريدة أخبار انتخاب ملكات للجمال في حمّانا‬ ‫وضھور الشوير‪ .‬لذا نشرت “المكشوف” مقابلة مع المنتخبة اآلنسة كيتا كفوري التي‬


‫قالت‪“ :‬تغريني المكشوف وأقرأھا بلذة ألنھا جريدة الجمال الحقيقي والفضيلة‬ ‫الحقيقية‪”.‬‬

‫استعارة أوروبا “السنوات المجنونة”‬ ‫ھذا غيض من فيض عناوين “عالم المكشوف” للسفور والعري في أعداد السنة‬ ‫االولى من صدورھا‪ .‬يتخيل متصفح ھذه األعداد أن مادة الجريدة االسبوعية أثارت‬ ‫عاصفة في مجتمع ثالثينات المجتمع اللبناني والبيروتي‪ .‬من الصعب التحقق من ھذا‬ ‫األمر من دون استطالعات واسعة تبيّن وقع تلك المادة الصحافية على جمھور ق ّراء‬ ‫تلك الحقبة التي عمل فؤاد حبيش فيھا على إعداد مواد صحافية وكتابات أوروبية‬ ‫مثيرة‪ ،‬ترجمتھا وتلخيصھا ونشرھا في “المكشوف”‪.‬‬ ‫كان العالم آنذاك يعيش في حقبة ما ُسمّي في أوروبا “السنوات المجنونة”‪ ،‬أي‬ ‫العشرينات التي أعقبت الحرب العالمية االولى )‪ .(١٩١٨ – ١٩١٤‬وھي سنوات‬ ‫مضطربة ومضطرمة بأنماط عيش وتفكير جديدة‪ ،‬منھا رسوخ خروج المرأة الى‬ ‫العمل والحياة العامة واتساعه على نطاق جماھيري في البلدان األوروبية‪ ،‬حيث‬ ‫شاع تحرر النساء من األزياء القديمة التي كانت تالفيفھا الكثيرة تغطي أجسامھن‬ ‫وتعوق حركتھا‪.‬‬ ‫ويبدو أن فؤاد حبيش زار ألمانيا في مطلع تلك السنوات األوروبية “المجنونة”‪،‬‬ ‫فتردد ھناك على “نوادي العراة” حيث “أفراد من طبقات اجتماعية مختلفة‪ ،‬يمضون‬ ‫عطلھم‪ ،‬رجاالً ونساء‪ ،‬في الھواء الطلق‪ ،‬عراة‪ ،‬لتنقية أجسامھم من األمراض”‪،‬‬ ‫على ما كتب حبيش نفسه في مقدمة كتابه “رسول العري” واصفا ً رحلته األلمانية‬ ‫تلك التي كان قد نشر بعض فصولھا مقاالت في جريدة “األحرار المصورة” في‬ ‫عنوان “العري في ألمانيا”‪ .‬أما ذلك الكتاب فكان حصيلة ترجمة وتلخيص لكتاب‬ ‫“بالد العري” للفرنسي شارل رواييه‪ .‬كان دافع حبيش الى ذلك العمل “إيمان بأھمية‬


‫الثقافة الجنسية القائمة على قواعد طبية وصحية يتوجب تلقينھا للطلبة منذ نعومة‬ ‫أظفارھم”‪ ،‬فا ّتھم‪ ،‬بعد نشره الكتاب بـ”االنحراف الخلقي‪”.‬‬ ‫صديقه ادوار حنين قال في رثائه العام ‪ ١٩٧٤‬إنه كان “على ظاھر من التفلت‬ ‫منقطع النظير”‪ ،‬لكنني “ما رأيته يوما ً إال في جانب الخلق النبيل )‪ (k‬مشدوداً الى‬ ‫الجبل بشروش ال أمتن‪ :‬منھا آلل حبيش ومنھا آلل لحود ومنھا للصخرة التي أدمت‬ ‫قدميه صبيا ً في غزير”‪ .‬أما عديله أنطون غطاس كرم فقال عنه في السياق الرثائي‬ ‫نفسه‪“ :‬إذا لقيته نضح بالبشر ثم ز ّفك العبث‪ ،‬كأنما الدعابة )عنده( جسر الى الحميم‪،‬‬ ‫وانزالق اللسان أسلوب من المودة”‪.‬‬ ‫كثيرة ھي االشارات التي تؤكد أن حبيش كان سليط اللسان حتى “البذاءة” الساخرة‪،‬‬ ‫أو “الشتيمة بلھجته الكسروانية الشھيرة”‪ ،‬على ما ذكر أنسي الحاج‪ ،‬متذكراً “أناقته‬ ‫األريستوقراطية”‪ .‬ھذه الصفات قد نجد مصدرھا في محطات سيرة حبيش‬ ‫االجتماعية والشخصية‪ .‬فإبن عائلة المشايخ التي تف ّكك عالمھا القديم‪ ،‬والمقامر‬ ‫الصغير في فتوّ ته أيام الحرب العالمية االولى‪ ،‬والمتخرج من المدرسة الحربية‬ ‫ضابطا ً مترجماً‪ ،‬قال عنه أنطون غطاس كرم إنه كان “في انضباط الجندي‪ ،‬مؤرقا ً‬ ‫)من الورق( يفلي صحف العالم‪ ،‬يخط باألحمر‪ ،‬يترصد ثمار المطابع في كل فن‪،‬‬ ‫يجمع مختار الطرائف من المد العالمي‪ ،‬يطوّ عه وفق قرائه‪ّ ،‬‬ ‫يلطفه‪ ،‬يضغطه مادة‬ ‫لصفحة” في جريدة‪ ،‬أيام كانت الصحافة تنطلق ناشطة مزدھرة في بيروت ولبنان‬ ‫العشرينات والثالثينات‪.‬‬ ‫فھل استشفّ فؤاد حبيش أن سوق الصحافة وجمھورھا المحليين متعطشان توقا ً الى‬ ‫مطبوعة جديدة تتفرد في المجتمع المحلي بالتعبير عن شبق محموم‪ ،‬مكبوب أو‬ ‫مكتوم‪ ،‬يريد أن يسفر عن نفسه في العالنية العامة؟ لكن ال حبيش وال ذلك المجتمع‬ ‫كانا يمتلكان ثقافة وتجربة وخبرات ولغة تمكنھما‪ ،‬بغير الترجمة والتلخيص‬ ‫والدوبالج‪ ،‬من التعبير عن ذلك التوق الشبق الى السفور‪ .‬لذا أقدم الصحافي‪،‬‬ ‫“رسول العري”‪ ،‬وكذلك مجتمعه‪ ،‬على استعارة مادة توقھما من أوروبا “السنوات‬ ‫المجنونة”‪ .‬مذذاك‪ ،‬قبله وبعده‪ ،‬تعمل ثقافتنا ولغتنا العربيتان على استعارة عالم‬ ‫الحداثة األوروبية وترجمته على نحو سيئ غالباً‪ ،‬ونشره في شتى ميادين حياتنا‬ ‫المحلية‪.‬‬

‫الخيال الصحافي الس ّباق‬ ‫في العدد ‪ ٣٣‬من “المكشوف”‪ ،‬ذاك الذي سبق انقالبھا جريدة لألدب واألدباء في‬ ‫مطلع العام ‪ ،١٩٣٦‬حاول توفيق يوسف عواد إدخال استعارة فعل أوروبا في نسيج‬


‫االجتماع البيروتي‪ ،‬فكتب في أسلوب قصصي تحقيقا ً عن “بنات المدينة” اللواتي‬ ‫يعملن في المؤسسات والمخازن والمكاتب‪ ،‬كما يعمل الرجال‪ .‬طائفة البنات‬ ‫العامالت “لم يكن لنا بھا عھد قبل الحرب الكونية االولى – كتب عواد – ويجب أن‬ ‫نحسب لھا حسابا ً اليوم”‪ ،‬بعدما بلغ عددھا “المئات” في بيروت‪ .‬وينقل الكاتب‬ ‫مقتطفات من محادثته بعض بنات ھذه الطائفة الجديدة‪.‬‬ ‫إحداھن تقول إنھا تعمل للحصول على مبلغ من المال لتشتري به “كل ما تشتھيه‬ ‫نفسي‪ :‬فساتين‪ ،‬برانيط‪ ،‬عطور‪ ،‬كلسات‪ ،‬وبطاقات سينما”‪ .‬وھي “تحب الجمال أكثر‬ ‫من التحصن في المنزل”‪ .‬أخرى تقول إنھا “تحب الحرية‪ ،‬الخروج وركوب‬ ‫الترامواي‪ ،‬وأن يمشي ورائي شاب يسارقني النظر‪ ،‬فأضحك عليه في سرّي‪،‬‬ ‫وأتمتع بتلك الرعشات تنزل من قلبي الى أخمص قدمي”‪ .‬ثالثة تقول‪“ :‬أحب العودة‬ ‫ُ‬ ‫كنت‪ ،‬فأجاوبه‪ :‬كنت في الشغل”‪ .‬رابعة تعمل في‬ ‫الى البيت‪ ،‬ليسألني والدي أين‬ ‫مخزن وتتقاضى ‪ ١٠‬ليرات سورية في الشھر‪ ،‬وتقول إنھا ُتعيل بھا أمھا األرملة‬ ‫وإخوتھا اليتامى‪.‬‬ ‫أخيراً يخلص عواد متسائالً‪“ :‬أنستطيع القول إن ‪ ٥٠‬في المئة من العامالت يحافظن‬ ‫على عفافھن؟”‪ .‬جازما ً يجاوب “السالمات ال تتجاوز نسبتھن ‪ ٥‬في المئة‪ .‬العذراء‬ ‫منھن نصف عذراء‪ ،‬وھي تعطي كل شيء سوى خيط عنكبوت‪ .‬التي تعطي بسخاء‬ ‫إنما تعطي مدير المكتب أو المخزن أو المؤسسة‪ ،‬من دون أن تبخل في الشارع”‪.‬‬ ‫ويختتم الكاتب في أسلوبه القصصي‪“ :‬في الصباح والمساء‪ ،‬عندما تتزاحم األقدام‬ ‫العالية والفساتين القصيرة على األرصفة‪ ،‬تجد كثيرات يقفن في محطة ترامواي أو‬ ‫على ملتقى طرق‪ ،‬ينتظرن العشاق‪ .‬إنھا ظاھرة فرحة لذيذة‪ ،‬لكنھا ال تخلو من‬ ‫خطر‪ .‬ومتى كانت الحرية خالية من األخطار؟‪!”.‬‬ ‫رسول العري يستعيد صواب األدب‬


‫في عددھا األربعين مطالع أيار ‪ ١٩٣٦‬ص ّدرت “المكشوف” صفحتھا األولى ببيان‬ ‫أعلنت فيه “مفاجأة كبرى سارة لم يحلم بھا القراء”‪ :‬سوف تصير “جريدة جديدة‬ ‫بشكلھا وروحھا ومادتھا وك ّتابھا” لتصبح لسان حال النھضة األدبية في ھذه الربوع‬ ‫بما تنشره من مقاالت تدبّجھا أقالم نخبة من أدباء ھذا الجيل‪.‬‬ ‫تطرق “المكشوف” “مواضيع السياسة بإخالص لخدمة البالد‪ ،‬وتعالج مواضيع‬ ‫األدب )لـ( تحرير األدب العربي من عبودية التقليد وعبودية التجارة”‪ .‬ويضيف‬ ‫البيان‪“ :‬ستبحث المكشوف في الفن والعلوم والسينما‪ ،‬وقد تم ّكنا من االتفاق مع عدد‬ ‫من ك ّتابنا الممتازين )الذين( نفاجئ بھم قراءنا”‪ .‬أما ما سينجم عن ھذا التغير‪ ،‬بل‬ ‫اإلنقالب‪ ،‬بعد أكثر من سنة على صدور الجريدة‪ ،‬فيقصره البيان على أن‬ ‫“المكشوف ستصبح الجريدة التي تقرأھا العذراء في خدرھا دون أن تالقي في‬ ‫قراءتھا ما درجت عليه حتى اليوم‪) ،‬وھو( ما عزمنا على اھماله تماما ً‪”.‬‬

‫التدبيج والعذارى‬ ‫الى النبرة اإلعالنية الدعائية البارزة في مطلعه‪ ،‬ينطوي القاموس اللغوي للبيان على‬ ‫عبارات وكلمات قد يكون جامعھا ما سمّي “النھضة األدبية” بوصفھا حركة عامة‬ ‫مستلھما ً حركة‬ ‫صِ يغ مفھومھا منذ نھايات القرن التاسع عشر ما بين مصر ولبنان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫التنوير األوروبي‪ ،‬وصار دارجا ً بين المثقفين والك ّتاب واألدباء العرب واللبنانيين‪،‬‬ ‫ومدار سجاالتھم وانقساماتھم وحامل رغباتھم في التجديد والتقدم والتحرر‪ ،‬طوال‬ ‫النصف األول من القرن العشرين‪.‬‬ ‫مثل معظم البيانات النھضوية األدبية العربية واللغة التي تعتمدھا‪ ،‬تظھر في بيان‬ ‫“المكشوف” عبارات وكلمات وصياغات إنشائية تعود الى “الوعي لغوي” وتعبيري‬ ‫يُفترض أنه سابق على النھضة األدبية‪ ،‬ويخالف مضمونھا الذي قد تكون العبارة‬ ‫اإلعالنية في مطلع البيان ھي األقرب إليه‪.‬‬ ‫أما العبارات والكلمات الصادرة عن “الوعي لغوي” مرسل ويخالف المضمون‬ ‫المفترض للنھضة‪ ،‬فھي من أمثال‪“ :‬ھذه الربوع”‪“ ،‬تدبجھا أقالم”‪“ ،‬العذراء في‬ ‫خدرھا”‪ .‬ذلك أن ھذه الكلمات تنتمي الى لغة عربية فائتة فقدت صلتھا بوقائع الحياة‬ ‫اليومية ومخيلتھا وأفعالھا وعالقاتھا السائرة‪ ،‬وفقا ً لما رغبت “المكشوف” نفسھا ان‬ ‫تحمل رايته في حلّتھا السابقة على البيان بوصفھا “رسول العري” و”كشف الستر”‬ ‫عن الرغبة والوقائع والحوادث واألفعال والعالقات الناجمة عنھما في الحياة‬ ‫االجتماعية والخاصة‪ .‬لكن مراجعة عناوين ومقتطفات من مادة “المكشوف”‬


‫الصحافية في سنة صدورھا األولى‪ ،‬بيّنت أن تلك الرغبة – الرسالة جاءت مترجمة‬ ‫ومدبلجة عن مواد صحافية أوروبية )فرنسية غالبا ً(‪ ،‬ومنقطعة الصلة بأحوال‬ ‫المجتمع المحلي ووقائعه وحوادثه في معظم الحاالت‪ ،‬ما خال اإلصرار على طلب‬ ‫اإلثارة في ما يتصل بشؤون النساء وأجسامھن وملبسھن وشھواتھن وشھوات‬ ‫الرجال‪ ،‬تلك التي دأبت الجريدة على نشر أخبارھا وحكاياتھا المترجمة في عالنية‬ ‫عامة‪ ،‬صحافية ناشطة ومزدھرة في بيروت ثالثينات القرن العشرين‪.‬‬ ‫إذ كيف يمكن الحديث عن إرادة العري والسفور والرغبات والعالقات والحوادث‬ ‫الناجمة عنھما‪ ،‬في لغة تستعيد كلمات مثل العذارى والخدور والتدبيج والربوع؟‬ ‫والحق أن فعل التدبيج ينطبق تماما ً على معظم مقاالت “المكشوف” الصحافية‬ ‫المغفلة التوقيع في طورھا األول “رسوالً للعري”‪ .‬الفعل نفسه حاضر في بيانھا‬ ‫األدبي الجديد الذي يزفّ الى قرائھا بشارة صيرورتھا جريدة أدبية‪ ،‬استقطبت قوال‬ ‫وفعال نخبة واسعة من ك ّتاب لبنان أوالً‪ ،‬وسوريا تالياً‪ ،‬في األدب والصحافة في‬ ‫عقدَي الثالثينات واألربعينات من القرن العشرين‪ ،‬على ما تبيّن مراجعة أعدادھا ما‬ ‫بين العدد ‪ ٣٣‬و‪ ٥٠٠‬تقريباً‪ ،‬قبل توقفھا عن الصدور مطلع الخمسينات‪.‬‬

‫“اليف ستايل” الثالثينات‬ ‫ال ريب في أن كاتب البيان األدبي‪ ،‬أو المشارك في كتابته‪ ،‬ھو مؤسس “المكشوف”‬ ‫الشيخ فؤاد حبيش الذي روى في صفحة داخلية من العدد المنشور فيه البيان‪ ،‬أن‬ ‫“عائلة ھاي اليف”‪ ،‬أي مرموقة اجتماعيا ً و”مثقفة” وتتألف من “أم وأب و‪ ٧‬أوالد‬ ‫بينھم فتيات”‪ ،‬كان “كل منھم يشترك سراً” في “المكشوف” التي ُترسل اليه أعدادھا‬ ‫“على عنوان خاص” به وحده منفرداً‪ .‬تغيب في ھذا الخبر كلمتا العذارى والخدور‪،‬‬ ‫وتحضر كلمة فتيات وعبارة “ھاي اليف” األجنبية‪ ،‬كما يقال اليوم “اليف ستايل” في‬


‫لغة االعالميات التلفزيونيات اللواتي غزا حضورھن وغزت لغتھن الصحافة‬ ‫المكتوبة‪ .‬األرجح أن حبيش في “مكشوفه” في طورھا األول ما قبل األدبي‪ ،‬ق ّدم في‬ ‫منتصف ثالثينات القرن العشرين مادة صحافية سبّاقة ورائدة من نمط “الاليف‬ ‫ستايل”‪ ،‬مشوبا ً باإلثارة‪.‬‬ ‫ھذه الثقافة في نموذجھا اللبناني والعربي الراھن‪ ،‬ھي شكل من أشكال ثقافة العولمة‬ ‫الما بعد حديثة )البوست مودرن( التي تختلط فيھا انماط تفكير وتعبير ونظر وسلوك‬ ‫غير متجانسة‪ ،‬بل عشوائية‪ ،‬صادرة عن “الوعي” مرسل‪ ،‬كما كانت تختلط في‬ ‫الثالثينات في لغة فؤاد حبيش كلمات وعبارات “ھاي اليف” وفتيات وعذارى‬ ‫وخدور‪ ،‬الصادر كل منھا عن فضاء لغوي مختلف عن اآلخر‪ ،‬ومتعارض معه‪.‬‬ ‫كان يمكن ان نضرب صفحا ً عن ھذا التعارض العشوائي‪ ،‬ونق ّدره تقديراً مختلفاً‪ ،‬لو‬ ‫أننا في معرض من فنون التجھيز الرائجة منذ سنوات في الفنون البصرية الما بعد‬ ‫حديثة‪.‬‬ ‫عطفا ً على بيان “المكشوف” األدبي الجديد‪ ،‬تفصح إشارة حبيش الى عائلة‬ ‫المشتركين السريين في جريدته حينما كانت “رسوالً للعري”‪ ،‬عن أن العذارى كنَّ‬ ‫من قرائھا‪ ،‬لكن خارج خدورھنّ البيتية والعائلية التي صار يمكنھن أن يقرأنھا فيھا‬ ‫مطمئنات بعد تحولھا جريدة أدبية‪.‬‬ ‫ھذا يشير الى أن “المكشوف” في حلتھا السابقة كانت علنية وسرية في وقت واحد‪:‬‬ ‫مطروحة علنا ً في سوق المطبوعات الناشطة‪ ،‬وللمشتركين الذين يلتھمون مادتھا‬ ‫الصحافية كل بمفرده وفي السر أو الخفاء عن اآلخرين‪ .‬وھذا يجعل القارئ بصَّاصا ً‬ ‫على ما يقرأ‪ ،‬على رغم أن ما يقرأه مطروح علنا ً في السوق‪ ،‬من دون أن تلغي ھذه‬ ‫العلنية والغفلية حذره من تداول الجريدة وقراءتھا‪ .‬أما بعد تحولھا جريدة لألدب‬ ‫واألدباء فسيزول الخوف والتسري والقلق والالطمأنينة أثناء قراءتھا‪.‬‬ ‫وبسخريته الالذعة يؤكد حبيش أن “عائلة الھاي اليف” التي يصفھا بـ”المباركة”‬ ‫متھكماً‪“ ،‬ستشترك” علنا ً في “المكشوف” الجديدة “بعدد واحد فقط”‪ ،‬ليصير عددھا‬ ‫األسبوعي مطروحا ً في البيت لجميع أفراد العائلة‪ ،‬يتناوله كل منھم بدعة مطمئنة‪ ،‬ال‬ ‫أثر فيھا لذلك القلق المشوّ ق المثير الذي كان يجعل الجريدة واسعة االنتشار كنار في‬ ‫الھشيم‪ ،‬أو كسلعة ممنوعة – مرغوبة يجري تداولھا فرديا ً في سوق سوداء‪ .‬وقد‬ ‫يكون ھذا مصدر قوة حضور “المكشوف” وانتشارھا السريع في سنتھا األولى‪ ،‬قبل‬ ‫توسلھا بھذين الحضور واالنتشار وتوظيفھما في تحويلھا جريدة لألدباء واألدب في‬ ‫عالنية عامة “بيضاء” ال أثر فيھا للسر والتسري والبصبصة على انفراد وفي‬ ‫الخفاء‪ .‬والحق أن ھذا ما يتحسر عليه فؤاد حبيس “رسول العري واإلثارة”‪ ،‬تحسراً‬


‫موارباً‪ ،‬ربما لم تشفِه منه القوة المعنوية الموعودة لجريدته التي قد يكون علَّل نفسه‬ ‫وواساھا بقوله في البيان الجديد إن العذارى سوف يواصلن قراءتھا‪ ،‬لكن مطمئنات‬ ‫في خدورھن‪ .‬لكن ھذا ليس أمراً مؤكداً‪ ،‬إذ متى كان األدب وصحافته قبلة قلوب‬ ‫العذارى ورغباتھن؟ فحبيش يؤكد أن “المكشوف األدبية” ستتدنى مبيعاتھا وأعداد‬ ‫مشتركيھا‪ .‬لكن المؤكد أيضا ً أنھا في الحالتين‪ ،‬برغم قصر مدة حالتھا األولى‪،‬‬ ‫جعلت من فؤاد حبيش رائد صحافة ونشر طوال ما ال يقل عن ‪ ١٥‬سنة في حقبة‬ ‫سميت حقبة “المكشوف” في صناعة الصحافة والنشر األدبيين‪.‬‬

‫االنقالب األدبي‬ ‫صدر العدد األول من “المكشوف” في حلتھا األدبية الجديدة في ‪ ٥‬نيسان ‪،١٩٣٦‬‬ ‫حامال الرقم ‪ .٤٣‬على صفحته األولى قائمة بأسماء األدباء والشعراء المشاركين في‬ ‫تحريره‪ ،‬وفق الترتيب األبجدي‪ .‬تلي القائمة افتتاحية غير مو ّقعة‪ ،‬عنوانھا الفت‪:‬‬ ‫“دستور ‪ ١٩٢٦‬لألحوال الشخصية‪ :‬تشريع الطوائف واالعتراف بھا”‪.‬‬ ‫موضوعات العدد تنبئ بأن مع ِّديه أصحاب خبرة ثقافية وأدبية‪ ،‬وبذلوا جھداً في‬ ‫مناقشة مواده وموضوعاته واختيارھا واختيار ك ّتاب محددين لكتابتھا‪ ،‬كي تطل‬ ‫الجريدة إطاللة مثقفة بالغة الرصانة والشمول والتنوع‪ ،‬لكن المتجانسة في أسلوبھا‬ ‫ووجھتھا في ميادين األدب والفلسفة واالجتماعيات والشعر والقصة‪:‬‬ ‫فؤاد أفرام البستاني كتب في “نظرية جديدة في األدب الجاھلي” مناقشا ً طه حسين‪.‬‬ ‫قسطنطين زريق طرح على نفسه سؤاال‪:‬‬ ‫“ھل في العالم العربي اليوم فيلسوف؟” وجاوب عن السؤال ھذا في مقالة‪“ .‬الطبيعة‬ ‫والعمران في الشعر األندلسي” عنوان يقترب من اجتماعيات األدب لبطرس‬ ‫البستاني‪.‬‬ ‫في الميدان نفسه كتب الشاعر إلياس أبو شبكة “بين األدب والشعر والصحافة”‪،‬‬ ‫وكذلك ابرھيم سليم النجار الذي بحث في “أثر األدباء اللبنانيين والسوريين في‬ ‫السينما والمسرح العربيين”‪ ،‬فيما كتب جبرائيل جبور عن “خدمات المستشرقين‬ ‫لألدب العربي”‪.‬‬ ‫عبد‪ e‬لحود كتب مقالة تعريف بمارسيل بروست وأدبه‪ .‬قيصر الجميل الذي لن‬ ‫يغيب اسمه عن “المكشوف” طوال عھدھا إال نادراً‪ ،‬كاتبا ً وراسم بورتريھات‬ ‫لألدباء‪ ،‬خصَّ العدد بمقالة عنوانھا “ھل يرى المصور في الطبيعة غير ما يراه‬ ‫عامة الناس؟”‪ .‬في مجال الفن السابع‪ ،‬درة حداثة القرن العشرين‪ ،‬كتب كرم البستاني‬


‫عن “أسرار الجمال عند غادات السينما” اللواتي وضع الفيلسوف الفرنسي إدغار‬ ‫موران كتابا ً رائداً عنھن في الستينات عنوانه “نجوم السينما” بوصفھن صنيعة‬ ‫ظاھرة – “نظام” جديد يجعلھم “أنصاف آلھة” تعبدھا الجماھير المعاصرة‪.‬‬ ‫في مقالة حنا غصن “آفة المسايرة في حياتنا االجتماعية العامة”‪ ،‬تحضر إرھاصات‬ ‫المعالجة األنثربولوجية في تناول العادات والتقاليد المحلية‪ .‬ويشمل ھذا التناول مقالة‬ ‫مغفلة التوقيع عن األزياء عنوانھا “بين القبعة والفستان” بوصفھما عنوان انقالب‬ ‫الزي النسائي وعصريته تعبيراً عن شيوع سفور المرأة وخروجھا الى الفضاء‬ ‫العام‪ .‬ھذا فيما كتب فؤاد حبيش “‪ ١٤‬وصية منقولة عن األديب الفرنسي موريس‬ ‫دير كويره‪ ،‬لكي تكون المرأة محبوبة”‪.‬‬ ‫يقول صاحب “المكشوف” إنه يعرضھا “تفكھة للقراء”‪ ،‬كأنه انتبه الى الرصانة‬ ‫والثقل الثقافيين في مواد جريدته في حلتھا الجديدة‪ ،‬فأراد التخفيف من ج ِّديتھا الثقيلة‬ ‫معتذراً لقراءھا من النساء‪.‬‬ ‫للمواد الصحافية حضورھا الطفيف في عدد الجريدة ھذا‪ ،‬لكنه في المقابل حضور‬ ‫نوعي في ج ّدته وداللته وتناوله السياسة الدولية في باب مستقل عنوانه “أخبار العالم‬ ‫في أسبوع”‪ ،‬يع ّده ويحرره كامل مروة‪ ،‬قبل أن يصير في األعداد التالية من نصيب‬ ‫لويس الحاج‪ .‬الباب الصحافي األسبوعي اآلخر ھو أخبار الرياضة التي يستھلھا‬ ‫العدد بموضوع عنوانه “النھضة الرياضية في لبنان”‪ .‬وھو عنوان ينبه الى أھمية‬ ‫العامل االجتماعي – السياسي في نھضة الرياضة المتزامنة في المجتمع المحلي مع‬ ‫نھضة رياضية عارمة في أوروبا‪ ،‬حقبة ما بين الحربين العالميتين‪ ،‬التي شھدت‬ ‫ظھور األحزاب الفاشية ومنظماتھا الشبابية العصبوية الفائضة التنظيم والعنف‪،‬‬ ‫والمرتبطة بالتربية الرياضية‪.‬‬


‫ضد امارة الشعر‬ ‫ال يغيب الشعر عن “المكشوف” في عددھا األدبي االول وأعدادھا الالحقة‪ .‬سعيد‬ ‫عقل نشر قصيدته “عشتروت” في االول‪ ،‬وكذلك ميخائيل نعيمه له قصيدة عنوانھا‬ ‫“قبور”‪ .‬يتكرر حضور سعيد عقل الشعري المتقطع في الجريدة طوال سنتين او‬ ‫ثالث‪ .‬اما الياس ابو شبكة فھو شاعر “المكشوف” في حضور قصائده على‬ ‫صفحاتھا‪ ،‬اضافة الى مساھماته النثرية والنقدية المتكررة حتى وفاته المفاجئة العام‬ ‫‪ .١٩٤٧‬فشاعر “غلواء” و”افاعي الفردوس” كان أحد اقطاب “عصبة العشرة” منذ‬ ‫نشأتھا في مكاتب جريدة “المعرض”‪ ،‬وخوضھا مناظرات ومعارك ادبية على‬ ‫صفحاتھا‪ ،‬قبل انتقال العصبة الى مكاتب “المكشوف” ومتابعتھا المناظرات‬ ‫والمعارك على صفحات ھذا المنبر الجديد الذي سرعان ما تص َّدر نشاط الصحافة‬ ‫االدبية‪ .‬كانت العصبة قد و َّقعت باسمھا‪ ،‬من دون ذكر اسماء اعضائھا‪ ،‬المقال‬ ‫النقدي االدبي االفتتاحي في عدد “المكشوف” في حلتھا الجديدة‪ ،‬وكان عنوانه‬ ‫“االدب العربي بين عبوديتين‪ :‬عبودية التقليد القديمة وعبودية التجارة الحديثة”‪.‬‬ ‫المقال يشبه بيانا ً يستأنف سجاالت العصبة حول شعر المناسبات او “التشريفات”‬ ‫المنبرية‪ ،‬على ما يسمّيه ن َّقاد “المكشوف” التي سخرت‪ ،‬ربما بقلم ابو شبكة‪ ،‬بھذا‬ ‫النوع من الشعر الذي كان يتصدره احمد شوقي ثم بشارة الخوري )االخطل‬ ‫الصغير(‪ .‬لم تلبث الجريدة ان ل ّخصت على صفحاتھا “الحديث المشوِّ ق الذي تحدثه‬ ‫خليل تقي الدين في صالون شارل قرم )الشاعر الملھم( عن احمد شوقي وشاعريته‬ ‫العجيبة‪“ :‬من ّ‬ ‫نظام الى موظف الى شاعر الى امير الشعراء”‪.‬‬ ‫في مناسبة وفاة شوقي كتبت “المكشوف”‪“ :‬امير الشعراء يبكيه شاعران‪ :‬بشارة‬ ‫الخوري وامين نخلة”‪ ،‬كأنھا تومئ الى تسابق الشاعرين على حيازة اللقب او‬ ‫المنصب الذي شغر بوفاة متصدر “امارة الشعر العربي”‪ .‬في منتصف االربعينات‬ ‫خصصت “المكشوف” جائزة سنوية كبرى مقدارھا الف ليرة لبنانية ألفضل‬ ‫مجموعة شعرية‪ .‬لكن الجائزة شملت‪ ،‬الى الشعر‪ ،‬انواعا ً ادبية اخرى‪ :‬رواية‪،‬‬ ‫قصص‪ ،‬ودراسة عن شخصية ادبية او سياسية من لبنان‪ ،‬على أن ينال الجائزة في‬ ‫كل سنة كتاب في نوع من ھذه االنواع‪ ،‬لتتولى “دار المكشوف” طباعة ‪ ٣‬آالف‬ ‫نسخة من المخطوط الفائز‪.‬‬


‫خلق ‪ G‬االنسان في قصة‬ ‫على ان “المكشوف” كانت قد بادرت الى االحتفال باالدب القصصي وتشجيعه‬ ‫وتخصيص جائزة له منذ عددھا ‪ ٥٩‬في تموز ‪ ،١٩٣٦‬وكان مقدار الجائزة ‪ ٢٥‬ليرة‬ ‫سورية آنذاك‪.‬‬ ‫لم تغب القصة عن عدد الجريدة االدبي االول الذي نشر فيه توفيق يوسف عواد‬ ‫قصة عنوانھا “شھوة الدم”‪ .‬فعواد الى جانب خليل تقي الدين‪ ،‬وھما قصّاصان‪ ،‬من‬ ‫اركان محرري “المكشوف” و”عصبة العشرة”‪ ،‬لذا دعت الجريدة الك ّتاب الى نشر‬ ‫قصصھم على صفحاتھا للمشاركة في المباراة‪ .‬تحفيزاً لھذا الفن الكتابي كتبت‬ ‫الجريدة في افتتاحية عددھا ‪ ٦٨‬انھا ترغب في أن “تفتح افقا ً جديداً لألدب‪”.‬‬ ‫في تح ّد لنجومية الشعر والشعراء على االرجح‪ ،‬وخصوصا ً شعراء المناسبات‬ ‫والمراثي و”التشريفات”‪ ،‬أشارت الى ذلك األفق في اسلوب فني اعالني باھر‪“ :‬خلق‬ ‫‪ e‬االنسان في )من( قصة منذ االدب المكتوب في التوراة الى يومنا ھذا”‪ ،‬وذلك في‬ ‫استعارة ألسطورة آدم وحواء اإللھية‪.‬‬ ‫مع تأسيسھا دار نشر حملت اسمھا‪ ،‬أعلنت “المكشوف” توزيعھا ھدية مجانية‬ ‫للمشتركين فيھا‪ :‬نسخة من رواية “الصبي االعرج” التي نشرتھا الدار لتوفيق يوسف‬ ‫عواد‪ ،‬ثم شرعت في نشر مقاالت على صفحاتھا تتناول “الصبي االعرج” واألدب‬ ‫القصصي‪.‬‬ ‫من مو ّقعي ھذه المقاالت‪ :‬امين الريحاني‪ ،‬ميخائيل نعيمة‪ ،‬وميشال اسمر الذي ذيّل‬ ‫مقالته بإشارة الى أنه من “ندوة االثني عشر” الناشئة بعد “عصبة العشرة”‪ ،‬وكان‬ ‫بعض من اعضائھا يدورون في فلكھا‪.‬‬ ‫جاءت مقالة اسمر الفتة في عنوانھا‪“ :‬اين نحن من القصة؟ كيف تولد شخصياتھا‬ ‫في نفس )وعي( المؤلف؟”‪ .‬في اطار متابعته النشاط القصصي كتب فؤاد حداد )بو‬ ‫الحن( عن عدد مجلة “العروة الوثقى” )كانت تصدرھا جمعية بھذا االسم في الجامعة‬ ‫االميركية في بيروت( الخاص بـ”القصة ونھضتھا في البلدان العربية”‪ .‬وسرعان ما‬ ‫اثمر تحفيز “المكشوف” نشر القصص على صفحاتھا وتخصيصھا جائزة سنوية‬ ‫لھا‪ ،‬فبرزت اسماء قصصية سورية‪ ،‬منھا جورج سالم‪ ،‬خلدون ساطع الحصري‬ ‫الذي فازت قصة له منشورة باسم مستعار في “المكشوف” بالجائزة للعام ‪.١٩٣٩‬‬ ‫وقد تألفت لجنة التحكيم من‪ :‬عمر فاخوري‪ ،‬يوسف غصوب‪ ،‬الياس ابو شبكة‪ ،‬خليل‬ ‫تقي الدين‪ ،‬رئيف خوري‪ ،‬فؤاد افرام البستاني‪ ،‬توفيق يوسف عواد‪ ،‬شفيق جحا‪،‬‬ ‫وفؤاد حبيش‪.‬‬


‫ھؤالء جميعا ً وسواھم عشرات كانوا من المداومين على الكتابة في “المكشوف”‪.‬‬ ‫حتى مطالع االربعينات حظي الفن القصصي بوقفات نقدية متالحقة اكثر من كتابتھا‬ ‫مارون عبود الذي كانت له زاوية اسبوعية ثابتة في الجريدة عنوانھا “ادباؤنا”‪ .‬اما‬ ‫الترجمات واالقتباسات القصصية عن القصة االوروبية‪ ،‬وخصوصا ً الفرنسية‪ ،‬فكان‬ ‫لھا حضور متصل على صفحات “المكشوف‪”.‬‬ ‫مذ نشرت بيان تحولھا جريدة اسبوعية لألدب واالدباء وصحافيّي الھوى األدبي في‬ ‫ايار ‪ ،١٩٣٦‬حتى توقفھا عن الصدور مطلع الخمسينات‪ ،‬ظلت “المكشوف” جريدة‬ ‫ودار نشر‪ ،‬محوراً للحركة االدبية وصحافتھا النشيطة والفاعلة في لبنان‪.‬‬ ‫“المكشوف” مع “الندوة اللبنانية” – بدأت نشاطھا في ‪ ،١٩٤٦‬وصدر مؤسسھا‪،‬‬ ‫مديرھا ومن ّ‬ ‫شطھا‪ ،‬ميشال اسمر‪ ،‬عن حلقات الحركة االدبية نفسھا وصحافتھا اللتين‬ ‫صدر عنھما كل من “المكشوف” ومؤسسھا المن ّ‬ ‫شط‪ ،‬واستقطبت جريدته وداره‬ ‫للنشر معظم اعالم تلك الحركة‪ ،‬ادباء وكتابا ً وصحافيين‪ ،‬واضطلعت الدار بنشر‬ ‫الكثير من المطبوعات الصحافية القطاعية والمھنية – شكلت محاور ثالثة اساسية‬ ‫وفاعلة في الحياة الثقافية اللبنانية‪ .‬فـ”المؤسسات” الثالث تقاطعت ادوارھا زمنيا ً وفي‬ ‫التعبير عن وجھة لبنانية في دوائر النشاط االدبي والصحافة االدبية والنشر‪ ،‬وفي‬ ‫دوائر انتاج ثقافة سياسية لبنانية‪ ،‬مستقلة ودستورية وديموقراطية في كثير من‬ ‫وجوھھا‪ ،‬وتصدرتھا النخب المسيحية‪.‬‬ ‫تزامن نشاط “المكشوف” و”الندوة” في سنوات خمس‪ ،‬انتھت في مطلع الخمسينات‬ ‫حين توقفت “المكشوف” عن الصدور بعد رحيل او انكفاء معظم أعالمھا االدبيين‪،‬‬ ‫وانتقال صحافييھا الى العمل في صحف يومية بيروتية‪ .‬أما “الندوة” فتابعت نشاطھا‬ ‫حتى بدايات الحرب في ‪.١٩٧٥‬‬ ‫لكن “المؤسستين” شكلتا حلقتين اساسيتين في تاريخ الحياة الثقافية والثقافة السياسية‬ ‫في لبنان‪ :‬شغلت “المكشوف”‪ ،‬طوال ‪ ١٥‬سنة‪ ،‬موقعا ً رائداً في التأريخ غير‬ ‫المكتوب بع ُد للحركة االدبية اللبنانية وصحافتھا‪ .‬وشغلت “الندوة” دوراً اساسيا ً في‬ ‫انتاج ثقافة سياسية وادارية محورھا الدولة اللبنانية المستقلة‪ ،‬وتمتين ركائزھا‬ ‫وحضورھا في ثقافة جماعات لبنان المتباينة‪ ،‬قبل ان تقوّ ض ھذه الجماعات بحروبھا‬ ‫االھلية الملبننة تلك الدولة‪ .‬واذا ق ّدر لذلك التأريخ ان يُكتب يوما ً ما‪ ،‬فإن ھاتين‬ ‫“المؤسستين” ستكونان من مصادره المحورية‪.‬‬ ‫أعداد “المكشوف” وصفحاتھا ھي السجل المرجعي الوثائقي االوسع لحلقة من تاريخ‬ ‫الحركة األدبية اللبنانية غير المكتوب‪ ،‬ألنھا المطبوعة االدبية األطول عمراً واألكثر‬ ‫استقطابا ً ألقالم اجيال متباينة في أعمارھا‪ ،‬متقاربة ومتفاعلة في نشاطھا وذائقتھا‬


‫وتجاربھا‪ ،‬في الحقبة األخيرة مما سمّي “عصر النھضة االدبية” البادئة في لبنان‬ ‫ومصر والمھجر االميركي منذ أواسط القرن التاسع عشر‪ .‬واستلھاما ً لطريقة‬ ‫المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل في التأريخ للحقب المتصلة والمنقطعة على األمد‬ ‫الطويل‪ ،‬شغلت “المكشوف” حلقة انتقالية وسيطة ما بين بدايات تلك النھضة‬ ‫ونھاياتھا‪ ،‬ممھدة لما ُسمّي “الحداثة الثقافية” التي تص ّدرھا الشعر الحديث و”نجومه‬ ‫الرواد” في الخمسينات والستينات‪ ،‬وشكلت بيروت‪ ،‬في مجالتھا االدبية وصحافتھا‬ ‫الثقافية ونمط حياتھا الحر والمفتوح‪ ،‬مساحة حرة وقطبا ً رحبا ً لتلك الحداثة ونجوم‬ ‫شعرھا حتى مطلع الثمانينات‪.‬‬

‫التعليم‪ ،‬المدينة‪ ،‬الصحافة‬ ‫جمعت “المكشوف” على صفحاتھا وفي منشورات دارھا حشداً كبيراً من اسماء‬ ‫االدباء والك ّتاب والصحافيين المنتمين الى اجيال متباينة‪ .‬صدرت ھذه األجيال وتلك‬ ‫األسماء عن نھضة التعليم االرسالي المحدث واتساع قاعدته االجتماعية ابتداء من‬ ‫منتصف القرن التاسع عشر‪ .‬فشمل التعليم‪ ،‬الى ابناء عائالت قدامى االقطاعيين‬ ‫والوجھاء والتجار والمھنيين الجدد‪ ،‬ابناء فئات عاميّة واسعة في جبل لبنان‬ ‫وبيروت‪ ،‬ومن المسيحيين خصوصاً‪ ،‬وسواھم من الوافدين الى بيروت من بلدان‬ ‫المشرق ما بعد الحرب العالمية االولى‪.‬‬ ‫النھضة التعليمية ھذه كانت رافعتھا االساسية مدارس االرساليات وجامعتاھا‬ ‫المتنافستان في بيروت‪ :‬القديس يوسف للمرسلين اليسوعيين الكاثوليك‪ ،‬والجامعة‬ ‫االميركية للمرسلين االنجيليين البروتستانت‪ .‬وقد تزامنت نھضة التعليم وشمولھا‬ ‫اجياالً متعاقبة‪ ،‬مع نشوء الصحافة وازدھارھا في بيروت وحواضر جبل لبنان منذ‬ ‫عشايا الحرب العالمية االولى‪ ،‬قبل ان تشھد توسعا ً نوعيا ً في بيروت غداة تلك‬ ‫الحرب‪ .‬فبيروت عاشت منذ ما قبل منتصف القرن التاسع عشر‪ ،‬اكثر من نھضة‬ ‫مدينية وسّعت رقعة عمرانھا وأخرجته من انكفائه داخل اسوارھا القديمة‪ .‬وفي‬ ‫كتيب عنوانه “الخروج من البوابات الثماني الى عمران المدينة” – ُنشر مرفقا ً بالعدد‬ ‫األول من مجلة جديدة صدرت في مطلع تشرين الثاني ‪ ،٢٠١٢‬عن “شركة اعمار‬ ‫وسط بيروت” )سوليدير( باسم “البوابة التاسعة” – وصف وضاح شرارة حلقات‬ ‫ذلك الخروج المتدرج‪:‬‬ ‫“كان عدد سكان بيروت “يناھز المئة الف نسمة في اوائل القرن العشرين‪ ،‬بعدما‬ ‫كان ‪ ٦٠‬الفا في ‪ .″١٨٣٦‬قفزات تزايد سكان المدينة كانت سريعة ومضاعفة ايضا ً‬ ‫منذ مطالع القرن التاسع عشر‪ .‬ويشدد الكاتب في ھذه الزيادة السكانية الكبيرة على‬


‫“ثقل الروافد الجبلية”‪ ،‬اي المسيحية‪ ،‬و”الخارجية”‪ ،‬اي الھجرات المشرقية وتوافد‬ ‫الجاليات االجنبية‪ .‬من األدلة على ذلك “حادثة طائفية أوقعت في بيروت سنة ‪١٩٠٣‬‬ ‫نحو ‪)١٥‬؟( قتيالً في اشتباك اشقياء برأس النبع‪ ،‬معظمھم )؟( )أي القتلى(‬ ‫مسيحيون‪ ،‬فترك بيروت الئذا بالجبل نحو ‪ ٣٠‬الف مسيحي بيروتي”‪ .‬السكن‬ ‫المسيحي في بيروت تزايد ايضا ً بعد الحرب العالمية االولى وقيام دولة لبنان‬ ‫بعاصمته الجديدة التي خالطت سكانھا “روافد كثيرة‪ ،‬غلب عليھا المصدر الجبلي”‪.‬‬ ‫ھذا كله ادخل “في صلب االسواق )البيروتية( تجاراً واصحاب مھن جديدة‪ ،‬اطباء‬ ‫ومعالجين ووكالء ومقاولين وبيّاعي مفرق وموظفين اداريين ومترجمين وخبراء‬ ‫عمارة ورصف طرق”‪ .‬كان قبل ذلك الميسورون في نواة السكن البيروتي القديم‬ ‫والمنكفئ‪ ،‬يخرجون الى “الظواھر والمزارع والضواحي والروابي” القريبة من‬ ‫المدينة‪ ،‬ويخالطون “المھاجرين من جبل لبنان ومن مدن الواليات العثمانية ومن‬ ‫المرافئ والحواضر االوروبية والغربية”‪.‬‬ ‫تأسيسا ً على ھجرات سابقة “التقت بشرق طريق الشام‪ ،‬بين الصيفي والناصرة‪،‬‬ ‫وبزقاق البالط والقنطاري”‪ ،‬نشأت مدينة بيروت المتجددة والمختلطة‪ ،‬و”اقامت‬ ‫محل سورھا وخندقھا وھوية اھلھا مستودعات بضاعة‪ ،‬ومسارح ومراقص ومقاه‬ ‫وشاشات )ودور سينما( ومحطات سفر”‪ ،‬وكذلك مطاعم ووكاالت تجارية ومكاتب‬ ‫صحف‪.‬‬ ‫كان التعليم ركنا اساسيا في نھضة بيروت الحديثة ھذه وازدھارھا‪ ،‬كما كانت‬ ‫نھضتھا وازدھارھا من عوامل تنامي التعليم وتوسعه وشموله النساء وخروجھن من‬ ‫كنف الحياة البيتية والعائلية الى الفضاء المديني العام‪ .‬وكان صدور “المكشوف”‬ ‫جريدة لـ”العري” في سنتھا األولى عام ‪ ،١٩٣٥‬عالمة فاقعة ومثيرة لذلك الخروج‬ ‫وللتحريض عليه تحريضا ً استيھاميا ً مترجما ً ومدبلجا ً عن الصحافة األجنبية‪ ،‬قبل أن‬ ‫تصير الجريدة جريدة لألدب واالدباء والك ّتاب‪ ،‬شأن عشرات الصحف الناشئة‬ ‫والمتخذة مكاتب لھا في وسط بيروت المديني المتجدد منذ مطلع القرن العشرين‪.‬‬ ‫اجتمع والتقى وتعارف في مكاتب ھذه الصحف وعلى صفحاتھا عشرات‪ ،‬وربما‬ ‫مئات من الك ّتاب المتفاوتي األجيال والتجارب والخبرات‪ .‬في “المكشوف” وحدھا‬ ‫التقى بعض من أدباء وأعالم النھضة االدبية في لبنان والمھجر‪ :‬أمين الريحاني‪،‬‬ ‫ميخائيل نعيمة‪ ،‬عمر فاخوري‪ ،‬الياس ابو شبكة ومارون عبود‪ .‬ھؤالء‪ ،‬على تفاوت‬ ‫أعمارھم‪ ،‬كانت كتاباتھم تجتمع على صفحات “المكشوف” الى جانب كتابات أجيال‬ ‫اصغر منھم عمراً‪ ،‬وتختلف عنھم في التجربة والتكوّ ن الثقافي‪ :‬فؤاد حبيش‪ ،‬ميشال‬ ‫أسمر‪ ،‬لويس الحاج‪ ،‬فؤاد حداد‪ ،‬خليل تقي الدين‪ ،‬توفيق يوسف عواد‪ ،‬فؤاد أفرام‬


‫البستاني وسواه من البساتنة الك ّتاب‪ .‬معظم ھؤالء اختلطت ميولھم األدبية بامتھان‬ ‫الصحافة والتعليم والترجمة‪ ،‬وخالطھم في “المكشوف” ك ّتاب من الشبان الجدد‬ ‫وأصحاب الميل األدبي‪.‬‬

‫زمن اجتماعي صاعد‬ ‫كان األدب والتأدب والترجمة في أصل الرابطة العامة لمجموعات ھذه االجيال‬ ‫المتباينة وشللھا األدبية والصحافية التي انضوى بعضھا في “عصبة العشرة” و”ندوة‬ ‫اإلثني عشر” و”الثريا” و”أھل القلم” وسواھا‪ .‬وجاء تحول “المكشوف” جريدة ادبية‪،‬‬ ‫إمارة على توسع ھذه الدوائر والروابط‪ ،‬وعلى تفاعل االدباء والك ّتاب والصحافيين‬ ‫وأجيالھم المختلفة طوال ‪ ١٥‬سنة على صفحاتھا‪ .‬في ھذا المعنى قيل ويُقال “زمن‬ ‫المكشوف”‪ ،‬وكذلك “زمن الندوة اللبنانية” الحقا ً‪.‬‬ ‫دائرة أعالم األدب المتكونين في لبنان او المھجر‪ ،‬البارزين على صفحات‬ ‫“المكشوف” )نعيمة‪ ،‬الريحاني‪ ،‬فاخوري‪ ،‬أبو شبكة‪ ،‬عبود‪ ،‬ورئيف خوري(‪ ،‬أخذ‬ ‫الموت يفاجىء بعضھم واحداً تلو آخر‪ ،‬ابتداء من مطلع اربعينات القرن العشرين‪:‬‬ ‫في ‪ ٢٢‬تشرين األول ‪ ١٩٤٠‬خصصت “المكشوف” عددھا الـ‪ ٢٧١‬لرثاء أمين‬ ‫الريحاني‪ .‬وفي ‪ ١٨‬آذار ‪ ١٩٤٠‬خصت رشيد نخلة بعدد كامل ايضا ً‪ .‬قبل ذلك‪ ،‬في‬ ‫‪ ٢٣‬كانون الثاني ‪ ،١٩٣٦‬وقفت عددھا كله للكتابة عن مدرسة “الحكمة” التي تخرج‬ ‫منھا ودرّ س فيھا كثيرون من ك ّتابھا وك ّتاب سواھا من الصحف‪ ،‬فاستعاد المشاركون‬ ‫في كتابه العدد الخاص‪ ،‬أھمية “الحكمة” وأفضالھا وريادتھا في حركة التعليم‬ ‫اللبناني‪.‬‬ ‫في ‪ ٣‬آب ‪ ١٩٤٦‬و ّدعت “المكشوف” عمر فاخوري بعدد خاص كامل تص ّدرته‬ ‫قصيدة رثائية اللياس ابو شبكة الذي لم تلبث الجريدة نفسھا ان ودعته بعدد خاص‬ ‫في ‪ ٣‬شباط ‪ .١٩٤٧‬ميخائيل نعيمة‪ ،‬وھو من جيل النھضة األدبية األقدم‪ ،‬عمَّر‬ ‫وتنسَّك في “شخروبه” ببسكنتا حتى مطالع الثمانينات‪ ،‬مستمراً على نفور من المدينة‬ ‫اخترق الكثير من إنتاج األدب اللباني حتى عھد قريب‪ .‬أما مارون عبود الكاتب‬ ‫والقاص الريفي الساخر والناقد األدبي و”معلم األجيال” في نھضة التعليم‪ ،‬فاستمر‬ ‫اسمه حاضراً في “المكشوف” حتى عشايا توقفھا عن الصدور‪ .‬رئيف خوري الناقد‬ ‫وصاحب “أديب في السوق” والمدرّ س وواضع كتب مناھج التعليم في آداب اللغة‬ ‫العربية‪ ،‬ظل شأن عبود‪ ،‬حاضر القلم في الخمسينات والستينات‪ ،‬بعد مساھمته‬ ‫الدائمة في “المكشوف‪”.‬‬


‫كانت االربعينات‪ ،‬إذاً‪ ،‬خصوصا ً في نصفھا األول عھد إزھار “المكشوف”‪ ،‬لكنھا‬ ‫كانت كلھا وفي بعض سنواتھا‪ ،‬محطات لرحيل أعمدة الجريدة وبدايات انصرام عھد‬ ‫نوع من األدب والتأدب واألساتذة الذين كان صار كثيرون منھم مد ّرسين في‬ ‫الجامعة اللبنانية وكلياتھا الناشئة وفي دار المعلمين والمعلمات‪ ،‬حيث ضلعوا في‬ ‫تربية أجيال جديدة من المتعلمين والمثقفين بثقافة أدبية جديدة عمادھا الشعر الحديث‬ ‫غالبا ً‪ .‬فرفدت ثقافة ھؤالء الشبان الجدد صحافة الخمسينات والستينات والسبعينات‬ ‫األدبية وغير األدبية بطاقات جديدة‪ .‬غلب على أولئك الشبان تعلمھم في الجامعة‬ ‫اللبنانية وتخرّ جھم منھا )خصوصا ً كليتي التربية واآلداب(‪ ،‬وعملھم سنوات قليلة أو‬ ‫كثيرة في التعليم الرسمي في بدايات انھياره في عشايا الحروب الملبننة )‪(١٩٧٥‬‬ ‫وأثنائھا‪ .‬وغلب عليھم أيضا ً تحدرھم “العصامي” من بيئات اجتماعية ريفية مھاجرة‬ ‫الى المدينة‪.‬‬ ‫شجرة األنساب السريعة ھذه تشير الى خيط ما يخترق التكوّ ن االجتماعي – الثقافي‬ ‫المتقطع والمتحوّ ل ألجيال متالحقة من المتعلمين والمتثقفين ثقافة أدبية‪ ،‬والعاملين‬ ‫في مھن الكتابة والصحافة والتعليم في حقب مديدة صاعدة وواعدة اجتماعيا ً وثقافياً‪،‬‬ ‫ومنحت أجيالھم المتعاقبة معنى وقيمة في سلّم االرتقاء االجتماعي‪ ،‬المادي‬ ‫والمعنوي والرمزي‪ ،‬منذ بدايات نھضة التعليم والنھضة األدبية في منتصف القرن‬ ‫التاسع عشر‪ ،‬وطوال حوالى قرن ونصف القرن من زمن لبنان وبيروت االجتماعي‬ ‫واالقتصادي والثقافي المحدث والصاعد حتى عشايا الحرب‪.‬‬

‫منعطف سوري‬ ‫على عتبة االربعينات يستوقف منعطف جديد لـ”المكشوف” على صعيد الكتابة‬ ‫االدبية والصحافية‪ :‬تكاثر اسماء الك ّتاب العرب على صفحاتھا‪ ،‬وخصوصا ً‬ ‫السوريين‪ ،‬من دون ان يغيب العراقيون والفلسطينيون‪ .‬من االسماء المتكررة‪ :‬نجاتي‬ ‫صدقي‪ ،‬انور البرازي‪ ،‬وصفي قرنفل‪ ،‬نزيه الحكيم‪ ،‬قدري قلعجي‪ ،‬حيدر البرازي‪،‬‬ ‫انطون المقدسي‪ ،‬سليم الجندي‪ ،‬احمد عبد الجبار‪ ،‬سعيد الجزائري‪ ،‬انطوان‬ ‫موصلي‪ ،‬ميشال الصراف‪ ،‬اديب الداودي‪ ،‬زھير الحمزاوي‪ ،‬وفايز صايغ‪ .‬بعض‬ ‫ھؤالء كتب – الى جانب متابعاته النشاط االدبي في المدن السورية‪ ،‬والعراقية احيانا ً‬ ‫– في باب ش ّرعته “المكشوف” واسعا ً ودائما ً عنوانه “السرقات االدبية” الذي أرادته‬ ‫مثيراً وجاذبا ً لمناظرات ومعارك ادبية‪ ،‬لتوسيع دوائر قرائھا في لبنان والعواصم‬ ‫العربية‪ ،‬وخصوصا ً في المدن السورية‪ ،‬دمشق وحمص وحلب‪.‬‬


‫يبرز في ھذا االطار شقاق ادبي ما بين الكتاب اللبنانيين والسوريين من جھة‪،‬‬ ‫والكتاب المصريين من جھة اخرى‪ .‬في ھذا السياق كان الياس ابو شبكة قد كتب في‬ ‫العام ‪ ١٩٣٩‬مقالة طويلة عنوانھا “ابطال الحركة االوروبية في لبنان وسوريا”‪ .‬ثم‬ ‫لم تلبث “المكشوف” ان اصدرت في ‪ ٢٧‬آذار من العام نفسه‪“ ،‬عدداً خاصا ً ممتازاً‬ ‫عن مظاھر الثقافة في سوريا” شاركت فيه كوكبة من الكتاب السوريين‪ .‬لكن‬ ‫الجريدة سرعان ما بادرت في ‪ ١٠‬تموز ‪ ١٩٣٩‬ايضاً‪ ،‬الى اصدار عدد مماثل “عن‬ ‫مظاھر الثقافة في مصر” شارك فيه كتاب مصريون‪.‬‬

‫التأريخ الغائب لبيروت‬

‫مذ نشرت بيان تحولھا جريدة اسبوعية لألدب واالدباء وصحافيّي الھوى األدبي في‬ ‫ايار ‪ ،١٩٣٦‬حتى توقفھا عن الصدور مطلع الخمسينات‪ ،‬ظلت “المكشوف” جريدة‬ ‫ودار نشر‪ ،‬محوراً للحركة االدبية وصحافتھا النشيطة والفاعلة في لبنان‪.‬‬ ‫“المكشوف” مع “الندوة اللبنانية” – بدأت نشاطھا في ‪ ،١٩٤٦‬وصدر مؤسسھا‪،‬‬ ‫مديرھا ومن ّ‬ ‫شطھا‪ ،‬ميشال اسمر‪ ،‬عن حلقات الحركة االدبية نفسھا وصحافتھا اللتين‬ ‫صدر عنھما كل من “المكشوف” ومؤسسھا المن ّ‬ ‫شط‪ ،‬واستقطبت جريدته وداره‬ ‫للنشر معظم اعالم تلك الحركة‪ ،‬ادباء وكتابا ً وصحافيين‪ ،‬واضطلعت الدار بنشر‬ ‫الكثير من المطبوعات الصحافية القطاعية والمھنية – شكلت محاور ثالثة اساسية‬ ‫وفاعلة في الحياة الثقافية اللبنانية‪ .‬فـ”المؤسسات” الثالث تقاطعت ادوارھا زمنيا ً وفي‬ ‫التعبير عن وجھة لبنانية في دوائر النشاط االدبي والصحافة االدبية والنشر‪ ،‬وفي‬ ‫دوائر انتاج ثقافة سياسية لبنانية‪ ،‬مستقلة ودستورية وديموقراطية في كثير من‬ ‫وجوھھا‪ ،‬وتصدرتھا النخب المسيحية‪.‬‬


‫تزامن نشاط “المكشوف” و”الندوة” في سنوات خمس‪ ،‬انتھت في مطلع الخمسينات‬ ‫حين توقفت “المكشوف” عن الصدور بعد رحيل او انكفاء معظم أعالمھا االدبيين‪،‬‬ ‫وانتقال صحافييھا الى العمل في صحف يومية بيروتية‪ .‬أما “الندوة” فتابعت نشاطھا‬ ‫حتى بدايات الحرب في ‪ .١٩٧٥‬لكن “المؤسستين” شكلتا حلقتين اساسيتين في تاريخ‬ ‫الحياة الثقافية والثقافة السياسية في لبنان‪ :‬شغلت “المكشوف”‪ ،‬طوال ‪ ١٥‬سنة‪ ،‬موقعا ً‬ ‫رائداً في التأريخ غير المكتوب بع ُد للحركة االدبية اللبنانية وصحافتھا‪ .‬وشغلت‬ ‫“الندوة” دوراً اساسيا ً في انتاج ثقافة سياسية وادارية محورھا الدولة اللبنانية‬ ‫المستقلة‪ ،‬وتمتين ركائزھا وحضورھا في ثقافة جماعات لبنان المتباينة‪ ،‬قبل ان‬ ‫تقوّ ض ھذه الجماعات بحروبھا االھلية الملبننة تلك الدولة‪ .‬واذا ق ّدر لذلك التأريخ ان‬ ‫يُكتب يوما ً ما‪ ،‬فإن ھاتين “المؤسستين” ستكونان من مصادره المحورية‪.‬‬ ‫أعداد “المكشوف” وصفحاتھا ھي السجل المرجعي الوثائقي االوسع لحلقة من تاريخ‬ ‫الحركة األدبية اللبنانية غير المكتوب‪ ،‬ألنھا المطبوعة االدبية األطول عمراً واألكثر‬ ‫استقطابا ً ألقالم اجيال متباينة في أعمارھا‪ ،‬متقاربة ومتفاعلة في نشاطھا وذائقتھا‬ ‫وتجاربھا‪ ،‬في الحقبة األخيرة مما سمّي “عصر النھضة االدبية” البادئة في لبنان‬ ‫ومصر والمھجر االميركي منذ أواسط القرن التاسع عشر‪.‬‬ ‫واستلھاما ً لطريقة المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل في التأريخ للحقب المتصلة‬ ‫والمنقطعة على األمد الطويل‪ ،‬شغلت “المكشوف” حلقة انتقالية وسيطة ما بين‬ ‫بدايات تلك النھضة ونھاياتھا‪ ،‬ممھدة لما ُسمّي “الحداثة الثقافية” التي تص ّدرھا الشعر‬ ‫الحديث و”نجومه الرواد” في الخمسينات والستينات‪ ،‬وشكلت بيروت‪ ،‬في مجالتھا‬ ‫االدبية وصحافتھا الثقافية ونمط حياتھا الحر والمفتوح‪ ،‬مساحة حرة وقطبا ً رحبا ً‬ ‫لتلك الحداثة ونجوم شعرھا حتى مطلع الثمانينات‪.‬‬

‫جذر النھضة‪ :‬لغوي – أدبي؟‬


‫في سياق التأريخ السريع لمحطات من الحياة األدبية وصحافتھا وأعالمھا على‬ ‫المدى الطويل‪ ،‬يستوقف عدد خاص نشرته “المكشوف” في ‪ ١٥‬شباط ‪،١٩٤٦‬‬ ‫لمناسبة مرور ‪ ٧٥‬سنة على وفاة الشيخ ناصيف اليازجي‪ ،‬وإحياء لذكراه بصفته‬ ‫أحد األعالم الثالثة المؤسسين للنھضة األدبية واللغوية في لبنان‪ .‬ھل النھضة ھذه‬ ‫أدبية ولغوية في جذرھا؟ أعالمھا في جيلھا األول ھم‪ :‬الشيخ ناصيف اليازجي‪،‬‬ ‫نقوال الترك‪ ،‬وبطرس كرامة‪ .‬ويلحق بھم ويزامنھم لبعض الوقت في سياق آخر‬ ‫المعلم بطرس البستاني‪.‬‬ ‫ساھم في الكتابة عن اليازجي في عدد “المكشوف” الخاص به‪ :‬مارون عبود‪،‬‬ ‫بطرس البستاني )ھو غير المعلم بطرس طبعا ً(‪ ،‬إلياس ابو شبكة‪ ،‬فؤاد افرام‬ ‫البستاني‪ ،‬يوسف اسعد داغر وصالح الدين عالم‪ .‬ھؤالء جميعا ً وسواھم برغم‬ ‫تفاوت أعمارھم ھم من األجيال األخيرة للنھضة األدبية‪ ،‬وساھموا في إطالق‬ ‫“المكشوف” في ‪) ١٩٣٦‬لكن صالح الدين عالم قد يكون أحد اسمين مستعارين –‬ ‫اآلخر زھير زھير – استعملتھما “المكشوف” استعماالً دائما ً وكثيفا ً لكتابة مقاالت‬ ‫سجالية متعلقة بالفكرة اللبنانية وباالنقسامات الساخنة الدائرة حولھا‪ .‬واالستعارة ھذه‬ ‫تطرح سؤاالً حول معنى ھذا التخ ّفي وداللته حين تصدي الجريدة لسجاالت اساسية‬ ‫ال يخفى بعدھا السياسي والطائفي(‬ ‫مقدمة العدد المغفلة التوقيع‪ ،‬تشير الى ان دور اليازجي في النھضة كان “التبحّ ر في‬ ‫أسرار اللغة العربية‪ ،‬تبسيطھا وتطويعھا لألفھام وتحبيبھا الى القلوب‪ ،‬ونشرھا بين‬ ‫الجماھير” )غريب استعمال كلمة “الجماھير” في ھذا السياق‪ ،‬قبل والدة الزمن‬ ‫الجماھيري وطغيانه بدءاً من الخمسينات(‪ .‬أما “أبناء اليازجي وبناته )فانصرفوا(‬ ‫إلى مثل عمله انصراف العشرات من العيال )العائالت( اللبنانية‪ :‬التحقيق والدرس‬


‫والنشر والتعليم”‪ .‬لكن مارون عبود في مقالته عن اليازجي‪ ،‬يخالف ھذه الوجھة‬ ‫النھضوية وينقضھا‪“ :‬كان شيخنا يستوحي الكتب القديمة‪ ،‬ال يستلھم غيرھا في كل‬ ‫ما نظم وكتب‪ .‬فكأني به ذات مجردة من المكان والزمان‪ ،‬فما علق بشعره شيء‬ ‫منھما”‪ .‬إنه ذات لغوية محضة أو خالصة إذاً‪ .‬وھذا يؤكد الجذر اللغوي للنھضة‪.‬‬ ‫وبأسلوبه النقدي الثاقب والساخر‪ ،‬يتابع عبود‪“ :‬من ال يعرف انه )اليازجي( نشأ في‬ ‫كفرشيما وشبّ واكتھل في بتدين )بيت الدين‪ ،‬بديوان قصر األمير بشير الثاني(‬ ‫وشاخ في بيروت‪ ،‬خاله من مواليد نجد واليمن”‪ ،‬حيث المصدر البعيد للغة العرب‪.‬‬ ‫وتبلغ سخرية عبود ذروتھا‪ ،‬فيكتب أن اليازجي وضع “مقامة في مجمع البحرين‬ ‫سمّاھا “المقامة اللبنانية” )لكن( ليس فيھا شيء من ريحة )رائحة( لبنان‪ .‬فالمتنبي‬ ‫الذي مرَّ َع َرضا ً من وراء لبنان وشاھد قفاه أو قممه من حمص‪ ،‬تأثر به أكثر من‬ ‫شيخنا” المساھم في تأسيس النھضة‪.‬‬ ‫بطرس البستاني )غير المعلم( يشير في مقالته عن اليازجي إلى “خدمته الفصحى‬ ‫وأبناءھا” )اللغة أيضا ً وأيضا(‪ ،‬ثم إلى عمله في ديوان األمير بشير‪“ :‬قاعة العمود‬ ‫)حيث كانت تنعقد( حلقات )أميرية( للسياسة والتدبير وللك ّتاب والشعراء يرتفع فيھا‬ ‫صوت نقوال الترك وبطرس كرامة‪ .‬أما رئيف خوري فكتب عن “يقظة الوعي‬ ‫العربي في مقامات اليازجي”‪ :‬اليقظة والوعي ھذان ماذا يكونان في المقامات سوى‬ ‫لغويين؟ ھذا ما يؤكده الياس أبو شبكة حين يذكر‪ ،‬في سياق مقالته عن اليازجي‪ ،‬أن‬ ‫المعلم بطرس البستاني المولود سنة ‪ ،١٨٤٤‬مج ّد ٌد لغوي بامتياز‪ .‬فھو “صاحب‬ ‫قاموس “محيط المحيط” و”دائرة المعارف”‪ ،‬وأول من أنشأ جريدة عربية حرة في‬ ‫ھذه الديار”‪.‬‬ ‫الجريدة ھي “الجنان” التي أصدرھا البستاني سنة وفاة اليازجي )‪ ،(١٨٧١‬و”عھد‬ ‫تحريرھا البنه سليم البستاني‪ ،‬فنشرت ترجمة لليازجي بقلم األديب سليم أفندي‬ ‫دياب”‪“ .‬المكشوف”‪ ،‬بدورھا نقلت ھذه الترجمة عن “الجنان” وأثبتتھا في عددھا‬ ‫الخاص عن َع َلم النھضة ناصيف اليازجي‪ .‬وھي‪ ،‬بعد مرور حوالى مئة سنة على‬ ‫بدايات النھضة‪ ،‬وعودتھا من سنة ضاللھا “رسوالً )صحافيا ً مترجما ً( للعري”‪ ،‬لم‬ ‫تكن نھضتھا شيئا ً آخر غير نھضة أدبية – لغوية‪ ،‬تشھد على ذلك عودتھا الى “جادة‬ ‫الصواب األدبي”‪ ،‬مج ّددة في تناول الموضوعات األدبية وفي لغة الصحافة‪،‬‬ ‫ومساجلة في شؤون األدب واألدباء والشعراء وفي ما يتصل بذلك من قضايا‬ ‫واھتمامات‪.‬‬ ‫طوّ رت طوال عھدھا وجوھا ً كثيرة من العمل الصحافي‪ ،‬فتابعت قضايا وقطاعات‬ ‫ونشاطات في الحياة االجتماعية والفنية )السينما خصوصا ً(‪ ،‬وخصصت زوايا‬


‫لموضوعات إدارية ومعيشية‪ ،‬ولشؤون السياسة الدولية‪ ،‬لكن ھذا ال يقاس بمادتھا‬ ‫األدبية الطاغية‪ .‬األدب ھنا ھو الكتابة األدبية التي تتناول موضوعات أدبية وتطلق‬ ‫سجاالت مدارھا األدب وحرفة األدب التي تبحر غالبا ً وتتبحر في ما يسمّى‬ ‫“العصور األدبية الكالسيكية” أو األقرب عھداً‪ .‬التبحر في تلك العصور‪ ،‬ما ھي‬ ‫مادته؟ اللغة طبعا ً )ألھذا شاعت في أدبيات الحداثة الشعرية المتأخرة زمنا ً عبارات‬ ‫مثل‪ :‬تفجير اللغة؟ (‬ ‫الى ھذا التبحر في مدارات األدب واللغة األدبية‪ ،‬ھنالك الترحال في بعض إلنتاجات‬ ‫األدب العالمي‪ ،‬قصة وشعراً ومقاالت صحافية‪ ،‬اقتباسا ً وترجمة وتلخيصا ً‪ .‬أما‬ ‫الغائب األكبر عن مدارات األدب ھذه‪ ،‬فھو العالم المادي الحسي‪ ،‬ھنا واآلن‪ ،‬وھناك‬ ‫في األمس البعيد والقريب‪ .‬وحين يجري تناول ھذا العالم الدنيوي‪ ،‬غالبا ً ما تنتصب‬ ‫دونه غشاوات اإلنشاء األدبي‪ .‬تغيب عن “المكشوف” )وغالبا ً عن صحافتنا اليوم(‬ ‫الكتابة الميدانية الحيّة التي تصف وقائع الحياة المادية واالجتماعية الزائلة‪،‬‬ ‫ظواھرھا‪ ،‬حوادثھا‪ ،‬تحوالتھا‪ ،‬سياقاتھا‪ .‬أي الكتابة التي تؤرخ وتطلق الوعي‬ ‫والمخيلة في النظر الى الوقائع‪ ،‬بعيداً من االنشاء األدبي اللغوي‪ .‬األرجح أن‬ ‫العوامل المؤسسة لھذا الغياب والباعثة عليه كثيرة متدافعة‪ ،‬ومتعلقة بطبيعة الثقافة‬ ‫واللغة العربيتين النھضويتين‪ ،‬وبطبيعة تكوّ ن الك ّتاب والصحافيين تكوّ نا ً أدبيا ً‬ ‫ومتأدباً‪ ،‬كأن النھضة إحياء لغوي في جذرھا األساس‪.‬‬ ‫والحق أن معظم كتاب “المكشوف” يمتلك لغة أدبية متميزة في الكتابة التي تنأى من‬ ‫حيوية الوقائع الحسية وسيولتھا‪ .‬كانت الحياة في “زمن المكشوف” قوية النبض‬ ‫والحوادث والتحوالت طوال ‪ ١٥‬سنة في المدينة وفي أرجاء لبنان‪ ،‬لكن ھذا لم‬ ‫يحضر على صفحات الجريدة إال أدبيا ً وفي لغة أدبية‪ .‬ولعل أمين الريحاني وعمر‬ ‫فاخوري ومارون عبود يخالفون ھذا المذھب في الكتابة‪ .‬فـ”فيلسوف الفريكة” ليس‬ ‫فيلسوفا ً في الحقيقة‪ ،‬بل أقرب الى رحالة يشاھد ويشھد ويؤرخ مشاھداته‪ .‬أما‬ ‫فاخوري وعبود‪ ،‬وكذلك رئيف خوري وتوفيق يوسف عواد‪ ،‬فيتركون جانبا ً من‬ ‫أثقال لغة األدب االنشائية وتراثھا‪ ،‬فيما ھم يكتبون متابعاتھم النقدية‪.‬‬

‫الحداثة الفردية المختنقة‬ ‫اعترض الروائي التشيكي والفرنسي الحقاً‪ ،‬على التشوھات التي أدخلھا مترجم‬ ‫روايته “المزحة” من التشيكية الى الفرنسية‪ .‬يقول كونديرا إنه كتب في روايته‪:‬‬ ‫السماء التشرينية زرقاء‪ .‬المترجم الفرنسي كتب‪ :‬السماء التشرينية ترفع رايتھا‬ ‫الباذخة‪ .‬وكتب كونديرا‪ :‬استولى عليّ الحزن‪ ،‬أما المترجم فكتب‪َ :‬عل ُ‬ ‫ِقت في‬


‫أنشطوطة حزن عظيم‪ .‬وحين كتب الروائي‪ :‬النساء عاريات‪ ،‬كتب المترجم‪ :‬النساء‬ ‫يرتدين لباس حواء‪ .‬ھذه التشوھات وأمثالھا الكثير حاضرة حضوراً طاغيا ً في‬ ‫أساليبنا الكتابية العربية حتى اليوم ومنذ ما قبل “المكشوف” التي تناول أحدھم فيھا‬ ‫الجنرال ديغول‪ ،‬فكتب إن علينا أن “نحيّي فيه المِلح الخالدة”‪ .‬آخر وصف الكاتب‬ ‫االميركي مارك توين بـ”ال َف ِك ْه”‪ .‬ثالث أكثر من استعمال كلمات “الطرفة”‪،‬‬ ‫“ ُ‬ ‫الطرف”‪ ،‬فيما ھو يكتب عن أشعار عزرا باوند‪.‬‬ ‫رابع وصف جنازة عمر فاخوري‪ ،‬فكتب‪“ :‬كان نفر قليل يتناھد الى النعش”‪ .‬خامس‬ ‫يخاطب اللبنانيين كاتبا ً – قائالً‪“ :‬الحلم الذي ھدھد المھ َد آلبائكم مئات السنين”‪،‬‬ ‫و”األمنية التي زغردتھا فتاة زغرتا لفتى األرز”‪ ،‬قاصداً االستقالل بھذين الحلم‬ ‫واألمنية‪.‬‬ ‫لكن عمر فاخوري كتب وھو على فراش المرض قبيل أيام من رحيله‪ُ “ :‬ترى ھل‬ ‫نقضي العمر في التفلسف على الحياة من دون أن نحيا؟”‪ .‬وكتب ايضا ً‪“ :‬نحن ال‬ ‫تاريخ لنا ألنه ال حياة‪ .‬لكننا نؤرخ‪ .‬نؤرخ اليأس‪”.‬‬ ‫قبل فاخوري‪ ،‬غداة صدور كتاب ميشال أسمر “مذكرات ميشال زكور” عن “دار‬ ‫المكشوف” عام ‪ ،١٩٣٨‬علّق فؤاد حداد )أبو الحن( على الكتاب‪ ،‬فاعتبر أنه‬ ‫مذكرات جيله وجيل أسمر‪ ،‬المولود في الحرب العالمية األولى‪ .‬وكتب حداد أن‬ ‫“األدب” الذي يكتبه ذلك الجيل الطالع في لبنان‪ ،‬ھو “أدب األنانية” )األرجح أن‬ ‫الكاتب – المعلق كان يقصد باألنانية الذاتية أو الفردية(‪ .‬وھا ھوذا يشرح معنى ذلك‬ ‫“األدب األناني” فيكتب أنه يعبّر عن‪“ :‬الضعف المستتر بالقوة‪ ،‬الطھارة المغلّفة‬ ‫بالشھوات‪ ،‬الحياة الراكدة تحت ھيجان المخيلة وغربة اإلحساس‪ ،‬فيض الحب‬ ‫المھدور‪ ،‬اإليمان المبطن بالكفر‪ ،‬المجھول الشخصية )أي الغفل(‪ ،‬برغم تع ّدد‬ ‫الشخصيات‪”.‬‬ ‫خلف ھذه الثنائيات التي ال يزال األدب اللبناني األحدث‪ ،‬شعراً ونثراً‪ ،‬يعتبرھا قدس‬ ‫أقداس الھوته التعبيري‪ ،‬يكمن االختناق الجديد‪ ،‬الفردي والذاتي‪ ،‬بالفردية المقلقة أو‬ ‫الموقوفة‪ .‬من االختناق ھذا يصدر معظم الالھوت – الجھاز التعبيري والفني الذي‬ ‫به تجاوزت الكتابة اللبنانية الحديثة االنشاء اللغوي للنھضة‪ .‬ميشال أسمر يعبّر‬ ‫صادقا ً في مذكراته عن اختناقه بتلك الفردية األسيرة غير القابلة لالحتمال‪“ :‬آه منك‬ ‫يا نفسي! الى أين يقودني اھتمامي بكل نفثة من نفثاتك ونغمة من نغماتك؟ أنا مثقل‬ ‫بكِ ‪ ،‬متعب بنضجك‪”.‬‬


‫لماذا مُت ِعبٌ ھو النضج؟! ھل ال خالص من ھذه الحال إال ببراءة الطفولة أو بالنبوة‬ ‫الجبرانية أو بالموت؟‬

‫الحرية والتصدع األخالقي )‪(٨‬‬ ‫أتذكر من “طواحين بيروت” صوراً ومواقف وعالقات لما يمكن تسميته “الضياع‬ ‫الوجودي” في المدينة )بيروت(‪ ،‬كما صاغته المخيلة األدبية اللبنانية المحدثة في‬ ‫الستينات ومطالع السبعينات من القرن العشرين‪ .‬عنوان الرواية يوحي أيضا ً بذلك‬ ‫النوع من الضياع‪ :‬المدينة تطحن البشر‪ ،‬أي تخلطھم‪ ،‬تھصرھم‪ ،‬تف ّككھم‪ ،‬وتذرّرھم‪.‬‬ ‫لكن كلمة “طواحين” التي تك ّني‪ ،‬في العنوان‪ ،‬كناية مادية مباشرة عما تفعله المدينة‬ ‫بالبشر‪ ،‬تحمل رجعا ً وأصداء من المخيلة األدبية القروية التي تشكل مصدراً أساسيا ً‬ ‫لألدب اللبناني‪ ،‬في لغته وقيمه وقاموسه التعبيري‪ ،‬حتى األمس القريب‪ .‬وفي تلك‬ ‫المخيلة األدبية القروية ذات الجذر العامي الجبلي )المسيحي غالبا ً( يكثر حضور‬ ‫المدينة بوصفھا إطاراً للفساد والرذيلة والضياع‪ ،‬في مقابل الطھر والنقاء والبراءة‬ ‫واألصالة القروية‪.‬‬ ‫في ما أتذكره من صور ومواقف روائية للضياع في “طواحين بيروت” حينما قرأتھا‬ ‫في مطالع السبعينات‪ ،‬أن الضياع األخالقي والوجداني والعاطفي والجنسي‬ ‫نحو‬ ‫لشخصيات الرواية في بيروت‪ ،‬لم يكن له مقابله ونقيضه القروي‪ ،‬إال على‬ ‫ٍ‬ ‫خفيّ أو مضمر‪ .‬لكن ذلك الضياع‪ ،‬أو التمزق الوجودي الذي تعيشه تلك‬ ‫الشخصيات‪ ،‬تق ّدمه الرواية بوصفه تص ّدعا ً قيميا ً وأخالقيا ً يل ّم بالوافدين الى المدينة‪،‬‬ ‫نتيجة انسالخھم عن بيئاتھم وثقافاتھم السابقة المستقرة اآلمنة والمطمئنة التي‬ ‫صدروا وانسلخوا عنھا‪.‬‬ ‫ھذه النظرة إلى المدينة )بيروت( حاضرة بقوة الفتة في موضوعات الشعر اللبناني‪.‬‬ ‫ففي مطلع سبعينات القرن العشرين كتب أحد الشعراء اللبنانيين الجنوبيين الشبان‬ ‫آنذاك قصيدة عنوانھا “بيروت”‪ ،‬فشاعت مقاطع منھا على ألسنة جماعات طالبية‬ ‫واسعة )منھم كاتب ھذه السطور(‪“ :‬أيّ موت ش ّد يا بيروت رجليّ إلى ظھري‪/‬‬ ‫ت أمي‪ /‬بل خياناتي ألمي‪/‬‬ ‫رماني‪ /‬عند قدميك أبيع الضحك‪ /‬أزني باألغاني‪ /‬لس ِ‬


‫لملمي ثدييكِ ‪ /‬ثدياكِ زجاج‪ /‬وشفاھي سئمت من حلمة الكاوتشوك‪ /‬من رضع‬ ‫القناني‪”.‬‬ ‫الغريب أن صاحب “الرغيف” و”قميص الصوف”‪ ،‬كان قبل أكثر من عقدين من‬ ‫نشره “طواحين بيروت”‪ ،‬قد عبّر عن نظرة مختلفة تماما ً إلى المدينة‪ ،‬حينما كتب‬ ‫في جريدة “المكشوف” منتصف ثالثينات القرن العشرين‪ ،‬تحقيقا ً قصصي األسلوب‬ ‫عن بنات بيروت اللواتي خرجن إلى العمل في المكاتب والمخازن والمتاجر‪ ،‬جازما ً‬ ‫بأن المحافظات منھن على “العفاف” ال تتجاوز نسبتھن الـ ‪ ٥‬في المئة‪ .‬فـ”العذراء‬ ‫منھن تعطي كل شيء ما عدا خيط عنكبوت‪”.‬‬ ‫وھذا‪ ،‬على ما يختم عواد تحقيقه‪“ ،‬ظاھرة جميلة‪ ،‬فرحة ولذيذة‪ .‬لكنھا ال تخلو من‬ ‫خطر”‪ .‬لكنه يحرّض على اقتحام ھذا الخطر في سؤال ملھم‪“ :‬متى كانت الحرية‬ ‫خالية من األخطار؟”‪ .‬أما في “طواحين بيروت” فألبس الروائي االخطار التي‬ ‫تنطوي عليھا الحرية في المدينة لبوس التص ّدع األخالقي‪.‬‬

‫مجتمع العمران البري والمنافي السكنية على تالل خلدة‬ ‫نموذج لالقتالع والتذرر وعنف الھويات المحتقنة‬ ‫)‪(٩‬‬

‫على تالل خلدة الساحلية – وھي كانت مقفرة يكسوھا غالف صخري تتخلله نباتات‬ ‫وشجيرات برية قبل عقدين من السنين او اكثر بقليل – ارتفعت بنايات العمران‬ ‫العشوائي شاھقة‪ ،‬وتمددت تدريجا ً في القفر‪ ،‬من دون نظام وال تصنيف الستعماالت‬


‫االراضي‪ ،‬وقبل ترتيبھا وشق طرق وانشاء شبكات للخدمات فيھا‪ .‬والمتجول العابر‬ ‫اليوم في السيارة على طرق تلك التالل‪ ،‬بين البنايات العالية وورش البناء‪ ،‬يصعب‬ ‫عليه تصنيف نوع العمران الناشئ والعثور على تسمية محددة له وفق التصنيفات‬ ‫العمرانية المعروفة‪:‬‬ ‫تالل مقفرة اجتاحتھا عشوائيا ً بنايات سكنية عالية ال يربط بينھا اي نظام سوى‬ ‫محاذاتھا طرق شقھا تجار البناء الجاھز والعقارات‪ ،‬كل منھم على ھواه وكيفما اتفق‬ ‫وبأقل التكاليف الى بنايته وارضه وسط القفر‪ .‬لكن تالل خلدة وجوارھا في خراج‬ ‫عرمون ال تنفرد وحدھا في لبنان اليوم بمثل ھذا النوع من العمران المنتشر كثيفا ً‬ ‫في ارجاء كثيرة من الجمھورية السائبة‪.‬‬ ‫فالناظر متأمالً في ما صار اليه عمران لبنان‪ ،‬وفي انماط الحياة ودبيبھا فيه‪ ،‬يدرك‬ ‫على اي حال من التمزق والفوضى العارمة يعيش اھالي ھذه البالد ويتدبرون‬ ‫شؤونھم العامة ويديرونھا‪ .‬لذا ليس ما حدث ويحدث على تالل خلدة وعرمون اال‬ ‫نموذجا ً لما ھي عليه احوال العمران في مناطق لبنانية كثيرة‪ ،‬مع بعض التفاوت‬ ‫واالختالف بين منطقة واخرى‪.‬‬

‫العمران البري‬ ‫ادى انشاء االوتوستراد الساحلي السريع الذي ربط بيروت بصيدا جنوباً‪ ،‬الى فورة‬ ‫كثيفة من تشييد منشآت تجارية كبرى ومتوسطة وصغيرة على جانبيه‪ .‬تبع ھذه‬ ‫الفورة تشييد بنايات سكنية خلف شريط المؤسسات التجارية‪ ،‬ثم تمدد انشاء البنايات‬ ‫تدريجا ً على التالل‪ ،‬فوصل اليوم الى اعاليھا‪ ،‬وتوسعت الكتل العمرانية وتضخمت‪.‬‬ ‫وللوصول اليھا والخروج منھا ما بين مثلث خلدة ودوحة الحص‪ ،‬تفرعت من‬ ‫وتعود‬ ‫االوتوستراد السريع طرق صغيرة شبه عشوائية ال يراھا سوى من خبرھا‬ ‫َّ‬ ‫االنعطاف اليھا‪ .‬الطرق ھذه تتعرج على التالل بين البنايات وسط القفر بال ارصفة‪،‬‬ ‫وطبقة االسفلت عليھا رقيقة ھشة سرعان ما تتآكل وتغزوھا الحفر‪ .‬الخدمات‬ ‫االساسية للبنايات‪ ،‬من ماء وكھرباء‪ ،‬وصرف صحي‪ ،‬أُنشئت مثل الطرق‪ ،‬بال‬ ‫تنظيم وال تخطيط‪ :‬لكل بناية بئرھا االرتوازي للحصول على الماء‪ ،‬وبئرھا او‬ ‫جورتھا لتجميع المياه المبتذلة والصرف الصحي‪ ،‬ومولدھا لتوليد الطاقة الكھربائية‪،‬‬ ‫اضافة الى االتصال غير المنظم بالشبكة العامة‪.‬‬ ‫على مثال العمران الفوضوي على االراضي المشاع المقفرة بعدما صادرھا‬ ‫النافذون وجماعاتھم المسلحة في ضواحي المدن والبلدات والقرى‪ ،‬فتقاسموھا‬ ‫اقتساما ً داميا في بعض األحيان وشيدوا عليھا متاجر وبيوتا وبنايات عشوائية في‬


‫أزمنة الحرب‪ ،‬على ھذا المثال شيد تجار االراضي وسماسرتھا وتجار البناء الجاھز‬ ‫بناياتھم العالية على تالل خلدة‪ ،‬فنشأ عن ذلك عمران بري وتجمعات سكنية ال‬ ‫تاريخ لھا وال نظام او نسيج عمراني يجمعھا‪ .‬فقط طرق بدائية وبنايات في قفر لم‬ ‫يجر ترتيب اراضيه وانسنتھا‪ ،‬ال قبل وضع اساسات المباني وال بعد انجازھا وبيعھا‬ ‫شققا ً سكنية جاھزة وانتقال اصحابھا ومستأجريھا لالقامة فيھا‪ .‬بنايات مبعثرة على‬ ‫التالل بين الصخور‪ ،‬وسكان بنايات في قفر ارسخ واقوى من العمران والسكان‪.‬‬ ‫واذا كانت ھذه حال العمران وساكنيه‪ ،‬فان الحياة والعالقات االجتماعية ما بين‬ ‫السكان ال تختلف عن تلك الحال‪ :‬اجتماع ومجتمع برِّ يان يقومان بين جدران‬ ‫الباطون والصخور وعلى منحدرات تشرف على بحر بعيد‪ .‬واالقامة في ھذا‬ ‫المجتمع البري لھا طعم المنفى‪.‬‬

‫عرب المسلخ‬ ‫تبدأ حكاية عمران تالل خلدة المقفرة بلجوء مھجري “عرب المسلخ” النازلين قرب‬ ‫الكرنتينا شرق بيروت‪ ،‬الى مسابح خلدة وشاليھاتھا في حرب السنتين )‪- ١٩٧٥‬‬ ‫‪“ .(١٩٧٦‬الحزب التقدمي االشتراكي” نظم آنذاك اقامة المھجرين ورعاھا في تلك‬ ‫المسابح البحرية التي يوالي مالكھا ومالك االراضي المجاورة العائلة االرسالنية‬ ‫المناوئة للعائلة الجنبالطية التي تتصدر زعامتھا الحزب الجنبالطي “االشتراكي”‪.‬‬ ‫وسّع “عرب المسلخ” المھجرون مضاربھم خارج المسابح‪ ،‬واقامت جماعة منھم‬ ‫مخيما ً لھا في القفر‪ ،‬اسفل التالل الصخرية‪ ،‬على مسافة قصيرة من الطريق‬ ‫الساحلي القديم السابق على انشاء االوتوستراد السريع الذي أزال انشاؤه المخيم‪.‬‬ ‫في االثناء‪ ،‬اي في سنوات الحروب المتعاقبة )‪ ،(١٩٩٠ – ١٩٧٥‬ازدھرت تجارة‬ ‫اراضي التالل التي يروي قدامى العارفين بأحوال المنطقة وعقاراتھا‪ ،‬ان مالكھا‬ ‫كانوا في معظمھم من المسيحيين والدروز‪ .‬ھؤالء المالك ارغمتھم الحرب على بيع‬ ‫ارضھم المقفرة بأسعار متھاودة لمستثمرين كويتيين وتجار عقارات لبنانيين‪ ،‬وذلك‬ ‫بعد شعورھم بغموض مصير امالكھم والمشاعات القريبة منھا‪ ،‬حيث نزل مھجرو‬ ‫المسلخ وأقاموا مضاربھم‪.‬‬ ‫النافذون من المھجرين‪ ،‬اولئك المستقوين بـ”الحزب التقدمي الجنبالطي‪ ،‬برز دورھم‬ ‫كسماسرة عقارات في عمليات البيع والشراء‪ ،‬ثم اشتروا بعض العقارات وضموا‬


‫اليھا مساحات من المشاعات على التالل القريبة‪ ،‬فتحولوا شيئا ً فشيئا ً تجاراً ومالكا ً‬ ‫للعقارات‪ .‬وللبناء عليھا ابتداء من مطالع التسعينات‪ ،‬شاركوا تجار البناء الجاھز‪،‬‬ ‫وحصلوا على شقق سكنوھا في البنايات الجديدة‪.‬‬

‫صور ملحمية‬ ‫ابو ديب – وھو الوجه األبرز اليوم بين قدامى “عرب المسلخ” المقيمين في البنايات‬ ‫على تالل خلدة – اضفى صوراً ملحمية على كالمه عن عشيرته اثناء لقائنا معه في‬ ‫مضافته الزجاجية قرب سوبرماركت في الطبقة االرضية من احدى البنايات‪“ .‬كانت‬ ‫المدافع تقصف وتدمر‪ ،‬فيما نحن ابناء العشيرة نشيّد البنايات في خلدة”‪ ،‬قال‪ .‬ھذه‬ ‫الصورة الملحمية كان ابو ديب قد استبقھا بأخرى تعود الى ايام الحروب الصليبية‪.‬‬ ‫جوابا ً منه على سؤالنا االول عن بداية العمران في خلدة‪ ،‬قال ان عمرانھا عرف‬ ‫ثالث مراحل‪“ :‬في المرحلة االولى كنا نحن ابناء عشيرة زريقات من عرب الثغور‬ ‫واھلھا‪ ،‬الى جانب التنوخيين‪ ،‬في الدفاع عن السواحل ضد الغزاة الصليبيين‪.‬‬ ‫والمرحلة الثانية ھي مرحلة انشاء المسابح والفنادق على ساحل خلدة ابتداء من‬ ‫اوائل الستينات‪ .‬اما المرحلة الثالثة فھي مرحلة الحرب عندما اشترى اھلنا‪ ،‬عرب‬ ‫خلدة‪ ،‬أراض على التالل من مالكھا االرسالنيين وسواھم من الدروز‪ ،‬ثم شيدوا‬ ‫عليھا البنايات‪ ،‬وباعوا قطعا ً منھا من مستثمرين وتجار عقارات”‪ ،‬منھم حسين‬ ‫طعان ومحمد نائل‪.‬‬ ‫اثناء جلستنا دخل الى المضافة عدد من االوالد والفتيان‪ ،‬تقدم كل منھم من ابو ديب‬ ‫وقبّل يده‪ .‬اما الشاب الذي دخل اخيراً فوقف ابو ديب الستقباله وتبادال القبل على‬ ‫الخدين‪.‬‬ ‫سألنا ابو ديب عن حوادث وصدامات تحصل بين السكان في المنطقة‪ ،‬ومنھا الحادثة‬ ‫التي قتل فيھا قبل أشھر شاب من آل شيخ موسى يدعى “كمال – ابو عدي”‪ ،‬وكان‬ ‫سببھا المباشر شجار بين شبان نشب على خلفية تعليق صور والفتات‪ ،‬فأدى الى‬ ‫تبادل اطالق نار ومطاردات‪.‬‬ ‫كان جواب محدثنا أن خلدة فيھا احزاب وتنشب خالفات ومنازعات بين احزابھا‪،‬‬ ‫كغيرھا من المناطق اللبنانية‪ .‬اما “نحن عرب خلدة‪ ،‬فنعالج الخالفات بروح‬ ‫عشائرية وننبذ األحزاب والحزبية”‪.‬‬ ‫ووفقا ً لكالم ابو دبيب يبلغ عدد الناخبين من عشيرة الزبقات في خلدة – بعد حملة‬ ‫التجنيس االخيرة في التسعينات – حوالى الف ناخب‪.‬‬


‫اما ابناء العشيرة المقيمين في بنايات المنطقة فيبلغ غددھم حوالى مئة الف نسمة‪.‬‬ ‫وھذه ارقام مبالغ فيھا كثيراً‪ ،‬ألن ابو ديب نفسه قال ان ابناء عشيرته ال تتجاوز‬ ‫نسبتھم ‪ ٤‬او ‪ ٥‬في ا لمئة من اجمالي عدد سكان خلدة الذين توافد معظمھم من‬ ‫مناطق بيروت وضواحيھا واشتروا او استأجروا شققا في البنايات واقاموا فيھا‪.‬‬

‫خليط المنفى السكني‬ ‫في الروايات المختلفة التي جمعناھا عن إعمار تالل خلدة من بعض سكانھا‬ ‫المقيمين‪ ،‬يتوارد ذكر ابو ديب بوصفه “شيخ العرب” وأحد كبار تجار العقارات‬ ‫والبناء الجاھز في المنطقة‪ ،‬الى جانب آخرين كثيرين من آل الحسيني والخنسا‬ ‫والسعدي ونائل وعائالت اخرى‪ .‬اما قطع االرض التي تشغلھا معارض لتجارة‬ ‫السيارات المستعملة الى جانب االوتوستراد‪ ،‬فتعود ملكية معظمھا الى كويتيين‬ ‫اشتروھا في زمن الحرب او قبلھا من قدامى مالكھا المسيحيين او الدروز بأسعار‬ ‫بخسة عبر سماسرة من “عرب المسلخ”‪ .‬وبعد انشاء االوتوستراد صادر نافذون في‬ ‫الميليشيات قطعا ً من االراضي المملوكة “الداشرة” واقاموا عليھا معارض تجارة‬ ‫السيارات‪ .‬تزايدت على جانبي االوتوستراد المؤسسات التجارية‪ ،‬ومنھا “افران‬ ‫شمسين” لصاحبھا ابو فادي الحلبي الذي يعمل في افرانه عمال سوريون كثيرون‬ ‫الى جانب غيرھم من العاملين في ورش البناء والمقيمين قربھا في غرف مؤقتة‬ ‫مشيدة على عجل‪ .‬لكن العمال السوريين اخذوا يستأجرون في البنايات شققا‬ ‫ويستقدمون من سوريا نساءھم واوالدھم لالقامة فيھا‪ ،‬فخالطوا “عرب المسلخ”‬ ‫وسواھم من سكان الشقق المباعة والمستأجرة‪.‬‬ ‫قبل العام ‪ ٢٠٠٠‬كانت غالبية سكان البنايات‪ ،‬اضافة الى “عرب المسلخ” السنة‪ ،‬من‬ ‫أسر س ّنية من العرقوب وأخرى بيروتية من الطريق الجديدة ال يم ّكنھا وضعھا‬ ‫االقتصادي من شراء شقق او استئجارھا في بيروت‪ .‬وكانت تخالط ھذا الخليط اقلية‬ ‫شيعية وافدة من الضاحية الجنوبية أو الجنوب‪ .‬فأسعار الشقق في خلدة ادنى بكثير‬ ‫منھا في العاصمة وضواحيھا‪ .‬لكن الوافدين البيارتة للسكن في شققھم لم يألفوا‬ ‫االقامة ونمط العيش في الطبيعة البرية‪ ،‬وال في بيئتھا االجتماعية الجديدة الشبيھة‬ ‫بالمنفى‪ ،‬فقام كثيرون منھم بتأجير شققھم وعادوا لالقامة في احياء بيروت الشعبية‪.‬‬ ‫غير ان تجار العقارات والبناء الجاھز ثابروا على تشييد البنايات بما يفوق الطلب‬ ‫على الشقق التي يبيعونھا بالتقسيط و”على الخريطة” في اثناء الشروع ببنائھا‪.‬‬


‫األسعار المتھاودة للشقق السكنية في خلدة حملت فئات شعبية من صغار الم ّدخرين‬ ‫على شراء شقق يستثمرون بھا مدخراتھم في انتظار بيع الشقق بعد ارتفاع أسعارھا‪،‬‬ ‫أو تأجيرھا‪.‬‬

‫مشروع نائل‬ ‫كان “مشروع نائل” الذي يضم مجموعة كبرى من البنايات على منحدر غير بعيد‬ ‫من األوتوستراد‪ ،‬من أضخم المشاريع العمرانية في خلدة قبيل العام ‪ ٢٠٠٠‬وبعده‬ ‫بقليل‪ .‬يحوي المشروع مئات الشقق التي بيعت “على الخريطة” من صغار م ّدخرين‬ ‫سنة في غالبيتھم الساحقة‪ .‬لكن محمد نائل توفي قبل إنجاز مشروعه‪ ،‬فعمد مشترو‬ ‫الشقق في المجمع الكبير الى استكمال البناء وتجھيزه كل على ھواه ووفق إمكاناته‬ ‫المادية‪ .‬نجم عن ذلك قيام مجمعات سكنية مشوھة غير مكتملة الخدمات‪ .‬والمجتمع‬ ‫الناشىء في بنايات المجمع يشبه في اضطرابه وتمزقه وتذرره الوضع العمراني‬ ‫المشوه للمشروع‪ :‬مياه الصرف الصحي تسيل على اسفلت الطرق الھش وتحفر فيھا‬ ‫أخاديد‪ .‬امام البنايات وخلفھا ترعى بعض من األغنام والشاة‪ .‬السكان خليط من‬ ‫“عرب المسلخ” وفقراء السنة الريفيين أو البيارته المھمشين‪ .‬على الطريق الصاعدة‬ ‫الى خلدة من تحت جسر يعلو االوتوستراد‪ ،‬نشأ ما يشبه سوق صغيرة غير بعيد من‬ ‫بنايات المجمع‪ .‬روائح المياه المبتذلة السائلة على الطريق تفوح ن ّفاذة في األرجاء‪،‬‬ ‫وصوال الى أعلى المنحدر‪ .‬المصلى أو الجامع الصغير أقيم الى جانب الطريق في‬ ‫جھة من السوق‪.‬‬ ‫ھذه المشاھد الجزئية تعود الى نھار جمعة من أواسط شھر تشرين الثاني الجاري‪.‬‬ ‫كان دبيب الحياة قويا ً في ظھيرة الجمعة تلك‪ .‬رجال وشبان وفتيان ملتحون في‬ ‫غالبيتھم يتوافدون الى المصلى – المسجد‪ .‬كثيرون منھم يرتدون دشاشيش‪،‬‬ ‫فيخلعون أحذيتھم ويدخلون الى باحة المصلى الداخلية‪ ،‬حيث يفترشون الحصر‪.‬‬ ‫خطيب المسجد على منبر صغير في الزاوية يتحدث عما يفعله “اليھود المجرمون”‬ ‫في غزة‪ .‬صوت الخطيب يختلط بصوت شيخ آخر كان قد ركن سيارته المرسيدس‬ ‫أمام مبنى المب ّرة او الحسينية ودخل اليھا على مسافة أمتار من المصلى‪ .‬شيخ المبرة‬ ‫يتلو مقتطفات من السيرة الحسينية الكربالئية في عاشوراء‪ .‬خلف األوتوستراد‬ ‫والمنشآت التجارية المحاذية له بنايات سكانھا في غالبيتھم من الشيعة‪ .‬على مدخل‬ ‫المبرة الفتة رخامية مكتوب عليھا أنھا شيدت في العام ‪.٢٠٠٣‬‬ ‫شعور بالتوتر وعدم األمان يراود الغريب عن ھذه البيئة‪ .‬لكن حركة السيارات‬ ‫والمشاة في المكان متسارعة ومضطربة‪ ،‬وتخيم عليھا األصوات العالية المنبعثة من‬


‫المصلى والحسينية‪ ،‬وصوال الى األرجاء المتباعدة في األعالي‪ .‬في جولة في‬ ‫السيارة المبتاطئة في سيرھا على الطرق وسط بنايات “مجمع نائل” الكئيبة‪،‬‬ ‫الشاھقة‪ ،‬كانت أصداء خطيب المصلى والحسينية تتردد قوية من مكبرات صوت‬ ‫منصوبة على أعالي البنايات‪ .‬مياه الشطف والغسيل والصرف الصحي مندلعة على‬ ‫اسفلت الطريق‪ ،‬وفي بورة صغيرة تحيطھا صخور تسرح دجاجات وصيصان‪.‬‬

‫جولة سريعة‬ ‫في جولة سابقة بالسيارة قبل شھرين أو ثالثة من نھار الجمعة‪ ،‬كان الدليل المقيم في‬ ‫المنطقة منذ العام ‪) ٢٠٠٥‬علمت أخيراً أنه نزيل في سجن رومية(‪ ،‬قد قال‪ :‬أنظر‪،‬‬ ‫أنظر الى تلك المرأة التي تترجل من الرانج الروفر‪ .‬إنھا تلبس بلوزة تنحسر عن‬ ‫بطنھا‪ ،‬وھي زوجة مسؤول إحدى المنظمات الحزبية في خلدة‪ .‬كانت السيارة تنطلق‬ ‫بنا من السوق في اتجاه مطعم “ھارون الرشيد” على تلة صغيرة‪ .‬تالوة القرآن من‬ ‫الحسينية والمصلى كانت تتباعد خلفنا‪ .‬ھنا سكان البنايات خليط من العرب والسنة‬ ‫والشيعة‪ ،‬قال الدليل‪ ،‬وتابع‪ :‬ابن بيروت يشتري شقة ھنا ليؤجرھا أو ليبيعھا‬ ‫ويحصّل بعض األرباح‪ ،‬فال يسكن فيھا‪ ،‬ألن الجو ھنا ليس جوه‪ .‬ھنالك في األعلى‬ ‫بعض الفيالت للبيع‪ ،‬يتشارك في انشائھا مستثمرون كويتيون ومحليون‪ ،‬منھم‬ ‫“شركة عقاريا”‪.‬‬ ‫تصعد السيارة على الطريق بين الروابي الصخرية والبنايات والورش المتباعدة‪.‬‬ ‫األعالم والالفتات الحركية والحزبية تشير الى ھوية المستثمرين والسكان‪ ،‬قال‬ ‫الدليل‪ .‬على ذلك الجدار فوق كلمة “أمل” كتبت كلمة “عمر”‪ ،‬والعكس يحدث ايضا ً‪.‬‬ ‫األعالم ترفرف على كثير من أعمدة شبكة الطاقة الكھربائية‪ .‬ابتعدت السيارة قليالً‬ ‫من العمران‪ .‬ھذه المنطقة يسمنونھا “قبرص” ألنھا بعيدة‪ ،‬تابع الدليل‪ .‬أصوات‬ ‫جرافات تصل من البعيد‪ .‬ذلك البناء الكبير كان مدرسة خاصة‪ ،‬بعد موت صاحبھا‬ ‫اقتسمھا نجاله مدرستين‪“ :‬ال سيم” و”ال سيتيه”‪ ،‬يأتي في األوتوكارات للتعلم فيھما‬ ‫تالمذة من إقليم الخروب وبلدات الجية والناعمة وحارة الناعمة التي تبدلت ھويتھا‬ ‫الديموغرافية تماماً‪ ،‬قال الدليل‪ ،‬وتابع‪ :‬لقد ابتعدنا من خلدة قليالً‪ ،‬وھذا خراج‬ ‫عرمون‪ ،‬حيث مدرسة “البيادر” الخاصة على حدودھا‪ ،‬وعلينا أن نعود نزوالً لنعبر‬ ‫في بنايات “مشروع نسيم البحر”‪.‬‬

‫مشروع نسيم البحر‬ ‫روى الدليل وسواه من سكان المنطقة‪ ،‬أن موجة من تجارة العقارات وتشييد البنايات‬ ‫في خلدة‪ ،‬ھبت قوية بعد تحرير الشريط الحدودي في العام ‪ .٢٠٠٠‬غلب الشيعة‬


‫على ھذه الموجة الصاعدة تدريجا ً من قرب األوتوستراد وصوالً الى التالل العالية‪،‬‬ ‫حيث نشأ المشروع األكبر المسمى “نسيم البحر” الذي قال أبو ديب إن االراضي‬ ‫التي أنشئ عليھا كان يملكھا األمير فيصل ارسالن‪ ،‬فباعھا لتجار البناء الجاھز‪،‬‬ ‫وكان معظمھم من الطائفة الشيعية‪ .‬وبعد تشييد الحسينية في أسفل السوق القريبة من‬ ‫األوتوستراد‪ ،‬أخذت تنشأ مصلبات صغيرة في أسافل بنايات “نسيم البحر” الذي ضم‬ ‫عشرات البنايات المنحدرة من أعالي التالل حتى مضافة أبو ديب غير بعيد من‬ ‫“مشروع نائل”‪) .‬حين التقينا أبو ديب في مضافته‪ ،‬كانت فرس مربوطة في فسحة‬ ‫أرض صغيرة أمام السوبر ماركت(‪ .‬استمرت موجة البناء ھذه متصاعدة حتى العام‬ ‫‪ ،٢٠٠٥‬فتوقفت أو ضمرت قليالً‪ .‬وفي األثناء شيدت على تلة ما بين “نسيم البحر”‬ ‫و”مشروع نائل”‪ ،‬بنايات “مجمع الطاھر” ألحد المشايخ األقطاب في الطائفة‬ ‫الدرزية‪ .‬لكن شقق ھذا المجمع اشتراھا خليط من أبناء الطائفتين السنية والشيعية‪،‬‬ ‫الى قلة قليلة من الدروز‪.‬‬ ‫بعد أسابيع قليلة من نھاية حرب تموز ‪ ،٢٠٠٦‬ھبت موجة عمرانية جديدة في مجمع‬ ‫“نسيم البحر”‪ ،‬فتزايدت بناياته‪) .‬في نھار من تلك االسابيع سجَّ ُ‬ ‫لت في منزل مقاتل‬ ‫من “حزب ‪ ”e‬يقيم في إحدى بنايات المجمع‪ ،‬شھادة عن تلك الحرب التي شارك‬ ‫الرجل في معاركھا في الجنوب‪ ،‬واستشھد له فيھا ولدان اثنان مقاتالن معه(‪ .‬غداة‬ ‫تلك الحرب كانت الحياة في بنايات المجمع خافتة‪ ،‬ومجللة باألعالم والرايات السود‬ ‫وال تزال‪.‬‬

‫التوتر واالحتقان‬ ‫في الزيارتين المتباعدتين لخلدة أخيراً‪ ،‬روى الدليل أن تجار البناء الشيعة ما بين‬ ‫‪ ٢٠٠٦‬و‪ ،٢٠٠٨‬كانوا يشترون العقارات على تالل خلدة بأسعار عالية‪ ،‬ويشيدون‬ ‫عليھا البنايات‪ ،‬رغم تضخم عرض الشقق للبيع وزيادته عن طلب شرائھا‪ .‬أبو ديب‬ ‫نفسه أكد ھذه الواقعة ونسبھا الى تسابق اللبنانيين على االستثمار في العقارات‬ ‫وتجارة البناء‪ .‬الى جانب ھذه الظاھرة‪ ،‬روى الدليل ايضا ً أن التسابق على شراء‬ ‫العقارات وصل الى بلدة الشويفات‪ .‬ما بين حرب تموز ‪ ٢٠٠٦‬و‪ ٧‬أيار ‪،٢٠٠٨‬‬ ‫عاشت منطقة خلدة ومجمعاتھا السكنية توتراً على إيقاع الخطب المتعاقبة التي كان‬ ‫يلقيھا كل من السيد حسن نصر‪ e‬والرئيس فؤاد السنيورة أو سعد الحريري‪ ،‬فيطلق‬ ‫شبان في المنطقة النار في الھواء احتفاالً بخطيبھم ونكاية بالخطيب اآلخر‪ .‬حتى أن‬ ‫السالح بدأ يطھر في مناسبات كثيرة‪ ،‬منھا أثناء صالة الجمع وخطبھا في المسجد‬ ‫والحسينية‪ .‬وفي ھذه الحقبة بدأ يظھر تكاثر شبان من السلفيين الملتحين والمتطرفين‬ ‫جھاديا ً في بنايات “مجمع نائل”‪.‬‬


‫لكن شبان “حزب ‪ ”e‬كانوا يرصدون ھؤالء السلفيين وسالحھم‪ ،‬وصوالً الى ‪ ٧‬أيار‬ ‫‪ ،٢٠٠٨‬حينما قامت مجموعات مسلحة ومق ّنعة من “حزب ‪ ”e‬بدخول المجمع في‬ ‫سيارات‪ ،‬طالبة من كل من لديه سالحا ً من سكانه أن يسلمه فوراً‪ .‬وھذا ما حصل‬ ‫فعالً‪ ،‬ألن المسلحين المھاجمين باغتوا سكان المجمع وكانوا أقدر تنظيما ً وإعداداً‬ ‫عسكرياً‪ ،‬ويعرفون الشبان السلفيين ومن المسلح منھم‪ ،‬ولديھم لوائح تفصيلية‬ ‫باسمائھم‪ .‬وروى الدليل ايضا ً أن تجار سالح على صلة بـ”حزب ‪ ”e‬كانوا حتى‬ ‫عشية ‪ ٧‬أيار يقومون بشراء السالح بأسعار عالية ومغرية من المحازبين الدروز‬ ‫“االشتراكيين” في الشويفات وخلدة‪.‬‬ ‫بعد ذلك أخذ االحتقان يتزاد في خلدة‪ ،‬معطوفا ً على موجة جديدة من تزايد البناء‪،‬‬ ‫وعلى فرز طائفي متفاقم بين السكان‪ .‬قطبا ھذا االحتقان ھما “مجمع نائل” و”مجمع‬ ‫نسيم البحر”‪ .‬أما االحتكاكات فغالبا ً ما تحدث في السوق‪ ،‬حيث المسجد الذي يتكاثر‬ ‫فيه المصلون من شبان السلفية‪ ،‬وحيث الحسينية في طرف السوق غير بعيد من‬ ‫األوتوستراد‪ .‬الترصد مستمر بين شبان السلفية وشبان “حزب ‪ ،”e‬أما محازبوا‬ ‫“تيار المستقبل” فغالبا ً ما يلتزمون بيوتھم في أوقات االحتقان‪ ،‬على ما روى الدليل‪،‬‬ ‫وأضاف أن للسلفية إمتداداتھا في الناعمة وحارة الناعمة‪ ،‬فيما تشكل مناطق‬ ‫األوزاعي وحي السلم ومدينتي “الحسين” و”العباس” في صحراء الشويفات امتدادات‬ ‫لشبان “حزب ‪ ”e‬و”حركة أمل” في نسيم البحر وسواه من البنايات في خلدة‪.‬‬ ‫ھذا المجتمع البري أقرب الى منفى سكني‪ .‬لذا يفتقد سكانه شروط إقامة “حضرية”‬ ‫تؤمن دورة حياة وفضاءات ووسائل وأطراً تتعدى السكن العاري في بنايات يحوطھا‬ ‫قفر طبيعي‪ .‬في ھذا المنفى ينغلق العالم وتنغلق مخيلة الساكنين وعالقاتھم‪،‬‬ ‫وخصوصا ً الشبان والفتيان منھم‪ ،‬على احتقان وعنف مقيمين‪ ،‬ھما مرآة تلك االقامة‬ ‫العارية في قفر الجدران والطرق والصخور‪ ،‬ومرآة مكبرة لفراغ نفسي وروحي‬ ‫يعيشه سكان مقتلعون ومنفيون الى مكان ال تاريخ عمرانيا ً واجتماعيا ً له سوى تاريخ‬ ‫الھويات المحتقنة‪.‬‬


‫االستھالك “المتقشف” للنخبة الطالبية في شارع بلس‬ ‫)‪(١٠‬‬

‫يبدو طلبة الجامعة االميركية على خالف الصورة الشائعة عنھم من أنھم مسرفون‬ ‫ّ‬ ‫مبذرون في مصاريفھم‪ ،‬منظوراً اليھم من زاوية نمط االستھالك اليومي السريع‪،‬‬ ‫ومن طبيعة السلع والخدمات التي يقدمھا إليھم شارع بلس‪ .‬ھذا ما تؤكده طبيعة‬ ‫المتاجر والمطاعم والخدمات في الشارع الجامعي الذي يتحكم السلوك االستھالكي‬ ‫“المتقشف” والنخبوي غير الباذخ للجمھرة الطالبية التي ترتاده طوال النھار‪ .‬اما‬ ‫المكتبات وسواھا من مستلزمات الحياة الثقافية‪ ،‬فيشير تضاؤلھا في بلس الى‬ ‫انصراف الطلبة عن االھتمام بالثقافة‪ ،‬اال في دوائر طالبية ضيقة‪.‬‬ ‫في معالمه البارزة الراھنة وفي ما يقدمه من خدمات‪ ،‬ال يشبه شارع بلس‪ ،‬الشوارع‬ ‫المماثلة له في كثير من مدن العالم‪ .‬فالمكتبات القليلة واقتصار بعضھا على تقديم‬ ‫خدمة االستنساخ‪ ،‬وكذلك ندرة المؤسسات والمنتديات الثقافية في الشارع الجامعي‪،‬‬ ‫تعكس ضعف اھتمام الطلبة اليوم بالثقافة العامة‪ ،‬المكتوبة أو الكتابية منھا على وجه‬ ‫الخصوص‪ ،‬اال في دوائر ضيقة وغير بارزة في الحياة الطالبية‪ .‬اما ثقافة االداء‬ ‫والصور والعروض البصرية والمشھدية المحدثة والما بعد حداثية‪ ،‬الشائعة‬ ‫والمزدھرة نسبيا ً في دوائر شبابية متفرقة من بيروت‪ ،‬فتكاد نشاطاتھا تستقل‬ ‫وتنفصل عن اطر الحياة اليومية العامة للطلبة‪ ،‬وال حضور لمنتدياتھا في شارع‬ ‫بلس‪.‬‬


‫االقتصاد الطالبي‬ ‫تزدھر في الشارع مطاعم الوجبات السريعة التي تناسب كثافة الحياة اليومية‬ ‫السريعة العابرة على رصيف شارع يع ّج بمئات الطلبة طوال ساعات النھار‪.‬‬ ‫على خالف الفكرة الشائعة عن طلبة الجامعة االميركية من انھم يتمتعون بقدرة‬ ‫شرائية عالية‪ ،‬ويُقبلون على استھالك خدمات باذخة مرتفعة االسعار‪ ،‬ھم في الحقيقة‬ ‫والواقع “مقتصدون” في مصاريفھم اليومية‪ ،‬بما يتناسب مع ما يحصلون عليه من‬ ‫“خرجية” من اھلھم‪ ،‬ومداخيل من اعمالھم الموقتة في الجامعة والعطل‪ .‬لكن تدني‬ ‫“مداخيلھم” الشخصية ال يعني ان اھلھم من ذوي العسر المادي‪ .‬فطلبة الجامعة‬ ‫االميركية ھم من فئات اجتماعية متوسطة على وجه االجمال وفي غالبيتھم العددية‪،‬‬ ‫من دون ان تخلو ھذه الغالبية من طلبة ينتمي اھلھم الى فئات ميسورة وعالية‬ ‫المداخيل‪ ،‬او الى فئات اخرى ما دون المتوسطة‪ .‬اما ما يحدد السلوك االستھالكي‬ ‫الشخصي الشائع للطلبة على وجه العموم‪ ،‬فھو سلوك طالب الفئات المتوسطة‬ ‫المحدثة التي تتحمَّل اسرھا نفقات االقساط الجامعية المرتفعة ألبنائھا‪ ،‬اضافة الى‬ ‫مصاريفھم الشخصية التي يحرص األبناء الطلبة على اتباع سلوك مقتصد فيھا‪،‬‬ ‫قوامه عدم التبذير في حياتھم الجامعية اليومية‪.‬‬ ‫يفرض “االقتصاد الطالبي” طابعه على اصحاب المتاجر ومطاعم الوجبات السريعة‬ ‫المتنافسة تنافسا ً قويا ً ودقيقا ً في ابتكاراتھا المتجددة وفي اسعار وجباتھا وسلعھا‬ ‫وخدماتھا في بلس‪ ،‬كي تناسب اذواق الطلبة المحدثة والمتغيرة ومقدرتھم الشرائية‬ ‫المحدودة‪ .‬ھذا بدوره يفرض نوع المنشآت واالستثمارات المربحة في شارع جامعي‬ ‫ترتفع اسعار عقاراته واستثمارھا على نحو قد يكون االعلى في بيروت‪ ،‬بعد وسطھا‬ ‫الجديد‪.‬‬ ‫غالبا ً ما يقوم طلبة ھذه الجامعة بتدارس اسعار ما يحتاجونه من سلع يومية‪،‬‬ ‫وبمقارنة جودتھا واسعارھا بمثيالتھا المتوافرة في متاجر الشارع ومطاعمه‪ ،‬كي‬ ‫يقبلوا على شراء المناسب منھا مع ضبط لمصاريفھم اليومية‪ .‬ھذه حال األكثرية من‬ ‫الطلبة‪ ،‬أما االقلية التي تبذر من غير حساب‪ ،‬فليست ھي من يحدد السلوك‬ ‫االستھالكي الطالبي الكثيف والمقتصد في الشارع‪ ،‬مما يحمل المستثمرين على عدم‬ ‫التعويل على القدرة الشرائية العالية لھذه االقلية‪.‬‬ ‫وبالرغم من ان الجمھور الطالبي العام في بلس‪ ،‬نخبوي وحديث ثقافيا ً وفي نمط‬ ‫العيش والقيم‪ ،‬فإن المستثمرين في ھذا الشارع يحرصون على عدم تقديم سلع‬ ‫وخدمات نخبوية باذخة او فخمة في متاجرھم ومطاعمھم‪ .‬وھم فوق ھذا شديدو‬


‫التنافس في تقديم حاجات ووجبات تناسب جودتھا أذواق الطلبة النخبويين ثقافيا ً وفي‬ ‫نمط العيش‪ .‬ذلك أن من الصعب على طالب يقيم في المسكن الجامعي او في منزل‬ ‫اھله او في شقة طالبية مشتركة‪ ،‬ويتحمل اھله كلفة اقساطه الجامعية المرتفعة‪،‬‬ ‫ويحصل منھم على مصاريفه اليومية‪ ،‬ان يرتاد مطاعم فخمة تقدم وجبات مرتفعة‬ ‫االسعار‪ .‬فسرعة الحياة اليومية الطالبية ومتطلباتھا وخفتھا – من فطور عابر الى‬ ‫غداء في مطعم للوجبات السريعة‪ ،‬الى سھرة مع صديقة او صديق في مقھى او‬ ‫مربع ليلي‪ ،‬الى اختيار ثياب وازياء شبابية محدثة ونخبوية لكن غير باھظة االسعار‬ ‫– تح ِّتم على الطلبة موازنة مصاريفھم واختيار السلع والخدمات المنخفضة االسعار‪.‬‬ ‫اذا اضفنا الى ھذا كله ان الطلبة غالبا ً ما يوفرون من مصاريفھم اليومية كي يتمكنوا‬ ‫من شراء ھدية مميزة لصديقة حميمة او صديق حميم‪ ،‬وان اھل الطلبة يحاولون‬ ‫عدم تزويد ابنائھم مداخيل )خارجية( وفيرة‪ ،‬لتعويدھم‪ ،‬تربوياً‪ ،‬على االستقالل‬ ‫المادي وضبط المصاريف‪ ،‬نعلم لماذا تتحكم الدقة في الحسابات بسلوك المستثمرين‬ ‫في شارع بلس‪ .‬المستثمرون عليھم مراعاة كل ھذه العوامل المتشابكة والمعقدة في‬ ‫سلوك الطلبة وأمزجتھم ومقدرتھم االستھالكية‪.‬‬ ‫أما أسعار العقارات واالستثمارات الباھظة في الشارع والمنطقة كلھا‪ ،‬فتحتم على‬ ‫المستثمرين ابتكار معادلة صعبة ودقيقة تم ّكنھم من تقديم سلع وخدمات يقبل الطلبة‬ ‫عليھا إقباالً كثيفا ً وضخما ً يعوّ ضان تد ّني اسعار مبيعھا‪ ،‬مع المحافظة على جودتھا‬ ‫النسبية‪ ،‬وتكفل أرباحا ً مدروسة ناجمة عن كثافة الطلب وضخامته عليھا‪ .‬ھذه‬ ‫المعادلة ھي التي تفضي الى تكاثر مطاعم األكل السريع وبيع المناقيش ومتاجر بيع‬ ‫المرطبات وزجاجات المياه‪ ،‬وسواھا من سلع مماثلة‪ ،‬كالشوكوال والعلكة والبوظة‪،‬‬ ‫في شارع بلس‪.‬‬

‫طفرة الفاست فود‬ ‫الفرن القديم الذي كان اسمه “األفران الوطنية” في وسط بلس )وھو فرن رواية‬ ‫“سنة األتوماتيك” لحسن داوود(‪ ،‬ب ّدل اسمه وديكوره ونوع سلعه اخيراً‪ ،‬كي يتناسب‬ ‫مع الطابع االستھالكي الطالبي الجديد في الشارع‪ ،‬ف ُترجم اسمه العربي القديم الى‬ ‫االنكليزية‪ ،‬وصار “ناشيونال بيكري”‪ .‬ثم إنه قلّص من انتاجه الخبز وتوزيعه على‬ ‫متاجر المنطقة ومطاعمھا‪ ،‬وح ّدث نوع المناقيش التي يبيعھا واضاف اليھا مناقيش‬ ‫الصاج‪ ،‬إلى جانب بيعه القھوة وزجاجات المياه وسواھا من سلع سريعة مشابھة‪.‬‬


‫مكان سينما “أورلي” الراحلة في بداية الشارع‪ ،‬اف ُتتح مطعم من سلسلة “زعتر‬ ‫وزيت” الذي اطلق موجة حديثة‪ ،‬متطورة وشديدة التنوع من المناقيش التي أصبحت‬ ‫في لبنان كله من أقوى سلع األكل السريع انتشاراً واستھالكا ً‪.‬‬ ‫دخلت الى بلس الدكاكين والزوايا الصغيرة التي تقدم مناقيش الصاج المتنوعة‪،‬‬ ‫والـ”ھوت دوغ” والبوظة‪ .‬أما مربّع الـ”أنكل سام” قبالة مدخل الجامعة الرئيسي‪ ،‬فلم‬ ‫يستقر على حال‪ ،‬منذ توقفه عن كونه مربعا ً ليليا ً شھيراً‪ .‬فمستثمروه الجدد‬ ‫المتالحقون لم يھتدوا الى معادلة تم ّكنھم من تقديم سلع وخدمات مناسبة ألذواق‬ ‫الطلبة ومداخيلھم‪ ،‬فيما حافظ مطعم الھامبرغر القديم “يونيفرسل” قبالة “انكل سام”‬ ‫على استمراره برغم أن مقدرة المتاجر والمطاعم على االستمرار في بلس ليست‬ ‫سھلة في سوق يشتد فيھا التنافس القاسي‪ ،‬وتنتشر المعلومات عن نوعية سلعھا‬ ‫واسعارھا انتشاراً سريعا ً بين الطلبة المستھلكين الذين غالبا ً ما تح ّدد متطلباتھم انواع‬ ‫السلع الرائجة‪ ،‬ويفرضون أذواقھم على المستثمرين‪.‬‬ ‫خبرة بعض الطلبة في أشكال االستھالك الرائجة والناجحة في الشارع‪ ،‬حملت اخيراً‬ ‫طالب ھندسة على فتح محل صغير للمناقيش سمّاه اسما ً خفيفا ً الھيا ً‬ ‫”‪ ،“Come ci come sage‬متبعا ً اسلوبا ً حديثا ً في العرض والديكور وبيع‬ ‫السلعة‪ .‬ھذا ما م ّكنه من إنشاء فرع ثان لمحله قرب الجامعة اللبنانية االميركية‪،‬‬ ‫وثالث في شارع الجميزة‪ .‬اما المقھى – المطعم األحدث‪ ،‬فاستوحى اسمه “فود وان‬ ‫أو وان” من أحد المقررات الجامعية )وان أو وان(‪ ،‬وق ّدم الى القھوة‪ ،‬اصنافا ً من‬ ‫السلطات والمآكل السريعة المدروسة األسعار‪ ،‬مما م ّكنه من النجاح‪ ،‬عاكسا ً في‬ ‫ديكوره طابع الحياة الطالبية‪.‬‬

‫شارع الليل الشعبي‬ ‫لكن شارع بلس الطالبي‪ ،‬طابعا ً وجمھوراً واستھالكا ً في النھار‪ ،‬غيره تماما ً في الليل‬ ‫الذي يخليه من الطلبة خلواً تاماً‪ ،‬ويحوله محطة لجمھور آخر من المرتادين‬ ‫العابرين الذين يأتون اليه في سياراتھم غالباً‪ ،‬في نھايات السھرات ومن أحياء‬ ‫المدينة المختلفة‪ ،‬السيما الشعبية منھا‪ ،‬لتناول ما تقدمه مطاعمه من المآكل السريعة‬ ‫ومن البوظة والعصائر‪ ،‬مستفيدين من بقائھا مفتوحة حتى ساعة متأخرة من الليل‪،‬‬ ‫ومن أسعارھا المتدنية‪ .‬يختلط في جمھور الشارع الليلي الساھرون المتأخرون‬ ‫القادمون وشبان األحياء الشعبية الصادحة في سياراتھم األغاني الرائجة‪ ،‬وعائالت‬ ‫من الضواحي تخرج ليالً للتنزه وتناول السندويشات والمناقيش والبوظة والعصير‪،‬‬


‫فتزدحم جنبات الشارع بسيارات ھذه الفئات من المساء حتى ما بعد منتصف الليل‪،‬‬ ‫فيما تكون ازدحمت طوال النھار بسيارات الطلبة وبالمشاة العابرين الذين تغلب‬ ‫عليھم الجمھرة الطالبية‪.‬‬ ‫الجمھرة الليلية الكثيفة وسياراتھا التي تجتمع روافدھا المتنوعة وتختلط في الشارع‬ ‫أمام مطاعم األكل السريع ومحال البوظة‪ ،‬تماثل جمھرة اخرى تشبھھا ويستمر‬ ‫حضورھا طوال الليل تقريبا ً أمام مطاعم “بربر” قبالة البيكاديللي في شارع‬ ‫الحمراء‪ ،‬وفي نھاية شارع سبيرز في القنطاري‪ .‬قد يكون جاذب الفئات الشعبية من‬ ‫روافد الجمھرة الليلية ھو سمعة الشارع الكوزموبوليتية الراقية او النخبوية المتصلة‬ ‫بالجامعة االميركية وبمنطقة رأس بيروت عموما ً‪.‬‬ ‫ھذا إضافة الى تد ّني اسعار ما تقدمه مطاعم الشارع الطالبي النھاري ومحاله‪ ،‬من‬ ‫سلع وخدمات سريعة لقاصديه وعابريه الليليين الذين يتوافدون اليه من نواحي‬ ‫المدينة وأحيائھا المختلفة‪ .‬ھذه الوظيفة الليلية للشارع خلقتھا وظيفته االخرى‬ ‫الطالبية النھارية‪ .‬فتعدد وظيفة الشارع الواحد ودوره في المدينة‪ ،‬وكذلك تباين فئات‬ ‫روّ اده واختالفھا بحسب مواقيت الحياة اليومية وتقطعھا‪ ،‬ھما من طبيعة الحياة‬ ‫المدينية التي ال تھدأ وال تستقر على حال واحدة‪ .‬وھذه حال المتنزھين والمتريضين‬ ‫والعابرين على كورنيش بيروت البحري‪.‬‬ ‫المراجع‬ ‫)‪ (١‬ملحق النھار في ‪٢٠١٣-١٠-٢٦‬‬ ‫)‪ (٢‬ملحق جريدة النھار في ‪٢٠١٣-٠٩-٢٨‬‬ ‫)‪ (٣‬جريدة النھار في ‪٢٠١٣-٠٩-٠٤‬‬ ‫)‪ (٤‬ملحق جريدة النھار في ‪٢٠١٣-٠٨-٠٣‬‬ ‫)‪ (٥‬جريدة النھار في ‪٢٠١٣-٠٢-٢٨‬‬ ‫)‪ (٦‬ملحق جريدة النھار في ‪٢٠١٣-٠١-١٢‬‬ ‫)‪ (٧‬ملحق جريدة النھار في ‪١٢-١٢-٠١‬‬ ‫)‪(٨‬جريدة النھار في ‪٢٠١٢-١١-٣٠‬‬ ‫)‪ (٩‬جريدة النھار في ‪٢٠١٢-١٢-٢‬‬ ‫)‪ (١٠‬ملحق جريدة النھار في ‪٢٠١٢-١١-١٠‬‬



Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.