الصف صفاً ،فقد أعمل فيه الطالب أياديهم وأذهانهم وأفكارهم واقتراحاتهم العنيدة ،كنت أراقبهم وأنا أهمس لنفسي :هكذا هو الذهن البشري املستيقظ الرشيق الذي يعرف عمقه وتأثيره وقوته .ال شيء يقف أمام إرادة هذا الذهن. ذهن مليء باخليارات والطرق البديلة والرغبات في التغيير الدائم ،ذهن يتمتع بكبرياء عظيم ،ورفض دائم للتدجني وتلقي األوامر .ذهن يعمل وحده ،مبرمج على اقتحام الطرق املقفلة وحتدي السدود وهز القناعات. قال فؤاد :هيا يا أستاذ ،نحن مستعدون متام ًا للتيه. قال حسن :ما هو املوضوع الذي يؤرقك منذ فترة؟ وما هي الذكريات يا أستاذ التي هيجت هذا املوضوع فيك؟
65
قبل ٍليال عدة يا أصدقاء ،شاهدت فيلم ًا أجنبي ًا على إحدى القنوات الفضائية، في هذا الفيلم ظهرت امرأة فاتنة جداً ،مالمح هذه املرأة الطفلية سكنتني إلى حد األرق .وال أعرف ملاذا أحسست حينها أني أعرف هذه املالمح وهي ليست غريبة عني ،وكنت كلما اقتربت من معرفة هذه املالمح في أعماقي وذاكرتي تهت من جديد ،وتداخلت مالمح أخرى مع بعضها .فأشعر بحسرة لذيذة، حسرة شخص يبحث عن شخص منذ زمن لكنه يعرف جيداً ،أنه سيجده في منكب بكل كياني على سطور رواية، آخر املطاف .وفي ذات ليلة طويلة ،وأنا ٌ عيني وتركت الكتاب يسقط علي املالمح من جديد .وعندها أغمضت ّ هجمت ّ توضحت املالمح وتكشفت يدي وغرقت في عتمة هائلة ،ورويد ًا رويد ًا ّ من بني ّ عن صورة وجه أعرفه جيد ًا وأتذكره ،إ َّنه وجه (هدى) زميلتي وصديقتي في الرابع ،وجه واسع ،مستدير أبيض جداً ،ال يعرف معنى كلمة شر أو َّ الصف ّ أذى ،أو عنف ،منذ الصف األول وأنا أجلس بجانب هدى ،كنا نتقاسم أرغفة الساندويتش وقطع احللوى ،وكانت متفوقة جد ًا في دراستها ،ومواظبة على واجباتها املدرسية ،وحني سخر تالميذ وتلميذات الصف من خطي القبيح وهتفوا في وجهي ونحن نازلون على درج املدرسة :خرابيش الدجاج ،خرابيش الدجاج .صرخت هدى في وجوههم ،وهددتهم بإبالغ املديرة .فلزموا الصمت وتفرقوا .بعد الصف الرابع ،انتقلت إلى مدرسة أخرى .وانتقلت هدى إلى مدرسة أخرى ،ذهبت هي إلى مدرسة إناث وذهبت أنا إلى مدرسة ذكور .لم أعد أرى هدى ،صار يجلس بجانبي في الصف اخلامس تلميذ اسمه صالح ،هنا وقف أمين وسألني وابتسامة خفيفة على شفتيه :هدى وصالح،