أوقات جميلة لأخطائنا النضرة

Page 65

‫الصف صفاً‪ ،‬فقد أعمل فيه الطالب أياديهم وأذهانهم وأفكارهم واقتراحاتهم‬ ‫العنيدة‪ ،‬كنت أراقبهم وأنا أهمس لنفسي‪ :‬هكذا هو الذهن البشري املستيقظ‬ ‫الرشيق الذي يعرف عمقه وتأثيره وقوته‪ .‬ال شيء يقف أمام إرادة هذا الذهن‪.‬‬ ‫ذهن مليء باخليارات والطرق البديلة والرغبات في التغيير الدائم‪ ،‬ذهن يتمتع‬ ‫بكبرياء عظيم‪ ،‬ورفض دائم للتدجني وتلقي األوامر‪ .‬ذهن يعمل وحده‪ ،‬مبرمج‬ ‫على اقتحام الطرق املقفلة وحتدي السدود وهز القناعات‪.‬‬ ‫قال فؤاد‪ :‬هيا يا أستاذ‪ ،‬نحن مستعدون متام ًا للتيه‪.‬‬ ‫قال حسن‪ :‬ما هو املوضوع الذي يؤرقك منذ فترة؟ وما هي الذكريات يا أستاذ التي‬ ‫هيجت هذا املوضوع فيك؟‬

‫‪65‬‬

‫ قبل ٍ‬‫ليال عدة يا أصدقاء‪ ،‬شاهدت فيلم ًا أجنبي ًا على إحدى القنوات الفضائية‪،‬‬ ‫في هذا الفيلم ظهرت امرأة فاتنة جداً‪ ،‬مالمح هذه املرأة الطفلية سكنتني إلى‬ ‫حد األرق‪ .‬وال أعرف ملاذا أحسست حينها أني أعرف هذه املالمح وهي ليست‬ ‫غريبة عني‪ ،‬وكنت كلما اقتربت من معرفة هذه املالمح في أعماقي وذاكرتي‬ ‫تهت من جديد‪ ،‬وتداخلت مالمح أخرى مع بعضها‪ .‬فأشعر بحسرة لذيذة‪،‬‬ ‫حسرة شخص يبحث عن شخص منذ زمن لكنه يعرف جيداً‪ ،‬أنه سيجده في‬ ‫منكب بكل كياني على سطور رواية‪،‬‬ ‫آخر املطاف‪ .‬وفي ذات ليلة طويلة‪ ،‬وأنا‬ ‫ٌ‬ ‫عيني وتركت الكتاب يسقط‬ ‫علي املالمح من جديد‪ .‬وعندها أغمضت ّ‬ ‫هجمت ّ‬ ‫توضحت املالمح وتكشفت‬ ‫يدي وغرقت في عتمة هائلة‪ ،‬ورويد ًا رويد ًا ّ‬ ‫من بني ّ‬ ‫عن صورة وجه أعرفه جيد ًا وأتذكره‪ ،‬إ َّنه وجه (هدى) زميلتي وصديقتي في‬ ‫الرابع‪ ،‬وجه واسع‪ ،‬مستدير أبيض جداً‪ ،‬ال يعرف معنى كلمة شر أو‬ ‫َّ‬ ‫الصف ّ‬ ‫أذى‪ ،‬أو عنف‪ ،‬منذ الصف األول وأنا أجلس بجانب هدى‪ ،‬كنا نتقاسم أرغفة‬ ‫الساندويتش وقطع احللوى‪ ،‬وكانت متفوقة جد ًا في دراستها‪ ،‬ومواظبة على‬ ‫واجباتها املدرسية‪ ،‬وحني سخر تالميذ وتلميذات الصف من خطي القبيح‬ ‫وهتفوا في وجهي ونحن نازلون على درج املدرسة‪ :‬خرابيش الدجاج‪ ،‬خرابيش‬ ‫الدجاج‪ .‬صرخت هدى في وجوههم‪ ،‬وهددتهم بإبالغ املديرة‪ .‬فلزموا‬ ‫الصمت وتفرقوا‪ .‬بعد الصف الرابع‪ ،‬انتقلت إلى مدرسة أخرى‪ .‬وانتقلت‬ ‫هدى إلى مدرسة أخرى‪ ،‬ذهبت هي إلى مدرسة إناث وذهبت أنا إلى مدرسة‬ ‫ذكور‪ .‬لم أعد أرى هدى‪ ،‬صار يجلس بجانبي في الصف اخلامس تلميذ اسمه‬ ‫صالح‪ ،‬هنا وقف أمين وسألني وابتسامة خفيفة على شفتيه‪ :‬هدى وصالح‪،‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.