الدنيا والناس الدنيا م� �ل ��أى بالناس أال ُك � � ��ن ًّ حق � � ��ا إنس � � ��انا إلى اهلل ِ ال ُ�فتَّان � � ��ا �اذر س � � ��ب ً اقص ْد في سيرك وح � � � ْ وأص ِغ بقلبك للقرآن يكن ل � � ��ك إلى اهلل ربّانا ْ ***
36
أ.د .عبد الحليم عويس
• بحث استقصائي واستقرائي في الفكر النهضوي عند فتح اهلل كولن. • مفاهيم تجديدية في معاني الجهاد وحوار اآلخر. عموما وفي نبوّ ة محمد • قراءة مبتكرة في "النبوة" ً • واجب المسلم في تغيير العالم وتعديل مساراته. ً ً وسلوكا. عقيدة • التسامح والتراحم • التعبئة الفكرية من أجل الكشف عن الفكر الحضاري لإلسالم. • الحافز الفكري والنفسي للبطولة واألبطال في العمل الدعوي.
مركز التوزيع فرع القاهرة 7 :ش البرامكة ،الحي السابع ،مدينة نصر -القاهرة /مصر
تليفون وفاكس +20226134402-5 :
الهاتف الجوال +201004871038 :
w w w. d a r a l n i l e . c o m
التصور العام
• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان ،والعقل والقلب ،والفكر والواقع. • جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع ،مع البعد عن اإلفراط والتفريط. • تؤمن باالنفتاح على اآلخر ،واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية. • تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض ،ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة.
شروط النشر
• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره. • أال يزيد حجم النص على 2000كلمة كحد أقصى ،وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد املطلوب. • يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية. • ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير ،وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر. • اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر ،وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر ،وال تلتزم بإبداء أسباب عدم النشر. • حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا. تعب بالضرورة عن رأي اجمللة. تعب عن آراء ُكتَّاهبا ،وال رِّ • النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ مجا إىل أي لغة أخرى، • للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث ،بلغته األصلية أو مرت ً دون حاجة إىل استئذان صاحب النص. • جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر. يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت:
hira@hiramagazine.com
YEMEN دار النشر للجامعات الجمهورية اليمنية ،صنعاء ،الخط الدائري الغربي، أمام الجامعة القديمة Phone: +967 1 440144 GSM: +967 711518611 ALGERIA Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim GSM: +213 770 26 00 27 SUDAN مركز دار النيل ،مكتب اخلرطوم أركويت مربع 48منـزل رقم - 31اخلرطوم -السودان Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69 hirasudan@hotmail.com JORDAN شركة زوزك/مشيساين شارع عبد احلميد شرف ،بناية رقم61: عمان/األردن. Phone: +962 656 064 44 GSM: +962 775 935 756 hirajordan@hotmail.com UNITED ARAB EMIRATES دار الفقيه للنشر والتوزيع ص.ب 6677 .أبو ظبي Phone: +971 266 789920 MAURITANIA Phone: +2223014264
USA Tughra Books 345 Clifton Ave., Clifton, NJ, 07011, USA Phone:+1 732 868 0210 Fax:+1 732 868 0211 SAUDI ARABIA الوطنية للتوزيع Phone: +966 1 4871414 املكتب الرئيسي :شارع التخصصي مع تقاطع شارع األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار ص.ب 68761 :الرياض11537 : اجلوال00966504358213 : saudia@hiramagazine.com abdallahi7@hotmail.com Phone-Fax: +966 1 2815226 MOROCCO الدار البيضاء 70زنقة سجلماسة Société Arabo-Africaine de Distribution, )d'Edition et de Presse (Sapress 70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco Phone: +212 22 24 92 00 SYRIA GSM: +963 955 411 990
جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين عن: Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş İstanbul / Türkiye
صاحب االمتياز
مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو
املشرف العام نوزاد صواش
nsavas@hiramagazine.com
رئيس التحرير هانئ رسالن
مدير التحرير أجري أشيوك
املخرج الفين مراد عرباجي
املركز الرئيس HIRA MAGAZINE Kısıklı Mah. Meltem Sok. No:5 34676 Üsküdar İstanbul / Turkey Phone: +902163186011 Fax: +902164224140 hira@hiramagazine.com
مركز التوزيع 7ش الربامكة -احلي السابع -م.نصر/القاهرة تليفون وفاكس+20226134402-5 : اهلاتف اجلوال +201004871038 : مجهورية مصر العربية
نوع النشر جملة دورية دولية
Yayın Türü Yaygın Süreli
الطباعة
رقم اإليداع
1879-1306
لالشرتاك من كل أحناء العامل pr@hiramagazine.com
كانو يحتضنونهم بأعين دامعة" :نحن ننتظركم منذ مائة سنة".
م���ن علم���اء الب�ل�اد كالدكتور ش���فيق كورديج أس���تاذ الحديث
المدرس���ة األولى س���نة .1997أما اآلن فمدارس بوس���نة سما
س���ديش أس���تاذ الحديث في أكاديمية التربية اإلسالمية ،مدينة
األول���ى عل���ى صعي���د البوس���نة والهرس���ك ،وجامع���ة "ب���رج"
العلوم اإلس�ل�امية ،س���راييفو ،والدكتور كنعان موسيش أستاذ
وهك���ذا ب���دأ العم���ل الترب���وي س���نة ،1994وبني���ت
( ،)Bosna Semaالموج���ودة في أهم مدن البالد ،تعد في المرتبة بس���راييفو
()International Burch University
الت���ي تأسس���ت
ع���ام ،2008نصف من يدرس���ون بها من البوس���نة (بوش���ناق،
وصرب ،وكروات) ،والنصف اآلخر من ٢٢دولة عبر العالم.
ف���ي البوس���نة تتجاور قبور ش���هداء المرحل���ة العثمانية (من
تركي���ا ومصر والمغ���رب والش���ام )...مع مقابر ش���هداء حرب البوسنة األخيرة ،وهي العاشرة في سلسلة من الحمالت على
هذه النقطة األبعد من جغرافيا اإلسالم في أروبا ،لكنها األثقل،
بحصيلة 250ألف ش���هيد منهم ثالث���ة آالف من الصبيان .أما أيقونة الش���هادة فكان حظها أحد عش���ر ألف ش���هيد .من أبناء يوم���ا كامل���ة ،كأطول س���راييفو ،الت���ي امت���د حصاره���ا ً 1425
حصار على مدينة في التاريخ.
وف���ي قل���ب مقابر الش���هداء ،يرق���د القائد ال���ذي أحبه أهله
يعرف فاحتضنوا جثمانه بين بيوتهم" ،عبد اهلل" كما أوصى أن ّ
على ش���اهد قبره ،علي عزت بيغوفيتش .وعلى ذات الش���اهد عبادا إال هلل". َع ُ هده معهم" :نقسم أال نكون ً
وبينما ال زالت الجراح تلتئم ببطء ،ينبعث األمل من أبناء
الجيل الجديد .س���كن الطلبة الذي يبني جيل العلم والمحبة،
التماس السابق بين تقصدوا بناءه في خط َّ "يورت منبع األمل" َّ أبناء القوميات الثالث.
غنيا كان برنامج زيارات الركب الزائر ،وفد علماء حراء... ًّ
فمن مقبرة الش���هداء ،إلى مساجد س���راييفو العتيقة ،ومن كلية الدراس���ات اإلس�ل�امية إلى المعالم العثمانية بالمدن البوسنية. غي���ر أن بي���ت القصيد في زيارته ألرض البوس���نة كان المؤتمر
ال���ذي نظمته كلية العلوم اإلس�ل�امية بجامعة س���راييفو ومجلة
حراء بعنوان" :من إنسان الغاية إلى المجتمع الراشد ..قراءات
ف���ي االنبعاث الجديد من خالل الس���يرة النبوية" في س���راييفو يومي 14-13أبريل .2013
المش���اركات العلمي���ة كانت متنوع���ة؛ فقد افتت���ح المؤتمر
ف���ي أكاديمية التربية اإلس�ل�امية ،مدينة زنيتس���ا ،والدكتور فؤاد
بيه���اج ،والدكتور زهديا حس���نويش أس���تاذ الحدي���ث في كلية
الحديث في كلية العلوم اإلسالمية ،سراييفو.
أما وفد علماء حراء ،فقد ضم إلى جانب األستاذ مصطفى
أوزجان مستش���ار المجلة ،واألستاذ جمال ترك مدير أكاديمية
البحوث بإس���تانبول ،واألس���تاذ نوزاد صواش المش���رف العام
على المجلة ،نخبة من علماء العالم العربي ،كالدكتور حس���ن مك���ي من الس���ودان ،والدكتور إبراهي���م بيومي غانم من مصر،
والدكتور أحمد قعلول من تونس ،واألس���تاذ شفيق اإلدريسي م���ن المغ���رب ،واألس���تاذ جم���ال حوش���بي م���ن الس���عودية، والدكتور محمد باباعمي من الجزائر ،والدكتور سمير بودينار
أفكارا حول عالقة منهج التأس���ي م���ن المغرب ...كلهم ق���دم ً واالتباع في السيرة النبوية باالنبعاث الجديد ألمتنا اليوم.
وعل���ى هامش المؤتمر ،ح ّلقت األرواح في حفل النش���يد
والمديح ،وأجوائه البوس���نية المعطرة بشذى التاريخ وأخالق
اإللحاح على الفاتحي���ن .وحيثما حل ركب ح���راء إال و َت َج َّد َد ُ المضي ف���ي الطريق ...طريق تعميق األواصر بين أجزاء األمة ّ ف���ي كل م���كان ،وحمل رس���الة المحب���ة بين بني اإلنس���ان لئال
يتكرر ما حدث ذات يوم في هذه البالد .لقد كانت أمانة أهلها ال ينسوا إخوانهم في سالما إلخوانهم في كل مكان ،ورجاء أ ّ ً
تلك البالد ...بالد الرباط.
نتطرق إلى تحليقة حراء مع وفد من من هذا ،وكنا ّ نود أن ّ
علماء تركيا إلى مصر ،والتئام شملهم في ندو ٍة بدار العلوم في جامع���ة القاهرة؛ وكذلك حضور بع���ض علماء حراء في النهد
بمناسبة توزيع جوائز مسابقة كتاب "النور الخالد" التي شارك
فيها حوالي 110آالف شخص ،وكذلك رحلة قبرص وإحياء
ذك���رى ق���دوم طالئع الصحب الكرام إلى ت���كل الديار ...لكن
ذلك كله يحتاج إلى مقال آخر ...والسالم.
بحفل مش���هود في مس���رح س���راييفو ،ضم كلم���ة فضيلة مفتي البوس���نة وبعض كبار الش���خصيات ،ثم ش���هد مش���اركة كوكبة
(*) مدير مركز الدراسات والبحوث اإلنسانية واالجتماعية -وجدة /المغرب.
63
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
الشيخ حسن كافازوفتيش ،رئيس علماء البوسنة والهرسك.
أ.د .شفيق كورديش ،البوسنة.
أ.د .فؤاد سديش ،البوسنة.
كول���ن التربوية للمرأة .ثم تناول الكلمة الدكتور س���عيد ش���بار ميالدا م���ن المغ���رب ،ليتحدث ع���ن البناء الحضاري باعتب���اره ً مقدم���ا رؤيت���ه لمفه���وم البناء الحض���اري بوصفه ثاني���ا لألم���ة، ً ً أه���م أدوار األم���ة وش���رط إع���ادة بنائه���ا .أم���ا الدكتور س���مير ال لمعالم بودين���ار من المغرب كذلك ،فج���اءت مداخلته تحلي ً الش���خصية الريادية في بناء اإلنس���ان كما يطرحها األستاذ فتح اهلل كول���ن خاصة في كتابه "ونحن نقيم صرح الروح" ،لتختتم المداخالت بكلمة األستاذ نوزاد صواش المشرف العام مجلة ح���راء ال���ذي بين أه���م معالم وممي���زات فكر األس���تاذ فتح اهلل كولن كما بلوره في مشروع "الخدمة". وعل���ى ه���ذا مض���ى الركب ف���ي تلك الرب���وع ،ف���ي لقاءاته وزيارته للمؤسسات .فكانت الزيارة لوكالة األنباء األندونيسية " ،"Antara Newsولقاء مديرها الذي أعرب عن سعادته الغامرة
محيرة حي���ن ق���ال إن هذه هي باس���تقبال الوف���د ،ف���ي مفارق���ة ّ وفد من العلم���اء والمفكرين من أول م���رة ي���زور فيها الوكال��� َة ٌ العالم العربي .ثم التأم جمع الضيوف مع نخبة من المفكرين والكتاب األندونيسين على غداء مناقشة وحوار. بديعا ،في وق���د كان المش���هد ف���ي إحدى قاع���ات جاكرت���ا ً حفل إطالق النسخة اإلندونيسية من كتاب "ونحن نقيم صرح ال���روح" ،س���واء ف���ي كلم���ات االفتتاح الرس���مية للش���خصيات المدع���وة من تركيا وأندونيس���ا ،أو في ص���وت الحناجر الفتية ألبن���اء وبن���ات أندونيس���يا المغ���ردة بم���دح النبي علي���ه الصالة والس�ل�ام ،أو في الندوة الخاصة بتقديم الكتاب ،التي توج بها الحف���ل .وش���ارك فيها الضي���وف القادمون م���ن مختلف البالد العربية وتركيا ،إضافة إلى مفكرين وأكاديميين من أندونيسيا. وفي مدرس���ة قاريزما الوطنية ( )Kharisma Bangasaبجاكرتا، التق���ى وف���د علم���اء حراء م���ع المس���ؤولين عن هذه المدرس���ة وأخواته���ا .ح ًّقا لق���د كان اللقاء مع ثلة جدي���دة ممن "يقيمون صرح الروح" في تلك البالد.
في البوسنة ..جمال المعنى والمبنى
ندوة "من إنسان الغاية إلى المجتمع الراشد" ،البوسنة. السنة الثامنة -العدد (2013 )36
62
متلمس���ا خطى الس���ابقين الرواد ممن يواص���ل الركب المس���ير ً وصلو إلى تلك البالد الجميلة ...يصل البوسنة التي ما استطاع القبح أن ينال من شرفها أو ينتهك عذرية جمالها ،مهما غلت عاما ،برسالة من تضحياتها بأبنائها .بدأت القصة قبل عش���رين ً أهل البالد إلى األس���تاذ فتح اهلل كولن .أرس���ل األس���تاذ س���بعة من طلبته إلى هناك ،وحين لقيهم البوسنيون الكبار في السن،
ش���بع قلوبه���م بمعان���ي اإليم���ان من���اط الهداي���ة لإلس�ل�ام ،و َت ُّ بالوحي ،وس���بب اليقين في صدق رس���الته ،واصطباغ طبعهم بكري���م أخالقه ،وس���جايا الق���دوة من أبنائه ،حت���ى صار لطف ملمحا من مالمح معش���رهم ولين جانبه���م وظاهر تواضعه���م ً
أبناء أندونيسيا أينما كانوا.
أم���ا المناس���بة فمؤتم���ر دولي عق���ده في جاكرت���ا العاصمة
األندونيس���ية كرس���ي األس���تاذ فت���ح اهلل كولن بجامعة ش���ريف
هداي���ة اهلل اإلس�ل�امية الحكومي���ة ،بمناس���بة ص���دور النس���خة األندونيس���ية م���ن كت���اب األس���تاذ "ونحن نقيم ص���رح الروح"
أ.د .علي باردق أوغلو ،رئيس الشؤون الدينية السابق ،تركيا.
محورا ألش���غاله موضوع "بناء الذات يوم ،2013/4/2واتخذ ً
الحضاري���ة ومس���تقبل اإلنس���ان" ،بمش���اركة كوكبة م���ن علماء
ح���راء؛ م���ن مص���ر ،واألردن ،والجزائ���ر ،والمغ���رب ،وتركيا،
ال عن البلد المضيف أندونيسا. فض ً
افتت���ح المؤتمر بكلمة الدكتور علي أونصال مدير كرس���ي
األس���تاذ فت���ح اهلل كول���ن بجامعة ش���ريف هداية اهلل اإلس�ل�امية الحكومية ،التي تعد من أهم جامعات أندونيس���يا ،فهي جامعة
دولي���ة تضم إحدى عش���ر كلي���ة ،ويتعلم فيها واحد وعش���رون ألف طالب ،وكلمة مدير الجامعة الدكتور قمر الدين هدايت.
أ.د .عصمت بوشاتليش ،عميد كلية الدراسات اإلسالمية ،جامعة سراييفو.
وخ�ل�ال الجلس���تين العلميتي���ن للمؤتم���ر ،تن���اول الدكتور
عب���د الرحم���ن النقي���ب م���ن مصر الحدي���ث عن "الدي���ن الذي
ال يم���وت" ،ب���ل ينه���ض وإن كب���ت أمته ،والش���باب الذين هم م���ادة ه���ذا النه���وض ،واس���تعرض التحدي���ات الت���ي تواجهها
اس���تعادة إع���ادة البناء .أم���ا الدكتور عمار جيدل م���ن الجزائر،
فانطلق���ت مداخلته من وصف األس���تاذ فت���ح اهلل كولن للدائرة
مس���تعرضا القوانين المتعددة لبناء المفرغة التي تعيش���ها أمتنا، ً
ال���ذات الحضاري���ة من جديد ،مؤصلة من الرؤي���ة القرآنية .ثم تمحورت مداخلة الدكتور عماد الش���ريفين من األردن ،حول
أ.د .إبراهيم البيومي غانم ،مصر.
أهمية بناء اإلنسان الجديد في الرؤية النبوية ،وظهور رواد من المصلحي���ن الذين اضطلعوا بهذه المهمة ومنهم األس���تاذ فتح اهلل كولن ،ومرتكزات تربية اإلنسان الجديد عنده.
ثم تحدث الدكتور عثمان ش���هاب األستاذ بجامعة شريف
هداية اهلل بجاكرتا ،في قراءة تحليلية ذات طابع فلسفي لكتاب
"ونح���ن نقيم صرح الروح" باللغة األندونيس���ية .وجاءت بعده مداخل���ة الدكت���ورة أمان���ي بره���ان الدي���ن لوبي���س وكي���ل كلية
الدراس���ات العليا لش���ؤون التطوير بالجامعة التي تحدثت عن
تربية اإلنس���ان المس���لم المعاصر ،مع تركيز على رؤية فتح اهلل
أ.د .حسن مكي ،رئيس جامعة إفريقيا العالمية ،السودان.
61
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
ندوة "ونحن نقيم صرح الروح" ،جاكارتا.
د .عبد الرحمن النقيب ،مصر.
م���ع مؤسس���ة "س���يرينيتي" ( )Serenity Foundationالعامل���ة ف���ي لق���اء مع جمهور متن���وع أعاد من جديد مج���ال الحوار .فكان ً إلى األعين بل القلوب ،مش���هد األم���ة الواحدة الملتئمة حول المنهاج النبوي باختالف مجتمعاتها وتعدد انتماءاتها الجزئية. أم���ا برنامج زيارات ميلبورن ،فقد امتد لسلس���لة المدارس "التركي���ة األس���ترالية" هنالك ،ليقف عل���ى النجاحات المتميزة التي أضحت -بفضل اهلل -تحققها في مجاالت التربية والتعليم داخل المجتمع األس���ترالي ،واستفادة أبنائه من خدماتها ذات المس���توى الرفيع بتع���دد انتماءاتهم القومي���ة والدينية .وكمثال على ذلك ،فإن مدرس���ة "إش���ق" ( )Işıkفي ميلبورن ،التي صار
اس���مها ابت���داء من هذه الس���نة " ،"Siriusصنفت الس���نة الماضية ف���ي المرتب���ة الثانية على مس���توى والي���ة فيكتوري���ا (عاصمتها ميلبورن) من بين ما يقارب 500مدرسة أسترالية. امتدادا لهذه المجموعة المتنوعة لقد كانت رس���الة حراء، ً م���ن الخدمات الت���ي تقدمها األجي���ال الذهبي���ة الجديدة لتلك البالد بكل الحب .فمراكز الحوار المجتمعي التي تجمع كافة فرق���اء الوطن الواحد إل���ى مائدة اللقاء المش���ترك ،والمدارس التي أصبحت مش���اتل لزراعة بذور الوفاق والسلم العالميين، والمؤسس���ات األكاديمي���ة والمدني���ة الت���ي تخ���دم المس���لمين ومجتمعاته���م الجديدة ،كلها حلقات متصلة في هذه السلس���ة الذهبية من "الخدمة" في تلك الربوع الخضراء.
تشييد صرح الروح في أندونيسيا
ندوة "ونحن نقيم صرح الروح" ،جاكارتا.
أ.د .سعيد شبار ،المغرب. السنة الثامنة -العدد (2013 )36
60
ومن أستراليا ،إلى الضفة األخرى للمحيط الهادئ ،أندونيسا... غالبا ما ذل���ك األرخبي���ل الممت���د م���ن آالف الجزائر ،وال���ذي ً ُيذكر عالمة على أقصى نقطة في بالد المسلمينُ ،فيسمع عنها أو ُيق���رأ عند مال���ك بن نبي وهو يتحدث ع���ن "محور طنجة- ذكر بأبعاد "مؤتمر باندونغ". جاكرتا" ،أو ُي ِّ غير أن الميزة األهم لتلك البالد ،هي قصة اإلس�ل�ام فيها، الت���ي ال عالق���ة لها بالقوة .قصة اإلس�ل�ام في تل���ك البالد هي قصة فاتحي القلوب واألرواح ...التجار العرب المسلمين من حضرموت وعمان ،ثم من الهند ،ومن س���بقهم من تجار تلك الج���زر الذين قدم���وا إلى بغداد زمن الخليفة العباس���ي هارون الرشيد ،فعادوا يحملون في قلوبهم بذور اإلسالم األولى ،التي أنبتت بعد ذلك على أرض تلك البالد النائية المترامية األطراف، أكبر بلد مسلم في العالم اليوم ،يعيش فيه قرابة الـ %15منهم. فلي���س أعل���م منهم بأهمي���ة بناء ال���روح ،تلك الت���ي كانت
ومن تركيا األس���تاذ مصطفى أوزجان واألستاذ نوزاد صواش.
حدودا، فكأنم���ا ه���ي األمة الواح���دة التي ال تع���رف رس���التها ً
تتجلى إشراقاتها في تلك المفاوز النائية.
افتت���ح المؤتم���ر بكلم���ة مفت���ي الق���ارة األس���ترالية فضيل���ة
الدكتور إبراهيم أبو محمد ،التي تمحورت حول النبي األكرم
منيرا ،استنارت البشرية بسناه خالل النصف بوصفه ً سراجا ً الثاني من تاريخها ،فكان مبعثه إيذا ًنا بمرحلة جديدة من عمر اإلنس���انية .بع���د ذل���ك توالت المداخ�ل�ات العلمي���ة للمؤتمر. الدكتور محمد عبد اهلل الشرقاوي أستاذ ورئيس قسم الفلسفة
ندوة "ونحن نقيم صرح الروح" ،جاكارتا.
اإلس�ل�امية ومقارنة األديان بكلي���ة دار العلوم بجامعة القاهرة،
كان موضوع مداخلته هو مقومات بناء مجتمع مثالي من خالل المنهاج النبوي ،حيث فصلت مداخلته في األسس التي عليها
قام هذا المجتمع المثالي بالفعل ،س���واء في نس���يجه الذاتي أو في عالقاته بغيره من المجتمعات .أما األس���تاذ نوزاد صواش
فبين من خ�ل�ال مداخلته المش���رف الع���ام عل���ى مجلة ح���راءّ ، التي انس���ابت متدفقة بلغة أنيقة ،معالم المنهاج النبوي في فن
مستعرضا مواقف مضيئة من سيرة المصطفى كس���ب القلوب، ً
ف���ي فتح القلوب وكس���ب معركتها التي تف���وق في أهميتها أي معركة سواها ،لتختتم الجلسة مع الكلمات الدالة لفضيلة
أ.د .قمر الدين هدايت ،رئيس جامعة شريف هداية اهلل اإلسالمية ،جاكرتا.
الشيخ يحيى صافي إمام وخطيب جامع الكمبا بـ"سيدني".
ث���م كانت الجلس���ة الثانية الت���ي افتتحها األس���تاذ مصطفى
أوزج���ان مستش���ار مجل���ة ح���راء ،بكلم���ة جامعة ح���ول معاني
المبعث النبوي رحمة للعالمين ،ومسؤوليات اإلنسان المسلم مبرزا أمثلة من ع���ن تحقيق مقتضى تلك الرحمة في مجتمعهً ،
فك���ر األس���تاذ فتح اهلل كول���ن المبثوثة في كتب���ه ،والمتجلية في
حرك الدكتور "الخدمة" التي يؤديها طالبه عبر العالم .وبدوره ّ محم���د باباعم���ي مدي���ر معه���د المناه���ج بالجزائ���ر المش���اعر،
د .علي أونصال ،مدير كرسي األستاذ فتح اهلل كولن بجامعة شريف هداية اهلل اإلسالمية ،جاكرتا.
بحديث���ه عن القواع���د الكلية لبناء الحضارة من خالل الس���يرة
مس���تعيدا نم���وذج الصحب الكرام في تفس���ير جديد، النبوي���ة، ً يجعل كل مس���لم في تلك البالد يتمثل مسؤوليات "الصحبة".
أم���ا الدكتور س���مير بودين���ار مدير مركز الدراس���ات والبحوث اإلنسانية واالجتماعية بالمغرب ،فكانت مداخلته عن المنهاج النبوي وعالمية العالقات اإلنسانية ،منطل ًقا من خاصية الختم في رسالة النبي وعالقتها بعالمية دعوته.
ف���ي مدين���ة ميلب���ورن الت���ي انتق���ل إليها وف���د ح���راء بمعية
األس���تاذ محمد ياووزالر ،انعقد المؤتمر الثاني لحراء بتعاون
أ.د .عمار جيدل ،الجزائر.
59
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
فوق ربوع أستراليا
عل���ى م���دار األيام الخمس���ة بي���ن الس���ابع والحادي عش���ر من
فبراير 2013كانت "حراء" هناك ...في أس���تراليا ،تتابع مس���ير
الركب المنطلق في ربوعها الخضراء الشاس���عة ،وتتواصل مع الجمهور األسترالي من خالل مؤتمريها الكبيرين في "سيدني" و"ميلبورن" ،المنعقدين ضمن سلسلة "مؤتمرات حراء".
فباإلضافة إلى برنامج لقاءاته وزياراته المتنوع للمؤسسات
مؤتمر حراء ،سيدني ،أستراليا.
اإلس�ل�امية والتعليمي���ة والثقافية ومراكز الحوار في أس���تراليا، ش���ارك وف���د ح���راء ال���ذي ترأس���ه األس���تاذ مصطف���ى أوزجان مستش���ار المجلة ،وضم األستاذ نوزاد صواش المشرف العام عل���ى المجلة ،ومجموعة من "علماء ح���راء" من األكاديميين،
ف���ي مؤتمري���ن علميي���ن موضوعهم���ا "المنه���اج النب���وي :م���ن اإلنسان القدوة إلى المجتمع المثالي".
مدينة س���يدني ،الجامعة بين سحر طبيعتها الخالبة ،ودفء
المش���اعر المنبثق���ة من قل���وب أبنائها الجدد ونض���ارة عزمهم، احتضن���ت ي���وم 9فبراي���ر المؤتمر األول ،المنظم بش���راكة بين
أ.د .إبراهيم أبو محمد ،مفتي أستراليا العام.
مجلة حراء ومؤسسة "إسرا" ()ISRA
األكاديمية التي تنشط في
مرجعا مجاالت التعريف باإلسالم في أستراليا ،حتى صارت ً
ف���ي قضاياه لكثير من الجهات العلمي���ة والحكومية ،بفضل ما أنتجت���ه من دراس���ات حول موضوع���ات اإلس�ل�ام واالندماج وش���ؤون المس���لمين في البالد ،وما تعقده من دورات تدريب
لألس���اتذة والطالب من أبناء المس���لمين بالبالد ،الذين يعدون
بمئ���ات اآلالف (يمثل���ون %2,2من مجموع س���كان البالد)...
المؤتم���ر ال���ذي كان مح���ط اهتمام وس���ائل اإلع�ل�ام المحلية، واس���تضافت محط���ات اإلذاع���ة ضيوف���ه للحدي���ث معهم عن
أ.د .محمد باباعمي ،الجزائر.
مضامين���ه ،م َّثل اس���تعادة حية لمفهوم األم���ة الواحدة وروحها الجامعة .فهو قد انعقد في أس���تراليا ،الجزء الجديد من "عالم
الخدم���ة" ،والمجتم���ع المتواض���ع ف���ي انفتاح���ه عل���ى اآلخ���ر واهتمامهة بالتعرف على كل جديد ...ومن هنا تجليه كمجال
للفرص الواعدة أمام خطاب اإلس�ل�ام لإلنس���ان إذا ما أحسن
تقديم مضمونه بالحكمة ،ونشر دعوته بالتلطف والحسنى.
ث���م إن المؤتم���ر ق���د تمي���ز بحض���ور وازن لقي���ادات البالد
الدينية والعلمية ،وبمش���اركة أس���اتذة من مختلف أنحاء العالم
اإلس�ل�امي؛ حيث حاضر من العالم العربي البروفيسور محمد
أ.د .محمد عبد اهلل الشرقاوي ،مصر. السنة الثامنة -العدد (2013 )36
58
عب���د اهلل الش���رقاوي م���ن مص���ر ،والدكت���ور محمد بن موس���ى
باباعم���ي من الجزائر ،والدكتور س���مير بودين���ار من المغرب،
أنشطة ثقافية د .سمير بودينار*
رسالة حراء الخفاقة في اآلفاق واألنفس عل���ى الرب���وع الشاس���عة أطل���ت بالح���ب... متنتقل���ة كالنحلة الدؤوبة المعطاء بين الرياض
المزهرات في كل األنحاء ،على نأي المسافات
وتباعد الديار بين األقطار ،بل القارات .إذا كان العسل المص ّفى
خالصة رحيق الزهر ،فإن ش���هد "حراء" ،ثمرة الحب المتبادل بينه���ا وبي���ن جمهورها الواس���ع ف���ي كل مكان .وحيثم���ا ُو ِجد
جمهور حراء ح ّلت ملبية ،واصلة رحم المعنى ووشائج الفكر. وعل���ى هذا كان اللقاء ...في أكثر من دولة وقارة ومؤتمر،
من مشرق الشمس في أستراليا ،وعلى ربوع أرخبيل أندونيسيا، إل���ى موطن الجمال في البوس���نة .واصلة "حراء" ما انقطع من ص�ل�ات العرف���ان والحكم���ة ،ومخاطبة جموع المس���لمين في تلك البالد ،وغير المس���لمين كذلك من أرباب العقول الوثابة للمعرف���ة ،والنف���وس المتزن���ة بالفض���ل في كل م���كان ،تحقي ًقا لمقص���د التعارف بين الناس من ش���عوب األرض ...أما كانت حراء دوما محضن الرسالة للعالمين؟!
57
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
واالسترواح في ظلها؛ ألن التزكية بهذا المقترب القرآني ذات حمولة وظيفية وليست فقط استيطيقية.
Reza Afshari an Essay on islamic cultural relativism in the discourse of Human Rights.
Douglas Hodgson, Individual duty Within a Human Right
جـ -الجزاء:
وهن���ا يب���رز دور المس���ؤولية والمحاس���بة؛ إذ ب���رز أن على
اإلنسان مسؤولية العمل في ذاته وفي محيطه ،وفق قيم الوحي مكنه من الحاكمة وشرائعه زود بالقدرات التي ُت ّ ِّ الموجهة .وقد ِّ
مس���خرا له ،وكان ال لفعله االضط�ل�اع بذلك ،وكان الكون قاب ً ً اب ���را له ﴿و َن َّز ْل َنا َع َل ْي َك ا ْل ِك َت َ متستجيبا لتس���اؤالتهَ : ً الوحي ُم َي َّس ً ين﴾(النحل.)89: ِت ْب َيا ًنا ِل ُك ِّل َش ْي ٍء َو ُه ًدى َو َر ْح َم ًة َو ُب ْش َرى ِل ْل ُم ْس ِل ِم َ فإن ذلك يس���تتبع المحاسبة التي ُيجزى بمقتضاها المحسنون عن إحس���انهم ،والمسيئون عن إساءتهم .وهذا البناء هو الذي يحرر الشعور المتسامي بالواجب ،وهو شعور انزرع في نفوس
المس���لمين ،فأثمر المس���لكيات والممارسات التي رفعت ،في جمالي���ة ص���رح الحض���ارات والثقاف���ات اإلس�ل�امية المتنوعة. وه���و ما انتب���ه إليه الباحث األمريك���ي Jason Morgan Foster
حي���ن ق���ال" :وألن الواجبات لها مركزية في االعتقاد والتطبيق
( )7انظر Jason Morgan Fosterكتاب جامعة ييل عن حقوق اإلنسان والتنمية .69/8 Ben Saul, Supra-note 62, at 616.
آلد َم َفس َج ُدوا ِإ َّ ِ ﴿وإ ِْذ ُق ْل َنا ِل ْلم َ ِ ِ ان ِم َن اس َتكْ َب َر َو َك َ تعالىَ : يس َأ َبى َو ْ الئكَ ة ْ َ اس ُج ُدوا َ َ ال إ ِْبل َ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َه ل وا ع ق ف ي وح ر ن م ه ي ف ت خ ف ن و ه ت ي و س ا ذ إ ف ﴿ وقوله: ، (البقرة)34: ﴾ ين ين د اج س ِ َ َ َ َّ ْ ُ ُ َ َ َ ْ ُ الْكَ ا ِفرِ َ َ ْ ُ ََُ ُ َ ون﴾(ص ،)73-72:وقوله عند طوافه بالكعبة" :ما ���ج َد ال َْم َ ال ِئكَ ُة ُكل ُُّه ْم َأ ْج َم ُع َ َف َس َ أطيبك وأطيب ريحك ،ما أعظمك وأعظم حرمتك .والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤم���ن أعظ���م عن���د اهلل حرمة منك" (رواه اب���ن ماجة وصحح���ه األلباني في صحي���ح الترغيب .)630/2وقول���ه " :كل المس���لم على المس���لم ح���رام دمه وعرض���ه وماله" (أخرجه
مس���لم رق���م الحدي���ث ،)2564وغي���ر ذلك من اآلي���ات الكريمات واألحاديث الش���ريفة. ( )10جالل الدين السيوطي ،حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة .10/2
()11 ين﴾(المومنون،)12: ﴿و َل َق ْد َخ َل ْق َنا ا ِ ال َل ٍة ِم ْن ِط ٍ ان ِم ْن ُس َ إل ْن َس َ من أدلة ذلك قوله تعالىَ :
ٍ إل ْنس ِ َ ِ َ ين﴾(السجدة،)7: ان ِم ْن ِط ٍ وقوله تعالى﴿ :ا َّلذي أ ْح َس َن ُك َّل َش ْيء َخ َل َق ُه َو َب َدأ َخ ْل َق ا ِ َ ���ن ٍ ���ان ِم ْن َص ْل َص ٍ ون﴾(الحجر،)26: ﴿و َل َق ْد َخ َل ْق َنا ا ِ إل ْن َس َ ال ِم ْن َح َم ٍإ َم ْس ُ وقوله س���بحانهَ : ون﴾(الروم.)20: ﴿و ِم ْن َآيا ِت ِه َأ ْن َخ َل َقكُ ْم ِم ْن ُت َر ٍ اب ُث َّم ِإ َذا َأ ْن ُت ْم َب َش ٌر َت ْن َت ِش ُر َ وقوله َ : ( )12انظ���ر بهذا الخصوص ،كتاب اإلس�ل�ام وهموم الن���اس ،أحمد عبادي ،كتاب األمة أيضا نماذج عائش���ة رضي اهلل عنها ،وأبي ذر، الع���دد ،49:الدوح���ة 1996م .وانظر ً والحس���ين بن علي ،وعبد اهلل بن الزبير من الصحابة ،وفي جيل التابعين نماذج
س���عيد بن جبير ،وأبي مس���لم الخوالني ،وفي جيل أتباع التابعين نماذج أبي حنيفة،
البس���يطة إل���ى الواجب���ات التي نراها ف���ي اإلعالن���ات العالمية
ومالك ،وسفيان الثوري ،وغيرهم.
أن���ه س���ئل ع���ن طلب العل���م أفرض ه���و؟ فقال" :أم���ا على كل
الناس فال" يعني به الزائد على ما ال يس���ع المس���لم جهله من أيضا" :أما من كان فيه موضع لإلمامة أركان وغيره���ا ...وقال ً فاالجته���اد ف���ي طلب العل���م عليه واجب، واألخ���ذ في العناية ُ
بالعلم على قدر النية فيه"( ،)23فانظر إلى هذه الدقة في التمييز
بين الواجب ومناطه.
ِ او ِ ات َو َما ِف���ي ا َ َ ض َو َأ ْس َ���ب َغ َع َل ْيكُ ْم أل ْر ِ ���ر ْوا َأ َّن ا َ هلل َس َّ ���م َ الس َ ���خ َر لَكُ ْ ﴿أل ْ َ���م َت َ ���م َما في َّ اه���ر ًة َو َب ِ ِن َعم ُ ِ اس َم ْن ُي َجا ِدلُ ِفي ا ِ اب ال ُه ًدى َو َ هلل ب َِغ ْي���رِ ِع ْل ٍم َو َ ال ِك َت ٍ الن ِ اط َن��� ًة َو ِم َن َّ َ ���ه ظَ َ ُم ِنيرٍ ﴾(لقمان.)20:
( )14أحمد عبادي ،مفهوم الترتيل في القرآن المجيد :النظرية والمنهج.
ال ِل ُي َقرِّ ُبو َنا ِإلَى ﴿ما َن ْع ُب ُد ُه ْم ِإ َّ كاتخاذ كفار مكة األصنام واس���ط ًة ،وقو ِلهمَ : ا ِ هلل ُز ْل َفى﴾(الزمر.)3:
()15
( )16مف���ردات ألف���اظ الق���رآن ،تحقي���ق عدن���ان داوودي ،دار القلم ،دمش���ق ،الطبعة،3: 1423هـ2002/م ،ص.224:
( )17التعريفات ،تحقيق األبياري ،بيروت ،لبنان ،دار الكتاب العربي ،ط1985:م ،ط.116: ( )18التحرير والتنوير ،الشركة التونسية للتوزيع.26/3 ، ()19
حرية الفكر في اإلسالم ،ص.73:
()20
أحمد الريسوني في العيد من حواراته.
( )21الطاهر بن عاشور ،أصول النظام االجتماعي في اإلسالم ،دار الكتاب ،تونس ،ط 1977م ،ص.162:
(*) األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء /المغرب.
الهوامش
Kimberly younce schooley, Comment, cultural Sovreignty, Islam and Human Rights, Toward a communitarian Revision.
Abdullah Ahmed An-Naim: Human Right in The Muslim World. ( )3في كتابه Multicultiralism and the politic of recognition
YALE, human rights and development, Vol.8 pp.106. )(1
56
)(10
( )22الموافقات.282/1 ، تعبيرا عن المقصد الكلي لإلس�ل�ام ،في جوابه لرس���تم بعد أن ( )23قال ربعي بن عامر ً
)(2
"ابت ِعثنا لنخرج من ش���اء من عبادة العباد إلى عبادة اهلل س���أله" :لم جئتم؟" قال ُ :
)(4
فما بعدها ،أحداث سنة 14هجرية.
Fernando Teson; International Human Right, and cultural relativism.
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
وف���ي الق���رآن الكري���م نس���يج متكامل ف���ي اآليات به���ذا الصدد ،منها قول���ه تعالى:
()13
مجم ُلها من مدخل الواجب"(.)22
م���ا انتب���ه إليه ه���ذا الباحث .منه���ا ما جاء ع���ن إمامنا مالك
)(8
( )9ومن ذلك الوفرة في اآليات واألحاديث التي واكبت التنشئة والتشريع ،من مثل قوله
تركيبا م���ن اإلحاالت اإلس�ل�امية ،وهم���ا إل���ى ح���د بعيد أكث���ر ً
وف���ي التراث العلمي اإلس�ل�امي وفرة من الش���واهد تؤكد
)(6
Discourse pp: 41- 60, 2003.
اإلس�ل�اميين ،فإن لغ���ة وبني���ة الواجبات تطورت في الش���ريعة
لحقوق اإلنس���ان ،فالشريعة اإلسالمية عبارة عن مخطط عمل اجتماعي عقالني المعنى لكل أفعال المسلمين ،والتي قد ُأ ّطر
)(5
وح���ده "...اب���ن جرير الطبري ،تاريخ األمم والملوك ،دار الفكر ،ط1979م23/3 ،
وقال الجرجاني صاحب التعريفات" :الحرية في اصطالح
أهل الحقيقة :الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العالئق
واألغيار ،وهي على مراتب :حرية العامة عن رق الش���هوات.
وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق. رق الرسوم واآلثار النمحاقهم في وحرية خاصة الخاصة عن ّ
تج ّلي نور األنوار"(.)17
ال إ ِْك َر َاه وه���و م���ا ينص عليه الق���رآن الكريم ف���ي اآلي���ةَ ﴿ : وه���ا َو َأ ْن ُت ْم َل َها الد ِ ِف���ي ِّ ين﴾(البق���رة ،)256:وف���ي اآلي���ةَ ﴿ :أ ُن ْل ِز ُم ُك ُم َ ���ن َر ِّب ُك ْم َف َم ْن َكارِ ُه َ ﴿و ُق ِل ا ْل َح ُّق ِم ْ ون﴾(ه���ود ،)28:وك���ذا اآلي���ةَ : َش َاء َف ْل ُي ْؤ ِم ْن َو َم ْن َش َاء َف ْل َي ْك ُف ْر﴾(الكهف،)29:وفي اآلية﴿ :إ َِّن َه ِذ ِه ال﴾(اإلنس���ان ،)29:وفي اآلية: ���اء َّات َخ َذ ِإ َلى َر ِّب ِه َسبِي ً َت ْذ ِك َر ٌة َف َم ْن َش َ ين﴾(يون���س ،)99:وفي ﴿ َأ َف َأ ْن َ ���ت ُت ْك ِر ُه َّ ���اس َح َّتى َي ُكو ُن���وا ُم ْؤ ِم ِن َ الن َ اآليةَ ﴿ :ل ْس َت َع َل ْيهِ ْم ب ُِم َس ْي ِطرٍ ﴾(الغاشية.)22: وق���د س���يقت كلم���ة "إك���راه" بالتنكي���ر ف���ي قول���ه تعال���ى: ي���ن﴾ ،والتنكير عند علم���اء األصول ،يفيد ﴿ َ الد ِ ���ر َاه ِف���ي ِّ ال إ ِْك َ االس���تغراق ل���كل مرتبة أو نوع من اإلك���راه .قال اإلمام محمد الطاه���ر بن عاش���ور -رحمه اهلل -في تفس���ير آي���ة نفي اإلكراه؛
نصا ،وهي البق���رة " :256ج���يء بنف���ي الجنس لقصد العم���وم ًّ دليل إبطال اإلكراه بسائر أنواعه؛ ألن أمر اإليمان يجري على
االستدالل والتمكين من النظر"(.)18
وم���ا أجم���ل ما قال عب���د المتع���ال الصعيدي به���ذا الصدد
في كتابه "حرية الفكر في اإلس�ل�ام"" :مثل المرتد مثل الكافر
األصلي في الدعوة إلى اإلسالم ،فكما ُي ْد َعى الكافر األصلي في اإلس�ل�ام بالحكمة والموعظة الحس���نة ويجادل بالتي هي
أحسن ،كذلك يدعى المرتد إلى العودة إلى اإلسالم بالحكمة والموعظة الحس���نة ويجادل بالتي هي أحس���ن ،وال يكره على
الع���ودة إليه بوس���يلة من وس���ائل اإلكراه ،كما ال يك���ره الكافر
األصلي على اإلسالم بهذه الوسائل أيضا"(.)19
وقد أحسن بعض الدارسين حين فكك الردة إلى قسمين:
مركبة ،فيها االرتداد عن الدين ومفارقة الجماعة والعمل على إلحاق األذى بها ،وردة بس���يطة فيها االرتداد عن الدين فقط.
وق���د ذه���ب العلماء إل���ى أن الردة غي���ر المركبة تج���ري عليها ين﴾(.)20 أحكام قوله تعالىَ ﴿ : الد ِ ال إ ِْك َر َاه ِفي ِّ فالحري���ة في المنظومة التش���ريعية اإلس�ل�امية هي األصل، ق���ال محم���د الطاه���ر بن عاش���ور" :الحرية وصف فطري نش���أ عليه البشر ،وبه تصرفوا في أول وجودهم على األرض ،حتى
حدثت بينهم المزاحمة ،فحدث التحجير"(.)21
بـ -التكليف:
يبرز اإلنس���ان في منظومة اإلس�ل�ام االعتقادية والتصورية، المؤهل الذي تعبر منه القيم واألخالق، باعتباره الجسر الكوني َّ والتش���ريعات الحامل���ة لم���راد اهلل التكليفي من اإلنس���ان تجاه نفسه ومحيطه الكوني ،إلى البعدين الزماني والمكاني ،لتصبح ج���زءا من التاريخ والحياة .ويب���رز التكليف الملقى على عاتق ً اواتِ َ ���م َ الس َ ه���ذا المخلوق (األمانة)ِ ﴿ :إ َّنا َع َر ْض َنا األ َما َن َة َع َلى َّ َوا َ ض َوا ْل ِجب ِ ���ن َأ ْن َي ْح ِم ْل َن َها َو َأ ْش��� َف ْق َن ِم ْن َها َو َح َم َل َها أل ْر ِ ���ال َف َأ َب ْي َ َ ال﴾(األح���زاب ،)72:باعتباره تكلي ًفا وما َج ُهو ً ا ِ ���ه َك َ إل ْن َس ُ ���ان ِإ َّن ُ ان َظ ُل ً حدودا ،إذ الكون كله في هذه المنظومة حص���را وال ال يع���رف ً ً مس���رح لفعل اإلنس���ان وعتاد له .فالنوع اإلنساني كله موضوع فعله األخالقي ،كما الكون كله. وتب���رز مقوم���ات القي���ام بالواج���ب ف���ي ه���ذه المنظوم���ة االعتقادية والتصورية من خالل: هلل ﴿وا ُ -1تزويد اإلنس���ان بالعقل وجعله من���اط التكليفَ : ِ ُ ِ َ ون َش ْ���ي ًئا َو َج َع َل َل ُك ُم ���م َ ال َت ْع َل ُم َ ���م ِم ْ ���ن ُب ُط���ون أ َّم َهات ُك ْ أ ْخ َر َج ُك ْ ار َوا َ الس ْم َع َوا َ ون﴾(النحل.)78: أل ْف ِئ َد َة َل َع َّل ُك ْم َت ْش ُك ُر َ أل ْب َص َ َّ -2المواءم���ة بي���ن اإلنس���ان والكون من جهة "التس���خير": ِ او ِ ات َو َم���ا ِف���ي ا َ ض َج ِم ًيعا أل ْر ِ ﴿و َس َّ ���م َ َ الس َ ���خ َر َل ُك ْ ���م َم���ا ف���ي َّ ِم ْن ُه﴾(الجاثية ،)13:وبين اإلنسان والوحي من جهة ثانية "التيسير": لذ ْك ِر َف َه ْل ِم ْن ُم َّد ِكرٍ ﴾(القمر.)40: آن ِل ِّ ﴿و َل َق ْد َي َّس ْر َنا ا ْل ُق ْر َ َ ِ ال ن إل ا و ���ن ج ل ا ���ت ق ل خ ���ا م ﴿و الخل���ق: قصدي���ة -3 ِ ْ َ ���س ِإ َّ ََ َ ْ ُ َّ َ ْ َ
يد َأ ْن ُي ْط ِع ُم ِ ِلي ْعب ُد ِ ون إ َِّن يد ِم ْن ُه ْم ِم ْن رِ ْز ٍق َو َما ُأرِ ُ ون َ ما ُأرِ ُ َ ُ ِ ِ ين﴾(الذاريات.)58-56: ت م ل ا ة و ق ل ا و ذ اق ز الر و ه ْ ْ ُ ُ ا َ هلل ُ َ َّ َّ ُ َّ َ ُ -4بنائي���ة الش���رع والعقي���دة ووحدتهم���ا ومفهوميتهم���ا، فمقاصدهم���ا ،وأوامرهم���ا ،ونواهيهما واضح���ة قابلة للتعقل، ُ وتب ُّين ومتكامل���ة تحرر تماس���كا ُي ِّ ً مكن من تحدي���د األولويات َ مراتب األعمال. اها ويعتبر تكليف اإلنس���ان بتزكية نفسهَ ﴿ :ق ْد َأ ْف َل َح َم ْن َز َّك َ
اها﴾(الشمس ،)10-9:إفادة بالتأسي ممن تم اب َم ْن َد َّس َ َ و َق ْد َخ َ ﴿ه َو ا َّل ِذي َب َع َث ِفي ا ُ ين تكليفه بريادة هذا الفعل عمرانياُ : أل ِّم ِّي َ ًّ ِ ِِ رس���و ً ِ ِ اب ���م ا ْل ِك َت َ َ ُ ���م َو ُي َع ّل ُم ُه ُ ���م َآياته َو ُي َز ّكيهِ ْ ���م َي ْت ُل���و َع َل ْيهِ ْ ال م ْن ُه ْ ِ ِ ِ ِين﴾(الجمعة.)2: ال ٍل ُمب ٍ َوا ْلح ْك َم َة َوإ ِْن َكا ُنوا م ْن َق ْب ُل َلفي َض َ يعتبر هذا التكليف ،رافعة عملية تس���تند على الواجب إزاء واجتماعا من ضم���ان الحقوق ف���ردا الح���ق ،لتمكين اإلنس���ان ً ً
55
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
في���ه التجان���ف ع���ن االقتص���ار عل���ى اإلس���تراتيجيات الفوقية، والتش���ريعات غي���ر المرفقة بالتدابي���ر اإلجرائي���ة التنزيلية على أرض الواقع ،في مراعاة لكافة مقتضيات السياق.
أوالً :المرتكزات
يروم هذا المبحث األول ،إبراز المرتكزات التي يتأسس عليها مقصد ضمان حقوق اإلنسان في اإلسالم.
أ -التكريم:
بارزا من المعالم يشكل مبدأ التكريم اإللهي للبشر، ّ معلما ً ً الت���ي تس���تنبط منه���ا مقصدية ضم���ان حقوق اإلنس���ان ،وذلك اه ْم ِفي ﴿و َل َق ْد َك َّر ْم َنا َب ِني َ آد َم َو َح َم ْل َن ُ تأسيسا على قوله تعالىَ : ً ِ ِ ن ل ض ف و ات ب ي الط ن م م اه ن ق ز ر و ر ح ب ل ا و اه ْم َع َلى َك ِثيرٍ ِم َّم ْن ِ ِ ْ ْ َ َ َّ َ ُ ���ر َ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َّ ّ َ ا ْل َب ِّ ال﴾(اإلس���راء .)70:فحين يتم تجذير الوعي بالتكريم َخ َل ْق َن���ا َت ْف ِضي ً في كيان الفرد ،وتتم مواكبة ذلك بإتاحة المقومات الديداكتيكية للتنش���ئة ،والمقوم���ات التش���ريعية للنهوض والحماي���ة( ،)9فإنه يسهل أن ينبثق في حالة تهديد هذا التكريم ،مثل رد فعل عمر بن الخطاب المشهور حين قال لعمرو بن العاص وقد ظلم قبطيا" :متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"(.)10 ً ًّ ومن مقومات هذا التكريم في القرآن والسنة:
-1اإليجاد -2تكري � � ��م إحس � � ��ان التقويم :وهو المش���ار إلي���ه في اآلية ()11
يم﴾(التين ،)4:وكذا الكريمةَ ﴿ :ل َق ْد َخ َل ْق َنا ا ِ إل ْن َس َ ان ِفي َأ ْح َس ِن َت ْق ِو ٍ ﴿و َص َّو َر ُك ْم َف َأ ْح َس َن ُص َو َر ُك ْم﴾(التغابن.)3: اآليةَ : -3تكري � � ��م إعظ � � ��ام الدور :وه���و تكريم يظه���ر من خالل ﴿ه َو َأ ْن َش َأ ُكم ِم َن ا َ ض أل ْر ِ التكليف بإعمار األرض كما في اآليةُ : ْ اكم ِفي ْا َ ض أل ْر ِ اس َت ْع َم َر ُك ْم ِف َيها﴾(هود ،)61:واآليةَ : َو ْ ﴿و َل َق ْد َم َّك َّن ُ ْ ون﴾(األعراف،)10: ال َم���ا َت ْش ُ ِ���ش َق ِلي ً ���ك ُر َ ���م ِف َيه���ا َم َعاي َ َو َج َع ْل َن���ا َل ُك ْ وكذا اآلية﴿ :ا َّل ِذي َج َع َل َل ُكم ا َ ض َم ْه ًدا َو َس َ���ل َك َل ُك ْم ِف َيها أل ْر َ ُ ال﴾(طه.)53: ُس ُب ً ويس���جل به���ذا الصدد أن كبيرا حص���ل بعد فترة ً ارتكاس���ا ً التأسيس هذه ،ألسباب متداخلة ال يتسع المقام هنا لذكرها(.)12 -4الخالفة :تعكس خالفة اإلنس���ان في األرض أس���مى ال ِئ َك ِة ِإ ِّني َج ِ اع ٌل ﴿وإ ِْذ َق َ ال َر ُّب َ ���ك ِل ْل َم َ مرات���ب التكريم اإللهي؛ َ ِف���ي ا َ ���د ِف َيها َو َي ْس��� ِف ُك أل ْر ِ ض َخ ِلي َف ًة َقا ُلوا َأ َت ْج َع ُل ِف َيها َم ْن ُي ْف ِس ُ ِ ِ ال ال ِإ ِّني َأ ْع َل ُم َما َ س َل َك َق َ ِّ الد َم َاء َو َن ْح ُن ُن َس��� ِّب ُح ب َِح ْم���دكَ َو ُن َق ّد ُ ون﴾(البقرة.)30: َت ْع َل ُم َ -5التسخير :كما في اآليات﴿ :ا ُ ِ او ِ ات الس َم َ هلل ا َّلذي َخ َل َق َّ السنة الثامنة -العدد (2013 )36
54
���ز َل ِم َن الس���ما ِء َم ًاء َف َأ ْخر َج بِ��� ِه ِم َن ال َّثمر ِ َوا َ ات رِ ْز ًقا أل ْر َ ض َو َأ ْن َ َّ َ َ َ َ ���خ َر َل ُك ُم َل ُك ْم َو َس َّ ���خ َر َل ُك ُم ا ْل ُف ْل َك ِل َت ْج ِر َي ِفي ا ْل َب ْح ِر ِب َأ ْم ِر ِه َو َس َّ
ا َ ���خ َر َل ُك ُم ���ر َدا ِئ َب ْي ِن َو َس َّ ���ار َ و َس َّ ���خ َر َل ُك ُم َّ أل ْن َه َ الش ْ ���م َ س َوا ْل َق َم َ وه َوإ ِْن َت ُع ُّدوا ِن ْع َم َة ال َّل ْي َ ���ار َ وآ َت ُ ���ل َو َّ اك ْم ِم ْن ُك ِّل َما َس��� َأ ْل ُت ُم ُ الن َه َ ()13 ا ِ ار﴾(إبراهيم. )34-32: هلل َ وها إ َِّن ا ِ إل ْن َس َ ال ُت ْح ُص َ ان َل َظ ُل ٌ وم َك َّف ٌ ���خر َل ُكم َما ِف���ي ا َ َ ض أل ْر ِ ���ر َأ َّن ا َ هلل َس َّ َ ْ ق���ال تعال���ى﴿ :أ َل ْ ���م َت َ ���م َاء َأ ْن َت َق َع َع َلى َوا ْل ُف ْل َك َت ْج ِري ِفي ا ْل َب ْح ِر ِب َأ ْم ِر ِه َو ُي ْم ِس ُ الس َ ���ك َّ ال ِبإ ِْذ ِن ِه إ َِّن ا َ اس َلر ُء ٌ ِ ا َ يم﴾(الحج.)65: ض ِإ َّ أل ْر ِ هلل ب َّ وف َرح ٌ ِالن ِ َ
-6إي � � ��داع القدرة على وس � � ��م األش � � ��ياء من أج � � ��ل تعقلها، آد َم ا َ ���م ���م َ وتوظيفه � � ��ا :ق���ال تعال���ىَ : أل ْس َ ﴿و َع َّل َ ���م َاء ُك َّل َه���ا ُث َّ
ِ ال ِء إ ِْن ُك ْن ُت ْم ���ما ِء َه ُؤ َ ال ِئ َك ِة َف َق َ ���م َع َل���ى ا ْل َم َ ال َأ ْنب ُِئوني ِب َأ ْس َ َع َر َض ُه ْ ين﴾(البق���رة ،)31:مم���ا يمك���ن اإلنس���ان م���ن تنمي���ة قدرات���ه َصا ِد ِق َ اإلدراكي���ة الت���ي تس���عفه في تنمية اس���تقالليته من خ�ل�ال تزايد قدرته على الفعل في الكون بالتس���خير ،ولذلك يس���مي بعض الباحثين العلوم الكونية "علوم التسخير"(.)14 -7الوحي/الكلم � � ��ات :وه���و المس���تفاد م���ن العدي���د م���ن آد ُم ِم ْن ر ِّب ِه َك ِلم ٍ اب اآليات كما في قوله تعالىَ ﴿ :ف َت َل َّقى َ ات َف َت َ َ َ ِ ���ه ب َِك ِلم ٍ َع َلي ِه﴾(البق���رة ،)37:واآلي���ةِ َ : ���ات ي���م َر ُّب ُ َ ﴿و ِإذ ْاب َت َل���ى إ ِْب َراه َ ْ ال ِإ ِّني َج ِ اس إ َِم ًاما﴾(البقرة.)124: َف َأ َت َّم ُه َّن َق َ اع ُل َك ِل َّلن ِ واإلفادة من قدرة األس���ماء ومن إيتاء الكلمات ،ال يمكن أن تت���م ف���ي منظوم���ة الوح���ي إال بالنظ���ر والتفك���ر والتع ُّق���ل؛ ّ أوج ِب الواجبات بعد اإليمان الفطري فاالستدالل باألدلة من َ ِ بوب في الجب ّلي .وإلى هذا ذهب البخاري -رحمه اهلل -حيث َّ اع َل ْم كتاب���ه "ب���اب العلم قبل القول والعمل لق���ول اهلل َ ﴿ :"ف ْ هلل﴾(محمد.)19: َأ َّن ُه َ ال ِإ َل َه ِإ َّ ال ا ُ الشارع -8إتاحة العالقة المباشرة بين العبد وربه :فقد ألغى َّ أي وس���اطة بينه وبين عبا ِده تفس���د االعتقاد الجازِ َم به الحكيم َّ ()15 يب ﴿و ِإ َذا َس َأ َل َك ِع َبا ِدي َع ِّني َف ِإ ِّني َق ِر ٌ س���بحانه ،قال تعالىَ : اع ِإ َذا َد َع ِ ان َف ْل َي ْس َت ِج ُيبوا ِلي َو ْل ُي ْؤ ِم ُنوا بِي َل َع َّل ُه ْم الد ِ يب َد ْع َو َة َّ ُأ ِج ُ ون﴾(البقرة.)186: َي ْر ُش ُد َ -9الحري � � ��ة :قال الراغ���ب األصفهان���ي" :الحرية ضربان: األول م���ن ل���م يجر علي���ه حكم الش���يء ،نحو "الح���ر بالحر". والثاني :من لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والش���ره على المقتنيات الدنيوية ،وإلى العبودية التي تضاد ذلك أش���ار النبي بقوله" :تعس عبد الدرهم ،تعس عبد الدينار" ،وقيل: الرق"(.)16 عبد الشهوة أذل من عبد ّ
المس���تقبِلة .وألن المصداقي���ة الثقافي���ة له���ذه الحق���وق ل���دى
الكونية ،بيد أن الثانية تقتصر على النظر في كيفية زرع وفس���ل
الجه���ود الرامي���ة إل���ى تعوي���ض الف���رض واإلقح���ام واإلل���زام
غي���ر أن���ه مع انبث���اق الجي���ل الثالث م���ن حقوق اإلنس���ان،
المتلقي���ن محوري���ة في عملية تملكهم لها ،فإنه ينبغي تش���جيع بالتوطين واإلفهام واإلسهام .وذلك ليس فقط من أجل ضمان مش���روعية حقوق اإلنس���ان ف���ي مختلف المجتمع���ات ،ولكن أيض���ا لما يتيحه هذا األمر من إمكانات في المجال الحقوقي؛ ً لإلف���ادة والرب���ح المتبادلي���ن ،بس���بب تضافر وتواش���ج أضرب
الخب���رة والحكمة العالمية الغنية والمتنوعة ،مما من ش���أنه أن كونيا -أكثر يجع���ل حقوق اإلنس���ان -كما هي متعارف عليه���ا ًّ
جاذبية ،وأوفر قابلية للتطبيق والتبني في كافة المجتمعات.
منظومة حقوق اإلنس���ان في المنظومات التشريعية األخرى(.)7 الحق���وق التضامني���ة؛ كالح���ق ف���ي البيئ���ة الس���ليمة والحق في
مك���ون الحقوق يفتقر إلى الس�ل�ام والحق في التنمية ،تبين أن ّ مكون الواجب في طف���رة متجاوزة لما كان عليه التواش���ج مع ّ
األمر في الجيلين السابقين من حقوق اإلنسان ،جيل الحقوق
المدنية والسياس���ية ثم جيل الحق���وق االقتصادية واالجتماعية والثقافية ،المرتكزين على البراديغم القائم على الحقوق فقط. وسبب ذلك ،على حد تعبير الباحث " :Ben Saulإن النضاالت
إال أن جملة صعوبات تعترض س���بيل هذا الطموح ،ومن
الت���ي قام���ت به���ا حرك���ة حقوق اإلنس���ان ض���د االس���تبدادات
البراديجماتي���ة الت���ي تنبني عليه���ا التش���ريعات الكونية لحقوق
االجتماعي���ة ،واإلقص���اء ،ونقائص النضاالت الس���الفة ،والتي
أب���رز ه���ذه الصعوب���ات؛ االخت�ل�اف الجوه���ري بين األس���س اإلنس���ان ،وتلك التي تنبني عليها كثير من التشريعات العالمية األخ���رى .وأب���رز مثال على ه���ذا االخت�ل�اف الجوهري ،كون
الحق���وق ف���ي القان���ون العالم���ي لحق���وق اإلنس���ان صريح���ة
ومباش���رة ،في حين أن ما يقابلها من واجبات ،متضمنة -وقد تكون أحيا ًنا متضاربة -وهو ما يشير إليه "دوكالس هودكسون" ( )Douglas Hodgsonبقوله" :في قانون حقوق اإلنسان ،الحقوق
صريح���ة ومباش���رة ،في حي���ن أن ما يقابلها م���ن واجبات تبقى متضمن���ة ومتضاربة وغي���ر مغناة من الناحي���ة التنظيرية ،بيد أن العك���س ه���و الصحي���ح في ع���دد م���ن المنظومات التش���ريعية
والقيمية والعقدية األخرى ،كالش���ريعة اإلس�ل�امية ،والش���ريعة اليهودي���ة ،والنصراني���ة ،والهندوس���ية ،والكنفوشيوس���ية"(.)6 وألن المقاربة المؤسسة على الحقوق ،وكذا تلك المؤسسة
على الواجبات ،كلتاهما تصدران عن رؤية براديجماتية متجذرة لها تجلياتها في س���ائر مفردات الكس���ب التش���ريعي والتنزيلي للمنظومتي���ن ،فإنه ال يمكن الزعم ب���أن التوفيق بينها يمكن أن يت���م ب���دون بذل ما يل���زم من جه���د واجتهاد في أفق اإلس���هام
كونيا. ف���ي حل عدد من اإلش���كاالت المطروحة به���ذا الصدد ًّ
وتبتغ���ي هذه الدراس���ة وضع جملة لبنات وظيفية ،تس���هم
ف���ي التعزي���ز التعارفي لمقاربة "النس���بية المعتدلة المعكوس���ة"
( )Reverse Moderate Relativism: R.M.Rوالت���ي تختل���ف عن مقاربة "النسبية الثقافية المعتدلة" (،)Moderate Cultural Relativism: M.C.R
حيث إن األولى تعنى بالنظر التعارفي المنفتح ،إلى ما يمكن أن
تغني به المنظومات التشريعية المختلفة ،منظومة حقوق اإلنسان
المختلف���ة ف���ي مرحلة أولى وف���ي مرحلة ثانية ،ض���د النفاقات جميعه���ا عل���ى مواجهة م���ا كان يفرض���ه المتنفدون ارتك���زت ُ
م���ن واجب���ات ظالمة عل���ى األفراد ،فقد بل���ورت حركة حقوق اإلنس���ان حذرا وحساس���ية تلقائيين ،تجاه كل لغة فيها حضور
لمفاهي���م الواج���ب واإللزام ،وهم���ا حذر وحساس���ية مبرران، بالنظر إلى تاريخ هذه الحركات النضالي" . ()8
ومن هنا تأتي المعاناة التي ترافق السعي إلى تنزيل الجيل
الثال���ث من حقوق اإلنس���ان ،والتي تس���تدمج في عي���ن بنيتها، أيضا ،ب���إزاء الحقوق التي ض���رورة االرت���كاز على الواجب���ات ً
ال يمك���ن جلبه���ا لألف���راد إال إذا كان لديهم االس���تعداد للقيام
ال ،ال يتصور النهوض بتنمية بواجباته���م بهذا الخصوص .فمث ً ب���دون انخ���راط األف���راد ف���ي ه���ذا النه���وض من خ�ل�ال القيام
بواجباته���م به���ذا الص���دد .مما يس���تدعي وج���وب مواكبة هذه ونضاليا، وتربوي���ا، تصوري���ا، ال :بنس���يج تأهيل���ي، الحق���وق أو ً ًّ ًّ ًّ
وتقويمي���ا بطريق���ة قصدي���ة ،وإال فس���تبقى الحق���وق التضامنية ًّ ثانيا بنس���يج تش���ريعي احترازي، مج���رد ش���عارات .ومواكبتها ً
لحمايته���ا من االرت���داد إلى أتون الدوالنية ( )Etatismمن جديد كم���ا يق���ول "دون .إي .إيبرل���ي" ( )Don. E. Eberlyف���ي كتاب���ه
.Building a Community of Citizen
وجلي أن هذا التواشج بين الحقوق والواجبات ،من خالل ّ تأسيس���ا على مكتس���ب المرجعيات مختل���ف م���ن االس���تمداد ً حقوق اإلنسان في كونيتها وعدم تجزيئها ،يمكن أن يسهم في
اخت���راع مفه���وم دينامي للمواطنة في عال���م اليوم المعولم ،في
منأى عن الش���عاراتية ،وفي حرص على بحث عقد اجتماعي،
53
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
قضايا فكرية
أ.د .أحمد عبادي*
ً وأنقاضا، توجيه النقد الالذع دون اإلتيان بالبديل ،عمل تخريبي ال َيرتُك إال خرائب أما النقد البنّاء مع ذكر البديل فهو سبب لإلصالح واإلعامر. *** (املوازين)
المسلمون
وحقوق اإلنسان1- قراءة في المقتضيات السياقية
رك���ز التداول حول كونية حقوق اإلنس���ان في ّ
كثي���را عل���ى إش���كالية م���دى مخالفة عموم���ه، ً
أو مواءم���ة القان���ون العالمي لحقوق اإلنس���ان
للممارسات التشريعية والثقافية المحلية ،كما رام هذا التداول
الع َق���د به���ذا الخص���وص لصال���ح البراديغ���م الكون���ي... ّ ف���ك ُ ويالح���ظ بج�ل�اء ،أن عناية أقل بكثير ،ق���د أوليت إلى البحث وي ْث���رى ب���ه اإلع�ل�ان العالم���ي لحقوق عم���ا يمك���ن أن يفي���ده َ
اإلنسان بدراسة األنساق التشريعية والثقافية الكونية المختلفة. وقد طرحت كونية حقوق اإلنس���ان ،تحديات معتبرة على
المختصي���ن والباحثين ،من أمث���ال(،Kimberly Younce Schooley )1
وعب���د اهلل أحمد نعي���م( ،)3(Charles Taylor ،)2و،)4(Fernando R. Teson
ورضى أفشاري( ،)5وغيرهم.
وال يخف���ى أن ه���ذه المس���ألة تكتس���ي أهمية اس���تثنائية من
الناحي���ة البرجماتي���ة العملية الص���رف ،باإلضافة إل���ى أهميتها العلمي���ة والمعرفية ،وذلك ألن التجانف ،بل والتنكر للحقوق اإلنسانية ،أمر في غاية الورود إذا لم تراع أثناء عملية تنزيلها،
مواءمته���ا الثقافي���ة للس���ياقات الحضاري���ة ،واألنثربولوجي���ة
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
52
ال يج���وز للمس���لم الخ���روج من خاللها عن طاع���ة ولي األمر
وإجم���اع األمة .فالحرب في اإلس�ل�ام قرار دول���ة ال قرار فرد مهما عال شأن هذا الفرد في أمته".
أم � � ��ا التدابي � � ��ر المالئمة لس � � ��نن الك � � ��ون والحي � � ��اة والنفس اإلنس � � ��انية ،فإنه���ا ذات نس���ق وس���ياق يؤكد إعجاز اإلس�ل�ام،
وتؤي���ده االكتش���افات العلمي���ة والدراس���ات المتعمق���ة في فقه التاري���خ والحض���ارة والدراس���ات اإلنس���انية ...والحديث عن ذلك ال يمكن اختصاره في هذا المقال ،إنما أكتفي باإلش���ارة بدءا من سالم إلى كون الس�ل�ام في اإلس�ل�ام ،ينداح في دوائر ً الفرد مع نفس���ه ،إلى س�ل�امه مع أس���رته ومحيطه القريب ،إلى
س�ل�امه م���ع محيطه وبيئت���ه بموجوداته���ا وتنوعاته���ا الثرية من
الكائن���ات الحية والنبات���ات المختلفة في الب���ر والبحر والجو. وم���ا تمارس���ه المنظمات الحديث���ة التي تصدت له���ذا الجانب تحت مسمى "السالم األخضر" ،تتفق مع ما سبق إليه اإلسالم
من العناية بهذا الجانب واش���تماله بتش���ريعاته وحمايته للحياة الفطرية وإنمائها ،وأن مفهوم الس�ل�ام وفلس���فته في اإلس�ل�ام،
ش���كلت دائرة واس���عة تحيط ب���ه وتحافظ على الت���وازن البيئي بوعي وإدراك حضاريين.
للتثقي���ف والتهذي���ب الدين���ي ،وبخاصة للثقافة اإلس�ل�امية بما تنظوي عليه من خصائص وس���مات إنس���انية وأطر عالمية من حقه���ا أن تتفاعل م���ع الثقافات األخرى في أجواء من الس���لم بعيدا عن روح العداء ،وأن ُي ْع َلم -كما قرر علماء والمس���المة ً َّ الدي���ن ومفكرو العصر" -أن األدي���ان كلها ،بدال من أن تكون س���بب نزاع وخصام في ش���ؤون هذه الحياة- ،وهي على ضد م���ن ذلك -تن���ادي باالئتالف والوئ���ام ،وأن الس���بب الحقيقي ف���ي الخصوم���ات هو بالعكس م���ن ذلك ،إنما يح���دث بتعمد االنح���راف ع���ن الدي���ن ،وأن كل طائفة تثير نار الحرب باس���م الدين ،فهي كاذبة في دعواها االنتساب إلى دينها ،وأن العالج الناجع آلالم اإلنس���انية الحاضرة ،هو أن ُيعنى رجال كل دين فينموا في أتباعهم عناي���ة خاصة بالجان���ب ُ الخلقي العام من���هّ ، عاطفة األخوة اإلنسانية باسم الدين نفسه.
كما ينبغي العمل باسم السالم ومن أجل السالم على معالجة م���ا آل إليه الس�ل�ام في النظم البش���رية الحديث���ة ،حيث اتخذته شعارا لمضامين أخرى؛ فأما األمم األمم المتقدمة والمتخلفة ً
فالس�ل�ام في اإلس�ل�ام مفه���وم أصيل وفلس���فة عميقة يفي
ش���عارا لتعايش الثقافات، المتقدم���ة فترفعه في بعض األحوال ً
واالس���تقرار ،في ظل أخالقيات تطبع النفوس بروح التس���امح
وأما األمم المتخلفة فترفعه بسبب الروح االنهزامية والضعف.
بمتطلبات البشرية قاطبة ،كي تعيش حياة كريمة وتنعم باألمن
تمهيدا لغزوها، به���دف تثبيط همم األمم األخرى وتخديره���ا ً
وحس���ن التعام���ل م���ع المخالفين في المعتقد م���ن غير تعصب
كم���ا بدأ الحديث بمقولة مال���ك بن نبي ،ينتهي وبالمطالبة
تطرف وال عنف ،وإنما تقوم العالقات بين المسلمين وغيرهم،
التي طالب بها ُيطالب؛ إذ يقول" :فالثقافة الحضارية ينبغي أن
لمعتق���د وال حقد ديني يحمل عل���ى الحيف والظلم ومن غير
على البر والعدل واإلحس���ان والتوسط في المواقف والتوازن بين التجاذبات .وبذلك حقق اإلس�ل�ام في موقفه من الس�ل�ام
البع���د اإلنس���اني الحضاري اإلس���تراتيجي .ولضمان أن تكون ُ
ال ،فإنه ينبغي اعتماد اإلصالح السيادة للسالم حاضرا ومستقب ً ً السياس���ي بدعم الديمقراطية وفس���ح المجال للنقد والش���فافية
واحت���رام التش���ريعات اإلليه���ة ،وتقيي���د التقنينات الت���ي تميلها متطلب���ات الواق���ع باألخ�ل�اق الحمي���دة ،وأن تصب���غ بالمبادئ
اإلنسانية من خالل علماء الدين وفالسفة اإلنسانية وحكمائها
والنخب الثقافية .وإذا كانت األديان -وآخرها اإلس�ل�ام -هي المؤسس���ة للس�ل�ام على النحو الذي جرى الحديث عنه ،فإن
على قادة الفكر والسياس���ة ورواد السالم ،أن يفسحوا المجال
ُت ِ شخصيتها الحقيقية بأن تضعها منذ اآلن عطي لفكرة الس�ل�ام َ
تحت ضمان المبادئ".
(*) كلي���ة الش���ريعة ،جامع���ة اإلم���ام محم���د بن س���عود اإلس�ل�امية بـ"الرياض" / المملكة العربية السعودية.
المراجع ( )1مقالة بعنوان :نحو فلسفة للسالم ،لسعاد الحكيم. ( )2دراس���ات إسالمية في العالقات االجتماعية والدولية ،لمحد عبد اهلل دراز، دار القلم ،الكويت ،ط1980:م. ( )3من توجيهات اإلس�ل�ام ،لمحمود ش���لتوت ،دار الش���روق ،ط1983/7:م. نقال عن نظرات في اإلسالم.
51
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
ون َع َلى ا َ اط َب ُه ُم ض َه ْو ًنا َو ِإ َذا َخ َ أل ْر ِ َي ْم ُش َ ا ْل َج ِ ال ًما﴾(الفرقان.)63: ون َقا ُلوا َس َ اه ُل َ كم���ا جع���ل اإلس�ل�ام الس�ل�ام تحية
الصالحي���ن ،وب���ه يحي���ون أنفس���هم ف���ي ﴿و َت ِح َّي ُت ُه ْم الدنيا واآلخرة ،قال تعال���ىَ : �ل�ا ٌم﴾(يونس ،)10:وق���ال﴿ :إ َِّن ِف َيه���ا َس َ ِ���ي َي���ا ُّ���ون َع َل���ى النب هلل َو َم َ ا َ ال ِئ َك َت ُ���ه ُي َصل َ َّ ِّ آم ُن���وا َصلُّوا َع َل ْي ِه َو َس��� ِّل ُموا َأ ُّي َه���ا ا َّل ِذ َ ي���ن َ ِ يما﴾(األحزاب ،)56:وق���الَ ﴿ :ف��� ِإ َذا َت ْس���ل ً َد َخ ْل ُت ْم ُب ُيو ًتا َف َس ِّل ُموا َع َلى َأ ْن ُف ِس ُك ْم َت ِح َّي ًة ِ ِ ِ ِ ار َك ًة َط ِّي َب ًة﴾(النور.)61: م ْن ع ْند اهلل ُم َب َ ونهى ع���ن دخول بي���وت اآلخرين،
وأنه���ا تدخ���ل في معظ���م تفاصيل حياته
ال�سالم يف الإ�سالم، ب��دءا م��ن ين��داح يف دوائ��ر ً �س�لام الف��رد مع نف�س��ه� ،إىل �س�لامه م��ع �أ�رست��ه وحميط��ه القريب� ،إىل �سالمه مع حميطه وبيئته مبوجوداتها وتنوعاتها الرثي��ة م��ن الكائن��ات احلية والنبات��ات املختلف��ة يف الرب والبحر واجلو.
إال بعد االستئذان واالستئناس والسالم
ال َت ْد ُخ ُلوا ُب ُيو ًتا على أهلها: ﴿ َ َغ ْي َر ُب ُيو ِت ُك ْم َح َّتى َت ْس َت ْأ ِن ُسوا َو ُت َس ِّل ُموا َع َلى َأ ْه ِل َها﴾(النور.)27: واآلي���ات ف���ي ذل���ك م���ن الكث���رة بم���كان ،كذل���ك ورد
وفي صميمها اتضحت مقاصد اإلسالم
حولها إلى ممارس���ة من ذلك ،وتبين أنه ّ
بالس���لوك والتهذي���ب والتربي���ة والتعليم والتع���ود والم���ران ،حت���ى غ���دت ثقاف���ة
ذات ُبع���د إنس���اني حض���اري متج���ذر. أما التدابير التش� � � �ريعية المقننة ،فقد
جع���ل اإلس�ل�ام األص���ل ف���ي العالقات
هو الس���لم ،فالس���لم أمر اهلل ،قال تعالى: آم ُن���وا ْاد ُخ ُل���وا ِف���ي ﴿ي���ا َأ ُّي َه���ا ا َّل ِذ َ ي���ن َ َ
ِ ال َت َّتب ُِع���وا ُخ ُط���و ِ ات الس��� ْل ِم َكا َّف��� ًة َو َ َ ّ الش���ي َط ِ ان﴾(البقرة .)208:وقد تضمن األمر َّ ْ
ب���ه التعري���ض بم���ا يقاب���ل الس�ل�ام وهي الحرب ،وأنها اتباع لخطوات الش���يطان
على أن الحرب إن نش���بت في ظروف ومالبس���ات اس���تثنائية قطعا وإنما يفرضها أعداؤه عليه -فإنها -ال يوجدها اإلس�ل�ام ً
�ل�ا ٌم ﴿س َ الس�ل�ام ف���ي الق���رآن الكري���م تحي���ة لجميع الرس���لَ : وس���ى ﴿س َ َع َل���ى ُن ٍ ���وح ِف���ي ا ْل َعا َل ِم َ �ل�ا ٌم َع َلى ُم َ ين﴾(الصافاتَ ،)79: ِ يم﴾(الصافات،)109: ﴿س َ ار َ َو َه ُ ون﴾(الصافاتَ ،)120: �ل�ا ٌم َع َل���ى إ ِْب َراه َ ين﴾(الصافات .)181:وكان الس�ل�ام دعوة ﴿و َس َ �ل�ا ٌم َع َلى ا ْل ُم ْر َس��� ِل َ َ ���وت َو َي ْو َم الس َ ���و َم ُو ْ لد ُت َو َي ْو َم َأ ُم ُ عيس���ى َ : �ل�ا ُم َع َل َّي َي ْ ﴿و َّ اسما من أسماء ُأ ْب َع ُث َح ًّيا﴾(مريم ،)33:وناهيك عن كون السالم ً ِ ال ُم هلل ا َّل ِذي َ ال ِإ َل َه ِإ َّ الس َ ﴿ه َو ا ُ اهلل تعالىُ : ال ُه َو ا ْل َمل ُك ا ْل ُق ُّد ُ وس َّ ا ْل ُم ْؤ ِم ُن ا ْل ُم َه ْي ِم ُن﴾(الحش���ر ،)23:وسميت الجنة التي هي موعود ال ِم ِع ْن َد َر ِّبهِ ْم الس َ اهلل لعباده المؤمنين "دار السالم"َ ﴿ :ل ُه ْم َد ُار َّ ِ ون﴾(األنع���ام ،)127:وأنه تعالى يدعو ���م ب َِما َكا ُنوا َي ْع َم ُل َ َو ُه َ ���و َول ُّي ُه ْ ال ِم َو َي ْه ِدي َم ْن َي َش ُاء الس َ ﴿وا ُ إلى دار السالمَ : هلل َي ْد ُعو ِإ َلى َدارِ َّ ِإ َلى ِصر ٍ يم﴾(يونس.)25: اط ُم ْس َت ِق ٍ َ وبهذا يتضح ترس���يخ اإلسالم لمبدأ الس�ل�ام و"أن إشاعته
ش���رعيا كما هو واجب واجبا فال���رد في هذه الح���االت يكون ًّ ً
في س���ويداء قلوبهم حب السالم والعمل للسالم ،وأن يعملوا
واحدا في وجه أي اعتداء َيطال مقدساتها وأرضها تقف ص ًّفا ً
تعالى للسالم في هدايته لعباده على هذا النحو ،ما كان إال ليغرس
حينئ���ذ تقدر بقدرها و ُت َح ّد بح���دود وتحاصر بضوابط وآداب ش���رعية ،وم���ع ذلك فإن اإلس�ل�ام يأم���ر بأن يكون الس���لم هو
﴿وإ ِْن الخي���ار ،وأن ُي جن���ح إليه إذا جن���ح إليه الطرف اآلخ���رَ : َ ِ اج َن ْح َل َها َو َتو َّك ْل َع َلى ا ِ هلل﴾(األنفال.)61: لس ْل ِم َف ْ َ َج َن ُحوا ل َّ كذلك جاء النهي عن القتال بعد نشوبه إذا ألقى العدو إلى وك ْم وك ْم َف َل ْم ُي َقا ِت ُل ُ المس���لمين الس���لم ،قال تعالىَ ﴿ :فإ ِِن ْاع َت َز ُل ُ َ ال﴾(النساء.)90: الس َل َم َف َما َج َع َل ا ُ هلل َل ُك ْم َع َل ْيهِ ْم َسبِي ً َوأ ْل َق ْوا ِإ َل ْي ُك ُم َّ كتب���ت الدكتورة أميمة بنت أحمد الجالهمة تحت عنوان: "السالم في عالقات المسلمين بغيرهم" ،بعد توضيحها لطابع
اإلس�ل�ام الس���لمي ف���ي عالقاته م���ع اآلخرين ،ب���أن ذلك" :ال رد أي عدوان ُو ِّجه للمقدس���ات يعن���ي تهاون المس���لمين ف���ي ّ
واألوطان ،ولثروات األمة البشرية منها والمادية على السواء. ال���رد كح���ال كل األمم التي وطن���ي .وحال المس���لم ف���ي هذا ّ
وعرضه���ا .ولكن المس���لم في كل أحواله ،ومهما اس���تفظعت
جهدهم في التحلي بالس�ل�ام والدعوة إليه وإفشائه بين العباد. فإذا ُع ِلم أن هذه اآليات وما تحمله من هدي وتوجيهات
األس���باب الموجبة للحرب والمقاومة المسلحة ،ال يمكن أن
الخاص���ة والعام���ة الحاضرة والمس���تقبلة في الدني���ا واآلخرة،
م���ن تلقاء نفس���ه .فللحرب في اإلس�ل�ام نظم وأص���ول ملزمة
تطرق سمع المسلم في صلواته ودعواته ،وأنها تصبغ عالقتها
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
50
نابعا من اجتهاد ش���خصي ينبري للقيام به يك���ون ذلك ً توجيها ً
السالم األممي الكوني.
أيض���ا يترابط بوحدة فاإلنس���ان وح���دة ال تتج���زأ ،والكون ً
وجودي���ة تجع���ل ل���ه هيئ���ة تتالح���م ألول���ي البصائ���ر ف���ي كافة
المجتمعات".
موقف اإلسالم من السالم
بدعا ،بل ج���اء مصد ًقا ل���م يك���ن موقف اإلس�ل�ام من الس�ل�ام ً لم���ا بي���ن يديه من األديان التي س���بقته .فقد أثبتت الدراس���ات أن األديان قاطبة ،وخاصة الديانات الش���رقية القديمة (الهندية
والبرهمي���ة والبوذي���ة والكنفوشيوس���ية ،والطاوي���ة) والديانات
الس���ماوية الث�ل�اث (اليهودي���ة والمس���يحية واإلس�ل�ام) دع���ت جميعها للس�ل�ام ،وجعلته األصل في العالقات ،وعظّ مت من
جميعا "تأمر بالعدل واإلحسان وتنهى عن الظلم ش���أنه ،وأنها ً
والع���دوان ،وكله���ا تس���وي في المعامل���ة الدنيوية بي���ن أتباعها وبي���ن أعدائه���ا" .فل���م يقع -عل���ى س���بيل المثال -م���ن الديانة أي اضطه���اد ،كذلك البوذية الهندي���ة (البرهمي���ة) ف���ي تاريخها ّ الت���ي لم تعتد قط على أحد م���ن مخالفيها ،فقد كانت مبادؤها
دوما على س���عة الصدر ألي خالف ،وأنه ال مش���كلة تحملها ً لديها مع الس�ل�ام البتة .وكذلك الديانة المس���يحية ذات الطابع
المتس���امح الذي حملها على التواضع والس�ل�ام ،بل الخضوع واالستس�ل�ام ،فقد كان من ش���عاراتها "أحب جارك كما تحب
نفس���ك" ،و"م���ن ضرب���ك عل���ى الخد األيم���ن فامدد ل���ه الخد
األيس���ر" ،كذلك أوجبت على من يس���فك دم أح���د الطرد من
حظيرة الدين.
كما أثبتت الدراس���ات كون السالم ،من المبادئ األساسية
ف���ي الديانتي���ن اليهودية واإلس�ل�ام ،وأنه ال يوج���د مثال واحد أب���اح البدء باالعتداء على الطوائف األخرى ،س���واء كان ذلك
لمقاص���د دينية أم ألغراض سياس���ية ،ب���ل الواقع على العكس ال قب���ل اإلذن أم���دا طوي ً م���ن ذل���ك ،أنهم���ا احتم�ل�ا االضطهاد ً ألتباعهم���ا باتخاذ القوة للدفاع ع���ن حياتهم وعن حريتهم في
اعتناق الحق والدعاء إليه.
أما اإلس�ل�ام فقد تميز في موقفه من الس�ل�ام ،بكون اس���م
الس�ل�ام نفس���ه واس���م اإلس�ل�ام نفس���ه ،يرجعان ألص���ل واحد ويشتركان في كثير من الدالالت واالشتقاقات اللغوية بما فيها
من س���عة وامتداد وعمق .ثم إن اإلس�ل�ام اتخذ من التدابير ما
وأساس معتقده، يكفل أن يكون السالم جوهر اإلسالم ،وظ َّله َ
وأه���م مبادئه ،وركائ���زه العقدية ،وقيمه األخالقية والتش���ريعية
تحيته ..فبالس�ل�ام الب���دء والنهاية الكب���رى ،واخت���اره أن يكون َ والتواص���ل ف���ي مختل���ف دوائره عل���ى صعيد النف���س والكون
والحياة .وإليضاح تلك التدابير ،يجري الحديث عنها في اآلتي: -1التدابي���ر التربوي���ة الثقافي���ة الت���ي تعتم���د على الس���لوك
واألخالق.
-2التدابير التشريعية المقننة.
-3التدابير المالئمة لسنن الكون والنفس والحياة.
فأما التدابير التربوية الثقافية ،فقد استطاع اإلسالم أن يغرس
السالم في داخل نفس الفرد المسلم بالتربية والثقافة والسلوك ال أن الناس من أصل واحد ،وأنهم جميعا واألخالق .فقرر أو ً ً أبناء رجل واحد هو آدم الذي جعله اهلل خليفة له في األرض، وفضله عل���ى كثير ممن خلق، ّ وكرمه ّ وس���خرها ل���هّ ،
وأسجد له مالئكته ،وعلمه األسماء كلها ،ثم أورث تعالى بني آدم تلك الخالفة، وتحملوا األمانة ،واضطلعوا بالمسؤولية... ّ
وهذا يوجب عليهم أن يستش���عروا الكرامة والعزة ،وأن تكون عالقاتهم س���ليمة ،وضمائرهم نقية ،وأن يتوجهوا لمن كرمهم واس���تخلفهم بالعبادة وإف���راده بالتوحي���د ،وبخاصة أنه قد
﴿و َم���ا َخ َل ْق ُت ح���دد الغاي���ة من خلقهم وعل���ة وجودهم فقالَ : ال ِلي ْعب ُد ِ ون﴾(الذاريات.)56: ا ْل ِج َّن َوا ِ إل ْن َ س ِإ َّ َ ُ واحدا ،والرب ولك���ون األب واح���دا ،فإن "مقتضى اتحاد ً ً األص���ول وتوحي���د المعب���ود ،تآلف الف���روع وأخ���وة العابدين وتعاونه���م جميعا عل���ى القيام بواجب الرح���م وبحق المعبود ً الذي يغضبه أن يبغي بعضهم على بعض.
ث���م ج���اء النداء مكررا ف���ي القرآن الكريم ف���ي آيات كثيرة ً
بوصف البنوة آلدم ،وبالنداء بوصف اإلنس���انية ،وأنها موضع
التكري���م .كذل���ك حث���ت اآلي���ات واألحادي���ث عل���ى م���كارم
األخالق ،وأن تكون ال َت ْس َ���ت ِوي ا ْل َح َس َن ُة ﴿و َ أساس���ا للمعاملةَ : ً الس��� ِّي َئ ُة ْاد َف ْع بِا َّل ِتي ِهي َأ ْح َس ُن َف ِإ َذا ا َّل ِذي َب ْي َن َك َو َب ْي َن ُه َع َد َاو ٌة َو َ ال َّ َ َ ِ ِ يم﴾(فصلت.)34: َكأ َّن ُه َول ٌّي َحم ٌ بخ ُلق َح َس���ن" (رواه الترمذي)، وف���ي الحديث" :خا ِل���قِ الناس ُ وورد" :الدين المعاملة" .وجاء كذلك األمر بالعفو والمخاطبة بالس�ل�ام ،وق���ال تعالىِ ُ : ْ ض ���ر ِف َو َأ ْع ِر ْ ���ر بِا ْل ُع ْ ﴿خ���ذ ا ْل َع ْف َو َوأ ُم ْ ِ َع ِن ا ْل َج ِ ان َن ْز ٌغ َفاس َ���ت ِع ْذ بِا ِ الش���ي َط ِ هلل اه ِل َ ْ ين َوإ َِّما َي ْن َز َغ َّن َك م َن َّ ْ ���م ٌ ِ ���ه َس ِ يم﴾(األع���راف﴿ ،)200-199:و ِعباد ين الر ْح َم ِ ِإ َّن ُ ���ن ا َّل ِذ َ يع َعل ٌ َ َ ُ َّ
49
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
الس � � ��بب الثاني :إن مفاهيم الس�ل�ام
كما هي مطروح���ة اليوم ،ال ترتكز على تسوق أس���س سليمة ،ألنها -كما يبدوَّ - كس���لع اس���تهالكية تهدف إلى الحصول على الس�ل�ام م���ن طرف واح���د ،تدعوه
إلى التس���امح الالمشروط المرتكز على
المحب���ة فق���ط ،والتي يبدو أنه���ا مفقودة عن���د قطاع كبي���ر في الط���رف الثاني .إن
الس�ل�ام الحقيقي يفترض وجود طرفين يتب���ادالن االعتراف بحق الكينونة ،ويثق
واحدهما باآلخر؛ بأن السالم من طرفه
ل���ن يعن���ي انمح���اء وازدواجة واس���تالبا ْ ً
العالم���ي ،ف���ي أهمي���ة ارت���كاز مفه���وم
�أثبتت الدرا�س��ات �أن الأديان قاطب��ة ،وخا�ص��ة الديان��ات ال�رشقي��ة القدمي��ة ،والديانات ال�س��ماوية الث�لاث ،دع��ت جميعه��ا لل�س�لام ،وجعلت��ه الأ�صل يف العالقات ،وعظّمت جميعا "ت�أمر من �ش���أنه ،و�أنها ً بالعدل والإح�سان وتنهى عن الظلم والعدوان.
معايي���ر ...إن ل���م توج���د ه���ذه اإلرادة
الس�ل�ام على الدين؛ فتحت عنوان "بناء
إنسان اإلنسانية" ،قالت" :من أجل إنشاء فلس���فة للسالم ،البد -باإلضافة إلى كل ما تقدم -من التفكر حول هوية اإلنسان
وجوابا ال���ذي يحق���ق الس�ل�ام الكون���ي. ً على الطروحات الداعية إلى بناء إنس���ان
مدني ،أق���ول إن القوانين المدنية تجعل
ال���رادع خ���ارج اإلنس���ان ،وبالتالي ما إن ّ
تغي���ب س���لطة ال���رادع الخارج���ي حت���ى توحش اإلنس���ان وهمجيته ،على يظه���ر ّ حين أن القوانين المصاغة -انطال ًقا من
األدي���ان -يس���تجيب له���ا رادع داخل���ي،
خيرة الصادق���ة م���ن الطرفين ،يظل الس�ل�ام ف���ي إطار أقلي���ات ّ
وتحق���ق النظ���ام -إلى حد ما -ف���ي الداخل والخ���ارج ...إذن
السبب الثالث :إن مفاهيم السالم هذه (المحبة والتسامح
أخالق���ي ...وهذا مش���روع عمالق ال يقوم ب���ه طرف واحد أو
وواعية ،وال يخرج إلى بدن الجماعات البشرية.
فم���ن مصلحة البش���رية أن تدافع عن تكوين كائ���ن مؤمن متقٍ
وقب���ول اآلخ���ر) تعاني م���ن التوقف عند مرحلة تنظيرية تتس���م
أبن���اء دي���ن واحد منفردين ،بل البد من تكاتف عالمي في هذا
يجمعه���ا ...لكأنها تجمع على هيئة "باقة زهر" يقدمها إنس���ان
الكاتبة مع المصلح الديني األلماني "هانس كينغ" ،حين أطلق
بالفرداني���ة الت���ي ال يربطه���ا راب���ط خارجي ،وال نس���ق داخلي خي���ر محب إلى اإلنس���انية .لذل���ك نحن أحوج م���ا نكون إلى ّ ّ توظيف هذه المفاهيم المفردة في منظومة فكرية تس���اعد كافة
الن���اس -وليس النخبة فق���ط -على الرؤية واالقتن���اع وبالتالي الممارس���ة؛ أي نح���ن نحت���اج ألن نخ���رج من مرحل���ة تنظيرية خطابي���ة تبريري���ة عاطفية ،إلى مرحلة أش���د اتس���ا ًقا تجمع هذه
لتكون منها كال متس��� ًقا منتظما ،لتؤس���س ً المفاهي���م المف���ردةّ ، منه���ا فلس���فة يقتنع بها عامة الن���اس ،وال تظل في حدود فردية
عالية الروحانية.
وإذا كان���ت الكاتب���ة قد المس���ت إش���كالية مفهوم الس�ل�ام
وأبرزت تلك األسباب الثالثة ،فإن مفهوم السالم غني بدالالته التي جرى الحديث عنها ،كي يحقق البعد الحضاري اإلنساني، بالعودة إلى الدين واألخالق في إطار ثقافي يوازن بين الـ"أنا"
واآلخ���ر ،والفط���ري والمكتس���ب ،والذات���ي والموضوع���ي، والف���ردي والجماع���ي ،والمحل���ي واإلقليم���ي والعالم���ي. وتتف���ق الكاتب���ة "س���عاد الحكيم" مع كبار مفكري الس�ل�ام السنة الثامنة -العدد (2013 )36
48
اإلطار بين الشعوب وقيادتها الروحية .وفي هذا السياق تتفق شعار "ال سالم بين الشعوب من دون سالم بين األديان".
وتس���تمر الكاتب���ة في حديثها قائل���ة" :حتى ال يكون كالمنا
جزءا من "مدينة فاضلة" ال نرى مقدمات على"الرادع الداخلي" ً تحققه���ا في أفق تاريخن���ا المنظور ...نحصر الحديث فيما هو مب���اح ونق���ول إن كينونة اإلنس���ان وحدة ال تتج���زأ ،وتعبر هذه
ال- الوحدة عن نفس���ها في جميع تجلياتها ...فلو استطعنا -مث ً أن نصلح أداء اإلنس���ان على مس���توى تجل من تجليات ذاته،
واستنادا إلى لربما ينعكس هذا اإلصالح على الكينونة نفسها؛ ً قاعدة الوحدة الذاتية لإلنس���ان ،أي إذا اس���تطعنا أن نعدل من
األداء العائلي لإلنس���ان ،لربما اس���تقام في الوقت نفس���ه أداؤه االجتماعي وكذا أداؤه على صعيد اإلنسانية عامة.
ونض���ع بي���ن ي���دي آفاق الح���وار ،م���ا نرصد م���ن تجليات
للكينونة اإلنس���انية في الجهات األربع ،مقتنعين أنه ال س�ل�ام
بين الناس ما لم يتحقق السالم على المستويات األربعة لتجلي كينونة اإلنس���ان وهي :الس�ل�ام الداخلي ،السالم االجتماعي،
قضايا فكرية
د .إسحاق بن عبد اهلل السعدي*
وموقف
منه
تع���د قضي���ة الس�ل�ام م���ن القضاي���ا الكبرى في
الكبير مالك بن نبي رحمه اهلل.
لفظه���ا وجنوح الفطر الس���ليمة إليه���ا ،وكونها
اإلنس���اني" ،ش���خصت الكاتبة أس���باب إخفاق مفاهيم السالم؛
التاري���خ .وعلى الرغم من سالس���تها وعذوبة
وفي دراس���ة لـ"س���عاد الحكيم" بعنوان "نحو فلسفة للسالم
قديما وحدي ًثا -في تأس���يس عالقةخي���ار العق�ل�اء والحكماء ً
كالمحبة والتس���امح والحوار وقبول اآلخر كجزء ال يتجزأ من
تربط بين األفراد والجماعات والدول والشعوب ،إال أن وقائع
السبب األول :إن مفاهي���م السالم بقيت عند الممارسة في
أو تالعب���ت بدالالته���ا ومفهومه���ا وأدخلتها حلب���ة المزايدات
أشخاصا هنا وهناك وعلى امتداد العالم ،يريدون في أننا نجد ً
المطام���ع والمصال���ح وصراع القوى ،مم���ا يحدو بالباحث في
رؤية اآلخر في الذات .ولكن هؤالء األش���خاص لم يستطيعوا
اإلنس���ان بأخيه اإلنس���ان ،وفي العالقات الخاصة والعامة التي
الذات في ثالثة أسباب:
التاري���خ ومجري���ات أحداث���ه ،أغفلته���ا في كثير م���ن األحوال،
إط���ار فردي نخبوي ول���م تمس حياة الجماعة عامة .ال ش���ك
السياس���ية والتفس���يرات الديني���ة المؤدلج���ة؛ كذل���ك تقاذفته���ا
الس�ل�ام حقيق���ة ،ويتحلون بالتس���امح والمحب���ة ،والقدرة على
ه���ذه القضي���ة الكبرى للنظ���ر لخلفيتها التاريخية ،إما كوس���يلة
محصورا قويا ،وظل نشاطهم أهليا ًّ ً لألسف -أن يشكلوا ًتيارا ًّ
لإلمبراطوري���ة ،وإما كطريق للحضارة عل���ى حد تعبير المفكر
في نخبة طائفية أو قلة فكرية.
47
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
بالخ���روج من دائرة العبثية المؤسس���ة عل���ى اللذة والفن للفن، تنمي في اإلنسان الجوانب وجعل للفن رسالة إنسانية ساميةّ ، الفطري���ة وتس���عفه عل���ى جعله���ا مندرج���ة ف���ي إط���ار الوجه���ة التوحيدية المستعادة (بالتذكير الفطري والمحاججة المؤسسة على الفطري من معارف العقل). المؤذن فيهم أرضا ون���ادى دلي���ل ذلك ،ما دخل ُ اإلس�ل�ام ً ُ بالص�ل�اة بغي���ر أنغامهم وألحانه���م المتداولة بينهم ،وما أنش���د منش���د أو مدح مادح أو ...في المس���لمين في مختلف أصقاع األرض بغي���ر تل���ك األنغ���ام واأللحان التي تطرب لها أس���ماع س���مع أثر ذل���ك في ترتي���ل القرآن أه���ل تل���ك األرض ...بل ُي َ الكريم ،ودليل ذلك واقع أنغام األذان والترتيل والمديح شر ًقا وعجما .فأذان المدينة المنورة مختلف عن أذان عربا وغرب���اً ، ً ً مكة ،وهما متخلفان عن أذان إس���طنبول ،وهي بدورها متميزة نغما ع���ن أذان المغرب ع���ن أذان بغ���داد ،وجميعه���ا مختلف���ة ً اإلس�ل�امي ،وف���ي المغ���رب اإلس�ل�امي نفس���ه تماي���ز؛ فاألذان نغما عن أذان تون���س ،وتميزهما األصي���ل ف���ي الجزائر متمي���ز ً نغم���ا عن أذان المغرب (مراكش على ق���ول إخواننا األتراك)، ً ظاه���ر جل���ي ،والتمايز نفس���ه ظاهر جلي في المديح والنش���يد الديني ومختلف األنغام. شف مما سبقت اإلشارة إليه ،أن اإلسالم دين الفطرة، ست ّ ُي َ م���ا أت���ى ثور ًة على الناس في أمورهم الفطرية ،بل أتى مس���ع ًفا للناس الس���ترداد ِف َط ِرهم التي أجلتهم عنها برامج مؤسس���ات صناع���ة الوعي ممثلة في التربية والتعليم واإلعالم ...وما جاء بأنموذج واحد في األنغام ُي ِ البعض ويبقي على البعض قصي بها َ وزودها فثمنها ّ اآلخ���ر ،بل راعى ما درج عليه الناس من أنغام ّ بالوجه���ة التي تجعل م���ن الفنون الصوتية وس���يلة مهمة لتربية األذواق ،وتبليغ المبادئ والقيم السامية التي جاء بها اإلسالم. وخلع اإلس�ل�ام على الفن ميزته المتمثلة في الشمول ،فال اإلس�ل�ام الفصل بين الدين والدنيا ،فكذلك الفن المعتبر َيقبل ُ ومعب ًرا عنه. خادما لذات الش���مول في اإلس�ل�ام ،فهو م���ا كان ً ّ مفسدا ال للدنيا ،وما كان فما كان مصادما للدين ال يكون مقبو ً ً ً فهم من ذلك أن اإلس�ل�ام دينيا .وال ُي َ للدنيا ال يمكن أن يقبل ًّ ُي ِ هم���ل أح���وال الن���اس وأوضاعهم فيجع���ل ِ عاما الج َّد قانو ًن���ا ً ال حي���دة عنه كم���ا يفهمه بعض أهلنا ،ب���ل القضية بحاجة إلى الجد ،فمن دواعي اس���تمرار ضبط .فاإلس�ل�ام وإن كان قانونه ّ تعهد النفوس بالترويح س���اعة فس���اعة ،وحديث حنظلة الج���د ّ السنة الثامنة -العدد (2013 )36
46
ال���ذي أخرج���ه الترمذي يؤكد ه���ذه المعاني :فق���د ورد فيه أن
مر بحنظلة وه���و يبكي ،فقال ما لك ي���ا حنظلة؟ قال: أب���ا بك���ر ّ
ناف���ق حنظلة يا أبا بكر ،نكون عند رس���ول اهلل يذكرنا بالنار
والجنة كأ ّنا َر ْأ َي عين ،فإذا رجعنا إلى األزواج والضيعة نسينا
كثي���را ،ق���ال :ف���واهلل إن���ا لكذلك. انطل���ق بنا إلى رس���ول اهلل ْ ً
فانطلقنا ،فلما رآه رسول اهلل قال" :ما لك يا حنظلة؟" قال:
ناف���ق حنظلة يا رس���ول اهلل ،نكون عندك تذكرن���ا بالنار والجنة كأ ّن���ا َر ْأ َي عين ،فإذا رجعنا عافس���نا األزواج والضيعة ونس���ينا
كثيرا ،قال :فقال رس���ول اهلل " :لو تدومون على الحال التي ً
تقوم���ون بها من عن���دي ،لصافحتكم المالئكة في مجالس���كم وف���ي طرقكم وعلى فرش���كم ،ولكن يا حنظلة س���اعة وس���اعة ساعة وساعة".
تمت���از الفن���ون الصوتي���ة بجمل���ة م���ن الخصائص ،رأس���ها
االرتب���اط الوثي���ق بالمرجعية .رس���التها الرئيس���ة تبلي���غ الهداية اإللهية والتجاوب مع حاجة اإلنس���ان للراحة والترويح ألجل معبرة عن التوحيد المداومة على الجد ،فتكون الفنون الصوتية ّ وم ِنز ِعه لتنمية (التس���امي) اإلنس���ان ف���ي رؤيت���ه للكون والحياة َ
قصده وترقيت���ه إل���ى ذروة الطاع���ة والتخل���ق بأخ�ل�اق النب���وة؛ ُ استعادة اإلنسان فطرته ،ولكن في إطار عمل استئنافي يرفض
البداي���ة الصفري���ة في الفن ،كرفضه البداي���ة الصفرية في مبادئ
مثم ًنا العقل واألخالق والقيم اإلنسانية الرفيعة ،بل جاء ّ متم ًما ّ لما بقيت الفطرة فيه سليمة.
(*) كلية العلوم اإلسالمية ،جامعة الجزائر /الجزائر.
الهوامش
خمس خم���س ،أو ( )1يش���هد ل���ه م���ا أخرج���ه البخاري في صحيح���ه " :الفطر ُة ٌ ٌ ِ وقص وتقلي���م األظفارِ ، اإلبط، ونتف واالس���تحداد، الختان، م���ن الفط���رة: ُ ُ ُّ ُ ُ الشارب. ِ ( )2راجع أطلس الحضارة اإلس�ل�امية ،إس���ماعيل راجي الفاروقي ،لوس لمياء الفاروق���ي ،ترجم���ة عب���د الواح���د لؤل���ؤة ،مكتبة العبي���كان ،الطبع���ة األولى 1419ه���ـ1998/م ،ص .620:اس���تعمل مصطلح الفنون الصوتية األس���تاذ
ال عن الفنون الموس���يقية ،واس���تعمل غيره الفنون الس���ماعية، الفاروقي بدي ً وهو مصطلح له حضوره القوي في أدبيات الصوفية عموما .والمصطلحان ً
غني���ان باإليح���اءات اإليجابية ومبعدان عن اإليحاء الس���لبي الذي يتس���رب ّ
م���ن اس���تعمال لفظ الموس���يقى بمعن���ى اس���تعمال اآلالت ال بمعنى القول الم���وزون ،فق���د ارتبط ف���ي كثير من البيئ���ات في العالم اإلس�ل�امي بالعبثية
ومسالك المجون.
أو العقل أو األخالق أو القيم اإلنس���انية الكبرى.
ولع���ل في قوله صل���ى اهلل عليه وآله
وصحب���ه وس���لم فيم���ا رواه الترم���ذي: م���كارم األخالق" ما ألتم َم "إنم���ا ُب ِع ُ َ ثت ّ يؤكد ه���ذه المعاني .فإذا جاء اإلس�ل�ام متم ًم���ا -أي ،م���ا ف���ي ش���أن األخ�ل�اق ّ مقصيا لكل ما س���لف -فإنه ملغيا ً ج���اء ً
بالنس���بة لسائر مكونات الفطرة ال يكون مس���اعدا اإلنس���ان إال كذل���ك ،فقد جاء ً الس���تعادة الفط���رة في جمل���ة مكوناتها.
يؤي���د ه���ذا المعنى ما ورد ف���ي الحكمة
التي سارت بها الركبان" :الحكمة ضالة
للص���وت الجمي���ل ،ف�ل�ا يمك���ن رف���ض
الف��ن مرتبط باملرجعي��ة الفكرية والديني��ة والإثني��ة للمجتمعات الإن�س��انية �أو الر�ؤية الفل�س��فية، له��ذا ال وجود لفن خ��ارج عامل الإن�سان امللون بالأر�ض والتاريخ واجلغرافي��ا والع��رق ،ذل��ك �أن الفن خ�صي�ص��ة �إن�سانية ،فحيث وجد الإن�سان وجد الفن ،والفن بهذا املعن��ى ،ال يكون �إال ت�رصفًا فطريًّا للإن�سان يف �شعاب احلياة.
أحق بها". المؤمن ،أ ّنى وجدها فهو ّ
تعبيرا بالرس���م ،أو الف���ن الذي يمثل إما ً
واحدا -بل األصل ال تعبيرا بالكالم -قو ً ً ً
في���ه اإلباح���ة -عل���ى األقل -وف���ق ما ال
يتع���ارض م���ع المب���ادئ الش���رعية ،التي
بدوره���ا أت���ت وف���ق مقتضي���ات الفطرية اإلنس���انية ف���ي أص���ل الخلق���ة .م���ن هنا
نؤمن بمبدأ االجته���اد في التعبير الفني،
ومن ث���م جواز الخطأ ف���ي البذل الفني، بش���رط أن يك���ون الباع���ث عل���ى العمل الفني ،الس���عي ال���دؤوب لتمثل الحقائق
اإلس�ل�امية التي تتمحور ح���ول التوحيد
أس���اس اإليمان ،والخير والسمو بالبشر
إلى القيم اإلسالمية المثلى.
وم���ن القضاي���ا ذات الصل���ة بالحكم���ة ،مس���ألة الفن بصفة
الف���ن مرتب���ط بالمرجعي���ة الفكري���ة والديني���ة واإلثني���ة
وفق تعبير أهله "محاوالت تعبيرية تس���تهدف تجسيد المشاعر
خ���ارج عالم اإلنس���ان الملون ب���األرض والتاري���خ والجغرافيا
م���ن المنتس���بين إلي���ه م���ن التعبير عن مش���اعرهم اإلنس���انية أو
فطريا وج���د الف���ن ،والف���ن بهذا المعن���ى ،ال يكون إال تصر ًف���ا ًّ
عامة والفنون الصوتية( )2على وجه الخصوص .وإذا كان الفن
اإلنسانية" فهذا مما يراعيه اإلسالم ،وال يمكن أن يمنع الناس تجسيدها ،ذلك أنه دين يراعي استعدادات الناس وحاجاتهم، ال عن كونه صيغ وفق ما ييسر لهم االقتناع واإلقناع. فض ً
للمجتمعات اإلنس���انية أو الرؤية الفلسفية ،لهذا ال وجود لفن
والعرق ،ذلك أن الفن خصيصة إنسانية ،فحيث وجد اإلنسان لإلنسان في شعاب الحياة.
ح���ل اإلس�ل�ام ب���أرض وطلب م���ن أهله���ا أن يخرجوا م���ا َّ
الح���دث الفن���ي يتعلق بالش���عور واألذواق ،له���ذا يصعب
عما فطروا عليه ،ذلك أنه دين الفطرة ،يش���هد لهذا المعنى ما
فالفن األرقى ،هو الذي يمتزج فيه الصدق مع الجمال وخدمة
ينصرانه يهودانه أو ّ "ما من مولود إال يولد على الفطرة ،فأبواه ّ
عرض���ه عل���ى المحاكم���ات العقلي���ة .وبالرغم م���ن كل ذلك، ومتميزا ممتازا المقصد اإلنس���اني .من هنا كان الفن األس���مى ً ً
وبينة، بوظيفة رسالية ذات أبعاد اجتماعية ظاهرة وذوقية رفيعة ّ
تسهم في السمو المعنوي والرقي المادي ،تتسامى فيه النفس إل���ى رتبة س���امقة ،تتط ّلع إل���ى القيم اإلنس���انية الرفيعة وخدمة المقاصد اإلنسانية النبيلة.
الفن���ان المتزود بالمبادئ اإلس�ل�امية ،المنبثق إبداعه الفني
عنه���ا ،فنان يريد خدمة تل���ك المبادئ بوس���ائل فنية .فاإلبداع في الفنون اإلسالمية ،منبثق عن القيم األخالقية المستندة إلى
المبادئ المؤسس���ة للدين نفسه ،وليس معنى ذلك أنها بمعزل
عن اإلنسان ،بل هي متناغمة معه ،ذلك أن اإلنسان مفطور على ح���ب الصورة الجميلة والصوت الش���جي واألداء الحس���ن... وبم���ا أن اإلنس���ان مفط���ور عل���ى ح���ب الجم���ال ويطرب
أخرج���ه البخ���اري عن أبي هريرة قال :قال رس���ول اهلل :
يمجسانه ،كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ،هل تحسون فيها أو ّ
من َج ْدعاء" ،ثم يقول أبو هريرة :فطرة اهلل التي فطر الناس عليه���ا ال تبديل لخلق اهلل ذلك الدين القيم .قال ابن حجر في
فت���ح الباري :الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه ،بل إنما حصل بس���بب خارجي ،فإن َس ِلم من ذلك السبب استمر على الحق.
وط َربه تغني اإلنس���ان َ وم���ن الجوان���ب المتعلقة بالفط���رةّ ،
أرضا وطلب من أهلها دخل اإلس�ل�ام ً للصوت الش���جي ،فما َ ُ تغيي���ر أنغامهم واأللح���ان المتداولة بينهم ،ب���ل أقرهم على ما
هم عليه ،كإس���عافهم على اس���تعادة فطرته���م الدينية وفطرتهم العقلية واألخالقية والقيم اإلنسانية الرفيعة.
زودها بالوجهة فأس���عفهم م���ا أخرجهم عن أنغامه���م ،بل ّ
45
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
ثقافة وفن
أ.د .عمار جيدل*
منزلة الفنون الصوتية
في الرؤية اإلسالمية
يتمي���ز اإلس�ل�ام -بوصف���ه الرس���الة اإللهي���ة
ال عن كونه كذلك ،فقد اس���توعب حاجات اإلنس���ان وفض ً
والنفس���ية
الحرب ،الصغير/الكبير ،الغني /الفقير ،الحياة/الموت ،الدنيا/
الخاتم���ة -بعرض مضمونه وفق اس���تعدادات اإلنس���ان
العقلي���ة
والقلبي���ة
فطريا ،يراعي الفطرة واالجتماعي���ة ،من ثم كان اإلس�ل�ام دي ًن���ا ًّ في مجمل مكوناتها ،فيش���بع حاجة اإلنس���ان للدين كما يشبع
حاجت���ه للقي���م اإلنس���انية الرفيعة واألخالق الس���وية ،ويعرض
كل ذل���ك في صيغ تراعي أس���س موازين العق���ل .وبهذا يؤكد ّ
اإلس�ل�ام بأنه منس���جم مع الفطرة من حيث كون الفطرة يمكن التعبير عنها بالمعادلة اآلتية.
الفطرة = الدين +المبادئ المدبرة للعقل +القيم اإلنسانية
الرفيعة +أخالق الفطرة(.)1
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
44
ف���ي جميع األح���وال (الفرد/الجماع���ة ،الذكر/األنثى ،الس���لم/ أطرا تؤك���د أنه من حي���ث مضمونه اآلخ���رة ،)...ووض���ع له���ا ً مراعي���ا للفطرة التي عليها اإلنس���ان في أصل خلقته .فلم يأت ً
مصادما الس���تعدادات فض�ل�ا عن أن يكون مزاحما، اإلس�ل�ام ً ً ً
اإلنس���ان وحاجات���ه ،العقلي���ة والديني���ة واألخالقي���ة والقيمي���ة اإلنس���انية الكبرى .فكل ما كان من جنس ما س���بقت اإلش���ارة
إلي���ه ،ال يك���ون إال مح���ل عناي���ة واعتبار في صياغ���ة الخطاب مس���اعدا في أصلومقاص���ده .له���ذا كان الدي���ن اإلس�ل�امي ً وضعه -الس���تعادة اإلنس���ان فطرته ،س���واء تع ّلق األمر بالدين
أدب
أديب إبراهيم الدباغ*
اإلنسان المعرفي اإلنس���ان المعرف���ي ،ه���و ذلك اإلنس���ان الذي جنبي���ه، يح���اول أن يع���رف نفس���ه الت���ي بي���ن ْ ويع���رف العالم م���ن حوله .والرغب���ة بالمعرفة ن���ازع إنس���اني ملح يضطر اإلنس���ان ّ غريزي فط���ري ،وهو دافع ّ بسببه إلى البحث عن الطريق الموصلة إلى هذه المعرفة َف َي ِج ُّد في سلوكها وقطع أشواطها. فالنقطة الفارقة التي عندها يتحول اإلنسان من مجرد كتلة َّ جس���دية ثقيلة ،إل���ى طاقة روحية وفكرية ،ه���ذه النقطة الفارقة ه���ي عندم���ا يخطو الخط���وة األولى ف���ي هذه الطري���ق ،فيغدو تتوخى اإلنسانية ش���ك ً ال آخر من أشكال الرقي اإلنساني ،التي ّ تاجا على رأسها، ابتعاثه إلى العالم من بين أبنائها لكي يكون ً تزهو به وتفخر أمام الكون والكائنات. و َل ّما كان "المعرفي" بتميزه الفكري ،هو أكبر وأوسع ِم َّم ْن يس���تطيع الن���اس وحت���ى احتماله العادي���ون والتقليدي���ون فهمه ّ ّ والوث���وق به ،لذلك وكرد فعل من جانبه -يبدأ باالنس���حابّ إل���ى أعم���اق نفس���ه ،ليمحص فيه���ا أف���كاره ،ويراج���ع معارفه وثقافات���ه .وقد يمضي في طريقه المعرفي متفر ًدا ،دون ً وحيدا ّ ش���عوره بالحاج���ة إلى البح���ث ع���ن رواد كبار كانوا ق���د َم ُّروا قبل ،لكي يأنس بهم ويس���تعين بوجودهم بالطريق نفس���ها من ُ على معرفة الطريق ومسالكها وشعابها وسهولها وحزونها. فأه���وال الطري���ق م���ن الكثرة ،بحي���ث تتطلب من س���الكها الرواد الملمين الكثير من اليقظة واالنتباه ،والكثير من الرفقاء ّ ّ بش���ؤونها وأبعاده���ا ،وإال أصابه التعب ،وربم���ا هلك وهو لم يقطع من الطريق إال القليل. وم���ن جانب آخ���ر فإن تفرد "المعرفي" بنفس���ه في س���لوك الطريق خطأ ذهني باألس���اس ،ألن االس���تقاللية الفردانية وهم يق���ع فيه "المعرف���ي" لعدم التفاته إلى الحقيقة المش���اهدة ،مما يحيط بنا من أن األش���ياء ال يستقل بعضها عن البعض اآلخر، وأن���ه ال يمكن فهم ش���يء ،إال إذا اقترن وجوده بوجود ش���يء حق المعرفة، آخر .واإلنسان -كذلك -ال يمكن ْ أن يعرف ذاته ّ إال إذا اتصل���ت ه���ذه الذات بالذوات األخ���رى المختلفة معها
وحتى المتشاكلة معها. والمفت���اح الذي يديره المعرفي ف���ي مغاليق ما يواجهه من إيهامات معرفية وإش���كاالت وجودية وه���و يقطع الطريق إلى هدفه ،إنما هو -أي المفتاحَ -ف َّعالية ذهنية مضنية ،ته ُّز أعماق مدارك���ه ليحظ���ى من بعده���ا باللحظة المضيئة الت���ي تضيء له معض�ل�ات الطريق ،وترش���ده إلى وس���ائل تجاوزه���ا ...وهذه اللحظ���ة المضيئة ،تتنزل على س���ماء العقل بعد مجاهدة ذهنية مضني���ة ،كالنج���م الثاق���ب م���ن وراء الغي���ب لك���ي تعين���ه على مواصلة السير على نور وهدى ويقين. و"المعرف���ي" بفع���ل ذلك، مدفوع���ا بقوى روحي���ة وعقلية ً هائلتين ،تقودان خطاه وتالزمانه في هذه الطريق ،وتخلي هذه القوى عنه وتركه هناك وحيدا ،يشكل إحدى أشد االنتكاسات ً الت���ي تفجع "المعرف���ي" في أخص خصائص وجوده كإنس���ان متمي���ز ومتف���وق ،ونموذج مث���ال ،واقتداء في اكتش���اف حقائق ّ ّ العق���ل ،واكتش���اف م���ا تنطوي علي���ه الروح م���ن عوالم ال زال سرا من أسرار أصحاب عظماء الروح في هذا العالم. اكتشافها ًّ وتتب���ع خطوات "رجل المعرفة" في الطريق التي يس���لكها، أحياء ش���يئا م���ن الطمأنينة؛ بأنن���ا ال زلنا فكري���ا ،وبأننا تمنحن���ا ً ًّ ً ال زلن���ا نمل���ك إراد ًة تدفعن���ا الرتقاء الدرج���ات المعرفية التي ارتقاها والتعلم منها ،وبأننا بهذه المتابعة ُن َك ِّفر عن األيام التي انشغ ْلنا فيها عن اللحظات القدسية واالنتشائية التي نحظى بها اليوم ،من خالل مش���اركتنا لرجل المعرفة باهتماماته المعرفية العالي���ة ،واإلعج���اب ببصيرت���ه المدرك���ة الناف���ذة إل���ى ما وراء ه���ذا العالم ،والذي يجعل أذهاننا تس���تمتع إلى حد االنتش���اء، با ْلتماع���ات أفكاره وانعتاقاتها من س���جون األرض الدنيا ،إلى ص���روح الروح التي يقيمها من مقالع فكره وروحه ...وأقلُّ ما يمكن أن تفيدنا هذه المتابعة لرجل المعرفة ،هو الخالص من س���أم البطال���ة الفكرية المدمرة ،أو الوقوع في ش���باكات اللغظ الفارغ الذي يراد ملأْ ُ أذهاننا به. (*) كاتب وأديب عراقي.
43
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
شعر
محمد محمود عبد العال*
ابتهال مع موكب الحجيج إلى األرض الحرام س � � ��عت جمو ُ ع تلب � � ��ي ربه � � ��ا الرحم � � ��ن س � � ��عيا تق � � ��ول لم � � ��ن أراد له � � ��ا خضوعا: ف � � ��إن الل � � ��ه أكب � � ��ر من � � ��ك بطش � � ��ا
�وع يواكبه � � ��ا التبت � � ��ل والخش � � � ُ ودق � � ��ات القل � � ��وب س � � ��نا يض � � ��وع لغي � � ��ر الل � � ��ه لي � � ��س لن � � ��ا خض � � ��وع ومن � � ��ك تب� � � �رأ الحان � � ��ي يس � � ��وع
حجيج من فج � � ��اج األرض جاؤوا بح � � ��ب الل � � ��ه يدفعه � � ��م ه � � ��واه فك � � ��م عاش � � ��وا على أم � � ��ل حبيب تحق � � ��ق حلمه � � ��م بع � � ��د اش � � ��تياق
به � � ��م ألداء منس � � ��كهم ول � � ��وع عل � � ��ى بح � � ��ر منابع � � ��ه الدم � � ��وع ون � � ��ار الش � � ��وق تحبس � � ��ها الضلوع فأين � � ��ع ف � � ��ي قلوبهم � � ��وا ربي � � ��ع
حجي � � ��ج البي � � ��ت يا م � � ��ن أوفدتكم إل � � ��ى الرحم � � ��ن إيمان � � ��ا بوع � � ��د إل � � ��ى قب � � ��ر الرس � � ��ول يف � � ��وح عطرا حجي � � ��ج البي � � ��ت فابتهلوا بس � � ��اح لع � � ��ل الل � � ��ه رب البي � � ��ت يأس � � ��و
ش � � ��عوب ش � � ��دها أم � � ��ل وج � � ��وع بنص � � ��ر من � � ��ه يرج � � ��وه الجمي � � ��ع وم � � ��ن غي � � ��ر الرس � � ��ول لنا ش � � ��فيع به � � ��ا اإلس� �ل ��ام حالف � � ��ه الذي � � ��وع جراح المس � � ��لمين ..هو الس � � ��ميع
(*) شاعر مصري.
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
42
﴿و َأ ْن َلي ِ إل ْنس ِ ُ ان سل ِ َ أ ْخ َرى﴾(األنعامَ ْ َ ،)164:
جدا ،فال يج���وز لنا الخروج عليه بحال ًّ من األحوال.
كذلك ينبغي االهتمام باللغة العربية
الت���ي نزل بها الن���ص ،ألن هناك طوائف م���ن الذي���ن ادع���وا التجديد قدح���وا في دالالت اللغ���ة ،وم���ن هن���ا يب���دأ الخطأ؛ حي���ث يتس���ع المجال لكل من ش���اء أن
يق���ول ف���ي دي���ن اهلل ما ش���اء .ف�ل�ا نقبل دع���وى التالعب باللغ���ة ،وهي ما يدعو
إليه���ا معس���كر ما بع���د الحداث���ة ،حيث تمث���ل هذه الدع���وى القدح في دالالت
اللغ���ة ،وليس���ت اللغة العربي���ة وحدها،
ينبغ��ي على املجته��د �أن يكون عن��ده الق��درة عل��ى النظر يف الن���ص وطريق��ة فهم��ه ،ويف الواق��ع وطريقة فهمه ،ثم عليه �أم��ر ثالث وهو كيفية الو�ص��ل بينهما؛ كيف يغ�ير هذا الواقع مب�ؤ�س�س��ات وب�أف��كار وبعقود تت��واءم م��ع ه��ذه الأح��كام الت��ي قد ح�ص��لها م��ن الن�ص.
وه���و م���ا يس���مى بفوري���ة القواني���ن...
إل���خ ،م���ن المب���ادئ الحاكم���ة للعق���ل المس���لم ،والقواعد الفقهية مثل :األمور
بمقاصده���ا ،والض���رر ي���زال ،واليقين ال يرفع بالش���ك ،والع���ادة محكم���ة ،وكذا المشقة تجلب التيسير.
فبعض ه���ذه القواعد خالصة الفقه،
وهذه القواعد يتفرع منها قواعد أخرى،
الب���د لن���ا م���ن إدراك المنه���ج ،والب���د
لن���ا م���ن عملي���ة التجري���ب التي تس���قط
إنم���ا أي لغة ،يريدون جعل وظيفة اللغة مجرد التلقي .واللغة في الحقيقة ،األداة
���ز ُاء ���عى﴾(النجم،)39: ِإ َّ ﴿و َج َ َ ال َم���ا َس َ َس��� ِّي َئ ٍة َس��� ِّي َئ ٌة ِم ْث ُل َه���ا َف َم ْن﴾(الش���ورى،)40:
المشخصات ،وتبقي المعنى البد لنا من
والتلق���ي ،فاالس���تعمال من صفة المتكل���م ،والحمل من صفة
النظ���ر إلى الم���آل ،البد لنا م���ن النظر إلى المصال���ح ،البد لنا
الن���ص الش���ريف حس���ب انطباع���ات المفس���ر ،دون االلت���زام
وتحسينية ودرجات العالقات البينية بينها ،وهو ما لم يتم إلى
الس���امع ،والوض���ع قبلهما ،وبذلك فإنهم يس���عون إلى تفس���ير ب���دالالت اللغ���ة .فنس���تطيع أن نق���ول :إن الن���ص الش���ريف،
واإلجم���اع ،ودالالت اللغ���ة ،وهي مع ما يأتي أس���قف ينبغي للمجتهد أال يتعداها.
م���ن إدراك مراتب هذه المقاص���د ،وأن منها ضرورية وحاجية
اآلن.
فكت���اب المقاص���د نج���ده يتكلم ع���ن المقاص���د ومراتبها،
ولك���ن ال يتكل���م ع���ن العالق���ات البينية ،فإن ه���ذا محتاج إلى
ينبغ���ي على المجتهد كذل���ك مراعاة مقاصد التش���ريع؛ إذ
عم���ل كثي���ر حتى نس���تطيع أن ُنفعله���ا ،أي نجعله���ا أداة أو آلة
قديما اإلنس���ان -حس���ب التس���مية المعاص���رة وكانت تس���مى ً ِ بالع���رض أو النس���ل -والملك -وهي تس���مية معاصرة كذلك
تكتم���ل من إدراك الن���ص وإدراك الواقع ،ومن الوصل بينهما،
الب���د أن يكون تحت س���قف صريح الن���ص واإلجماع واللغة
الترتيب ،ألنه ليس ُمتفق على ترتيبها بش���كل معين ،فالشاطبي
ف���إذا كان االجته���اد عل���ى هذا الش���كل م���ن إدراكه للنص
مناس���با للتفكير وللعصر كذلك .فاإلنس���ان وهذا الترتيب أراه ً
اجتهاد صحيح ،خاصة في الجانب المالي الذي نحن في أشد
تمثل النظام العام وهي حفظ النفس ،والعقل ،والدين ،وكرامة
تب���ت ه���ذه المقاصد بهذا والتس���مية القديم���ة الم���ال -وإنما َر ُ
ب���دأ بالدي���ن ،والزركش���ي ي���ورد الخ�ل�اف ف���ي ه���ذا الترتيب، يحافظ على نفس���ه ثم على عقله ثم يك َّلف فيحافظ على دينه
ث���م يحافظ على كرامته وملكه .وعلى ه���ذا الترتيب نكون قد أيضا ،ألنه متفق عليه بين نظاما يصلح لغير المسلمين ً جعلناه ً البش���ر ،فليس هناك نظام قانون���ي يبيح القتل العدوان ،أو يبيح
الس���رقة -إلى يومنا هذا -في أي مكان ،مما يجعل هذا النظام العام يتس���ع للتعددية الحضارية التي فعلها المس���لمون عندما
أبقوا غير المسلمين بكافة طوائفهم.
���ز ُر َوازِ َر ٌة وِ ْز َر ﴿و َ ال َت ِ والمب���ادئ الديني���ة الت���ي تبي���ن أن���هَ :
بيننا ...إذا حدث هذا فهذه بعض ضوابط االجتهاد ،والبد أن
والمقاصد والمصالح والمبادئ والقواعد.
والواق���ع ومن الوصل بينهما تحت ه���ذه المظلة ،فإن اجتهاده
الحاج���ة إليه ،ألن العبادات -والحمد هلل -ليس هناك فجوات كبي���رة فيه���ا ،وال هن���اك مس���تحدثات تعكر صفوه���ا أو تعطل
مسائلها ومقاصدها وثمرتها بقدر ما حدث في عالم المال.
وبعد ذلك العرض ،يتضح لنا مفهوم التجديد الذي نقصده
وكيفيت���ه ،وهو بإدراك الواقع بعوالم���ه المختلفة ،وربط الواقع
بالمصادر مع االلتزام بالحدود األساسية للمجتهد المسلم. (*) مفتي الديار المصرية السابق.
41
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
النموذج المعرفي اإلس�ل�امي .فالمسلم
فعل���م أص���ول الفق���ه -بع���د ه���ذا التوضي���ح -ه���و األس���اس لفه���م النص متش���بعا به���ذا النم���وذج عندم���ا يك���ون ً للمجتهد يوفر الفقه أ�ص��ول � إن � الذي هو مص���در البحث ،وهو تحصيل المعرف���ي ،يكون صاحب قضي���ة ،يلتزم ما يحتاجه لفه��م الن�ص ،ولكن حك���م اهلل ف���ي أعم���ال البش���ر .ولك���ن بالعم���ل م���ن أجله���ا أم���ام اهلل ث���م أم���ام لي�س هن��اك ما يوفر فهم الواقع، هناك واقع معيش���ي بعوامل متش���ابكة له الناس. س���مات :عالم األش���خاص ،واألش���ياء، ف���كان ينبغ���ي أن تكون أداتن���ا لفهم كثريا فغياب هذه الأداة ،يف�رس لنا ً واألح���داث ،واألف���كار .ه���ذه العوال���م الواقع مختلفة ،ولك���ن جامعاتنا تدرس من �أ�س��باب اختالف العلماء يف األربع���ة متصف���ة بالتط���ور والتركي���ب العل���وم االجتماعي���ة واإلنس���انية عل���ى املجامع الفقهية ،و�إنكار بع�ضهم والتعق���د والتغي���ر والتج���اوز والنس���بية نفس النم���وذج المعرف���ي الغربي وليس عل��ى بع���ض ،فم��دى �إدراك والتقاط���ع ف���ي نح���و ثالثين صف���ة لهذا على النموذج المعرفي اإلس�ل�امي؛ ألن الواق��ع ه��و �أ�س��ا�س اخت�لاف العصر. إدخال هذا النم���وذج إلى حيز التدريس احلدي��ث. الع��صر يف الفت��وى ينبغي على المجتهد أن يكون عنده ف���ي الجامعات ،يحتاج إلى ما يمكن أن الق���درة على النظ���ر في الن���ص وطريقة نس���ميه بالصناعات الفكرية الثقيلة ،التي فهم���ه ،وفي الواق���ع وطريق���ة فهمه ،ثم بناء تحت���اج إلى بناء أس���س ه���ذه العلوم ً عليه أمر ثالث وهو كيفية الوصل بينهما؛ كيف يغير هذا الواقع مؤسس���ا على الواق���ع ،وإدراكه بصورة قوي���ة صناعية كأصول ً بمؤسس���ات وبأفكار وبعقود تت���واءم مع هذه األحكام التي قد وتوجه الش���افعي بـ"الرس���الة" ثم الفق���ه ال���ذي وضعه علماؤناَّ ، حصلها من النص .هذا الواقع يدفع العالم أن يبدع وال يبتدع ،بعد ذلك توجه بهذا التراث الضخم. فيبدع بمعنى أن ينش���ئ ما لم يكن قد نش���أ من قبل ،وال يبتدع ونح���ن في عصرنا هذا نفتقد هذه األداة ،فإن أصول الفقه بمعن���ى أال يخرج عن مقتضيات ذلك النص الكريم الش���ريف يوف���ر للمجتهد م���ا يحتاجه لفهم النص ،ولك���ن ليس هناك ما وهو الوحي؛ إذ إن هذا يحتاج منا أن نعرف أن مصادر معرفتنا كثيرا من أسباب يوفر فهم الواقع ،فغياب هذه األداة ،يفسر لنا ً معا ،وأن الوحي هو كتاب اهلل المسطور ،اخت�ل�اف العلماء ف���ي المجامع الفقهية ،وإن���كار بعضهم على هي :الوحي والكون ً والك���ون ه���و كت���اب اهلل المنظ���ور ،وكالهما قد ص���در عن اهلل تعال���ى ،هذا عالم الخلق وه���و الكون ،وذلك عالم األمر وهو الوح���ي .ولذلك ال تناق���ض بينهما ،فهما مصدران من مصادر المعرف���ة لدى المس���لم ،وقد أش���ار الكتاب العزي���ز إلى هذين ال َل ُه ا ْل َخ ْل ُق َوا َ هلل َر ُّب المصدرين فقال تعالىَ ﴿ :أ َ اركَ ا ُ أل ْم ُر َت َب َ ين﴾(األعراف.)54: ا ْل َعا َل ِم َ
أما القضية الثانية فهي أننا متمس���كون بالحفاظ على هويتنا، وال نري���د مح���و ثقافتن���ا وتراثنا ،فنس���تعمل أص���ول الفقه لفهم النص المقدس ،ونس���تعمل عقولنا بأدوات ش���تى قد ال تكون معن���ا اآلن إلدراك واقعن���ا ...ف���إن عناص���ر النم���وذج المعرفي اإلس�ل�امي ،تختل���ف وتتقاطع م���ع بعض األدي���ان والمذاهب األخالقي���ة ،ه���ذا ال���ذي ينح���ي قضي���ة األلوهي���ة -وال أق���ول ينكره���ا -وينحي قضية الغائية ،وينحي قضية اإلطالق ويقول بالنسبية ،وينحى قضية اآلخرة ويعيش للدنيا فقط ،مما يترتب تاما عن عليه اختالف في النظام والتحليل والس���لوك اختال ًفا ًّ السنة الثامنة -العدد (2013 )36
40
بع���ض ،فم���دى إدراك الواقع هو أس���اس اخت�ل�اف الفتوى في
العصر الحديث.
إن واجب وقتنا هو بناء أداة إلدراك الواقع ،وبتأمل الواقع
نج���د س���مات أساس���ية واضحة تص���ل إلى ثالثين س���مة منها:
التج���اوز ،والجوار ،والنس���بية ،والتغير ،والترك���ب ،والتقاطع، والتطور ...إلخ ،وهذه السمات منها السلبي ،ومنها اإليجابي. فينبغ���ي أن ندرك المس���احة الس���لبية في تلك الس���مات ،حتى
نتمك���ن من تنحيتها بقدر اإلم���كان ،أو تفاديها ،وكذلك ندرك المس���احة اإليجابي���ة التي يمك���ن أن نس���تعملها لتمكين الدين والمنهج الذي أمرنا اهلل به في حياتنا الدنيا.
كم���ا يج���ب عل���ى المجته���د أثن���اء االجته���اد ،أن يكون له
س���قف وخط ال يتعداه ،أال وهو نص الكتاب وصحيح الس���نة
بع���د توثيقهما وقبول هذا التوثيق .فال يمكن أن نقبل الخروج عن القطعي الذي في الكتاب والسنة ،ولذلك البد أن نضيف
من ضوابط االجتهاد الفقهي ،اإلجماع ،فاإلجماع ضابط مهم
دراسات إسالمية أ.د .علي جمعة*
حدود التجديد واالجتهاد في الفقه اإلسالمي
عرض للمجددين من علماء المسلمين قضيتان األولى :هي التزامنا األدبي واألخالقي ُت َ بعد أو قبل التزامنا الديني أمام اهلل ،بأننا ورثة لهذا التراث الطيب الذي قام به أئمتنا
وعلماؤن���ا عب���ر التاريخ من لدن الصحابة الكرام وإلى يومن���ا هذا .وهذا التراث والنتاج
الفك���ري ع���اش عص���ره ،وأدى كل إمام واجب وقته .وال ينبغي إطال ًقا إذا ما رأينا اختال ًفا في المس���ائل
التي نعيشها أن نتهمهم بالقصور أو التخلف ،أو مثل هذه الدعاوى التي تخالف الواقع والحقيقة.
فه���م أدركوا واقعهم إدراكا دقي ًقا ،وس���اروا في المنهج العلم���ي الذي يتلخص عندهم كما تقرر في ً
ثانيا :كيفية طرق البحث ،ثال ًثا: تعريف مدرس���ة الرازي ألصول الفقه بأنه أوال :إدراك مصادر البحثً ،
ش���روط الباحث ،وهي الثالثة التي أش���ار إليها "روجرز بيكون" بعد ذلك .فإن أصحاب الرازي يعرفون ال ،وكيفية االستفادة ،وحال المستفيد" ،هذا كالم البيضاوي أصول الفقه بأنه" :معرفة دالئل الفقه إجما ً
في "المنهاج" والرازي في "المحصول".
فهذا هو المنهج الذي ينبغي علينا أن نس���ير عليه كما س���ار أس�ل�افنا ،ونقوم بواجب وقتنا كما قاموا
بواجب وقتهم .فيجب علينا أن نتعلم منهم كيف كانوا يفكرون ،وكيف تعاملوا مع هذه المصادر ،وما
الضوابط والخطوط واألطر التي ال يمكن أن نتعداها ،وما المجاالت التي يمكن فيها الخالف ...وفي نفس الوقت ال نجمد على مس���ائل عصرهم التي ارتبطت بواقعهم ،والتي ال تنس���جم مع واقعنا بس���بب
الثورة الهائلة في االتصاالت والمواصالت والتقنيات الحديثة ،وخاصة بعد نشوء الشخصية االعتبارية
واس���تقرارها بهذا الش���كل ،وبعد وجود هذه الش���ركات عابرة القارات ،وهذه الطرق السريعة والحديثة تماما عما كان ،مما يحتم في التمويل عبر البنوك ...كل تلك األش���ياء تس���ببت في تغير الواقع المعيش ً
علينا إدراك هذا الواقع الجديد ،والتعامل معه بمنهج السلف الصالح؛ حتى نصل إلى المقاصد الشرعية التي ينبغي أن نصل إليها.
إذا انطلقنا من العلم الموروث -وهو أصول الفقه -نجد أن األساس فيه ،هو إدراك النص وتحديد
الحجة .فالحجة هي الكتاب والسنة ،وال يمكن التعامل مع الحجة ،إال من خالل علوم التوثيق الخاصة بهذي���ن األصلي���ن "الكتاب والس���نة" .وعلم أص���ول الفقه ،يجيب عن أس���ئلة مهمة خاص���ة بتوثيق تلك الحجة مثل :ما الفرق بين القراءة المتواترة والش���اذة؟ وما الفرق بين الحديث الصحيح والضعيف؟ ما
الذي يكون محل قطع؟ ما الذي يكون محل ظن؟
39
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
لحموض���ة المع���دة ولزي���ادة نس���بة الس���كر ...إل���ى آخ���ر قائمة االحتم���االت الصعبة التي وضع نفس���ه في بداية الطريق الذي وأخيرا قال: ينتهي بها. ً هذه صحتك أنت وليس���ت صحتي أنا ،وجس���مك أنتوليس جس���م إنس���ان غريب ،وهو مع كل ذلك أمانة استرعاك اهلل إياها. ال: رفع إليه عينين كليلتين قائ ً والحل يا طبيب؟ الحل أن تلتزم بالحمية. لكنني ال أستطيع. إذن ،أقترح أن تبقى هنا في المستش���فى أربعة أيام علىاألق���ل ،حتى تأخذ فيها عالج���ا للظواهر المرضية التي عندك، ً ثم ننظم لك طريقة طعام الغداء والعشاء واإلفطار. ق���رر أن يقبل بهذا االقت���راح قبل فوات األوان ،فدخل إلى المستش���فى .وألن حالت���ه ال تس���تدعي أن يظ���ل على الس���رير دائم���ا ،فق���د وجدها فرصة أن يتعرف على أكثر من صديق في ً المستش���فى ،يتس ّلى معهم أو يس��� ّليهم ...وهذا ما كان يحصل غالب���ا -يراه���م ف���ي المصل���ى ،ويجل���س معهم بع���د الصالةً يتحدث���ون ...وغالب حديثهم ش���يء معتاد م���ن تاريخ المرض لكل واحد منهم ،لكنه سرعان ما يغير الموضوع إلى شيء آخر، إل���ى موضوع فيه طرافة وعذوبة .ولذا كان في كل مرة يحصد عددا م���ن المعجبين المتلهفي���ن لتعليقات���ه وحكاياته الممتعة. ً ومض���ى الي���وم األول محال ًف���ا الضجر م���ن الحمية ،حيث كان يتأ ّف���ف م���ن حرمانه من لذائذ الطعام التي عادة ما يضعف أمامها. وازداد تأ ّفف���ه وضجره ف���ي اليوم الثاني ،وعند مجيء اليوم الثالث ،شعر بالحسرة على الطعام ولذائذ األكل التي ليس له منها حظ وال نصيب. كان يردد: إل���ى مت���ى؟ ه���ذا ش���يء ال يط���اق ...يا ن���اس دعوني معم���ت فقول���وا عني ،إنن���ي قتيل المش���ويات والحلوي���ات ،ف���إذا ّ المشويات والحلويات! موزع ل���م يع���د يقدر على إخفاء ألمه وتحس���ره وه���و يرى ّ الطع���ام يدور بعربته على الغرف كل يوم ثالث مرات ،ليعطي المرض���ى أطبا ًقا من األطعمة الش���هية ،ولكن ما إن يأتي دوره حتى يناوله نصف رغيف خبز مع سلطة خضرة قليلة ،وتفاحة السنة الثامنة -العدد (2013 )36
38
ف���ي بع���ض األحيان .هذا كل ما يناله من تلك العربة المملوؤة
لذ وطاب. بما ّ
وفي هذا اليوم (اليوم الثالث لبقائه في المستش���فى) ،قادته
خطوات���ه إلى الطابق األرضي ال���ذي يوجد فيه المرضى الذين أصيبوا بالكسور ...نزل إلى قسم العظام وكان مسؤول التغذية
ق���د وزع عليه���م وجبة الغداء ،وألن الكس���ير ُتعطى له وجبات عالية القيمة الغذائية فقد هاله ما رأى:
-لحم ،أرز ،أوصال ،كباب ،مرق ،خبز ،فواكه...
أرس���ل ضحك���ة كعادت���ه ،ث���م خ���اض بالحدي���ث معهم...
خاض معهم في أحاديث طريفة ...ووسط حديثه الهازل قال: -ليتني أنكسر حتى آكل مثل أكلكم.
ضح���ك بعضه���م ،وتأثر بعضه���م اآلخر ،ألنه تمنى الش���ر
لنفسه ...قالوا له:
-يا شيخ ،هذه أشياء ال ُيمزح فيها ،احمد اهلل على العافية.
مازحا: فقابلهم ً
-المهم أن أتناول مثل هذا الطعام الفاخر وال أبالي بشيء
آخر.
القدر كان له بالمرصاد، وم���ع أنه قال ذلك مازح���ا ،إال أن َ ً
فتحقق ما تمناه على نفسه بعد أمد ليس بالبعيد.
وأخي���را جاء ي���وم مغادرته المستش���فى ،خ���رج وقد خ ّفت ً
علي���ه كثي���ر من اآلالم التي دخل من أجله���ا .بقي بعد خروجه
من المستشفى عدة أيام ،فإذا به ُيصاب بحادث وتنكسر قدمه فتتجب���ر قدمه وترفع اليس���رى ،فيعود إلى المستش���ىفى نفس���ه، َّ
على السرير شأن الحاالت المشابهة لحاالته.
وفي هذه المرة فقط ،سمح له الطبيب أن يتناول من أنواع
ممنوعا. الغذاء ما كان ً
عددا من المرضى الذين زارهم عند دخوله والطري���ف أن ً
األول للمستشفى ،قد ُدهشوا لعودته ،فيما كان بعضهم يعتب عليه ويقول:
وجدت الطعام يساوي أن تتمنى هذه المصيبة؟! فهلَ
اعتص���م بالصم���ت ...إذ كان س���كوته ه���ذا ،أبل���غ من كل
رد. جواب ُي ّ
(*) عضو رابطة األدب اإلسالمي العالمية /المملكة العربية السعودية.
قصة
د .عبد اهلل صالح العريني*
وكان له ما أراد اشتهر بأنه خفيف الظل ،خفيف الدم ،خفيف ال���روح ...يطل���ق النكتة فتس���تجيب لها نفوس
الحاضرين ،ويضحكون منها بشدة مع أنه في
الع���ادة ال يضح���ك ...فهذه هي طبيعته وس���جيته والفطرة التي فطره اهلل عليها.
وم���ع لطف���ه ودماث���ة خلق���ه ،إال أن���ه ال ُيخف���ي بي���ن الحين
واآلخر ش���عوره باأللم ،حيث يسارع إلى وضع يده على بطنه
بطريقة ال شعورية.
راج���ع الطبيب ،فش���خص حالت���ه على أنه���ا اضطراب في
الجه���از الهضم���ي وف���ي القول���ون بخاصة .طلب من���ه الطبيب
أن يقتص���ر على الخضار المس���لوقة والفواكه ومقدار قليل من طعام���ه المعتاد ولكن بدون دس���م .وحي���ن رأى القدر الضئيل
من الطعام الذي البد من االقتصار عليه ،ضحك من كل قلبه
وقال بصيغة تجاهل العارف:
-هذه األشياء قبل األكل أم بعده يا دكتور؟!
وكان ه���ذا يعن���ي أن م���ن رابع المس���تحيالت أن يقبل هذه
الوصف���ة التي تحرمه الطيب���ات ...فهو رجل أكول بطبعه ،يجد
ف���ي األكل ل���ذة ،ويس���وقه إليه نهم ش���ديد .فمن حق���ه إذن ،أن يتضايق من هذه الحمية التي ما أنزل اهلل بها من سلطان -كما
يقول -وكان يردد:
-إن أجدادي أصيبوا باألمراض لقلة الغذاء وعدم تنوعه،
أم���ا اآلن وق���د أصبح الغذاء الصحي المتن���وع في متناول اليد، فيأتي الطبيب ليمنعني عن ذلك؟! فكان كلما أقبل على التمر والرطب يقول: كل شيء ُأمنع منه إال "مسامير الركب".اغ الم ْندي كثي���را ويردد قوله تعالىَ ﴿ :ف َر َ كان يح���ب تناول َ ً ِإ َلى َأ ْه ِل ِه َف َج َاء ب ِِع ْج ٍل َس ِ ين﴾ .الحمية هي آخر ما كان يفكر ���م ٍ بها ،لذا لم يلتزم بأوامر ونصائح الطبيب ،بل كان يس���خر بينه ٍ طيب���ات أح َّلها اهلل... وبي���ن نفس���ه من أولئ���ك الذين يحرم���ون رافضا موضوع وكان يغال���ط في األم���ر ،ويخلط الجد بالهزلً ، الحمي���ة م���ن أوله إلى آخ���ره .وألنه لم يزل ف���ي صحة وعافية ف���ي الظاهر -على األقل -فإن َم ْنعه م���ن األطعمة التي يحبها، محاولة فاشلة مكتوب عليها اإلخفاق منذ البداية. كان���ت نكته وضحكاته ال تحلو ف���ي كثير من األوقات إال على مائدة الطعام ،إذ كان -والحق ُيقال -يضفي على الطعام بهجة ،ويفتح الشهية بحديثه وطرائفه العذبة. مضت عدة أشهر وتأكد لديه أن تركه للحمية عمل خاطئ مهم���ا حاول أن يج���ادل ويماري في ذل���ك .وراجع طبيبه مرة فتقبل الطبيب أخ���رى بخجل ،ألنه خالفه في كل ما طلبه منهَّ ، من���ه ذل���ك ،بعد م���ا ّبين أنه غاض���ب منه على تصرف���ه ،وضربه ع���رض الحائط ب���كل تعليماته .زاد الطبيب (ف���ي العيار) حين خوف���ه من خط���ورة زيادة الكس���ترول ،وأراه النتيج���ة المتوقعة َّ
37
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
والدراس���ات األدبي���ة والنقدية والفلس���فية المعاص���رة ،لكي ما يلب���ث أن يخل���ص إل���ى القول ب���أن "رواي���ة "الثعابين���ي" ،رؤية
مختص���رة مكن���اة تنطوي على حكم���ة السياس���ة والعبرة ،فهي إنذار لكل ثعابيني بأن مصيره أن يطاح به على يد أبناء ش���عبه،
يحل محله .فالسياسة في نهاية األمر، أو على يد ثعابيني آخر ّ لعب���ة ال تخل���و من التقلب���ات كتقلبات األفع���ى ،وتنطوي على أيضا الكثير من الزحف والت ّلون والسموم .وفي الرواية بشارة ً بأن للش���عوب أن تتخل���ص من طغاتها وحكامها المس���تبدين، فإن في جواهر مرئيات رؤيا الثعبان الحكمة واألنباء المضمرة
المكن���اة الت���ي كش���ف عنها المعب���رون .وهو يتس���اءل في نهاية ّ المط���اف" :هل نس���تطيع الق���ول أن عنوان الرواي���ة يمثل منبث ًقا
للظالم والظلم الذي انبثق من طغيان الحاكم المس���تبد التابع، ال���ذي قام وصفه على التضاد الرهي���ب بين داللتين في خلقه؛
دالل���ة لين الملمس وزه���و اللون بين يدي س���يده ،فإذا انقلب السم والناب والموت؟". إلى شعبه ،فليس سوى داللة ّ
إنه���ا مقاربة مقنعة ل���دالالت النص اإلبداعي ،وإضافة أداة
نقدي���ة أخ���رى إل���ى أدوات الجهد النق���دي تس���تهدف التحقق
ال عن بإضاءة أش���د نفا ًذا إلى خفايا النص ومكنوناته ،هذا فض ً أن المحاولة تنطوي على منح خصوصية أكثر للناقد المسلم،
لي���س فق���ط بتجاوزه الحس���ي المنظور إلى م���ا وراءه من عالم ّ الغي���ب ،وإنم���ا أيض���ا -باس���تدعاء وتوظي���ف خب���رات اآلباءً واألج���داد ف���ي مجال تفس���ير ال���رؤى واألحالم ،فيم���ا ال نكاد
نجده بهذا القدر من الخصب والنفاذ لدى األمم األخرى.
واسعا إن هذا -مرة أخرى -سيفتح الطريق متشعبا إلعادة ً ً
ق���راءة العدي���د من النصوص اإلبداعية الت���ي تعامل معها النقاد
م���ن زوايا ش���تى ،ولكنهم أغفلوا هذه الناف���ذة التي عرف علي كمال الدين كيف يلج منها ،لكي يقدم لقارئه مقاربة أشد نفا ًذا
لمكنونات النص.
(*) كلية اآلداب ،جامعة الموصل /العراق.
الهوامش
( )1حدود العلم ،د.م ،.بيروت ،الدار العلمية 1971م ،ص.40-39: ( )2حدود العلم ،د.م ،.بيروت ،الدار العلمية 1971م ،ص.33-32:
( )3ينظر :األحاديث األربعة ،لتوفيق الحكيم ،القاهرة ،مكتبة اآلداب 1983م، ص.27:
نق�ل�ا ع���ن كت���اب كاس���تلر :الم���ادة هذا ( )4ينظ���ر :المرج���ع الس���ابق ،صً ،28: المجهول.
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
36
جالوت المهزوم في حومة النـزال ،وو َغى الحرب،
بقوة اهلل استعان داوود ، وإلى حولِه تعالى لـجأ، فَتح ّفز ،وبِ ِمقالعه رمى... فإذا العمالق المخيف ،تزلزلت أركانه، ومن سماء جبروته هوى... ***
القواني���ن ع���ن العم���ل ،وأنه دخ���ل مرحلة لم تعد تس���ري فيها هذه القوانين الطبيعية المعروفة في األرض ،مما جعله يس���أل نفس���ه" :أت���رى عل���م الفيزياء الذي نمارس���ه ف���ي الحقيقة ليس علما ال عن واحدا؟ أي أنه يوجد علمان كل منهما يعمل مستق ًّ ً ً اآلخ���ر :علم للمرئيات وعلم للمخفي���ات ...أو بعبارة أخرى: عل���م للمحسوس���ات أو له���ذه الدني���ا ،وعلم فيزي���اء آخر لغير المحسوسات ،أي لغير دنيا البشر ،أي لآلخرة ،وكل منهما له قوانينه الخاصة التي ال تسري إال على عالمه"(.)4
اإلنسان والتركيب والثنائي
واإلنس���ان نفس���ه ،امتداد لهذا التركيب الثنائي المدهش حيث الشعور والالشعور ،والوعي والالوعي، والحسي والوجداني، ّ والم���ادي والروحي ...وتجيء ال���رؤى واألحالم لكي تعكس جانب���ا من ه���ذا التركيب ،وتش���كل حلقة من حلقات���ه المعقدة ً مع يتعاملون وهم النقاد على وكان المتشابكة. النص اإلبداعي ّ الذي يعكس الهم اإلنس���اني ،بطبقاته كافة أن ينتبهوا إلى هذا، بعيدا باتجاه أحد المكونين ،فيش���ط ولكن ش���ريطة أ ّ ال يذهبوا ً به���م النوى ،ويضح���ى -بذلك -بالعديد م���ن الحقائق .وعلى س���بيل المثال ،فإن الواقعيين ،والواقعيين االش���تراكيين بشكل خاص ،التصقوا بالحس���ي المباش���ر المنظ���ور أكثر مما يجب، ّ فأغفل���وا "العم���ق" الذي تنط���وي عليه الخبرة البش���رية .وعلى تماما ،أوغل الس���رياليون فيما يس���مونه هم س���راديب العكس ً ّ كثيرا عن الظالم والدجنة في الواعية النفس البش���رية ،فبعدوا ً تحليل األبعاد الحقيقية والواقعية للخبرة. ويج���يء الناق���د المس���لم لك���ي يعي���د األمور إل���ى نصابها، والمي���زان إل���ى وضع���ه الحق ،فال يغفل عن أي���ة مفردة من هنا أو هن���اك ،ويالح���ق أية خبرة في عالم الغيب أو الش���هادة على السواء. إن الدكتور علي كمال الدين -ومنذ زمن بعيد -عرف كيف جيدا بأحد المفاتيح يضع هذه الحقائق نصب عينيه ،وأن يمسك ً الضروري���ة للدخ���ول إلى النص واكتش���اف مكنونات���ه ورموزه وأسراره ،من خالل ما اصطلح عليه بتأويل الرؤى واألحالم. ع���دا جديدا للجه���د النقدي في دائرة إن���ه -بهذا -يضيف ُب ً ً األدب اإلسالمي المعاصر ،ويقدم إضاءة ضرورية قد تكتشف ف���ي دالالت الن���ص اإلبداعي م���ا يعين على المزي���د من قراءة خباي���اه ومكنونات���ه ...وه���و قد ن ّفذ منهجه ه���ذا مع العديد من النصوص الشعرية والروائية ...وبغض النظر عن مدى مصداقية
توصل إليها ،فإن المحاولة تستحق المجازفة ح ًّقا، النتائج التي ّ ألنه���ا ف���ي بدء التحلي���ل ونهايته ،تمثل إضاف���ة ذات قيمة بالغة
للجه���د النقدي الذي يس���تهدف التح ّقق بمقاربة أش���د للنص. وهنا -كما في كل الخبرات األخرى -علينا أن نتذكر كيف
التص���ور اإلس�ل�امي ،يتعامل م���ع الظواهر واألش���ياء برؤية أن ّ ّ شمولية تدير كاميرتها على كل "الحاالت" في إيجابها وسلبها
على الس���واء ،إنه يرفض الرؤية األحادية ،ويمسك بالعصا من أوس���طها إذا ص���ح التعبي���ر .فها هنا ف���ي مجال ما ي���راه النائم، ّ
ال يزك���ي كل المرئي���ات ويتقبله���ا عل���ى عواهنها ،كم���ا أنه من
جهة أخرى ال يرفضها وينفيها .إنه يصنفها -ابتداء -إلى رؤى وأحالم؛ في األولى قد تتأكد الداللة وتتكش���ف الترميزات في
مجرد أضغاث -كما واق���ع الحياة اليومية ،أما في الثاني���ة فهي ّ يسميها كتاب اهلل -تنطوي على الكثير من الفوضى والتناقض،
وتعك���س مخزون���ات الالواعي���ة البعي���دة عن العقالني���ة وربما المناقضة لها ،فال تكاد تومئ بش���يء ينطوي على القدرة على
التح ّقق في واقع الحياة.
ف���ي الحالتين يمكن للناقد -كما يمك���ن لعالم النفس -أن
النص يس���بر غ���ور الرؤيا والحلم ،هذا للكش���ف ع���ن دالالت ّ اإلبداعي ،وذاك إلضاءة تعقيدات النفس البشرية وأغاميضها.
السر يختار علي كمال الدين في بحثه الموس���وم "ش���عرية ّ المخفي في الثعابيني عنوا ًنا" ،رواية لألديب السوري "عبد اهلل بدءا من عنوانها عيسى السالمة" تحمل عنوان "الثعابيني" ،وهي ً هذا ،تغري باللجوء إلى تفس���ير الرؤى واألحالم ،ألن للثعبان
شأ ًنا لدى المفسرين ،وطالما انطوى (العنوان) لدى علي كمال ّ الدين على أهميته البالغة ،باعتباره البؤرة التي ت ّلم أشعة العمل
الفن���ي ،والمفت���اح الذي ال يمكن -بدون���ه -الولوج إلى خفايا
ال العم���ل ،ودالالته المنظ���ورة والمخفية .ولذا ه���و يقف طوي ً عند العنوان والتس���مية ،في بعدهما التاريخي ،وفي دالالتهما
المعرفي���ة ،ويرى "أن عنوان القصيدة أو الرواية إنما هو مفتاح
الدخ���ول إلى عالمهم���ا" ،ويح ّلل طبيعة االرتب���اط بين العنوان
األول���ون أهمية بالغة. ومطل���ع القصي���دة الذي أواله الش���عراء ّ ث���م م���ا يلبث أن يلج إل���ى رواية "الثعابين���ي" ،لكي يتابع ما
الذي ينطوي عليه العنوان في داللته اللغوية والقرآنية ،ويقف
مس���تضيئا بمعطيات جملة طوي�ل�ا عند داللته في تعبير الرؤيا، ً ً من المصادر والمراجع :التفاس���ير القرآنية ،كتب تفسير الرؤى واألح�ل�ام ،المعاج���م اللغوي���ة ،كتب األدب ،دواوين الش���عر،
35
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
والفيزيائي���ون ،والكوزمولوجي���ون الذين جاؤوا بعدهم ،فتحوا ج���دا ف���رأوا األعاجيب، ف���ي القش���رة المنظ���ورة ثغرات ضيقة ًّ وكانت القنبلة الذرية واحدة من ثمار هذه األعاجيب ...ترى، ماذا لو رفع الغطاء كله؟ ما الذي سنراه؟
النفس البشرية وعلم اإلنسان
"ألكس���يس كاريل" في "اإلنس���ان ذلك المجهول" -ومن أجل تأكي���د عج���ز اإلنس���ان ،ونس���بية معرفت���ه ع���ن معج���زة العقل، وطرائ���ق عم���ل الدماغ البش���ري -يؤكد بأن العل���م الطبيعي إذا كان قد أوغل في كشوفه ،وقطع المسافات الطوال بخصوص الظواهر الطبيعية ،فإنه يكاد يحبو ويتعثر في فهمه لخبايا النفس س���ر تركي���ب المادة وخواصها، البش���رية ...يقول" :إننا بتعلمنا ّ تقريبا على كل شيء موجود على ظهر استطعنا الظفر بالسيادة ً البسيطة فيما عدا أنفسنا ...إن علم الكائنات الحية بصفة عامة واإلنس���ان بصف���ة خاصة -لم يص���ب مثل هذا التق���دم ...إنهال ي���زال في المرحلة الوصفية ...فاإلنس���ان كلٌّ ال يتجزأ وفي غاية التعقيد ،ومن غير الميس���ور الحصول على عرض بس���يط له ،وليست هناك طريقة لفهمه في مجموعه أو في أجزائه في وق���ت واحد ...فكل واحد منا مكون من موكب من األش���باح تس���ير ف���ي وس���طها حقيقة مجهول���ة .وواق���ع األم���ر أن جهلنا مطبق ،فأغلب األس���ئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرس���ون الجنس البش���ري تظ���ل بال ج���واب .إن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة ،ونحن ال نملك أي فن يمكننا من النفوذ إلى أعماق المخ وغوامضه ،أو إلى االتحاد المتناس���ق بين خالي���اه .وعلينا أن ندرك بوضوح، جميعا". أن علم اإلنسان هو أصعب العلوم ً ب���ل إن الفيزيائيي���ن الكبار الذين أش���رنا إليهم ،كش���فوا عن حقيقة أخرى؛ أنه حتى الكشوف الفيزيائية المتعاملة مع المادة والطاق���ة والض���وء والكتلة ،لم تبلغ حافات اليقين ،وأن نس���بة جدا ،وأنه���ا تنطوي على أعماق االحتم���ال فيها كبي���رة وكبيرة ًّ مغيبة عن األنظار ،وعن أكثر األجهزة التقنية قدرة على غائ���رة ّ الكشف واإليغال. ومن الواضح كما يقول "س���وليفان" ،أن حقيقة كون العلم مقص���ورا على معرفة البنى ولي���س الماهيات ،هي حقيقة ذات ً أهمية إنس���انية عظيمة ألنها تعني أن مش���كلة طبيعة الحقيقة لم يبت فيها بعد ،ولم يعد يطلب إلينا اآلن أن نعتقد بعدم وجود ّ مقاب���ل موضوع���ي الس���تجابتنا للجم���ال ...إن تطلعاتنا الدينية السنة الثامنة -العدد (2013 )36
34
وحس���نا الجمالي ،ليس���ا بالض���رورة ظواهر وهمي���ة كما جرى
االفتراض في السابق(.)1
عالم الشهود
م���ا الذي نخلص إليه من هذا العرض الموجز س���وى أن عالم
بقعا صغيرة ومنحس���رة ف���ي البنية الش���هود ال يع���دو أن يك���ون ً الكونية ،وهو كذلك في النفس البشرية بتقلباتها التي ال حدود له���ا ،وبطرائق عمل الدماغ البش���ري ،حيث ال يبدو في معظم
األحي���ان س���وى الخمس من كتل���ة الجليد العائم���ة ،بينما تظل
عالما األخماس األربع���ة األخرى مغيبة عن األنظار باعتبارها ً غيبيا. ًّ
أرب���ع وخمس���ون م���رة ت���رد كلم���ة "الغي���ب" باش���تقاقاتها
المختلف���ة في كتاب اهلل ،مما يدل على الثقل الكبير والحضور المؤك���د اللذين أوالهم���ا القرآن الكريم لعال���م الغيب ،بل إن نقط���ة االرتكاز األساس���ية في اإليم���ان ،والتي وردت في اآلية
الثالث���ة من س���ورة البقرة ،ه���ي اإليمان بالغي���ب﴿ :الم َ ذ ِل َك
ون بِا ْل َغ ْي ِب ���اب َ ي���ن ُي ْؤ ِم ُن َ ال َر ْي َب ِفي ِه ُه ً ين ا َّل ِذ َ ���دى ِل ْل ُم َّت ِق َ ا ْل ِك َت ُ ِ ون﴾(البقرة.)3-1: الص َ اه ْم ُي ْن ِف ُق َ يم َ ال َة َو ِم َّما َر َز ْق َن ُ ون َّ َو ُيق ُ
بعدها تتوالى اآليات لكي تعرض الحقيقة الغيبية وتتعامل
معها ،من أكثر من زاوية وعلى أكثر من مستوى.
ل���ن يتس���ع المجال إلي���راد الش���واهد الكثيرة عل���ى تداخل
ظاهرتي الغيب والش���هود ف���ي البنية الكونية واإلنس���انية ،ولذا سيتم االكتفاء بثالثة منها قد تغني عن المزيد:
س � � ��وليفان" :لقد أصبح العلم شديد الحساس���ية ومتواضعا ً
نس���بيا ،ولم نعد نلقن اآلن أن األسلوب العلمي هو األسلوب ًّ
عددا من الوحيد الناجح الكتس���اب المعرفة ع���ن الحقيقة .إن ً
يعبرون -بمنتهى الحماس -على حقيقة رجال العلم البارزينّ ،
يق���دم س���وى معرفة جزئية ع���ن الحقيقة، مؤداه���ا أن العل���م ال ّ وأن علينا لذلك أن ال نعتبر أو يطلب إلينا أن نعتبر كل ش���يء
يستطيع العلم تجاهله ،مجرد وهم من األوهام"(.)2
أينشتين" :إني أدين بالتبجيل كله ،لتلك القدرة العجيبة التي
تكشف عن نفسها في أضأل جزيء من جزيئات الكون"(.)3
ألفرد كاس � � ��تلر" :إننا كلما أوغلنا في دراس���ة المادة ،أدركنا
دائما ش���يء مخفي أنن���ا ل���م نعرف عنها ً ش���يئا ...فس���وف يظل ً عن���ا" .ث���م وص���ف متاعب���ه ف���ي اس���تمرار البح���ث بالقواني���ن
المعروف���ة ،إذ اكتش���ف أنه بعد التوغل إلى أم���د بعيد ،توقفت
أدب
أ.د .عماد الدين خليل*
تعبير الرؤيا
محاولة جادة الستكناه النص التص���ور اإلس�ل�امي للك���ون إح���دى مي���زات ّ
الحقيق���ة القرآنية التي طالما أش���ار إليها كتاب اهلل من أن عالم
تق���وم إحداهم���ا عل���ى األخ���رى: المغي���ب ّ
والظاه���رة ال تقتص���ر عل���ى الغي���ب الفيزيائ���ي وح���ده -إذا
والحي���اة والوجود ،أن���ه ينطوي عل���ى طبقتين
والمنظ���ور ،الالمرئ���ي والمرئي ،عالم الغيب وعالم الش���هادة، الميتافيزيقي والفيزيقي.
ولق���د أكدت الكش���وف الفيزيائي���ة والكوزمولوجية األكثر
حداث���ة ،العم���ق الغيبي للظواه���ر الطبيعية الكب���رى ،وكيف أن
وحضورا من العالم المشهود. ال أشد ثق ً الغيب ّ ً
صح التعبير -ولكنها تمتد لكي تشمل الخالئق كافة ،والقوى ّ
مرورا بالمالئكة والطاق���ات الهائلة الت���ي ينطوي عليها الكون، ً ش���يئا فإنما والج���ان ،ووص���و ً ال إل���ى كلمة اهلل الت���ي إذا أرادت ً ون﴾. تقول لهُ : ﴿ك ْن َف َي ُك ُ
مجرد قشرة سريعة االنكسار .العقل البشري العالم المادي ال يعدو أن يكون ّ فبع���د تفجي���ر القنبل���ة الذري���ة ،وم���ن بعده���ا الهيدروجيني���ة
ال العقل البش���ري الذي ال يزال -رغم كش���وفه المدهش���ة -طف ً يحبو عند حافات الكون ،لن يكون بمقدوره إدراك ما تعنيه كلمة
ومنطوي���ة على عالم الغيب ،قوى هائلة تفوق التصور ،وتؤكد ّ
هايزنب���رغ ،وش���رودنجر ،وأينش���تين ،وماك���س بالن���ك،
والنيوترونية تأكدت هذه الحقيقة ،وأن ما وراء القشرة الهشة، تمام���ا عل���ى بع���د خط���وات منه���ا ،مخفية ع���ن العيان، تحته���ا ً
"الغيب" ،وما تنطوي عليه من قوى خالّقة هائلة غير محدودة.
33
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
اجلامع اجلديد يف حي أمني أونو بإسطنبول.
دار احلكومة مع موظفني عثمانيني ،وهي قريبة من بريوت.
معلوم���ات جليل���ة عن مدين���ة إس���طنبول وكافة أرج���اء الدولة
على الزوال واالنهيار .وقد أراد السلطان بذلك ،خوض حرب
والصين ،وآسيا الوسطى ،والهند ،والشرق األوسط ،والبلقان،
للس���يطرة على العالم بأكمله والسيما أراضي الدولة العثمانية
العثماني���ة ،باإلضاف���ة إلى تقديمها معلوم���ات قيمة عن اليابان،
وأورب���ا ،والوالي���ات المتح���دة ومدنه���ا المهم���ة .فالمصان���ع الت���ي افتـتح���ت في تلك اآلون���ة ،والمدارس ،والمستش���فيات،
والمخافر ،والصور التي صورت أحدا ًثا مهمة ،حظيت بمكانة عالية في األلبومات.
نفس���ية م���ع الدول الكب���رى في وقت كانت في���ه األمم تتصارع التي ل ّقبوها بـ"الرجل المريض".
والالفت للنظر أن األلبومات التي ُأرسلت إلى خارج البالد،
تمي���زت بمقاييس���ها الضخمة؛ حي���ث تألفت م���ن 50صفحة،
بينم���ا كان���ت ع���ادة تتألف م���ن 20-12صفحة داخ���ل الدولة
وجدير بالذكر أن الس���لطان عبد الحميد الثاني قد ش���ارك
العثماني���ة .كما تم كتابة الحواش���ي على بعض هذه األلبومات
التصوير في عهد السلطان عبد الحميد واالهتمام به .وبالتالي
ولق���د تمي���زت ه���ذه األلبوم���ات بأغلفته���ا المزخرف���ة ،من
في عملية التقاط الصور بنفس���ه .وهذا ما يبين لنا مدى ازدهار
فإن اللوحات والصور التي تم جمعها في األلبومات ،سلطت األضواء على أحوال األراضي العثمانية في ذلك الوقت.
ولقد قام الس���لطان عبد الحميد الثان���ي بتوظيف مصورين
أوزر" بتصوير ف���ي أعم���ال ش���تى ،كتوظيف "عل���ي س���امي أق َ
المرسلة باللغة الفرنسية ،وبعضها اآلخر بلغات أجنبية أخرى.
أوس���مة ،وخط���وط لتزيي���ن الحواش���ي ،وطغ���راء الس�ل�اطين،
والع َلـم العثماني ،وشعار الدولة العثمانية.
ل���م تـُرس���ل ه���ذه األلبومات إلى رؤس���اء الدول فحس���ب، بل ُأرس���لت كذلك إلى المتح���ف البريطاني في لندن ،ومكتبة
اإلمبراط���ور األلماني "ويلي���م الثاني" إبان زيارت���ه القدس عام َ
الكونغرس في واش���نطن .أما األلبومات التي تم إهداؤها إلى
العس���كرية ،وتوظي���ف "كنعان باش���ا" بتصوي���ر أنقاض الحرب
وآثارا تاريخي���ة بديعة تعود إلى يتضم���ن مناظر طبيعي���ة خالبة ً
،1898وتوظيف "حس���ن رضى األس���كداري" بتصوير األبنية العثمانية-اليونانية لعام .1897
مناطق عديدة داخل األراضي العثمانية ،وس���بعة عش���ر أخرى
منه���ا تتضم���ن صور وحدات عس���كرية عثمانية بري���ة وبحرية،
حرب نفسية عن طريق الصور
لتعرف نفسها أرسلت الدولة العثمانية ألبومات متنوعة عديدة ّ إلى دول قوية كفرنسا وبريطانيا ،والواليات المتحدة التي بدأت
مهما في التوازن الدولي ش���ي ًئا فش���ي ًئا. دورا ًّ آن���ذاك -تلع���ب ًفق���د تم إرس���ال واح���د وخمس���ين ألبوما من الص���ور ،إلى ً
ملك���ة بريطاني���ا ،وملك فرنس���ا ،ورئي���س الوالي���ات المتحدة،
اختي���رت باهتمام بال���غ ،للتأكيد على أن الدولة العلية العثمانية ال تزال في حالة جيدة ،تحافظ على قوتها ومكانتها المرموقة في سياس���ة العالم على عكس ما كان يعتقد من أنها أش���رفت السنة الثامنة -العدد (2013 )36
المتح���ف البريطان���ي ع���ام ،1894فقد كان س���بعة عش���ر منها
32
وخمس���ة عشر أخرى ُص َو َر فعاليات طلبة المدارس العسكرية والمدنية ،واثنان منها تعود إلى صور الخيول التي يتم ترويضها
في القصر العثماني.
(*) كاتب وباحث تركي .الترجمة عن التركية :نور الدين صواش.
المراجع
( )1ألبوم���ات يلدي���ز للس���لطان عب���د الحمي���د الثان���ي ،مك���ة المكرم���ة والمدينة المن���ورة ،لمحمد بهادي���ر دورنجي ،ترجمة :نور الدي���ن صواش ،دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة.
جنة البقيع
صورة بانورامية لمكة المكرمة من جبل أبي قبيس.
ق���راءة الوقائ���ع الجنائي���ة؛ فقد ذك���ر في الجزء األخي���ر من هذا
تقويمه لصورهم في ذكرى الجلوس الخامس والعشرين على
يدي القاتل تش���به مخالب العق���دة الوس���طى من الس���بابة ،وأن َ
الس���جناء ف���ي "ألبوم���ات يلدي���ز" ،وكان أغلبها لس���جناء أرمن
ج���دا ويتجاوز الكت���اب ،أن رأس إبه���ام أغلبي���ة القتل���ة طويل ًّ الحيوانات الوحشية .فدفعني الفضول إلى أن آمر بجمع صور ال رأيت أن أصابع هؤالء طويلة كما قيل الس���جناء كلهم .وفع ً
الع���رش .ولعل هذا يفس���ر س���بب وج���ود عدد كبي���ر من صور وروم اتهموا بجرائم مختلفة.
ف���ي الكتاب ،ولكن هيئة يد كل واحد منهم كانت مختلفة عن ألبومات يلديز قبض على المجرمين في اآلخر" .وحكى لنا السلطان أنه كان ُي َ
أوربا -أحيا ًنا -من خالل النظر إلى صورهم.
إذن ،فقد استخدم السلطان عبد الحميد طريقة قراءة الصور
ف���ي تحلي���ل األش���خاص ،وعفا عن بعض الس���جناء من خالل
ت���م التق���اط الص���ور الموج���ودة ف���ي ألبوم���ات يلديز ف���ي عهد
السلطان عبد الحميد الثاني ( ،)1908-1876وهي عبارة عن
ألبوما ،وفيها حوالي 36ألف صورة. 911 ً
قدم���ت والص���ور الت���ي التقطه���ا مص���ورون محترف���ونّ ،
31
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
تاريخ وحضارة
محمد بهادير دوردنجي*
السلطان عبد الحميد الثاني والتصوير الفوتوغرافي
إبان القرن الثامن عش���ر ،تم الش���روع -وألول
وثيقة مرئية ُتحفظ في أرشيف الدولة العلية. يقول السلطان عبد الحميد الثاني" :الصورة التي تعبر عن الوقائ���ع واألح���داث وتنقلها إلينا ،لهي أدق وأوجز من الكالم يبين لنا موقف الس���لطان الذي يطول فيه الش���رح" .ولعل هذا ّ عبد الحميد الثاني من الصورة والتصوير.
حي���ث تم التقاط بعض الص���ور الموجودة في ألبومات الصور
يروى أن الس���لطان عبد الحميد الثاني كان يحلل األش���خاص من خالل الصور ،ويقال إنه بعد مضي 25سنة من تربعه على العرش ،طلب من موظفيه أن يلتقطوا صور السجناء ويسجلوا تح���ت كل ص���ورة جرائمهم وأس���باب دخولهم الس���جن ،وتم فع�ل�ا .فأخ���ذ الس���لطان يحل���ل ش���خصياتهم م���ن خالل ه���ذا ً أم���را بإطالق ه���ذه الص���ور ،ثم عفا عن بع���ض هؤالء وأصدر ً س���راحهم .ويقال إنه انتقى الطالب الذين يستحقون التسجيل في المدارس العسكرية عن طريق الصور كذلك. وينق���ل إلينا الطبيب حس���ين عاطف بك -الطبيب الخاص للسلطان عبد الحميد الثاني -في مذكراته ،كيف كان السلطان عبد الحميد يحلل من الصور هوية السجناء ويبدي رأيه حول قابليتهم للجريمة بالتنبيه إلى طول أصابعهم ،فيقول عاطف أفندي: ال" :قرأت "أنهى السلطان حديثه عن الجريمة والمجرم قائ ً ال حول ألن لي فضو ً ترجم���ة كت���اب إنكليزي حول الجرائ���مّ ،
مرة -في كلية هندسة الدفاع البري السلطانية،
بتدريس الرس���م من أجل التعرف على الصور
الثالثية األبعاد على النمط الغربي .وفي القرن التاس���ع عش���ر،
أضي���ف إل���ى المنه���اج التعليم���ي ف���ي الكلي���ة ،م���ادة التصوير
الفوتوغرافي تحت إشراف مدرسين تخرجوا في قسم الرسم ،تقويم األشخاص عن طريق الصور العثماني���ة وال س���يما ألبومات يلديز ،م���ن قبل طالب خريجي
كلي���ة هندس���ة الدف���اع الب���ري الس���لطانية .وم���ن أش���هر هؤالء الطالب النقيب حس���ني ( ،)1896-1844البحار علي سامي، أحم���د أمين س���رولي ( ،)1892-1845علي رضى باش���ا (؟-
أوزر (.)1936-1866 ،)1907علي سامي أق َ
ومما يس���تحق اإلش���ادة به ،أن السلطان عبد الحميد الثاني
حث بنفس���ه عل���ى التصوير الفوتوغرافي ف���ي الدولة العثمانية، ّ حي���ث كان التصوير العنصر الرئي���س الذي يعكس حالة البالد خ���ارج القص���ر ،ال س���يما عندم���ا كان���ت الدول���ة ف���ي حالة من
س���هلت للس���لطان معرفة االنحط���اط والضعف .تلك الصورّ ، األح���وال ضم���ن األراض���ي العثمانية التي تمتد م���ن مصر إلى دول البلق���ان ،وم���ن الحجاز إلى بالد القفق���اس .ومن ثم راح يوما بعد يوم حت���ى أصبحت الصورة التصوي���ر يزده���ر وينم���و ً السنة الثامنة -العدد (2013 )36
30
األجر والثواب المتواصل بتواصل نفع النتائج المتوصل إليها.
-3إن وضعي���ة التربي���ة اإلس�ل�امية ف���ي المرحل���ة الثانوية،
العلمي���ة المعاص���رة ،أن الحواج���ز الظاهري���ة بين ف���روع العلم
مربيا ،ومدرسو التعليم ،حيث أصبح المكلف بتدريس المادة ً
وه���ي هدف من حيث أن "م���ن الصفات الجديدة للمعرفة
تدريجيا ،لكي تحل العلوم المتداخلة المختلفة أخذت تذوب ًّ
تفتق���د إلى عناصر التوجيه والتأثير بس���بب انفصال التربية عن باقي المواد معلمين .والمطلوب في اعتقادي ،ليس الرفع من
والمتكامل���ة مح���ل العل���وم المتع���ددة والمنفصل���ة .ولقد توقع
عدد س���اعات المادة في شكلها الحالي ،وإنما تطعيم مقررات
محاض���رة ألقاه���ا بجامعة ليبزك ع���ام 1941م ،أن فروع العلم
نظري���ة الوحدة والفروع ،مع إقرار نظ���ام الوحدات بخصوص
"هيزنب���رج" ه���ذه النتيج���ة للعل���وم المعاصرة ،عندم���ا ذكر في
المختلفة قد بدأت في االنصهار في وحدة كبيرة ،وحول فكرة
العلم الموحد".
وهذا هو هدف البحث العلمي من المنظور اإلسالمي؛ إذ
كل العل���وم ووس���ائل البحث فيها ،تهدف إل���ى إثبات وحدانية
كثيرا من اآليات تحث على النظر اهلل وعظمته ،لذلك نجد ً
ف���ي المخلوقات ،إلدراك عظمة الخالق وهو الهدف األس���مى من البحث العلمي.
وهك���ذا تدف���ع التوجيه���ات اإلس�ل�امية الباح���ث العلم���ي،
إل���ى تصحي���ح النية في البحث وتوجيهه إلى ما هو أس���مى من المصلح���ة الظرفية .وف���ي هذا التصحيح ،دف���ع قوي ،وتجاوز
للصعاب ،وترش���يد في طبيعة توظيف النتائج لخدمة اإلنس���ان وتحقيق الخالفة في األرض.
الخاتمة
بع���د ه���ذه الجول���ة مع مختل���ف جوان���ب التنمية وبي���ان تأثرها بالتوجيه التربوي اإلسالمي نستنتج ما يلي:
-1إن رب���ط التربي���ة اإلس�ل�امية بالتنمي���ة ،ال يعن���ي إيج���اد
مناصب الشغل لتوظيف طاقة الخريجين ،بقدر ما يرتبط ذلك بالهيكلة الحضارية العامة .فكل فرد مس���اهم في هذه الهيكلة، عليه أن يأخذ من الكفايات ما يضمن معه التوجيه السليم نحو
خدمة الحضارة البشرية.
-2إن خريجي الدراس���ات اإلس�ل�امية من المتخصصين،
أبع���د الن���اس م���ن أن تطالهم البطال���ة ،باعتبار الحاجة الماس���ة ف���ي مؤسس���ات التربية والتكوين إلى ه���ذا التخصص ،لتحقيق
إس���تراتيجية تنموي���ة منضبط���ة مع السياس���ة العامة المرس���ومة للتعلي���م والتكوي���ن .وف���ي ه���ذا اإلطار تن���درج دعوة أس���تاذنا
الجليل محمد بلبشير الحسني ،إلى تدريس مادة اللغة العربية
والثقافة اإلسالمية في كل مؤسسات التربية والتعليم والتكوين بمختلف شعبها.
باق���ي الم���واد بما يخ���دم أه���داف التربية اإلس�ل�امية ،في إطار
العل���وم التش���ريعية (فقه ،حديث ،تفس���ير ،عقائ���د) مركزين من حي���ث المحتوى على ما يس���تجيب بطبيع���ة المرحلة التي يمر
بها المتربي المتعلم.
نحن سنرى أن في التخطيط الحالي لمادة التربية اإلسالمية
م���ن الثغرات ،ما ال يكفي في س���ده إصدار الكتب المدرس���ية
وتعيي���ن األس���اتذة المتخصصي���ن وإن كان ذل���ك ال يخلو من
فائ���دة ،ألن اإلش���كال يكم���ن في المحت���وى المق���رر وفي قلة
الحصص المخصصة للمادة.
-4إن التربي���ة اإلس�ل�امية ،فلس���فة عام���ة توج���ه الفع���ل
الحضاري اإلنس���اني إلى التوفيق بي���ن متطلبات الحياة المادية
والغاي���ة العلوية ،الت���ي تتمثل في خالفة اهلل في األرض ،بعدما أدخلت الفلسفات المادية اإلنسان في تجارب مرة ،وسراديب
مظلم���ة فق���د معه���ا التوازن .تل���ك جملة أفكار أضعه���ا بين يد كل المخططي���ن المبرمجين للتعلي���م ،لمعرفة أوجه الربط بين
التربي���ة اإلس�ل�امية الحق���ة وإس���تراتيجية التنمية ،فيق���رروا من
المواضي���ع ما يرتب���ط ح ًّقا بهذا المفهوم ،مث���ل قضايا الحرب،
والظلم ،واالستعمار ،واالضطهاد العنصري ،ومشاكل الجوع والحرمان ،وأخطار التلوث البيئي والنفسي والعقائدي ،وسوء اس���تخدام التكنولوجي���ا ،وتناق���ص الموارد الغذائي���ة والموارد الطبيعية ،والتحل���ل األخالقي واالنفصال عن الفطرة ،وقضايا
أخ���رى ال يمك���ن للمجتمع أن يعيش دون أن يهتم بها ،ويصل إل���ى وس���ائل أخرى ،ث���م لينظروا بعد ذلك ،كي���ف تؤثر التربية عمليا. اإلسالمية في قضايا التنمية ًّ
(*) رئيس المركز المغربي للدراسات واألبحاث التربوية اإلسالمية /المغرب..
المراجع ( )1نظ���رة إس�ل�امية عل���ى التكنولوجي���ا ،محمد عزي���ز الحبابي ،مجل���ة الحوار، العدد ،10:السنة الثالثة.
29
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
َش���ي ٍء َم ْو ُز ٍ ون﴾(الحجر .)19:وقد تحدثت ْ كثير من الدراس���ات ع���ن البيئة وعوامل تلويثه���ا؛ فتحدث���ت ع���ن تل���وث الم���اء،
وع���ن تلوث اله���واء ،والترب���ة ،والغذاء، والتل���وث الضوضائي ،وتلوث الطبقات
الجوية ،واستنـزاف الثروات الطبيعية... وأش���ارت بأصابع االتهام إلى اإلنس���ان عب���ر أنش���طته الصناعي���ة الت���ي خلف���ت
نفايات خطيرة ،وأنشطته العسكرية التي
دمارا وخرابا للبيئة ،يبقى مفعوله ً خلفت ً عبر الحقب واألزمان .ومخزون العالم
من أسلحة الدمار الشامل ،يكفي لتدمير
الماء الدائم وال يغتس���ل فيه" ،وبالقياس
يحت��اج ت�س��يري امل�ؤ�س�س��ات االقت�ص��ادية االجتماعي��ة وال�سيا�س��ية قب��ل القوان�ين ال�ض��ابطة� ،إىل تكوي��ن مت�ين وم�ستمر ي�ستوعب التغريات، أي�ضا �إىل من يت�صف ويحتاج � ً ب�أخالق املهنة والإخال�ص له، ثم هو يحتاج ثالثًا �إىل تخطيط م�ستقبلي ور�ؤية بعيدة.
يلوث الماء. ّ
وحينم���ا يتح���دث ع���ن الح���روب
ومخلفاتها ،ينهى عن حرق المزروعات وتدمير مقومات الحضارة ،ألن الحرب في اإلس�ل�ام اس���تثناء من قاعدة السالم،
يق���ول أبو بك���ر الصديق ف���ي وصيته ألس���امة بن زيد قائد الجيش اإلس�ل�امي
إلى الش���ام" :وال تقطعوا ش���جرة مثمرة،
بعيرا إال لألكل". وال تذبح���وا بق���رة وال ً
وع���ن التصرف���ات العام���ة لإلنس���ان في
عب���ر الرس���ول أن تعامل���ه م���ع بيئت���هّ ،
الكرة األرضية.
إن من أساس���يات التنمي���ة ،الحفاظ
يك���ون النه���ي بهذا الحدي���ث عن كل ما
إماط���ة األذى ع���ن الطري���ق صدقة .فعن
عل���ى البيئ���ة ومقاوم���ة التلوث .ول���ن يتم هذا بواس���طة قوانين
ش���يئا أنتفع به ،قال: أبي برزة قال :قلت يا نبي اهلل ،ع ّلمني ً عزل األذى عن طريق المسلمين" (رواه مسلم). " ِا ِ
ريوديجانيرو (قمة األرض) ،وإنما يتم ذلك ،بواس���طة التربية،
التربية اإلسالمية وأهداف البحث العلمي
محلي���ة أو دولي���ة يص���ادق عليها في مؤتمرات م���ن حجم قمة َ ﴿ظ َه َر ألن الف���رد هو الذي يفس���د البيئة ويلوثها ،ق���ال تعالىَ : ض الن ِ اس ِل ُي ِذي َق ُه ْم َب ْع َ ا ْل َف َس ُاد ِفي ا ْل َب ِّر َوا ْل َب ْح ِر ب َِما َك َس َب ْت َأ ْي ِدي َّ ون﴾(الروم.)41: ا َّل ِذي َع ِم ُلوا َل َع َّل ُه ْم َي ْر ِج ُع َ إن غي���اب هذا الحس التربوي اإلنس���اني ،هو الذي يجعل
بطبيعته���ا -ألن موض���وع البح���ث فيها -ه���ي كل خلق اهلل في
النفاي���ات النووية المش���عة ،مقابل عقد صفق���ة مع نظام حاكم
من هنا كانت إس�ل�امية المنهج العلمي أو أس���لمته ،صورة
يجع���ل الصناع���ات الغربي���ة تصب األطن���ان م���ن النفايات في
الحفاظ على إنس���انية اإلنس���ان ...ذلك ألن اإليمان الخالص،
بي���ن "التخل���ص م���ن النفاي���ات" و"المحافظة عل���ى البيئة" ،إن
المنهج العلمي اإلس�ل�امي ،وإليهم���ا تعزى كل القوى الدافعة
ربط ذلك بالتصور العقائدي والعبادي؛ ربط الطهارة بالشعائر
لذلك بنيت فلسفة البحث العلمي من المنظور اإلسالمي،
إن األخ���ذ بالمنهج اإلس�ل�امي في مج���االت البحث العلمي،
قب���ل عل���ى أنه حقيق���ة منطقية وض���رورة حضارية. يج���ب أن ُي َ
ش���اهدا عل���ى ذلك ،أن علوم الكون والحياة إس�ل�امية ويكفي ً
الغ���رب يص���در نفاياته إلى بل���دان العالم الثال���ث بما في ذلك
كتابه المنظور.
ف���ي بلد جائع وفقير ومريض .إن غياب هذا الحس ،هو الذي
حضاري���ة ملح���ة لضم���ان مواصلة التق���دم العلم���ي التقني مع
ع���رض البحار .إن الف���رق كبير بين الفكر والممارس���ة ،وكبير
والس���مو الروحي ،يأتيان في مقدمة الخصائص التي يتميز بها
اإلس�ل�ام حينما تحدث ع���ن الطهارة الحس���ية المعنوية ،فإنما
لملكات البحث العلمي عن طريق اإلبداع واالبتكار.
التعبدية حيث ال تجوز بدونها ،وتخلو تعليمات اإلس�ل�ام في
كل الميادين من إجراءات لحماية البيئة.
فحينم���ا تحدث عن الماء -وهو المكون الرئيس���ي للبيئة- ���ن ا ْل َما ِء ُك َّل َش���ي ٍء ﴿و َج َع ْل َن���ا ِم َ ربط���ه بالحي���اة ،ق���ال تعال���ىَ : ْ َح ٍي﴾(األنبياء .)30:لذلك نهى الرسول عن تلويثه في الحديث ّ ول���ن ب ي "ال : ق���ال حيث هريرة، أب���و رواه ال���ذي أحدكم في ُ َُ ّ السنة الثامنة -العدد (2013 )36
28
دافعا من حي���ث المنطلق، عل���ى نظري���ة التوحيد التي ش���كلت ً
وهد ًف���ا م���ن حيث النتائ���ج ،فيه دافع من حيث أن الرس���ول يق���ول" :إذا م���ات ابن آدم ،انقطع عمل���ه إال من ثالث :صدقة
جاري���ة ،أو علم ُي َنت َف���ع به ،أو ولد صالح يدعو له" (رواه مس���لم).
فه���ذا دافع يتضمن مصلحة اإلنس���ان وتطوير البحث العلمي،
والس���يطرة عل���ى الطبيع���ة ،ليتجاوزها إلى ما هو أس���مى؛ وهو
البداية أو في النهاية ،ويصبح الكالم عبر منطق مكسور .وهاك
واردة على اإلطالق .فلن يمكن بأي حال ،أن تخرج توجهات
مرقمة ،مدورة وحادة وجارحة بشكل فارق:
عم���ا تخطط���ه المؤسس���ة الحاكم���ة في إط���ار النظ���ام العالمي
بع���ض الوقائع التي تس���بب الخوف واالرتج���اف ،إنها مراجع
ال- محطات اإلرس���ال التلفزيوني في الوالي���ات المتحدة -مث ً
900مليار دوالر تقريبا للتسلح ،مقابل 35مليار لمساعدة ً
الجدي���د .وك���م كان اإلعالم الغرب���ي مقدمة ممه���دة لضربات
ش���كل س�ل�اح أو يقدم لشراء أسلحة ...كيف يمكن لمسلم أن
العقلية الغربية باس���تعمال مصطلحات "اإلرهاب"" ،التطرف"،
وبع���د ع���رض مس���تفيض لمختل���ف المواق���ف المتخ���ذة
األمل" ...فيشعر الشارع األوروبي إما بالتعاطف مع العمليات
ف���ي نف���س اهتمامات العال���م المعاصر ،وهو م���ا يصطلح عليه
الي���وم ،بعد فترات االنحطاط ،يعتمدون على وس���ائل اإلعالم
العال���م الثالث ،وجزء عيني من هذه المس���اعدات معطى على يكون رد فعله على هذا الرجل العالمي؟
م���ن التكنولوجي���ا ،خلص الدكت���ور الفاضل إل���ى فكرة تصب بأخالقي���ات التكنولوجي���ا ،وم���ا نس���ميه نح���ن ،توجي���ه التربية
اإلسالمية للتكنولوجيا بما يخدم قيم اإلنسانية ،ويحقق خالفة
اهلل في األرض وعمارتها ،مخالفين بذلك منطق السيطرة الذي يؤدي في غالب األحيان إلى االس���تعمال السيء للتكنولوجيا.
عسكرية موجعة في عدة مناطق من العالم ،عن طريق استعداء "الش���رعية الدولية"" ،التدخل لحماية حقوق اإلنس���ان"" ،إعادة العسكرية ،أو بالخوف على المصالح .ولقد أصبح المسلمون
األجنبية في مادتهم اإلخبارية ،التي ترتبط في كثير من األحيان بمركزية الغرب ،وفي كثير من األحيان األخرى بالمؤسس���ات
الصهيوني���ة ،التي تعمل عبر ش���ركات دعاية إعالمية ترصد لها األموال الطائلة لصناعة أبطال مزيفين ،وتهميش كل من يدور
يق���ول الدكت���ور محمد عزي���ز الحباب���ي" :وبالفعل ،فاإلس�ل�ام
في فلك هذه المؤسسات أو يعمل ضدها.
وجها إنسانيا، المنتقدة من أجل تفلتها الجنوني ،س���وف تأخذ ً ًّ
نظ���را لتحملها المس���ؤولية ف���ي تحري المؤسس���ة اإلعالمي���ة، ً آم ُنوا إ ِْن َج َاء ُك ْم ﴿يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ ين َ الدقة ،انطال ًقا من قوله تعالىَ : َف ِ ���ق ب َِن َب��� ٍأ َف َت َب َّي ُن���وا َأ ْن ُت ِص ُيب���وا َق ْو ًما ب َِج َها َل��� ٍة َف ُت ْصب ُِحوا َع َلى َما اس ٌ ﴿م���ا َي ْل ِف ُظ ِم ْن َق ْو ٍل ���م َنا ِد ِم َ ين﴾(الحج���رات ،)6:وقوله تعالىَ : َف َع ْل ُت ْ يد﴾(ق .)18:وقوله " :م���ن كان يؤمن باهلل ِإ َّ ي���ب َع ِت ٌ ال َل َد ْي��� ِه َر ِق ٌ خيرا أو ليصمت" (متفق عليه). واليوم اآلخر فليقل ً
والتكنولوجيا ...س���وف يجدان وجه فائدة لكل منهما ،فاآللية
الجسور التي انتزعها منه التفاوت واإلسالم سوف يجد وثبته َ التاريخي ،وسوف يعود اإليمان قوة احتجاج متيقظة ...وهكذا فإن زاوج العقل واإلخالص بين العلم والتكنولوجيا من ناحية، واإلس�ل�ام من ناحي���ة أخرى ،يعي���د للمجتمع ُبع���ده الروحي،
وسوف نسترجع عندها الصفاء والسكينة الخامدتين منذ أمد.
التربية اإلسالمية واإلعالم
يكون صورة سيئة عن إنسان ما أو شعب يس���تطيع اإلعالم أن ّ م���ا ،كم���ا أن ل���ه قدرة على إنش���اء صورة إيجابي���ة وإن لم تكن
حقيقي���ة عن إنس���ان آخر أو ش���عب آخ���ر .وعن طريق س���لطة
اإلعالم ودورها في تكييف اإلطار الفكري لإلنس���ان ،نخلص إل���ى أن الوس���ائل اإلعالمية تالحق الفرد ف���ي العصر الحديث
أينم���ا كان .وبغض النظر عن مكونات العقلية المرجعية ،فإننا نج���ده مس���تعدا للتج���اوب م���ع الخب���ر والصورة بش���كل كبير، ًّ ويبق���ى الصدق والكذب وقواعد اإلعالم مثل "الخبر مقدس،
إننا نجد في اإلس�ل�ام ضمانات الخبر الصادق واس���تقالل
إن مي���دان اإلعالم يحتاج إلى تربية وتكوين يضمنان توفر
أخ�ل�اق المهنة .ويتح���رر اإلعالم ليصبح أداة ترش���يد وتثقيف
ع���وض أداة ضغ���ط وتزيي���ف ،وذلك عن طري���ق تطعيم برامج التدري���ب بالتصوير اإلس�ل�امي ،س���واء في المناه���ج أو المواد
الدراس���ية ،ألن الواق���ع الحال���ي يتحدث عن غي���اب أي حس
عموم���ا ،أو عن خبرة مع���دي البرام���ج إعالم���ي إس�ل�امي عند ّ ً خصوصا .فال هذا وال ذاك معدي البرامج الدينية ضعيفة عند ّ ً
متط���ورا إعالما نري���د ،إنما نريد منضبطا بالتوجه���ات التربوية ً ً ً اإلسالمية وأساسيات اإلعالم الحر النـزيه.
والتعلي���ق ح���ر" تخض���ع للنس���بية المرتبطة بأخطب���وط إعالمي التربية اإلسالمية والبيئة
موج���ه لخدم���ة أه���داف معين���ة ،ليس���ت بالضرورة ف���ي صالح متينا المستمع ،بل توجيهه والتأثير عليه .وقد أضحى االرتباط ً
بين المؤسس���ات السياس���ية واإلعالمية ،ولم تعد االس���تقاللية
حينم���ا نتحدث ع���ن البيئة ،فإننا نقصد كل ما يحيط باإلنس���ان
مم���ا س���خر اهلل ل���ه ف���ي الك���ون م���ن مخلوق���ات ،ق���ال تعالى: اه���ا َو َأ ْل َقي َن���ا ِف َيها ر َو ِ ﴿وا َ اس���ي َو َأ ْن َب ْت َن���ا ِف َيها ِم ْن ُك ِّل أل ْر َ ض َم َد ْد َن َ َ َ ْ َ
27
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
وتأت���ي القواني���ن المنظم���ة ،خاص���ة
الزاج���رة منه���ا لس���د الثغ���رات وتفويت ف���رص االس���تهتار عل���ى المتهاوني���ن
والمصلحين ،ويحتاج القانون المتعارف علي���ه إلى جي���ش من األطر يس���هر على حمايت���ه ،ثم إلى مجموعة أخرى تس���هر
عل���ى حماية ومراقبة حماة القانون .ألن المتع���ارف علي���ه ف���ي زماننا م���ن خالل
الواق���ع المعيش ،أن أه���ل القانون أقدر الن���اس عل���ى اختراقه ،باعتب���ار االطالع
الكبي���ر عل���ى الحلقات المفرغ���ة ونقط الضع���ف وصي���غ التأوي���ل .وم���ا ُأتي���ت
المس���ؤول يرق���ى بالمس���ؤولية م���ن
�إن ه��دف الرتبي��ة الإ�س�لامية يتجلى يف طرح البديل الإ�سالمي يف الواق��ع �سيا�س��يًّا واقت�ص��اديًّا واجتماعيًّ��ا ،ثم تر�س��يخ الرقابة الذاتي��ة الت��ي جتع��ل ال�ش��خ�ص امل�س���ؤول يرق��ى بامل�س���ؤولية من الت�رشيف �إىل التكليف ،لأنه يعي جي ًدا قول الر�س��ول " :كلكم راع وكلكم م�س�ؤول عن رعيته".
كثير من المؤسس���ات ،إال من قبل سوء
نظرا التدبي���ر وخ���رق القواني���ن المنظمة ً
لغي���اب الضمي���ر المهني م���ن جهة ،ثم ضعف الرقابة البش���رية
من جهة ثانية.
وأمام هذا الوضع ال شك أن تسيير المؤسسات ،في حاجة
إلى رجال يتوفرون -إلى جانب ما ذكرنا -من تكوين مس���تمر
جيدا التش���ريف إلى التكليف ،ألنه يعي ً
ق���ول الرس���ول " :كلك���م راع وكلكم
مس���ؤول عن رعيته" .ومن هنا ندرك سر
ق���ول عمر بن الخط���اب " :لو عثرت ْ يعبد بغل ٌة بالعراق لس���ئل عمر لم���اذا لم ّ لها الطريق" ،وقال حين حضرته الوفاة:
"م���ا ندمت على ش���يء ندمي على تولي أيضا س���بب عزوف الخالف���ة" .ون���درك ً
أب���ي حنيفة ع���ن تولي منص���ب القضاء، أيض���ا إذا رأوا غي���ر أن���ه كان من س���ننهم ً
أنه���م أهل لتولي منصب قد يفس���ده َمن
ال له ،قالوا مثل ما قال يوس���ف لي���س أه ً ���ن ﴿اج َع ْل ِن���ي َع َل���ى َخ َزا ِئ ِ للعزي���زْ :
ض ِإ ِّن���ي َح ِف ٌ ِ ا َ يم﴾(يوس���ف .)55:والحفظ يعني الش���عور أل ْر ِ يظ َعل ٌ
برقابة اهلل تعالى ،والعلم يعني الكفاءة ،وهما شرطان أساسيان لتسيير المؤسسات وهذا ما توفره التربية اإلسالمية.
التربية اإلسالمية والتكنولوجيا
ومتين على رقابة داخلية مكتس���بة من منظومة تربوية إس�ل�امية
يش���عر اإلنسان في العالم المعاصر أنه أسير التكنولوجيا ،وأن
اإلنس���اني" ،إلى تحقيق مبدإ خالفة اهلل في أرضه ،واإلحساس
ال مدم���را للحياة ،أو -عل���ى األقل -عامل م���ن أن تك���ون عام ً ً
وحس���يبا رقيبا وشاهدا ،لقول الرسول " :كلكم راع وكلكم ً ً ً
خياراتهم السياس���ية واالقتصادية واالجتماعية ،وهو ما حصل
التكوي���ن المهن���ي والمعرف���ي ،ال تنفصل في���ه الجوانب التقنية
وف���ي هذا الصدد يق���ول الدكتور محمد عزي���ز الحبابي رحمه
الرقابة التي تحتاج إلى رقابة ،وقد نس���تغني عن بروتوكوالت
أبدا -سوى وسائل ماديةلإلنسانية ،لكن هذه األخيرة ليست ً
تربطه���م بأه���داف أس���مى م���ن "الضمي���ر الح���ي" و"الواج���ب
التقنية الحديثة س���لبته حريته فأصي���ب بهذيان وارتجاف خو ًفا
بالمس���ؤولية أم���ام أصح���اب الحق���وق ،وأمام اهلل ال���ذي يعتبر
وتهدي���دا لمص���ادر رزقه���م، اس���تعباد للضعف���اء، وتحكما في ً ً
مس���ؤول ع���ن رعيت���ه" (رواه البخ���اري) .ول���ن يتم ه���ذا إال إذا كان
بالفع���ل ف���ي عالم النظ���ام الجديد ،وقبله أيام الح���رب الباردة.
عن التوجيهات الروحية العقائدية .وقد نس���تغني بهذا عن أطر القس���م الت���ي تتل���و أي تعيي���ن ف���ي أي منص���ب م���ن المناصب
الحساس���ة في الدولة .ولذلك ال نس���تغرب من كون الرس���ول
معضدا بالوحي ،قضى ثالث عشرة سنة في صقل الجانب ً العقائ���دي لدى الرجال الذين سيس���اهمون ف���ي بناء أول دولة
إسالمية بالمدينة.
اهلل" :التكنولوجي���ا بح���د ذاته���ا ،ه���ي مص���در للروائع بالنس���بة فاترة ذات بعد متساو من الخير والشر على الصعيد اإلنساني. دورا وهو الدراسة العقالنية للتقنيات ،ويجب إن للتكنولوجيا ً أيضا إقامة انشطار واضح بين االستعمال الحسن أو االستعمال ً
الس���يء للتقني���ات ،غي���ر أن م���ا يمي���ز التكنولوجي���ا ظاهريا في ًّ مرحلتنا الراهنة ،هو بداية قسوة تطبيقاتها :أفران حرق الجثث
وم���ن هن���ا يظه���ر أن ه���دف التربي���ة اإلس�ل�امية يتجلى في
(هيروش���يما) ،التمش���يط المنتظم للثائرين (الثوار ضد فرنسا)،
واجتماعي���ا ،ثم ترس���يخ الرقاب���ة الذاتية التي تجعل الش���خص ًّ
أبدا ،إن المنطق ينكس���ر في ه���ذه اللعبة ،ويتموضع "األنا" في ً
واقتصاديا سياس���يا أمرين :طرح البديل اإلس�ل�امي في الواقع ًّ ًّ السنة الثامنة -العدد (2013 )36
26
رش البلدان بالنابلم في الصبائح الهادئة ...الشواهد ال تنقص
تربية
أ.د .خالد الصمدي*
محاولة األمم للتقدم إىل األمام ،ينبغي أن مت َّر من خالل تقويم الحارض مبا له وما عليه، مع االستفادة من تجارب املايض وإيالئها أهمية حقيقية ،وإال نكون قد ظلمنا األجيال الصاعدة وتسببنا يف ضياعهم. (املوازين) ***
التربية اإلسالمية
والبعد اإلستراتيجي لقضايا التنمية2- عب���ر النماذج التي س���ردناها في المق���ال األول ،يظهر بجالء أن ارتباطا وثي ًقا التنمية االقتصادية واالجتماعية والسياسية مرتبطة ً بفلس���فة التربية الس���ائدة .وحتى ننقل القارئ من هذا المستوى
التنظي���ري إل���ى المس���توى التطبيقي ،نقوم بجول���ة عبر ميادي���ن التنمية المعاصرة
ال ،ث���م معرفة انعكاس���ات التربية اإلس�ل�امية على مس���توياتها لرص���د واقعه���ا أو ً العملي���ة ،لنع���رف أن التربية اإلس�ل�امية -في قطاع التكوين الذي يش���كل الرافد األساس���ي لمؤسس���ات التنمي���ة -م���ادة ت���ذوب ف���ي كل التخصص���ات لتطبعه���ا ببصم���ات االس���تمرار الناج���ح والتخطيط المس���ؤول ،وليس���ت م���ادة منعزلة أو
متعلقة بتخصص دون آخر.
التربية اإلسالمية وتسيير المؤسسات
يحتاج تس���يير المؤسس���ات االقتصادي���ة واالجتماعية والسياس���ية قب���ل القوانين أيضا إلى من الضابطة ،إلى تكوين متين ومس���تمر يس���توعب التغيرات ،ويحتاج ً
يتصف بأخالق المهنة واإلخالص لها ،ثم هو يحتاج ثال ًثا إلى تخطيط مستقبلي ورؤية بعيدة.
25
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
م���ن األناني���ة إل���ى الغيرية ،ومن تحقي���ق مطامع���ه الخاصة إلى رعاي���ة الجماع���ة والتضحية من أجلها ،وه���ذا مقتضى األخوة الت���ي نص���ت عليها اآلي���ة الكريمة ،قال ربنا جل وع�ل�اِ ﴿ :إ َّن َما ���ون إ ِْخ َو ٌة﴾(الحج���رات .)10:إن إع�ل�ان اإلخ���اء بي���ن أفراد ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ مجتم���ع ما ،يوج���ب التكافل بينه���م ،ال في الطعام والش���راب وحاجيات الجس���م فحس���ب ،بل في كل حاج���ة من حاجيات الحياة ...فيحرص على حياته وحريته وثقافته وكرامته ومكانته. إن على كل فرد مس���ؤولية جماعية قد تضيق الدائرة أو تتس���ع حس���ب القدرة واالس���تطاعة ،ولكن تبقى المسؤولية حاضرة، م���ن اهلل عليه بالعطاء ومنحه نعمة من النعم ،فهو مطالب فم���ن َّ بالبذل والس���خاء ،هذه اجتماعية اإلس�ل�ام وهذه ثقافة المسلم الحق .إن على الكل أن يدرك أننا في الس���فينة نفس���ها ،وعلينا العم���ل جاهدي���ن لألخ���ذ بيد أفراد ه���ذه الس���فينة حتى نضمن األم���ن واألمان الذي هو مطلب أس���اس للرخاء واالس���تقرار. لقد وجه اإلسالم االهتمام إلى فئات عريضة من المجتمع مم���ن تظه���ر عليهم الحاج���ة والفاقة ،أو العج���ز والمرض ،أو العاهة واإلعاقة .وإذا أردنا حصر النصوص من القرآن والسنة واآلث���ار الت���ي تؤكد ه���ذا المعنى العظيم لوجدناه���ا من الكثرة بم���كان ،منه���ا ما ه���و صريح ومنها ما هو إش���ارة وتلميح" .إن خاصا، اإلسالم قد أولى الطبقات الضعيفة في المجتمع اهتماما ًّ ً فش���رع لهم م���ن األحكام والوس���ائل ما يكفل العم���ل المالئم ل���كل عاطل ،واألجر العادل لكل عامل ،والطعام الكافي لكل جائ���ع ،والعالج المناس���ب لكل مريض ،والكس���اء المناس���ب ل���كل عريان ،والكفاية التامة لكل محتاج ...بغير إس���راف وال فريدا من التعاطف تقتير"( .)2فالمجتمع اإلسالمي يمثل ً طرازا ً اإلنس���اني ،إذ حبب اإلس�ل�ام إلى هذه األم���ة صنع المعروف، وقضاء حوائج الناس ،وتفريج كرباتهم ،وستر عيوبهم ،وعيادة مريضه���م ،والذب ع���ن أعراضهم ،ونص���ر مظلومهم ،ورحمة ضعيفه���م ،وإقالة عثراتهم ،والس���عي لإلص�ل�اح بينهم ...وقد منهجا يختلف ع���ن بقية المناهج فعليا-نه���ج لتحقيق ذل���ك ً ًّ دائما باهلل ، األرضي���ة في كونه يربط هذا العمل االجتماعي ً ويجع���ل المصلحة الكبرى والجائ���زة العظمى في يوم القيامة، ومرسخا له موظ ًفا في ذلك الوازع الديني، ومستثمرا إياه ،مع ً ً ع���دم إغف���ال المنافع الدنيوية الهائلة التي تعود على الناس في حياتهم عند التعامل بهذا السلوك االجتماعي الراقي. بعي���دا في تكوي���ن أف���راد فاعلين ش���أوا لق���د بلغ اإلس�ل�ام ً ً السنة الثامنة -العدد (2013 )36
24
وناش���طين اجتماعيي���ن ،ي���ؤدون حقوق المحتاجي���ن من جهة، ويعمل���ون عل���ى نش���ر ثقاف���ة المس���اندة والم���ؤازرة واالهتمام
به���م من جه���ة أخرى .وع���اب اهلل على من ح���اد عن هذه ام ا ْل ِمس ِ ين﴾(الماعون،)3: ﴿و َ ���ك ِ ال َي ُح ُّ ض َع َلى َط َع ِ الس���بيل فقالَ : ْ ال ُت ْك ِر ُم َ ِ ام يم َ و َ ﴿كلاَّ َبل َ ال َت َح ُّ وقالَ : ون َع َلى َط َع ِ اض َ ون ا ْل َيت َ ا ْل ِمس ِ ين﴾(الفجر ،)18-17:فأنكر سبحانه عليهم عدم نشر ثقافة ���ك ِ ْ العطاء والبذل ،بل ورتب على عدم القيام بحقوق المستضعفين
﴿ما َس َل َك ُك ْم ِفي َس َق َر َ قا ُلوا َل ْم َن ُك الجزاء األليم ،فقال َ : ين َ و َلم َن ُك ُن ْط ِعم ا ْل ِمس ِ ين﴾(المدثر .)44-42:وقد ���ك َ ِم َن ا ْل ُم َص ِّل َ ُ ْ ْ
ّبين الرس���ول مس���ؤولية المجتمع عن كل فرد جائع محتاج ف���ي عبارة قوي���ة ،ف���ي إنذارها للف���رد والمجتمع فق���ال" :ليس
المؤمن بالذي َي ْش َ���بع وجاره جائع إلى جنبه" (رواه البخاري) ،كما ُ
وضع لهم األس���اس الفكري لقيم���ة العمل االجتماعي والبذل والعطاء من كل ما يملكه اإلنس���ان عندما نادى في الناس :
"من كان له فضل َظهرٍ فليعد به على من ال ظهر له ،ومن كان ُ
ل���ه فضل م���ن زاد فليعد به على من ال زاد له" ،قال أبو س���عيد ٌ
الخ���دري راوي الحديث :فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه ال حق ألحد منا في فضل.
(رواه مسلم)
إنه���ا ثقاف���ة االجتماعي���ة وحضارة اإلنس���انية التي يغرس���ها
الحبيب المصطفى في أتباعه ،وال شك أنها ثقافة وحضارة
طبع���ت بطابع الدي���ن وصبغت بصبغة اإلس�ل�ام وتلونت بلون الشريعة،وعلى قدر عمق اإلسالم وشموله ،يكون تأثير مبادئه
ف���ي المس���لمين الذين يعيش���ون في إط���اره ...وكل م���ا نحتاج
إليه ،هو العودة إلى تفعيل القيم اإلسالمية بمفهومها الشامل، وعيا وإدراكا للمقاصد الحقيقية ً لتحرك المجتمع وتجعله أكثر ً للش���ريعة ،حي���ث تتواف���ق النظري���ة والتطبي���ق ،وتت�ل�اءم العبادة
والمعاملة ،وتتناسب العالقة العمودية واألفقية عند أتباع الملة
وأنصار األمة المحمدية.
(*) أستاذ باحث في العلوم اإلسالمية /المغرب.
الهوامش
( )1العمل االجتماعي في اإلس�ل�ام ،لمصطفى بنحمزة ،سلس���لة دفاتر المركز، ط ،1:ص ،17-15:مطبوع���ات اله�ل�ال ،مرك���ز الدراس���ات والبح���وث اإلنسانية واالجتماعية ،وجدة ،المغرب.
( )2مالمح المجتمع المس���لم الذي ننش���ده ،ليوس���ف القرضاوي ،مكتبة وهبة القاهرة .ط1414 ،1:هـ1993-م ،ص .137:بتصرف.
قضايا فكرية عبد الحق معزوز*
اجتماعية اإلسالم
لقد بلغ التشريع اإلسالمي الذروة في الكمال
إن الدي���ن اإلس�ل�امي دي���ن عمل���ي ،يرب���ط الفك���رة بالعمل
ويكف���ي ف���ي وص���ف ذل���ك م���ا ذك���ره ربنا في
المصلحي���ن" .إن ميزة اإلس�ل�ام أنه تج���اوز بدعوته إلى تثبيت
واإلتق���ان ،والغاي��� َة ف���ي اإلب���داع واإلح���كام،
والنظري���ة بالتطبي���ق ،ولي���س مج���رد خي���ال يداع���ب أح�ل�ام
كتابه في أخريات ما نزل به القرآن الكريم عندما قال﴿ :ا ْل َي ْو َم ���ت َل ُك ِ يت َل ُك ُم ���ت َع َل ْي ُك ْم ِن ْع َم ِت���ي َو َر ِض ُ ���م َو َأ ْت َم ْم ُ َأ ْك َم ْل ُ ���م د َين ُك ْ ْ �ل�ا َم ِد ًينا﴾(المائدة .)3:فلم يترك شرعنا صغيرة وال كبيرة إال ا ِ إل ْس َ وبين حكمها وطريقة التعامل معها. ّ
وج���ه إل���ى المس���لمين ،باعتب���ار ل���وال أن الخط���اب الش���رعي َت َّ
الرواب���ط بي���ن بني اإلنس���ان في أي مكان كان���وا وفي أي زمان
مجملها أوحت إلى الفرد المس���لم ،بأن مراد اإلس�ل�ام منه أن
ومما حرص عليه دين اإلس�ل�ام ،تقوية األواصر ،وتعميق
مفككا ،وال يليق بفرد عاش���وا ...فال ينبغي لمجتمع أن يعيش ً ال ،إذ األول حريص على رعاية الفرد ،والفرد أن يعي���ش منع���ز ً
حريص على االرتباط بالمجتمع .وهذا ما يضمن حياة أفضل
قادرا عل���ى مواجهة لجمي���ع الخل���ق ،ويؤس���س مجتمعا ًّ ً قوي���ا ً راقيا يرحم مجتمعا التحديات واألزمات المختلف���ة، ًّ ً حضاريا ً الق���وي في���ه الضعيف ،ويرف���ق الكبي���ر فيه بالصغي���ر ،ويعطف مجتمعا الغني فيه على الفقير ،ويعطي القادر فيه ذا الحاجة... ً
ومتحابا ومتعاو ًنا على فعل الخير وخير الفعل. متقاربا أخالقيا ًّ ً ًّ
ال���روح الجماعي���ة واالجتماعي���ة ،درج��� َة إنتاج األدبي���ات التي
فرغ رؤيته رك���ز عليها ُت ّ ُ أغل���ب المذاهب االجتماعية ،إل���ى أن ّ
ملزمة م���ا كان لها أن َت ُبرز المجتمعي���ة ف���ي قالب أحكام فقهية ِ جميع���ي وباعتب���ار آخ���ر مجموع���ي ...إن ه���ذه األح���كام في يلتحم بالجماعة وال ينأى بنفس���ه عنها ،وال يرى نفسه استثناء منها ،ويبذل الخير كله لها"(.)1
ال بنفسه إن اإلنسان في التصور اإلسالمي ،ال يعيش مستق ًّ
ال ع���ن غي���ره ،إنما يتب���ادل مع أف���راد مجتمع���ه اآلخرين منع���ز ً
التعاي���ش والتع���اون والتس���اند والتكافل في أم���ور الحياة وفي ش���ؤون المجتمع .فالفرد في اإلس�ل�ام هو فرد ،وهو في نفس الوق���ت عضو في جماعة؛ فه���و يتحرك بين الفردية والجماعية
قادرا على التس���امي فينتقل دون أن يفق���د ذاتيت���ه ،وإنما يصبح ً
23
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
اهلل تعالى بهذا التصريح ،وأنه الرزاق ذو القوة المتين. ال َت ْقر ُبوا ال َفو ِ ش َما َظ َه َر ِم ْن َها َو َما َب َط َن﴾(األنعام،)151: اح َ َ َ ﴿و َ َ وف���ي ه���ذا النع���ي حفظ لإلنس���ان نفس���ه عن كل م���ا يضره من
وباطنا ،كالزنا ،وشرب الخمور ،وقول الزور، ظاهرا الموبقات ً ً
والحق���د والحس���د والع���داوات ...ونحو ذلك م���ن الموبقات
المهلكات لألمم والشعوب. ال بِا ْل َح ِّق﴾(األنعام،)151: ال َت ْق ُت ُل���وا النفس ال ِتي ح ﴿و َ هلل ِإ َّ ���ر َم ا ُ َ َّ ْ َ َ َ َّ وهذا نهي عن قتل اإلنس���ان ألخيه اإلنس���ان ،أو تخطي حدود األدب معه في حال ...فكل المس���لم على المسلم حرام؛ دمه
وماله وعرضه كما صح عن المصطفى المعصوم . ﴿ َذ ِل ُك���م َو َّص ُ ِ ون﴾(األنع���ام ،)151:فالعاقل ���م َت ْع ِق ُل َ اكم ِبه َل َع َّل ُك ْ ْ هو الذي يدرك هذه المعاني وآثارها في الحياة. ���ن َح َّتى َي ْب ُل َغ ﴿و َ ال َت ْق َر ُب���وا َم َ ي���م ِإ َّ الي ِت ِ ال بِا َّل ِتي ِه َي َأ ْح َس ُ َ ���ال َ ���د ُه﴾(األنعام ،)152:وه���ذا تنظيم للعالقة م���ع اليتيم الذي فقد َأ ُش َّ متماس���كا ،كش���جرة واح���دة ﴿ َأ ْص ُل َها عائل���ه ،ليكون المجتمع ً
ِ ي���ن بِ���إ ِْذ ِن ���ما ِء ُ ت ْؤ ِت���ي ُأ ُك َل َه���ا ُك َّل ِح ٍ َثاب ٌ الس َ ِ���ت َو َف ْر ُع َه���ا ف���ي َّ ون﴾(البقرة.)74: ﴿و َما ا ُ هلل ب َِغا ِف ٍل َع َّما َت ْع َم ُل َ َر ِّب َها﴾(إبراهيمَ ،)25-24: ان بِا ْل ِقس ِ ال ���ط َ ﴿و َأ ْو ُف���وا َ ���ف َن ْف ًس���ا ِإ َّ الك ْي َ ال ُن َك ِّل ُ ي���ز َ ���ل َوا ْل ِم َ َ ْ ���ع َها﴾(األنعام ،)152:وهذه قاعدة التعامل في األس���واق بالبيع ُو ْس َ والشراء كما جاء في قوله تعالىِ َ : ال الو ْز َن بِا ْل ِق ْس ِط َو َ ﴿و َأق ُ يموا َ ُت ْخ ِسروا ِ ان﴾(الرحمن.)9: الم َيز َ ُ ِ ان َذا ُق ْر َبى﴾(األنع���ام ،)152:فهذا ك و ل و ���وا ل د اع ف ���م ت ل ق ا ذ إ ﴿و ِ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ نظام القول والشهادة في كل األمور لجميع الناس. ﴿وب َِع ْه ِ ���د ا ِ هلل َأ ْو ُفوا﴾(األنع���ام ،)152:فه���ذه العه���ود عقود بين َ الن���اس يراها العليم الخبير ويش���هد عليها ،ولذا وجب الوفاء، وإال حوس���ب العب���د عل���ى نقض العه���د في دني���اه وأخراه من
العليم بذات الصدور. ِ ِ ون﴾(األنع���ام ،)152:وهذه ���م َو َّص ُ ���م َت َذ َّك ُر َ اك ْم بِ���ه َل َع َّل ُك ْ ﴿ َذل ُك ْ الذك���رى الدائمة تبع���ث فينا الحياة الطيبة ،وفي اآلخرة الثواب بالجنات والنعيم المقيم.
(*) جامعة األزهر الشريف ،كلية اللغة العربية /مصر.
الهوامش
( )1النور الخالد ،محمد مفخرة اإلنس���انية ،لألس���تاذ فتح اهلل كولن ،ترجمة: أورخان محمد علي ،ص ،21:دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة. السنة الثامنة -العدد (2013 )36
22
سا ِلك الطريق
فار ،وجبال ووديان، وِها ٌد وِق ٌ وح َد َك ال ت ِ ـمض، وبمفردك في هذا الوعر ال تسر... ستغشاك ضبابات المساء، وعتمات الليالي... ْتمس؛ ُع ْد ،وصدي ًقا وفيًّا ال ْ خبيرا... بالطريق عارفًا ،وبشعابه ً َعت، وإالَّ في ِشباك الصيّاد وق َ طت... وتحت جبروت سطوته س َق َ ***
َي ْه َت ِ ���ل َف ِإ َّن َم���ا َي ِضلُّ ���دي ِل َن ْف ِس��� ِه َو َم���ن َض َّ ال َت ِز ُر َوازِ َر ٌة وِ ْز َر أ ُْخ َرى َو َما ُك َّنا َع َل ْي َها َو َ ال﴾(اإلسراء.)15: ِين َح َّتى َن ْب َع َث َر ُسو ً ُم َع ِّذب َ وجاءن���ا مس���ك الخت���ام ،ورس���ول الس�ل�ام ،ون���ور اهلل ف���ي أرض���ه لجمي���ع األن���ام إل���ى ي���وم الدين ،س���يدنا وموالنا وش���فيعنا محم���د ب���ن عب���د اهلل م���ن ولد عدن���ان ،وذل���ك عل���ى فترة من الرس���ل،
وق���د صارت البش���رية ف���ي نهايتها على
اإلنس���انية الحائ���رة وحياته���ا الخائ���رة.
الب�رشي��ة احلائ��رة يف جمي��ع الأزم��ان يف حاج��ة �إىل ربّ��ان، وقائد يهديها �س��واء ال�س��بيل، وح��ا ٍد يقوده��ا �إىل ال�س��عادة ال�رسمدي��ة يف حياته��ا الأوىل والآخرة.
مش���ارف اآلخ���رة ،في حاجة ماس���ة إلى
فشباب المسلمين قد خدعوا بمدنية
الغربيي���ن ،وظنوا أنه���ا جاءتهم بال عمل
وال جه���د ،أو عرف���وا أنه���م يعمل���ون، لك���ن الش���باب ال ينظرون إلى الوس���ائل والبداي���ات ،والمس���الك الموصل���ة إلى
الغاي���ات ،وإنم���ا ب���روق المدني���ة الزائفة
وم���ا فيه���ا م���ن زخ���رف يأخ���ذ بالعي���ون واأللب���اب ،فيندفع���ون نحوه���ا ،فيا ليت قومي يعلمون.
رس���ول من اهلل يعدل مس���يرتها في الحياة ،ويرس���م لها طرائق
يا معش���ر الش���باب انظروا إلى تاريخكم المش���رف في بناء
األش���هاد .وق���د كان الن���اس في حاج���ة إلى ه���ذا النبي ،حيث
شبابا حول المصطفى ورحمة الكائنات إلى يوم الدين ،ترون ً
اآلم���ال الت���ي يرتضيه���ا خالقهم لعباده في دنياه���م ،ويوم يقوم
دول���ة اإلس�ل�ام إبان العه���د الذهبي ال���ذي بناه س���يد العالمين
انحرف���ت به���م مس���الك الحي���اة ،فعاش���وا في ظلم���ات كقطع قتل ،وس���فك دما ٍء، ونهب لألموال ،وإتيان ٍ الليل المظلم ،من ٍ
طلب���ا لعزة اهلل في هذه الحي���اة ،ويوم يقوم وآبائه���م وأمهاته���م ً
الش���باب ،وانحالل تام في الحياة اإلنس���انية ،فجاءهم رس���ول
ممال���ك ،والمغارب بم���ا كانت عليه من س�ل�اطين يتعاركون،
الفواحش ،وحروب مدمرة ،وفساد في األخالق عند كثير من
اهلل ليخرجه���م م���ن الظلمات إل���ى النور ...وح ًّقا م���ا قاله أحد
المحبين المخلصين:
لـــما أراد اهلل جــــل جــــــاللـــــه
أهداك ربك للورى يا سيدي
أن ينقـــذ الدنــيا مـــن العـــثرات فيضا من األنوار والــرحـــمات ً
ويقول األس���تاذ المربي الش���يخ محمد فتح اهلل كولن -نفع
يحل أعقد اهلل ب���ه العب���اد في كل البالد -ما ترجمته« :وكان ّ
المش���اكل االجتماعية بكل بساطة وسهولة ،وبعده بثالثة عشر
ال :ما قر ًن���ا أش���ار "جورج برنارد ش���و" عل���ى هذه الحقيق���ة قائ ً يحل له مش���اكله، أح���وج عصرن���ا إلى ش���خص مثل محمد ّ
ريثما يش���رب فنجا ًنا من القه���وة ،وهذا هو المهم ،فالفضل ما شهدت به األعداء"(.)1
األمي���ن يفت���دون رس���ولهم ودينه���م بأرواحه���م وأبدانه���م الن���اس ل���رب العالمي���ن ،فدان���ت لهم المش���ارق بم���ا فيها من
وق���د س���اد بينهم التطاحن ف���ي ظلمات الجهل مع الش���ياطين، حتى سطعت أنوار اهلل عليهم فكانوا مسلمين.
في���ا ش���باب األم���ة ،أنتم الس���واعد القوية إلقام���ة الحضارة
اإلس�ل�امية ،وبناء صرح األمة المرضي���ة ،فكونوا عاملين على
ه���ذا الس���بيل ...وهذا نبيكم الذي رباكم ف���ي بداية األمر على ���ذا ِصر ِ اطي ﴿وأ ََّن َه َ ه���ذا الخط المس���تقيم كما قال س���بحانهَ : َ ِ الس ُب َل َف َت َفر َق ب ُِك ْم َعن َسبِي ِل ِه َذ ِل ُك ْم وه َو َ يما َف َّاتب ُِع ُ ال َت َّتب ُِعوا ُّ ُم ْس َتق ً َّ ون﴾(األنعام.)153: َو َّص ُ اكم ِب ِه َل َع َّل ُك ْم َت َّت ُق َ ولقد رس���م اهلل س���بحانه ،هذا الس���بيل في اآليات الس���ابقة ���ل َما َحر َم عل���ى هذه اآلي���ة فقال عز من قائ���لُ ﴿ :ق ْل َت َعا َل ْوا َأ ْت ُ َّ ال ُت ْش ِ���ر ُكوا ِب ِه َش ْ���ي ًئا﴾(األنعام ،)151:وهذا هو أول َر ُّب ُك ْم َع َل ْي ُك ْم َأ َّ الس���بيل؛ توحي���د اهلل الذي ال إله س���واه ،وأن���ه صاحب الخلق واألمر.
وف���ي كالم "برن���ارد ش���و" إش���ارة إل���ى ع���ودة الفت���ن الت���ي
���ن إ ِْح َس���ا ًنا﴾(األنعام ،)151:وه���ذه صل���ة الرح���م ﴿وبِا ْل َوا ِل َد ْي ِ َ
وضع���ف الدي���ن في نفوس األحياء ،فقد كث���رت عليهم النعم،
متناصرة ،لها ثمراتها الطيبة. ���ن إ ِْم ٍ ���م ﴿و َ ال َت ْق ُت ُل���وا َأ ْو َ �ل�اق َّن ْح ُ الد ُك���م ِّم ْ َ ���ن َن ْر ُز ُق ُك ْ اه ْم﴾(األنع���ام ،)151:فاآلي���ة فيها عناية اآلب���اء باألبناء .وكانوا َوإ َِّي ُ في الجاهلية يقتلونهم خو ًفا من الفقر ،أو كانوا فقراء فحماهم
غط���ت العال���م لبعدهم ع���ن منهاج الس���ماء ،وم���وت العلماء، وانفتح���ت الدني���ا وم���ا فيه���ا من ك���رم ،وذلك فض���ل اهلل يؤتيه
م���ن يش���اء ،فمن ش���كر فإنما يش���كر لنفس���ه ،ومن ض���ل فإنما يض���ل عليه���ا ،وه���ذا الضالل ه���و ال���ذي ن���راه اآلن في ركب
األول���ى ،بحيث ل���و َن َم ْت ف���ي روح األمة ،لرأي���ت أمة واحدة
21
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
قضايا فكرية
أ.د .فتحي حجازي*
عالج الداء من معين سيرة سيد األنبياء البش���رية الحائرة في جميع األزمان في حاجة ربان ،وقائد يهديها س���واء الس���بيل ،وحا ٍد إلى ّ يقوده���ا إل���ى الس���عادة الس���رمدية ف���ي حياتها
َص َّبارٍ َش ُكورٍ ﴾(إبراهيم.)5-4: وم���ر ركب الرس���االت اإللهي���ة على مدى األزم���ان ،فكل رس���ول يبعث فيبلغ رس���الة ربه إلى عباده بالحكمة والموعظة
األولى واآلخرة .فكان هذا القائد على الدوام رس���ول اهلل إلى
الحسنة ،ويجادلهم بالتي هي أحسن ،فمن آمن واهتدى واتبع
ٍ ِ ال ِب ِلس ِ وصدق اهلل العظيمَ َ : ���ان َق ْو ِم ِه ﴿و َما أ ْر َس��� ْل َنا م ْن َر ُس���ول ِإ َّ َ
بالهدى.
عب���اده عل���ى م���دى األزمان حس���بما يقتضي���ه الح���ال والمقام،
سبيل اهلل مع رسول اهلل َب ُعد عن الردى ،ونال حظه في السعادة
���اء َو ُه َو ا ْل َع ِز ُيز ���م َف ُي ِضلُّ ا ُ ِل ُي َب ِّي َ ���اء َو َي ْه ِدي َم ْن َي َش ُ هلل َم ْن َي َش ُ ���ن َل ُه ْ ِ ���ر ْج َق ْو َم َك ِم َن وس���ى ب َِآيا ِت َنا َأ ْن َأ ْخ ِ ي���م َ و َل َق ْ ���د َأ ْر َس��� ْل َنا ُم َ ا ْل َحك ُ هلل إ َِّن ِفي َذ ِل َك لآَ َي ٍ ام ا ِ الظُّ ُلم ِ ات ِل ُك ِّل ���ات ِإ َلى ال ُّنورِ َو َذ ِّك ْر ُه ْم ِب َأ َّي ِ َ
وم���ن زاغ ع���ن طريق م���واله وأعلن العصيان لرس���ول اهلل،
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
20
فق���د عرض نفس���ه للردى ،وكس���ا حياته بالتعاس���ة والخس���ران ���دى َف ِإ َّن َما ﴿م ِ ���ن ْاه َت َ واالنح���راف ع���ن اله���وى ،كما ق���ال َ :
رسل األمانة عن أبي هريرة قال :قال رسول اهلل " :و ُت َ والر ِح���م فتقوم���ان َج ْنب َتي الصراط ً ِ لكم أو ُ فيمر َّ يمينا وش���ماالُّ ، َ َّ ش���يء أي وأمي، أنت بأب���ي قلت ق���ال: كالب���رق"، كمر البرق؟ ّ وي ْر ِجع ف���ي طرفة عين؟ يمر َ ق���ال" :أل���م تروا إلى الب���رق كيف ُّ ���د الرج���ال ،تجري بهم كم���ر الري���ح ،ثم ث���م كم���ر الطير َ وش ِّ ّ ّ رب َس��� ِّل ْم َس��� ِّل ْم، قائم على الصراط يقول ِّ ونبي ُك���م ٌ أعماله���مّ ، ���ز أعم���ال العباد ،حت���ى َيجيء الرجل فال يس���تطيع حت���ى َت ْع ِج َ السير إال زح ًفا" (رواه مسلم).
إذا تأملنا قوله عليه الصالة والس�ل�ام" :ألم تروا إلى البرق
يم���ر ويرجع في طرفة عين؟" ،نالح���ظ أنه يتطابق مع ما كي���ف ُّ
مؤخرا .فق���د انتهى العلماء -كم���ا رأينا -إلى أن كش���فه العل���م ً البرق ما هو إال شرارة كهربائية ضخمة تحدث نتيجة تالمس
الش���حنة الكهربائية الس���البة الموجودة في الغيمة مع الش���حنة الكهربائي���ة الموجب���ة الموج���ودة ف���ي األرض ،وأن هنال���ك
طورين رئيسيين ال يمكن لومضة البرق أن تحدث من دونهما
أبد ًا ،وهما طور المرور وطور الرجوع .
وتأم���ل معي هذه المصطلحات العلمية ،فكلمة " "Stepالتي
يستخدمها العلماء للتعبير عن المرحلة األولى تعني "يخطو أو يمر" ،أما كلمة " "Returnالتي يستخدمها العلماء للتعبير عن طور الرجوع تعني "يرجع" ،بما يتطابق مع التعابير النبوية الشريفة. وه���ذا يدلُّ عل���ى دقة ال���كالم النب���وي الش���ريف ومطابقته
للحقائ���ق العلمية بش���كل كامل .ولكن ماذا يعني أن يس���تخدم العلماء اليوم التعابير النبوية ذاتها؟
واحدا ،أال وهو أن الرس���ول الكريم حدثنا ش���يئا إنه يعني ً ً
ع���ن حقائ���ق يقينية وكأنن���ا نراها ،وذل���ك قب���ل أن يراها علماء
أيضا على إعجاز غيبي في كالم هذا النبي عصرنا هذا .ويدل ً
األمي عليه الصالة والسالم.
فم���ن ال���ذي أخب���ره ب���أن العلم���اء بع���ده بأربعة عش���ر قر ًنا
الصالة والسالم ،بـ"طرفة عين".
والعمل الذي قمت به ببس���اطة أنني بحثت في اكتش���افات
العلماء وقياس���اتهم الحديثة للزمن الذي تستغرقه موجة البرق
ليمر ويرجع؟ ذهابا ً ً وإيابا ،أي كم يستغرق البرق ّ
لقد وجدت بأن الزمن هو أجزاء قليلة من الثانية ،ويختلف
ه���ذا الزمن م���ن مكان آلخر ومن وقت آلخر .ومتوس���ط زمن البرق ،هو عشرات األجزاء من األلف من الثانية.
إذن ،ه���ل هنال���ك عالقة بي���ن الزمن ال�ل�ازم لضربة البرق،
وبين الزمن الالزم لطرفة العين؟ وإذا كانت األزمنة متساوية أو
حدد زمن ضربة البرق متقاربة إذن يكون الحديث الشريف قد َّ قبل علماء أمريكا بأربعة عشر قر ًنا.
وكان���ت المفاجأة أنني عندم���ا بحثت عن زمن طرفة العين
والمدة التي تبقى فيها العين مغلقة خالل هذه الطرفة، وجدت َّ ُ أيضا عش���رات األج���زاء من األلف م���ن الثانية ب���أن الزم���ن هو ً وسطيا ،وهو ذاته الزمن الالزم لضربة البرق. ًّ
ووجدت ب���أن زمن ضربة البرق يختلف من غيمة ألخرى ُ
حسب بعدها عن األرض ،وحسب الظروف الجوية المحيطة،
وحس���ب كثافة الغيوم ومدى تش���بعها ببخار الماء ،ولكن هذا الزم���ن يبق���ى مقدرا بعدة عش���رات م���ن الميلي ثاني���ة ،وكذلك ً
وجدت أن الزمن الالزم لطرفة العين ،يختلف من إنسان آلخر ُ أيضا يبقى حسب الحالة النفسية والفيزيولوجية والسن ،ولكنه ً مقدرا بعدة عشرات من الميلي ثانية. ً
(*)
باحث في اإلعجاز العلمي والرقمي في القرآن والسنة /سوريا.
المراجع
1. MartinAUman, Lightning, Courier Dover Publications, 1984. 2. Leslie Mullen, Three bolts from the blue, www.nasa.gov, June 8, 1999.
سيس���تخدمون هذه الكلمات؟ ولو كان الرسول األعظم صلى
3. Hugh Christian, Steven Goodman, Observing Lightning from
لجاءن���ا باألس���اطير والخرافات الس���ائدة والت���ي كان يعتقد بها
4. Steve Goodman, A Lightning Primer, www.nasa.gov 5. Flash Facts About Lightning, National Geographic News,
اهلل علي���ه وس���لم قد تع َّلم ه���ذه العلوم من علم���اء عصره ،إذن علماء ذلك الزمان.
إشارة إلى زمن البرق
هنالك إشارة رائعة في الحديث النبوي إلى الزمن الالزم الذي تس���تغرقه ضربة البرق ،فقد حدده الرس���ول األعظم عليه وآله
Space, www.nasa.gov, 1998.
June 24, 2005.
6. Uman MA. All about lightning, New York: Dover, 1986. 7. Time Converter, www.csgnetwork.com. 8. Susan Chollar, In the blink of an eye, Psychology Today, March, 1988.
19
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
من أين تأتي هذه الشحنات؟
إن الحدي���ث ع���ن الغيوم يعني الحديث عن الماء الذي تحمله
ه���ذه الغي���وم ،ونح���ن نعل���م أن كل جزيئة م���اء تتركب من ذرة أكسجين وذرتين من الهيدروجين .إن الشحنات السالبة تنتشر عل���ى ذرة األوكس���جين ،أما الش���حنات الموجبة فتنتش���ر على
ذرت���ي الهيدروجين نتيجة لما يس���مى "الرابط���ة الهيدروجينية"
مصدرا الموج���ودة ف���ي جزيئات الم���اء ،وهذه الرابطة تش���كل ً مهما من مصادر الش���حنات السالبة والموجبة والتي تنتشر في ًّ أجزاء الغيمة والهواء ،واهلل تعالى أعلم.
ولك���ي نأخ���ذ فكرة أوس���ع عن الب���رق الذي يح���دث على
األرض ،نتأم���ل بع���ض اإلحصائي���ات الحديث���ة ع���ن ومضات
البرق على سطح الكرة األرضية.
دائما. التي تسبب البرق ً
عندما يكون هنالك زيادة في عدد اإللكترونات في أسفل
الغيم���ة ،يتولد ع���ن ذلك حق���ل كهربائي س���الب ،ويقابل هذه الزي���ادة ف���ي أعل���ى الغيمة نق���ص لإللكترونات ولذل���ك يتولد الحقل الكهربائي الموجب.
وعندما تتجمع كميات مناس���بة من اإللكترونات في أسفل
الغيمة ،تنتقل هذه الش���حنات الس���البة بواس���طة الهواء الرطب الموج���ود بي���ن الغيم���ة وس���طح األرض ،وتقترب من س���طح
األرض ذي الش���حنة الموجب���ة ،عند ذلك تتش���كل قن���اة دقيقة
ج���دا ف���ي قاع���دة الغيم���ة .وينطلق بعد ذل���ك عبر ه���ذه القناة، ًّ
ما يس���ميه العلماء "الش���عاع القائد" ( )Leaderم���ن الغيمة باتجاه يمر ويخطو بخطوات متتالية هو األرض ،وهذا الش���عاع الذي ّ أول مرحلة من مراحل البرق.
حقائق وأرقام
ف���ي كل ثاني���ة هنالك مئة ومضة برق ف���ي العالم .وفي كل يوم
هنال���ك 8.6ملي���ون ومضة برق .وفي س���نة واحدة يحدث في الوالي���ات المتحدة األمريكية أكثر من 20مليون ومضة برق.
وعندما يصل هذا القائد إلى األرض وبفعل الحقل السالب
ال���ذي يحي���ط به ،يج���ذب إليه الش���حنات الموجب���ة الموجودة
بالقرب من س���طح األرض ،وتتحرك هذه الش���حنات الموجبة باتجاه الش���عاع القائد وتصطدم به على ارتفاع عشرات األمتار
كهربائيا يتراوح من 100مليون إلى توترا ًّ كل ومضة برق تولد ً
عن سطح األرض ،وتتشكل قناة اتصال بين الغيمة واألرض.
10آالف أمبير إلى 200ألف أمبير .إذا نظرنا للكرة األرضية
كهربائ���ي ق���وي ينير على ش���كل ومضة باتج���اه األعلى يدعى
اللحظة ذاتها .إن البرق ال ينحصر في العواصف الرعدية ،بل
ال ،ألن معظم الضوء يتولد عنها. نراه فع ً
البراكي���ن ،وفي العواص���ف الثلجية الضخم���ة .يمكن أن تمتد
وس���طيا بحدود 40 160ألف كيلو متر في الثانية ،وتس���تغرق ًّ
كيف يحدث البرق
20ألف أمبير .وبعد ذلك تمر فترة توقف مدتها من 3وحتى
كهربائيا من تي���ارا 1000ملي���ون فول���ت .كل ومضة برق تنتج ً ًّ
ال للكهرباء ،ويتولد تيار عندها تنهار عازلية الهواء ويصبح ناق ً
في أية لحظة ،فإننا نرى فيها 2000عاصفة رعدية تحدث في
"ط���ور الرجوع" ( ،)Return Strokeوهذه الضربة الراجعة هي ما
تمت مش���اهدة بعض أنواع البرق ف���ي األعاصير الكبيرة ،وفي
وتصل س���رعة ش���عاع البرق في هذه الضرب���ة الراجعة إلى
أفقيا. شرارة البرق إلى أكثر من عشرة كيلو مترات ًّ
مايك���رو ثاني���ة ،و ُتنتج التي���ار الراجع والذي يق���در من 10إلى
نعلم من قوانين الكهرباء أنه عندما تلتقي الشحنات المتعاكسة
100ميلي ثانية ،ثم تتكرر العملية من جديد باس���تخدام القناة
ينت���ج عنه���ا ومض���ة أو ش���رارة كهربائي���ة ،وهذا م���ا يحدث في
ذاتها والتي تم تأسيسها من قبل ،وهكذا عدة ضربات.
الب���رق .فالغي���وم تتكون نتيجة تجمع جزيئ���ات البخار المرتفع حديث يفيض بالمعجزات محملة بش���حنات كهربائية م���ن األرض ،هذه الجزيئات تكون َّ
نأتي بعد هذه الحقائق العلمية لنرى الحقائق النبوية الش���ريفة،
غالبا ما تكون الش���حنات الس���البة ،في أسفل الغيمة من مقررً ،
نحمل اهلل وسالمه ،الذي علّم العلماء ،ونقارن َّ ونتدبر دون أن ّ
تق���وم بدورها في توزيع الش���حنات ،وتكون الش���حنة الموجبة
هذا الحديث الش���ريف يطابق ويوافق مئة بالمئة ما توصل إليه
موجبة وسالبة نتيجة تفاعلها واحتكاكها واصطدامها .وكما هو الجهة القريبة من األرض؛ وسبب ذلك هو تأثير الجاذبية التي
في أعلى الغيمة ،وهذا يحدث في ما يسمى بـ"الغيوم الرعدية" السنة الثامنة -العدد (2013 )36
18
األمي عليه صلوات ونأتي لنعيش رحلة ممتعة مع كالم النبي ّ الحديث ما ال يحتمل من التأويل أو التفسير ،ونتساءل :أليس
العلماء اليوم؟
وقد أمكن رؤية برق كهذا بواس���طة أجهزة التصوير المثبتة
عل���ى األقم���ار االصطناعية ،م���ع العلم أن جميع أن���واع البرق تحدث نتيجة التقاء شحنات متعاكسة.
وهنال���ك أن���واع أخرى كثي���رة نذكر منها م���ا يحدث داخل
الغيم���ة ذاته���ا؛ وإن كل غيم���ة تحم���ل ش���حنة موجب���ة في أحد طرفيها ،وتحمل شحنة سالبة في طرفها المقابل ،وهكذا وفي ظ���روف العواصف الرعدي���ة يحدث التالم���س ويتحقق البرق الذي يضيء األرض ولكنه ال يصل إليها.
كذل���ك هنال���ك برق يحدث في أش���هر الصي���ف وآخر في
الش���تاء ،وهنالك برق على ش���كل كرة ،وب���رق صفائحي وغير ذل���ك كثير .كما أن العلم���اء رصدوا بر ًقا على بعض الكواكب
-مثل المشتري -أشد بمئة مرة من تلك الضربات على األرض.
والي���وم ومن���ذ ع���دة س���نوات يعم���ل العلم���اء على دراس���ة
جدا ،وقد ومراقبة البرق من الفضاء باستخدام تقنيات متطورة ًّ
توصل���وا لحقائق كثيرة عن هذه الظاهرة ،ولذلك يمكن القول إن الحدي���ث ع���ن آلية الب���رق في هذا البحث ه���و حديث عن
تفس���يرا حقائق قطعية الثبوت ،ألنه ال يجوز لنا أن نبني علميا ًّ ً آلية كريمة أو حديث نبوي ش���ريف إال على الحقائق اليقينية.
الغيوم الرعدية
وبم���ا أن الوس���ط ال���ذي تتجم���ع فيه الغي���وم يمتل���ئ بالحقول
الكهربائية فإن احتمال تالمس الش���حنات المتعاكسة والتقائها جدا .ولذلك ف���إن البرق الذي يحدث بي���ن الغيوم يمثل كبي���ر ًّ تقدر بمئ���ة ومضة في كل ثالث���ة أرباع ومضات الب���رق ،والتي ّ
ثانية وذلك في مختلف أنحاء العالم .ويعرف هذا النوع بـ"برق غيمة-غيمة".
أم���ا النوع الثالث فهو ما يحدث بين الغيمة والهواء ،حيث
محملة بش���حنة كهربائية ،واله���واء المحيط بها تك���ون الغيم���ة ّ من أحد جوانبها يحمل ش���حنة معاكس���ة .وعندما تكون كمية
الشحنات الكهربائية في الغيمة وفي الهواء كافية ،ينطلق شعاع
البرق ويحدث هذا النوع الذي يعرف بـ"برق غيمة-هواء".
إن الب���رق ال يح���دث ف���ي أية غي���وم ،بل هنالك غي���وم محددة
يس���ميها العلم���اء بـ"الغي���وم الرعدي���ة" ،وه���ي البيئ���ة المناس���بة ِّ لح���دوث البرق ،وقد تك���ون هنالك غيمة واحدة أو عدة غيوم
وهو األغلب.
وهذه الغيوم تكون عادة ممتلئة بالحقول الكهربائية بسبب
الري���اح الت���ي تس���وق جزيئات بخ���ار الم���اء وتدفع���ه لألعلى، وتس���بب احتكاك هذه الجزيئات بعضها ببعض ،مما يولد هذه
الحقول الكهربائية .في الوقت نفس���ه ،تتجمع ش���حنات سالبة وأخرى موجبة في الغيمة، وغالبا ما ترتفع الشحنات الموجبة ً لألعلى وتبقى الس���البة في أس���فل الغيمة من الجهة القريبة من
األرض.
هنال���ك ن���وع آخر وه���و البرق بي���ن الغيمة وطبق���ات الجو
أيض���ا ،أن هنال���ك فر ًقا ف���ي الجهد لق���د د ّل���ت الدراس���ات ً
كهربائيا ال الركامية وبين طبقة األيونوس���فير والتي تحوي حق ً ًّ بشكل دائم.
ألف فولت ،وهذا الفرق ينتج بسبب التوزع العالمي للعواصف
العلي���ا ،ويح���دث ه���ذا الب���رق بين الطبق���ات العليا ف���ي الغيوم
الكهربائ���ي بين س���طح األرض وطبقة األيونوس���فير يبلغ 500 الرعدية ،والتي تعتبر ضرورية للحفاظ على هذا الفرق.
17
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
جدا .فدرجة الحرارة في مركز شعاع البرق تصل إلى 30ألف ًّ درجة مئوية ،أي خمسة أضعاف حرارة سطح الشمس.
إن التوت���ر الكهربائ���ي الذي تول���ده ومضة الب���رق الواحدة
يص���ل إلى ماليي���ن الفولتات ،وبالتالي ُتعتبر دراس���ة البرق من
أصع���ب أنواع الدراس���ة التجريبية وأكثره���ا تعقيدا ،وذلك ألن ً زم���ن المراح���ل التي تش���كل ومضة البرق من مرتب���ة المايكرو ثاني���ة ،أي من مرتبة الجزء من المليون من الثانية ،وهذا الزمن
جدا وصعب اإلدراك. ضئيل ًّ
محي ًِرا للعلماء على مدى قرون ظل���ت ظاهرة البرق حد ًث���ا ّ
فكل طويلة ،و ُنسجت األساطير الكثيرة حول البرق وتأثيراته؛ ّ حض���ارة كان���ت تنظر إلى هذه الظاهرة على أنها حدث مقدس يرتب���ط باآللهة ،وكل حضارة كانت تحاول إعطاء تفس���ير لهذا
الحدث المرعب.
مث�ل�ا -كان التفس���ير المقبولفف���ي األس���اطير اإلغريقي���ة ً
سالحا لإلله وقتها لدى علماء القرن السابع ،هو أن البرق كان ً
"زي���وس" ( )Zeusال���ذي اس���تخدمه لتخوي���ف أعدائ���ه واالنتقام منهم .وحتى عهد قريب كان الناس يعتقدون في أوربا بوجود
هذا اإلله الذي يسمونه "صانع البرق".
ومنذ منتصف القرن الس���ابع عش���ر المي�ل�ادي وحتى يومنا
هذا ،قام العلماء بآاللف التجارب في سبيل فهم ظاهرة البرق.
فف���ي عام 1746ب���دأ العالم "بنيامين فرانكلي���ن" تجاربه حول
وهكذا استطاع العلماء أخير ًا بفضل التصوير فائق السرعة
الطبيعة الكهربائية للبرق ،وأن البرق ما هو إال شرارة كهربائية
قد تتألف من عدة ضربات ،وكل ضربة تتألف من عدة مراحل
قام الفيزيائي الس���ويدي "رتش���مان" بتجربة ح���ول البرق أثبت
ه���ذه المراحل ،ولم يتحقق هذا إال في نهاية القرن العش���رين،
منظمة أثبت من خاللها الكهرباء ،ثم اقترح أول تجربة علمية ّ
والمعالجة الرقمية للبيانات ،أن يثبتوا أن ومضة البرق الواحدة
ناتجة عن التقاء شحنتين كهربائيتين متعاكستين .في عام 1753
أو أطوار .وقد تم قياس األزمنة لكل مرحلة بدقة كبيرة ،ورؤية
فيها أن الغيوم الرعدية تحوي ش���حنات كهربائية .واس���تمرت
التج���ارب ،ولك���ن المعرفة بالبرق بقي���ت متواضعة حتى نهاية
وبداية القرن الحادي والعشرين.
الق���رن التاس���ع عش���ر وبداي���ة الق���رن العش���رين عندم���ا أصب���ح أنواع البرق التصوي���ر الفوتوغراف���ي ممكنا .لقد ب���دأ التصوير الفوتوغرافي ً
للب���رق ع���ام 1935في الوالي���ات المتح���دة األمريكية ،ولكن أجه���زة التصوي���ر كان���ت بطيئ���ة ،وبقي���ت العملي���ات الدقيق���ة الت���ي تراف���ق ظاهرة الب���رق مجهولة حتى الس���تينات من القرن العش���رين .حيث أمكن اس���تخدام التصوير الس���ريع والمراكب
الفضائية والرادارات والحاس���وب لمعالجة ودراس���ة البيانات التي قدمتها مختبرات مراقبة البرق. السنة الثامنة -العدد (2013 )36
16
يحدث البرق على عدة أنواع حس���ب مكان وجود الش���حنتين
الموجب���ة والس���البة .وأكثر األنواع ش���يوعا وأهمي���ة ،هو البرق ً النات���ج من التقاء ش���حنتين متعاكس���تين بي���ن الغيمة واألرض. فغالبا ما تكون الغيمة ذات شحنة سالبة عند الجهة القريبة من ً
األرض ،أما س���طح األرض فيكون ذا ش���حنة موجبة ،ويسمي العلماء هذا النوع "برق غيمة-أرض".
أم���ا النوع الثان���ي فهو ما يحدث بين غيم���ة وغيمة أخرى،
علوم
د .عبد الدائم الكحيل*
مرور البرق
بين العلم واإليمان
البرق لقد بينت التجارب الجديدة أن أية ومضة ْبرق ،ظاهرة ْ ليست مس���تمرة كما نراها ،بل تتألف من عدة
ظل مرتبطً ا بالخرافات واألساطير إن الحديث عن ظاهرة البرق َّ
يم���ر ويخطو م���ن الغيمة باتجاه األرض ،وط���ور الرجوع وهو ّ
عليه وس���لم -أي في القرن الس���ابع الميالدي -لم يكن ألحد
يم���ر ثم يرجع خ�ل�ال زمن غير مدرك بالعي���ن المجردة ،وهذا ّ
فق���د أثبتت التجارب أن هنالك عمليات فيزيائية وكيميائية
يقول النبي الكريم عليه الصالة والسالم متحد ًثا عن ظاهرة
قب���ل جميع العلماء .ويمكن رؤي���ة هذه العمليات اليوم بفضل
أطوار ،أهمها طور المرور وهو الش���عاع الذي
الش���رارة التي ترجع باتجاه الغيمة .وهذا يعني أن شعاع البرق
وس���طيا بعش���رات األجزاء من األل���ف من الثانية. يقدر الزم���ن ّ ًّ
آلالف السنين ،وفي الزمن الذي عاش فيه رسول اهلل صلى اهلل
أي علم عن العمليات التي تحدث داخل البرق.
محل اتفاق من دقيقة تحدث داخل ش���عاع البرق ،وهي اليوم ّ
يمر ويرجع في طرفة عين" الب���رق" :ألم تروا إلى البرق كي���ف ُّ
الكامي���رات الرقمي���ة المتط���ورة ،كما يمكن اعتب���ار وجود هذه
خصوص���ا إذا علمنا أن العلماء يس���تخدمون الكلمة ذاتها التي ً
جدا للبرق التقن���ي الكبير لهذه األجهزة تبقى المراحل الدقيقة ًّ
(رواه مسلم) ،ففي هذه الكلمات معجزة علمية شديدة الوضوح،
استخدمها النبي الكريم عليه الصالة والسالم ،وذلك من خالل
تعبيره���م عن طوري الم���رور والرج���وع ،وأن هذين الطورين
يس���تغرقان مدة من الزمن تس���اوي الزمن الالزم لطرفة العين.
شك فيها .وعلى الرغم من التطور العمليات كحقائق يقينية ال ّ محيرا للعلماء. لغزا ً ً
فف���ي ظل الظروف الس���ائدة داخل ش���عاع البرق ،ال يمكن
ألي جهاز أن يتحمل الحرارة الهائلة والتوتر الكهربائي العالي
15
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
فإن تحطيم هذه األس���طورة س���يؤدي إلى مزيد التي تحيط بهاَّ .
من أنسنة هذا العالم ،وهي مهمة تنتمي بطبيعتها إلى الثقافة". يوما أن أعود إلى مجال "التنظير والتفعيل وأقول :لو ِّ قدر لي ً
ال على ما تم ويتم من فعل إيجابي الترب���وي" ،لحم���دت اهلل أو ً ِ أؤسس مدرسة أو هنا وهنالك ،ولكن كذلك ،سأعمل على أن ّ مدارس تتجاوز "البرنامج" و"المقرر" و"الشهادة"... أن ً مدركا ّ َّ ثمة قناعة من المحيط العام ترفض هذا المنحى ،ولكن سأحاول، وس���أجمع فيه���ا بي���ن "التعلُّم والتأم���ل والتفكر" ،وس���أخاطب
القلب إلى جوار العقل ،وس���أجعل الحري���ة هي مدار الرحى. يمر إال وم���ا من ش���ك ّ أن الوص���ول إلى هذا المطل���ب ،ال ُّ
عب���ر التغيير التدريجي ،والمرحلي���ة الواعية ،ولذا أعيد وأكرر: ّ أي نفيا لم���ا مضى ،ولكنه التذكير َّ ب���أن الوقوف في ّ لي���س هذا ً محط���ة واالنتهاء إليها ،هو بداية الس���قوط ،وه���ي نقطة العودة قدر لي واالنتكاس .وما من ش���ك أنني س���أفتح مدرس���ة -ل���و ِّ
وعم�ل�ا ،وعلى علما ذل���ك- ً تخ���رج الن���اس عل���ى كت���اب اهلل ً ِّ ومنهجا ،ثم على أساس الفهم موضوعا منهج الس���نة الطاهرة ً ً
ال. الء الصحيح لألعالم األد َّ اعتبارا وتم ُّث ً ً
الب���د أن تكون مدارس���نا ذات ن َفس إيمان���ي رباني ،وذات
ألد أعدائها الكره وضيق األفق والتصنيفات ُبعد إنساني كونيُّ ،
أكيد أنه سيح ّقِق هذه المطالب ،ولسوف يرتقي هذا األفق ،بل ٌ
يفرط في س���يفعل ،واهلل تعالى معه ...وهو -فيما نحس���ب -ال ِّ ش���يء ،ويصل اللي���ل بالنهار لبلوغ المقص���د ،وتحقيق المراد. هنالك فقط ،ال حاجة للتفكير في الجديد ،ولكن الواجب
يملي التركيز على التجديد.
والتجدي���د والتغيير ...مفهوم���ان ديناميكيان ...ال يتوقفان؛
وإن كانا يرتكزان على محور ثابت ،وعلى مرجعية صلبة.
ولقد -واهلل -ضربت "مدارسنا" أروع مثال ،من يوم نشأتها،
عل���ى يد رج���ال خ َّلص مهاجري���ن؛ رغم ق َّل���ة ذات اليد ،وبعد
أخص هؤالء الش��� َّقة ،ووهن الوعاء ،وهشاشة النسيج ...ولذا ُّ
"الوزع القوي" وأقول" :نعم ...ولكن". بالتحية مع ش���يء من َ نع���م لما تح ّق���ق ...ولكن ،ما بقي هو أكث���ر وأكبر ...حتى
نبسط الخير على العالم أجمع!
ثم إني أش���ير باإلصبع إلى مش���روع "الخدم���ة" ،في جبهته
التربوي���ة العالمي���ة ،بعب���ارة واضح���ة ،وبخاص���ة بع���د زيارات���ي العديدة عبر العالم ،كان آخرها "أستراليا" وأقول: إن جميع والئنا ِ خد ًاما في لك ،ولقد تع َّلمنا ٍّ بحق أن نكون َّ
صفوف "الخدمة" ،فهي منار ٌة لنا وللعالم أجمع ...ولذا نؤمن
الضيقة ،فال هي بالمدارس اإلسالمية في روحية باهتة ،وال هي
ب���أن ما أنجزت���ه وما أبدعته ه���و "من صلب ذاتن���ا الحضارية"،
أن "اإلس�ل�ام يعني أن نفهم وأن نعت���رف باالزدواجية المبدئية ّ
الم���دارس العلمي���ة ،والح���رة ،والصديق���ة ...وغيره���ا" :ه���ذه َّ مؤسس���ات "الخدمة" ،وعن مدارس���نا" ...نق���ول بصراحة ،عن َّ فكر "الخدمة":
مدارس على نمط مادي أرضي ،لكنها مدارس إسالمية ،بمعنى للعال���م (ال���روح والمادة) ،ث���م نتغلب على ه���ذه االزدواجية".
"أن اإلس�ل�ام ل���م يأخ���ذ اس���مه م���ن قوانين���ه وال وبحقيق���ة َّ
نظام���ه وال محرماته وال من جهود النفس والبدن التي يطالب َّ اإلنس���ان بها ،وإنما من ش���يء يشمل هذا كله ويسمو عليه من
قوة النفس لحظة فارقة تنقدح فيها ش���رار ُة وعي باطني ...من ّ في مواجهة محن الزمان ...من التهيؤ الحتمال كل ما يأتي به
الوجود ...من حقيقة التسليم هلل ...واالسم إسالم".
ولعل المدارس األولى سيكون أسماؤها ،حسب منطلقات
مناهجها ،ال مجرد ش���كل وعمارة ،بل روح وعمارة ،مس���تقاة َّ م���ن ه���ذه األس���ماء الخالدة :مدرس���ة علي ع���زت بيجوفيتش، مدرس���ة مال���ك بن نبي ،مدرس���ة فت���ح اهلل كولن ،مدرس���ة عبد
الوهاب المسيري ...ثم...
مؤسس���اتنا ،وه���ذه َّأمتن���ا ...فالحمد هلل ه���ذا فكرن���ا ،وهذه َّ
أعيننا بمثل ه���ذه الصروح أن أران���ا الي���وم الذي اكتحلت في���ه ُ َ هلل َو ِن ْعم ًة َوا ُ ِ ِ ال ِم َن ا ِ يم﴾(الحجرات،)8: الحضاريةَ ﴿ ،ف ْض ً َ يم َحك ٌ هلل َعل ٌ ِ ِ ﴿ َف ْض ً ِ يم﴾(الدخان.)57: ال م ْن َر ِّب َك َذل َك ُه َو ا ْل َف ْو ُز ا ْل َعظ ُ سالمي إلى اإلخوة القائمين على مؤسسات التعليم ...في جميع أصقاع العالم...
عمال العالم ا ِّتح���دوا ،"...فلقد وال أق���ول له���م َ اليوم" :ي���ا َّ
مضى أوانها واهترأ بنيانها ،ولكن أقول: أرشدوا... "يا مع ِّلمي العالم ُ يا مع ِّلمي العالم ارشدوا."...
استدراك
مهال ،لعل الموجود بحول اهلل تعالى -وهو في الطريق الصحيح- السنة الثامنة -العدد (2013 )36
وبالتال���ي ،كما نقول عن المدارس الرس���مية ف���ي وطننا ،وعن
14
(*) مدير معهد المناهج ،الجزائر العاصمة /الجزائر.
عدوه • إذا كان يس���تعير الص���اع من ِّ
من اإلنس���انية أن يجبر على التخلي عن
ليكيل دقيقه.
• إذا كان ِ يفص���م اإلنس���ان عن ذاته،
ويعرضه في مش���وهة، ث���م ُيلبس���ه ذوا ًت���ا ِ َّ
س���وق النخاس���ة أو على مسرح عرائس
القراقوز.
• إذا كان مج���رد ب���وق لنظري���ات َّ وأطروح���ات جاءت���ه م���ن الغ���رب ومن
الش���رق ،بال روية وال مش���اركة حس���ب المفه���وم الخلدون���ي" :ول���ع المغلوب
بالغالب".
معتقدات���ه أو التبرؤ منه���ا ...ولذا "فهناك
كان حم ِّققو حماك��م التفتي�ش يف املا�ض��ي ،يزعم��ون �أنه��م يُحرق��ون اجل�س��د لك��ي ينق��ذوا ال��روحّ � ،أما املح ِّققون املعا�رصون ،ف�إنهم يفعلون العك���س؛ يحرقون الروح ويبقون اجل�سد.
• إذا كان ي���زرع إلى جوار المعلومة
حزم��� ًة م���ن الي���أس والقن���وط ،ويقن���ع ظلم���ا أنه حقير ودنيء وس���يء التلمي���ذ ً
عقوبات إنس���انية ،وعفو هو أكثر ش���يء
الإنسانية".
والقاع���دة الكلية التي نس���تنبطها من
ه���ذا الس���ياق ونس���قطها عل���ى س���ياقات أخ���رى ،منه���ا س���ياق التربي���ة والتعليم، والمدرسة والجامعة ،والمسجد والمنبر،
والمتجر والسوق ...تأتي من المالحظة اآلتية" :كان مح ِّققو محاكم التفتيش في
الماضي ،يزعمون أنهم ُيحرقون الجسد لك���ي ينق���ذوا ال���روحّ ،أم���ا المح ِّقق���ون
المعاص���رون ،فإنه���م يفعل���ون العكس؛
يحرق���ون ال���روح ويبق���ون الجس���د".
الح���ظ ،وأنه ال يصلح لش���يء وال حت���ى ُليرمى في الزبالة مثل
والتعليم اليوم ،هل هو من النمط األول ،أم هو من النمط
من���ا كم ه���و تعليمنا "إنس���اني" ،وك���م هو غير فلينظ���ر كلٌّ ّ
الجس���د ألنه هو الحامل لل���روح ،ويخاطب التلميذ من جميع
القش... ّ
إنساني؟ وكم نحن جادون أو غير جادين في "أنسنة التعليم"، آد َم﴾(اإلسراء.)70: ﴿و َل َق ْد َك َّر ْم َنا َب ِني َ بروح َ
ال عن الجسد إحراق الروح بدي ً
م���ن منطل���ق الفهم الواع���ي ،ومن ناف���ذة المنظوم���ة التوحيدية يحط من كرامة اإلنس���ان أن كل ش���يء ّ الرش���يدة ،يتق���رر لدينا َّ
يش���يئه (يحيله إلى ش���يء) بتعبير مالك بن ومن ش���خصيته ،أي ِّ
(يحوله إلى وس���يلة) بتعبير المسيري ،كلُّ ما نبي ،أو يحوس���له ِّ سببا في ذلك ،هو "الإنساني" بامتياز. كان ً
ال عن أفعاله ال ،من اإلنس���انية أن نعتبر اإلنس���ان مس���ؤو ً مث ً
ونحاس���به عليها ،وليس من اإلنس���انية أن نف���رض عليه إرادتنا
الثان���ي ،أم أن���ه يحيي الروح ألنها هي حقيقة اإلنس���ان ،ويربي حد تعبير المجدد محمد فتح اهلل كولن :من قلبه ،ومن منافذه على ّ
عقله ،ومن جوارحه ،ومن إلهاماته ،ووجدانه ،وذوقه ...إلخ. وإذا م���ا علمن���ا أن���ه ف���ي "هولي���وود توج���د أكبر نس���بة من
األطباء النفس���انيين في العالم" ،وأنه "في صفوف الجامعات" ِ تيقنا أن الجس���د ف���ي أمريكا يوجد أكبر نس���بة من المنتحرينّ ،
شيئا إذا ما ُفصال عن الروح، الجبار ،لن ُيغنيا ً الرشيق والعقل َّ
أعدا "للذة والمتعة" اآلنية المتناهية. وإذا ما َّ نعد تالميذنا ليكونوا مثل هؤالء؟ فهل ُّ
لنكن صادقين مع اهلل سبحانه. لنصدق أنفسنا ،وقبل ذلك ُ ُ
لماذا هذه الوقفة؟
ونعتبر أنفس���نا وكالء عليه ...والحق أن الرس���ول عليه الصالة ﴿و َما َأ ْن َت والسالم نفسهُ ،ن ِف َي عنه أن يكون وكي ً ال على أحدَ : يل﴾(يونس،)108: َع َل ْيهِ ْم ب َِو ِك ٍ ﴿و َم���ا َأ َنا َع َل ْي ُك ْم ب َِو ِك ٍ يل﴾(الزمرَ ،)41: يل﴾(األنعام.)66: ﴿ ُق ْل َل ْس ُت َع َل ْي ُك ْم ب َِو ِك ٍ أي إنس���ان عل���ى أن يتذلل حتى ولي���س إنس���انيا أن نجب���ر ّ ًّ
نقدنا للحضارة ،أو لما ُيعرف لكن َ وفي الغرب على الس���واءَّ ،
الذل ذاته حرام في عرف الشرع الحكيم. والمثوبة ،ألن ّ
فالحض���ارة ال يمك���ن رفضه���ا حت���ى ل���و رغبنا في ذل���ك .إنما
ُيصفح عنه ،باسم القانون ،أو المصلحة العامة ،أو حتى األجر ثم إنه من اإلنسانية أن يعا َقب إنسان بسبب أخطائه ،وليس
الغلو تعميم الحكم ،فنسبة ال شك أن هذا النقد ال ُيقصد منه ّ ُ ف���ي الم���ادة واالنفصال عن الروح ،تتفاوت من بلد لبلد ،ومن مدرس���ة لمدرسة ،بل من قسم لقس���م ،ومن مع ّلِم لمع ّلِم ،وال
تنكَ ���ر المب���ادرات الكثي���رة التي تبذل هنا وهنالك ،في الش���رق
بالتق���دم المادي كم���ا يقول بيجوفيتش" :لي���س دعو ًة لرفضها، ُّ نحطم األس���طورة الش���يء الوحيد الضروري والممكن هو أن ِّ ُّ
13
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
روحيا". ثقافيا أو لم يستنر ًّ ًّ
اجتماعي���ا" ،وفق قاموس أي أن���ه ُع ّل���م أن يك���ون "حيوا ًن���ا ًّ
ه���ذا الميراث يعتم���د على "الش���يء" و"الم���ادة" و"التقنية"
و"المعلوم���ة" ،أي ه���و حري���ص على "صناعة" اإلنس���ان الذي
متحضرا ،ال إنس���ا ًنا متط���و ًرا ق���ر ًدا ِّ ً "داروي���ن" ُع ّل���م أن يك���ون ْ
سينتج ويصنع ويقول "نعم" إذا اقتضى األمر؛ وهو يدير ظهره
يفرق بين "الحقيقة وفي هذا المعنى ُيبدع "المسيري" حين ِّ
ول���ذا ،فإن التعلي���م بهذا المدلول وبه���ذه الخلفية الكونية،
غالبا الغب���ي والعق���ل التوليدي الذكي" ،ذل���ك َّ أن التعليم ينحو ً
علي���ه ،أو أكث���ر حرية ،أو أكثر إنس���انية" ...إن هذا العلم يجعل
ال. مسؤو ً
ال "بين العقل الفوتوغرافي حدا فاص ً والحقائ���ق" ،وحين يضع ًّ إل���ى س���رد الحقائ���ق مش���تتة ،وع���رض الجزئي���ات ،وتحفي���ظ
ال الحقيقة والكليات واألسباب؛ أي إنه يتعامل التفاصيل ،مغف ً مع "آلة تصوير" ،و"مس���جلة" ،و"أم بيُ ...)MP3( "3ينتظر منها
عق���ل له القدرة عل���ى أن يبدع خ���زن فيه���ا ،ال مع ٍ أن تعي���د م���ا ِّ ويو ِّلد ويأتي بالجديد.
ويضيف فتح اهلل كولن" :في حقيقة األمر ،فش ُلك في النظر
حتما إلى إل���ى المس���ائل م���ن خالل نظرة كلية ،س���وف ي���ؤدي ً
اإلفراط أو التفريط."...
َّ أي تعليم نمارس؟
"هلل" و"لإلنسان" و"للكون" و"للقيم" و"للفن" و"لألخالق"...
ال يمكن���ه أن يرتق���ي بالن���اس ،وال أن يجعله���م أفضل مما هم نفعا للمجتمع ،ولقد برهن الناس أكثر قدرة ،أكثر كفاءة ،أكثر ً
التاريخ على أن الرجال المتعلمين والش���عوب المتعلمة يمكن
خداما للش���ر ،ربما أيضا التالع���ب بهم ،بل يمك���ن أن يكونوا ً ً أكثر كفاءة من الشعوب المتخلفة".
حكم على األصل ،فما هو الق���ول في الظل والفرع، ه���ذا ٌ
ال���ذي يعي���ق الكف���اءة باس���م العصر ،ثم يقتل اإلنس���ان باس���م
التط���ور؛ ف�ل�ا ه���و -مث���ل س���يده -يحقق الق���درة عل���ى اإلنتاج
ويعبِر والصناعة ،وال هو مثل أجداده يحقق الذات الحضارية ّ عن الحرية والوجود الواعي.
المنظوم���ة المادي���ة ذات نظ���ام مغلَق ال يمكنه���ا أن تنفتح على الإنساني! عوال���م النهائي���ة ،ألنه���ا باختص���ار ال تؤم���ن إال بالمحس���وس
م���ن مصطلح���ات العص���ر النمطي���ة ،التي تالك مث���ل العلك أو
جسما على شكل رأس كبير ،ال مكان للقلب س���مت لكانت ً ُر َ
إنس���انيا ،وم���ن ثم كانت "إنس���اني" ،فهذا إنس���اني ،وهذا ليس ًّ
والمحس���وب ،وبالمادي والمس���تدل عليه ،أي إنها منظومة لو فيه وال لألحاسيس وال للقيم.
حت���ى مث���ل مطاط ق���ذِ ر على األلس���ن غي���ر الذواق���ة ،مصطلح "إنس���انيا" تكبل الحرية ،وكان الفجور ًّ العفة "الإنس���انية" ألنها ِّ
الشرق المولوع بالتقليد، وظلُّ المنظومة الغربية ،مما يصل َ
يعب���ر عن الحري���ة ...والحق أن هذه المرجعية اإلنس���انية ألن���ه ِّ
شبيها بالعقل .وما من شك أن ظل الشيطان هو شيطان وشيئا ً ً
"الإنسانيا" كما هو الحال اليوم في مس���تبد متسلط وق ْتل ظالم ّ ًّ
الرأس، مش���وهة ألصل أعوج؛ فهنا نش���اهد ما يشبه هو صور ٌة َ َّ مشوه؛ فال هو إنسان مكتمل اإلنسانية ،وال هو شيطان مكتمل َّ
دائما هو أهون ال الش���يطانية، والمق���رر -عق ً وواقع���اَّ - ً أن الظل ً َّ وأس���وء م���ن أصله .يق���ول األدي���ب العالمي "فيكت���ور هيجو": أسدا آخر ،هو في حقيقة األمر قرد". "األسد الذي يق ِّلد ً ِ المس���تعمر، ومن ثم جاء التعليم؛ الذي ورثناه من منظومة
كم���ا ورثن���ا المل ّف���ات الكبي���رة الطويل���ة العريض���ة ،التي نكتب معي���ن ،ولغة ميتة معين، عليه���ا تقاري���ر الدرسٍّ ، ٍ وش���كل َّ بخط َّ اليوم يعلن احتضاره وإفالسه. معينة مسب ًقا ...رغم أن األصل َ َّ ِ ولقد ش���اهدنا م���ا حدث في أمريكا منذ أي���ام ،من مقتل ثمانية ش���خصا ،منه���م تالميذ ،على يد ش���اب قت���ل والديه وعش���رين ً
ال ،ثم قضى على الباقين. أو ً
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
12
"إنسانيا"، يجب أن ُتضبط بمعيار ،وإال اعتبر إبادة شعب كامل ًّ
"قاموس اإلعالم الببغائي".
وم���ن الص���واب القول" :إن تدريب البش���ر على أن يكونوا
مج���رد منتجين ،وتنظيمهم في صف���وف المواطنين الصالحين َّ ِ أيضا الإنساني" .ومن التحقيق اعتبار التعليم ف (المص هو قين)، ّ ً
"الإنسانيا": ًّ
قائما على تلقين تعاليم حزبية. • إذا كان ً يفكر بطريقة مستقلة. • إذا لم يكن يع ِّلم الفرد كيف ِّ
يق���دم إجاب���ات جاه���زة ،ويقت���ل روح الس���ؤال • إذا كان ِّ
والشك وحيرة الذات. ���د الن���اس فق���ط للوظائ���ف المختلفة بدال من • إذا كان ِيع ُّ
توسيع أفقهم.
جن���ب مع الش���كل والمبنى ،ف�ل�ا يضيع ه���دف وال رس���الة وال م���ن بي���ن أيدين���ا ٌ
غاي���ة حت���ى وإن لقين���ا حتفن���ا ،وتجرعنا
األمري���ن ،وذقن���ا المحنتي���ن" ...فذلك���م َّ الرباط ،فذلكم الرب���اط ،فذلكم الرباط"
(رواه مسلم).
ف���ي ه���ذا الش���أن ،وله���ذا الغ���رض،
أطللت اليوم مرة أخرى وبهذا الن َف���س، ُ على ملف التعليم ،وعلى التربة الخصبة راجي���ا م���ن الق���ارئ لبن���اء الحض���ارة، ً الص���دوق وم���ن العام���ل المش���وق ،أن ويجبن ،أو يتفاعل ويفع���ل ال أن ينفعل ُ
الب��د �أن تك��ون مدار�س��نا ذات ن َف���س �إمي��اين رب��اين ،وذات بُعد �إن�ساين كوين� ،أل ُّد �أعدائها الكره و�ض��يق الأف��ق والت�ص��نيفات ال�ض��يقة ..الب��د �أن تك��ون مدار�سنا مدار�س �إ�سالمية ،مبعنى �أن "الإ�س�لام يعني �أن نفهم و�أن نع�ترف باالزدواجي��ة املبدئي��ة للعامل (الروح واملادة) ،ثم نتغلب على هذه االزدواجية".
ِ خر ًيتا ،وهو وأبدأ مقالتي بهذه المالحظة، ً مستصحبا مع ّل ًما ِّ
حس���اب المعاني الكب���رى والكليات...
إلخ.
أن ذل���ك لي���س س���مة م���ع مالحظ���ة َّ
"للعصر" باعتباره "ه���ذا العصر" ،ولكنه
مكتس���ب ونتيج���ة وصناع���ة لظ���روف، َ الواقع الترب���وي ،واإلعالم على رأس���ها ُ الجماهي���ري ،واهت���زاز منظوم���ة الثقافة، وضع���ف التدي���ن وس���وء فهم���ه وتمثله؛ نعبِر عن���ه بمصطلح وه���و م���ا يمك���ن أن ّ
"األف���كار المطبوع���ة" ،باعتم���اد قاموس ابن خلدون ومالك بن نبي.
واآلن ،إذا ل���م تس���هم المدرس���ة
يبرر .فأنا أُحس���ن الظن فيه، ُي ِ ع���رض ثم ِّ
وأثق في جنابه ،وأرجو النجاة من بابه.
المفرط بالجزئيات على القرار ،االعتناء ِ
بصفة مباش���رة ومعلنة في "ترش���يد" هذا
"المهدد بالتش���تت والتش���رذم "المتصابي" ،وفي "إنضاج" هذا َّ
وتشربت من معينهم سالفة ال، أحد الذين جلس���ت إليهم طوي ً ُ ُ
أساسا؟ ما الجواني" ،فما دورها إذن؟ ولماذا أنشئت واالنهيار ً َّ تباعا؟ الفائدة المرجوة من الدروس والمحفوظات التي تل ِّقنها ً
الء إلى جوار :مالك الواس���عة -فهو من مصادر المنظومة األد َّ
ماذا نفعل ،هذا هو البرنامج ،نحن مطالبون بإتمامه ،وهذا هو
واعتقدت إمامتهم مع َمن سواهم بحق وبصدق .وأعني الحق، ُ المة "علي عزت بيجوفيتش" -رحمه اهلل تعالى برحمته ب���ه الع َّ
من ضغط البرنامج إلى ضغط الروح
الوهاب المس���يري ...وغيرهم بن نبي ،وفتح اهلل كولن ،وعبد َّ
المنتظر منا؟
الصبيانية وروح العصر
ي���ورد "بيجوفيت���ش" مالحظة ينس���بها إل���ى "يوه���ان هويزنجا"
منها القلوب ،وتب َّلدت على إثرها األحاسيس ،وتغابت جراءها َّ العق���ول واألفئ���دة؛ وهي لطالما ُش���هرت مثل "س���يف خش���بي كأن متآكل" أم���ام كل محاولة لإلصالح ،وكل مبادرة للتغييرَّ ،
للكلم���ة -أي بطريق���ة تتف���ق مع المس���توى العقل���ي للمراهقة:
يعبد". الناهي ،وتحولت إلى بعبع مخيف أو حتى إلى إله َ
من األئمة الهداة المهديين.
ِ وصدئت مجتها اآلذان، هذه عبارة ،أو مكُّ وك من العبارات َّ
"أن ( )Juhan Huizingaيس���ميها بـ"الصبياني���ة" ( ،)Puerilityوه���ي َّ اإلنس���ان المعاصر يتصرف بطريقة طفولية -بالمعنى الس���لبي
والمادة ...ومرادفاتها صارت هي اآلمر "الضغ���ط ،والبرنامج، َّ
غي���اب روح الفكاهة األصيل���ة ،الحاج ُة إلى تس���ليات مبتذَ لة، ٌ ُ
سجل األستاذ "علي عزت" هذه المالحظة الجديرة ولذاَّ ،
الميل إل���ى الش���عارات الر َّنانة أح���داث مثيرة ومش���اعر قوي���ة، ُ التعبي���ر عن الح���ب والكراهية واالس���تعراضات الجماهيري���ة، ُ اللوم والمدح المبالغ فيه ،وغير ذلك من بأس���لوب مبالَغ فيه، ُ
العواطف الجماهيرية القاسية".
وقال:
ش���ابا قد مر نتخيل "ف���ي هذه األي���ام ،من الممكن ًّ ًّ جدا أن َّ َّ بجمي���ع مراح���ل التعليم ،من المدرس���ة االبتدائية حتى الكلية،
خي ًرا دون أن يك���ون ق���د ُذك���ر ل���ه بالض���رورة أن يكون إنس���ا ًنا ّ
وبإمكانن���ا أن نضيف إل���ى هذه المظاه���ر قائمة أخرى من
ال أن يكتب ويحسب ،ثم يدرس الطبيعة وأمينا .فهو يتع َّلم أو ً ً
والتقل���ب بين المواضيع بأس���لوب "تقليب القن���وات"" ،ذهنية
ال وعلم االجتماع... عددا هائ ً وعلوما أخرى كثيرة .إنه يجمع ً ً يفكر ،ولكنه من الحقائق ،وعلى أحسن الفروض يتع َّلم كيف ِّ
العجز عن التركيز المتواصل ،تش���تت الذهن الس���لبيات منها: ُ
الفايس���بوك" بتعبير أح���د باحثينا ،التردد المبال���غ فيه في اتخاذ
والكيمياء ،وعلم األعراق ،والجغرافيا ،والنظريات السياس���ية،
11
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
قضايا فكرية
د .محمد باباعمي*
الطبائع البرشية تتهذب يف مدرسة "الدين" وترتوض وتعلو وتسمو ،ويتعرف املنتمون إليها عىل حقيقتهم اإلنسانية وجوهرهم اإللهي .وهي مدرسة يصطف فيها الكبار والصغار والشباب والشيوخ والرجال والنساء ...فيها يتعلمون طأمنينة النفس ،ويفعمون باألمن وأنفسهم ض ّيعوا. والسالم .أما الذين فاتهم االنتساب إىل هذه املدرسة ،ففي الخرسان وقعوا َ *** (املوازين)
أحيا ًن���ا يعوزن���ا التعري���ض فنل���وذ بالتوضي���ح،
وأحيا ًن���ا ال ُيج���دي التلمي���ح فنضط���ر إل���ى التصريح ،وفي جمي���ع األحوال ،المقصد هو
أن نلتق���ي في نقط���ة المعنى ونرتقي إلى عل���و الفهم واإلدراك
ث���م الوع���ي ...وبخاصة ل���و تأملن���ا بجدية حالن���ا ووضعنا وما نح���ن في���ه وم���ا نحن صائ���رون إلي���ه ،ال بعين الناق���م وال بعين ���رض العمل البلي���د ،ب���ل بنظر المس���ؤول الحديد ،وبمنطق َ "ع ْ
على التفتي���ش" .والمفتش األول خبير بصير ،عليم حكيم ،ثم يليه مفتش حليم حكيم هو صاحب الفضل علينا عليه الصالة السنة الثامنة -العدد (2013 )36
10
والس�ل�ام ،ثم ُيعرض عملُن���ا على كل قلب وعقل يغرس فتيله في محبرة اإليمان ويستنير من نور اليقين.
هلل ﴿و ُق ِل ْاع َم ُلوا َف َس َ���ي َرى ا ُ ألي���س هو القائل جل من قائلَ : ون﴾(التوبة.)105: َع َم َل ُك ْم َو َر ُسو ُل ُه َوا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ م���ن المه���م واألكي���د أن نجتهد ف���ي فتح الم���دارس ،ومن
االجتهاد والصبر أن نداوم على سيرها وتحسينها ،ومن الجهاد
رويدا والهجرة أن نسمو بها رويدا نحو ذروة الكمال البشري، ً ً ولذا كان المع ِّلم والمدرس هما رمز البطولة وعنوان األمل.
جنبا إلى لك���ن األهم من ذلك أن نديم المقص���د والمعنى ً
الحرص على ذكر اسم اهلل في كل شيء.
أيضا مطل���وب لتحضير المحيط صياغ���ة ه���ذا النموذج ،ذل���ك ً
صو ٌر من قيام األمور باسم غير اهلل وذلك وفي زماننا ً أيضا َ
قد َر الطاقة ،أس���اس االنطالق؛ الع���ام .فالد ْفع في هذا االتجاه ْ
التبرؤ من ميزان اهلل ،ألن "باس���م اهلل" تعني االس���تئذان ،وتعني ّ
���ل كلُّ واحد منكم نفس���ه جع ْ حاج���ات األم���ة إل���ى العل���م .ف ْل َي َ مدرس��� ًة ،ليجعل من نفس���ه مدرسة لنفس���ه ولغيره؛ إن المسلم
مفس���د للعبادة ،إذ ال عبادة إال إذا كانت بـ"اس���م اهلل" ،أي على
وقبل ���ول َّ َ الح ْ والط ْول ،وتعني أن "ال ح���ول وال قوة إال باهلل"ْ ، ِ ِ ه، فعلت الذي الفعل ذل���ك في هلل ن ذ مس���تأ أنت ذل���ك وحس���ب ٌ َ َ الفع���ل تكون قيم ُة "باس���م اهلل" .ومن هنا ص���ار الذبح الذي لم ال َت ْأ ُك ُلوا ِمما َلم ُي ْذ َك ِر اس���م ا ِ ذكر عليه اس���م اهلل هلل ﴿و َ ُي َ حراماَ : ً ْ ُ َّ ْ ���ق﴾(األنعام .)121القراءة بـ"اس���م اهلل" هي المنطلق َع َل ْي ِه َو ِإ َّن ُه َل ِف ْس ٌ ف���ي صياغ���ة النم���وذج المطل���وب الذي ب���ه تتم الش���هادة على الناس ،ومنه تتكون األمة الش���اهدة عل���ى الناس بعدما أصابها
م���ا أصابها .هذا هو المنطلق في إعادة إنتاج مثل هذا النموذج
أيضا ف���ي إنتاج بيئ���ة عامة كذلك، م���ن جدي���د ،وه���و المنطلق ً موجه داخل دائرتها يعيش ويتنفس هذا النموذج ،إذن هو أمر َّ
إلى األمة جملة.
المؤسسات التعليمية والقراءة باسم اهلل
ويمك���ن تحقيق ه���ذا األمل :أمل صياغة النم���وذج المطلوب، بالدف���ع في اتجاه تعليم العلم الش���رعي بكل الوس���ائل الفردية
والجماعي���ة ف���ي جمي���ع األمكن���ة ،بجمي���ع الطاق���ات ،بجميع
وأس���اس كبير ف���ي اتجاه تلبية االنط�ل�اق الف���ردي والجماعي، ٌ
بح ْك���م إس�ل�امه ،في موقع اإلرس���ال ال في موقع االس���تقبال، ُ ولكنه لن يس���تطيع اإلرس���ال إال إذا امتأل وفاض ،إال إذا امتأل
علما ثم صار كالنبع الفياض يخرج منه العلم واإليمان ...فهذا ً ما أقصده بأن يجعل من نفس���ه مدرس���ة لنفسه ولغيره ،ليجعل
من بيته مدرس���ة ،ليجعل ممن معه مدرسة لإلقراء "باسم اهلل"، ليجع���ل من موقعه في التعليم العام والخاص مدرس���ة لإلقراء
"باسم اهلل".
لس���د دفع لألمة ّ الدف���ع به���ذا االتج���اه بأقص���ى جهد ،ه���و ٌ حاج���ات أساس���ية كحاجة الماء والهواء ،وحي���ن نقول :حاج ُة
هذه األمة ،فهي حاج ُة الدعوة اإلسالمية.
بعد ذلك تحتاج األمة اإلسالمية إلى مستوى آخر ،به تفعل
الفعل التاريخي المطلوب ،وطريق تلبية هذه الحاجة هو الدفع
جدا بالنس���بة ألهل العلم في األمة: ف���ي اتجاه���ات ثالثة كبيرة ًّ الدف���ع في اتجاه التجديد في العلوم الش���رعية ،والدفع في ُ
اتج���اه اآلدمية في العلوم اإلنس���انية ،والدفع ف���ي اتجاه النفعية
الوس���ائل للدفع في هذا االتجاه :اتجاه إقراء األمة "باسم اهلل"،
في اتجاه العلوم المادية ،وذلك يكون بتصنيف القارئين باسم اهلل الذين َف ِقهوا هذا الدين ،و َف ِقهوا تخصصاتهم الستيعاب ما
االتج���اه في غاي���ة األهمية لالنطالق الصحي���ح ،وتهيئة المناخ
المرش���ح بحكم مستواه ألن يقتبس منه الغير ،والمرشح فاع ُله
أجل إعادة األمة الشاهدة إلى األرض ،ونقلها من واقعها اآلن
علميا حتى علميا ،وال يك���ون ه���ذا الفع���ل البد أن يك���ون ًّ ًّ
إق���راء األم���ة أو بقاي���ا األم���ة ،إقرائه���ا "باس���م اهلل"؛ أي تعليمها
اإليمان والفهم لقراءة كل ش���يء باس���م اهلل .هذا الدفع في هذا
ه���و كائن لدى األمة ولدى غي���ر األمة ،ألنه بالفعل الحضاري
الطبيع���ي ال���ذي يتنفس في���ه النموذج الذي يج���ب صياغته من ُ
لإلمامة على الناس يقع التغيير الحضاري الراشد.
إل���ى موقعه���ا الرفيع الممتاز ،ه���ذا اإلقراء ينبغ���ي أن ُيد َفع فيه
ال س���واء في ُيس���توعب الموجود ال وتعلي ً ال تحلي ً اس���تيعابا كام ً ً
العامة ،والمؤسسات التعليمية خاصة.
هذا توجه إس���تراتيجي في الس���ير البعيد المدى وليس من
بناء وفق توجيه الدين، تقويمها ،ثم أخيرا أسلمتها ،أي بناؤها ً ً موج ًها له���ا .وبذلك وذل���ك بجع���ل علم الدي���ن ً مهيمن���ا عليها ِّ
صغيرة ،بل هو تأس���يس للميدان كل���ه وتحضير لألرض كلها،
بعيد ،ولك���ن ينبغي الس���ير فيه م���ن اآلن ،ألن العلم ه���ذا ٌ أف���ق ٌ
عن طريق الجهود الجماعية ،والجهود الفردية ،والمؤسس���ات
العل���وم الش���رعية ،أو العلوم اإلنس���انية ،أو العل���وم المادية ،ثم
فع���ل فينقطع أثره في زمن قصي���ر ،أو يتجه إلى دائرة ن���وع ما ُي َ
الفعل الحضاري تس���تحق األم ُة اإلمام َة والشهادة على الناس.
جتهد فيه ،س���واء وي َ ه���ذا ض���روري ويجب أن ُيف َقه هذا األمرُ ،
باالتجاه والهدف في غاية األهمية للدفع في ذلك االتجاه.
عد نفس���ه ف���ي الصورة العصامية حين يتجه المرء إلى نفس���ه ُلي َّ البر والتقوى في -واهلل يعين���ه -أو حي���ن يتعاون مع غي���ره على ّ
(*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) /المغرب.
9
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
يدعى إليه قبل الدعوة إليه ،وإال دعوت
يمك���ن تصنيف���ه صنفي���ن كبيرين؛ صنف
ه���و جزئي���ات الدي���ن وكليات���ه أحيا ًن���ا،
وصنف هو الدي���ن كله ،والعالقة بينهما كالعالق���ة بي���ن الدع���وة بمعن���ى الن���داء، والدع���وة بمعن���ى التنزي���ل ف���ي الواق���ع.
نفس تل���ك العالقة تقريبا ،توجد كذلك ً فيم���ا يدع���ى إليه؛ فهناك م���ن يدعى إلى
جزئي���ة م���ن الدين :يدعى إل���ى الصالة، إل���ى ال���زكاة ،إل���ى الصي���ام ،إل���ى األم���ر
بالمع���روف والنه���ي عن المنك���ر ،حتى إلى ابتس���امتك في وج���ه أخيك ،يدعى
إلى أي ش���عبة من شعب اإليمان ...كل
جع��لْ كلُّ م�س��لم نف�س��ه فلْيَ َ مدر�س�� ًة ،ليجع��ل م��ن نف�س��ه مدر�س��ة لنف�س��ه ولغ�يره؛ �إن بح ْكم �إ�سالمه ،يف موقع امل�سلم ُ الإر�سال ال يف موقع اال�ستقبال، ولكنه لن ي�ستطيع الإر�سال �إال �إذا امت�ل�أ وفا���ض� ،إال �إذا امتلأ علما ثم �ص��ار كالنب��ع الفيا�ض ً يخ��رج من��ه العل��م والإمي��ان.
"من دعا ذل���ك مطل���وب كما يق���ول َ :
هدى ،كان له من األجر مثل أجور إل���ى ً
أي شيئا" (رواه مسلم) ،معناه ُّ من تبعه ال َينقص ذلك من أجورهم ً محد ًدا في ش���يء واحد أي درجة كان هذا الهدى َّ ه���دى على ّ ً كبي���را أو غلي���ظ أو رقي���ق ،أو كان صغي���را في أش���ياء متعددة. ً ً
هذه دعوة لجزئيات الدين ،ولكن هناك دعوة أش���مل من هذا
إلى شيء غامض غير معلوم أو مجهول
ال يتصور .وفي هذه الحالة لن يستجيب
ل���ك أح���د ألن���ك تدع���وه إل���ى ض�ل�ال. والدع���وة ،المطلوب فيها أن تكون على
بصي���رة وعلى نور وعلى وضوح ،كأنك تبص���ر األمر بعينيك .فمن هاهنا ليس���ت
الدع���وة مطلق���ة ولكنه���ا مقي���دة بالعل���م
ألنه���ا على بصي���رة ،أي مقيدة بالبصيرة: ���ل َه ِ ���ذ ِه س���بِي ِلي َأ ْد ُع���و ِإ َل���ى ا ِ هلل َع َلى ﴿ ُق ْ َ َب ِص َير ٍة﴾(يوسف.)108:
أس � � ��س تحصيل العلم الشرعي والفقه الدعوي
إن الدع���وة ف���ي حاجة كبيرة إلى العلم بالش���رع ،والفقه بكيفية تنزيل���ه ف���ي واقع معل���وم ،إال أن هذا العلم يحتاج إلى أس���س
يقوم عليها ،وهذه األسس هي:
ص﴾(الزمر،)3: -1إخالص الدين هلل َ ﴿ :أ َ ال لهلِ ِ ِّ الد ُ ين ا ْل َخا ِل ُ الدين﴾(البينة ،)5:وفي ﴿و َم���ا ُأ ِم ُروا ِإ َّ ���دوا ا َ ين َل ُه ِّ ال ِل َي ْع ُب ُ هلل ُم ْخ ِل ِص َ َ القليل" (وراه العمل دين���ك َي ْك ِفك ُ ُ ص َ الحديث الش���ريف" :أخ ِل ْ الحاكم) ،وأخلص دينك معناه :خ ِّل ْصه من الش���وائب التي تمنع
تنس���جم م���ع الدعوة بالمفه���وم الثاني ،هو الذي أش���ار إليه اهلل وحا الد ِ ف���ي قوله تعالىَ : ���ر َع َل ُك ْم ِم َن ِّ ي���ن َما َو َّصى ِب ِه ُن ً ﴿ش َ ِ ِ ِ ِ َ يسى َأ ْن يم َو ُم َ َوا َّلذي أ ْو َح ْي َنا ِإ َل ْي َك َو َما َو َّص ْي َنا ِبه ِإ ْب َراه َ وسى َوع َ ِ ِ ين﴾؛ هاهنا ال يوجد يموا ِّ يموا ِّ الد َ الد َ ين﴾(الشورى﴿ ،)13:أ َْن َأق ُ َأق ُ أمر بجزئي من جزئيات هذا الدين ،بل هناك أمر بإقامة الدين ٍّ ال في الواقع على أحس���ن ص���ورة تتصور. كل���ه جمل���ة وتفصي ً ِ ين﴾ ِق ْس���ها عل���ى إقامة جزء من يموا ِّ الد َ فإقام���ة الدي���ن ﴿أ َْن َأق ُ الدين كإقامة الصالة ،فكما تقيم الصالة على أحس���ن صورة،
ومقتضى "محمد رس���ول اهلل"؛ َت َح ّري السنة .والسنة في زمانه
تقتض���ي العل���م به وفهم���ه في ح���دوده الدنيا والعلي���ا ،والدين
جتهد فيه إلصابة الس���نة باالجتهاد الشرعي انطال ًقا من كتاب ُي َ
فعليك أن تقيم الدين على أحس���ن صورة .إال أن إقامة الدين محدد الداللة في نصوص كثيرة ،ومن أجمعها حديث جبريل
،فاإلسالم من الدين ،واإليمان من الدين ،واإلحسان من الدي���ن ،ولذل���ك قال " :فإن���ه دينكم" ُ جبريل أتاك���م يع ّل ُمكم َ
جزءا من (رواه مس���لم) .ف���إن الدين ال���ذي يدعى إليه إما أن يكون ً ه���ذا الدين ،وإما أن يكون من الدين كله ،وال يدعى إلى جزء من الدين ،أو إلى الدين كله دون علم بهذا الشيء ،هل يتصور
ال؟ وهل يتصور هذا واقعا؟ البد من أصول العلم بما ه���ذا عق ً السنة الثامنة -العدد (2013 )36
8
يكن قبوله ،إذ كل عمل تسر ْ قب ْل ،ولم ْ بت إليه شائبة شرك لم ُي َ َّ الشركاء عن الشرك. عباد ًة هلل ،ألن اهلل َ أ ْغنى ُّ
-2االجته � � ��اد في تحري اإلصابة للح � � ��ق والصواب باتباع إخ�ل�اص الدين هلل، أي أن مقتض���ى "ال إل���ه إال اهلل"؛ الس � � ��نةْ : ُ
ج���د ِ ويج ُّد بعد زمن���ه ،فهو ما ه���ي م���ا نق���ل إليناّ ،أما ما َّ اهلل وانطال ًقا من سنة رسول اهلل ،وعلى هذين األساسين يقوم العمل ،أي العمل الذي فيه سد الحاجة.
-3ق� � � �راءة الكون قراءة ربانية :وهذه الق���راءة مأخوذة من ���م َر ِّب َك ا َّل ِذي َخ َل َق﴾(العلق ،)1:فإن األمر ِاس ِ قوله تعالى﴿ :ا ْق َر ْأ ب ْ ���ك﴾ ،وهاته اللفظة لفظة ���م َر ِّب َ ِاس ِ القيد﴿ :ب ْ بالقراءة مقيد بهذا ْ ���م ا ِ منع اس���تقبال ما ِاس ِ هلل" ه���ي منه���اج كامل يضع جمارك َت َ "ب ْ وأيض���ا تمنع إرس���ال ما ال ينبغي .وهذا من أس���رار ال ينبغ���ي، ً
ضرورة بمقتضي نصوص كثيرة في معنى شهادة هذه األمة على الناسِ ﴿ :ليكون يدا َع َل ْي ُك ْم َو َت ُكو ُنوا ُش َه َد َاء الر ُس ُ ���ول َش���هِ ً َ ُ َ َّ اس﴾(الح���ج ،)78:إذ ال نب���ي بع���د محم���د ،ولذل���ك الن ِ َع َل���ى َّ الجميع مأمور بالدعوة وال يستثنى أحد منها.
الدعوة وإحالل الشرع في الواقع
وهن���اك الدع���وة -إل���ى جانب هذه الص���ورة العادية البس���يطة-
المطلوبة من الجميع (الدعوة النداء) ،هناك الدعوة التي يمكن مفهوما تسميتها بـ"تنزيل الدين في الوا ِقع" .هذه صورة تتضمن ً
أضخم من المفهوم األول للدعوة اإلس�ل�امية .فالدعوة النداء أي دع���وة الن���اس لالئتمار بأمر اهلل أو االنتهاء عما نهى عنه-م���ا ه���ي من جملة هات���ه الدع���وة بالمعنى العام ،الت���ي يراد بها
إحالل الش���رع في الواقع ،وجعل الواقع س���ائرا وفق الش���رع، ً
ففع ُل الناس في الزمان وفي المكان ،وفي ً ومحكوما بالش���رعْ ، ِ عش���وائيا ،ولي���س ببع���ض ليس عالق���ة اإلنس���ان بعضه جزافيا ٍ ًّ ًّ اعتباطيا وليس وليس خاضعا للهوى ،بل هو محكوم بالش���رع ً ًّ هلل من الناس اس ليك���ون عبادة كما طل���ب ا ُ ﴿يا َأ ُّي َها َّ جميعاَ : ً الن ُ ْاع ُب ُدوا َر َّب ُك ُم﴾(البقرة)21:؛ الناس كلُّ الناس مطلوب منهم عبادة ُ فع ُل البش���ر عن مس���توى النية ،وعن مستوى ربهم ،فال َيخرج ْ
بعينه ،لدى ناس معينين ...إذ لو كان األمر أمر توقيف في أمر
الدع���وة -بمعنى تنزيل الش���رع في الواق���ع -لتكفل اهلل ،بل
تاما في أعلى درجات ألمر اهلل بحفظ نصوص السيرة ً حفظا ًّ الوث���وق -كأن���ه في درج���ات الق���رآن -لتهتدي ب���ه األمة ،ألنه
ملز ًما لها ،ولكان ترتيب القرآن الكريم على حس���ب س���يصير ِ أيضا على حس���ب النزول ،وللزم نزول���ه ً أيض���ا ،بل ولتعبدنا به ً
ال يحيد الن���اس عن ذلك بق���اؤه عل���ى الكيفي���ة التي نزل به���ا لئ ّ ثابتا هو الش���رع المنه���اج قيد أنملة ...لكن اهلل جعل ً ش���يئا ً
ف���ي نصوص���ه؛ في نص���ه المعجز ،وف���ي نصه البي���ان ،إذ البيان
ه���و كذلك وحي من اهلل تعال���ى" :أال إني أوتيت القرآن ومثله
معه" (رواه أبو داود) كما قال لجعل الش���رع في هذا المستوى.
إذن فهناك شيء ثابت هو الشرع في نصوصه الثابتة ،وهناك
ش���يء متغير هو الواقع إذ يتبدل باس���تمرار ،يتبدل ويتغير ،يؤثر
في���ه الزم���ان ،ويؤث���ر فيه الم���كان ،ويؤثر فيه اإلنس���ان ...فلكل مقام مقال ،ولكل حال رجال ،ولكل ظرف اجتهاد يناس���به... واألص���ول الكبرى تس���تفاد من التج���ارب الكبرى من قصص األنبياء عليهم الصالة والسالم ،ومن قصة رسول اهلل ،ومن
التجارب الالحقة الراشدة.
التعبي���ر ،وع���ن مس���توى التفكي���ر ،وع���ن مس���توى التدبير -في كيفية التنزيل للشرع ،مطلوبة من الخاصة فعل بش���ري عن دائرة العبادة أي ٍ الفعل والتصرف -ال َيخرج ُّ
أساسا من الخاصة أكثر إذن هذه الدعوة بهذا المعنى ،مطلوبة ً
وفق شرع اهلل النصي أو المستنبط من النصوص الشرعية ،وإما َ
ولي���س في مق���دور الجميع ،أما األول���ى ،أي الدعوة بالمفهوم
فعل وي َ هلل أو لغي���ر اهلل .فه���ذا الفع���ل إما أن يراد ب���ه اهلل ُ ، فعل وفق الهوى ويراد به غير اهلل . أن ُي َ
مم���ا هي مطلوبة من العامة ،ألنها تقوم أساس���ا على االجتهاد ً األول ،فمطلوبة من الجميع ،ومقدور عليها من الجميع .هذه
فالدعوة اإلس�ل�امية إذن بهذا المفهوم ،أوس���ع وأشمل من
الدع���وة بمعنييها ،الحاجة فيها إلى العلم كحاجة الكائن الحي
الواق���ع ،غاية وهد ًفا ،وبمعنى طلب االئتمار بأمر اهلل واالنتهاء
الكائنات الحية إلى الهواء والماء الذي جعل اهلل منه كل شيء ﴿و َج َع ْل َنا ِم َن ا ْل َما ِء ُك َّل َش���ي ٍء َح ٍي﴾(األنبياء .)30:معنى هذا حياَ : ًّ ّ ْ الكالم أنه ال حياة للدعوة وال وجود لها وال نمو لها وال كمال
الدائرة األخرى ،حيث تصبح الدعوة بمعنى تنزيل الش���رع في عما نهى عنه ،وس���يلة ،ولتحقيق ذلك توجد عدة أمور تستلزم
ضروب���ا م���ن العل���م ليح���دث هذا األم���ر أمر تنزيل الش���رع في ً الواقع .وجميع قصص األنبياء موضحة لهذا األمر -وهي في
صمي���م الدع���وة بهذا المعن���ى -وقصة رس���ول اهلل التي هي
الس���يرة النبوية، هي-أساس���ا قصة مرحلية لهذا األمر ،وجميع ً
تج���ارب المصلحين المخلصين العلم���اء هي تجارب للدعوة اإلس�ل�امية به���ذا المعنى ،هي مح���اوالت واجته���ادات لتنزيل
الشرع على الواقع في زمان بعينه ،في مكان بعينه ،لدى إنسان
إلى الهواء والماء ،فحاجة الدعوة اإلسالمية إلى العلم كحاجة
له���ا إال بالعل���م ،وال يمك���ن أن توج���د أساس���ا إال بالعلم ،وال ً
���دها وتنتهي يمك���ن أن تنم���و إال بالعلم ،وال يمكن أن تبلغ ُ أش َّ أيضاِ ...ل َم ذل���ك؟ ألن الدعوة تقتضي إل���ى غاياته���ا إال بالعلم ً مدعوا إليه وهو الش���رع ،وهذا المدعو إليه محدد في النصين: ًّ كتاب اهلل وس���نة رس���ول اهلل ،وهذا المدعو له البد من
العل���م ب���ه أوال وقبل كل ش���يء .ولتوضيح ذل���ك :المدعو إليه
7
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
آد َم ا َ ���م َاء ُك َّل َها﴾(البقرة.)31-30: َو َع َّل َم َ أل ْس َ
به���ذا العل���م اس���تخلف آدم ،وبهذا اس���ت ْخ ِلف أبناؤه من بعده ...بهذا العلم ُ ���ح لإلمامة في ذرية ���ح َم ْن ُر ِّش َ العلم ُر ِّش َ الذ ّرية، آدم ،وبه���ذا العلم َّأم َم ْن َأ َّم هذه ّ بدءا من الرس���ل عليهم الصالة والسالم ً
داهم ...وحين نقص إل���ى َم ْن اهتدى ُبه ُ
العل���م ن َقص���ت األم���ة وتنقص���ت م���ن ُ أطرافه���ا ،ول���ن يمكن ت���دارك األمر وال اس���تدراكه إال َبع���ودة العلم إل���ى موقعه وع���ودة األم���ة إل���ى موضعها الطبيع���يَ ،
الطبيعي في هذا العلم.
حاج��ة الدع��وة الإ�س�لامية �إىل العل��م ،كحاج��ة الكائنات احلية �إىل اله��واء وامل��اء ال��ذي جع��ل اهلل منه كل �ش��يء حيًّ��ا؛ ال حياة للدع��وة وال وجود له��ا وال منو لها وال كمال لها �إال بالعلم ،وال أ�سا�سا �إال بالعلم، ميكن �أن توجد � ً وال ميكن �أن تنمو �إال بالعلم ،وال ميكن �أن تبلغ � ُأ�ش�� َّدها وتنتهي �إىل غاياتها �إال بالعلم.
العلم رأس القوة وأساس الفالح
إعداد ما ُيس���تطاع من قوة... طلب َ العلم رأس القوة ،واهلل َ
���ل ا ْل ِح َمارِ ﴿ك َم َث ِ لم يعمل���وا بمقتضاهاَ ، ارا﴾(الجمعة.)5: َي ْح ِم ُل أ َْس َف ً
الق���رآن حج ٌة ل���ك حي���ن العمل به،
وحج��� ٌة علي���ك حي���ن ع���دم العم���ل به.
فالنقصان الحاصل في العمل اآلن على مس���توى األم���ة جمعاء أو على مس���توى
الخاليا الحية في األمة ،إنما هو نقصان
القص���د إذن أساس���ا ف���ي العل���م .فم���ا ُ ً بـ"حاجة الدعوة اإلسالمية إلى العلم"؟
الدعوة مهمة شاملة
الدع���وة اإلس�ل�امية -بمعن���ى الن���داء، م���ن دعاه يدع���وه إذا ناداه لفع���ل أمر أو
ترك���ه -لها ص���ورة بس���يطة عادية ،تكون
فيه���ا الدعوة مم َّثلة في تبليغ األوام���ر لالئتمار وتبليغ النواهي
���ب العلم ،هو وأول م���ا أم���ر اهلل ب���ه في بناء ه���ذه األمة هو ط َل ُ ّ ْ نداء إلى رسول اهلل ، ك﴾(العلق)1: ب ر ���م ِاس ب أ ر ق ﴿ا الخالد: النداء ِ َْ ْ ِ َّ َ ٌ داء إل���ى إخوانه الذين ،ون���داء إل���ى أصحابه ِمن حول���ه ،و ِن ٌ نداء إل���ى الجميع إيذا ًنا ج���اءوا بعده���م ،والذين لم يأتوا ُ بعدٌ ، وإعال ًن���ا ب���أن مرحل ًة في اإلنس���انية يجب أن تب���دأ ،هي مرحل ُة والتأسس على ِ العلم ،والع ْلم فقط. القيام ِ
ش���يء س���واها .والجهاد -بالمنزلة التي تعلمون -هو جزء من
صحيح���ا ،ليس���تطيعوا القي���ام بالخالفة في ه���ذه األرض وفق ً
منها الجهاد في س���بيل اهلل في ظرف من الظروف وفي صورة
علمي���ا تأهي�ل�ا مؤهلي���ن ً آلدم َّ يج���ب تخري���ج أبن���اء َ ًّ
العه���د ال���ذي عه���د اهلل ب���ه آلدم ولذريت���ه م���ن بع���ده: ال َي ْش َقى ال َي ِضلُّ َو َ اي َف َ ﴿ َفإ َِّما َي ْأ ِت َي َّن ُك ْم ِم ِّني ُه ًدى َف َم ِن َّات َب َع ُه َد َ ���ر ُه َي ْو َم ض َع ْن ِذ ْك ِري َفإ َِّن َل ُه َم ِع َ َ و َم ْن َأ ْع َر َ يش��� ًة َض ْن ًكا َو َن ْح ُش ُ ا ْل ِق َي َام ِة َأ ْع َمى﴾(طه.)124-123: ِ نقص���ان القلب إن م���ا ُي���رى من نقص���ان هذه األم���ة ،ومن أساس���ا إلى مرده الح���ي فيه���ا وه���و الدعوة إل���ى اهلل ،إنم���ا ُّ ً النقص���ان في ِ العلم ،ألن العلم ال يمك���ن في هذا الدين فص ُله
ع���ن العمل ،فإذا قي���ل بنقصان العلم فقد قي���ل بنقصان العمل أيض���ا ،ألن م���ن ل���وازم ِ تص���ور ِعلم في العلم العمل ب���ه ،فال ُي ً َّ الزم ه���ذا الدي���ن بغير عمل وف���ق ُمقتضى هذا العل���م .إن هذا ٌ ٍ انفصال ،قال والزم منه ،وحين ينفصالن ،ينفصالن ش���ر لهذا ٌ َّ وها﴾(الجمعة)5:؛ ين ُح ِّم ُلوا َّ الت ْو َرا َة ُث َّم َل ْم َي ْح ِم ُل َ ﴿م َث ُل ا َّل ِذ َ تعالىَ : السنة الثامنة -العدد (2013 )36
6
لالنته���اء ،وه���ذه مأمور به���ا جميع األمة كل بحس���ب درجته،
ألنه���ا ع���ن طريق االئتم���ار بأوام���ره واالنته���اء بنواهي���ه تكون
وق���ادرا عليها الجميع إنما بش���رط مأم���ورا به���ا الجميع دع���وة ً ً
تعب���د اهلل إال بالعل���م ،ورأس العبادة الدعوة العل���م ...فال ُي َّ إل���ى اهلل ،ألن األج���ر ال���ذي يترت���ب عليه���ا ال يترتب على كل ،أي ج���زء م���ن الدعوة إلى اهلل .فللدع���وة صور كثيرة؛ ٍّ
م���ن الصور ،وللجه���اد صور كثي���رة؛ منها المجاه���دة بالدعوة للق���رآنِ َ : ���م بِ��� ِه﴾ -أي بالق���رآن الكري���مِ - ﴿ج َه ًادا ﴿و َجاه ْد ُه ْ ِيرا﴾(الفرقان.)52: َكب ً وكل ذل���ك دع���وة إلى اهلل في ص���ورة من صورها وفي مرحل���ة م���ن مراحله���ا .فالدع���وة الن���داء ،مأم���ور به���ا الجميع ويطيقه���ا الجميع ،وإليها يش���ير حديث رس���ول اهلل " :بلغوا
عن���ي ول���و آية" (رواه البخ���اري) ،من علم آية فق���ط ،علمها وعمل فأي به���ا ،فعلي���ه أن يب ِّلغ تلك اآلي���ة التي يعلم المقص���ود بهاّ ،
ح���ظ م���ن العلم الش���رعي بهذا الدي���ن يجب أن يب َّل���غ ،إذ هذه
األم���ة هي أمة الش���هادة على الناس ،واالنتم���اء الصحيح إليها
إنم���ا يتمثل ف���ي الدعوة ،وال يتمثل في غير الدعوة .فالمس���لم
من أمة محمد ،بحكم كونه من هذه األمة ،هو داع إلى اهلل
قضايا فكرية
أ.د .الشاهد البوشيخي*
و ة ع إ ل د ل ى ا ا ة ل حاج ع ل م
ِِ ِ ِ ِ َ ���ن ي���ر ٍة َأ َن���ا َو َم ِ ق���ال تعال���ىُ ﴿ :ق ْ ���ل َه���ذه َس���بِيلي أ ْد ُع���و ِإ َل���ى اهلل َع َل���ى َبص َ ِ يتبين أن العلم أس���اس َّات َب َعني﴾(يوس���ف .)108:م���ن خالل هذه اآلية وغيرهاّ ، هذه األمة ،بل هو أس���اس اس���تخالف هذا النوع كله على بقية األنواع في
ال ِئ َك��� ِة ِإ ِّني َج ِ اع ٌل ِفي ا َ ض َخ ِلي َف ًة َقا ُل���وا َأ َت ْج َع ُل ِف َيها َم ْن ﴿وإ ِْذ َق َ ���ال َر ُّب َ أل ْر ِ ���ك ِل ْل َم َ أرض اهلل؛ َ ون ِ ِ ال ِإ ِّني َأ ْع َل ُم َما َ س َل َك َق َ ال َت ْع َل ُم َ ُي ْف ِس ُد ِف َيها َو َي ْس ِف ُك ِّ الد َم َاء َو َن ْح ُن ُن َس ِّب ُح ب َِح ْمدكَ َو ُن َق ّد ُ
5
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
ال ترتقي األخالق بالعرفان وال الوجدان حسن الفضيل ِة من خشية اهلل في اإلنسان ُ
يق���ول دي���كارت" :ال قيم���ة للفكر م���ا لم يتمت���ع بالحرية".
أم���ا كان ينبغ���ي أن نفكر على األقـل مثل دي���كارت ،لتخليص
فهب أن الخوف من اهلل في القلوب قد غاب وانحسر
أرواحنـا من نظم التفكير السكوالس���تيكية البالية والمتعفنة في
وزد على ذلك هشاش���ـة اإلرادة وضمور المحاكمة العقلية
يج���ب على األجي���ال المن���ورة آفاقه���ا الدنيوية/األخروية، الت���ي س���تعين معال���م تكو ٍ نات يب���دو أن ال فكاك م���ن حدوثها ّ ف���ي العالم في الس���ـنوات القادم���ة ،أن تعيد النظ���ر في األفكار
عناصر محاكمتنا األساس���ية ،وتميي���ز الخط الفكري المنطقي،
ف���ي الداخ���ل ،وتطهير المجتم���ع من "لوثي���ات" االغتراب عن
فلن تجد إذن للعرفان والوجدان ذرة من أثر(.)1
ووحش���ية األحاسيس البش���رية وتعطش���ها للدم كالتنين ،لتعلم
هول الكابوس الذي نعيشه.
فم���ن الض���رورة إذن ،أن نب���دأ العم���ل بإعـ���ادة النظ���ر ف���ي
وإيف���اء اإلرادة حـقه���ا ،وإع���داد جيل عزوم ،ب���ل أجيال .فلنقر
ال بمراعاة األس���باب ،ألننا نعيش في عالم محاط بها .نحن أو ً نعيش في عالم األس���ـباب .فإهمالها محض "جبرية" ،وضاللة
بالحاص���ل .وليس���ت مراع���اة األس���باب وحده���ا ،ب���ل العناي���ة بالمناس���بة بين السبب والنتيجة (قاعدة تناسب العلية) من أهم
لوازم التكليف.
فإن لم نعين أس���س األفكار المضرة والتيارات المفس���دة،
بمش���اعر مس���ؤولية جادة لنقاومها منذ اليوم ،فس���وف نرى في
أبعادا مختلفة للبؤس األخالقي والنكبة االجتماعية المستقبل ً
واالنحرافات األخرى.
ولي���س الحنيك م���ن ينتبه إلى النكبة والب���ؤس بعدما تظهر
النتائج عيا ًنا ،بل من يجزم بما س���يقع وبأي س���بب وسياق من قبل الوقوع .ومن العس���ير االدعاء بأننا أبدينا فراس���ة كهذه في ال! تاريخن���ا القريب .أما أن نـزع���م بأننا أوفينا اإلرادة حقها فك ّ
بل إنساننا في هذه المدة المدلهمة ظلم ًة يشك حتى في إرادته الذاتي���ة وفكره وعزمه ...بل ما يفتأ يبحث عن إرادات س���امية واألم ّر توهين الش���خصية ومدهش���ة لتدير ش���ؤونه .واألده���ى َ
وأس���ر العزائم في أصحاب المش���اعر النقية والوجدان الطاهر
بإيح���اءات م���ن قب���ل المفك���ر ف�ل�ان ،والعال���م ع�ل�ان والدولة ال ًنا في الفالني���ة! ث���م بم���رور الزم���ان ،صرنا ّ نحك���م فال ًن���ا وع ّ
تفكيرن���ا وس���لوكنا ،فأصابونا بأنـواع م���ن دوار الرأس وازورار التفكي���ر وانح���راف المالحظ���ة وانـزالق الش���خصية .فأصيبت
األرواح المستس���لمة تمام االستس�ل�ام خاصة ،بأعطاب رهيبة
م���ن المح���ال إصالحه���ا .وكان األصل أن ال نؤم���ن أو نرضى محصناها ما عدا اإلرادة اإللهية. بإراد ٍة ما حققنا فيها وال ّ السنة الثامنة -العدد (2013 )36
4
معظم جوانبها .ولكن هيهات!
ش���كلة الم ّ والمع���ادالت واألنظمة ،الواردة إلينا من الخارج أو ُ وش���ده بجذور معانيه األصيلة ...وذلك حتى يسـتطيع الذات، ّ الحف���اظ على جوهره وش���خصيته ،ويتقدم إلى مس���تقبله على خط���ه الذاتي أثناء التعايش الحميم م���ع العالم ...وحتى يطلع
عل���ى التف���اف الماضي بالحاض���ر إذ يتقدم ،فال يش���يح بوجهه طريا من ع���ن الماض���ي ألنه قديم ،وال يقبل عل���ى كل ما يظنه ًّ
غي���ر بصيرة ألنه جديـد .إن أبرز خص���ال جيل الضياء هذا ،أن
علما بشؤون اليوم والغد ،ويفهم أن ما ينبغي أن يعلمه يحيط ً لي���س منحصرا بما نعرفه نحن ،ويجهد في اس���تيعاب الحقيقة ً
بترش���يحها من مصفاة العقل والمنطق والفكر في دفء أنس���ام
اإللهام ،إلى جانب مكتشفات المختبر.
وم���ن المه���م أن نع���رف جي���دا تأريخن���ا القري���ب ،وأبطال ً
تطورا التاري���خ ،لك���ي نحق���ق وتغي���را كهذا ،فنعرف األس���باب ً ً
ومن والش���خصيات المؤث���رة ف���ي تكوي���ن تاريخن���ا الحاض���رَ ،
وحم���اس التواج���د عش���ق أث���ار ج���د ًدا ف���ي ص���در َ والتك���ون ُم َّ َ ّ ���ن بين أبناء وم ْ لحن نش���يد روح "األمة" ،و ِم ْ ���ن ّ ه���ذه األم���ةَ ...
الوط���ن أنش���دها؟ جيدا م���ا ينبغي أن نتخذه فأظن أننا س���ندرك ً ّ
مبادئ ،ونس���تطيع أن نضع برام���ج واضحة للغد ،بعد أن نفهم َ
ما ذكرناه فهما دقي ًقا ...ثم نس���عد بالس���ير في درب الش���جعان
الذين يحتفظون في صدورهم بحيوية الفكر والقضية والعشق
وأخالق التسامح.
(*) الترجمة عن التركية :عوني عمر لطفي أوغلو.
الهوامش
( )1ترجمة َبيتين لمحمد عاكف أرصوي ،ديوان "الصفحات" ،ص.271:
حص���را ،ب���ل ثقافتن���ا الذاتي���ةِ ، وح ّس���نا ً التاريخ���ي ،ونظامنا األخالق���ي ،وفهمنا للفضيل���ة ،وتصورن���ا الفن���ي ،وجذورن���ا أيض���ا ،ق���د تعرض���ت -وربما المعنوي���ة ً
مع ض���رر أعظم -إلى الت���آكل .فاهتزت
أواصرنـا الروحية وج ّفت منابع فضيلتنا، وتعمقت الهوة بين حاضرنا وماضينا.
أطوارا نع���م ،ش���هد عالمنا المب���ارك ً
وص ّكت عجيب���ة فيها س���كت المثقفونُ ،
أصح���اب القـوة ���ر أف���واه الفك���ر، َ ُ وظاه َ والق���درة الضالل��� َة واالنف�ل�ات ع���ن األصـ���ول ،وتعارف���ت األجي���ال م���ع األحاس���يس الهامدة واآليسة والمظلمة
نحن اليوم يف �أم�س احلاجة �إىل طريق يو�ص��لنا �إىل احلقيق��ة والف�ض��يلة، ومنه��ج تفك�ير ال يخدعن��ا، وموازي��ن ال ت�ض��لنا .والواق��ع �أن الوج��دان والقي��م الأخالقي��ة م�ص��ادر ن��ور تكفي حل��ل كثري من املع�ض�لات .لك��ن يف �أيامنا هذه، الوجدان جري��ح والقيم الأخالقية �شتات .فهذان املحركان قد �أجتُ ّزا وجفف��ت ينابيعهما. م��ن اجل��ذور ُ
في همهمات الحيرة وكأنها جنائز.
وأفكار مجهولة النسب كهذه! المنطق ٌ
من���ذ س���نين مدي���دة ل���م تتج���اوز
حمالت التجدي���د التغيير ف���ي الصورة. َ
فقص���رت ع���ن إدراك مقاص���د اآلم���ال والخي���ال ،وع���ن أدنى غاياته���ا المعلنة.
وظ���ن الذي���ن قبض���وا عل���ى الزم���ام ف���ي القم���م ،أن اإلمس���ـاك بالفرش���اة وتلطيخ
ج���روح الب���دن االجتماع���ي والوطن���ي باألصب���اغ ه���و المعرف���ة والحنك���ة ،ب���ل
وانقالب���ا ...وغ���اب عنه���م ظن���وه ث���ورة ً كليا النـزف الباطن ،ومضاعفات النـزف ًّ
الباط���ن ،في األعضاء الحيوية للمجتمع وف���ي ش���رايين روح���ه .ه���ذا م���ا حصل
ف���ي تاريخنا القري���ب ،باس���تثناء المظهر
دموعا ب�ل�ا حول وال حيل���ة ،في زمن عي���ن تنفس���ت وك���م ٍ ً
والتمثي���ل الخ���اص ألبط���ال كفاح االس���تقالل المس���تمد قوتـه
س ف���ي وجه أن���اس ال يعرفون مش���اعر القل���وب بأحادي���ث َن ْف ٍ
والصفوة المكنونة في هذه الحملة المباركة باعتبار منطلقاتها.
أحم���ر يحاصره اليأس أدخن ًة س���وداء من كل جهة ،وصرخت
م���ن اإليم���ان واألمل والعزم .ه���ذا ،مع إجهاضن���ا حتى للقوة
م���ا الخجل ،وقالت ف���ي أنينها" :ما الرجاء م���ن حيارى فتحوا أش���رعتهم لريح اإللحاد ،ومن ُبل ٍه يصفقون لكل واحد ولكل
حصلت.
أم���ام الق���وة ،ومن ش���رف وعزة ملوث���ة؟ لكن ما اهت���ز تزعزع،
وتوس���عت الهوة بينها في الس���نين األخيرة ،إن لم تقع في فقر
شيء ،ومن منكوبي الوجدان المعتادين على طأطأة رؤوسهم
وم���ا انه���دم خ���رب ،وما ذه���ب انقطع ،ولم يحل محله ش���يء
جديد .نعم ،قد أزيل ما تحطم ولم يقم مقامه ش���يء ،فانقلب رأس���ا عل���ى عقب باعتبار قيمه .ذلك بش���هادة القلق المجتمع ً وضياع األمان المحس���وس -في عصرنا الحاضر خاصة -في
فعسير أن تتحقق وحدة كالتي تحققت أو نهضة وحيوية كالتي فالحاص���ل أن مجامي���ع الن���اس التي انفصل���ت عن بعضها
مدق���ع ف���ي حياته���ا الفكرية وروحه���ا وجوهره���ا ،فقد وقعت
ف���ي االغتراب ع���ن بعضها واالحت���راب فيما بينه���ا كالذئاب.
فالبي���اض عن���د بعضه���م س���واد عن���د غيره���م ،وما يدع���و إليه
بعضه���م يخالف���ه غيرهم ،والبديل المقترح م���ن بعضهم داعية
هم أغوار قلوبنا ً جميعا ،حتى العقالنيين الواقعيين(!) الذين ال ّ لهم إال تحقيق مآربهم اليومية.
ومع هذه الس���لبيات ،تخيل مدى هذا االحتراب ،أو قل عراك
يوم���ا بعد يـوم حت���ى جعلت الحياة والمعض�ل�ات المتش���ـابكة ً
الحق وأقرب.
ب���م ننجـ���و مـن الفق���ر األخالقي أرجوك���م أن تتفك���رواَ ...
ثقي�ل�ا وحي���رة ال تط���اق؟ وكي���ف نتخلص م���ن نوبات حم�ل�ا ً ً أمراضن���ا الفردي���ة والعائلي���ة واالجتماعي���ة؟ وكيف نس���ير إلى المستقبل في ثقة واطمئنان؟
أفكارا حالم���ة وخيالية من هن���ا وهنالك؟ أم ه���ل نس���تورد ً
بعقلي���ة العص���ر التي نح���اول أن نبني عليها كل ش���يء؟ كال... منطق كهذا الحمل األثقل من جبل "قاف" كال! لن يحمل هذا َ ٌ
هزيم���ة عن���د غيره���م ،وصالب���ة بعضهم تعصب عن���د غيرهم. العميان ،وال قس���طاس يرتضيه الجميع لمعرفة أيهم أدنى إلى ولذل���ك ،نح���ن اليوم في أمس الحاج���ة إلى طريق يوصلنا
إل���ى الحقيقة والفضيل���ة ،ومنهج تفكير ال يخدعن���ا ،وموازين
ال تضلن���ا .والواقع أن الوج���دان والقيم األخالقية مصادر نور تكفي لحل كثير من المعضالت .لكن في أيامنا هذه ،الوجدان اجت ّزا من جريح والقيم األخالقية شتات .فهذان المحركان قد ُ
وجففت ينابيعهما. الجذور ُ
3
السنة الثامنة -العدد (2013 )36
المقال الرئيس فتح اهلل كولن
من الفوضى إلى النظام ()1
أنقاضا من���ذ عصور والناظر إلى مجتمعنا يرى ً
نـزع���ت حركات التغي���ر والتحول األخيرة في العالم القناع
والفكر .فما زال المجتمع يبحث عن نظام وفكر
الغش���اوة ع���ن عيونن���ا إل���ى ح���د م���ا ...فتوضحت حقيق���ة كنه
وأنكا ًث���ا من حيث األخ�ل�اق والفضيلة والعلم
بدي���ل في التربية والفن واألخ�ل�اق .والصحيح هو أننا بحاجة إل���ى إرادات فوالذية وأدمغة أصيلة تحتض���ن الوجود بأعماقه
جميع���ا ،واإلنس���ان برحاب���ه الدنيوي���ة واألخروية وتفس���رهما، ً ب���ل وتتدخ���ل ف���ي األش���ياء بعن���وان خالف���ة اهلل ف���ي األرض. السنة الثامنة -العدد (2013 )36
2
ع���ن كثير من الوجوه ،وأظهرتها على حقيقتها .كذلك أزاحت
فش���يئا .فاستطعنا أن نرى ما حصل شيئا ً األش���خاص واألشياء ً
بص���ورة أوضح ونس���تنبط من الحوادث نتائج أس���لم وأمتن...
وصرنا نفهم أن ما تعرض إلى ش���ؤم اإلبعاد والترك والنس���يان ف���ي ه���ذا البلد منذ قرنين ،لي���س الزي والفكر وفلس���فة الحياة
المحتويات من الفوضى إلى النظام / 1-فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) حاجة الدعوة إلى العلم /أ.د .الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية)
يا ِّ معلمي العالَم ارشدوا /د .حممد باباعمي (قضايا فكرية) مرور البرق بين العلم واإليمان /د .عبد الدائم الكحيل (علوم) عالج الداء من معين سيرة سيد األنبياء /أ.د .فتحي حجازي (قضايا فكرية) سالِك الطريق /حراء (ألوان وظالل) اجتماعية اإلسالم /عبد احلق معزوز (قضايا فكرية) التربية اإلسالمية والبعد اإلستراتيجي لقضايا التنمية / 2-أ.د .خالد الصمدي (تربية ) السلطان عبد الحميد الثاني والتصوير الفوتوغرافي /حممد هبادير دوردجني (تاريخ وحضارة) تعبير الرؤيا ..محاولة جادة الستكناه النص /أ.د .عماد الدين خليل (أدب) جالوت المهزوم /حراء (ألوان وظالل)
2 5 10 15 20 22 23 25 30 33 36
وكان له ما أراد /د .عبد اهلل صاحل العريين (قصة)
37
حدود التجديد واالجتهاد في الفقه اإلسالمي /أ.د .علي مجعة (دراسات إسالمية)
39
ابتهال مع موكب الحجيج /حممد حممود عبد العال (شعر)
42
اإلنسان المعرفي /أديب إبراهيم الدباغ (أدب)
43
منزلة الفنون الصوتية في الرؤية اإلسالمية /أ.د .عمار جيدل (ثقافة وفن)
44
السالم وموقف اإلسالم منه /د .إسحاق بن عبد اهلل السعدي (قضايا فكرية)
47
المسلمون وحقوق اإلنسان /أ.د .أمحد عبادي (قضايا فكرية)
52
رسالة حراء الخفاقة في اآلفاق واألنفس /د .مسري بودينار (أنشطة ثقافية )
57
االفتتاحية
دروس من محنة العلماء
العدد36: السنة الثامنة (مايو -يونيو) 2013
عبر عنها عنوان المقال يأتيكم العدد الجديد من حراء في أجواء ملبدة تعيش���ها أمتنا ،ربما ّ الرئي���س للع���دد "م���ن الفوضى إلى النظام" لألس���تاذ محم���د فتح اهلل كولن ،إل���ى جانب باقة من مقاالت نخبة من العلماء والمفكرين. كت���اب مجلة حراء ويقال عادة إن المناس���بة ش���رط؛ ومناس���بة ال���كالم هي فقدنا لكاتب من ّ البارزي���ن ،ب���ل واحد من علماء األمة الكبار الذين ال يختل���ف اثنان من أبنائها على علو كعبهم وس���عة علمهم وس���بق عطائهم ...إنه العالمة الش���يخ محمد س���عيد رمض���ان البوطي رحمه اهلل ال ،وتجاه رحمة واسعة .وألن المناسبة األليمة حبلى بالعبر والدروس ،فالواجب تجاه األمة أو ً ثاني���ا ،هو الوق���وف عليها لتكون األحداث عب���رة ،والمحن عظ���ات هادية على طريق علمائه���ا ً المستقبل بإذن اهلل. من القصص البليغة في مثل هذا المقام ،ما يروى عن هارون الرشيد (الخليفة العباسي) أنه أجل أنبل المراتب؟" قال :ما أنت فيه يا أمير المؤمنين ،فال أحد ُّ يوم���ا ليحيى بن أكثم" :ما ُ ق���ال ً أجل مني رجل ُيع ِّلم في حلقة ويقول :قال اهلل وقال رس���ول من���ك .فقال هارون الرش���يد" :ب���ل ُّ اهلل؛ ألن اسمه مقترن باسم رسول اهلل ." الكلمات الس���ابقة تش���ير إلى معنى غائب في واقعنا ،واقع اش���تد فيه التجاذب حتى أنس���ى حقائ���ق الدي���ن الكلي���ة الجامعة ،ومقتضي���ات االنتماء لألم���ة الواحدة .وأهم ه���ذه المعاني ،أن مكانة العالم ورسالته هي أسمى وأهم من كل مكانة عامة أو موقف أو اختيار عابر في الحياة تج ُّبه���ا االجته���ادات ،وال ينبغي لها أصاب���ت أو أخطأت. الدني���ا؛ وعلي���ه ف���إن كرام���ة العا ِلم ال ُ المتبادل بين جي ًدا أن هذا االفتراق وآثاره البادية في االس���تنزاف َ بل ما ينبغي ،هو أن ُيع َلم ّ ال يوافق على اجته���اد العا ِلم في الرأي أبن���اء األم���ة ال راب���ح منه بي���ن أبنائها ،ولئن كان للم���رء أ ّ يضيعون حياة العا ِلم في الدنيا ،غير مبالين فيخالفه في أساسه ودليله ،فليس له أن يقر فعل من ّ مقترفه أو دوافعه. بضياع آخرتهم نتيجة لفعلهم هذاًّ ،أيا كان ِ لقد جاءت هذه المصيبة في ظل أجواء الفتنة المحيطة باألمة في كثير من س���احاتها ،وهي فيتصي ُد فرصتها م���ن ال يحب الخي���ر لهذه األمة فتن���ة يمتح���ن فيه���ا العلماء أكثر م���ن غيره���م، ّ تجل أليم من تجليات محنة لينتق���ص م���ن مكانة علمائها جملة ،ويرمي دورهم في حياتها ،في ّ مؤسسة العلم والعلماء في واقعنا. إن "موت العا ِلم ثلمة في اإلسالم ،ال يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار" ،هكذا يلخص اإلم���ام الحس���ن البصري عالقة العلماء بحياة أمته���م ،أو حياتهم ومماتهم بحالها ومآلها... أما إن كان موت العلماء مقتر ًنا بأزمنة الفتنة فتلك قصة أخرى ...قصة المحنة في اش���تدادها.. قص���ة الش���دة حي���ن تبلغ مداها .غي���ر أن لطف اهلل الس���ابق ورحمته بهذه األمة ،تق���رران أن بعد اش���ت ِّدي أزم��� ُة تن َف ِ رجي***قد العس���ر يس���را وأن لي���س بعد ه���ذا الضيق إال الفرج .ألم ينش���دواَ : ً ِ قت�ل�ا ف���ي محاري���ب المس���اجد؟! وأي ش���دة أعظ���م م���ن م���وت العلم���اء ً بالب َل ِ ���جّ ... آ َذ َن َلي ُل���ك َ غير أن أفق انبالج الظلمة ال يعفي من أمانة بيان الحق ،ومسؤولية التمسك بمعالم االهتداء وأيا وجادة الصواب ،برغم ش���دة الفتن ،والعض على الكلمة الس���واء ...ففيها النجاة للجميعًّ . ومرب ًيا ..فاللهم تكن التداعيات والظروف ،فلمثل تلك المعاني عاش العالمة "البوطي" مع ِّل ًما ّ اغفر له ،وارحمه رحمة واسعة ،واجعله عندك في مقعد صدق ...آمين.
العدد / 36 :السنة الثامنة ( /مايو -يونيو) 2013 مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول
w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m
الواو َ لهج باسمه، بلغة التجريد تَ ُ دوما "يا اهلل"، بانحناءتها تقول ً فوا أس ًفا على قوم َج ِهلوا رسالتَها، إلى السجود تُنبِّهنا إشارتُها.. ***
من الفوضى إلى النظام1-
المسلمون وحقوق اإلنسان
رسالة حراء الخفاقة في اآلفاق واألنفس