Hira Magazine 36

Page 1

‫الدنيا والناس‬ ‫الدنيا م� �ل ��أى بالناس أال ُك � � ��ن ًّ‬ ‫حق � � ��ا إنس � � ��انا‬ ‫إلى اهلل ِ‬ ‫ال ُ�فتَّان � � ��ا‬ ‫�اذر س � � ��ب ً‬ ‫اقص ْد في سيرك وح � � � ْ‬ ‫وأص ِغ بقلبك للقرآن‬ ‫يكن ل � � ��ك إلى اهلل ربّانا‬ ‫ْ‬ ‫***‬

‫‪36‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الحليم عويس‬

‫• بحث استقصائي واستقرائي في الفكر النهضوي عند‬ ‫فتح اهلل كولن‪.‬‬ ‫• مفاهيم تجديدية في معاني الجهاد وحوار اآلخر‪.‬‬ ‫عموما وفي نبوّ ة محمد ‪‬‬ ‫• قراءة مبتكرة في "النبوة"‬ ‫ً‬ ‫• واجب المسلم في تغيير العالم وتعديل مساراته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وسلوكا‪.‬‬ ‫عقيدة‬ ‫• التسامح والتراحم‬ ‫• التعبئة الفكرية من أجل الكشف عن الفكر‬ ‫الحضاري لإلسالم‪.‬‬ ‫• الحافز الفكري والنفسي للبطولة واألبطال في‬ ‫العمل الدعوي‪.‬‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪+20226134402-5 :‬‬

‫الهاتف الجوال ‪+201004871038 :‬‬

‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫شروط النشر‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال رِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫‪YEMEN‬‬ ‫دار النشر للجامعات‬ ‫الجمهورية اليمنية‪ ،‬صنعاء‪ ،‬الخط الدائري الغربي‪،‬‬ ‫أمام الجامعة القديمة‬ ‫‪Phone: +967 1 440144‬‬ ‫‪GSM: +967 711518611‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@hotmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬ ‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫صاحب االمتياز ‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫املشرف العام‬ ‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201004871038 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬

‫لالشرتاك من كل أحناء العامل‬ ‫‪pr@hiramagazine.com‬‬


‫كانو يحتضنونهم بأعين دامعة‪" :‬نحن ننتظركم منذ مائة سنة"‪.‬‬

‫م���ن علم���اء الب�ل�اد كالدكتور ش���فيق كورديج أس���تاذ الحديث‬

‫المدرس���ة األولى س���نة ‪ .1997‬أما اآلن فمدارس بوس���نة سما‬

‫س���ديش أس���تاذ الحديث في أكاديمية التربية اإلسالمية‪ ،‬مدينة‬

‫األول���ى عل���ى صعي���د البوس���نة والهرس���ك‪ ،‬وجامع���ة "ب���رج"‬

‫العلوم اإلس�ل�امية‪ ،‬س���راييفو‪ ،‬والدكتور كنعان موسيش أستاذ‬

‫وهك���ذا ب���دأ العم���ل الترب���وي س���نة ‪ ،1994‬وبني���ت‬

‫(‪ ،)Bosna Sema‬الموج���ودة في أهم مدن البالد‪ ،‬تعد في المرتبة‬ ‫بس���راييفو‬

‫(‪)International Burch University‬‬

‫الت���ي تأسس���ت‬

‫ع���ام ‪ ،2008‬نصف من يدرس���ون بها من البوس���نة (بوش���ناق‪،‬‬

‫وصرب‪ ،‬وكروات)‪ ،‬والنصف اآلخر من ‪ ٢٢‬دولة عبر العالم‪.‬‬

‫ف���ي البوس���نة تتجاور قبور ش���هداء المرحل���ة العثمانية (من‬

‫تركي���ا ومصر والمغ���رب والش���ام‪ )...‬مع مقابر ش���هداء حرب‬ ‫البوسنة األخيرة‪ ،‬وهي العاشرة في سلسلة من الحمالت على‬

‫هذه النقطة األبعد من جغرافيا اإلسالم في أروبا‪ ،‬لكنها األثقل‪،‬‬

‫بحصيلة ‪ 250‬ألف ش���هيد منهم ثالث���ة آالف من الصبيان‪ .‬أما‬ ‫أيقونة الش���هادة فكان حظها أحد عش���ر ألف ش���هيد‪ .‬من أبناء‬ ‫يوم���ا كامل���ة‪ ،‬كأطول‬ ‫س���راييفو‪ ،‬الت���ي امت���د حصاره���ا ‪ً 1425‬‬

‫حصار على مدينة في التاريخ‪.‬‬

‫وف���ي قل���ب مقابر الش���هداء‪ ،‬يرق���د القائد ال���ذي أحبه أهله‬

‫يعرف‬ ‫فاحتضنوا جثمانه بين بيوتهم‪" ،‬عبد اهلل" كما أوصى أن ّ‬

‫على ش���اهد قبره‪ ،‬علي عزت بيغوفيتش‪ .‬وعلى ذات الش���اهد‬ ‫عبادا إال هلل"‪.‬‬ ‫َع ُ‬ ‫هده معهم‪" :‬نقسم أال نكون ً‬

‫وبينما ال زالت الجراح تلتئم ببطء‪ ،‬ينبعث األمل من أبناء‬

‫الجيل الجديد‪ .‬س���كن الطلبة الذي يبني جيل العلم والمحبة‪،‬‬

‫التماس السابق بين‬ ‫تقصدوا بناءه في خط َّ‬ ‫"يورت منبع األمل" َّ‬ ‫أبناء القوميات الثالث‪.‬‬

‫غنيا كان برنامج زيارات الركب الزائر‪ ،‬وفد علماء حراء‪...‬‬ ‫ًّ‬

‫فمن مقبرة الش���هداء‪ ،‬إلى مساجد س���راييفو العتيقة‪ ،‬ومن كلية‬ ‫الدراس���ات اإلس�ل�امية إلى المعالم العثمانية بالمدن البوسنية‪.‬‬ ‫غي���ر أن بي���ت القصيد في زيارته ألرض البوس���نة كان المؤتمر‬

‫ال���ذي نظمته كلية العلوم اإلس�ل�امية بجامعة س���راييفو ومجلة‬

‫حراء بعنوان‪" :‬من إنسان الغاية إلى المجتمع الراشد‪ ..‬قراءات‬

‫ف���ي االنبعاث الجديد من خالل الس���يرة النبوية" في س���راييفو‬ ‫يومي ‪ 14-13‬أبريل ‪.2013‬‬

‫المش���اركات العلمي���ة كانت متنوع���ة؛ فقد افتت���ح المؤتمر‬

‫ف���ي أكاديمية التربية اإلس�ل�امية‪ ،‬مدينة زنيتس���ا‪ ،‬والدكتور فؤاد‬

‫بيه���اج‪ ،‬والدكتور زهديا حس���نويش أس���تاذ الحدي���ث في كلية‬

‫الحديث في كلية العلوم اإلسالمية‪ ،‬سراييفو‪.‬‬

‫أما وفد علماء حراء‪ ،‬فقد ضم إلى جانب األستاذ مصطفى‬

‫أوزجان مستش���ار المجلة‪ ،‬واألستاذ جمال ترك مدير أكاديمية‬

‫البحوث بإس���تانبول‪ ،‬واألس���تاذ نوزاد صواش المش���رف العام‬

‫على المجلة‪ ،‬نخبة من علماء العالم العربي‪ ،‬كالدكتور حس���ن‬ ‫مك���ي من الس���ودان‪ ،‬والدكتور إبراهي���م بيومي غانم من مصر‪،‬‬

‫والدكتور أحمد قعلول من تونس‪ ،‬واألس���تاذ شفيق اإلدريسي‬ ‫م���ن المغ���رب‪ ،‬واألس���تاذ جم���ال حوش���بي م���ن الس���عودية‪،‬‬ ‫والدكتور محمد باباعمي من الجزائر‪ ،‬والدكتور سمير بودينار‬

‫أفكارا حول عالقة منهج التأس���ي‬ ‫م���ن المغرب‪ ...‬كلهم ق���دم‬ ‫ً‬ ‫واالتباع في السيرة النبوية باالنبعاث الجديد ألمتنا اليوم‪.‬‬

‫وعل���ى هامش المؤتمر‪ ،‬ح ّلقت األرواح في حفل النش���يد‬

‫والمديح‪ ،‬وأجوائه البوس���نية المعطرة بشذى التاريخ وأخالق‬

‫اإللحاح على‬ ‫الفاتحي���ن‪ .‬وحيثما حل ركب ح���راء إال و َت َج َّد َد‬ ‫ُ‬ ‫المضي ف���ي الطريق‪ ...‬طريق تعميق األواصر بين أجزاء األمة‬ ‫ّ‬ ‫ف���ي كل م���كان‪ ،‬وحمل رس���الة المحب���ة بين بني اإلنس���ان لئال‬

‫يتكرر ما حدث ذات يوم في هذه البالد‪ .‬لقد كانت أمانة أهلها‬ ‫ال ينسوا إخوانهم في‬ ‫سالما إلخوانهم في كل مكان‪ ،‬ورجاء أ ّ‬ ‫ً‬

‫تلك البالد‪ ...‬بالد الرباط‪.‬‬

‫نتطرق إلى تحليقة حراء مع وفد من من‬ ‫هذا‪ ،‬وكنا ّ‬ ‫نود أن ّ‬

‫علماء تركيا إلى مصر‪ ،‬والتئام شملهم في ندو ٍة بدار العلوم في‬ ‫جامع���ة القاهرة؛ وكذلك حضور بع���ض علماء حراء في النهد‬

‫بمناسبة توزيع جوائز مسابقة كتاب "النور الخالد" التي شارك‬

‫فيها حوالي ‪ 110‬آالف شخص‪ ،‬وكذلك رحلة قبرص وإحياء‬

‫ذك���رى ق���دوم طالئع الصحب الكرام إلى ت���كل الديار‪ ...‬لكن‬

‫ذلك كله يحتاج إلى مقال آخر‪ ...‬والسالم‪.‬‬

‫بحفل مش���هود في مس���رح س���راييفو‪ ،‬ضم كلم���ة فضيلة مفتي‬ ‫البوس���نة وبعض كبار الش���خصيات‪ ،‬ثم ش���هد مش���اركة كوكبة‬

‫(*) مدير مركز الدراسات والبحوث اإلنسانية واالجتماعية ‪ -‬وجدة ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫‪63‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫الشيخ حسن كافازوفتيش‪ ،‬رئيس علماء البوسنة والهرسك‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬شفيق كورديش‪ ،‬البوسنة‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد سديش‪ ،‬البوسنة‪.‬‬

‫كول���ن التربوية للمرأة‪ .‬ثم تناول الكلمة الدكتور س���عيد ش���بار‬ ‫ميالدا‬ ‫م���ن المغ���رب‪ ،‬ليتحدث ع���ن البناء الحضاري باعتب���اره‬ ‫ً‬ ‫مقدم���ا رؤيت���ه لمفه���وم البناء الحض���اري بوصفه‬ ‫ثاني���ا لألم���ة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أه���م أدوار األم���ة وش���رط إع���ادة بنائه���ا‪ .‬أم���ا الدكتور س���مير‬ ‫ال لمعالم‬ ‫بودين���ار من المغرب كذلك‪ ،‬فج���اءت مداخلته تحلي ً‬ ‫الش���خصية الريادية في بناء اإلنس���ان كما يطرحها األستاذ فتح‬ ‫اهلل كول���ن خاصة في كتابه "ونحن نقيم صرح الروح"‪ ،‬لتختتم‬ ‫المداخالت بكلمة األستاذ نوزاد صواش المشرف العام مجلة‬ ‫ح���راء ال���ذي بين أه���م معالم وممي���زات فكر األس���تاذ فتح اهلل‬ ‫كولن كما بلوره في مشروع "الخدمة"‪.‬‬ ‫وعل���ى ه���ذا مض���ى الركب ف���ي تلك الرب���وع‪ ،‬ف���ي لقاءاته‬ ‫وزيارته للمؤسسات‪ .‬فكانت الزيارة لوكالة األنباء األندونيسية‬ ‫"‪ ،"Antara News‬ولقاء مديرها الذي أعرب عن سعادته الغامرة‬

‫محيرة حي���ن ق���ال إن هذه هي‬ ‫باس���تقبال الوف���د‪ ،‬ف���ي مفارق���ة‬ ‫ّ‬ ‫وفد من العلم���اء والمفكرين من‬ ‫أول م���رة ي���زور فيها الوكال��� َة ٌ‬ ‫العالم العربي‪ .‬ثم التأم جمع الضيوف مع نخبة من المفكرين‬ ‫والكتاب األندونيسين على غداء مناقشة وحوار‪.‬‬ ‫بديعا‪ ،‬في‬ ‫وق���د كان المش���هد ف���ي إحدى قاع���ات جاكرت���ا ً‬ ‫حفل إطالق النسخة اإلندونيسية من كتاب "ونحن نقيم صرح‬ ‫ال���روح"‪ ،‬س���واء ف���ي كلم���ات االفتتاح الرس���مية للش���خصيات‬ ‫المدع���وة من تركيا وأندونيس���ا‪ ،‬أو في ص���وت الحناجر الفتية‬ ‫ألبن���اء وبن���ات أندونيس���يا المغ���ردة بم���دح النبي علي���ه الصالة‬ ‫والس�ل�ام‪ ،‬أو في الندوة الخاصة بتقديم الكتاب‪ ،‬التي توج بها‬ ‫الحف���ل‪ .‬وش���ارك فيها الضي���وف القادمون م���ن مختلف البالد‬ ‫العربية وتركيا‪ ،‬إضافة إلى مفكرين وأكاديميين من أندونيسيا‪.‬‬ ‫وفي مدرس���ة قاريزما الوطنية (‪ )Kharisma Bangasa‬بجاكرتا‪،‬‬ ‫التق���ى وف���د علم���اء حراء م���ع المس���ؤولين عن هذه المدرس���ة‬ ‫وأخواته���ا‪ .‬ح ًّقا لق���د كان اللقاء مع ثلة جدي���دة ممن "يقيمون‬ ‫صرح الروح" في تلك البالد‪.‬‬

‫في البوسنة‪ ..‬جمال المعنى والمبنى‬

‫ندوة "من إنسان الغاية إلى المجتمع الراشد"‪ ،‬البوسنة‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪62‬‬

‫متلمس���ا خطى الس���ابقين الرواد ممن‬ ‫يواص���ل الركب المس���ير‬ ‫ً‬ ‫وصلو إلى تلك البالد الجميلة‪ ...‬يصل البوسنة التي ما استطاع‬ ‫القبح أن ينال من شرفها أو ينتهك عذرية جمالها‪ ،‬مهما غلت‬ ‫عاما‪ ،‬برسالة من‬ ‫تضحياتها بأبنائها‪ .‬بدأت القصة قبل عش���رين ً‬ ‫أهل البالد إلى األس���تاذ فتح اهلل كولن‪ .‬أرس���ل األس���تاذ س���بعة‬ ‫من طلبته إلى هناك‪ ،‬وحين لقيهم البوسنيون الكبار في السن‪،‬‬


‫ش���بع قلوبه���م بمعان���ي اإليم���ان‬ ‫من���اط الهداي���ة لإلس�ل�ام‪ ،‬و َت ُّ‬ ‫بالوحي‪ ،‬وس���بب اليقين في صدق رس���الته‪ ،‬واصطباغ طبعهم‬ ‫بكري���م أخالقه‪ ،‬وس���جايا الق���دوة من أبنائه‪ ،‬حت���ى صار لطف‬ ‫ملمحا من مالمح‬ ‫معش���رهم ولين جانبه���م وظاهر تواضعه���م‬ ‫ً‬

‫أبناء أندونيسيا أينما كانوا‪.‬‬

‫أم���ا المناس���بة فمؤتم���ر دولي عق���ده في جاكرت���ا العاصمة‬

‫األندونيس���ية كرس���ي األس���تاذ فت���ح اهلل كولن بجامعة ش���ريف‬

‫هداي���ة اهلل اإلس�ل�امية الحكومي���ة‪ ،‬بمناس���بة ص���دور النس���خة‬ ‫األندونيس���ية م���ن كت���اب األس���تاذ "ونحن نقيم ص���رح الروح"‬

‫أ‪.‬د‪ .‬علي باردق أوغلو‪ ،‬رئيس الشؤون الدينية السابق‪ ،‬تركيا‪.‬‬

‫محورا ألش���غاله موضوع "بناء الذات‬ ‫يوم ‪ ،2013/4/2‬واتخذ‬ ‫ً‬

‫الحضاري���ة ومس���تقبل اإلنس���ان"‪ ،‬بمش���اركة كوكبة م���ن علماء‬

‫ح���راء؛ م���ن مص���ر‪ ،‬واألردن‪ ،‬والجزائ���ر‪ ،‬والمغ���رب‪ ،‬وتركيا‪،‬‬

‫ال عن البلد المضيف أندونيسا‪.‬‬ ‫فض ً‬

‫افتت���ح المؤتمر بكلمة الدكتور علي أونصال مدير كرس���ي‬

‫األس���تاذ فت���ح اهلل كول���ن بجامعة ش���ريف هداية اهلل اإلس�ل�امية‬ ‫الحكومية‪ ،‬التي تعد من أهم جامعات أندونيس���يا‪ ،‬فهي جامعة‬

‫دولي���ة تضم إحدى عش���ر كلي���ة‪ ،‬ويتعلم فيها واحد وعش���رون‬ ‫ألف طالب‪ ،‬وكلمة مدير الجامعة الدكتور قمر الدين هدايت‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عصمت بوشاتليش‪ ،‬عميد كلية الدراسات اإلسالمية‪ ،‬جامعة سراييفو‪.‬‬

‫وخ�ل�ال الجلس���تين العلميتي���ن للمؤتم���ر‪ ،‬تن���اول الدكتور‬

‫عب���د الرحم���ن النقي���ب م���ن مصر الحدي���ث عن "الدي���ن الذي‬

‫ال يم���وت"‪ ،‬ب���ل ينه���ض وإن كب���ت أمته‪ ،‬والش���باب الذين هم‬ ‫م���ادة ه���ذا النه���وض‪ ،‬واس���تعرض التحدي���ات الت���ي تواجهها‬

‫اس���تعادة إع���ادة البناء‪ .‬أم���ا الدكتور عمار جيدل م���ن الجزائر‪،‬‬

‫فانطلق���ت مداخلته من وصف األس���تاذ فت���ح اهلل كولن للدائرة‬

‫مس���تعرضا القوانين المتعددة لبناء‬ ‫المفرغة التي تعيش���ها أمتنا‪،‬‬ ‫ً‬

‫ال���ذات الحضاري���ة من جديد‪ ،‬مؤصلة من الرؤي���ة القرآنية‪ .‬ثم‬ ‫تمحورت مداخلة الدكتور عماد الش���ريفين من األردن‪ ،‬حول‬

‫أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم البيومي غانم‪ ،‬مصر‪.‬‬

‫أهمية بناء اإلنسان الجديد في الرؤية النبوية‪ ،‬وظهور رواد من‬ ‫المصلحي���ن الذين اضطلعوا بهذه المهمة ومنهم األس���تاذ فتح‬ ‫اهلل كولن‪ ،‬ومرتكزات تربية اإلنسان الجديد عنده‪.‬‬

‫ثم تحدث الدكتور عثمان ش���هاب األستاذ بجامعة شريف‬

‫هداية اهلل بجاكرتا‪ ،‬في قراءة تحليلية ذات طابع فلسفي لكتاب‬

‫"ونح���ن نقيم صرح الروح" باللغة األندونيس���ية‪ .‬وجاءت بعده‬ ‫مداخل���ة الدكت���ورة أمان���ي بره���ان الدي���ن لوبي���س وكي���ل كلية‬

‫الدراس���ات العليا لش���ؤون التطوير بالجامعة التي تحدثت عن‬

‫تربية اإلنس���ان المس���لم المعاصر‪ ،‬مع تركيز على رؤية فتح اهلل‬

‫أ‪.‬د‪ .‬حسن مكي‪ ،‬رئيس جامعة إفريقيا العالمية‪ ،‬السودان‪.‬‬

‫‪61‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫ندوة "ونحن نقيم صرح الروح"‪ ،‬جاكارتا‪.‬‬

‫د‪ .‬عبد الرحمن النقيب‪ ،‬مصر‪.‬‬

‫م���ع مؤسس���ة "س���يرينيتي" (‪ )Serenity Foundation‬العامل���ة ف���ي‬ ‫لق���اء مع جمهور متن���وع أعاد من جديد‬ ‫مج���ال الحوار‪ .‬فكان‬ ‫ً‬ ‫إلى األعين بل القلوب‪ ،‬مش���هد األم���ة الواحدة الملتئمة حول‬ ‫المنهاج النبوي باختالف مجتمعاتها وتعدد انتماءاتها الجزئية‪.‬‬ ‫أم���ا برنامج زيارات ميلبورن‪ ،‬فقد امتد لسلس���لة المدارس‬ ‫"التركي���ة األس���ترالية" هنالك‪ ،‬ليقف عل���ى النجاحات المتميزة‬ ‫التي أضحت ‪-‬بفضل اهلل‪ -‬تحققها في مجاالت التربية والتعليم‬ ‫داخل المجتمع األس���ترالي‪ ،‬واستفادة أبنائه من خدماتها ذات‬ ‫المس���توى الرفيع بتع���دد انتماءاتهم القومي���ة والدينية‪ .‬وكمثال‬ ‫على ذلك‪ ،‬فإن مدرس���ة "إش���ق" (‪ )Işık‬في ميلبورن‪ ،‬التي صار‬

‫اس���مها ابت���داء من هذه الس���نة "‪ ،"Sirius‬صنفت الس���نة الماضية‬ ‫ف���ي المرتب���ة الثانية على مس���توى والي���ة فيكتوري���ا (عاصمتها‬ ‫ميلبورن) من بين ما يقارب ‪ 500‬مدرسة أسترالية‪.‬‬ ‫امتدادا لهذه المجموعة المتنوعة‬ ‫لقد كانت رس���الة حراء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫م���ن الخدمات الت���ي تقدمها األجي���ال الذهبي���ة الجديدة لتلك‬ ‫البالد بكل الحب‪ .‬فمراكز الحوار المجتمعي التي تجمع كافة‬ ‫فرق���اء الوطن الواحد إل���ى مائدة اللقاء المش���ترك‪ ،‬والمدارس‬ ‫التي أصبحت مش���اتل لزراعة بذور الوفاق والسلم العالميين‪،‬‬ ‫والمؤسس���ات األكاديمي���ة والمدني���ة الت���ي تخ���دم المس���لمين‬ ‫ومجتمعاته���م الجديدة‪ ،‬كلها حلقات متصلة في هذه السلس���ة‬ ‫الذهبية من "الخدمة" في تلك الربوع الخضراء‪.‬‬

‫تشييد صرح الروح في أندونيسيا‬

‫ندوة "ونحن نقيم صرح الروح"‪ ،‬جاكارتا‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬سعيد شبار‪ ،‬المغرب‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪60‬‬

‫ومن أستراليا‪ ،‬إلى الضفة األخرى للمحيط الهادئ‪ ،‬أندونيسا‪...‬‬ ‫غالبا ما‬ ‫ذل���ك األرخبي���ل الممت���د م���ن آالف الجزائر‪ ،‬وال���ذي ً‬ ‫ُيذكر عالمة على أقصى نقطة في بالد المسلمين‪ُ ،‬فيسمع عنها‬ ‫أو ُيق���رأ عند مال���ك بن نبي وهو يتحدث ع���ن "محور طنجة‪-‬‬ ‫ذكر بأبعاد "مؤتمر باندونغ"‪.‬‬ ‫جاكرتا"‪ ،‬أو ُي ِّ‬ ‫غير أن الميزة األهم لتلك البالد‪ ،‬هي قصة اإلس�ل�ام فيها‪،‬‬ ‫الت���ي ال عالق���ة لها بالقوة‪ .‬قصة اإلس�ل�ام في تل���ك البالد هي‬ ‫قصة فاتحي القلوب واألرواح‪ ...‬التجار العرب المسلمين من‬ ‫حضرموت وعمان‪ ،‬ثم من الهند‪ ،‬ومن س���بقهم من تجار تلك‬ ‫الج���زر الذين قدم���وا إلى بغداد زمن الخليفة العباس���ي هارون‬ ‫الرشيد‪ ،‬فعادوا يحملون في قلوبهم بذور اإلسالم األولى‪ ،‬التي‬ ‫أنبتت بعد ذلك على أرض تلك البالد النائية المترامية األطراف‪،‬‬ ‫أكبر بلد مسلم في العالم اليوم‪ ،‬يعيش فيه قرابة الـ‪ %15‬منهم‪.‬‬ ‫فلي���س أعل���م منهم بأهمي���ة بناء ال���روح‪ ،‬تلك الت���ي كانت‬


‫ومن تركيا األس���تاذ مصطفى أوزجان واألستاذ نوزاد صواش‪.‬‬

‫حدودا‪،‬‬ ‫فكأنم���ا ه���ي األمة الواح���دة التي ال تع���رف رس���التها‬ ‫ً‬

‫تتجلى إشراقاتها في تلك المفاوز النائية‪.‬‬

‫افتت���ح المؤتم���ر بكلم���ة مفت���ي الق���ارة األس���ترالية فضيل���ة‬

‫الدكتور إبراهيم أبو محمد‪ ،‬التي تمحورت حول النبي األكرم‬

‫منيرا‪ ،‬استنارت البشرية بسناه خالل النصف‬ ‫‪ ‬بوصفه‬ ‫ً‬ ‫سراجا ً‬ ‫الثاني من تاريخها‪ ،‬فكان مبعثه إيذا ًنا بمرحلة جديدة من عمر‬ ‫اإلنس���انية‪ .‬بع���د ذل���ك توالت المداخ�ل�ات العلمي���ة للمؤتمر‪.‬‬ ‫الدكتور محمد عبد اهلل الشرقاوي أستاذ ورئيس قسم الفلسفة‬

‫ندوة "ونحن نقيم صرح الروح"‪ ،‬جاكارتا‪.‬‬

‫اإلس�ل�امية ومقارنة األديان بكلي���ة دار العلوم بجامعة القاهرة‪،‬‬

‫كان موضوع مداخلته هو مقومات بناء مجتمع مثالي من خالل‬ ‫المنهاج النبوي‪ ،‬حيث فصلت مداخلته في األسس التي عليها‬

‫قام هذا المجتمع المثالي بالفعل‪ ،‬س���واء في نس���يجه الذاتي أو‬ ‫في عالقاته بغيره من المجتمعات‪ .‬أما األس���تاذ نوزاد صواش‬

‫فبين من خ�ل�ال مداخلته‬ ‫المش���رف الع���ام عل���ى مجلة ح���راء‪ّ ،‬‬ ‫التي انس���ابت متدفقة بلغة أنيقة‪ ،‬معالم المنهاج النبوي في فن‬

‫مستعرضا مواقف مضيئة من سيرة المصطفى‬ ‫كس���ب القلوب‪،‬‬ ‫ً‬

‫‪ ‬ف���ي فتح القلوب وكس���ب معركتها التي تف���وق في أهميتها‬ ‫أي معركة سواها‪ ،‬لتختتم الجلسة مع الكلمات الدالة لفضيلة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬قمر الدين هدايت‪ ،‬رئيس جامعة شريف هداية اهلل اإلسالمية‪ ،‬جاكرتا‪.‬‬

‫الشيخ يحيى صافي إمام وخطيب جامع الكمبا بـ"سيدني"‪.‬‬

‫ث���م كانت الجلس���ة الثانية الت���ي افتتحها األس���تاذ مصطفى‬

‫أوزج���ان مستش���ار مجل���ة ح���راء‪ ،‬بكلم���ة جامعة ح���ول معاني‬

‫المبعث النبوي رحمة للعالمين‪ ،‬ومسؤوليات اإلنسان المسلم‬ ‫مبرزا أمثلة من‬ ‫ع���ن تحقيق مقتضى تلك الرحمة في مجتمعه‪ً ،‬‬

‫فك���ر األس���تاذ فتح اهلل كول���ن المبثوثة في كتب���ه‪ ،‬والمتجلية في‬

‫حرك الدكتور‬ ‫"الخدمة" التي يؤديها طالبه عبر العالم‪ .‬وبدوره ّ‬ ‫محم���د باباعم���ي مدي���ر معه���د المناه���ج بالجزائ���ر المش���اعر‪،‬‬

‫د‪ .‬علي أونصال‪ ،‬مدير كرسي األستاذ فتح اهلل كولن بجامعة شريف هداية اهلل اإلسالمية‪ ،‬جاكرتا‪.‬‬

‫بحديث���ه عن القواع���د الكلية لبناء الحضارة من خالل الس���يرة‬

‫مس���تعيدا نم���وذج الصحب الكرام في تفس���ير جديد‪،‬‬ ‫النبوي���ة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يجعل كل مس���لم في تلك البالد يتمثل مسؤوليات "الصحبة"‪.‬‬

‫أم���ا الدكتور س���مير بودين���ار مدير مركز الدراس���ات والبحوث‬ ‫اإلنسانية واالجتماعية بالمغرب‪ ،‬فكانت مداخلته عن المنهاج‬ ‫النبوي وعالمية العالقات اإلنسانية‪ ،‬منطل ًقا من خاصية الختم‬ ‫في رسالة النبي ‪ ‬وعالقتها بعالمية دعوته‪.‬‬

‫ف���ي مدين���ة ميلب���ورن الت���ي انتق���ل إليها وف���د ح���راء بمعية‬

‫األس���تاذ محمد ياووزالر‪ ،‬انعقد المؤتمر الثاني لحراء بتعاون‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عمار جيدل‪ ،‬الجزائر‪.‬‬

‫‪59‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫فوق ربوع أستراليا‬

‫عل���ى م���دار األيام الخمس���ة بي���ن الس���ابع والحادي عش���ر من‬

‫فبراير ‪ 2013‬كانت "حراء" هناك‪ ...‬في أس���تراليا‪ ،‬تتابع مس���ير‬

‫الركب المنطلق في ربوعها الخضراء الشاس���عة‪ ،‬وتتواصل مع‬ ‫الجمهور األسترالي من خالل مؤتمريها الكبيرين في "سيدني"‬ ‫و"ميلبورن"‪ ،‬المنعقدين ضمن سلسلة "مؤتمرات حراء"‪.‬‬

‫فباإلضافة إلى برنامج لقاءاته وزياراته المتنوع للمؤسسات‬

‫مؤتمر حراء‪ ،‬سيدني‪ ،‬أستراليا‪.‬‬

‫اإلس�ل�امية والتعليمي���ة والثقافية ومراكز الحوار في أس���تراليا‪،‬‬ ‫ش���ارك وف���د ح���راء ال���ذي ترأس���ه األس���تاذ مصطف���ى أوزجان‬ ‫مستش���ار المجلة‪ ،‬وضم األستاذ نوزاد صواش المشرف العام‬ ‫عل���ى المجلة‪ ،‬ومجموعة من "علماء ح���راء" من األكاديميين‪،‬‬

‫ف���ي مؤتمري���ن علميي���ن موضوعهم���ا "المنه���اج النب���وي‪ :‬م���ن‬ ‫اإلنسان القدوة إلى المجتمع المثالي"‪.‬‬

‫مدينة س���يدني‪ ،‬الجامعة بين سحر طبيعتها الخالبة‪ ،‬ودفء‬

‫المش���اعر المنبثق���ة من قل���وب أبنائها الجدد ونض���ارة عزمهم‪،‬‬ ‫احتضن���ت ي���وم ‪ 9‬فبراي���ر المؤتمر األول‪ ،‬المنظم بش���راكة بين‬

‫أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم أبو محمد‪ ،‬مفتي أستراليا العام‪.‬‬

‫مجلة حراء ومؤسسة "إسرا" (‪)ISRA‬‬

‫األكاديمية التي تنشط في‬

‫مرجعا‬ ‫مجاالت التعريف باإلسالم في أستراليا‪ ،‬حتى صارت‬ ‫ً‬

‫ف���ي قضاياه لكثير من الجهات العلمي���ة والحكومية‪ ،‬بفضل ما‬ ‫أنتجت���ه من دراس���ات حول موضوع���ات اإلس�ل�ام واالندماج‬ ‫وش���ؤون المس���لمين في البالد‪ ،‬وما تعقده من دورات تدريب‬

‫لألس���اتذة والطالب من أبناء المس���لمين بالبالد‪ ،‬الذين يعدون‬

‫بمئ���ات اآلالف (يمثل���ون ‪ %2,2‬من مجموع س���كان البالد)‪...‬‬

‫المؤتم���ر ال���ذي كان مح���ط اهتمام وس���ائل اإلع�ل�ام المحلية‪،‬‬ ‫واس���تضافت محط���ات اإلذاع���ة ضيوف���ه للحدي���ث معهم عن‬

‫أ‪.‬د‪ .‬محمد باباعمي‪ ،‬الجزائر‪.‬‬

‫مضامين���ه‪ ،‬م َّثل اس���تعادة حية لمفهوم األم���ة الواحدة وروحها‬ ‫الجامعة‪ .‬فهو قد انعقد في أس���تراليا‪ ،‬الجزء الجديد من "عالم‬

‫الخدم���ة"‪ ،‬والمجتم���ع المتواض���ع ف���ي انفتاح���ه عل���ى اآلخ���ر‬ ‫واهتمامهة بالتعرف على كل جديد‪ ...‬ومن هنا تجليه كمجال‬

‫للفرص الواعدة أمام خطاب اإلس�ل�ام لإلنس���ان إذا ما أحسن‬

‫تقديم مضمونه بالحكمة‪ ،‬ونشر دعوته بالتلطف والحسنى‪.‬‬

‫ث���م إن المؤتم���ر ق���د تمي���ز بحض���ور وازن لقي���ادات البالد‬

‫الدينية والعلمية‪ ،‬وبمش���اركة أس���اتذة من مختلف أنحاء العالم‬

‫اإلس�ل�امي؛ حيث حاضر من العالم العربي البروفيسور محمد‬

‫أ‪.‬د‪ .‬محمد عبد اهلل الشرقاوي‪ ،‬مصر‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪58‬‬

‫عب���د اهلل الش���رقاوي م���ن مص���ر‪ ،‬والدكت���ور محمد بن موس���ى‬

‫باباعم���ي من الجزائر‪ ،‬والدكتور س���مير بودين���ار من المغرب‪،‬‬


‫أنشطة ثقافية‬ ‫د‪ .‬سمير بودينار*‬

‫رسالة حراء الخفاقة في اآلفاق واألنفس‬ ‫عل���ى الرب���وع الشاس���عة أطل���ت بالح���ب‪...‬‬ ‫متنتقل���ة كالنحلة الدؤوبة المعطاء بين الرياض‬

‫المزهرات في كل األنحاء‪ ،‬على نأي المسافات‬

‫وتباعد الديار بين األقطار‪ ،‬بل القارات‪ .‬إذا كان العسل المص ّفى‬

‫خالصة رحيق الزهر‪ ،‬فإن ش���هد "حراء"‪ ،‬ثمرة الحب المتبادل‬ ‫بينه���ا وبي���ن جمهورها الواس���ع ف���ي كل مكان‪ .‬وحيثم���ا ُو ِجد‬

‫جمهور حراء ح ّلت ملبية‪ ،‬واصلة رحم المعنى ووشائج الفكر‪.‬‬ ‫وعل���ى هذا كان اللقاء‪ ...‬في أكثر من دولة وقارة ومؤتمر‪،‬‬

‫من مشرق الشمس في أستراليا‪ ،‬وعلى ربوع أرخبيل أندونيسيا‪،‬‬ ‫إل���ى موطن الجمال في البوس���نة‪ .‬واصلة "حراء" ما انقطع من‬ ‫ص�ل�ات العرف���ان والحكم���ة‪ ،‬ومخاطبة جموع المس���لمين في‬ ‫تلك البالد‪ ،‬وغير المس���لمين كذلك من أرباب العقول الوثابة‬ ‫للمعرف���ة‪ ،‬والنف���وس المتزن���ة بالفض���ل في كل م���كان‪ ،‬تحقي ًقا‬ ‫لمقص���د التعارف بين الناس من ش���عوب األرض‪ ...‬أما كانت‬ ‫حراء دوما محضن الرسالة للعالمين؟!‬

‫‪57‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫واالسترواح في ظلها؛ ألن التزكية بهذا المقترب القرآني ذات‬ ‫حمولة وظيفية وليست فقط استيطيقية‪.‬‬

‫‪Reza Afshari an Essay on islamic cultural relativism in the discourse‬‬ ‫‪of Human Rights.‬‬

‫‪Douglas Hodgson, Individual duty Within a Human Right‬‬

‫جـ‪ -‬الجزاء‪:‬‬

‫وهن���ا يب���رز دور المس���ؤولية والمحاس���بة؛ إذ ب���رز أن على‬

‫اإلنسان مسؤولية العمل في ذاته وفي محيطه‪ ،‬وفق قيم الوحي‬ ‫مكنه من‬ ‫الحاكمة وشرائعه‬ ‫زود بالقدرات التي ُت ّ‬ ‫ِّ‬ ‫الموجهة‪ .‬وقد ِّ‬

‫مس���خرا له‪ ،‬وكان‬ ‫ال لفعله‬ ‫االضط�ل�اع بذلك‪ ،‬وكان الكون قاب ً‬ ‫ً‬ ‫اب‬ ‫���را له‬ ‫﴿و َن َّز ْل َنا َع َل ْي َك ا ْل ِك َت َ‬ ‫متستجيبا لتس���اؤالته‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫الوحي ُم َي َّس ً‬ ‫ين﴾(النحل‪.)89:‬‬ ‫ِت ْب َيا ًنا ِل ُك ِّل َش ْي ٍء َو ُه ًدى َو َر ْح َم ًة َو ُب ْش َرى ِل ْل ُم ْس ِل ِم َ‬ ‫فإن ذلك يس���تتبع المحاسبة التي ُيجزى بمقتضاها المحسنون‬ ‫عن إحس���انهم‪ ،‬والمسيئون عن إساءتهم‪ .‬وهذا البناء هو الذي‬ ‫يحرر الشعور المتسامي بالواجب‪ ،‬وهو شعور انزرع في نفوس‬

‫المس���لمين‪ ،‬فأثمر المس���لكيات والممارسات التي رفعت‪ ،‬في‬ ‫جمالي���ة ص���رح الحض���ارات والثقاف���ات اإلس�ل�امية المتنوعة‪.‬‬ ‫وه���و ما انتب���ه إليه الباحث األمريك���ي ‪Jason Morgan Foster‬‬

‫حي���ن ق���ال‪" :‬وألن الواجبات لها مركزية في االعتقاد والتطبيق‬

‫(‪ )7‬انظر ‪ Jason Morgan Foster‬كتاب جامعة ييل عن حقوق اإلنسان والتنمية ‪.69/8‬‬ ‫‪Ben Saul, Supra-note 62, at 616.‬‬

‫آلد َم َفس َج ُدوا ِإ َّ ِ‬ ‫﴿وإ ِْذ ُق ْل َنا ِل ْلم َ ِ ِ‬ ‫ان ِم َن‬ ‫اس َتكْ َب َر َو َك َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬ ‫يس َأ َبى َو ْ‬ ‫الئكَ ة ْ‬ ‫َ‬ ‫اس ُج ُدوا َ َ‬ ‫ال إ ِْبل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َه‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ع‬ ‫ق‬ ‫ف‬ ‫ي‬ ‫وح‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫خ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫ا‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫ف‬ ‫﴿‬ ‫وقوله‪:‬‬ ‫‪،‬‬ ‫(البقرة‪)34:‬‬ ‫﴾‬ ‫ين‬ ‫ين‬ ‫د‬ ‫اج‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ َّ ْ ُ ُ َ َ َ ْ ُ‬ ‫الْكَ ا ِفرِ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ​َُ ُ َ‬ ‫‪‬‬ ‫ون﴾(ص‪ ،)73-72:‬وقوله ‪ ‬عند طوافه بالكعبة‪" :‬ما‬ ‫���ج َد ال َْم َ‬ ‫ال ِئكَ ُة ُكل ُ​ُّه ْم َأ ْج َم ُع َ‬ ‫َف َس َ‬ ‫أطيبك وأطيب ريحك‪ ،‬ما أعظمك وأعظم حرمتك‪ .‬والذي نفس محمد بيده لحرمة‬ ‫المؤم���ن أعظ���م عن���د اهلل حرمة منك" (رواه اب���ن ماجة وصحح���ه األلباني في صحي���ح الترغيب‬ ‫‪ .)630/2‬وقول���ه ‪" :‬كل المس���لم على المس���لم ح���رام دمه وعرض���ه وماله" (أخرجه‬

‫مس���لم رق���م الحدي���ث ‪ ،)2564‬وغي���ر ذلك من اآلي���ات الكريمات واألحاديث الش���ريفة‪.‬‬ ‫(‪ )10‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة ‪.10/2‬‬

‫(‪)11‬‬ ‫ين﴾(المومنون‪،)12:‬‬ ‫﴿و َل َق ْد َخ َل ْق َنا ا ِ‬ ‫ال َل ٍة ِم ْن ِط ٍ‬ ‫ان ِم ْن ُس َ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫من أدلة ذلك قوله تعالى‪َ :‬‬

‫ٍ‬ ‫إل ْنس ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ين﴾(السجدة‪،)7:‬‬ ‫ان ِم ْن ِط ٍ‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬ا َّلذي أ ْح َس َن ُك َّل َش ْيء َخ َل َق ُه َو َب َدأ َخ ْل َق ا ِ َ‬ ‫���ن ٍ‬ ‫���ان ِم ْن َص ْل َص ٍ‬ ‫ون﴾(الحجر‪،)26:‬‬ ‫﴿و َل َق ْد َخ َل ْق َنا ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫ال ِم ْن َح َم ٍإ َم ْس ُ‬ ‫وقوله س���بحانه‪َ :‬‬ ‫ون﴾(الروم‪.)20:‬‬ ‫﴿و ِم ْن َآيا ِت ِه َأ ْن َخ َل َقكُ ْم ِم ْن ُت َر ٍ‬ ‫اب ُث َّم ِإ َذا َأ ْن ُت ْم َب َش ٌر َت ْن َت ِش ُر َ‬ ‫وقوله ‪َ :‬‬ ‫(‪ )12‬انظ���ر بهذا الخصوص‪ ،‬كتاب اإلس�ل�ام وهموم الن���اس‪ ،‬أحمد عبادي‪ ،‬كتاب األمة‬ ‫أيضا نماذج عائش���ة رضي اهلل عنها‪ ،‬وأبي ذر‪،‬‬ ‫الع���دد‪ ،49:‬الدوح���ة ‪1996‬م‪ .‬وانظر ً‬ ‫والحس���ين بن علي‪ ،‬وعبد اهلل بن الزبير من الصحابة ‪ ،‬وفي جيل التابعين نماذج‬

‫س���عيد بن جبير‪ ،‬وأبي مس���لم الخوالني‪ ،‬وفي جيل أتباع التابعين نماذج أبي حنيفة‪،‬‬

‫البس���يطة إل���ى الواجب���ات التي نراها ف���ي اإلعالن���ات العالمية‬

‫ومالك‪ ،‬وسفيان الثوري‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫أن���ه س���ئل ع���ن طلب العل���م أفرض ه���و؟ فقال‪" :‬أم���ا على كل‬

‫الناس فال" يعني به الزائد على ما ال يس���ع المس���لم جهله من‬ ‫أيضا‪" :‬أما من كان فيه موضع لإلمامة‬ ‫أركان وغيره���ا‪ ...‬وقال ً‬ ‫فاالجته���اد ف���ي طلب العل���م عليه واجب‪،‬‬ ‫واألخ���ذ في العناية‬ ‫ُ‬

‫بالعلم على قدر النية فيه"(‪ ،)23‬فانظر إلى هذه الدقة في التمييز‬

‫بين الواجب ومناطه‪.‬‬

‫ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َو َما ِف���ي ا َ‬ ‫َ‬ ‫ض َو َأ ْس َ���ب َغ َع َل ْيكُ ْم‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���ر ْوا َأ َّن ا َ‬ ‫هلل َس َّ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫���خ َر لَكُ ْ‬ ‫﴿أل ْ‬ ‫َ���م َت َ‬ ‫���م َما في َّ‬ ‫اه���ر ًة َو َب ِ‬ ‫ِن َعم ُ ِ‬ ‫اس َم ْن ُي َجا ِدلُ ِفي ا ِ‬ ‫اب‬ ‫ال ُه ًدى َو َ‬ ‫هلل ب َِغ ْي���رِ ِع ْل ٍم َو َ‬ ‫ال ِك َت ٍ‬ ‫الن ِ‬ ‫اط َن��� ًة َو ِم َن َّ‬ ‫َ‬ ‫���ه ظَ َ‬ ‫ُم ِنيرٍ ﴾(لقمان‪.)20:‬‬

‫(‪ )14‬أحمد عبادي‪ ،‬مفهوم الترتيل في القرآن المجيد‪ :‬النظرية والمنهج‪.‬‬

‫ال ِل ُي َقرِّ ُبو َنا ِإلَى‬ ‫﴿ما َن ْع ُب ُد ُه ْم ِإ َّ‬ ‫كاتخاذ كفار مكة األصنام واس���ط ًة‪ ،‬وقو ِلهم‪َ :‬‬ ‫ا ِ‬ ‫هلل ُز ْل َفى﴾(الزمر‪.)3:‬‬

‫(‪)15‬‬

‫(‪ )16‬مف���ردات ألف���اظ الق���رآن‪ ،‬تحقي���ق عدن���ان داوودي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمش���ق‪ ،‬الطبعة‪،3:‬‬ ‫‪1423‬هـ‪2002/‬م‪ ،‬ص‪.224:‬‬

‫(‪ )17‬التعريفات‪ ،‬تحقيق األبياري‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬ط‪1985:‬م‪ ،‬ط‪.116:‬‬ ‫(‪ )18‬التحرير والتنوير‪ ،‬الشركة التونسية للتوزيع‪.26/3 ،‬‬ ‫(‪)19‬‬

‫حرية الفكر في اإلسالم‪ ،‬ص‪.73:‬‬

‫(‪)20‬‬

‫أحمد الريسوني في العيد من حواراته‪.‬‬

‫(‪ )21‬الطاهر بن عاشور‪ ،‬أصول النظام االجتماعي في اإلسالم‪ ،‬دار الكتاب‪ ،‬تونس‪ ،‬ط‬ ‫‪1977‬م‪ ،‬ص‪.162:‬‬

‫(*) األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫‪Kimberly younce schooley, Comment, cultural Sovreignty, Islam‬‬ ‫‪and Human Rights, Toward a communitarian Revision.‬‬

‫‪Abdullah Ahmed An-Naim: Human Right in The Muslim World.‬‬ ‫(‪ )3‬في كتابه ‪Multicultiralism and the politic of recognition‬‬

‫‪YALE, human rights and development, Vol.8 pp.106.‬‬ ‫)‪(1‬‬

‫‪56‬‬

‫)‪(10‬‬

‫(‪ )22‬الموافقات‪.282/1 ،‬‬ ‫تعبيرا عن المقصد الكلي لإلس�ل�ام‪ ،‬في جوابه لرس���تم بعد أن‬ ‫(‪ )23‬قال ربعي بن عامر‬ ‫ً‬

‫)‪(2‬‬

‫"ابت ِعثنا لنخرج من ش���اء من عبادة العباد إلى عبادة اهلل‬ ‫س���أله‪" :‬لم جئتم؟" قال ‪ُ :‬‬

‫)‪(4‬‬

‫فما بعدها‪ ،‬أحداث سنة ‪ 14‬هجرية‪.‬‬

‫‪Fernando Teson; International Human Right, and cultural relativism.‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫وف���ي الق���رآن الكري���م نس���يج متكامل ف���ي اآليات به���ذا الصدد‪ ،‬منها قول���ه تعالى‪:‬‬

‫(‪)13‬‬

‫مجم ُلها من مدخل الواجب"(‪.)22‬‬

‫م���ا انتب���ه إليه ه���ذا الباحث‪ .‬منه���ا ما جاء ع���ن إمامنا مالك ‪‬‬

‫)‪(8‬‬

‫(‪ )9‬ومن ذلك الوفرة في اآليات واألحاديث التي واكبت التنشئة والتشريع‪ ،‬من مثل قوله‬

‫تركيبا م���ن اإلحاالت‬ ‫اإلس�ل�امية‪ ،‬وهم���ا إل���ى ح���د بعيد أكث���ر‬ ‫ً‬

‫وف���ي التراث العلمي اإلس�ل�امي وفرة من الش���واهد تؤكد‬

‫)‪(6‬‬

‫‪Discourse pp: 41- 60, 2003.‬‬

‫اإلس�ل�اميين‪ ،‬فإن لغ���ة وبني���ة الواجبات تطورت في الش���ريعة‬

‫لحقوق اإلنس���ان‪ ،‬فالشريعة اإلسالمية عبارة عن مخطط عمل‬ ‫اجتماعي عقالني المعنى لكل أفعال المسلمين‪ ،‬والتي قد ُأ ّطر‬

‫)‪(5‬‬

‫وح���ده‪ "...‬اب���ن جرير الطبري‪ ،‬تاريخ األمم والملوك‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪1979‬م‪23/3 ،‬‬


‫وقال الجرجاني صاحب التعريفات‪" :‬الحرية في اصطالح‬

‫أهل الحقيقة‪ :‬الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العالئق‬

‫واألغيار‪ ،‬وهي على مراتب‪ :‬حرية العامة عن رق الش���هوات‪.‬‬

‫وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق‪.‬‬ ‫رق الرسوم واآلثار النمحاقهم في‬ ‫وحرية خاصة الخاصة عن ّ‬

‫تج ّلي نور األنوار"(‪.)17‬‬

‫ال إ ِْك َر َاه‬ ‫وه���و م���ا ينص عليه الق���رآن الكريم ف���ي اآلي���ة‪َ ﴿ :‬‬ ‫وه���ا َو َأ ْن ُت ْم َل َها‬ ‫الد ِ‬ ‫ِف���ي ِّ‬ ‫ين﴾(البق���رة‪ ،)256:‬وف���ي اآلي���ة‪َ ﴿ :‬أ ُن ْل ِز ُم ُك ُم َ‬ ‫���ن َر ِّب ُك ْم َف َم ْن‬ ‫َكارِ ُه َ‬ ‫﴿و ُق ِل ا ْل َح ُّق ِم ْ‬ ‫ون﴾(ه���ود‪ ،)28:‬وك���ذا اآلي���ة‪َ :‬‬ ‫َش َاء َف ْل ُي ْؤ ِم ْن َو َم ْن َش َاء َف ْل َي ْك ُف ْر﴾(الكهف‪،)29:‬وفي اآلية‪﴿ :‬إ َِّن َه ِذ ِه‬ ‫ال﴾(اإلنس���ان‪ ،)29:‬وفي اآلية‪:‬‬ ‫���اء َّات َخ َذ ِإ َلى َر ِّب ِه َسبِي ً‬ ‫َت ْذ ِك َر ٌة َف َم ْن َش َ‬ ‫ين﴾(يون���س‪ ،)99:‬وفي‬ ‫﴿ َأ َف َأ ْن َ‬ ‫���ت ُت ْك ِر ُه َّ‬ ‫���اس َح َّتى َي ُكو ُن���وا ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫الن َ‬ ‫اآلية‪َ ﴿ :‬ل ْس َت َع َل ْيهِ ْم ب ُِم َس ْي ِطرٍ ﴾(الغاشية‪.)22:‬‬ ‫وق���د س���يقت كلم���ة "إك���راه" بالتنكي���ر ف���ي قول���ه تعال���ى‪:‬‬ ‫ي���ن﴾‪ ،‬والتنكير عند علم���اء األصول‪ ،‬يفيد‬ ‫﴿ َ‬ ‫الد ِ‬ ‫���ر َاه ِف���ي ِّ‬ ‫ال إ ِْك َ‬ ‫االس���تغراق ل���كل مرتبة أو نوع من اإلك���راه‪ .‬قال اإلمام محمد‬ ‫الطاه���ر بن عاش���ور ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬في تفس���ير آي���ة نفي اإلكراه؛‬

‫نصا‪ ،‬وهي‬ ‫البق���رة ‪" :256‬ج���يء بنف���ي الجنس لقصد العم���وم ًّ‬ ‫دليل إبطال اإلكراه بسائر أنواعه؛ ألن أمر اإليمان يجري على‬

‫االستدالل والتمكين من النظر"(‪.)18‬‬

‫وم���ا أجم���ل ما قال عب���د المتع���ال الصعيدي به���ذا الصدد‬

‫في كتابه "حرية الفكر في اإلس�ل�ام"‪" :‬مثل المرتد مثل الكافر‬

‫األصلي في الدعوة إلى اإلسالم‪ ،‬فكما ُي ْد َعى الكافر األصلي‬ ‫في اإلس�ل�ام بالحكمة والموعظة الحس���نة ويجادل بالتي هي‬

‫أحسن‪ ،‬كذلك يدعى المرتد إلى العودة إلى اإلسالم بالحكمة‬ ‫والموعظة الحس���نة ويجادل بالتي هي أحس���ن‪ ،‬وال يكره على‬

‫الع���ودة إليه بوس���يلة من وس���ائل اإلكراه‪ ،‬كما ال يك���ره الكافر‬

‫األصلي على اإلسالم بهذه الوسائل أيضا"(‪.)19‬‬

‫وقد أحسن بعض الدارسين حين فكك الردة إلى قسمين‪:‬‬

‫مركبة‪ ،‬فيها االرتداد عن الدين ومفارقة الجماعة والعمل على‬ ‫إلحاق األذى بها‪ ،‬وردة بس���يطة فيها االرتداد عن الدين فقط‪.‬‬

‫وق���د ذه���ب العلماء إل���ى أن الردة غي���ر المركبة تج���ري عليها‬ ‫ين﴾(‪.)20‬‬ ‫أحكام قوله تعالى‪َ ﴿ :‬‬ ‫الد ِ‬ ‫ال إ ِْك َر َاه ِفي ِّ‬ ‫فالحري���ة في المنظومة التش���ريعية اإلس�ل�امية هي األصل‪،‬‬ ‫ق���ال محم���د الطاه���ر بن عاش���ور‪" :‬الحرية وصف فطري نش���أ‬ ‫عليه البشر‪ ،‬وبه تصرفوا في أول وجودهم على األرض‪ ،‬حتى‬

‫حدثت بينهم المزاحمة‪ ،‬فحدث التحجير"(‪.)21‬‬

‫بـ‪ -‬التكليف‪:‬‬

‫يبرز اإلنس���ان في منظومة اإلس�ل�ام االعتقادية والتصورية‪،‬‬ ‫المؤهل الذي تعبر منه القيم واألخالق‪،‬‬ ‫باعتباره الجسر الكوني‬ ‫َّ‬ ‫والتش���ريعات الحامل���ة لم���راد اهلل التكليفي من اإلنس���ان تجاه‬ ‫نفسه ومحيطه الكوني‪ ،‬إلى البعدين الزماني والمكاني‪ ،‬لتصبح‬ ‫ج���زءا من التاريخ والحياة‪ .‬ويب���رز التكليف الملقى على عاتق‬ ‫ً‬ ‫اواتِ‬ ‫َ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫ه���ذا المخلوق (األمانة)‪ِ ﴿ :‬إ َّنا َع َر ْض َنا األ َما َن َة َع َلى َّ‬ ‫َوا َ‬ ‫ض َوا ْل ِجب ِ‬ ‫���ن َأ ْن َي ْح ِم ْل َن َها َو َأ ْش��� َف ْق َن ِم ْن َها َو َح َم َل َها‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���ال َف َأ َب ْي َ‬ ‫َ‬ ‫ال﴾(األح���زاب‪ ،)72:‬باعتباره تكلي ًفا‬ ‫وما َج ُهو ً‬ ‫ا ِ‬ ‫���ه َك َ‬ ‫إل ْن َس ُ‬ ‫���ان ِإ َّن ُ‬ ‫ان َظ ُل ً‬ ‫حدودا‪ ،‬إذ الكون كله في هذه المنظومة‬ ‫حص���را وال‬ ‫ال يع���رف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مس���رح لفعل اإلنس���ان وعتاد له‪ .‬فالنوع اإلنساني كله موضوع‬ ‫فعله األخالقي‪ ،‬كما الكون كله‪.‬‬ ‫وتب���رز مقوم���ات القي���ام بالواج���ب ف���ي ه���ذه المنظوم���ة‬ ‫االعتقادية والتصورية من خالل‪:‬‬ ‫هلل‬ ‫﴿وا ُ‬ ‫‪ -1‬تزويد اإلنس���ان بالعقل وجعله من���اط التكليف‪َ :‬‬ ‫ِ ُ ِ‬ ‫َ‬ ‫ون َش ْ���ي ًئا َو َج َع َل َل ُك ُم‬ ‫���م َ‬ ‫ال َت ْع َل ُم َ‬ ‫���م ِم ْ‬ ‫���ن ُب ُط���ون أ َّم َهات ُك ْ‬ ‫أ ْخ َر َج ُك ْ‬ ‫ار َوا َ‬ ‫الس ْم َع َوا َ‬ ‫ون﴾(النحل‪.)78:‬‬ ‫أل ْف ِئ َد َة َل َع َّل ُك ْم َت ْش ُك ُر َ‬ ‫أل ْب َص َ‬ ‫َّ‬ ‫‪ -2‬المواءم���ة بي���ن اإلنس���ان والكون من جهة "التس���خير"‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َو َم���ا ِف���ي ا َ‬ ‫ض َج ِم ًيعا‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫﴿و َس َّ‬ ‫���م َ‬ ‫َ‬ ‫الس َ‬ ‫���خ َر َل ُك ْ‬ ‫���م َم���ا ف���ي َّ‬ ‫ِم ْن ُه﴾(الجاثية‪ ،)13:‬وبين اإلنسان والوحي من جهة ثانية "التيسير"‪:‬‬ ‫لذ ْك ِر َف َه ْل ِم ْن ُم َّد ِكرٍ ﴾(القمر‪.)40:‬‬ ‫آن ِل ِّ‬ ‫﴿و َل َق ْد َي َّس ْر َنا ا ْل ُق ْر َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫إل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫���ن‬ ‫ج‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫���ت‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫���ا‬ ‫م‬ ‫﴿و‬ ‫الخل���ق‪:‬‬ ‫قصدي���ة‬ ‫‪-3‬‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫���س ِإ َّ‬ ‫َ​َ َ ْ ُ‬ ‫َّ َ ْ َ‬

‫يد َأ ْن ُي ْط ِع ُم ِ‬ ‫ِلي ْعب ُد ِ‬ ‫ون ‪ ‬إ َِّن‬ ‫يد ِم ْن ُه ْم ِم ْن رِ ْز ٍق َو َما ُأرِ ُ‬ ‫ون ‪َ ‬ما ُأرِ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين﴾(الذاريات‪.)58-56:‬‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ذ‬ ‫اق‬ ‫ز‬ ‫الر‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ا َ‬ ‫هلل ُ َ َّ َّ‬ ‫ُ َّ َ ُ‬ ‫‪ -4‬بنائي���ة الش���رع والعقي���دة ووحدتهم���ا ومفهوميتهم���ا‪،‬‬ ‫فمقاصدهم���ا‪ ،‬وأوامرهم���ا‪ ،‬ونواهيهما واضح���ة قابلة للتعقل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وتب ُّين‬ ‫ومتكامل���ة تحرر‬ ‫تماس���كا ُي ِّ‬ ‫ً‬ ‫مكن من تحدي���د األولويات َ‬ ‫مراتب األعمال‪.‬‬ ‫اها‬ ‫ويعتبر تكليف اإلنس���ان بتزكية نفسه‪َ ﴿ :‬ق ْد َأ ْف َل َح َم ْن َز َّك َ‬

‫اها﴾(الشمس‪ ،)10-9:‬إفادة بالتأسي ممن تم‬ ‫اب َم ْن َد َّس َ‬ ‫‪َ ‬و َق ْد َخ َ‬ ‫﴿ه َو ا َّل ِذي َب َع َث ِفي ا ُ‬ ‫ين‬ ‫تكليفه بريادة هذا الفعل‬ ‫عمرانيا‪ُ :‬‬ ‫أل ِّم ِّي َ‬ ‫ًّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫رس���و ً ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب‬ ‫���م ا ْل ِك َت َ‬ ‫َ ُ‬ ‫���م َو ُي َع ّل ُم ُه ُ‬ ‫���م َآياته َو ُي َز ّكيهِ ْ‬ ‫���م َي ْت ُل���و َع َل ْيهِ ْ‬ ‫ال م ْن ُه ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِين﴾(الجمعة‪.)2:‬‬ ‫ال ٍل ُمب ٍ‬ ‫َوا ْلح ْك َم َة َوإ ِْن َكا ُنوا م ْن َق ْب ُل َلفي َض َ‬ ‫يعتبر هذا التكليف‪ ،‬رافعة عملية تس���تند على الواجب إزاء‬ ‫واجتماعا من ضم���ان الحقوق‬ ‫ف���ردا‬ ‫الح���ق‪ ،‬لتمكين اإلنس���ان ً‬ ‫ً‬

‫‪55‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫في���ه التجان���ف ع���ن االقتص���ار عل���ى اإلس���تراتيجيات الفوقية‪،‬‬ ‫والتش���ريعات غي���ر المرفقة بالتدابي���ر اإلجرائي���ة التنزيلية على‬ ‫أرض الواقع‪ ،‬في مراعاة لكافة مقتضيات السياق‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬المرتكزات‬

‫يروم هذا المبحث األول‪ ،‬إبراز المرتكزات التي يتأسس عليها‬ ‫مقصد ضمان حقوق اإلنسان في اإلسالم‪.‬‬

‫أ‪ -‬التكريم‪:‬‬

‫بارزا من المعالم‬ ‫يشكل مبدأ التكريم اإللهي للبشر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫معلما ً‬ ‫ً‬ ‫الت���ي تس���تنبط منه���ا مقصدية ضم���ان حقوق اإلنس���ان‪ ،‬وذلك‬ ‫اه ْم ِفي‬ ‫﴿و َل َق ْد َك َّر ْم َنا َب ِني َ‬ ‫آد َم َو َح َم ْل َن ُ‬ ‫تأسيسا على قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫ف‬ ‫و‬ ‫ات‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫الط‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫اه‬ ‫ن‬ ‫ق‬ ‫ز‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫اه ْم َع َلى َك ِثيرٍ ِم َّم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َّ َ ُ‬ ‫���ر َ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َّ ّ َ‬ ‫ا ْل َب ِّ‬ ‫ال﴾(اإلس���راء‪ .)70:‬فحين يتم تجذير الوعي بالتكريم‬ ‫َخ َل ْق َن���ا َت ْف ِضي ً‬ ‫في كيان الفرد‪ ،‬وتتم مواكبة ذلك بإتاحة المقومات الديداكتيكية‬ ‫للتنش���ئة‪ ،‬والمقوم���ات التش���ريعية للنهوض والحماي���ة(‪ ،)9‬فإنه‬ ‫يسهل أن ينبثق في حالة تهديد هذا التكريم‪ ،‬مثل رد فعل عمر‬ ‫بن الخطاب ‪ ‬المشهور حين قال لعمرو بن العاص وقد ظلم‬ ‫قبطيا‪" :‬متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم‬ ‫أحرارا"(‪.)10‬‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ومن مقومات هذا التكريم في القرآن والسنة‪:‬‬

‫‪ -1‬اإليجاد‬ ‫‪ -2‬تكري � � ��م إحس � � ��ان التقويم‪ :‬وهو المش���ار إلي���ه في اآلية‬ ‫(‪)11‬‬

‫يم﴾(التين‪ ،)4:‬وكذا‬ ‫الكريمة‪َ ﴿ :‬ل َق ْد َخ َل ْق َنا ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫ان ِفي َأ ْح َس ِن َت ْق ِو ٍ‬ ‫﴿و َص َّو َر ُك ْم َف َأ ْح َس َن ُص َو َر ُك ْم﴾(التغابن‪.)3:‬‬ ‫اآلية‪َ :‬‬ ‫‪ -3‬تكري � � ��م إعظ � � ��ام الدور‪ :‬وه���و تكريم يظه���ر من خالل‬ ‫﴿ه َو َأ ْن َش َأ ُكم ِم َن ا َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫التكليف بإعمار األرض كما في اآلية‪ُ :‬‬ ‫ْ‬ ‫اكم ِفي ْا َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫اس َت ْع َم َر ُك ْم ِف َيها﴾(هود‪ ،)61:‬واآلية‪َ :‬‬ ‫َو ْ‬ ‫﴿و َل َق ْد َم َّك َّن ُ ْ‬ ‫ون﴾(األعراف‪،)10:‬‬ ‫ال َم���ا َت ْش ُ‬ ‫ِ���ش َق ِلي ً‬ ‫���ك ُر َ‬ ‫���م ِف َيه���ا َم َعاي َ‬ ‫َو َج َع ْل َن���ا َل ُك ْ‬ ‫وكذا اآلية‪﴿ :‬ا َّل ِذي َج َع َل َل ُكم ا َ‬ ‫ض َم ْه ًدا َو َس َ���ل َك َل ُك ْم ِف َيها‬ ‫أل ْر َ‬ ‫ُ‬ ‫ال﴾(طه‪.)53:‬‬ ‫ُس ُب ً‬ ‫ويس���جل به���ذا الصدد أن‬ ‫كبيرا حص���ل بعد فترة‬ ‫ً‬ ‫ارتكاس���ا ً‬ ‫التأسيس هذه‪ ،‬ألسباب متداخلة ال يتسع المقام هنا لذكرها(‪.)12‬‬ ‫‪ -4‬الخالفة‪ :‬تعكس خالفة اإلنس���ان في األرض أس���مى‬ ‫ال ِئ َك ِة ِإ ِّني َج ِ‬ ‫اع ٌل‬ ‫﴿وإ ِْذ َق َ‬ ‫ال َر ُّب َ‬ ‫���ك ِل ْل َم َ‬ ‫مرات���ب التكريم اإللهي؛ َ‬ ‫ِف���ي ا َ‬ ‫���د ِف َيها َو َي ْس��� ِف ُك‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َخ ِلي َف ًة َقا ُلوا َأ َت ْج َع ُل ِف َيها َم ْن ُي ْف ِس ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ال ِإ ِّني َأ ْع َل ُم َما َ‬ ‫س َل َك َق َ‬ ‫ِّ‬ ‫الد َم َاء َو َن ْح ُن ُن َس��� ِّب ُح ب َِح ْم���دكَ َو ُن َق ّد ُ‬ ‫ون﴾(البقرة‪.)30:‬‬ ‫َت ْع َل ُم َ‬ ‫‪ -5‬التسخير‪ :‬كما في اآليات‪﴿ :‬ا ُ ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات‬ ‫الس َم َ‬ ‫هلل ا َّلذي َخ َل َق َّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪54‬‬

‫���ز َل ِم َن الس���ما ِء َم ًاء َف َأ ْخر َج بِ��� ِه ِم َن ال َّثمر ِ‬ ‫َوا َ‬ ‫ات رِ ْز ًقا‬ ‫أل ْر َ‬ ‫ض َو َأ ْن َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫���خ َر َل ُك ُم‬ ‫َل ُك ْم َو َس َّ‬ ‫���خ َر َل ُك ُم ا ْل ُف ْل َك ِل َت ْج ِر َي ِفي ا ْل َب ْح ِر ِب َأ ْم ِر ِه َو َس َّ‬

‫ا َ‬ ‫���خ َر َل ُك ُم‬ ‫���ر َدا ِئ َب ْي ِن َو َس َّ‬ ‫���ار ‪َ ‬و َس َّ‬ ‫���خ َر َل ُك ُم َّ‬ ‫أل ْن َه َ‬ ‫الش ْ‬ ‫���م َ‬ ‫س َوا ْل َق َم َ‬ ‫وه َوإ ِْن َت ُع ُّدوا ِن ْع َم َة‬ ‫ال َّل ْي َ‬ ‫���ار ‪َ ‬وآ َت ُ‬ ‫���ل َو َّ‬ ‫اك ْم ِم ْن ُك ِّل َما َس��� َأ ْل ُت ُم ُ‬ ‫الن َه َ‬ ‫(‪)13‬‬ ‫ا ِ‬ ‫ار﴾(إبراهيم‪. )34-32:‬‬ ‫هلل َ‬ ‫وها إ َِّن ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫ال ُت ْح ُص َ‬ ‫ان َل َظ ُل ٌ‬ ‫وم َك َّف ٌ‬ ‫���خر َل ُكم َما ِف���ي ا َ‬ ‫َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���ر َأ َّن ا َ‬ ‫هلل َس َّ َ ْ‬ ‫ق���ال تعال���ى‪﴿ :‬أ َل ْ‬ ‫���م َت َ‬ ‫���م َاء َأ ْن َت َق َع َع َلى‬ ‫َوا ْل ُف ْل َك َت ْج ِري ِفي ا ْل َب ْح ِر ِب َأ ْم ِر ِه َو ُي ْم ِس ُ‬ ‫الس َ‬ ‫���ك َّ‬ ‫ال ِبإ ِْذ ِن ِه إ َِّن ا َ‬ ‫اس َلر ُء ٌ ِ‬ ‫ا َ‬ ‫يم﴾(الحج‪.)65:‬‬ ‫ض ِإ َّ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫هلل ب َّ‬ ‫وف َرح ٌ‬ ‫ِالن ِ َ‬

‫‪ -6‬إي � � ��داع القدرة على وس � � ��م األش � � ��ياء من أج � � ��ل تعقلها‪،‬‬ ‫آد َم ا َ‬ ‫���م‬ ‫���م َ‬ ‫وتوظيفه � � ��ا‪ :‬ق���ال تعال���ى‪َ :‬‬ ‫أل ْس َ‬ ‫﴿و َع َّل َ‬ ‫���م َاء ُك َّل َه���ا ُث َّ‬

‫ِ‬ ‫ال ِء إ ِْن ُك ْن ُت ْم‬ ‫���ما ِء َه ُؤ َ‬ ‫ال ِئ َك ِة َف َق َ‬ ‫���م َع َل���ى ا ْل َم َ‬ ‫ال َأ ْنب ُِئوني ِب َأ ْس َ‬ ‫َع َر َض ُه ْ‬ ‫ين﴾(البق���رة‪ ،)31:‬مم���ا يمك���ن اإلنس���ان م���ن تنمي���ة قدرات���ه‬ ‫َصا ِد ِق َ‬ ‫اإلدراكي���ة الت���ي تس���عفه في تنمية اس���تقالليته من خ�ل�ال تزايد‬ ‫قدرته على الفعل في الكون بالتس���خير‪ ،‬ولذلك يس���مي بعض‬ ‫الباحثين العلوم الكونية "علوم التسخير"(‪.)14‬‬ ‫‪ -7‬الوحي‪/‬الكلم � � ��ات‪ :‬وه���و المس���تفاد م���ن العدي���د م���ن‬ ‫آد ُم ِم ْن ر ِّب ِه َك ِلم ٍ‬ ‫اب‬ ‫اآليات كما في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ف َت َل َّقى َ‬ ‫ات َف َت َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫���ه ب َِك ِلم ٍ‬ ‫َع َلي ِه﴾(البق���رة‪ ،)37:‬واآلي���ة‪ِ َ :‬‬ ‫���ات‬ ‫ي���م َر ُّب ُ‬ ‫َ‬ ‫﴿و ِإذ ْاب َت َل���ى إ ِْب َراه َ‬ ‫ْ‬ ‫ال ِإ ِّني َج ِ‬ ‫اس إ َِم ًاما﴾(البقرة‪.)124:‬‬ ‫َف َأ َت َّم ُه َّن َق َ‬ ‫اع ُل َك ِل َّلن ِ‬ ‫واإلفادة من قدرة األس���ماء ومن إيتاء الكلمات‪ ،‬ال يمكن‬ ‫أن تت���م ف���ي منظوم���ة الوح���ي إال بالنظ���ر‬ ‫والتفك���ر والتع ُّق���ل؛‬ ‫ّ‬ ‫أوج ِب الواجبات بعد اإليمان الفطري‬ ‫فاالستدالل باألدلة من َ‬ ‫ِ‬ ‫بوب في‬ ‫الجب ّلي‪ .‬وإلى هذا ذهب البخاري ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬حيث َّ‬ ‫اع َل ْم‬ ‫كتاب���ه "ب���اب العلم قبل القول والعمل لق���ول اهلل ‪َ ﴿ :"‬ف ْ‬ ‫هلل﴾(محمد‪.)19:‬‬ ‫َأ َّن ُه َ‬ ‫ال ِإ َل َه ِإ َّ‬ ‫ال ا ُ‬ ‫الشارع‬ ‫‪ -8‬إتاحة العالقة المباشرة بين العبد وربه‪ :‬فقد ألغى َّ‬ ‫أي وس���اطة بينه وبين عبا ِده تفس���د االعتقاد الجازِ َم به‬ ‫الحكيم َّ‬ ‫(‪)15‬‬ ‫يب‬ ‫﴿و ِإ َذا َس َأ َل َك ِع َبا ِدي َع ِّني َف ِإ ِّني َق ِر ٌ‬ ‫س���بحانه ‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬ ‫اع ِإ َذا َد َع ِ‬ ‫ان َف ْل َي ْس َت ِج ُيبوا ِلي َو ْل ُي ْؤ ِم ُنوا بِي َل َع َّل ُه ْم‬ ‫الد ِ‬ ‫يب َد ْع َو َة َّ‬ ‫ُأ ِج ُ‬ ‫ون﴾(البقرة‪.)186:‬‬ ‫َي ْر ُش ُد َ‬ ‫‪ -9‬الحري � � ��ة‪ :‬قال الراغ���ب األصفهان���ي‪" :‬الحرية ضربان‪:‬‬ ‫األول م���ن ل���م يجر علي���ه حكم الش���يء‪ ،‬نحو "الح���ر بالحر"‪.‬‬ ‫والثاني‪ :‬من لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والش���ره‬ ‫على المقتنيات الدنيوية‪ ،‬وإلى العبودية التي تضاد ذلك أش���ار‬ ‫النبي ‪ ‬بقوله‪" :‬تعس عبد الدرهم‪ ،‬تعس عبد الدينار"‪ ،‬وقيل‪:‬‬ ‫الرق"(‪.)16‬‬ ‫عبد الشهوة أذل من عبد ّ‬


‫المس���تقبِلة‪ .‬وألن المصداقي���ة الثقافي���ة له���ذه الحق���وق ل���دى‬

‫الكونية‪ ،‬بيد أن الثانية تقتصر على النظر في كيفية زرع وفس���ل‬

‫الجه���ود الرامي���ة إل���ى تعوي���ض الف���رض واإلقح���ام واإلل���زام‬

‫غي���ر أن���ه مع انبث���اق الجي���ل الثالث م���ن حقوق اإلنس���ان‪،‬‬

‫المتلقي���ن محوري���ة في عملية تملكهم لها‪ ،‬فإنه ينبغي تش���جيع‬ ‫بالتوطين واإلفهام واإلسهام‪ .‬وذلك ليس فقط من أجل ضمان‬ ‫مش���روعية حقوق اإلنس���ان ف���ي مختلف المجتمع���ات‪ ،‬ولكن‬ ‫أيض���ا لما يتيحه هذا األمر من إمكانات في المجال الحقوقي؛‬ ‫ً‬ ‫لإلف���ادة والرب���ح المتبادلي���ن‪ ،‬بس���بب تضافر وتواش���ج أضرب‬

‫الخب���رة والحكمة العالمية الغنية والمتنوعة‪ ،‬مما من ش���أنه أن‬ ‫كونيا‪ -‬أكثر‬ ‫يجع���ل حقوق اإلنس���ان ‪-‬كما هي متعارف عليه���ا ًّ‬

‫جاذبية‪ ،‬وأوفر قابلية للتطبيق والتبني في كافة المجتمعات‪.‬‬

‫منظومة حقوق اإلنس���ان في المنظومات التشريعية األخرى(‪.)7‬‬ ‫الحق���وق التضامني���ة؛ كالح���ق ف���ي البيئ���ة الس���ليمة والحق في‬

‫مك���ون الحقوق يفتقر إلى‬ ‫الس�ل�ام والحق في التنمية‪ ،‬تبين أن‬ ‫ّ‬ ‫مكون الواجب في طف���رة متجاوزة لما كان عليه‬ ‫التواش���ج مع ّ‬

‫األمر في الجيلين السابقين من حقوق اإلنسان‪ ،‬جيل الحقوق‬

‫المدنية والسياس���ية ثم جيل الحق���وق االقتصادية واالجتماعية‬ ‫والثقافية‪ ،‬المرتكزين على البراديغم القائم على الحقوق فقط‪.‬‬ ‫وسبب ذلك‪ ،‬على حد تعبير الباحث ‪" :Ben Saul‬إن النضاالت‬

‫إال أن جملة صعوبات تعترض س���بيل هذا الطموح‪ ،‬ومن‬

‫الت���ي قام���ت به���ا حرك���ة حقوق اإلنس���ان ض���د االس���تبدادات‬

‫البراديجماتي���ة الت���ي تنبني عليه���ا التش���ريعات الكونية لحقوق‬

‫االجتماعي���ة‪ ،‬واإلقص���اء‪ ،‬ونقائص النضاالت الس���الفة‪ ،‬والتي‬

‫أب���رز ه���ذه الصعوب���ات؛ االخت�ل�اف الجوه���ري بين األس���س‬ ‫اإلنس���ان‪ ،‬وتلك التي تنبني عليها كثير من التشريعات العالمية‬ ‫األخ���رى‪ .‬وأب���رز مثال على ه���ذا االخت�ل�اف الجوهري‪ ،‬كون‬

‫الحق���وق ف���ي القان���ون العالم���ي لحق���وق اإلنس���ان صريح���ة‬

‫ومباش���رة‪ ،‬في حين أن ما يقابلها من واجبات‪ ،‬متضمنة ‪-‬وقد‬ ‫تكون أحيا ًنا متضاربة‪ -‬وهو ما يشير إليه "دوكالس هودكسون"‬ ‫(‪ )Douglas Hodgson‬بقوله‪" :‬في قانون حقوق اإلنسان‪ ،‬الحقوق‬

‫صريح���ة ومباش���رة‪ ،‬في حي���ن أن ما يقابلها م���ن واجبات تبقى‬ ‫متضمن���ة ومتضاربة وغي���ر مغناة من الناحي���ة التنظيرية‪ ،‬بيد أن‬ ‫العك���س ه���و الصحي���ح في ع���دد م���ن المنظومات التش���ريعية‬

‫والقيمية والعقدية األخرى‪ ،‬كالش���ريعة اإلس�ل�امية‪ ،‬والش���ريعة‬ ‫اليهودي���ة‪ ،‬والنصراني���ة‪ ،‬والهندوس���ية‪ ،‬والكنفوشيوس���ية"(‪.)6‬‬ ‫وألن المقاربة المؤسسة على الحقوق‪ ،‬وكذا تلك المؤسسة‬

‫على الواجبات‪ ،‬كلتاهما تصدران عن رؤية براديجماتية متجذرة‬ ‫لها تجلياتها في س���ائر مفردات الكس���ب التش���ريعي والتنزيلي‬ ‫للمنظومتي���ن‪ ،‬فإنه ال يمكن الزعم ب���أن التوفيق بينها يمكن أن‬ ‫يت���م ب���دون بذل ما يل���زم من جه���د واجتهاد في أفق اإلس���هام‬

‫كونيا‪.‬‬ ‫ف���ي حل عدد من اإلش���كاالت المطروحة به���ذا الصدد ًّ‬

‫وتبتغ���ي هذه الدراس���ة وضع جملة لبنات وظيفية‪ ،‬تس���هم‬

‫ف���ي التعزي���ز التعارفي لمقاربة "النس���بية المعتدلة المعكوس���ة"‬

‫(‪ )Reverse Moderate Relativism: R.M.R‬والت���ي تختل���ف عن مقاربة‬ ‫"النسبية الثقافية المعتدلة" (‪،)Moderate Cultural Relativism: M.C.R‬‬

‫حيث إن األولى تعنى بالنظر التعارفي المنفتح‪ ،‬إلى ما يمكن أن‬

‫تغني به المنظومات التشريعية المختلفة‪ ،‬منظومة حقوق اإلنسان‬

‫المختلف���ة ف���ي مرحلة أولى وف���ي مرحلة ثانية‪ ،‬ض���د النفاقات‬ ‫جميعه���ا عل���ى مواجهة م���ا كان يفرض���ه المتنفدون‬ ‫ارتك���زت‬ ‫ُ‬

‫م���ن واجب���ات ظالمة عل���ى األفراد‪ ،‬فقد بل���ورت حركة حقوق‬ ‫اإلنس���ان حذرا وحساس���ية تلقائيين‪ ،‬تجاه كل لغة فيها حضور‬

‫لمفاهي���م الواج���ب واإللزام‪ ،‬وهم���ا حذر وحساس���ية مبرران‪،‬‬ ‫بالنظر إلى تاريخ هذه الحركات النضالي" ‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫ومن هنا تأتي المعاناة التي ترافق السعي إلى تنزيل الجيل‬

‫الثال���ث من حقوق اإلنس���ان‪ ،‬والتي تس���تدمج في عي���ن بنيتها‪،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬ب���إزاء الحقوق التي‬ ‫ض���رورة االرت���كاز على الواجب���ات ً‬

‫ال يمك���ن جلبه���ا لألف���راد إال إذا كان لديهم االس���تعداد للقيام‬

‫ال‪ ،‬ال يتصور النهوض بتنمية‬ ‫بواجباته���م بهذا الخصوص‪ .‬فمث ً‬ ‫ب���دون انخ���راط األف���راد ف���ي ه���ذا النه���وض من خ�ل�ال القيام‬

‫بواجباته���م به���ذا الص���دد‪ .‬مما يس���تدعي وج���وب مواكبة هذه‬ ‫ونضاليا‪،‬‬ ‫وتربوي���ا‪،‬‬ ‫تصوري���ا‪،‬‬ ‫ال‪ :‬بنس���يج تأهيل���ي‪،‬‬ ‫الحق���وق أو ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫وتقويمي���ا بطريق���ة قصدي���ة‪ ،‬وإال فس���تبقى الحق���وق التضامنية‬ ‫ًّ‬ ‫ثانيا بنس���يج تش���ريعي احترازي‪،‬‬ ‫مج���رد ش���عارات‪ .‬ومواكبتها ً‬

‫لحمايته���ا من االرت���داد إلى أتون الدوالنية (‪ )Etatism‬من جديد‬ ‫كم���ا يق���ول "دون‪ .‬إي‪ .‬إيبرل���ي" (‪ )Don. E. Eberly‬ف���ي كتاب���ه‬

‫‪.Building a Community of Citizen‬‬

‫وجلي أن هذا التواشج بين الحقوق والواجبات‪ ،‬من خالل‬ ‫ّ‬ ‫تأسيس���ا على مكتس���ب‬ ‫المرجعيات‬ ‫مختل���ف‬ ‫م���ن‬ ‫االس���تمداد‬ ‫ً‬ ‫حقوق اإلنسان في كونيتها وعدم تجزيئها‪ ،‬يمكن أن يسهم في‬

‫اخت���راع مفه���وم دينامي للمواطنة في عال���م اليوم المعولم‪ ،‬في‬

‫منأى عن الش���عاراتية‪ ،‬وفي حرص على بحث عقد اجتماعي‪،‬‬

‫‪53‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد عبادي*‬

‫ً‬ ‫وأنقاضا‪،‬‬ ‫توجيه النقد الالذع دون اإلتيان بالبديل‪ ،‬عمل تخريبي ال َيرتُك إال خرائب‬ ‫أما النقد البنّاء مع ذكر البديل فهو سبب لإلصالح واإلعامر‪.‬‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫المسلمون‬

‫وحقوق اإلنسان‪1-‬‬ ‫قراءة في المقتضيات السياقية‬

‫رك���ز التداول حول كونية حقوق اإلنس���ان في‬ ‫ّ‬

‫كثي���را عل���ى إش���كالية م���دى مخالفة‬ ‫عموم���ه‪،‬‬ ‫ً‬

‫أو مواءم���ة القان���ون العالمي لحقوق اإلنس���ان‬

‫للممارسات التشريعية والثقافية المحلية‪ ،‬كما رام هذا التداول‬

‫الع َق���د به���ذا الخص���وص لصال���ح البراديغ���م الكون���ي‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫ف���ك ُ‬ ‫ويالح���ظ بج�ل�اء‪ ،‬أن عناية أقل بكثير‪ ،‬ق���د أوليت إلى البحث‬ ‫وي ْث���رى ب���ه اإلع�ل�ان العالم���ي لحقوق‬ ‫عم���ا يمك���ن أن يفي���ده َ‬

‫اإلنسان بدراسة األنساق التشريعية والثقافية الكونية المختلفة‪.‬‬ ‫وقد طرحت كونية حقوق اإلنس���ان‪ ،‬تحديات معتبرة على‬

‫المختصي���ن والباحثين‪ ،‬من أمث���ال(‪،Kimberly Younce Schooley )1‬‬

‫وعب���د اهلل أحمد نعي���م(‪ ،)3(Charles Taylor ،)2‬و‪،)4(Fernando R. Teson‬‬

‫ورضى أفشاري(‪ ،)5‬وغيرهم‪.‬‬

‫وال يخف���ى أن ه���ذه المس���ألة تكتس���ي أهمية اس���تثنائية من‬

‫الناحي���ة البرجماتي���ة العملية الص���رف‪ ،‬باإلضافة إل���ى أهميتها‬ ‫العلمي���ة والمعرفية‪ ،‬وذلك ألن التجانف‪ ،‬بل والتنكر للحقوق‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬أمر في غاية الورود إذا لم تراع أثناء عملية تنزيلها‪،‬‬

‫مواءمته���ا الثقافي���ة للس���ياقات الحضاري���ة‪ ،‬واألنثربولوجي���ة‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪52‬‬


‫ال يج���وز للمس���لم الخ���روج من خاللها عن طاع���ة ولي األمر‬

‫وإجم���اع األمة‪ .‬فالحرب في اإلس�ل�ام قرار دول���ة ال قرار فرد‬ ‫مهما عال شأن هذا الفرد في أمته"‪.‬‬

‫أم � � ��ا التدابي � � ��ر المالئمة لس � � ��نن الك � � ��ون والحي � � ��اة والنفس‬ ‫اإلنس � � ��انية‪ ،‬فإنه���ا ذات نس���ق وس���ياق يؤكد إعجاز اإلس�ل�ام‪،‬‬

‫وتؤي���ده االكتش���افات العلمي���ة والدراس���ات المتعمق���ة في فقه‬ ‫التاري���خ والحض���ارة والدراس���ات اإلنس���انية‪ ...‬والحديث عن‬ ‫ذلك ال يمكن اختصاره في هذا المقال‪ ،‬إنما أكتفي باإلش���ارة‬ ‫بدءا من سالم‬ ‫إلى كون الس�ل�ام في اإلس�ل�ام‪ ،‬ينداح في دوائر ً‬ ‫الفرد مع نفس���ه‪ ،‬إلى س�ل�امه مع أس���رته ومحيطه القريب‪ ،‬إلى‬

‫س�ل�امه م���ع محيطه وبيئت���ه بموجوداته���ا وتنوعاته���ا الثرية من‬

‫الكائن���ات الحية والنبات���ات المختلفة في الب���ر والبحر والجو‪.‬‬ ‫وم���ا تمارس���ه المنظمات الحديث���ة التي تصدت له���ذا الجانب‬ ‫تحت مسمى "السالم األخضر"‪ ،‬تتفق مع ما سبق إليه اإلسالم‬

‫من العناية بهذا الجانب واش���تماله بتش���ريعاته وحمايته للحياة‬ ‫الفطرية وإنمائها‪ ،‬وأن مفهوم الس�ل�ام وفلس���فته في اإلس�ل�ام‪،‬‬

‫ش���كلت دائرة واس���عة تحيط ب���ه وتحافظ على الت���وازن البيئي‬ ‫بوعي وإدراك حضاريين‪.‬‬

‫للتثقي���ف والتهذي���ب الدين���ي‪ ،‬وبخاصة للثقافة اإلس�ل�امية بما‬ ‫تنظوي عليه من خصائص وس���مات إنس���انية وأطر عالمية من‬ ‫حقه���ا أن تتفاعل م���ع الثقافات األخرى في أجواء من الس���لم‬ ‫بعيدا عن روح العداء‪ ،‬وأن ُي ْع َلم ‪-‬كما قرر علماء‬ ‫والمس���المة ً‬ ‫َّ‬ ‫الدي���ن ومفكرو العصر‪" -‬أن األدي���ان كلها‪ ،‬بدال من أن تكون‬ ‫س���بب نزاع وخصام في ش���ؤون هذه الحياة‪- ،‬وهي على ضد‬ ‫م���ن ذلك‪ -‬تن���ادي باالئتالف والوئ���ام‪ ،‬وأن الس���بب الحقيقي‬ ‫ف���ي الخصوم���ات هو بالعكس م���ن ذلك‪ ،‬إنما يح���دث بتعمد‬ ‫االنح���راف ع���ن الدي���ن‪ ،‬وأن كل طائفة تثير نار الحرب باس���م‬ ‫الدين‪ ،‬فهي كاذبة في دعواها االنتساب إلى دينها‪ ،‬وأن العالج‬ ‫الناجع آلالم اإلنس���انية الحاضرة‪ ،‬هو أن ُيعنى رجال كل دين‬ ‫فينموا في أتباعهم‬ ‫عناي���ة خاصة بالجان���ب ُ‬ ‫الخلقي العام من���ه‪ّ ،‬‬ ‫عاطفة األخوة اإلنسانية باسم الدين نفسه‪.‬‬

‫كما ينبغي العمل باسم السالم ومن أجل السالم على معالجة‬ ‫م���ا آل إليه الس�ل�ام في النظم البش���رية الحديث���ة‪ ،‬حيث اتخذته‬ ‫شعارا لمضامين أخرى؛ فأما األمم‬ ‫األمم المتقدمة والمتخلفة‬ ‫ً‬

‫فالس�ل�ام في اإلس�ل�ام مفه���وم أصيل وفلس���فة عميقة يفي‬

‫ش���عارا لتعايش الثقافات‪،‬‬ ‫المتقدم���ة فترفعه في بعض األحوال‬ ‫ً‬

‫واالس���تقرار‪ ،‬في ظل أخالقيات تطبع النفوس بروح التس���امح‬

‫وأما األمم المتخلفة فترفعه بسبب الروح االنهزامية والضعف‪.‬‬

‫بمتطلبات البشرية قاطبة‪ ،‬كي تعيش حياة كريمة وتنعم باألمن‬

‫تمهيدا لغزوها‪،‬‬ ‫به���دف تثبيط همم األمم األخرى وتخديره���ا‬ ‫ً‬

‫وحس���ن التعام���ل م���ع المخالفين في المعتقد م���ن غير تعصب‬

‫كم���ا بدأ الحديث بمقولة مال���ك بن نبي‪ ،‬ينتهي وبالمطالبة‬

‫تطرف وال عنف‪ ،‬وإنما تقوم العالقات بين المسلمين وغيرهم‪،‬‬

‫التي طالب بها ُيطالب؛ إذ يقول‪" :‬فالثقافة الحضارية ينبغي أن‬

‫لمعتق���د وال حقد ديني يحمل عل���ى الحيف والظلم ومن غير‬

‫على البر والعدل واإلحس���ان والتوسط في المواقف والتوازن‬ ‫بين التجاذبات‪ .‬وبذلك حقق اإلس�ل�ام في موقفه من الس�ل�ام‬

‫البع���د اإلنس���اني الحضاري اإلس���تراتيجي‪ .‬ولضمان أن تكون‬ ‫ُ‬

‫ال‪ ،‬فإنه ينبغي اعتماد اإلصالح‬ ‫السيادة للسالم‬ ‫حاضرا ومستقب ً‬ ‫ً‬ ‫السياس���ي بدعم الديمقراطية وفس���ح المجال للنقد والش���فافية‬

‫واحت���رام التش���ريعات اإلليه���ة‪ ،‬وتقيي���د التقنينات الت���ي تميلها‬ ‫متطلب���ات الواق���ع باألخ�ل�اق الحمي���دة‪ ،‬وأن تصب���غ بالمبادئ‬

‫اإلنسانية من خالل علماء الدين وفالسفة اإلنسانية وحكمائها‬

‫والنخب الثقافية‪ .‬وإذا كانت األديان ‪-‬وآخرها اإلس�ل�ام‪ -‬هي‬ ‫المؤسس���ة للس�ل�ام على النحو الذي جرى الحديث عنه‪ ،‬فإن‬

‫على قادة الفكر والسياس���ة ورواد السالم‪ ،‬أن يفسحوا المجال‬

‫ُت ِ‬ ‫شخصيتها الحقيقية بأن تضعها منذ اآلن‬ ‫عطي لفكرة الس�ل�ام‬ ‫َ‬

‫تحت ضمان المبادئ"‪.‬‬

‫(*) كلي���ة الش���ريعة‪ ،‬جامع���ة اإلم���ام محم���د بن س���عود اإلس�ل�امية بـ"الرياض" ‪/‬‬ ‫المملكة العربية السعودية‪.‬‬

‫المراجع‬ ‫(‪ )1‬مقالة بعنوان‪ :‬نحو فلسفة للسالم‪ ،‬لسعاد الحكيم‪.‬‬ ‫(‪ )2‬دراس���ات إسالمية في العالقات االجتماعية والدولية‪ ،‬لمحد عبد اهلل دراز‪،‬‬ ‫دار القلم‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪1980:‬م‪.‬‬ ‫(‪ )3‬من توجيهات اإلس�ل�ام‪ ،‬لمحمود ش���لتوت‪ ،‬دار الش���روق‪ ،‬ط‪1983/7:‬م‪.‬‬ ‫نقال عن نظرات في اإلسالم‪.‬‬

‫‪51‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫ون َع َلى ا َ‬ ‫اط َب ُه ُم‬ ‫ض َه ْو ًنا َو ِإ َذا َخ َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫َي ْم ُش َ‬ ‫ا ْل َج ِ‬ ‫ال ًما﴾(الفرقان‪.)63:‬‬ ‫ون َقا ُلوا َس َ‬ ‫اه ُل َ‬ ‫كم���ا جع���ل اإلس�ل�ام الس�ل�ام تحية‬

‫الصالحي���ن‪ ،‬وب���ه يحي���ون أنفس���هم ف���ي‬ ‫﴿و َت ِح َّي ُت ُه ْم‬ ‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬قال تعال���ى‪َ :‬‬ ‫�ل�ا ٌم﴾(يونس‪ ،)10:‬وق���ال‪﴿ :‬إ َِّن‬ ‫ِف َيه���ا َس َ‬ ‫ِ���ي َي���ا‬ ‫ُّ���ون َع َل���ى النب‬ ‫هلل َو َم َ‬ ‫ا َ‬ ‫ال ِئ َك َت ُ���ه ُي َصل َ‬ ‫َّ ِّ‬ ‫آم ُن���وا َصلُّوا َع َل ْي ِه َو َس��� ِّل ُموا‬ ‫َأ ُّي َه���ا ا َّل ِذ َ‬ ‫ي���ن َ‬ ‫ِ‬ ‫يما﴾(األحزاب‪ ،)56:‬وق���ال‪َ ﴿ :‬ف��� ِإ َذا‬ ‫َت ْس���ل ً‬ ‫َد َخ ْل ُت ْم ُب ُيو ًتا َف َس ِّل ُموا َع َلى َأ ْن ُف ِس ُك ْم َت ِح َّي ًة‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ار َك ًة َط ِّي َب ًة﴾(النور‪.)61:‬‬ ‫م ْن ع ْند اهلل ُم َب َ‬ ‫ونهى ع���ن دخول بي���وت اآلخرين‪،‬‬

‫وأنه���ا تدخ���ل في معظ���م تفاصيل حياته‬

‫ال�سالم يف الإ�سالم‪،‬‬ ‫ب��دءا م��ن‬ ‫ين��داح يف دوائ��ر ً‬ ‫�س�لام الف��رد مع نف�س��ه‪� ،‬إىل‬ ‫�س�لامه م��ع �أ�رست��ه وحميط��ه‬ ‫القريب‪� ،‬إىل �سالمه مع حميطه‬ ‫وبيئته مبوجوداتها وتنوعاتها‬ ‫الرثي��ة م��ن الكائن��ات احلية‬ ‫والنبات��ات املختلف��ة يف الرب‬ ‫والبحر واجلو‪.‬‬

‫إال بعد االستئذان واالستئناس والسالم‬

‫ال َت ْد ُخ ُلوا ُب ُيو ًتا‬ ‫على أهلها‪:‬‬ ‫﴿ َ‬ ‫َغ ْي َر ُب ُيو ِت ُك ْم َح َّتى َت ْس َت ْأ ِن ُسوا َو ُت َس ِّل ُموا َع َلى َأ ْه ِل َها﴾(النور‪.)27:‬‬ ‫واآلي���ات ف���ي ذل���ك م���ن الكث���رة بم���كان‪ ،‬كذل���ك ورد‬

‫وفي صميمها اتضحت مقاصد اإلسالم‬

‫حولها إلى ممارس���ة‬ ‫من ذلك‪ ،‬وتبين أنه ّ‬

‫بالس���لوك والتهذي���ب والتربي���ة والتعليم‬ ‫والتع���ود والم���ران‪ ،‬حت���ى غ���دت ثقاف���ة‬

‫ذات ُبع���د إنس���اني حض���اري متج���ذر‪.‬‬ ‫أما التدابير التش� � � �ريعية المقننة‪ ،‬فقد‬

‫جع���ل اإلس�ل�ام األص���ل ف���ي العالقات‬

‫هو الس���لم‪ ،‬فالس���لم أمر اهلل‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫آم ُن���وا ْاد ُخ ُل���وا ِف���ي‬ ‫﴿ي���ا َأ ُّي َه���ا ا َّل ِذ َ‬ ‫ي���ن َ‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫ال َت َّتب ُِع���وا ُخ ُط���و ِ‬ ‫ات‬ ‫الس��� ْل ِم َكا َّف��� ًة َو َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الش���ي َط ِ‬ ‫ان﴾(البقرة‪ .)208:‬وقد تضمن األمر‬ ‫َّ ْ‬

‫ب���ه التعري���ض بم���ا يقاب���ل الس�ل�ام وهي‬ ‫الحرب‪ ،‬وأنها اتباع لخطوات الش���يطان‬

‫على أن الحرب إن نش���بت في ظروف ومالبس���ات اس���تثنائية‬ ‫قطعا وإنما يفرضها أعداؤه عليه‪ -‬فإنها‬ ‫‪-‬ال يوجدها اإلس�ل�ام ً‬

‫�ل�ا ٌم‬ ‫﴿س َ‬ ‫الس�ل�ام ف���ي الق���رآن الكري���م تحي���ة لجميع الرس���ل‪َ :‬‬ ‫وس���ى‬ ‫﴿س َ‬ ‫َع َل���ى ُن ٍ‬ ‫���وح ِف���ي ا ْل َعا َل ِم َ‬ ‫�ل�ا ٌم َع َلى ُم َ‬ ‫ين﴾(الصافات‪َ ،)79:‬‬ ‫ِ‬ ‫يم﴾(الصافات‪،)109:‬‬ ‫﴿س َ‬ ‫ار َ‬ ‫َو َه ُ‬ ‫ون﴾(الصافات‪َ ،)120:‬‬ ‫�ل�ا ٌم َع َل���ى إ ِْب َراه َ‬ ‫ين﴾(الصافات‪ .)181:‬وكان الس�ل�ام دعوة‬ ‫﴿و َس َ‬ ‫�ل�ا ٌم َع َلى ا ْل ُم ْر َس��� ِل َ‬ ‫َ‬ ‫���وت َو َي ْو َم‬ ‫الس َ‬ ‫���و َم ُو ْ‬ ‫لد ُت َو َي ْو َم َأ ُم ُ‬ ‫عيس���ى ‪َ :‬‬ ‫�ل�ا ُم َع َل َّي َي ْ‬ ‫﴿و َّ‬ ‫اسما من أسماء‬ ‫ُأ ْب َع ُث َح ًّيا﴾(مريم‪ ،)33:‬وناهيك عن كون السالم ً‬ ‫ِ‬ ‫ال ُم‬ ‫هلل ا َّل ِذي َ‬ ‫ال ِإ َل َه ِإ َّ‬ ‫الس َ‬ ‫﴿ه َو ا ُ‬ ‫اهلل تعالى‪ُ :‬‬ ‫ال ُه َو ا ْل َمل ُك ا ْل ُق ُّد ُ‬ ‫وس َّ‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِم ُن ا ْل ُم َه ْي ِم ُن﴾(الحش���ر‪ ،)23:‬وسميت الجنة التي هي موعود‬ ‫ال ِم ِع ْن َد َر ِّبهِ ْم‬ ‫الس َ‬ ‫اهلل لعباده المؤمنين "دار السالم"‪َ ﴿ :‬ل ُه ْم َد ُار َّ‬ ‫ِ‬ ‫ون﴾(األنع���ام‪ ،)127:‬وأنه تعالى يدعو‬ ‫���م ب َِما َكا ُنوا َي ْع َم ُل َ‬ ‫َو ُه َ‬ ‫���و َول ُّي ُه ْ‬ ‫ال ِم َو َي ْه ِدي َم ْن َي َش ُاء‬ ‫الس َ‬ ‫﴿وا ُ‬ ‫إلى دار السالم‪َ :‬‬ ‫هلل َي ْد ُعو ِإ َلى َدارِ َّ‬ ‫ِإ َلى ِصر ٍ‬ ‫يم﴾(يونس‪.)25:‬‬ ‫اط ُم ْس َت ِق ٍ‬ ‫َ‬ ‫وبهذا يتضح ترس���يخ اإلسالم لمبدأ الس�ل�ام و"أن إشاعته‬

‫ش���رعيا كما هو واجب‬ ‫واجبا‬ ‫فال���رد في هذه الح���االت يكون‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫في س���ويداء قلوبهم حب السالم والعمل للسالم‪ ،‬وأن يعملوا‬

‫واحدا في وجه أي اعتداء َيطال مقدساتها وأرضها‬ ‫تقف ص ًّفا‬ ‫ً‬

‫تعالى للسالم في هدايته لعباده على هذا النحو‪ ،‬ما كان إال ليغرس‬

‫حينئ���ذ تقدر بقدرها و ُت َح ّد بح���دود وتحاصر بضوابط وآداب‬ ‫ش���رعية‪ ،‬وم���ع ذلك فإن اإلس�ل�ام يأم���ر بأن يكون الس���لم هو‬

‫﴿وإ ِْن‬ ‫الخي���ار‪ ،‬وأن ُي‬ ‫جن���ح إليه إذا جن���ح إليه الطرف اآلخ���ر‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫اج َن ْح َل َها َو َتو َّك ْل َع َلى ا ِ‬ ‫هلل﴾(األنفال‪.)61:‬‬ ‫لس ْل ِم َف ْ‬ ‫َ‬ ‫َج َن ُحوا ل َّ‬ ‫كذلك جاء النهي عن القتال بعد نشوبه إذا ألقى العدو إلى‬ ‫وك ْم‬ ‫وك ْم َف َل ْم ُي َقا ِت ُل ُ‬ ‫المس���لمين الس���لم‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬فإ ِ​ِن ْاع َت َز ُل ُ‬ ‫َ‬ ‫ال﴾(النساء‪.)90:‬‬ ‫الس َل َم َف َما َج َع َل ا ُ‬ ‫هلل َل ُك ْم َع َل ْيهِ ْم َسبِي ً‬ ‫َوأ ْل َق ْوا ِإ َل ْي ُك ُم َّ‬ ‫كتب���ت الدكتورة أميمة بنت أحمد الجالهمة تحت عنوان‪:‬‬ ‫"السالم في عالقات المسلمين بغيرهم"‪ ،‬بعد توضيحها لطابع‬

‫اإلس�ل�ام الس���لمي ف���ي عالقاته م���ع اآلخرين‪ ،‬ب���أن ذلك‪" :‬ال‬ ‫رد أي عدوان ُو ِّجه للمقدس���ات‬ ‫يعن���ي تهاون المس���لمين ف���ي ّ‬

‫واألوطان‪ ،‬ولثروات األمة البشرية منها والمادية على السواء‪.‬‬ ‫ال���رد كح���ال كل األمم التي‬ ‫وطن���ي‪ .‬وحال المس���لم ف���ي هذا‬ ‫ّ‬

‫وعرضه���ا‪ .‬ولكن المس���لم في كل أحواله‪ ،‬ومهما اس���تفظعت‬

‫جهدهم في التحلي بالس�ل�ام والدعوة إليه وإفشائه بين العباد‪.‬‬ ‫فإذا ُع ِلم أن هذه اآليات وما تحمله من هدي وتوجيهات‬

‫األس���باب الموجبة للحرب والمقاومة المسلحة‪ ،‬ال يمكن أن‬

‫الخاص���ة والعام���ة الحاضرة والمس���تقبلة في الدني���ا واآلخرة‪،‬‬

‫م���ن تلقاء نفس���ه‪ .‬فللحرب في اإلس�ل�ام نظم وأص���ول ملزمة‬

‫تطرق سمع المسلم في صلواته ودعواته‪ ،‬وأنها تصبغ عالقتها‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪50‬‬

‫نابعا من اجتهاد ش���خصي ينبري للقيام به‬ ‫يك���ون ذلك‬ ‫ً‬ ‫توجيها ً‬


‫السالم األممي الكوني‪.‬‬

‫أيض���ا يترابط بوحدة‬ ‫فاإلنس���ان وح���دة ال تتج���زأ‪ ،‬والكون ً‬

‫وجودي���ة تجع���ل ل���ه هيئ���ة تتالح���م ألول���ي البصائ���ر ف���ي كافة‬

‫المجتمعات"‪.‬‬

‫موقف اإلسالم من السالم‬

‫بدعا‪ ،‬بل ج���اء مصد ًقا‬ ‫ل���م يك���ن موقف اإلس�ل�ام من الس�ل�ام ً‬ ‫لم���ا بي���ن يديه من األديان التي س���بقته‪ .‬فقد أثبتت الدراس���ات‬ ‫أن األديان قاطبة‪ ،‬وخاصة الديانات الش���رقية القديمة (الهندية‬

‫والبرهمي���ة والبوذي���ة والكنفوشيوس���ية‪ ،‬والطاوي���ة) والديانات‬

‫الس���ماوية الث�ل�اث (اليهودي���ة والمس���يحية واإلس�ل�ام) دع���ت‬ ‫جميعها للس�ل�ام‪ ،‬وجعلته األصل في العالقات‪ ،‬وعظّ مت من‬

‫جميعا "تأمر بالعدل واإلحسان وتنهى عن الظلم‬ ‫ش���أنه‪ ،‬وأنها‬ ‫ً‬

‫والع���دوان‪ ،‬وكله���ا تس���وي في المعامل���ة الدنيوية بي���ن أتباعها‬ ‫وبي���ن أعدائه���ا"‪ .‬فل���م يقع ‪-‬عل���ى س���بيل المثال‪ -‬م���ن الديانة‬ ‫أي اضطه���اد‪ ،‬كذلك البوذية‬ ‫الهندي���ة (البرهمي���ة) ف���ي تاريخها ّ‬ ‫الت���ي لم تعتد قط على أحد م���ن مخالفيها‪ ،‬فقد كانت مبادؤها‬

‫دوما على س���عة الصدر ألي خالف‪ ،‬وأنه ال مش���كلة‬ ‫تحملها ً‬ ‫لديها مع الس�ل�ام البتة‪ .‬وكذلك الديانة المس���يحية ذات الطابع‬

‫المتس���امح الذي حملها على التواضع والس�ل�ام‪ ،‬بل الخضوع‬ ‫واالستس�ل�ام‪ ،‬فقد كان من ش���عاراتها "أحب جارك كما تحب‬

‫نفس���ك"‪ ،‬و"م���ن ضرب���ك عل���ى الخد األيم���ن فامدد ل���ه الخد‬

‫األيس���ر"‪ ،‬كذلك أوجبت على من يس���فك دم أح���د الطرد من‬

‫حظيرة الدين‪.‬‬

‫كما أثبتت الدراس���ات كون السالم‪ ،‬من المبادئ األساسية‬

‫ف���ي الديانتي���ن اليهودية واإلس�ل�ام‪ ،‬وأنه ال يوج���د مثال واحد‬ ‫أب���اح البدء باالعتداء على الطوائف األخرى‪ ،‬س���واء كان ذلك‬

‫لمقاص���د دينية أم ألغراض سياس���ية‪ ،‬ب���ل الواقع على العكس‬ ‫ال قب���ل اإلذن‬ ‫أم���دا طوي ً‬ ‫م���ن ذل���ك‪ ،‬أنهم���ا احتم�ل�ا االضطهاد ً‬ ‫ألتباعهم���ا باتخاذ القوة للدفاع ع���ن حياتهم وعن حريتهم في‬

‫اعتناق الحق والدعاء إليه‪.‬‬

‫أما اإلس�ل�ام فقد تميز في موقفه من الس�ل�ام‪ ،‬بكون اس���م‬

‫الس�ل�ام نفس���ه واس���م اإلس�ل�ام نفس���ه‪ ،‬يرجعان ألص���ل واحد‬ ‫ويشتركان في كثير من الدالالت واالشتقاقات اللغوية بما فيها‬

‫من س���عة وامتداد وعمق‪ .‬ثم إن اإلس�ل�ام اتخذ من التدابير ما‬

‫وأساس معتقده‪،‬‬ ‫يكفل أن يكون السالم جوهر اإلسالم‪ ،‬وظ َّله‬ ‫َ‬

‫وأه���م مبادئه‪ ،‬وركائ���زه العقدية‪ ،‬وقيمه األخالقية والتش���ريعية‬

‫تحيته‪ ..‬فبالس�ل�ام الب���دء والنهاية‬ ‫الكب���رى‪ ،‬واخت���اره أن يكون َ‬ ‫والتواص���ل ف���ي مختل���ف دوائره عل���ى صعيد النف���س والكون‬

‫والحياة‪ .‬وإليضاح تلك التدابير‪ ،‬يجري الحديث عنها في اآلتي‪:‬‬ ‫‪ -1‬التدابي���ر التربوي���ة الثقافي���ة الت���ي تعتم���د على الس���لوك‬

‫واألخالق‪.‬‬

‫‪ -2‬التدابير التشريعية المقننة‪.‬‬

‫‪ -3‬التدابير المالئمة لسنن الكون والنفس والحياة‪.‬‬

‫فأما التدابير التربوية الثقافية‪ ،‬فقد استطاع اإلسالم أن يغرس‬

‫السالم في داخل نفس الفرد المسلم بالتربية والثقافة والسلوك‬ ‫ال أن الناس من أصل واحد‪ ،‬وأنهم‬ ‫جميعا‬ ‫واألخالق‪ .‬فقرر أو ً‬ ‫ً‬ ‫أبناء رجل واحد هو آدم ‪ ‬الذي جعله اهلل ‪ ‬خليفة له في‬ ‫األرض‪،‬‬ ‫وفضله عل���ى كثير ممن خلق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكرمه ّ‬ ‫وس���خرها ل���ه‪ّ ،‬‬

‫وأسجد له مالئكته‪ ،‬وعلمه األسماء كلها‪ ،‬ثم أورث تعالى بني‬ ‫آدم تلك الخالفة‪،‬‬ ‫وتحملوا األمانة‪ ،‬واضطلعوا بالمسؤولية‪...‬‬ ‫ّ‬

‫وهذا يوجب عليهم أن يستش���عروا الكرامة والعزة‪ ،‬وأن تكون‬ ‫عالقاتهم س���ليمة‪ ،‬وضمائرهم نقية‪ ،‬وأن يتوجهوا لمن كرمهم‬ ‫واس���تخلفهم بالعبادة وإف���راده بالتوحي���د‪ ،‬وبخاصة أنه ‪ ‬قد‬

‫﴿و َم���ا َخ َل ْق ُت‬ ‫ح���دد الغاي���ة من خلقهم وعل���ة وجودهم فقال‪َ :‬‬ ‫ال ِلي ْعب ُد ِ‬ ‫ون﴾(الذاريات‪.)56:‬‬ ‫ا ْل ِج َّن َوا ِ‬ ‫إل ْن َ‬ ‫س ِإ َّ َ ُ‬ ‫واحدا‪ ،‬والرب‬ ‫ولك���ون األب‬ ‫واح���دا‪ ،‬فإن "مقتضى اتحاد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األص���ول وتوحي���د المعب���ود‪ ،‬تآلف الف���روع وأخ���وة العابدين‬ ‫وتعاونه���م‬ ‫جميعا عل���ى القيام بواجب الرح���م وبحق المعبود‬ ‫ً‬ ‫الذي يغضبه أن يبغي بعضهم على بعض‪.‬‬

‫ث���م ج���اء النداء‬ ‫مكررا ف���ي القرآن الكريم ف���ي آيات كثيرة‬ ‫ً‬

‫بوصف البنوة آلدم‪ ،‬وبالنداء بوصف اإلنس���انية‪ ،‬وأنها موضع‬

‫التكري���م‪ .‬كذل���ك حث���ت اآلي���ات واألحادي���ث عل���ى م���كارم‬

‫األخالق‪ ،‬وأن تكون‬ ‫ال َت ْس َ���ت ِوي ا ْل َح َس َن ُة‬ ‫﴿و َ‬ ‫أساس���ا للمعاملة‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫الس��� ِّي َئ ُة ْاد َف ْع بِا َّل ِتي ِهي َأ ْح َس ُن َف ِإ َذا ا َّل ِذي َب ْي َن َك َو َب ْي َن ُه َع َد َاو ٌة‬ ‫َو َ‬ ‫ال َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم﴾(فصلت‪.)34:‬‬ ‫َكأ َّن ُه َول ٌّي َحم ٌ‬ ‫بخ ُلق َح َس���ن" (رواه الترمذي)‪،‬‬ ‫وف���ي الحديث‪" :‬خا ِل���قِ الناس ُ‬ ‫وورد‪" :‬الدين المعاملة"‪ .‬وجاء كذلك األمر بالعفو والمخاطبة‬ ‫بالس�ل�ام‪ ،‬وق���ال تعالى‪ِ ُ :‬‬ ‫ْ‬ ‫ض‬ ‫���ر ِف َو َأ ْع ِر ْ‬ ‫���ر بِا ْل ُع ْ‬ ‫﴿خ���ذ ا ْل َع ْف َو َوأ ُم ْ‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫َع ِن ا ْل َج ِ‬ ‫ان َن ْز ٌغ َفاس َ���ت ِع ْذ بِا ِ‬ ‫الش���ي َط ِ‬ ‫هلل‬ ‫اه ِل َ‬ ‫ْ‬ ‫ين َوإ َِّما َي ْن َز َغ َّن َك م َن َّ ْ‬ ‫���م ٌ ِ‬ ‫���ه َس ِ‬ ‫يم﴾(األع���راف‪﴿ ،)200-199:‬و ِعباد‬ ‫ين‬ ‫الر ْح َم ِ‬ ‫ِإ َّن ُ‬ ‫���ن ا َّل ِذ َ‬ ‫يع َعل ٌ‬ ‫َ َ ُ َّ‬

‫‪49‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫الس � � ��بب الثاني‪ :‬إن مفاهيم الس�ل�ام‬

‫كما هي مطروح���ة اليوم‪ ،‬ال ترتكز على‬ ‫تسوق‬ ‫أس���س سليمة‪ ،‬ألنها ‪-‬كما يبدو‪َّ -‬‬ ‫كس���لع اس���تهالكية تهدف إلى الحصول‬ ‫على الس�ل�ام م���ن طرف واح���د‪ ،‬تدعوه‬

‫إلى التس���امح الالمشروط المرتكز على‬

‫المحب���ة فق���ط‪ ،‬والتي يبدو أنه���ا مفقودة‬ ‫عن���د قطاع كبي���ر في الط���رف الثاني‪ .‬إن‬

‫الس�ل�ام الحقيقي يفترض وجود طرفين‬ ‫يتب���ادالن االعتراف بحق الكينونة‪ ،‬ويثق‬

‫واحدهما باآلخر؛ بأن السالم من طرفه‬

‫ل���ن يعن���ي انمح���اء‬ ‫وازدواجة‬ ‫واس���تالبا ْ‬ ‫ً‬

‫العالم���ي‪ ،‬ف���ي أهمي���ة ارت���كاز مفه���وم‬

‫�أثبتت الدرا�س��ات �أن الأديان‬ ‫قاطب��ة‪ ،‬وخا�ص��ة الديان��ات‬ ‫ال�رشقي��ة القدمي��ة‪ ،‬والديانات‬ ‫ال�س��ماوية الث�لاث‪ ،‬دع��ت‬ ‫جميعه��ا لل�س�لام‪ ،‬وجعلت��ه‬ ‫الأ�صل يف العالقات‪ ،‬وعظّمت‬ ‫جميعا "ت�أمر‬ ‫من �ش���أنه‪ ،‬و�أنها ً‬ ‫بالعدل والإح�سان وتنهى عن‬ ‫الظلم والعدوان‪.‬‬

‫معايي���ر‪ ...‬إن ل���م توج���د ه���ذه اإلرادة‬

‫الس�ل�ام على الدين؛ فتحت عنوان "بناء‬

‫إنسان اإلنسانية"‪ ،‬قالت‪" :‬من أجل إنشاء‬ ‫فلس���فة للسالم‪ ،‬البد ‪-‬باإلضافة إلى كل‬ ‫ما تقدم‪ -‬من التفكر حول هوية اإلنسان‬

‫وجوابا‬ ‫ال���ذي يحق���ق الس�ل�ام الكون���ي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫على الطروحات الداعية إلى بناء إنس���ان‬

‫مدني‪ ،‬أق���ول إن القوانين المدنية تجعل‬

‫ال���رادع خ���ارج اإلنس���ان‪ ،‬وبالتالي ما إن‬ ‫ّ‬

‫تغي���ب س���لطة ال���رادع الخارج���ي حت���ى‬ ‫توحش اإلنس���ان وهمجيته‪ ،‬على‬ ‫يظه���ر ّ‬ ‫حين أن القوانين المصاغة ‪-‬انطال ًقا من‬

‫األدي���ان‪ -‬يس���تجيب له���ا رادع داخل���ي‪،‬‬

‫خيرة‬ ‫الصادق���ة م���ن الطرفين‪ ،‬يظل الس�ل�ام ف���ي إطار أقلي���ات ّ‬

‫وتحق���ق النظ���ام ‪-‬إلى حد ما‪ -‬ف���ي الداخل والخ���ارج‪ ...‬إذن‬

‫السبب الثالث‪ :‬إن مفاهيم السالم هذه (المحبة والتسامح‬

‫أخالق���ي‪ ...‬وهذا مش���روع عمالق ال يقوم ب���ه طرف واحد أو‬

‫وواعية‪ ،‬وال يخرج إلى بدن الجماعات البشرية‪.‬‬

‫فم���ن مصلحة البش���رية أن تدافع عن تكوين كائ���ن مؤمن متقٍ‬

‫وقب���ول اآلخ���ر) تعاني م���ن التوقف عند مرحلة تنظيرية تتس���م‬

‫أبن���اء دي���ن واحد منفردين‪ ،‬بل البد من تكاتف عالمي في هذا‬

‫يجمعه���ا‪ ...‬لكأنها تجمع على هيئة "باقة زهر" يقدمها إنس���ان‬

‫الكاتبة مع المصلح الديني األلماني "هانس كينغ"‪ ،‬حين أطلق‬

‫بالفرداني���ة الت���ي ال يربطه���ا راب���ط خارجي‪ ،‬وال نس���ق داخلي‬ ‫خي���ر‬ ‫محب إلى اإلنس���انية‪ .‬لذل���ك نحن أحوج م���ا نكون إلى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫توظيف هذه المفاهيم المفردة في منظومة فكرية تس���اعد كافة‬

‫الن���اس ‪-‬وليس النخبة فق���ط‪ -‬على الرؤية واالقتن���اع وبالتالي‬ ‫الممارس���ة؛ أي نح���ن نحت���اج ألن نخ���رج من مرحل���ة تنظيرية‬ ‫خطابي���ة تبريري���ة عاطفية‪ ،‬إلى مرحلة أش���د اتس���ا ًقا تجمع هذه‬

‫لتكون منها كال متس��� ًقا‬ ‫منتظما‪ ،‬لتؤس���س‬ ‫ً‬ ‫المفاهي���م المف���ردة‪ّ ،‬‬ ‫منه���ا فلس���فة يقتنع بها عامة الن���اس‪ ،‬وال تظل في حدود فردية‬

‫عالية الروحانية‪.‬‬

‫وإذا كان���ت الكاتب���ة قد المس���ت إش���كالية مفهوم الس�ل�ام‬

‫وأبرزت تلك األسباب الثالثة‪ ،‬فإن مفهوم السالم غني بدالالته‬ ‫التي جرى الحديث عنها‪ ،‬كي يحقق البعد الحضاري اإلنساني‪،‬‬ ‫بالعودة إلى الدين واألخالق في إطار ثقافي يوازن بين الـ"أنا"‬

‫واآلخ���ر‪ ،‬والفط���ري والمكتس���ب‪ ،‬والذات���ي والموضوع���ي‪،‬‬ ‫والف���ردي والجماع���ي‪ ،‬والمحل���ي واإلقليم���ي والعالم���ي‪.‬‬ ‫وتتف���ق الكاتب���ة "س���عاد الحكيم" مع كبار مفكري الس�ل�ام‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪48‬‬

‫اإلطار بين الشعوب وقيادتها الروحية‪ .‬وفي هذا السياق تتفق‬ ‫شعار "ال سالم بين الشعوب من دون سالم بين األديان"‪.‬‬

‫وتس���تمر الكاتب���ة في حديثها قائل���ة‪" :‬حتى ال يكون كالمنا‬

‫جزءا من "مدينة فاضلة" ال نرى مقدمات‬ ‫على"الرادع الداخلي" ً‬ ‫تحققه���ا في أفق تاريخن���ا المنظور‪ ...‬نحصر الحديث فيما هو‬ ‫مب���اح ونق���ول إن كينونة اإلنس���ان وحدة ال تتج���زأ‪ ،‬وتعبر هذه‬

‫ال‪-‬‬ ‫الوحدة عن نفس���ها في جميع تجلياتها‪ ...‬فلو استطعنا ‪-‬مث ً‬ ‫أن نصلح أداء اإلنس���ان على مس���توى تجل من تجليات ذاته‪،‬‬

‫واستنادا إلى‬ ‫لربما ينعكس هذا اإلصالح على الكينونة نفسها؛‬ ‫ً‬ ‫قاعدة الوحدة الذاتية لإلنس���ان‪ ،‬أي إذا اس���تطعنا أن نعدل من‬

‫األداء العائلي لإلنس���ان‪ ،‬لربما اس���تقام في الوقت نفس���ه أداؤه‬ ‫االجتماعي وكذا أداؤه على صعيد اإلنسانية عامة‪.‬‬

‫ونض���ع بي���ن ي���دي آفاق الح���وار‪ ،‬م���ا نرصد م���ن تجليات‬

‫للكينونة اإلنس���انية في الجهات األربع‪ ،‬مقتنعين أنه ال س�ل�ام‬

‫بين الناس ما لم يتحقق السالم على المستويات األربعة لتجلي‬ ‫كينونة اإلنس���ان وهي‪ :‬الس�ل�ام الداخلي‪ ،‬السالم االجتماعي‪،‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬إسحاق بن عبد اهلل السعدي*‬

‫وموقف‬

‫منه‬

‫تع���د قضي���ة الس�ل�ام م���ن القضاي���ا الكبرى في‬

‫الكبير مالك بن نبي رحمه اهلل‪.‬‬

‫لفظه���ا وجنوح الفطر الس���ليمة إليه���ا‪ ،‬وكونها‬

‫اإلنس���اني"‪ ،‬ش���خصت الكاتبة أس���باب إخفاق مفاهيم السالم؛‬

‫التاري���خ‪ .‬وعلى الرغم من سالس���تها وعذوبة‬

‫وفي دراس���ة لـ"س���عاد الحكيم" بعنوان "نحو فلسفة للسالم‬

‫قديما وحدي ًثا‪ -‬في تأس���يس عالقة‬‫خي���ار العق�ل�اء والحكماء‬ ‫ً‬

‫كالمحبة والتس���امح والحوار وقبول اآلخر كجزء ال يتجزأ من‬

‫تربط بين األفراد والجماعات والدول والشعوب‪ ،‬إال أن وقائع‬

‫السبب األول‪ :‬إن مفاهي���م السالم بقيت عند الممارسة في‬

‫أو تالعب���ت بدالالته���ا ومفهومه���ا وأدخلتها حلب���ة المزايدات‬

‫أشخاصا هنا وهناك وعلى امتداد العالم‪ ،‬يريدون‬ ‫في أننا نجد‬ ‫ً‬

‫المطام���ع والمصال���ح وصراع القوى‪ ،‬مم���ا يحدو بالباحث في‬

‫رؤية اآلخر في الذات‪ .‬ولكن هؤالء األش���خاص لم يستطيعوا‬

‫اإلنس���ان بأخيه اإلنس���ان‪ ،‬وفي العالقات الخاصة والعامة التي‬

‫الذات في ثالثة أسباب‪:‬‬

‫التاري���خ ومجري���ات أحداث���ه‪ ،‬أغفلته���ا في كثير م���ن األحوال‪،‬‬

‫إط���ار فردي نخبوي ول���م تمس حياة الجماعة عامة‪ .‬ال ش���ك‬

‫السياس���ية والتفس���يرات الديني���ة المؤدلج���ة؛ كذل���ك تقاذفته���ا‬

‫الس�ل�ام حقيق���ة‪ ،‬ويتحلون بالتس���امح والمحب���ة‪ ،‬والقدرة على‬

‫ه���ذه القضي���ة الكبرى للنظ���ر لخلفيتها التاريخية‪ ،‬إما كوس���يلة‬

‫محصورا‬ ‫قويا‪ ،‬وظل نشاطهم‬ ‫أهليا ًّ‬ ‫ً‬ ‫لألسف‪ -‬أن يشكلوا ً‬‫تيارا ًّ‬

‫لإلمبراطوري���ة‪ ،‬وإما كطريق للحضارة عل���ى حد تعبير المفكر‬

‫في نخبة طائفية أو قلة فكرية‪.‬‬

‫‪47‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫بالخ���روج من دائرة العبثية المؤسس���ة عل���ى اللذة والفن للفن‪،‬‬ ‫تنمي في اإلنسان الجوانب‬ ‫وجعل للفن رسالة إنسانية سامية‪ّ ،‬‬ ‫الفطري���ة وتس���عفه عل���ى جعله���ا مندرج���ة ف���ي إط���ار الوجه���ة‬ ‫التوحيدية المستعادة (بالتذكير الفطري والمحاججة المؤسسة‬ ‫على الفطري من معارف العقل)‪.‬‬ ‫المؤذن فيهم‬ ‫أرضا ون���ادى‬ ‫دلي���ل ذلك‪ ،‬ما دخل‬ ‫ُ‬ ‫اإلس�ل�ام ً‬ ‫ُ‬ ‫بالص�ل�اة بغي���ر أنغامهم وألحانه���م المتداولة بينهم‪ ،‬وما أنش���د‬ ‫منش���د أو مدح مادح أو‪ ...‬في المس���لمين في مختلف أصقاع‬ ‫األرض بغي���ر تل���ك األنغ���ام واأللحان التي تطرب لها أس���ماع‬ ‫س���مع أثر ذل���ك في ترتي���ل القرآن‬ ‫أه���ل تل���ك األرض‪ ...‬بل ُي َ‬ ‫الكريم‪ ،‬ودليل ذلك واقع أنغام األذان والترتيل والمديح شر ًقا‬ ‫وعجما‪ .‬فأذان المدينة المنورة مختلف عن أذان‬ ‫عربا‬ ‫وغرب���ا‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مكة‪ ،‬وهما متخلفان عن أذان إس���طنبول‪ ،‬وهي بدورها متميزة‬ ‫نغما ع���ن أذان المغرب‬ ‫ع���ن أذان بغ���داد‪ ،‬وجميعه���ا مختلف���ة ً‬ ‫اإلس�ل�امي‪ ،‬وف���ي المغ���رب اإلس�ل�امي نفس���ه تماي���ز؛ فاألذان‬ ‫نغما عن أذان تون���س‪ ،‬وتميزهما‬ ‫األصي���ل ف���ي الجزائر متمي���ز ً‬ ‫نغم���ا عن أذان المغرب (مراكش على ق���ول إخواننا األتراك)‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ظاه���ر جل���ي‪ ،‬والتمايز نفس���ه ظاهر جلي في المديح والنش���يد‬ ‫الديني ومختلف األنغام‪.‬‬ ‫شف مما سبقت اإلشارة إليه‪ ،‬أن اإلسالم دين الفطرة‪،‬‬ ‫ست ّ‬ ‫ُي َ‬ ‫م���ا أت���ى ثور ًة على الناس في أمورهم الفطرية‪ ،‬بل أتى مس���ع ًفا‬ ‫للناس الس���ترداد ِف َط ِرهم التي أجلتهم عنها برامج مؤسس���ات‬ ‫صناع���ة الوعي ممثلة في التربية والتعليم واإلعالم‪ ...‬وما جاء‬ ‫بأنموذج واحد في األنغام ُي ِ‬ ‫البعض ويبقي على البعض‬ ‫قصي بها‬ ‫َ‬ ‫وزودها‬ ‫فثمنها ّ‬ ‫اآلخ���ر‪ ،‬بل راعى ما درج عليه الناس من أنغام ّ‬ ‫بالوجه���ة التي تجعل م���ن الفنون الصوتية وس���يلة مهمة لتربية‬ ‫األذواق‪ ،‬وتبليغ المبادئ والقيم السامية التي جاء بها اإلسالم‪.‬‬ ‫وخلع اإلس�ل�ام على الفن ميزته المتمثلة في الشمول‪ ،‬فال‬ ‫اإلس�ل�ام الفصل بين الدين والدنيا‪ ،‬فكذلك الفن المعتبر‬ ‫َيقبل‬ ‫ُ‬ ‫ومعب ًرا عنه‪.‬‬ ‫خادما لذات الش���مول‬ ‫في اإلس�ل�ام‪ ،‬فهو م���ا كان‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مفسدا‬ ‫ال للدنيا‪ ،‬وما كان‬ ‫فما كان‬ ‫مصادما للدين ال يكون مقبو ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فهم من ذلك أن اإلس�ل�ام‬ ‫دينيا‪ .‬وال ُي َ‬ ‫للدنيا ال يمكن أن يقبل ًّ‬ ‫ُي ِ‬ ‫هم���ل أح���وال الن���اس وأوضاعهم فيجع���ل ِ‬ ‫عاما‬ ‫الج َّد قانو ًن���ا ً‬ ‫ال حي���دة عنه كم���ا يفهمه بعض أهلنا‪ ،‬ب���ل القضية بحاجة إلى‬ ‫الجد‪ ،‬فمن دواعي اس���تمرار‬ ‫ضبط‪ .‬فاإلس�ل�ام وإن كان قانونه‬ ‫ّ‬ ‫تعهد النفوس بالترويح س���اعة فس���اعة‪ ،‬وحديث حنظلة‬ ‫الج���د ّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪46‬‬

‫ال���ذي أخرج���ه الترمذي يؤكد ه���ذه المعاني‪ :‬فق���د ورد فيه أن‬

‫مر بحنظلة وه���و يبكي‪ ،‬فقال ما لك ي���ا حنظلة؟ قال‪:‬‬ ‫أب���ا بك���ر ّ‬

‫ناف���ق حنظلة يا أبا بكر‪ ،‬نكون عند رس���ول اهلل ‪ ‬يذكرنا بالنار‬

‫والجنة كأ ّنا َر ْأ َي عين‪ ،‬فإذا رجعنا إلى األزواج والضيعة نسينا‬

‫كثي���را‪ ،‬ق���ال‪ :‬ف���واهلل إن���ا لكذلك‪.‬‬ ‫انطل���ق بنا إلى رس���ول اهلل ‪‬‬ ‫ْ‬ ‫ً‬

‫فانطلقنا‪ ،‬فلما رآه رسول اهلل ‪ ‬قال‪" :‬ما لك يا حنظلة؟" قال‪:‬‬

‫ناف���ق حنظلة يا رس���ول اهلل‪ ،‬نكون عندك تذكرن���ا بالنار والجنة‬ ‫كأ ّن���ا َر ْأ َي عين‪ ،‬فإذا رجعنا عافس���نا األزواج والضيعة ونس���ينا‬

‫كثيرا‪ ،‬قال‪ :‬فقال رس���ول اهلل ‪" :‬لو تدومون على الحال التي‬ ‫ً‬

‫تقوم���ون بها من عن���دي‪ ،‬لصافحتكم المالئكة في مجالس���كم‬ ‫وف���ي طرقكم وعلى فرش���كم‪ ،‬ولكن يا حنظلة س���اعة وس���اعة‬ ‫ساعة وساعة"‪.‬‬

‫تمت���از الفن���ون الصوتي���ة بجمل���ة م���ن الخصائص‪ ،‬رأس���ها‬

‫االرتب���اط الوثي���ق بالمرجعية‪ .‬رس���التها الرئيس���ة تبلي���غ الهداية‬ ‫اإللهية والتجاوب مع حاجة اإلنس���ان للراحة والترويح ألجل‬ ‫معبرة عن التوحيد‬ ‫المداومة على الجد‪ ،‬فتكون الفنون الصوتية ّ‬ ‫وم ِنز ِعه لتنمية (التس���امي) اإلنس���ان‬ ‫ف���ي رؤيت���ه للكون والحياة َ‬

‫قصده‬ ‫وترقيت���ه إل���ى ذروة الطاع���ة والتخل���ق بأخ�ل�اق النب���وة؛‬ ‫ُ‬ ‫استعادة اإلنسان فطرته‪ ،‬ولكن في إطار عمل استئنافي يرفض‬

‫البداي���ة الصفري���ة في الفن‪ ،‬كرفضه البداي���ة الصفرية في مبادئ‬

‫مثم ًنا‬ ‫العقل واألخالق والقيم اإلنسانية الرفيعة‪ ،‬بل جاء ّ‬ ‫متم ًما ّ‬ ‫لما بقيت الفطرة فيه سليمة‪.‬‬

‫(*) كلية العلوم اإلسالمية‪ ،‬جامعة الجزائر ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫خمس‬ ‫خم���س‪ ،‬أو‬ ‫(‪ )1‬يش���هد ل���ه م���ا أخرج���ه البخاري في صحيح���ه‪ " :‬الفطر ُة‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫وقص‬ ‫وتقلي���م األظفارِ ‪،‬‬ ‫اإلبط‪،‬‬ ‫ونتف‬ ‫واالس���تحداد‪،‬‬ ‫الختان‪،‬‬ ‫م���ن الفط���رة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الشارب‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )2‬راجع أطلس الحضارة اإلس�ل�امية‪ ،‬إس���ماعيل راجي الفاروقي‪ ،‬لوس لمياء‬ ‫الفاروق���ي‪ ،‬ترجم���ة عب���د الواح���د لؤل���ؤة‪ ،‬مكتبة العبي���كان‪ ،‬الطبع���ة األولى‬ ‫‪1419‬ه���ـ‪1998/‬م‪ ،‬ص‪ .620:‬اس���تعمل مصطلح الفنون الصوتية األس���تاذ‬

‫ال عن الفنون الموس���يقية‪ ،‬واس���تعمل غيره الفنون الس���ماعية‪،‬‬ ‫الفاروقي بدي ً‬ ‫وهو مصطلح له حضوره القوي في أدبيات الصوفية‬ ‫عموما‪ .‬والمصطلحان‬ ‫ً‬

‫غني���ان باإليح���اءات اإليجابية ومبعدان عن اإليحاء الس���لبي الذي‬ ‫يتس���رب‬ ‫ّ‬

‫م���ن اس���تعمال لفظ الموس���يقى بمعن���ى اس���تعمال اآلالت ال بمعنى القول‬ ‫الم���وزون‪ ،‬فق���د ارتبط ف���ي كثير من البيئ���ات في العالم اإلس�ل�امي بالعبثية‬

‫ومسالك المجون‪.‬‬


‫أو العقل أو األخالق أو القيم اإلنس���انية‬ ‫الكبرى‪.‬‬

‫ولع���ل في قوله صل���ى اهلل عليه وآله‬

‫وصحب���ه وس���لم فيم���ا رواه الترم���ذي‪:‬‬ ‫م���كارم األخالق" ما‬ ‫ألتم َم‬ ‫"إنم���ا ُب ِع ُ‬ ‫َ‬ ‫ثت ّ‬ ‫يؤكد ه���ذه المعاني‪ .‬فإذا جاء اإلس�ل�ام‬ ‫متم ًم���ا ‪-‬أي‪ ،‬م���ا‬ ‫ف���ي ش���أن األخ�ل�اق ّ‬ ‫مقصيا لكل ما س���لف‪ -‬فإنه‬ ‫ملغيا‬ ‫ً‬ ‫ج���اء ً‬

‫بالنس���بة لسائر مكونات الفطرة ال يكون‬ ‫مس���اعدا اإلنس���ان‬ ‫إال كذل���ك‪ ،‬فقد جاء‬ ‫ً‬ ‫الس���تعادة الفط���رة في جمل���ة مكوناتها‪.‬‬

‫يؤي���د ه���ذا المعنى ما ورد ف���ي الحكمة‬

‫التي سارت بها الركبان‪" :‬الحكمة ضالة‬

‫للص���وت الجمي���ل‪ ،‬ف�ل�ا يمك���ن رف���ض‬

‫الف��ن مرتبط باملرجعي��ة الفكرية‬ ‫والديني��ة والإثني��ة للمجتمعات‬ ‫الإن�س��انية �أو الر�ؤية الفل�س��فية‪،‬‬ ‫له��ذا ال وجود لفن خ��ارج عامل‬ ‫الإن�سان امللون بالأر�ض والتاريخ‬ ‫واجلغرافي��ا والع��رق‪ ،‬ذل��ك �أن‬ ‫الفن خ�صي�ص��ة �إن�سانية‪ ،‬فحيث‬ ‫وجد الإن�سان وجد الفن‪ ،‬والفن‬ ‫بهذا املعن��ى‪ ،‬ال يكون �إال ت�رصفًا‬ ‫فطريًّا للإن�سان يف �شعاب احلياة‪.‬‬

‫أحق بها"‪.‬‬ ‫المؤمن‪ ،‬أ ّنى وجدها فهو ّ‬

‫تعبيرا بالرس���م‪ ،‬أو‬ ‫الف���ن الذي يمثل إما‬ ‫ً‬

‫واحدا‪ -‬بل األصل‬ ‫ال‬ ‫تعبيرا بالكالم ‪-‬قو ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫في���ه اإلباح���ة ‪-‬عل���ى األقل‪ -‬وف���ق ما ال‬

‫يتع���ارض م���ع المب���ادئ الش���رعية‪ ،‬التي‬

‫بدوره���ا أت���ت وف���ق مقتضي���ات الفطرية‬ ‫اإلنس���انية ف���ي أص���ل الخلق���ة‪ .‬م���ن هنا‬

‫نؤمن بمبدأ االجته���اد في التعبير الفني‪،‬‬

‫ومن ث���م جواز الخطأ ف���ي البذل الفني‪،‬‬ ‫بش���رط أن يك���ون الباع���ث عل���ى العمل‬ ‫الفني‪ ،‬الس���عي ال���دؤوب لتمثل الحقائق‬

‫اإلس�ل�امية التي تتمحور ح���ول التوحيد‬

‫أس���اس اإليمان‪ ،‬والخير والسمو بالبشر‬

‫إلى القيم اإلسالمية المثلى‪.‬‬

‫وم���ن القضاي���ا ذات الصل���ة بالحكم���ة‪ ،‬مس���ألة الفن بصفة‬

‫الف���ن مرتب���ط بالمرجعي���ة الفكري���ة والديني���ة واإلثني���ة‬

‫وفق تعبير أهله "محاوالت تعبيرية تس���تهدف تجسيد المشاعر‬

‫خ���ارج عالم اإلنس���ان الملون ب���األرض والتاري���خ والجغرافيا‬

‫م���ن المنتس���بين إلي���ه م���ن التعبير عن مش���اعرهم اإلنس���انية أو‬

‫فطريا‬ ‫وج���د الف���ن‪ ،‬والف���ن بهذا المعن���ى‪ ،‬ال يكون إال تصر ًف���ا‬ ‫ًّ‬

‫عامة والفنون الصوتية(‪ )2‬على وجه الخصوص‪ .‬وإذا كان الفن‬

‫اإلنسانية" فهذا مما يراعيه اإلسالم‪ ،‬وال يمكن أن يمنع الناس‬ ‫تجسيدها‪ ،‬ذلك أنه دين يراعي استعدادات الناس وحاجاتهم‪،‬‬ ‫ال عن كونه صيغ وفق ما ييسر لهم االقتناع واإلقناع‪.‬‬ ‫فض ً‬

‫للمجتمعات اإلنس���انية أو الرؤية الفلسفية‪ ،‬لهذا ال وجود لفن‬

‫والعرق‪ ،‬ذلك أن الفن خصيصة إنسانية‪ ،‬فحيث وجد اإلنسان‬ ‫لإلنسان في شعاب الحياة‪.‬‬

‫ح���ل اإلس�ل�ام ب���أرض وطلب م���ن أهله���ا أن يخرجوا‬ ‫م���ا َّ‬

‫الح���دث الفن���ي يتعلق بالش���عور واألذواق‪ ،‬له���ذا يصعب‬

‫عما فطروا عليه‪ ،‬ذلك أنه دين الفطرة‪ ،‬يش���هد لهذا المعنى ما‬

‫فالفن األرقى‪ ،‬هو الذي يمتزج فيه الصدق مع الجمال وخدمة‬

‫ينصرانه‬ ‫يهودانه أو ّ‬ ‫"ما من مولود إال يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه ّ‬

‫عرض���ه عل���ى المحاكم���ات العقلي���ة‪ .‬وبالرغم م���ن كل ذلك‪،‬‬ ‫ومتميزا‬ ‫ممتازا‬ ‫المقصد اإلنس���اني‪ .‬من هنا كان الفن األس���مى‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫وبينة‪،‬‬ ‫بوظيفة رسالية ذات أبعاد اجتماعية ظاهرة وذوقية رفيعة ّ‬

‫تسهم في السمو المعنوي والرقي المادي‪ ،‬تتسامى فيه النفس‬ ‫إل���ى رتبة س���امقة‪ ،‬تتط ّلع إل���ى القيم اإلنس���انية الرفيعة وخدمة‬ ‫المقاصد اإلنسانية النبيلة‪.‬‬

‫الفن���ان المتزود بالمبادئ اإلس�ل�امية‪ ،‬المنبثق إبداعه الفني‬

‫عنه���ا‪ ،‬فنان يريد خدمة تل���ك المبادئ بوس���ائل فنية‪ .‬فاإلبداع‬ ‫في الفنون اإلسالمية‪ ،‬منبثق عن القيم األخالقية المستندة إلى‬

‫المبادئ المؤسس���ة للدين نفسه‪ ،‬وليس معنى ذلك أنها بمعزل‬

‫عن اإلنسان‪ ،‬بل هي متناغمة معه‪ ،‬ذلك أن اإلنسان مفطور على‬ ‫ح���ب الصورة الجميلة والصوت الش���جي واألداء الحس���ن‪...‬‬ ‫وبم���ا أن اإلنس���ان مفط���ور عل���ى ح���ب الجم���ال ويطرب‬

‫أخرج���ه البخ���اري عن أبي هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رس���ول اهلل ‪:‬‬

‫يمجسانه‪ ،‬كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء‪ ،‬هل تحسون فيها‬ ‫أو ّ‬

‫من َج ْدعاء"‪ ،‬ثم يقول أبو هريرة ‪ :‬فطرة اهلل التي فطر الناس‬ ‫عليه���ا ال تبديل لخلق اهلل ذلك الدين القيم‪ .‬قال ابن حجر في‬

‫فت���ح الباري‪ :‬الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه‪ ،‬بل‬ ‫إنما حصل بس���بب خارجي‪ ،‬فإن َس ِلم من ذلك السبب استمر‬ ‫على الحق‪.‬‬

‫وط َربه‬ ‫تغني اإلنس���ان َ‬ ‫وم���ن الجوان���ب المتعلقة بالفط���رة‪ّ ،‬‬

‫أرضا وطلب من أهلها‬ ‫دخل‬ ‫اإلس�ل�ام ً‬ ‫للصوت الش���جي‪ ،‬فما َ‬ ‫ُ‬ ‫تغيي���ر أنغامهم واأللح���ان المتداولة بينهم‪ ،‬ب���ل أقرهم على ما‬

‫هم عليه‪ ،‬كإس���عافهم على اس���تعادة فطرته���م الدينية وفطرتهم‬ ‫العقلية واألخالقية والقيم اإلنسانية الرفيعة‪.‬‬

‫زودها بالوجهة فأس���عفهم‬ ‫م���ا أخرجهم عن أنغامه���م‪ ،‬بل ّ‬

‫‪45‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫ثقافة وفن‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عمار جيدل*‬

‫منزلة الفنون الصوتية‬

‫في الرؤية اإلسالمية‬

‫يتمي���ز اإلس�ل�ام ‪-‬بوصف���ه الرس���الة اإللهي���ة‬

‫ال عن كونه كذلك‪ ،‬فقد اس���توعب حاجات اإلنس���ان‬ ‫وفض ً‬

‫والنفس���ية‬

‫الحرب‪ ،‬الصغير‪/‬الكبير‪ ،‬الغني‪ /‬الفقير‪ ،‬الحياة‪/‬الموت‪ ،‬الدنيا‪/‬‬

‫الخاتم���ة‪ -‬بعرض مضمونه وفق اس���تعدادات‬ ‫اإلنس���ان‬

‫العقلي���ة‬

‫والقلبي���ة‬

‫فطريا‪ ،‬يراعي الفطرة‬ ‫واالجتماعي���ة‪ ،‬من ثم كان اإلس�ل�ام دي ًن���ا‬ ‫ًّ‬ ‫في مجمل مكوناتها‪ ،‬فيش���بع حاجة اإلنس���ان للدين كما يشبع‬

‫حاجت���ه للقي���م اإلنس���انية الرفيعة واألخالق الس���وية‪ ،‬ويعرض‬

‫كل ذل���ك في صيغ تراعي أس���س موازين العق���ل‪ .‬وبهذا يؤكد‬ ‫ّ‬

‫اإلس�ل�ام بأنه منس���جم مع الفطرة من حيث كون الفطرة يمكن‬ ‫التعبير عنها بالمعادلة اآلتية‪.‬‬

‫الفطرة = الدين ‪ +‬المبادئ المدبرة للعقل ‪ +‬القيم اإلنسانية‬

‫الرفيعة ‪ +‬أخالق الفطرة(‪.)1‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪44‬‬

‫ف���ي جميع األح���وال (الفرد‪/‬الجماع���ة‪ ،‬الذكر‪/‬األنثى‪ ،‬الس���لم‪/‬‬ ‫أطرا تؤك���د أنه من حي���ث مضمونه‬ ‫اآلخ���رة‪ ،)...‬ووض���ع له���ا ً‬ ‫مراعي���ا للفطرة التي عليها اإلنس���ان في أصل خلقته‪ .‬فلم يأت‬ ‫ً‬

‫مصادما الس���تعدادات‬ ‫فض�ل�ا عن أن يكون‬ ‫مزاحما‪،‬‬ ‫اإلس�ل�ام‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫اإلنس���ان وحاجات���ه‪ ،‬العقلي���ة والديني���ة واألخالقي���ة والقيمي���ة‬ ‫اإلنس���انية الكبرى‪ .‬فكل ما كان من جنس ما س���بقت اإلش���ارة‬

‫إلي���ه‪ ،‬ال يك���ون إال مح���ل عناي���ة واعتبار في صياغ���ة الخطاب‬ ‫مس���اعدا في أصل‬‫ومقاص���ده‪ .‬له���ذا كان الدي���ن اإلس�ل�امي‬ ‫ً‬ ‫وضعه‪ -‬الس���تعادة اإلنس���ان فطرته‪ ،‬س���واء تع ّلق األمر بالدين‬


‫أدب‬

‫أديب إبراهيم الدباغ*‬

‫اإلنسان المعرفي‬ ‫اإلنس���ان المعرف���ي‪ ،‬ه���و ذلك اإلنس���ان الذي‬ ‫جنبي���ه‪،‬‬ ‫يح���اول أن يع���رف نفس���ه الت���ي بي���ن ْ‬ ‫ويع���رف العالم م���ن حوله‪ .‬والرغب���ة بالمعرفة‬ ‫ن���ازع إنس���اني‬ ‫ملح يضطر اإلنس���ان‬ ‫ّ‬ ‫غريزي فط���ري‪ ،‬وهو دافع ّ‬ ‫بسببه إلى البحث عن الطريق الموصلة إلى هذه المعرفة َف َي ِج ُّد‬ ‫في سلوكها وقطع أشواطها‪.‬‬ ‫فالنقطة الفارقة التي عندها يتحول اإلنسان من مجرد كتلة‬ ‫َّ‬ ‫جس���دية ثقيلة‪ ،‬إل���ى طاقة روحية وفكرية‪ ،‬ه���ذه النقطة الفارقة‬ ‫ه���ي عندم���ا يخطو الخط���وة األولى ف���ي هذه الطري���ق‪ ،‬فيغدو‬ ‫تتوخى اإلنسانية‬ ‫ش���ك ً‬ ‫ال آخر من أشكال الرقي اإلنساني‪ ،‬التي ّ‬ ‫تاجا على رأسها‪،‬‬ ‫ابتعاثه إلى العالم من بين أبنائها لكي يكون ً‬ ‫تزهو به وتفخر أمام الكون والكائنات‪.‬‬ ‫و َل ّما كان "المعرفي" بتميزه الفكري‪ ،‬هو أكبر وأوسع ِم َّم ْن‬ ‫يس���تطيع الن���اس‬ ‫وحت���ى احتماله‬ ‫العادي���ون والتقليدي���ون فهمه ّ‬ ‫ّ‬ ‫والوث���وق به‪ ،‬لذلك‬ ‫وكرد فعل من جانبه‪ -‬يبدأ باالنس���حاب‬‫ّ‬ ‫إل���ى أعم���اق نفس���ه‪ ،‬ليمحص فيه���ا أف���كاره‪ ،‬ويراج���ع معارفه‬ ‫وثقافات���ه‪ .‬وقد يمضي في طريقه المعرفي‬ ‫متفر ًدا‪ ،‬دون‬ ‫ً‬ ‫وحيدا ّ‬ ‫ش���عوره بالحاج���ة إلى البح���ث ع���ن رواد كبار كانوا ق���د َم ُّروا‬ ‫قبل‪ ،‬لكي يأنس بهم ويس���تعين بوجودهم‬ ‫بالطريق نفس���ها من ُ‬ ‫على معرفة الطريق ومسالكها وشعابها وسهولها وحزونها‪.‬‬ ‫فأه���وال الطري���ق م���ن الكثرة‪ ،‬بحي���ث تتطلب من س���الكها‬ ‫الرواد‬ ‫الملمين‬ ‫الكثير من اليقظة واالنتباه‪ ،‬والكثير من الرفقاء ّ‬ ‫ّ‬ ‫بش���ؤونها وأبعاده���ا‪ ،‬وإال أصابه التعب‪ ،‬وربم���ا هلك وهو لم‬ ‫يقطع من الطريق إال القليل‪.‬‬ ‫وم���ن جانب آخ���ر فإن تفرد "المعرفي" بنفس���ه في س���لوك‬ ‫الطريق خطأ ذهني باألس���اس‪ ،‬ألن االس���تقاللية الفردانية وهم‬ ‫يق���ع فيه "المعرف���ي" لعدم التفاته إلى الحقيقة المش���اهدة‪ ،‬مما‬ ‫يحيط بنا من أن األش���ياء ال يستقل بعضها عن البعض اآلخر‪،‬‬ ‫وأن���ه ال يمكن فهم ش���يء‪ ،‬إال إذا اقترن وجوده بوجود ش���يء‬ ‫حق المعرفة‪،‬‬ ‫آخر‪ .‬واإلنسان ‪-‬كذلك‪ -‬ال يمكن ْ‬ ‫أن يعرف ذاته ّ‬ ‫إال إذا اتصل���ت ه���ذه الذات بالذوات األخ���رى المختلفة معها‬

‫وحتى المتشاكلة معها‪.‬‬ ‫والمفت���اح الذي يديره المعرفي ف���ي مغاليق ما يواجهه من‬ ‫إيهامات معرفية وإش���كاالت وجودية وه���و يقطع الطريق إلى‬ ‫هدفه‪ ،‬إنما هو ‪-‬أي المفتاح‪َ -‬ف َّعالية ذهنية مضنية‪ ،‬ته ُّز أعماق‬ ‫مدارك���ه ليحظ���ى من بعده���ا باللحظة المضيئة الت���ي تضيء له‬ ‫معض�ل�ات الطريق‪ ،‬وترش���ده إلى وس���ائل تجاوزه���ا‪ ...‬وهذه‬ ‫اللحظ���ة المضيئة‪ ،‬تتنزل على س���ماء العقل بعد مجاهدة ذهنية‬ ‫مضني���ة‪ ،‬كالنج���م الثاق���ب م���ن وراء الغي���ب لك���ي تعين���ه على‬ ‫مواصلة السير على نور وهدى ويقين‪.‬‬ ‫و"المعرف���ي" بفع���ل ذلك‪،‬‬ ‫مدفوع���ا بقوى روحي���ة وعقلية‬ ‫ً‬ ‫هائلتين‪ ،‬تقودان خطاه وتالزمانه في هذه الطريق‪ ،‬وتخلي هذه‬ ‫القوى عنه وتركه هناك‬ ‫وحيدا‪ ،‬يشكل إحدى أشد االنتكاسات‬ ‫ً‬ ‫الت���ي تفجع "المعرف���ي" في أخص خصائص وجوده كإنس���ان‬ ‫متمي���ز‬ ‫ومتف���وق‪ ،‬ونموذج مث���ال‪ ،‬واقتداء في اكتش���اف حقائق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العق���ل‪ ،‬واكتش���اف م���ا تنطوي علي���ه الروح م���ن عوالم ال زال‬ ‫سرا من أسرار أصحاب عظماء الروح في هذا العالم‪.‬‬ ‫اكتشافها ًّ‬ ‫وتتب���ع خطوات "رجل المعرفة" في الطريق التي يس���لكها‪،‬‬ ‫أحياء‬ ‫ش���يئا م���ن الطمأنينة؛ بأنن���ا ال زلنا‬ ‫فكري���ا‪ ،‬وبأننا‬ ‫تمنحن���ا ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ال زلن���ا نمل���ك إراد ًة تدفعن���ا الرتقاء الدرج���ات المعرفية التي‬ ‫ارتقاها والتعلم منها‪ ،‬وبأننا بهذه المتابعة ُن َك ِّفر عن األيام التي‬ ‫انشغ ْلنا فيها عن اللحظات القدسية واالنتشائية التي نحظى بها‬ ‫اليوم‪ ،‬من خالل مش���اركتنا لرجل المعرفة باهتماماته المعرفية‬ ‫العالي���ة‪ ،‬واإلعج���اب ببصيرت���ه المدرك���ة الناف���ذة إل���ى ما وراء‬ ‫ه���ذا العالم‪ ،‬والذي يجعل أذهاننا تس���تمتع إلى حد االنتش���اء‪،‬‬ ‫با ْلتماع���ات أفكاره وانعتاقاتها من س���جون األرض الدنيا‪ ،‬إلى‬ ‫ص���روح الروح التي يقيمها من مقالع فكره وروحه‪ ...‬وأقلُّ ما‬ ‫يمكن أن تفيدنا هذه المتابعة لرجل المعرفة‪ ،‬هو الخالص من‬ ‫س���أم البطال���ة الفكرية المدمرة‪ ،‬أو الوقوع في ش���باكات اللغظ‬ ‫الفارغ الذي يراد ملأْ ُ أذهاننا به‪.‬‬ ‫(*) كاتب وأديب عراقي‪.‬‬

‫‪43‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫شعر‬

‫محمد محمود عبد العال*‬

‫ابتهال مع موكب الحجيج‬ ‫إلى األرض الحرام س � � ��عت جمو ُ‬ ‫ع‬ ‫تلب � � ��ي ربه � � ��ا الرحم � � ��ن س � � ��عيا‬ ‫تق � � ��ول لم � � ��ن أراد له � � ��ا خضوعا‪:‬‬ ‫ف � � ��إن الل � � ��ه أكب � � ��ر من � � ��ك بطش � � ��ا‬

‫�وع‬ ‫يواكبه � � ��ا التبت � � ��ل والخش � � � ُ‬ ‫ودق � � ��ات القل � � ��وب س � � ��نا يض � � ��وع‬ ‫لغي � � ��ر الل � � ��ه لي � � ��س لن � � ��ا خض � � ��وع‬ ‫ومن � � ��ك تب� � � �رأ الحان � � ��ي يس � � ��وع‬

‫حجيج من فج � � ��اج األرض جاؤوا‬ ‫بح � � ��ب الل � � ��ه يدفعه � � ��م ه � � ��واه‬ ‫فك � � ��م عاش � � ��وا على أم � � ��ل حبيب‬ ‫تحق � � ��ق حلمه � � ��م بع � � ��د اش � � ��تياق‬

‫به � � ��م ألداء منس � � ��كهم ول � � ��وع‬ ‫عل � � ��ى بح � � ��ر منابع � � ��ه الدم � � ��وع‬ ‫ون � � ��ار الش � � ��وق تحبس � � ��ها الضلوع‬ ‫فأين � � ��ع ف � � ��ي قلوبهم � � ��وا ربي � � ��ع‬

‫حجي � � ��ج البي � � ��ت يا م � � ��ن أوفدتكم‬ ‫إل � � ��ى الرحم � � ��ن إيمان � � ��ا بوع � � ��د‬ ‫إل � � ��ى قب � � ��ر الرس � � ��ول يف � � ��وح عطرا‬ ‫حجي � � ��ج البي � � ��ت فابتهلوا بس � � ��اح‬ ‫لع � � ��ل الل � � ��ه رب البي � � ��ت يأس � � ��و‬

‫ش � � ��عوب ش � � ��دها أم � � ��ل وج � � ��وع‬ ‫بنص � � ��ر من � � ��ه يرج � � ��وه الجمي � � ��ع‬ ‫وم � � ��ن غي � � ��ر الرس � � ��ول لنا ش � � ��فيع‬ ‫به � � ��ا اإلس� �ل ��ام حالف � � ��ه الذي � � ��وع‬ ‫جراح المس � � ��لمين‪ ..‬هو الس � � ��ميع‬

‫(*) شاعر مصري‪.‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪42‬‬


‫﴿و َأ ْن َلي ِ‬ ‫إل ْنس ِ‬ ‫ُ‬ ‫ان‬ ‫سل ِ َ‬ ‫أ ْخ َرى﴾(األنعام‪َ ْ َ ،)164:‬‬

‫جدا‪ ،‬فال يج���وز لنا الخروج عليه بحال‬ ‫ًّ‬ ‫من األحوال‪.‬‬

‫كذلك ينبغي االهتمام باللغة العربية‬

‫الت���ي نزل بها الن���ص‪ ،‬ألن هناك طوائف‬ ‫م���ن الذي���ن ادع���وا التجديد قدح���وا في‬ ‫دالالت اللغ���ة‪ ،‬وم���ن هن���ا يب���دأ الخطأ؛‬ ‫حي���ث يتس���ع المجال لكل من ش���اء أن‬

‫يق���ول ف���ي دي���ن اهلل ما ش���اء‪ .‬ف�ل�ا نقبل‬ ‫دع���وى التالعب باللغ���ة‪ ،‬وهي ما يدعو‬

‫إليه���ا معس���كر ما بع���د الحداث���ة‪ ،‬حيث‬ ‫تمث���ل هذه الدع���وى القدح في دالالت‬

‫اللغ���ة‪ ،‬وليس���ت اللغة العربي���ة وحدها‪،‬‬

‫ينبغ��ي على املجته��د �أن يكون‬ ‫عن��ده الق��درة عل��ى النظر يف‬ ‫الن���ص وطريق��ة فهم��ه‪ ،‬ويف‬ ‫الواق��ع وطريقة فهمه‪ ،‬ثم عليه‬ ‫�أم��ر ثالث وهو كيفية الو�ص��ل‬ ‫بينهما؛ كيف يغ�ير هذا الواقع‬ ‫مب�ؤ�س�س��ات وب�أف��كار وبعقود‬ ‫تت��واءم م��ع ه��ذه الأح��كام‬ ‫الت��ي قد ح�ص��لها م��ن الن�ص‪.‬‬

‫وه���و م���ا يس���مى بفوري���ة القواني���ن‪...‬‬

‫إل���خ‪ ،‬م���ن المب���ادئ الحاكم���ة للعق���ل‬ ‫المس���لم‪ ،‬والقواعد الفقهية مثل‪ :‬األمور‬

‫بمقاصده���ا‪ ،‬والض���رر ي���زال‪ ،‬واليقين ال‬ ‫يرفع بالش���ك‪ ،‬والع���ادة محكم���ة‪ ،‬وكذا‬ ‫المشقة تجلب التيسير‪.‬‬

‫فبعض ه���ذه القواعد خالصة الفقه‪،‬‬

‫وهذه القواعد يتفرع منها قواعد أخرى‪،‬‬

‫الب���د لن���ا م���ن إدراك المنه���ج‪ ،‬والب���د‬

‫لن���ا م���ن عملي���ة التجري���ب التي تس���قط‬

‫إنم���ا أي لغة‪ ،‬يريدون جعل وظيفة اللغة‬ ‫مجرد التلقي‪ .‬واللغة في الحقيقة‪ ،‬األداة‬

‫���ز ُاء‬ ‫���عى﴾(النجم‪،)39:‬‬ ‫ِإ َّ‬ ‫﴿و َج َ‬ ‫َ‬ ‫ال َم���ا َس َ‬ ‫َس��� ِّي َئ ٍة َس��� ِّي َئ ٌة ِم ْث ُل َه���ا َف َم ْن﴾(الش���ورى‪،)40:‬‬

‫المشخصات‪ ،‬وتبقي المعنى البد لنا من‬

‫والتلق���ي‪ ،‬فاالس���تعمال من صفة المتكل���م‪ ،‬والحمل من صفة‬

‫النظ���ر إلى الم���آل‪ ،‬البد لنا م���ن النظر إلى المصال���ح‪ ،‬البد لنا‬

‫الن���ص الش���ريف حس���ب انطباع���ات المفس���ر‪ ،‬دون االلت���زام‬

‫وتحسينية ودرجات العالقات البينية بينها‪ ،‬وهو ما لم يتم إلى‬

‫الس���امع‪ ،‬والوض���ع قبلهما‪ ،‬وبذلك فإنهم يس���عون إلى تفس���ير‬ ‫ب���دالالت اللغ���ة‪ .‬فنس���تطيع أن نق���ول‪ :‬إن الن���ص الش���ريف‪،‬‬

‫واإلجم���اع‪ ،‬ودالالت اللغ���ة‪ ،‬وهي مع ما يأتي أس���قف ينبغي‬ ‫للمجتهد أال يتعداها‪.‬‬

‫م���ن إدراك مراتب هذه المقاص���د‪ ،‬وأن منها ضرورية وحاجية‬

‫اآلن‪.‬‬

‫فكت���اب المقاص���د نج���ده يتكلم ع���ن المقاص���د ومراتبها‪،‬‬

‫ولك���ن ال يتكل���م ع���ن العالق���ات البينية‪ ،‬فإن ه���ذا محتاج إلى‬

‫ينبغ���ي على المجتهد كذل���ك مراعاة مقاصد التش���ريع؛ إذ‬

‫عم���ل كثي���ر حتى نس���تطيع أن ُنفعله���ا‪ ،‬أي نجعله���ا أداة أو آلة‬

‫قديما‬ ‫اإلنس���ان ‪-‬حس���ب التس���مية المعاص���رة وكانت تس���مى ً‬ ‫ِ‬ ‫بالع���رض أو النس���ل‪ -‬والملك ‪-‬وهي تس���مية معاصرة كذلك‬

‫تكتم���ل من إدراك الن���ص وإدراك الواقع‪ ،‬ومن الوصل بينهما‪،‬‬

‫الب���د أن يكون تحت س���قف صريح الن���ص واإلجماع واللغة‬

‫الترتيب‪ ،‬ألنه ليس ُمتفق على ترتيبها بش���كل معين‪ ،‬فالشاطبي‬

‫ف���إذا كان االجته���اد عل���ى هذا الش���كل م���ن إدراكه للنص‬

‫مناس���با للتفكير وللعصر كذلك‪ .‬فاإلنس���ان‬ ‫وهذا الترتيب أراه‬ ‫ً‬

‫اجتهاد صحيح‪ ،‬خاصة في الجانب المالي الذي نحن في أشد‬

‫تمثل النظام العام وهي حفظ النفس‪ ،‬والعقل‪ ،‬والدين‪ ،‬وكرامة‬

‫تب���ت ه���ذه المقاصد بهذا‬ ‫والتس���مية القديم���ة الم���ال‪ -‬وإنما َر ُ‬

‫ب���دأ بالدي���ن‪ ،‬والزركش���ي ي���ورد الخ�ل�اف ف���ي ه���ذا الترتيب‪،‬‬ ‫يحافظ على نفس���ه ثم على عقله ثم يك َّلف فيحافظ على دينه‬

‫ث���م يحافظ على كرامته وملكه‪ .‬وعلى ه���ذا الترتيب نكون قد‬ ‫أيضا‪ ،‬ألنه متفق عليه بين‬ ‫نظاما يصلح لغير المسلمين ً‬ ‫جعلناه ً‬ ‫البش���ر‪ ،‬فليس هناك نظام قانون���ي يبيح القتل العدوان‪ ،‬أو يبيح‬

‫الس���رقة ‪-‬إلى يومنا هذا‪ -‬في أي مكان‪ ،‬مما يجعل هذا النظام‬ ‫العام يتس���ع للتعددية الحضارية التي فعلها المس���لمون عندما‬

‫أبقوا غير المسلمين بكافة طوائفهم‪.‬‬

‫���ز ُر َوازِ َر ٌة وِ ْز َر‬ ‫﴿و َ‬ ‫ال َت ِ‬ ‫والمب���ادئ الديني���ة الت���ي تبي���ن أن���ه‪َ :‬‬

‫بيننا‪ ...‬إذا حدث هذا فهذه بعض ضوابط االجتهاد‪ ،‬والبد أن‬

‫والمقاصد والمصالح والمبادئ والقواعد‪.‬‬

‫والواق���ع ومن الوصل بينهما تحت ه���ذه المظلة‪ ،‬فإن اجتهاده‬

‫الحاج���ة إليه‪ ،‬ألن العبادات ‪-‬والحمد هلل‪ -‬ليس هناك فجوات‬ ‫كبي���رة فيه���ا‪ ،‬وال هن���اك مس���تحدثات تعكر صفوه���ا أو تعطل‬

‫مسائلها ومقاصدها وثمرتها بقدر ما حدث في عالم المال‪.‬‬

‫وبعد ذلك العرض‪ ،‬يتضح لنا مفهوم التجديد الذي نقصده‬

‫وكيفيت���ه‪ ،‬وهو بإدراك الواقع بعوالم���ه المختلفة‪ ،‬وربط الواقع‬

‫بالمصادر مع االلتزام بالحدود األساسية للمجتهد المسلم‪.‬‬ ‫(*) مفتي الديار المصرية السابق‪.‬‬

‫‪41‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫النموذج المعرفي اإلس�ل�امي‪ .‬فالمسلم‬

‫فعل���م أص���ول الفق���ه ‪-‬بع���د ه���ذا‬ ‫التوضي���ح‪ -‬ه���و األس���اس لفه���م النص‬ ‫متش���بعا به���ذا النم���وذج‬ ‫عندم���ا يك���ون‬ ‫ً‬ ‫للمجتهد‬ ‫يوفر‬ ‫الفقه‬ ‫أ�ص��ول‬ ‫�‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫الذي هو مص���در البحث‪ ،‬وهو تحصيل‬ ‫المعرف���ي‪ ،‬يكون صاحب قضي���ة‪ ،‬يلتزم‬ ‫ما يحتاجه لفه��م الن�ص‪ ،‬ولكن‬ ‫حك���م اهلل ف���ي أعم���ال البش���ر‪ .‬ولك���ن‬ ‫بالعم���ل م���ن أجله���ا أم���ام اهلل ث���م أم���ام‬ ‫لي�س هن��اك ما يوفر فهم الواقع‪،‬‬ ‫هناك واقع معيش���ي بعوامل متش���ابكة له‬ ‫الناس‪.‬‬ ‫س���مات‪ :‬عالم األش���خاص‪ ،‬واألش���ياء‪،‬‬ ‫ف���كان ينبغ���ي أن تكون أداتن���ا لفهم‬ ‫كثريا‬ ‫فغياب هذه الأداة‪ ،‬يف�رس لنا ً‬ ‫واألح���داث‪ ،‬واألف���كار‪ .‬ه���ذه العوال���م‬ ‫الواقع مختلفة‪ ،‬ولك���ن جامعاتنا تدرس‬ ‫من �أ�س��باب اختالف العلماء يف‬ ‫األربع���ة متصف���ة بالتط���ور والتركي���ب‬ ‫العل���وم االجتماعي���ة واإلنس���انية عل���ى‬ ‫املجامع الفقهية‪ ،‬و�إنكار بع�ضهم‬ ‫والتعق���د والتغي���ر والتج���اوز والنس���بية‬ ‫نفس النم���وذج المعرف���ي الغربي وليس‬ ‫عل��ى بع���ض‪ ،‬فم��دى �إدراك‬ ‫والتقاط���ع ف���ي نح���و ثالثين صف���ة لهذا‬ ‫على النموذج المعرفي اإلس�ل�امي؛ ألن‬ ‫الواق��ع ه��و �أ�س��ا�س اخت�لاف‬ ‫العصر‪.‬‬ ‫إدخال هذا النم���وذج إلى حيز التدريس‬ ‫احلدي��ث‪.‬‬ ‫الع��صر‬ ‫يف‬ ‫الفت��وى‬ ‫ينبغي على المجتهد أن يكون عنده‬ ‫ف���ي الجامعات‪ ،‬يحتاج إلى ما يمكن أن‬ ‫الق���درة على النظ���ر في الن���ص وطريقة‬ ‫نس���ميه بالصناعات الفكرية الثقيلة‪ ،‬التي‬ ‫فهم���ه‪ ،‬وفي الواق���ع وطريق���ة فهمه‪ ،‬ثم‬ ‫بناء‬ ‫تحت���اج إلى بناء أس���س ه���ذه العلوم ً‬ ‫عليه أمر ثالث وهو كيفية الوصل بينهما؛ كيف يغير هذا الواقع‬ ‫مؤسس���ا على الواق���ع‪ ،‬وإدراكه بصورة قوي���ة صناعية كأصول‬ ‫ً‬ ‫بمؤسس���ات وبأفكار وبعقود تت���واءم مع هذه األحكام التي قد‬ ‫وتوجه الش���افعي بـ"الرس���الة" ثم‬ ‫الفق���ه ال���ذي وضعه علماؤنا‪َّ ،‬‬ ‫حصلها من النص‪ .‬هذا الواقع يدفع العالم أن يبدع وال يبتدع‪ ،‬بعد ذلك توجه بهذا التراث الضخم‪.‬‬ ‫فيبدع بمعنى أن ينش���ئ ما لم يكن قد نش���أ من قبل‪ ،‬وال يبتدع‬ ‫ونح���ن في عصرنا هذا نفتقد هذه األداة‪ ،‬فإن أصول الفقه‬ ‫بمعن���ى أال يخرج عن مقتضيات ذلك النص الكريم الش���ريف يوف���ر للمجتهد م���ا يحتاجه لفهم النص‪ ،‬ولك���ن ليس هناك ما‬ ‫وهو الوحي؛ إذ إن هذا يحتاج منا أن نعرف أن مصادر معرفتنا‬ ‫كثيرا من أسباب‬ ‫يوفر فهم الواقع‪ ،‬فغياب هذه األداة‪ ،‬يفسر لنا ً‬ ‫معا‪ ،‬وأن الوحي هو كتاب اهلل المسطور‪ ،‬اخت�ل�اف العلماء ف���ي المجامع الفقهية‪ ،‬وإن���كار بعضهم على‬ ‫هي‪ :‬الوحي والكون ً‬ ‫والك���ون ه���و كت���اب اهلل المنظ���ور‪ ،‬وكالهما قد ص���در عن اهلل‬ ‫تعال���ى‪ ،‬هذا عالم الخلق وه���و الكون‪ ،‬وذلك عالم األمر وهو‬ ‫الوح���ي‪ .‬ولذلك ال تناق���ض بينهما‪ ،‬فهما مصدران من مصادر‬ ‫المعرف���ة لدى المس���لم‪ ،‬وقد أش���ار الكتاب العزي���ز إلى هذين‬ ‫ال َل ُه ا ْل َخ ْل ُق َوا َ‬ ‫هلل َر ُّب‬ ‫المصدرين فقال تعالى‪َ ﴿ :‬أ َ‬ ‫اركَ ا ُ‬ ‫أل ْم ُر َت َب َ‬ ‫ين﴾(األعراف‪.)54:‬‬ ‫ا ْل َعا َل ِم َ‬

‫أما القضية الثانية فهي أننا متمس���كون بالحفاظ على هويتنا‪،‬‬ ‫وال نري���د مح���و ثقافتن���ا وتراثنا‪ ،‬فنس���تعمل أص���ول الفقه لفهم‬ ‫النص المقدس‪ ،‬ونس���تعمل عقولنا بأدوات ش���تى قد ال تكون‬ ‫معن���ا اآلن إلدراك واقعن���ا‪ ...‬ف���إن عناص���ر النم���وذج المعرفي‬ ‫اإلس�ل�امي‪ ،‬تختل���ف وتتقاطع م���ع بعض األدي���ان والمذاهب‬ ‫األخالقي���ة‪ ،‬ه���ذا ال���ذي ينح���ي قضي���ة األلوهي���ة ‪-‬وال أق���ول‬ ‫ينكره���ا‪ -‬وينحي قضية الغائية‪ ،‬وينحي قضية اإلطالق ويقول‬ ‫بالنسبية‪ ،‬وينحى قضية اآلخرة ويعيش للدنيا فقط‪ ،‬مما يترتب‬ ‫تاما عن‬ ‫عليه اختالف في النظام والتحليل والس���لوك اختال ًفا ًّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪40‬‬

‫بع���ض‪ ،‬فم���دى إدراك الواقع هو أس���اس اخت�ل�اف الفتوى في‬

‫العصر الحديث‪.‬‬

‫إن واجب وقتنا هو بناء أداة إلدراك الواقع‪ ،‬وبتأمل الواقع‬

‫نج���د س���مات أساس���ية واضحة تص���ل إلى ثالثين س���مة منها‪:‬‬

‫التج���اوز‪ ،‬والجوار‪ ،‬والنس���بية‪ ،‬والتغير‪ ،‬والترك���ب‪ ،‬والتقاطع‪،‬‬ ‫والتطور‪ ...‬إلخ‪ ،‬وهذه السمات منها السلبي‪ ،‬ومنها اإليجابي‪.‬‬ ‫فينبغ���ي أن ندرك المس���احة الس���لبية في تلك الس���مات‪ ،‬حتى‬

‫نتمك���ن من تنحيتها بقدر اإلم���كان‪ ،‬أو تفاديها‪ ،‬وكذلك ندرك‬ ‫المس���احة اإليجابي���ة التي يمك���ن أن نس���تعملها لتمكين الدين‬ ‫والمنهج الذي أمرنا اهلل به في حياتنا الدنيا‪.‬‬

‫كم���ا يج���ب عل���ى المجته���د أثن���اء االجته���اد‪ ،‬أن يكون له‬

‫س���قف وخط ال يتعداه‪ ،‬أال وهو نص الكتاب وصحيح الس���نة‬

‫بع���د توثيقهما وقبول هذا التوثيق‪ .‬فال يمكن أن نقبل الخروج‬ ‫عن القطعي الذي في الكتاب والسنة‪ ،‬ولذلك البد أن نضيف‬

‫من ضوابط االجتهاد الفقهي‪ ،‬اإلجماع‪ ،‬فاإلجماع ضابط مهم‬


‫دراسات إسالمية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬علي جمعة*‬

‫حدود التجديد واالجتهاد‬ ‫في الفقه اإلسالمي‬

‫عرض للمجددين من علماء المسلمين قضيتان األولى‪ :‬هي التزامنا األدبي واألخالقي‬ ‫ُت َ‬ ‫بعد أو قبل التزامنا الديني أمام اهلل ‪ ،‬بأننا ورثة لهذا التراث الطيب الذي قام به أئمتنا‬

‫وعلماؤن���ا عب���ر التاريخ من لدن الصحابة الكرام وإلى يومن���ا هذا‪ .‬وهذا التراث والنتاج‬

‫الفك���ري ع���اش عص���ره‪ ،‬وأدى كل إمام واجب وقته‪ .‬وال ينبغي إطال ًقا إذا ما رأينا اختال ًفا في المس���ائل‬

‫التي نعيشها أن نتهمهم بالقصور أو التخلف‪ ،‬أو مثل هذه الدعاوى التي تخالف الواقع والحقيقة‪.‬‬

‫فه���م أدركوا واقعهم‬ ‫إدراكا دقي ًقا‪ ،‬وس���اروا في المنهج العلم���ي الذي يتلخص عندهم كما تقرر في‬ ‫ً‬

‫ثانيا‪ :‬كيفية طرق البحث‪ ،‬ثال ًثا‪:‬‬ ‫تعريف مدرس���ة الرازي ألصول الفقه بأنه أوال‪ :‬إدراك مصادر البحث‪ً ،‬‬

‫ش���روط الباحث‪ ،‬وهي الثالثة التي أش���ار إليها "روجرز بيكون" بعد ذلك‪ .‬فإن أصحاب الرازي يعرفون‬ ‫ال‪ ،‬وكيفية االستفادة‪ ،‬وحال المستفيد"‪ ،‬هذا كالم البيضاوي‬ ‫أصول الفقه بأنه‪" :‬معرفة دالئل الفقه إجما ً‬

‫في "المنهاج" والرازي في "المحصول"‪.‬‬

‫فهذا هو المنهج الذي ينبغي علينا أن نس���ير عليه كما س���ار أس�ل�افنا‪ ،‬ونقوم بواجب وقتنا كما قاموا‬

‫بواجب وقتهم‪ .‬فيجب علينا أن نتعلم منهم كيف كانوا يفكرون‪ ،‬وكيف تعاملوا مع هذه المصادر‪ ،‬وما‬

‫الضوابط والخطوط واألطر التي ال يمكن أن نتعداها‪ ،‬وما المجاالت التي يمكن فيها الخالف‪ ...‬وفي‬ ‫نفس الوقت ال نجمد على مس���ائل عصرهم التي ارتبطت بواقعهم‪ ،‬والتي ال تنس���جم مع واقعنا بس���بب‬

‫الثورة الهائلة في االتصاالت والمواصالت والتقنيات الحديثة‪ ،‬وخاصة بعد نشوء الشخصية االعتبارية‬

‫واس���تقرارها بهذا الش���كل‪ ،‬وبعد وجود هذه الش���ركات عابرة القارات‪ ،‬وهذه الطرق السريعة والحديثة‬ ‫تماما عما كان‪ ،‬مما يحتم‬ ‫في التمويل عبر البنوك‪ ...‬كل تلك األش���ياء تس���ببت في تغير الواقع المعيش ً‬

‫علينا إدراك هذا الواقع الجديد‪ ،‬والتعامل معه بمنهج السلف الصالح؛ حتى نصل إلى المقاصد الشرعية‬ ‫التي ينبغي أن نصل إليها‪.‬‬

‫إذا انطلقنا من العلم الموروث ‪-‬وهو أصول الفقه‪ -‬نجد أن األساس فيه‪ ،‬هو إدراك النص وتحديد‬

‫الحجة‪ .‬فالحجة هي الكتاب والسنة‪ ،‬وال يمكن التعامل مع الحجة‪ ،‬إال من خالل علوم التوثيق الخاصة‬ ‫بهذي���ن األصلي���ن "الكتاب والس���نة"‪ .‬وعلم أص���ول الفقه‪ ،‬يجيب عن أس���ئلة مهمة خاص���ة بتوثيق تلك‬ ‫الحجة مثل‪ :‬ما الفرق بين القراءة المتواترة والش���اذة؟ وما الفرق بين الحديث الصحيح والضعيف؟ ما‬

‫الذي يكون محل قطع؟ ما الذي يكون محل ظن؟‬

‫‪39‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫لحموض���ة المع���دة ولزي���ادة نس���بة الس���كر‪ ...‬إل���ى آخ���ر قائمة‬ ‫االحتم���االت الصعبة التي وضع نفس���ه في بداية الطريق الذي‬ ‫وأخيرا قال‪:‬‬ ‫ينتهي بها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ هذه صحتك أنت وليس���ت صحتي أنا‪ ،‬وجس���مك أنت‬‫وليس جس���م إنس���ان غريب‪ ،‬وهو مع كل ذلك أمانة استرعاك‬ ‫اهلل إياها‪.‬‬ ‫ال‪:‬‬ ‫رفع إليه عينين كليلتين قائ ً‬ ‫ والحل يا طبيب؟‬‫ الحل أن تلتزم بالحمية‪.‬‬‫ لكنني ال أستطيع‪.‬‬‫ إذن‪ ،‬أقترح أن تبقى هنا في المستش���فى أربعة أيام على‬‫األق���ل‪ ،‬حتى تأخذ فيها‬ ‫عالج���ا للظواهر المرضية التي عندك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ثم ننظم لك طريقة طعام الغداء والعشاء واإلفطار‪.‬‬ ‫ق���رر أن يقبل بهذا االقت���راح قبل فوات األوان‪ ،‬فدخل إلى‬ ‫المستش���فى‪ .‬وألن حالت���ه ال تس���تدعي أن يظ���ل على الس���رير‬ ‫دائم���ا‪ ،‬فق���د وجدها فرصة أن يتعرف على أكثر من صديق في‬ ‫ً‬ ‫المستش���فى‪ ،‬يتس ّلى معهم أو يس��� ّليهم‪ ...‬وهذا ما كان يحصل‬ ‫غالب���ا‪ -‬يراه���م ف���ي المصل���ى‪ ،‬ويجل���س معهم بع���د الصالة‬‫ً‬ ‫يتحدث���ون‪ ...‬وغالب حديثهم ش���يء معتاد م���ن تاريخ المرض‬ ‫لكل واحد منهم‪ ،‬لكنه سرعان ما يغير الموضوع إلى شيء آخر‪،‬‬ ‫إل���ى موضوع فيه طرافة وعذوبة‪ .‬ولذا كان في كل مرة يحصد‬ ‫عددا م���ن المعجبين المتلهفي���ن لتعليقات���ه وحكاياته الممتعة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومض���ى الي���وم األول محال ًف���ا الضجر م���ن الحمية‪ ،‬حيث‬ ‫كان يتأ ّف���ف م���ن حرمانه من لذائذ الطعام التي عادة ما يضعف‬ ‫أمامها‪.‬‬ ‫وازداد تأ ّفف���ه وضجره ف���ي اليوم الثاني‪ ،‬وعند مجيء اليوم‬ ‫الثالث‪ ،‬شعر بالحسرة على الطعام ولذائذ األكل التي ليس له‬ ‫منها حظ وال نصيب‪.‬‬ ‫كان يردد‪:‬‬ ‫ إل���ى مت���ى؟ ه���ذا ش���يء ال يط���اق‪ ...‬يا ن���اس دعوني مع‬‫م���ت فقول���وا عني‪ ،‬إنن���ي قتيل‬ ‫المش���ويات والحلوي���ات‪ ،‬ف���إذا ّ‬ ‫المشويات والحلويات!‬ ‫موزع‬ ‫ل���م يع���د يقدر على إخفاء ألمه وتحس���ره وه���و يرى ّ‬ ‫الطع���ام يدور بعربته على الغرف كل يوم ثالث مرات‪ ،‬ليعطي‬ ‫المرض���ى أطبا ًقا من األطعمة الش���هية‪ ،‬ولكن ما إن يأتي دوره‬ ‫حتى يناوله نصف رغيف خبز مع سلطة خضرة قليلة‪ ،‬وتفاحة‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪38‬‬

‫ف���ي بع���ض األحيان‪ .‬هذا كل ما يناله من تلك العربة المملوؤة‬

‫لذ وطاب‪.‬‬ ‫بما ّ‬

‫وفي هذا اليوم (اليوم الثالث لبقائه في المستش���فى)‪ ،‬قادته‬

‫خطوات���ه إلى الطابق األرضي ال���ذي يوجد فيه المرضى الذين‬ ‫أصيبوا بالكسور‪ ...‬نزل إلى قسم العظام وكان مسؤول التغذية‬

‫ق���د وزع عليه���م وجبة الغداء‪ ،‬وألن الكس���ير ُتعطى له وجبات‬ ‫عالية القيمة الغذائية فقد هاله ما رأى‪:‬‬

‫‪ -‬لحم‪ ،‬أرز‪ ،‬أوصال‪ ،‬كباب‪ ،‬مرق‪ ،‬خبز‪ ،‬فواكه‪...‬‬

‫أرس���ل ضحك���ة كعادت���ه‪ ،‬ث���م خ���اض بالحدي���ث معهم‪...‬‬

‫خاض معهم في أحاديث طريفة‪ ...‬ووسط حديثه الهازل قال‪:‬‬ ‫‪ -‬ليتني أنكسر حتى آكل مثل أكلكم‪.‬‬

‫ضح���ك بعضه���م‪ ،‬وتأثر بعضه���م اآلخر‪ ،‬ألنه تمنى الش���ر‬

‫لنفسه‪ ...‬قالوا له‪:‬‬

‫‪ -‬يا شيخ‪ ،‬هذه أشياء ال ُيمزح فيها‪ ،‬احمد اهلل على العافية‪.‬‬

‫مازحا‪:‬‬ ‫فقابلهم‬ ‫ً‬

‫‪ -‬المهم أن أتناول مثل هذا الطعام الفاخر وال أبالي بشيء‬

‫آخر‪.‬‬

‫القدر كان له بالمرصاد‪،‬‬ ‫وم���ع أنه قال ذلك‬ ‫مازح���ا‪ ،‬إال أن َ‬ ‫ً‬

‫فتحقق ما تمناه على نفسه بعد أمد ليس بالبعيد‪.‬‬

‫وأخي���را جاء ي���وم مغادرته المستش���فى‪ ،‬خ���رج وقد خ ّفت‬ ‫ً‬

‫علي���ه كثي���ر من اآلالم التي دخل من أجله���ا‪ .‬بقي بعد خروجه‬

‫من المستشفى عدة أيام‪ ،‬فإذا به ُيصاب بحادث وتنكسر قدمه‬ ‫فتتجب���ر قدمه وترفع‬ ‫اليس���رى‪ ،‬فيعود إلى المستش���ىفى نفس���ه‪،‬‬ ‫َّ‬

‫على السرير شأن الحاالت المشابهة لحاالته‪.‬‬

‫وفي هذه المرة فقط‪ ،‬سمح له الطبيب أن يتناول من أنواع‬

‫ممنوعا‪.‬‬ ‫الغذاء ما كان‬ ‫ً‬

‫عددا من المرضى الذين زارهم عند دخوله‬ ‫والطري���ف أن ً‬

‫األول للمستشفى‪ ،‬قد ُدهشوا لعودته‪ ،‬فيما كان بعضهم يعتب‬ ‫عليه ويقول‪:‬‬

‫وجدت الطعام يساوي أن تتمنى هذه المصيبة؟!‬ ‫ فهل‬‫َ‬

‫اعتص���م بالصم���ت‪ ...‬إذ كان س���كوته ه���ذا‪ ،‬أبل���غ من كل‬

‫رد‪.‬‬ ‫جواب ُي ّ‬

‫(*) عضو رابطة األدب اإلسالمي العالمية ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬


‫قصة‬

‫د‪ .‬عبد اهلل صالح العريني*‬

‫وكان له ما أراد‬ ‫اشتهر بأنه خفيف الظل‪ ،‬خفيف الدم‪ ،‬خفيف‬ ‫ال���روح‪ ...‬يطل���ق النكتة فتس���تجيب لها نفوس‬

‫الحاضرين‪ ،‬ويضحكون منها بشدة مع أنه في‬

‫الع���ادة ال يضح���ك‪ ...‬فهذه هي طبيعته وس���جيته والفطرة التي‬ ‫فطره اهلل عليها‪.‬‬

‫وم���ع لطف���ه ودماث���ة خلق���ه‪ ،‬إال أن���ه ال ُيخف���ي بي���ن الحين‬

‫واآلخر ش���عوره باأللم‪ ،‬حيث يسارع إلى وضع يده على بطنه‬

‫بطريقة ال شعورية‪.‬‬

‫راج���ع الطبيب‪ ،‬فش���خص حالت���ه على أنه���ا اضطراب في‬

‫الجه���از الهضم���ي وف���ي القول���ون بخاصة‪ .‬طلب من���ه الطبيب‬

‫أن يقتص���ر على الخضار المس���لوقة والفواكه ومقدار قليل من‬ ‫طعام���ه المعتاد ولكن بدون دس���م‪ .‬وحي���ن رأى القدر الضئيل‬

‫من الطعام الذي البد من االقتصار عليه‪ ،‬ضحك من كل قلبه‬

‫وقال بصيغة تجاهل العارف‪:‬‬

‫‪ -‬هذه األشياء قبل األكل أم بعده يا دكتور؟!‬

‫وكان ه���ذا يعن���ي أن م���ن رابع المس���تحيالت أن يقبل هذه‬

‫الوصف���ة التي تحرمه الطيب���ات‪ ...‬فهو رجل أكول بطبعه‪ ،‬يجد‬

‫ف���ي األكل ل���ذة‪ ،‬ويس���وقه إليه نهم ش���ديد‪ .‬فمن حق���ه إذن‪ ،‬أن‬ ‫يتضايق من هذه الحمية التي ما أنزل اهلل بها من سلطان ‪-‬كما‬

‫يقول‪ -‬وكان يردد‪:‬‬

‫‪ -‬إن أجدادي أصيبوا باألمراض لقلة الغذاء وعدم تنوعه‪،‬‬

‫أم���ا اآلن وق���د أصبح الغذاء الصحي المتن���وع في متناول اليد‪،‬‬ ‫فيأتي الطبيب ليمنعني عن ذلك؟!‬ ‫فكان كلما أقبل على التمر والرطب يقول‪:‬‬ ‫ كل شيء ُأمنع منه إال "مسامير الركب"‪.‬‬‫اغ‬ ‫الم ْندي‬ ‫كثي���را ويردد قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ف َر َ‬ ‫كان يح���ب تناول َ‬ ‫ً‬ ‫ِإ َلى َأ ْه ِل ِه َف َج َاء ب ِ​ِع ْج ٍل َس ِ‬ ‫ين﴾‪ .‬الحمية هي آخر ما كان يفكر‬ ‫���م ٍ‬ ‫بها‪ ،‬لذا لم يلتزم بأوامر ونصائح الطبيب‪ ،‬بل كان يس���خر بينه‬ ‫ٍ‬ ‫طيب���ات أح َّلها اهلل‪...‬‬ ‫وبي���ن نفس���ه من أولئ���ك الذين يحرم���ون‬ ‫رافضا موضوع‬ ‫وكان يغال���ط في األم���ر‪ ،‬ويخلط الجد بالهزل‪ً ،‬‬ ‫الحمي���ة م���ن أوله إلى آخ���ره‪ .‬وألنه لم يزل ف���ي صحة وعافية‬ ‫ف���ي الظاهر ‪-‬على األقل‪ -‬فإن َم ْنعه م���ن األطعمة التي يحبها‪،‬‬ ‫محاولة فاشلة مكتوب عليها اإلخفاق منذ البداية‪.‬‬ ‫كان���ت نكته وضحكاته ال تحلو ف���ي كثير من األوقات إال‬ ‫على مائدة الطعام‪ ،‬إذ كان ‪-‬والحق ُيقال‪ -‬يضفي على الطعام‬ ‫بهجة‪ ،‬ويفتح الشهية بحديثه وطرائفه العذبة‪.‬‬ ‫مضت عدة أشهر وتأكد لديه أن تركه للحمية عمل خاطئ‬ ‫مهم���ا حاول أن يج���ادل ويماري في ذل���ك‪ .‬وراجع طبيبه مرة‬ ‫فتقبل الطبيب‬ ‫أخ���رى بخجل‪ ،‬ألنه خالفه في كل ما طلبه منه‪َّ ،‬‬ ‫من���ه ذل���ك‪ ،‬بعد م���ا ّبين أنه غاض���ب منه على تصرف���ه‪ ،‬وضربه‬ ‫ع���رض الحائط ب���كل تعليماته‪ .‬زاد الطبيب (ف���ي العيار) حين‬ ‫خوف���ه من خط���ورة زيادة الكس���ترول‪ ،‬وأراه النتيج���ة المتوقعة‬ ‫َّ‬

‫‪37‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫والدراس���ات األدبي���ة والنقدية والفلس���فية المعاص���رة‪ ،‬لكي ما‬ ‫يلب���ث أن يخل���ص إل���ى القول ب���أن "رواي���ة "الثعابين���ي"‪ ،‬رؤية‬

‫مختص���رة مكن���اة تنطوي على حكم���ة السياس���ة والعبرة‪ ،‬فهي‬ ‫إنذار لكل ثعابيني بأن مصيره أن يطاح به على يد أبناء ش���عبه‪،‬‬

‫يحل محله‪ .‬فالسياسة في نهاية األمر‪،‬‬ ‫أو على يد ثعابيني آخر ّ‬ ‫لعب���ة ال تخل���و من التقلب���ات كتقلبات األفع���ى‪ ،‬وتنطوي على‬ ‫أيضا‬ ‫الكثير من الزحف والت ّلون والسموم‪ .‬وفي الرواية بشارة ً‬ ‫بأن للش���عوب أن تتخل���ص من طغاتها وحكامها المس���تبدين‪،‬‬ ‫فإن في جواهر مرئيات رؤيا الثعبان الحكمة واألنباء المضمرة‬

‫المكن���اة الت���ي كش���ف عنها‬ ‫المعب���رون‪ .‬وهو يتس���اءل في نهاية‬ ‫ّ‬ ‫المط���اف‪" :‬هل نس���تطيع الق���ول أن عنوان الرواي���ة يمثل منبث ًقا‬

‫للظالم والظلم الذي انبثق من طغيان الحاكم المس���تبد التابع‪،‬‬ ‫ال���ذي قام وصفه على التضاد الرهي���ب بين داللتين في خلقه؛‬

‫دالل���ة لين الملمس وزه���و اللون بين يدي س���يده‪ ،‬فإذا انقلب‬ ‫السم والناب والموت؟"‪.‬‬ ‫إلى شعبه‪ ،‬فليس سوى داللة‬ ‫ّ‬

‫إنه���ا مقاربة مقنعة ل���دالالت النص اإلبداعي‪ ،‬وإضافة أداة‬

‫نقدي���ة أخ���رى إل���ى أدوات الجهد النق���دي تس���تهدف التحقق‬

‫ال عن‬ ‫بإضاءة أش���د نفا ًذا إلى خفايا النص ومكنوناته‪ ،‬هذا فض ً‬ ‫أن المحاولة تنطوي على منح خصوصية أكثر للناقد المسلم‪،‬‬

‫لي���س فق���ط بتجاوزه‬ ‫الحس���ي المنظور إلى م���ا وراءه من عالم‬ ‫ّ‬ ‫الغي���ب‪ ،‬وإنم���ا‬ ‫أيض���ا‪ -‬باس���تدعاء وتوظي���ف خب���رات اآلباء‬‫ً‬ ‫واألج���داد ف���ي مجال تفس���ير ال���رؤى واألحالم‪ ،‬فيم���ا ال نكاد‬

‫نجده بهذا القدر من الخصب والنفاذ لدى األمم األخرى‪.‬‬

‫واسعا‬ ‫إن هذا ‪-‬مرة أخرى‪ -‬سيفتح الطريق‬ ‫متشعبا إلعادة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ق���راءة العدي���د من النصوص اإلبداعية الت���ي تعامل معها النقاد‬

‫م���ن زوايا ش���تى‪ ،‬ولكنهم أغفلوا هذه الناف���ذة التي عرف علي‬ ‫كمال الدين كيف يلج منها‪ ،‬لكي يقدم لقارئه مقاربة أشد نفا ًذا‬

‫لمكنونات النص‪.‬‬

‫(*) كلية اآلداب‪ ،‬جامعة الموصل ‪ /‬العراق‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬حدود العلم‪ ،‬د‪.‬م‪ ،.‬بيروت ‪ ،‬الدار العلمية ‪1971‬م‪ ،‬ص‪.40-39:‬‬ ‫(‪ )2‬حدود العلم‪ ،‬د‪.‬م‪ ،.‬بيروت ‪ ،‬الدار العلمية ‪1971‬م‪ ،‬ص‪.33-32:‬‬

‫(‪ )3‬ينظر‪ :‬األحاديث األربعة‪ ،‬لتوفيق الحكيم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة اآلداب ‪1983‬م‪،‬‬ ‫ص‪.27:‬‬

‫نق�ل�ا ع���ن كت���اب كاس���تلر‪ :‬الم���ادة هذا‬ ‫(‪ )4‬ينظ���ر‪ :‬المرج���ع الس���ابق‪ ،‬ص‪ً ،28:‬‬ ‫المجهول‪.‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪36‬‬

‫جالوت المهزوم‬ ‫في حومة النـزال‪ ،‬وو َغى الحرب‪،‬‬

‫بقوة اهلل استعان داوود ‪،‬‬ ‫وإلى حولِه تعالى لـجأ‪،‬‬ ‫فَتح ّفز‪ ،‬وبِ ِمقالعه رمى‪...‬‬ ‫فإذا العمالق المخيف‪ ،‬تزلزلت أركانه‪،‬‬ ‫ومن سماء جبروته هوى‪...‬‬ ‫***‬


‫القواني���ن ع���ن العم���ل‪ ،‬وأنه دخ���ل مرحلة لم تعد تس���ري فيها‬ ‫هذه القوانين الطبيعية المعروفة في األرض‪ ،‬مما جعله يس���أل‬ ‫نفس���ه‪" :‬أت���رى عل���م الفيزياء الذي نمارس���ه ف���ي الحقيقة ليس‬ ‫علما‬ ‫ال عن‬ ‫واحدا؟ أي أنه يوجد علمان كل منهما يعمل مستق ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اآلخ���ر‪ :‬علم للمرئيات وعلم للمخفي���ات‪ ...‬أو بعبارة أخرى‪:‬‬ ‫عل���م للمحسوس���ات أو له���ذه الدني���ا‪ ،‬وعلم فيزي���اء آخر لغير‬ ‫المحسوسات‪ ،‬أي لغير دنيا البشر‪ ،‬أي لآلخرة‪ ،‬وكل منهما له‬ ‫قوانينه الخاصة التي ال تسري إال على عالمه"(‪.)4‬‬

‫اإلنسان والتركيب والثنائي‬

‫واإلنس���ان نفس���ه‪ ،‬امتداد لهذا التركيب الثنائي المدهش حيث‬ ‫الشعور والالشعور‪ ،‬والوعي والالوعي‪،‬‬ ‫والحسي والوجداني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والم���ادي والروحي‪ ...‬وتجيء ال���رؤى واألحالم لكي تعكس‬ ‫جانب���ا من ه���ذا التركيب‪ ،‬وتش���كل حلقة من حلقات���ه المعقدة‬ ‫ً‬ ‫مع‬ ‫يتعاملون‬ ‫وهم‬ ‫النقاد‬ ‫على‬ ‫وكان‬ ‫المتشابكة‪.‬‬ ‫النص اإلبداعي‬ ‫ّ‬ ‫الذي يعكس الهم اإلنس���اني‪ ،‬بطبقاته كافة أن ينتبهوا إلى هذا‪،‬‬ ‫بعيدا باتجاه أحد المكونين‪ ،‬فيش���ط‬ ‫ولكن ش���ريطة أ ّ‬ ‫ال يذهبوا ً‬ ‫به���م النوى‪ ،‬ويضح���ى ‪-‬بذلك‪ -‬بالعديد م���ن الحقائق‪ .‬وعلى‬ ‫س���بيل المثال‪ ،‬فإن الواقعيين‪ ،‬والواقعيين االش���تراكيين بشكل‬ ‫خاص‪ ،‬التصقوا‬ ‫بالحس���ي المباش���ر المنظ���ور أكثر مما يجب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فأغفل���وا "العم���ق" الذي تنط���وي عليه الخبرة البش���رية‪ .‬وعلى‬ ‫تماما‪ ،‬أوغل الس���رياليون فيما‬ ‫يس���مونه هم س���راديب‬ ‫العكس ً‬ ‫ّ‬ ‫كثيرا عن‬ ‫الظالم والدجنة في الواعية النفس البش���رية‪ ،‬فبعدوا ً‬ ‫تحليل األبعاد الحقيقية والواقعية للخبرة‪.‬‬ ‫ويج���يء الناق���د المس���لم لك���ي يعي���د األمور إل���ى نصابها‪،‬‬ ‫والمي���زان إل���ى وضع���ه الحق‪ ،‬فال يغفل عن أي���ة مفردة من هنا‬ ‫أو هن���اك‪ ،‬ويالح���ق أية خبرة في عالم الغيب أو الش���هادة على‬ ‫السواء‪.‬‬ ‫إن الدكتور علي كمال الدين ‪-‬ومنذ زمن بعيد‪ -‬عرف كيف‬ ‫جيدا بأحد المفاتيح‬ ‫يضع هذه الحقائق نصب عينيه‪ ،‬وأن يمسك ً‬ ‫الضروري���ة للدخ���ول إلى النص واكتش���اف مكنونات���ه ورموزه‬ ‫وأسراره‪ ،‬من خالل ما اصطلح عليه بتأويل الرؤى واألحالم‪.‬‬ ‫ع���دا‬ ‫جديدا للجه���د النقدي في دائرة‬ ‫إن���ه ‪-‬بهذا‪ -‬يضيف ُب ً‬ ‫ً‬ ‫األدب اإلسالمي المعاصر‪ ،‬ويقدم إضاءة ضرورية قد تكتشف‬ ‫ف���ي دالالت الن���ص اإلبداعي م���ا يعين على المزي���د من قراءة‬ ‫خباي���اه ومكنونات���ه‪ ...‬وه���و قد ن ّفذ منهجه ه���ذا مع العديد من‬ ‫النصوص الشعرية والروائية‪ ...‬وبغض النظر عن مدى مصداقية‬

‫توصل إليها‪ ،‬فإن المحاولة تستحق المجازفة ح ًّقا‪،‬‬ ‫النتائج التي ّ‬ ‫ألنه���ا ف���ي بدء التحلي���ل ونهايته‪ ،‬تمثل إضاف���ة ذات قيمة بالغة‬

‫للجه���د النقدي الذي يس���تهدف التح ّقق بمقاربة أش���د للنص‪.‬‬ ‫وهنا ‪-‬كما في كل الخبرات األخرى‪ -‬علينا أن نتذكر كيف‬

‫التص���ور اإلس�ل�امي‪ ،‬يتعامل م���ع الظواهر واألش���ياء برؤية‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شمولية تدير كاميرتها على كل "الحاالت" في إيجابها وسلبها‬

‫على الس���واء‪ ،‬إنه يرفض الرؤية األحادية‪ ،‬ويمسك بالعصا من‬ ‫أوس���طها إذا‬ ‫ص���ح التعبي���ر‪ .‬فها هنا ف���ي مجال ما ي���راه النائم‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ال يزك���ي كل المرئي���ات ويتقبله���ا عل���ى عواهنها‪ ،‬كم���ا أنه من‬

‫جهة أخرى ال يرفضها وينفيها‪ .‬إنه يصنفها ‪-‬ابتداء‪ -‬إلى رؤى‬ ‫وأحالم؛ في األولى قد تتأكد الداللة وتتكش���ف الترميزات في‬

‫مجرد أضغاث ‪-‬كما‬ ‫واق���ع الحياة اليومية‪ ،‬أما في الثاني���ة فهي ّ‬ ‫يسميها كتاب اهلل‪ -‬تنطوي على الكثير من الفوضى والتناقض‪،‬‬

‫وتعك���س مخزون���ات الالواعي���ة البعي���دة عن العقالني���ة وربما‬ ‫المناقضة لها‪ ،‬فال تكاد تومئ بش���يء ينطوي على القدرة على‬

‫التح ّقق في واقع الحياة‪.‬‬

‫ف���ي الحالتين يمكن للناقد ‪-‬كما يمك���ن لعالم النفس‪ -‬أن‬

‫النص‬ ‫يس���بر غ���ور الرؤيا والحلم‪ ،‬هذا للكش���ف ع���ن دالالت ّ‬ ‫اإلبداعي‪ ،‬وذاك إلضاءة تعقيدات النفس البشرية وأغاميضها‪.‬‬

‫السر‬ ‫يختار علي كمال الدين في بحثه الموس���وم "ش���عرية ّ‬ ‫المخفي في الثعابيني عنوا ًنا"‪ ،‬رواية لألديب السوري "عبد اهلل‬ ‫بدءا من عنوانها‬ ‫عيسى السالمة" تحمل عنوان "الثعابيني"‪ ،‬وهي ً‬ ‫هذا‪ ،‬تغري باللجوء إلى تفس���ير الرؤى واألحالم‪ ،‬ألن للثعبان‬

‫شأ ًنا لدى‬ ‫المفسرين‪ ،‬وطالما انطوى (العنوان) لدى علي كمال‬ ‫ّ‬ ‫الدين على أهميته البالغة‪ ،‬باعتباره البؤرة التي ت ّلم أشعة العمل‬

‫الفن���ي‪ ،‬والمفت���اح الذي ال يمكن ‪-‬بدون���ه‪ -‬الولوج إلى خفايا‬

‫ال‬ ‫العم���ل‪ ،‬ودالالته المنظ���ورة والمخفية‪ .‬ولذا ه���و يقف طوي ً‬ ‫عند العنوان والتس���مية‪ ،‬في بعدهما التاريخي‪ ،‬وفي دالالتهما‬

‫المعرفي���ة‪ ،‬ويرى "أن عنوان القصيدة أو الرواية إنما هو مفتاح‬

‫الدخ���ول إلى عالمهم���ا"‪ ،‬ويح ّلل طبيعة االرتب���اط بين العنوان‬

‫األول���ون أهمية بالغة‪.‬‬ ‫ومطل���ع القصي���دة الذي أواله الش���عراء ّ‬ ‫ث���م م���ا يلبث أن يلج إل���ى رواية "الثعابين���ي"‪ ،‬لكي يتابع ما‬

‫الذي ينطوي عليه العنوان في داللته اللغوية والقرآنية‪ ،‬ويقف‬

‫مس���تضيئا بمعطيات جملة‬ ‫طوي�ل�ا عند داللته في تعبير الرؤيا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من المصادر والمراجع‪ :‬التفاس���ير القرآنية‪ ،‬كتب تفسير الرؤى‬ ‫واألح�ل�ام‪ ،‬المعاج���م اللغوي���ة‪ ،‬كتب األدب‪ ،‬دواوين الش���عر‪،‬‬

‫‪35‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫والفيزيائي���ون‪ ،‬والكوزمولوجي���ون الذين جاؤوا بعدهم‪ ،‬فتحوا‬ ‫ج���دا ف���رأوا األعاجيب‪،‬‬ ‫ف���ي القش���رة المنظ���ورة ثغرات ضيقة ًّ‬ ‫وكانت القنبلة الذرية واحدة من ثمار هذه األعاجيب‪ ...‬ترى‪،‬‬ ‫ماذا لو رفع الغطاء كله؟ ما الذي سنراه؟‬

‫النفس البشرية وعلم اإلنسان‬

‫"ألكس���يس كاريل" في "اإلنس���ان ذلك المجهول" ‪-‬ومن أجل‬ ‫تأكي���د عج���ز اإلنس���ان‪ ،‬ونس���بية معرفت���ه ع���ن معج���زة العقل‪،‬‬ ‫وطرائ���ق عم���ل الدماغ البش���ري‪ -‬يؤكد بأن العل���م الطبيعي إذا‬ ‫كان قد أوغل في كشوفه‪ ،‬وقطع المسافات الطوال بخصوص‬ ‫الظواهر الطبيعية‪ ،‬فإنه يكاد يحبو ويتعثر في فهمه لخبايا النفس‬ ‫س���ر تركي���ب المادة وخواصها‪،‬‬ ‫البش���رية‪ ...‬يقول‪" :‬إننا بتعلمنا ّ‬ ‫تقريبا على كل شيء موجود على ظهر‬ ‫استطعنا الظفر بالسيادة‬ ‫ً‬ ‫البسيطة فيما عدا أنفسنا‪ ...‬إن علم الكائنات الحية بصفة عامة‬ ‫واإلنس���ان بصف���ة خاصة‪ -‬لم يص���ب مثل هذا التق���دم‪ ...‬إنه‬‫ال ي���زال في المرحلة الوصفية‪ ...‬فاإلنس���ان كلٌّ ال يتجزأ وفي‬ ‫غاية التعقيد‪ ،‬ومن غير الميس���ور الحصول على عرض بس���يط‬ ‫له‪ ،‬وليست هناك طريقة لفهمه في مجموعه أو في أجزائه في‬ ‫وق���ت واحد‪ ...‬فكل واحد منا مكون من موكب من األش���باح‬ ‫تس���ير ف���ي وس���طها حقيقة مجهول���ة‪ .‬وواق���ع األم���ر أن جهلنا‬ ‫مطبق‪ ،‬فأغلب األس���ئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين‬ ‫يدرس���ون الجنس البش���ري تظ���ل بال ج���واب‪ .‬إن هناك مناطق‬ ‫غير محدودة في دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة‪ ،‬ونحن ال‬ ‫نملك أي فن يمكننا من النفوذ إلى أعماق المخ وغوامضه‪ ،‬أو‬ ‫إلى االتحاد المتناس���ق بين خالي���اه‪ .‬وعلينا أن ندرك بوضوح‪،‬‬ ‫جميعا"‪.‬‬ ‫أن علم اإلنسان هو أصعب العلوم‬ ‫ً‬ ‫ب���ل إن الفيزيائيي���ن الكبار الذين أش���رنا إليهم‪ ،‬كش���فوا عن‬ ‫حقيقة أخرى؛ أنه حتى الكشوف الفيزيائية المتعاملة مع المادة‬ ‫والطاق���ة والض���وء والكتلة‪ ،‬لم تبلغ حافات اليقين‪ ،‬وأن نس���بة‬ ‫جدا‪ ،‬وأنه���ا تنطوي على أعماق‬ ‫االحتم���ال فيها كبي���رة وكبيرة ًّ‬ ‫مغيبة عن األنظار‪ ،‬وعن أكثر األجهزة التقنية قدرة على‬ ‫غائ���رة ّ‬ ‫الكشف واإليغال‪.‬‬ ‫ومن الواضح كما يقول "س���وليفان"‪ ،‬أن حقيقة كون العلم‬ ‫مقص���ورا على معرفة البنى ولي���س الماهيات‪ ،‬هي حقيقة ذات‬ ‫ً‬ ‫أهمية إنس���انية عظيمة ألنها تعني أن مش���كلة طبيعة الحقيقة لم‬ ‫يبت فيها بعد‪ ،‬ولم يعد يطلب إلينا اآلن أن نعتقد بعدم وجود‬ ‫ّ‬ ‫مقاب���ل موضوع���ي الس���تجابتنا للجم���ال‪ ...‬إن تطلعاتنا الدينية‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪34‬‬

‫وحس���نا الجمالي‪ ،‬ليس���ا بالض���رورة ظواهر وهمي���ة كما جرى‬

‫االفتراض في السابق(‪.)1‬‬

‫عالم الشهود‬

‫م���ا الذي نخلص إليه من هذا العرض الموجز س���وى أن عالم‬

‫بقعا صغيرة ومنحس���رة ف���ي البنية‬ ‫الش���هود ال يع���دو أن يك���ون ً‬ ‫الكونية‪ ،‬وهو كذلك في النفس البشرية بتقلباتها التي ال حدود‬ ‫له���ا‪ ،‬وبطرائق عمل الدماغ البش���ري‪ ،‬حيث ال يبدو في معظم‬

‫األحي���ان س���وى الخمس من كتل���ة الجليد العائم���ة‪ ،‬بينما تظل‬

‫عالما‬ ‫األخماس األربع���ة األخرى مغيبة عن األنظار باعتبارها ً‬ ‫غيبيا‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫أرب���ع وخمس���ون م���رة ت���رد كلم���ة "الغي���ب" باش���تقاقاتها‬

‫المختلف���ة في كتاب اهلل‪ ،‬مما يدل على الثقل الكبير والحضور‬ ‫المؤك���د اللذين أوالهم���ا القرآن الكريم لعال���م الغيب‪ ،‬بل إن‬ ‫نقط���ة االرتكاز األساس���ية في اإليم���ان‪ ،‬والتي وردت في اآلية‬

‫الثالث���ة من س���ورة البقرة‪ ،‬ه���ي اإليمان بالغي���ب‪﴿ :‬الم ‪َ ‬ذ ِل َك‬

‫ون بِا ْل َغ ْي ِب‬ ‫���اب َ‬ ‫ي���ن ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫ال َر ْي َب ِفي ِه ُه ً‬ ‫ين ‪ ‬ا َّل ِذ َ‬ ‫���دى ِل ْل ُم َّت ِق َ‬ ‫ا ْل ِك َت ُ‬ ‫ِ‬ ‫ون﴾(البقرة‪.)3-1:‬‬ ‫الص َ‬ ‫اه ْم ُي ْن ِف ُق َ‬ ‫يم َ‬ ‫ال َة َو ِم َّما َر َز ْق َن ُ‬ ‫ون َّ‬ ‫َو ُيق ُ‬

‫بعدها تتوالى اآليات لكي تعرض الحقيقة الغيبية وتتعامل‬

‫معها‪ ،‬من أكثر من زاوية وعلى أكثر من مستوى‪.‬‬

‫ل���ن يتس���ع المجال إلي���راد الش���واهد الكثيرة عل���ى تداخل‬

‫ظاهرتي الغيب والش���هود ف���ي البنية الكونية واإلنس���انية‪ ،‬ولذا‬ ‫سيتم االكتفاء بثالثة منها قد تغني عن المزيد‪:‬‬

‫س � � ��وليفان‪" :‬لقد أصبح العلم شديد الحساس���ية‬ ‫ومتواضعا‬ ‫ً‬

‫نس���بيا‪ ،‬ولم نعد نلقن اآلن أن األسلوب العلمي هو األسلوب‬ ‫ًّ‬

‫عددا من‬ ‫الوحيد الناجح الكتس���اب المعرفة ع���ن الحقيقة‪ .‬إن ً‬

‫يعبرون ‪-‬بمنتهى الحماس‪ -‬على حقيقة‬ ‫رجال العلم البارزين‪ّ ،‬‬

‫يق���دم س���وى معرفة جزئية ع���ن الحقيقة‪،‬‬ ‫مؤداه���ا أن العل���م ال ّ‬ ‫وأن علينا لذلك أن ال نعتبر أو يطلب إلينا أن نعتبر كل ش���يء‬

‫يستطيع العلم تجاهله‪ ،‬مجرد وهم من األوهام"(‪.)2‬‬

‫أينشتين‪" :‬إني أدين بالتبجيل كله‪ ،‬لتلك القدرة العجيبة التي‬

‫تكشف عن نفسها في أضأل جزيء من جزيئات الكون"(‪.)3‬‬

‫ألفرد كاس � � ��تلر‪" :‬إننا كلما أوغلنا في دراس���ة المادة‪ ،‬أدركنا‬

‫دائما ش���يء مخفي‬ ‫أنن���ا ل���م نعرف عنها ً‬ ‫ش���يئا‪ ...‬فس���وف يظل ً‬ ‫عن���ا"‪ .‬ث���م وص���ف متاعب���ه ف���ي اس���تمرار البح���ث بالقواني���ن‬

‫المعروف���ة‪ ،‬إذ اكتش���ف أنه بعد التوغل إلى أم���د بعيد‪ ،‬توقفت‬


‫أدب‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل*‬

‫تعبير الرؤيا‬

‫محاولة جادة الستكناه النص‬ ‫التص���ور اإلس�ل�امي للك���ون‬ ‫إح���دى مي���زات‬ ‫ّ‬

‫الحقيق���ة القرآنية التي طالما أش���ار إليها كتاب اهلل من أن عالم‬

‫تق���وم إحداهم���ا عل���ى األخ���رى‪:‬‬ ‫المغي���ب‬ ‫ّ‬

‫والظاه���رة ال تقتص���ر عل���ى الغي���ب الفيزيائ���ي وح���ده ‪-‬إذا‬

‫والحي���اة والوجود‪ ،‬أن���ه ينطوي عل���ى طبقتين‬

‫والمنظ���ور‪ ،‬الالمرئ���ي والمرئي‪ ،‬عالم الغيب وعالم الش���هادة‪،‬‬ ‫الميتافيزيقي والفيزيقي‪.‬‬

‫ولق���د أكدت الكش���وف الفيزيائي���ة والكوزمولوجية األكثر‬

‫حداث���ة‪ ،‬العم���ق الغيبي للظواه���ر الطبيعية الكب���رى‪ ،‬وكيف أن‬

‫وحضورا من العالم المشهود‪.‬‬ ‫ال‬ ‫أشد ثق ً‬ ‫الغيب ّ‬ ‫ً‬

‫صح التعبير‪ -‬ولكنها تمتد لكي تشمل الخالئق كافة‪ ،‬والقوى‬ ‫ّ‬

‫مرورا بالمالئكة‬ ‫والطاق���ات الهائلة الت���ي ينطوي عليها الكون‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ش���يئا فإنما‬ ‫والج���ان‪ ،‬ووص���و ً‬ ‫ال إل���ى كلمة اهلل الت���ي إذا أرادت ً‬ ‫ون﴾‪.‬‬ ‫تقول له‪ُ :‬‬ ‫﴿ك ْن َف َي ُك ُ‬

‫مجرد قشرة سريعة االنكسار‪ .‬العقل البشري‬ ‫العالم المادي ال يعدو أن يكون ّ‬ ‫فبع���د تفجي���ر القنبل���ة الذري���ة‪ ،‬وم���ن بعده���ا الهيدروجيني���ة‬

‫ال‬ ‫العقل البش���ري الذي ال يزال ‪-‬رغم كش���وفه المدهش���ة‪ -‬طف ً‬ ‫يحبو عند حافات الكون‪ ،‬لن يكون بمقدوره إدراك ما تعنيه كلمة‬

‫ومنطوي���ة على عالم الغيب‪ ،‬قوى هائلة تفوق‬ ‫التصور‪ ،‬وتؤكد‬ ‫ّ‬

‫هايزنب���رغ‪ ،‬وش���رودنجر‪ ،‬وأينش���تين‪ ،‬وماك���س بالن���ك‪،‬‬

‫والنيوترونية تأكدت هذه الحقيقة‪ ،‬وأن ما وراء القشرة الهشة‪،‬‬ ‫تمام���ا عل���ى بع���د خط���وات منه���ا‪ ،‬مخفية ع���ن العيان‪،‬‬ ‫تحته���ا ً‬

‫"الغيب"‪ ،‬وما تنطوي عليه من قوى خالّقة هائلة غير محدودة‪.‬‬

‫‪33‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫اجلامع اجلديد يف حي أمني أونو بإسطنبول‪.‬‬

‫دار احلكومة مع موظفني عثمانيني‪ ،‬وهي قريبة من بريوت‪.‬‬

‫معلوم���ات جليل���ة عن مدين���ة إس���طنبول وكافة أرج���اء الدولة‬

‫على الزوال واالنهيار‪ .‬وقد أراد السلطان بذلك‪ ،‬خوض حرب‬

‫والصين‪ ،‬وآسيا الوسطى‪ ،‬والهند‪ ،‬والشرق األوسط‪ ،‬والبلقان‪،‬‬

‫للس���يطرة على العالم بأكمله والسيما أراضي الدولة العثمانية‬

‫العثماني���ة‪ ،‬باإلضاف���ة إلى تقديمها معلوم���ات قيمة عن اليابان‪،‬‬

‫وأورب���ا‪ ،‬والوالي���ات المتح���دة ومدنه���ا المهم���ة‪ .‬فالمصان���ع‬ ‫الت���ي افتـتح���ت في تلك اآلون���ة‪ ،‬والمدارس‪ ،‬والمستش���فيات‪،‬‬

‫والمخافر‪ ،‬والصور التي صورت أحدا ًثا مهمة‪ ،‬حظيت بمكانة‬ ‫عالية في األلبومات‪.‬‬

‫نفس���ية م���ع الدول الكب���رى في وقت كانت في���ه األمم تتصارع‬ ‫التي ل ّقبوها بـ"الرجل المريض"‪.‬‬

‫والالفت للنظر أن األلبومات التي ُأرسلت إلى خارج البالد‪،‬‬

‫تمي���زت بمقاييس���ها الضخمة؛ حي���ث تألفت م���ن ‪ 50‬صفحة‪،‬‬

‫بينم���ا كان���ت ع���ادة تتألف م���ن ‪ 20-12‬صفحة داخ���ل الدولة‬

‫وجدير بالذكر أن الس���لطان عبد الحميد الثاني قد ش���ارك‬

‫العثماني���ة‪ .‬كما تم كتابة الحواش���ي على بعض هذه األلبومات‬

‫التصوير في عهد السلطان عبد الحميد واالهتمام به‪ .‬وبالتالي‬

‫ولق���د تمي���زت ه���ذه األلبوم���ات بأغلفته���ا المزخرف���ة‪ ،‬من‬

‫في عملية التقاط الصور بنفس���ه‪ .‬وهذا ما يبين لنا مدى ازدهار‬

‫فإن اللوحات والصور التي تم جمعها في األلبومات‪ ،‬سلطت‬ ‫األضواء على أحوال األراضي العثمانية في ذلك الوقت‪.‬‬

‫ولقد قام الس���لطان عبد الحميد الثان���ي بتوظيف مصورين‬

‫أوزر" بتصوير‬ ‫ف���ي أعم���ال ش���تى‪ ،‬كتوظيف "عل���ي س���امي أق َ‬

‫المرسلة باللغة الفرنسية‪ ،‬وبعضها اآلخر بلغات أجنبية أخرى‪.‬‬

‫أوس���مة‪ ،‬وخط���وط لتزيي���ن الحواش���ي‪ ،‬وطغ���راء الس�ل�اطين‪،‬‬

‫والع َلـم العثماني‪ ،‬وشعار الدولة العثمانية‪.‬‬

‫ل���م تـُرس���ل ه���ذه األلبومات إلى رؤس���اء الدول فحس���ب‪،‬‬ ‫بل ُأرس���لت كذلك إلى المتح���ف البريطاني في لندن‪ ،‬ومكتبة‬

‫اإلمبراط���ور األلماني "ويلي���م الثاني" إبان زيارت���ه‬ ‫القدس عام‬ ‫َ‬

‫الكونغرس في واش���نطن‪ .‬أما األلبومات التي تم إهداؤها إلى‬

‫العس���كرية‪ ،‬وتوظي���ف "كنعان باش���ا" بتصوي���ر أنقاض الحرب‬

‫وآثارا تاريخي���ة بديعة تعود إلى‬ ‫يتضم���ن مناظر طبيعي���ة خالبة‬ ‫ً‬

‫‪ ،1898‬وتوظيف "حس���ن رضى األس���كداري" بتصوير األبنية‬ ‫العثمانية‪-‬اليونانية لعام ‪.1897‬‬

‫مناطق عديدة داخل األراضي العثمانية‪ ،‬وس���بعة عش���ر أخرى‬

‫منه���ا تتضم���ن صور وحدات عس���كرية عثمانية بري���ة وبحرية‪،‬‬

‫حرب نفسية عن طريق الصور‬

‫لتعرف نفسها‬ ‫أرسلت الدولة العثمانية ألبومات متنوعة عديدة ّ‬ ‫إلى دول قوية كفرنسا وبريطانيا‪ ،‬والواليات المتحدة التي بدأت‬

‫مهما في التوازن الدولي ش���ي ًئا فش���ي ًئا‪.‬‬ ‫دورا ًّ‬ ‫آن���ذاك‪ -‬تلع���ب ً‬‫فق���د تم إرس���ال واح���د وخمس���ين‬ ‫ألبوما من الص���ور‪ ،‬إلى‬ ‫ً‬

‫ملك���ة بريطاني���ا‪ ،‬وملك فرنس���ا‪ ،‬ورئي���س الوالي���ات المتحدة‪،‬‬

‫اختي���رت باهتمام بال���غ‪ ،‬للتأكيد على أن الدولة العلية العثمانية‬ ‫ال تزال في حالة جيدة‪ ،‬تحافظ على قوتها ومكانتها المرموقة‬ ‫في سياس���ة العالم على عكس ما كان يعتقد من أنها أش���رفت‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫المتح���ف البريطان���ي ع���ام ‪ ،1894‬فقد كان س���بعة عش���ر منها‬

‫‪32‬‬

‫وخمس���ة عشر أخرى ُص َو َر فعاليات طلبة المدارس العسكرية‬ ‫والمدنية‪ ،‬واثنان منها تعود إلى صور الخيول التي يتم ترويضها‬

‫في القصر العثماني‪.‬‬

‫(*) كاتب وباحث تركي‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬نور الدين صواش‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬ألبوم���ات يلدي���ز للس���لطان عب���د الحمي���د الثان���ي‪ ،‬مك���ة المكرم���ة والمدينة‬ ‫المن���ورة‪ ،‬لمحمد بهادي���ر دورنجي‪ ،‬ترجمة‪ :‬نور الدي���ن صواش‪ ،‬دار النيل‬ ‫للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬


‫جنة البقيع‬

‫صورة بانورامية لمكة المكرمة من جبل أبي قبيس‪.‬‬

‫ق���راءة الوقائ���ع الجنائي���ة؛ فقد ذك���ر في الجزء األخي���ر من هذا‬

‫تقويمه لصورهم في ذكرى الجلوس الخامس والعشرين على‬

‫يدي القاتل تش���به مخالب‬ ‫العق���دة الوس���طى من الس���بابة‪ ،‬وأن َ‬

‫الس���جناء ف���ي "ألبوم���ات يلدي���ز"‪ ،‬وكان أغلبها لس���جناء أرمن‬

‫ج���دا ويتجاوز‬ ‫الكت���اب‪ ،‬أن رأس إبه���ام أغلبي���ة القتل���ة طويل ًّ‬ ‫الحيوانات الوحشية‪ .‬فدفعني الفضول إلى أن آمر بجمع صور‬ ‫ال رأيت أن أصابع هؤالء طويلة كما قيل‬ ‫الس���جناء كلهم‪ .‬وفع ً‬

‫الع���رش‪ .‬ولعل هذا يفس���ر س���بب وج���ود عدد كبي���ر من صور‬ ‫وروم اتهموا بجرائم مختلفة‪.‬‬

‫ف���ي الكتاب‪ ،‬ولكن هيئة يد كل واحد منهم كانت مختلفة عن ألبومات يلديز‬ ‫قبض على المجرمين في‬ ‫اآلخر"‪ .‬وحكى لنا السلطان أنه كان ُي َ‬

‫أوربا ‪-‬أحيا ًنا‪ -‬من خالل النظر إلى صورهم‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬فقد استخدم السلطان عبد الحميد طريقة قراءة الصور‬

‫ف���ي تحلي���ل األش���خاص‪ ،‬وعفا عن بعض الس���جناء من خالل‬

‫ت���م التق���اط الص���ور الموج���ودة ف���ي ألبوم���ات يلديز ف���ي عهد‬

‫السلطان عبد الحميد الثاني (‪ ،)1908-1876‬وهي عبارة عن‬

‫ألبوما‪ ،‬وفيها حوالي ‪ 36‬ألف صورة‪.‬‬ ‫‪911‬‬ ‫ً‬

‫قدم���ت‬ ‫والص���ور الت���ي التقطه���ا مص���ورون محترف���ون‪ّ ،‬‬

‫‪31‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫محمد بهادير دوردنجي*‬

‫السلطان عبد الحميد الثاني‬ ‫والتصوير الفوتوغرافي‬

‫إبان القرن الثامن عش���ر‪ ،‬تم الش���روع ‪-‬وألول‬

‫وثيقة مرئية ُتحفظ في أرشيف الدولة العلية‪.‬‬ ‫يقول السلطان عبد الحميد الثاني‪" :‬الصورة التي تعبر عن‬ ‫الوقائ���ع واألح���داث وتنقلها إلينا‪ ،‬لهي أدق وأوجز من الكالم‬ ‫يبين لنا موقف الس���لطان‬ ‫الذي يطول فيه الش���رح"‪ .‬ولعل هذا ّ‬ ‫عبد الحميد الثاني من الصورة والتصوير‪.‬‬

‫حي���ث تم التقاط بعض الص���ور الموجودة في ألبومات الصور‬

‫يروى أن الس���لطان عبد الحميد الثاني كان يحلل األش���خاص‬ ‫من خالل الصور‪ ،‬ويقال إنه بعد مضي ‪ 25‬سنة من تربعه على‬ ‫العرش‪ ،‬طلب من موظفيه أن يلتقطوا صور السجناء ويسجلوا‬ ‫تح���ت كل ص���ورة جرائمهم وأس���باب دخولهم الس���جن‪ ،‬وتم‬ ‫فع�ل�ا‪ .‬فأخ���ذ الس���لطان يحل���ل ش���خصياتهم م���ن خالل‬ ‫ه���ذا‬ ‫ً‬ ‫أم���را بإطالق‬ ‫ه���ذه الص���ور‪ ،‬ثم عفا عن بع���ض هؤالء وأصدر ً‬ ‫س���راحهم‪ .‬ويقال إنه انتقى الطالب الذين يستحقون التسجيل‬ ‫في المدارس العسكرية عن طريق الصور كذلك‪.‬‬ ‫وينق���ل إلينا الطبيب حس���ين عاطف بك ‪-‬الطبيب الخاص‬ ‫للسلطان عبد الحميد الثاني‪ -‬في مذكراته‪ ،‬كيف كان السلطان‬ ‫عبد الحميد يحلل من الصور هوية السجناء ويبدي رأيه حول‬ ‫قابليتهم للجريمة بالتنبيه إلى طول أصابعهم‪ ،‬فيقول عاطف أفندي‪:‬‬ ‫ال‪" :‬قرأت‬ ‫"أنهى السلطان حديثه عن الجريمة والمجرم قائ ً‬ ‫ال حول‬ ‫ألن لي فضو ً‬ ‫ترجم���ة كت���اب إنكليزي حول الجرائ���م‪ّ ،‬‬

‫مرة‪ -‬في كلية هندسة الدفاع البري السلطانية‪،‬‬

‫بتدريس الرس���م من أجل التعرف على الصور‬

‫الثالثية األبعاد على النمط الغربي‪ .‬وفي القرن التاس���ع عش���ر‪،‬‬

‫أضي���ف إل���ى المنه���اج التعليم���ي ف���ي الكلي���ة‪ ،‬م���ادة التصوير‬

‫الفوتوغرافي تحت إشراف مدرسين تخرجوا في قسم الرسم‪ ،‬تقويم األشخاص عن طريق الصور‬ ‫العثماني���ة وال س���يما ألبومات يلديز‪ ،‬م���ن قبل طالب خريجي‬

‫كلي���ة هندس���ة الدف���اع الب���ري الس���لطانية‪ .‬وم���ن أش���هر هؤالء‬ ‫الطالب النقيب حس���ني (‪ ،)1896-1844‬البحار علي سامي‪،‬‬ ‫أحم���د أمين س���رولي (‪ ،)1892-1845‬علي رضى باش���ا (؟‪-‬‬

‫أوزر (‪.)1936-1866‬‬ ‫‪ ،)1907‬علي سامي أق َ‬

‫ومما يس���تحق اإلش���ادة به‪ ،‬أن السلطان عبد الحميد الثاني‬

‫حث بنفس���ه عل���ى التصوير الفوتوغرافي ف���ي الدولة العثمانية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حي���ث كان التصوير العنصر الرئي���س الذي يعكس حالة البالد‬ ‫خ���ارج القص���ر‪ ،‬ال س���يما عندم���ا كان���ت الدول���ة ف���ي حالة من‬

‫س���هلت للس���لطان معرفة‬ ‫االنحط���اط والضعف‪ .‬تلك الصور‪ّ ،‬‬ ‫األح���وال ضم���ن األراض���ي العثمانية التي تمتد م���ن مصر إلى‬ ‫دول البلق���ان‪ ،‬وم���ن الحجاز إلى بالد القفق���اس‪ .‬ومن ثم راح‬ ‫يوما بعد يوم حت���ى أصبحت الصورة‬ ‫التصوي���ر يزده���ر وينم���و ً‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪30‬‬


‫األجر والثواب المتواصل بتواصل نفع النتائج المتوصل إليها‪.‬‬

‫‪ -3‬إن وضعي���ة التربي���ة اإلس�ل�امية ف���ي المرحل���ة الثانوية‪،‬‬

‫العلمي���ة المعاص���رة‪ ،‬أن الحواج���ز الظاهري���ة بين ف���روع العلم‬

‫مربيا‪ ،‬ومدرسو‬ ‫التعليم‪ ،‬حيث أصبح المكلف بتدريس المادة ً‬

‫وه���ي هدف من حيث أن "م���ن الصفات الجديدة للمعرفة‬

‫تدريجيا‪ ،‬لكي تحل العلوم المتداخلة‬ ‫المختلفة أخذت تذوب‬ ‫ًّ‬

‫تفتق���د إلى عناصر التوجيه والتأثير بس���بب انفصال التربية عن‬ ‫باقي المواد معلمين‪ .‬والمطلوب في اعتقادي‪ ،‬ليس الرفع من‬

‫والمتكامل���ة مح���ل العل���وم المتع���ددة والمنفصل���ة‪ .‬ولقد توقع‬

‫عدد س���اعات المادة في شكلها الحالي‪ ،‬وإنما تطعيم مقررات‬

‫محاض���رة ألقاه���ا بجامعة ليبزك ع���ام ‪1941‬م‪ ،‬أن فروع العلم‬

‫نظري���ة الوحدة والفروع‪ ،‬مع إقرار نظ���ام الوحدات بخصوص‬

‫"هيزنب���رج" ه���ذه النتيج���ة للعل���وم المعاصرة‪ ،‬عندم���ا ذكر في‬

‫المختلفة قد بدأت في االنصهار في وحدة كبيرة‪ ،‬وحول فكرة‬

‫العلم الموحد"‪.‬‬

‫وهذا هو هدف البحث العلمي من المنظور اإلسالمي؛ إذ‬

‫كل العل���وم ووس���ائل البحث فيها‪ ،‬تهدف إل���ى إثبات وحدانية‬

‫كثيرا من اآليات تحث على النظر‬ ‫اهلل ‪ ‬وعظمته‪ ،‬لذلك نجد ً‬

‫ف���ي المخلوقات‪ ،‬إلدراك عظمة الخالق وهو الهدف األس���مى‬ ‫من البحث العلمي‪.‬‬

‫وهك���ذا تدف���ع التوجيه���ات اإلس�ل�امية الباح���ث العلم���ي‪،‬‬

‫إل���ى تصحي���ح النية في البحث وتوجيهه إلى ما هو أس���مى من‬ ‫المصلح���ة الظرفية‪ .‬وف���ي هذا التصحيح‪ ،‬دف���ع قوي‪ ،‬وتجاوز‬

‫للصعاب‪ ،‬وترش���يد في طبيعة توظيف النتائج لخدمة اإلنس���ان‬ ‫وتحقيق الخالفة في األرض‪.‬‬

‫الخاتمة‬

‫بع���د ه���ذه الجول���ة مع مختل���ف جوان���ب التنمية وبي���ان تأثرها‬ ‫بالتوجيه التربوي اإلسالمي نستنتج ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬إن رب���ط التربي���ة اإلس�ل�امية بالتنمي���ة‪ ،‬ال يعن���ي إيج���اد‬

‫مناصب الشغل لتوظيف طاقة الخريجين‪ ،‬بقدر ما يرتبط ذلك‬ ‫بالهيكلة الحضارية العامة‪ .‬فكل فرد مس���اهم في هذه الهيكلة‪،‬‬ ‫عليه أن يأخذ من الكفايات ما يضمن معه التوجيه السليم نحو‬

‫خدمة الحضارة البشرية‪.‬‬

‫‪ -2‬إن خريجي الدراس���ات اإلس�ل�امية من المتخصصين‪،‬‬

‫أبع���د الن���اس م���ن أن تطالهم البطال���ة‪ ،‬باعتبار الحاجة الماس���ة‬ ‫ف���ي مؤسس���ات التربية والتكوين إلى ه���ذا التخصص‪ ،‬لتحقيق‬

‫إس���تراتيجية تنموي���ة منضبط���ة مع السياس���ة العامة المرس���ومة‬ ‫للتعلي���م والتكوي���ن‪ .‬وف���ي ه���ذا اإلطار تن���درج دعوة أس���تاذنا‬

‫الجليل محمد بلبشير الحسني‪ ،‬إلى تدريس مادة اللغة العربية‬

‫والثقافة اإلسالمية في كل مؤسسات التربية والتعليم والتكوين‬ ‫بمختلف شعبها‪.‬‬

‫باق���ي الم���واد بما يخ���دم أه���داف التربية اإلس�ل�امية‪ ،‬في إطار‬

‫العل���وم التش���ريعية (فقه‪ ،‬حديث‪ ،‬تفس���ير‪ ،‬عقائ���د) مركزين من‬ ‫حي���ث المحتوى على ما يس���تجيب بطبيع���ة المرحلة التي يمر‬

‫بها المتربي المتعلم‪.‬‬

‫نحن سنرى أن في التخطيط الحالي لمادة التربية اإلسالمية‬

‫م���ن الثغرات‪ ،‬ما ال يكفي في س���ده إصدار الكتب المدرس���ية‬

‫وتعيي���ن األس���اتذة المتخصصي���ن وإن كان ذل���ك ال يخلو من‬

‫فائ���دة‪ ،‬ألن اإلش���كال يكم���ن في المحت���وى المق���رر وفي قلة‬

‫الحصص المخصصة للمادة‪.‬‬

‫‪ -4‬إن التربي���ة اإلس�ل�امية‪ ،‬فلس���فة عام���ة توج���ه الفع���ل‬

‫الحضاري اإلنس���اني إلى التوفيق بي���ن متطلبات الحياة المادية‬

‫والغاي���ة العلوية‪ ،‬الت���ي تتمثل في خالفة اهلل في األرض‪ ،‬بعدما‬ ‫أدخلت الفلسفات المادية اإلنسان في تجارب مرة‪ ،‬وسراديب‬

‫مظلم���ة فق���د معه���ا التوازن‪ .‬تل���ك جملة أفكار أضعه���ا بين يد‬ ‫كل المخططي���ن المبرمجين للتعلي���م‪ ،‬لمعرفة أوجه الربط بين‬

‫التربي���ة اإلس�ل�امية الحق���ة وإس���تراتيجية التنمية‪ ،‬فيق���رروا من‬

‫المواضي���ع ما يرتب���ط ح ًّقا بهذا المفهوم‪ ،‬مث���ل قضايا الحرب‪،‬‬

‫والظلم‪ ،‬واالستعمار‪ ،‬واالضطهاد العنصري‪ ،‬ومشاكل الجوع‬ ‫والحرمان‪ ،‬وأخطار التلوث البيئي والنفسي والعقائدي‪ ،‬وسوء‬ ‫اس���تخدام التكنولوجي���ا‪ ،‬وتناق���ص الموارد الغذائي���ة والموارد‬ ‫الطبيعية‪ ،‬والتحل���ل األخالقي واالنفصال عن الفطرة‪ ،‬وقضايا‬

‫أخ���رى ال يمك���ن للمجتمع أن يعيش دون أن يهتم بها‪ ،‬ويصل‬ ‫إل���ى وس���ائل أخرى‪ ،‬ث���م لينظروا بعد ذلك‪ ،‬كي���ف تؤثر التربية‬ ‫عمليا‪.‬‬ ‫اإلسالمية في قضايا التنمية‬ ‫ًّ‬

‫(*) رئيس المركز المغربي للدراسات واألبحاث التربوية اإلسالمية ‪ /‬المغرب‪..‬‬

‫المراجع‬ ‫(‪ )1‬نظ���رة إس�ل�امية عل���ى التكنولوجي���ا‪ ،‬محمد عزي���ز الحبابي‪ ،‬مجل���ة الحوار‪،‬‬ ‫العدد‪ ،10:‬السنة الثالثة‪.‬‬

‫‪29‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫َش���ي ٍء َم ْو ُز ٍ‬ ‫ون﴾(الحجر‪ .)19:‬وقد تحدثت‬ ‫ْ‬ ‫كثير من الدراس���ات ع���ن البيئة وعوامل‬ ‫تلويثه���ا؛ فتحدث���ت ع���ن تل���وث الم���اء‪،‬‬

‫وع���ن تلوث اله���واء‪ ،‬والترب���ة‪ ،‬والغذاء‪،‬‬ ‫والتل���وث الضوضائي‪ ،‬وتلوث الطبقات‬

‫الجوية‪ ،‬واستنـزاف الثروات الطبيعية‪...‬‬ ‫وأش���ارت بأصابع االتهام إلى اإلنس���ان‬ ‫عب���ر أنش���طته الصناعي���ة الت���ي خلف���ت‬

‫نفايات خطيرة‪ ،‬وأنشطته العسكرية التي‬

‫دمارا‬ ‫وخرابا للبيئة‪ ،‬يبقى مفعوله‬ ‫ً‬ ‫خلفت ً‬ ‫عبر الحقب واألزمان‪ .‬ومخزون العالم‬

‫من أسلحة الدمار الشامل‪ ،‬يكفي لتدمير‬

‫الماء الدائم وال يغتس���ل فيه"‪ ،‬وبالقياس‬

‫يحت��اج ت�س��يري امل�ؤ�س�س��ات‬ ‫االقت�ص��ادية االجتماعي��ة‬ ‫وال�سيا�س��ية قب��ل القوان�ين‬ ‫ال�ض��ابطة‪� ،‬إىل تكوي��ن مت�ين‬ ‫وم�ستمر ي�ستوعب التغريات‪،‬‬ ‫أي�ضا �إىل من يت�صف‬ ‫ويحتاج � ً‬ ‫ب�أخالق املهنة والإخال�ص له‪،‬‬ ‫ثم هو يحتاج ثالثًا �إىل تخطيط‬ ‫م�ستقبلي ور�ؤية بعيدة‪.‬‬

‫يلوث الماء‪.‬‬ ‫ّ‬

‫وحينم���ا يتح���دث ع���ن الح���روب‬

‫ومخلفاتها‪ ،‬ينهى عن حرق المزروعات‬ ‫وتدمير مقومات الحضارة‪ ،‬ألن الحرب‬ ‫في اإلس�ل�ام اس���تثناء من قاعدة السالم‪،‬‬

‫يق���ول أبو بك���ر الصديق ‪ ‬ف���ي وصيته‬ ‫ألس���امة بن زيد قائد الجيش اإلس�ل�امي‬

‫إلى الش���ام‪" :‬وال تقطعوا ش���جرة مثمرة‪،‬‬

‫بعيرا إال لألكل"‪.‬‬ ‫وال تذبح���وا بق���رة وال ً‬

‫وع���ن التصرف���ات العام���ة لإلنس���ان في‬

‫عب���ر الرس���ول ‪ ‬أن‬ ‫تعامل���ه م���ع بيئت���ه‪ّ ،‬‬

‫الكرة األرضية‪.‬‬

‫إن من أساس���يات التنمي���ة‪ ،‬الحفاظ‬

‫يك���ون النه���ي بهذا الحدي���ث عن كل ما‬

‫إماط���ة األذى ع���ن الطري���ق صدقة‪ .‬فعن‬

‫عل���ى البيئ���ة ومقاوم���ة التلوث‪ .‬ول���ن يتم هذا بواس���طة قوانين‬

‫ش���يئا أنتفع به‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫أبي برزة ‪ ‬قال‪ :‬قلت يا نبي اهلل‪ ،‬ع ّلمني‬ ‫ً‬ ‫عزل األذى عن طريق المسلمين" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫" ِا ِ‬

‫ريوديجانيرو (قمة األرض)‪ ،‬وإنما يتم ذلك‪ ،‬بواس���طة التربية‪،‬‬

‫التربية اإلسالمية وأهداف البحث العلمي‬

‫محلي���ة أو دولي���ة‬ ‫يص���ادق عليها في مؤتمرات م���ن حجم قمة‬ ‫َ‬ ‫﴿ظ َه َر‬ ‫ألن الف���رد هو الذي يفس���د البيئة ويلوثها‪ ،‬ق���ال تعالى‪َ :‬‬ ‫ض‬ ‫الن ِ‬ ‫اس ِل ُي ِذي َق ُه ْم َب ْع َ‬ ‫ا ْل َف َس ُاد ِفي ا ْل َب ِّر َوا ْل َب ْح ِر ب َِما َك َس َب ْت َأ ْي ِدي َّ‬ ‫ون﴾(الروم‪.)41:‬‬ ‫ا َّل ِذي َع ِم ُلوا َل َع َّل ُه ْم َي ْر ِج ُع َ‬ ‫إن غي���اب هذا الحس التربوي اإلنس���اني‪ ،‬هو الذي يجعل‬

‫بطبيعته���ا ‪-‬ألن موض���وع البح���ث فيها‪ -‬ه���ي كل خلق اهلل في‬

‫النفاي���ات النووية المش���عة‪ ،‬مقابل عقد صفق���ة مع نظام حاكم‬

‫من هنا كانت إس�ل�امية المنهج العلمي أو أس���لمته‪ ،‬صورة‬

‫يجع���ل الصناع���ات الغربي���ة تصب األطن���ان م���ن النفايات في‬

‫الحفاظ على إنس���انية اإلنس���ان‪ ...‬ذلك ألن اإليمان الخالص‪،‬‬

‫بي���ن "التخل���ص م���ن النفاي���ات" و"المحافظة عل���ى البيئة"‪ ،‬إن‬

‫المنهج العلمي اإلس�ل�امي‪ ،‬وإليهم���ا تعزى كل القوى الدافعة‬

‫ربط ذلك بالتصور العقائدي والعبادي؛ ربط الطهارة بالشعائر‬

‫لذلك بنيت فلسفة البحث العلمي من المنظور اإلسالمي‪،‬‬

‫إن األخ���ذ بالمنهج اإلس�ل�امي في مج���االت البحث العلمي‪،‬‬

‫قب���ل عل���ى أنه حقيق���ة منطقية وض���رورة حضارية‪.‬‬ ‫يج���ب أن ُي َ‬

‫ش���اهدا عل���ى ذلك‪ ،‬أن علوم الكون والحياة إس�ل�امية‬ ‫ويكفي‬ ‫ً‬

‫الغ���رب يص���در نفاياته إلى بل���دان العالم الثال���ث بما في ذلك‬

‫كتابه المنظور‪.‬‬

‫ف���ي بلد جائع وفقير ومريض‪ .‬إن غياب هذا الحس‪ ،‬هو الذي‬

‫حضاري���ة ملح���ة لضم���ان مواصلة التق���دم العلم���ي التقني مع‬

‫ع���رض البحار‪ .‬إن الف���رق كبير بين الفكر والممارس���ة‪ ،‬وكبير‬

‫والس���مو الروحي‪ ،‬يأتيان في مقدمة الخصائص التي يتميز بها‬

‫اإلس�ل�ام حينما تحدث ع���ن الطهارة الحس���ية المعنوية‪ ،‬فإنما‬

‫لملكات البحث العلمي عن طريق اإلبداع واالبتكار‪.‬‬

‫التعبدية حيث ال تجوز بدونها‪ ،‬وتخلو تعليمات اإلس�ل�ام في‬

‫كل الميادين من إجراءات لحماية البيئة‪.‬‬

‫فحينم���ا تحدث عن الماء ‪-‬وهو المكون الرئيس���ي للبيئة‪-‬‬ ‫���ن ا ْل َما ِء ُك َّل َش���ي ٍء‬ ‫﴿و َج َع ْل َن���ا ِم َ‬ ‫ربط���ه بالحي���اة‪ ،‬ق���ال تعال���ى‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫َح ٍي﴾(األنبياء‪ .)30:‬لذلك نهى الرسول ‪ ‬عن تلويثه في الحديث‬ ‫ّ‬ ‫ول���ن‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫"ال‬ ‫‪:‬‬ ‫ق���ال‬ ‫حيث‬ ‫هريرة‪،‬‬ ‫أب���و‬ ‫رواه‬ ‫ال���ذي‬ ‫أحدكم في‬ ‫ُ‬ ‫َُ ّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪28‬‬

‫دافعا من حي���ث المنطلق‪،‬‬ ‫عل���ى نظري���ة التوحيد التي ش���كلت ً‬

‫وهد ًف���ا م���ن حيث النتائ���ج‪ ،‬فيه دافع من حيث أن الرس���ول ‪‬‬ ‫يق���ول‪" :‬إذا م���ات ابن آدم‪ ،‬انقطع عمل���ه إال من ثالث‪ :‬صدقة‬

‫جاري���ة‪ ،‬أو علم ُي َنت َف���ع به‪ ،‬أو ولد صالح يدعو له" (رواه مس���لم)‪.‬‬

‫فه���ذا دافع يتضمن مصلحة اإلنس���ان وتطوير البحث العلمي‪،‬‬

‫والس���يطرة عل���ى الطبيع���ة‪ ،‬ليتجاوزها إلى ما هو أس���مى؛ وهو‬


‫البداية أو في النهاية‪ ،‬ويصبح الكالم عبر منطق مكسور‪ .‬وهاك‬

‫واردة على اإلطالق‪ .‬فلن يمكن بأي حال‪ ،‬أن تخرج توجهات‬

‫مرقمة‪ ،‬مدورة وحادة وجارحة بشكل فارق‪:‬‬

‫عم���ا تخطط���ه المؤسس���ة الحاكم���ة في إط���ار النظ���ام العالمي‬

‫بع���ض الوقائع التي تس���بب الخوف واالرتج���اف‪ ،‬إنها مراجع‬

‫ال‪-‬‬ ‫محطات اإلرس���ال التلفزيوني في الوالي���ات المتحدة ‪-‬مث ً‬

‫‪ 900‬مليار دوالر‬ ‫تقريبا للتسلح‪ ،‬مقابل ‪ 35‬مليار لمساعدة‬ ‫ً‬

‫الجدي���د‪ .‬وك���م كان اإلعالم الغرب���ي مقدمة ممه���دة لضربات‬

‫ش���كل س�ل�اح أو يقدم لشراء أسلحة‪ ...‬كيف يمكن لمسلم أن‬

‫العقلية الغربية باس���تعمال مصطلحات "اإلرهاب"‪" ،‬التطرف"‪،‬‬

‫وبع���د ع���رض مس���تفيض لمختل���ف المواق���ف المتخ���ذة‬

‫األمل"‪ ...‬فيشعر الشارع األوروبي إما بالتعاطف مع العمليات‬

‫ف���ي نف���س اهتمامات العال���م المعاصر‪ ،‬وهو م���ا يصطلح عليه‬

‫الي���وم‪ ،‬بعد فترات االنحطاط‪ ،‬يعتمدون على وس���ائل اإلعالم‬

‫العال���م الثالث‪ ،‬وجزء عيني من هذه المس���اعدات معطى على‬ ‫يكون رد فعله على هذا الرجل العالمي؟‬

‫م���ن التكنولوجي���ا‪ ،‬خلص الدكت���ور الفاضل إل���ى فكرة تصب‬ ‫بأخالقي���ات التكنولوجي���ا‪ ،‬وم���ا نس���ميه نح���ن‪ ،‬توجي���ه التربية‬

‫اإلسالمية للتكنولوجيا بما يخدم قيم اإلنسانية‪ ،‬ويحقق خالفة‬

‫اهلل في األرض وعمارتها‪ ،‬مخالفين بذلك منطق السيطرة الذي‬ ‫يؤدي في غالب األحيان إلى االس���تعمال السيء للتكنولوجيا‪.‬‬

‫عسكرية موجعة في عدة مناطق من العالم‪ ،‬عن طريق استعداء‬ ‫"الش���رعية الدولية"‪" ،‬التدخل لحماية حقوق اإلنس���ان"‪" ،‬إعادة‬ ‫العسكرية‪ ،‬أو بالخوف على المصالح‪ .‬ولقد أصبح المسلمون‬

‫األجنبية في مادتهم اإلخبارية‪ ،‬التي ترتبط في كثير من األحيان‬ ‫بمركزية الغرب‪ ،‬وفي كثير من األحيان األخرى بالمؤسس���ات‬

‫الصهيوني���ة‪ ،‬التي تعمل عبر ش���ركات دعاية إعالمية ترصد لها‬ ‫األموال الطائلة لصناعة أبطال مزيفين‪ ،‬وتهميش كل من يدور‬

‫يق���ول الدكت���ور محمد عزي���ز الحباب���ي‪" :‬وبالفعل‪ ،‬فاإلس�ل�ام‬

‫في فلك هذه المؤسسات أو يعمل ضدها‪.‬‬

‫وجها‬ ‫إنسانيا‪،‬‬ ‫المنتقدة من أجل تفلتها الجنوني‪ ،‬س���وف تأخذ ً‬ ‫ًّ‬

‫نظ���را لتحملها المس���ؤولية ف���ي تحري‬ ‫المؤسس���ة اإلعالمي���ة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫آم ُنوا إ ِْن َج َاء ُك ْم‬ ‫﴿يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫الدقة‪ ،‬انطال ًقا من قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫َف ِ‬ ‫���ق ب َِن َب��� ٍأ َف َت َب َّي ُن���وا َأ ْن ُت ِص ُيب���وا َق ْو ًما ب َِج َها َل��� ٍة َف ُت ْصب ُِحوا َع َلى َما‬ ‫اس ٌ‬ ‫﴿م���ا َي ْل ِف ُظ ِم ْن َق ْو ٍل‬ ‫���م َنا ِد ِم َ‬ ‫ين﴾(الحج���رات‪ ،)6:‬وقوله تعالى‪َ :‬‬ ‫َف َع ْل ُت ْ‬ ‫يد﴾(ق‪ .)18:‬وقوله ‪" :‬م���ن كان يؤمن باهلل‬ ‫ِإ َّ‬ ‫ي���ب َع ِت ٌ‬ ‫ال َل َد ْي��� ِه َر ِق ٌ‬ ‫خيرا أو ليصمت" (متفق عليه)‪.‬‬ ‫واليوم اآلخر فليقل ً‬

‫والتكنولوجيا‪ ...‬س���وف يجدان وجه فائدة لكل منهما‪ ،‬فاآللية‬

‫الجسور التي انتزعها منه التفاوت‬ ‫واإلسالم سوف يجد وثبته َ‬ ‫التاريخي‪ ،‬وسوف يعود اإليمان قوة احتجاج متيقظة‪ ...‬وهكذا‬ ‫فإن زاوج العقل واإلخالص بين العلم والتكنولوجيا من ناحية‪،‬‬ ‫واإلس�ل�ام من ناحي���ة أخرى‪ ،‬يعي���د للمجتمع ُبع���ده الروحي‪،‬‬

‫وسوف نسترجع عندها الصفاء والسكينة الخامدتين منذ أمد‪.‬‬

‫التربية اإلسالمية واإلعالم‬

‫يكون صورة سيئة عن إنسان ما أو شعب‬ ‫يس���تطيع اإلعالم أن ّ‬ ‫م���ا‪ ،‬كم���ا أن ل���ه قدرة على إنش���اء صورة إيجابي���ة وإن لم تكن‬

‫حقيقي���ة عن إنس���ان آخر أو ش���عب آخ���ر‪ .‬وعن طريق س���لطة‬

‫اإلعالم ودورها في تكييف اإلطار الفكري لإلنس���ان‪ ،‬نخلص‬ ‫إل���ى أن الوس���ائل اإلعالمية تالحق الفرد ف���ي العصر الحديث‬

‫أينم���ا كان‪ .‬وبغض النظر عن مكونات العقلية المرجعية‪ ،‬فإننا‬ ‫نج���ده‬ ‫مس���تعدا للتج���اوب م���ع الخب���ر والصورة بش���كل كبير‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ويبق���ى الصدق والكذب وقواعد اإلعالم مثل "الخبر مقدس‪،‬‬

‫إننا نجد في اإلس�ل�ام ضمانات الخبر الصادق واس���تقالل‬

‫إن مي���دان اإلعالم يحتاج إلى تربية وتكوين يضمنان توفر‬

‫أخ�ل�اق المهنة‪ .‬ويتح���رر اإلعالم ليصبح أداة ترش���يد وتثقيف‬

‫ع���وض أداة ضغ���ط وتزيي���ف‪ ،‬وذلك عن طري���ق تطعيم برامج‬ ‫التدري���ب بالتصوير اإلس�ل�امي‪ ،‬س���واء في المناه���ج أو المواد‬

‫الدراس���ية‪ ،‬ألن الواق���ع الحال���ي يتحدث عن غي���اب أي حس‬

‫عموم���ا‪ ،‬أو عن خبرة‬ ‫مع���دي البرام���ج‬ ‫إعالم���ي إس�ل�امي عند‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫خصوصا‪ .‬فال هذا وال ذاك‬ ‫معدي البرامج الدينية‬ ‫ضعيفة عند ّ‬ ‫ً‬

‫متط���ورا‬ ‫إعالما‬ ‫نري���د‪ ،‬إنما نريد‬ ‫منضبطا بالتوجه���ات التربوية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اإلسالمية وأساسيات اإلعالم الحر النـزيه‪.‬‬

‫والتعلي���ق ح���ر" تخض���ع للنس���بية المرتبطة بأخطب���وط إعالمي التربية اإلسالمية والبيئة‬

‫موج���ه لخدم���ة أه���داف معين���ة‪ ،‬ليس���ت بالضرورة ف���ي صالح‬ ‫متينا‬ ‫المستمع‪ ،‬بل توجيهه والتأثير عليه‪ .‬وقد أضحى االرتباط ً‬

‫بين المؤسس���ات السياس���ية واإلعالمية‪ ،‬ولم تعد االس���تقاللية‬

‫حينم���ا نتحدث ع���ن البيئة‪ ،‬فإننا نقصد كل ما يحيط باإلنس���ان‬

‫مم���ا س���خر اهلل ل���ه ف���ي الك���ون م���ن مخلوق���ات‪ ،‬ق���ال تعالى‪:‬‬ ‫اه���ا َو َأ ْل َقي َن���ا ِف َيها ر َو ِ‬ ‫﴿وا َ‬ ‫اس���ي َو َأ ْن َب ْت َن���ا ِف َيها ِم ْن ُك ِّل‬ ‫أل ْر َ‬ ‫ض َم َد ْد َن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫‪27‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫وتأت���ي القواني���ن المنظم���ة‪ ،‬خاص���ة‬

‫الزاج���رة منه���ا لس���د الثغ���رات وتفويت‬ ‫ف���رص االس���تهتار عل���ى المتهاوني���ن‬

‫والمصلحين‪ ،‬ويحتاج القانون المتعارف‬ ‫علي���ه إلى جي���ش من األطر يس���هر على‬ ‫حمايت���ه‪ ،‬ثم إلى مجموعة أخرى تس���هر‬

‫عل���ى حماية ومراقبة حماة القانون‪ .‬ألن‬ ‫المتع���ارف علي���ه ف���ي زماننا م���ن خالل‬

‫الواق���ع المعيش‪ ،‬أن أه���ل القانون أقدر‬ ‫الن���اس عل���ى اختراقه‪ ،‬باعتب���ار االطالع‬

‫الكبي���ر عل���ى الحلقات المفرغ���ة ونقط‬ ‫الضع���ف وصي���غ التأوي���ل‪ .‬وم���ا ُأتي���ت‬

‫المس���ؤول يرق���ى بالمس���ؤولية م���ن‬

‫�إن ه��دف الرتبي��ة الإ�س�لامية‬ ‫يتجلى يف طرح البديل الإ�سالمي‬ ‫يف الواق��ع �سيا�س��يًّا واقت�ص��اديًّا‬ ‫واجتماعيًّ��ا‪ ،‬ثم تر�س��يخ الرقابة‬ ‫الذاتي��ة الت��ي جتع��ل ال�ش��خ�ص‬ ‫امل�س���ؤول يرق��ى بامل�س���ؤولية من‬ ‫الت�رشيف �إىل التكليف‪ ،‬لأنه يعي‬ ‫جي ًدا قول الر�س��ول ‪" :‬كلكم‬ ‫راع وكلكم م�س�ؤول عن رعيته"‪.‬‬

‫كثير من المؤسس���ات‪ ،‬إال من قبل سوء‬

‫نظرا‬ ‫التدبي���ر وخ���رق القواني���ن المنظمة ً‬

‫لغي���اب الضمي���ر المهني م���ن جهة‪ ،‬ثم ضعف الرقابة البش���رية‬

‫من جهة ثانية‪.‬‬

‫وأمام هذا الوضع ال شك أن تسيير المؤسسات‪ ،‬في حاجة‬

‫إلى رجال يتوفرون ‪-‬إلى جانب ما ذكرنا‪ -‬من تكوين مس���تمر‬

‫جيدا‬ ‫التش���ريف إلى التكليف‪ ،‬ألنه يعي ً‬

‫ق���ول الرس���ول ‪" :‬كلك���م راع وكلكم‬

‫مس���ؤول عن رعيته"‪ .‬ومن هنا ندرك سر‬

‫ق���ول عمر بن الخط���اب ‪" :‬لو‬ ‫عثرت‬ ‫ْ‬ ‫يعبد‬ ‫بغل ٌة بالعراق لس���ئل عمر لم���اذا لم ّ‬ ‫لها الطريق"‪ ،‬وقال حين حضرته الوفاة‪:‬‬

‫"م���ا ندمت على ش���يء ندمي على تولي‬ ‫أيضا س���بب عزوف‬ ‫الخالف���ة"‪ .‬ون���درك ً‬

‫أب���ي حنيفة ع���ن تولي منص���ب القضاء‪،‬‬ ‫أيض���ا إذا رأوا‬ ‫غي���ر أن���ه كان من س���ننهم ً‬

‫أنه���م أهل لتولي منصب قد يفس���ده َمن‬

‫ال له‪ ،‬قالوا مثل ما قال يوس���ف‬ ‫لي���س أه ً‬ ‫���ن‬ ‫﴿اج َع ْل ِن���ي َع َل���ى َخ َزا ِئ ِ‬ ‫‪ ‬للعزي���ز‪ْ :‬‬

‫ض ِإ ِّن���ي َح ِف ٌ ِ‬ ‫ا َ‬ ‫يم﴾(يوس���ف‪ .)55:‬والحفظ يعني الش���عور‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫يظ َعل ٌ‬

‫برقابة اهلل تعالى‪ ،‬والعلم يعني الكفاءة‪ ،‬وهما شرطان أساسيان‬ ‫لتسيير المؤسسات وهذا ما توفره التربية اإلسالمية‪.‬‬

‫التربية اإلسالمية والتكنولوجيا‬

‫ومتين على رقابة داخلية مكتس���بة من منظومة تربوية إس�ل�امية‬

‫يش���عر اإلنسان في العالم المعاصر أنه أسير التكنولوجيا‪ ،‬وأن‬

‫اإلنس���اني"‪ ،‬إلى تحقيق مبدإ خالفة اهلل في أرضه‪ ،‬واإلحساس‬

‫ال‬ ‫مدم���را للحياة‪ ،‬أو ‪-‬عل���ى األقل‪ -‬عامل‬ ‫م���ن أن تك���ون عام ً‬ ‫ً‬

‫وحس���يبا‬ ‫رقيبا‬ ‫وشاهدا‪ ،‬لقول الرسول ‪" :‬كلكم راع وكلكم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫خياراتهم السياس���ية واالقتصادية واالجتماعية‪ ،‬وهو ما حصل‬

‫التكوي���ن المهن���ي والمعرف���ي‪ ،‬ال تنفصل في���ه الجوانب التقنية‬

‫وف���ي هذا الصدد يق���ول الدكتور محمد عزي���ز الحبابي رحمه‬

‫الرقابة التي تحتاج إلى رقابة‪ ،‬وقد نس���تغني عن بروتوكوالت‬

‫أبدا‪ -‬سوى وسائل مادية‬‫لإلنسانية‪ ،‬لكن هذه األخيرة ليست ً‬

‫تربطه���م بأه���داف أس���مى م���ن "الضمي���ر الح���ي" و"الواج���ب‬

‫التقنية الحديثة س���لبته حريته فأصي���ب بهذيان وارتجاف خو ًفا‬

‫بالمس���ؤولية أم���ام أصح���اب الحق���وق‪ ،‬وأمام اهلل ال���ذي يعتبر‬

‫وتهدي���دا لمص���ادر رزقه���م‪،‬‬ ‫اس���تعباد للضعف���اء‪،‬‬ ‫وتحكما في‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫مس���ؤول ع���ن رعيت���ه" (رواه البخ���اري)‪ .‬ول���ن يتم ه���ذا إال إذا كان‬

‫بالفع���ل ف���ي عالم النظ���ام الجديد‪ ،‬وقبله أيام الح���رب الباردة‪.‬‬

‫عن التوجيهات الروحية العقائدية‪ .‬وقد نس���تغني بهذا عن أطر‬ ‫القس���م الت���ي تتل���و أي تعيي���ن ف���ي أي منص���ب م���ن المناصب‬

‫الحساس���ة في الدولة‪ .‬ولذلك ال نس���تغرب من كون الرس���ول‬

‫‪‬‬ ‫معضدا بالوحي‪ ،‬قضى ثالث عشرة سنة في صقل الجانب‬ ‫ً‬ ‫العقائ���دي لدى الرجال الذين سيس���اهمون ف���ي بناء أول دولة‬

‫إسالمية بالمدينة‪.‬‬

‫اهلل‪" :‬التكنولوجي���ا بح���د ذاته���ا‪ ،‬ه���ي مص���در للروائع بالنس���بة‬ ‫فاترة ذات بعد متساو من الخير والشر على الصعيد اإلنساني‪.‬‬ ‫دورا وهو الدراسة العقالنية للتقنيات‪ ،‬ويجب‬ ‫إن للتكنولوجيا ً‬ ‫أيضا إقامة انشطار واضح بين االستعمال الحسن أو االستعمال‬ ‫ً‬

‫الس���يء للتقني���ات‪ ،‬غي���ر أن م���ا يمي���ز التكنولوجي���ا‬ ‫ظاهريا في‬ ‫ًّ‬ ‫مرحلتنا الراهنة‪ ،‬هو بداية قسوة تطبيقاتها‪ :‬أفران حرق الجثث‬

‫وم���ن هن���ا يظه���ر أن ه���دف التربي���ة اإلس�ل�امية يتجلى في‬

‫(هيروش���يما)‪ ،‬التمش���يط المنتظم للثائرين (الثوار ضد فرنسا)‪،‬‬

‫واجتماعي���ا‪ ،‬ثم ترس���يخ الرقاب���ة الذاتية التي تجعل الش���خص‬ ‫ًّ‬

‫أبدا‪ ،‬إن المنطق ينكس���ر في ه���ذه اللعبة‪ ،‬ويتموضع "األنا" في‬ ‫ً‬

‫واقتصاديا‬ ‫سياس���يا‬ ‫أمرين‪ :‬طرح البديل اإلس�ل�امي في الواقع‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪26‬‬

‫رش البلدان بالنابلم في الصبائح الهادئة‪ ...‬الشواهد ال تنقص‬


‫تربية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬خالد الصمدي*‬

‫محاولة األمم للتقدم إىل األمام‪ ،‬ينبغي أن مت َّر من خالل تقويم الحارض مبا له وما عليه‪،‬‬ ‫مع االستفادة من تجارب املايض وإيالئها أهمية حقيقية‪ ،‬وإال نكون قد ظلمنا األجيال‬ ‫الصاعدة وتسببنا يف ضياعهم‪.‬‬ ‫(املوازين)‬ ‫***‬

‫التربية اإلسالمية‬

‫والبعد اإلستراتيجي لقضايا التنمية‪2-‬‬ ‫عب���ر النماذج التي س���ردناها في المق���ال األول‪ ،‬يظهر بجالء أن‬ ‫ارتباطا وثي ًقا‬ ‫التنمية االقتصادية واالجتماعية والسياسية مرتبطة‬ ‫ً‬ ‫بفلس���فة التربية الس���ائدة‪ .‬وحتى ننقل القارئ من هذا المستوى‬

‫التنظي���ري إل���ى المس���توى التطبيقي‪ ،‬نقوم بجول���ة عبر ميادي���ن التنمية المعاصرة‬

‫ال‪ ،‬ث���م معرفة انعكاس���ات التربية اإلس�ل�امية على مس���توياتها‬ ‫لرص���د واقعه���ا أو ً‬ ‫العملي���ة‪ ،‬لنع���رف أن التربية اإلس�ل�امية ‪-‬في قطاع التكوين الذي يش���كل الرافد‬ ‫األساس���ي لمؤسس���ات التنمي���ة‪ -‬م���ادة ت���ذوب ف���ي كل التخصص���ات لتطبعه���ا‬ ‫ببصم���ات االس���تمرار الناج���ح والتخطيط المس���ؤول‪ ،‬وليس���ت م���ادة منعزلة أو‬

‫متعلقة بتخصص دون آخر‪.‬‬

‫التربية اإلسالمية وتسيير المؤسسات‬

‫يحتاج تس���يير المؤسس���ات االقتصادي���ة واالجتماعية والسياس���ية قب���ل القوانين‬ ‫أيضا إلى من‬ ‫الضابطة‪ ،‬إلى تكوين متين ومس���تمر يس���توعب التغيرات‪ ،‬ويحتاج ً‬

‫يتصف بأخالق المهنة واإلخالص لها‪ ،‬ثم هو يحتاج ثال ًثا إلى تخطيط مستقبلي‬ ‫ورؤية بعيدة‪.‬‬

‫‪25‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫م���ن األناني���ة إل���ى الغيرية‪ ،‬ومن تحقي���ق مطامع���ه الخاصة إلى‬ ‫رعاي���ة الجماع���ة والتضحية من أجلها‪ ،‬وه���ذا مقتضى األخوة‬ ‫الت���ي نص���ت عليها اآلي���ة الكريمة‪ ،‬قال ربنا جل وع�ل�ا‪ِ ﴿ :‬إ َّن َما‬ ‫���ون إ ِْخ َو ٌة﴾(الحج���رات‪ .)10:‬إن إع�ل�ان اإلخ���اء بي���ن أفراد‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ‬ ‫مجتم���ع ما‪ ،‬يوج���ب التكافل بينه���م‪ ،‬ال في الطعام والش���راب‬ ‫وحاجيات الجس���م فحس���ب‪ ،‬بل في كل حاج���ة من حاجيات‬ ‫الحياة‪ ...‬فيحرص على حياته وحريته وثقافته وكرامته ومكانته‪.‬‬ ‫إن على كل فرد مس���ؤولية جماعية قد تضيق الدائرة أو تتس���ع‬ ‫حس���ب القدرة واالس���تطاعة‪ ،‬ولكن تبقى المسؤولية حاضرة‪،‬‬ ‫م���ن اهلل عليه بالعطاء ومنحه نعمة من النعم‪ ،‬فهو مطالب‬ ‫فم���ن َّ‬ ‫بالبذل والس���خاء‪ ،‬هذه اجتماعية اإلس�ل�ام وهذه ثقافة المسلم‬ ‫الحق‪ .‬إن على الكل أن يدرك أننا في الس���فينة نفس���ها‪ ،‬وعلينا‬ ‫العم���ل جاهدي���ن لألخ���ذ بيد أفراد ه���ذه الس���فينة حتى نضمن‬ ‫األم���ن واألمان الذي هو مطلب أس���اس للرخاء واالس���تقرار‪.‬‬ ‫لقد وجه اإلسالم االهتمام إلى فئات عريضة من المجتمع‬ ‫مم���ن تظه���ر عليهم الحاج���ة والفاقة‪ ،‬أو العج���ز والمرض‪ ،‬أو‬ ‫العاهة واإلعاقة‪ .‬وإذا أردنا حصر النصوص من القرآن والسنة‬ ‫واآلث���ار الت���ي تؤكد ه���ذا المعنى العظيم لوجدناه���ا من الكثرة‬ ‫بم���كان‪ ،‬منه���ا ما ه���و صريح ومنها ما هو إش���ارة وتلميح‪" .‬إن‬ ‫خاصا‪،‬‬ ‫اإلسالم قد أولى الطبقات الضعيفة في المجتمع‬ ‫اهتماما ًّ‬ ‫ً‬ ‫فش���رع لهم م���ن األحكام والوس���ائل ما يكفل العم���ل المالئم‬ ‫ل���كل عاطل‪ ،‬واألجر العادل لكل عامل‪ ،‬والطعام الكافي لكل‬ ‫جائ���ع‪ ،‬والعالج المناس���ب لكل مريض‪ ،‬والكس���اء المناس���ب‬ ‫ل���كل عريان‪ ،‬والكفاية التامة لكل محتاج‪ ...‬بغير إس���راف وال‬ ‫فريدا من التعاطف‬ ‫تقتير"(‪ .)2‬فالمجتمع اإلسالمي يمثل‬ ‫ً‬ ‫طرازا ً‬ ‫اإلنس���اني‪ ،‬إذ حبب اإلس�ل�ام إلى هذه األم���ة صنع المعروف‪،‬‬ ‫وقضاء حوائج الناس‪ ،‬وتفريج كرباتهم‪ ،‬وستر عيوبهم‪ ،‬وعيادة‬ ‫مريضه���م‪ ،‬والذب ع���ن أعراضهم‪ ،‬ونص���ر مظلومهم‪ ،‬ورحمة‬ ‫ضعيفه���م‪ ،‬وإقالة عثراتهم‪ ،‬والس���عي لإلص�ل�اح بينهم‪ ...‬وقد‬ ‫منهجا يختلف ع���ن بقية المناهج‬ ‫فعليا‪-‬‬‫نه���ج لتحقيق ذل���ك‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫دائما باهلل ‪،‬‬ ‫األرضي���ة في كونه يربط هذا العمل االجتماعي ً‬ ‫ويجع���ل المصلحة الكبرى والجائ���زة العظمى في يوم القيامة‪،‬‬ ‫ومرسخا له‬ ‫موظ ًفا في ذلك الوازع الديني‪،‬‬ ‫ومستثمرا إياه‪ ،‬مع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ع���دم إغف���ال المنافع الدنيوية الهائلة التي تعود على الناس في‬ ‫حياتهم عند التعامل بهذا السلوك االجتماعي الراقي‪.‬‬ ‫بعي���دا في تكوي���ن أف���راد فاعلين‬ ‫ش���أوا‬ ‫لق���د بلغ اإلس�ل�ام‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪24‬‬

‫وناش���طين اجتماعيي���ن‪ ،‬ي���ؤدون حقوق المحتاجي���ن من جهة‪،‬‬ ‫ويعمل���ون عل���ى نش���ر ثقاف���ة المس���اندة والم���ؤازرة واالهتمام‬

‫به���م من جه���ة أخرى‪ .‬وع���اب اهلل ‪ ‬على من ح���اد عن هذه‬ ‫ام ا ْل ِمس ِ‬ ‫ين﴾(الماعون‪،)3:‬‬ ‫﴿و َ‬ ‫���ك ِ‬ ‫ال َي ُح ُّ‬ ‫ض َع َلى َط َع ِ‬ ‫الس���بيل فقال‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫ال ُت ْك ِر ُم َ ِ‬ ‫ام‬ ‫يم ‪َ ‬و َ‬ ‫﴿كلاَّ َبل َ‬ ‫ال َت َح ُّ‬ ‫وقال‪َ :‬‬ ‫ون َع َلى َط َع ِ‬ ‫اض َ‬ ‫ون ا ْل َيت َ‬ ‫ا ْل ِمس ِ‬ ‫ين﴾(الفجر‪ ،)18-17:‬فأنكر سبحانه عليهم عدم نشر ثقافة‬ ‫���ك ِ‬ ‫ْ‬ ‫العطاء والبذل‪ ،‬بل ورتب على عدم القيام بحقوق المستضعفين‬

‫﴿ما َس َل َك ُك ْم ِفي َس َق َر ‪َ ‬قا ُلوا َل ْم َن ُك‬ ‫الجزاء األليم‪ ،‬فقال ‪َ :‬‬ ‫ين ‪َ ‬و َلم َن ُك ُن ْط ِعم ا ْل ِمس ِ‬ ‫ين﴾(المدثر‪ .)44-42:‬وقد‬ ‫���ك َ‬ ‫ِم َن ا ْل ُم َص ِّل َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬

‫ّبين الرس���ول ‪ ‬مس���ؤولية المجتمع عن كل فرد جائع محتاج‬ ‫ف���ي عبارة قوي���ة‪ ،‬ف���ي إنذارها للف���رد والمجتمع فق���ال‪" :‬ليس‬

‫المؤمن بالذي َي ْش َ���بع‬ ‫وجاره جائع إلى جنبه" (رواه البخاري)‪ ،‬كما‬ ‫ُ‬

‫وضع لهم األس���اس الفكري لقيم���ة العمل االجتماعي والبذل‬ ‫والعطاء من كل ما يملكه اإلنس���ان عندما نادى في الناس ‪:‬‬

‫"من كان له‬ ‫فضل َظهرٍ فليعد به على من ال ظهر له‪ ،‬ومن كان‬ ‫ُ‬

‫ل���ه‬ ‫فضل م���ن زاد فليعد به على من ال زاد له"‪ ،‬قال أبو س���عيد‬ ‫ٌ‬

‫الخ���دري ‪ ‬راوي الحديث‪ :‬فذكر من أصناف المال ما ذكر‪،‬‬ ‫حتى رأينا أنه ال حق ألحد منا في فضل‪.‬‬

‫(رواه مسلم)‬

‫إنه���ا ثقاف���ة االجتماعي���ة وحضارة اإلنس���انية التي يغرس���ها‬

‫الحبيب المصطفى ‪ ‬في أتباعه‪ ،‬وال شك أنها ثقافة وحضارة‬

‫طبع���ت بطابع الدي���ن وصبغت بصبغة اإلس�ل�ام وتلونت بلون‬ ‫الشريعة‪،‬وعلى قدر عمق اإلسالم وشموله‪ ،‬يكون تأثير مبادئه‬

‫ف���ي المس���لمين الذين يعيش���ون في إط���اره‪ ...‬وكل م���ا نحتاج‬

‫إليه‪ ،‬هو العودة إلى تفعيل القيم اإلسالمية بمفهومها الشامل‪،‬‬ ‫وعيا‬ ‫وإدراكا للمقاصد الحقيقية‬ ‫ً‬ ‫لتحرك المجتمع وتجعله أكثر ً‬ ‫للش���ريعة‪ ،‬حي���ث تتواف���ق النظري���ة والتطبي���ق‪ ،‬وتت�ل�اءم العبادة‬

‫والمعاملة‪ ،‬وتتناسب العالقة العمودية واألفقية عند أتباع الملة‬

‫وأنصار األمة المحمدية‪.‬‬

‫(*) أستاذ باحث في العلوم اإلسالمية ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬العمل االجتماعي في اإلس�ل�ام‪ ،‬لمصطفى بنحمزة‪ ،‬سلس���لة دفاتر المركز‪،‬‬ ‫ط‪ ،1:‬ص‪ ،17-15:‬مطبوع���ات اله�ل�ال‪ ،‬مرك���ز الدراس���ات والبح���وث‬ ‫اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬وجدة‪ ،‬المغرب‪.‬‬

‫(‪ )2‬مالمح المجتمع المس���لم الذي ننش���ده‪ ،‬ليوس���ف القرضاوي‪ ،‬مكتبة وهبة‬ ‫القاهرة‪ .‬ط‪1414 ،1:‬هـ‪1993-‬م‪ ،‬ص‪ .137:‬بتصرف‪.‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫عبد الحق معزوز*‬

‫اجتماعية اإلسالم‬

‫لقد بلغ التشريع اإلسالمي الذروة في الكمال‬

‫إن الدي���ن اإلس�ل�امي دي���ن عمل���ي‪ ،‬يرب���ط الفك���رة بالعمل‬

‫ويكف���ي ف���ي وص���ف ذل���ك م���ا ذك���ره ربنا في‬

‫المصلحي���ن‪" .‬إن ميزة اإلس�ل�ام أنه تج���اوز بدعوته إلى تثبيت‬

‫واإلتق���ان‪ ،‬والغاي��� َة ف���ي اإلب���داع واإلح���كام‪،‬‬

‫والنظري���ة بالتطبي���ق‪ ،‬ولي���س مج���رد خي���ال يداع���ب أح�ل�ام‬

‫كتابه في أخريات ما نزل به القرآن الكريم عندما قال‪﴿ :‬ا ْل َي ْو َم‬ ‫���ت َل ُك ِ‬ ‫يت َل ُك ُم‬ ‫���ت َع َل ْي ُك ْم ِن ْع َم ِت���ي َو َر ِض ُ‬ ‫���م َو َأ ْت َم ْم ُ‬ ‫َأ ْك َم ْل ُ‬ ‫���م د َين ُك ْ‬ ‫ْ‬ ‫�ل�ا َم ِد ًينا﴾(المائدة‪ .)3:‬فلم يترك شرعنا صغيرة وال كبيرة إال‬ ‫ا ِ‬ ‫إل ْس َ‬ ‫وبين حكمها وطريقة التعامل معها‪.‬‬ ‫ّ‬

‫وج���ه إل���ى المس���لمين‪ ،‬باعتب���ار‬ ‫ل���وال أن الخط���اب الش���رعي َت َّ‬

‫الرواب���ط بي���ن بني اإلنس���ان في أي مكان كان���وا وفي أي زمان‬

‫مجملها أوحت إلى الفرد المس���لم‪ ،‬بأن مراد اإلس�ل�ام منه أن‬

‫ومما حرص عليه دين اإلس�ل�ام‪ ،‬تقوية األواصر‪ ،‬وتعميق‬

‫مفككا‪ ،‬وال يليق بفرد‬ ‫عاش���وا‪ ...‬فال ينبغي لمجتمع أن يعيش‬ ‫ً‬ ‫ال‪ ،‬إذ األول حريص على رعاية الفرد‪ ،‬والفرد‬ ‫أن يعي���ش منع���ز ً‬

‫حريص على االرتباط بالمجتمع‪ .‬وهذا ما يضمن حياة أفضل‬

‫قادرا عل���ى مواجهة‬ ‫لجمي���ع الخل���ق‪ ،‬ويؤس���س‬ ‫مجتمعا ًّ‬ ‫ً‬ ‫قوي���ا ً‬ ‫راقيا يرحم‬ ‫مجتمعا‬ ‫التحديات واألزمات المختلف���ة‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫حضاريا ً‬ ‫الق���وي في���ه الضعيف‪ ،‬ويرف���ق الكبي���ر فيه بالصغي���ر‪ ،‬ويعطف‬ ‫مجتمعا‬ ‫الغني فيه على الفقير‪ ،‬ويعطي القادر فيه ذا الحاجة‪...‬‬ ‫ً‬

‫ومتحابا ومتعاو ًنا على فعل الخير وخير الفعل‪.‬‬ ‫متقاربا‬ ‫أخالقيا‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫ال���روح الجماعي���ة واالجتماعي���ة‪ ،‬درج��� َة إنتاج األدبي���ات التي‬

‫فرغ رؤيته‬ ‫رك���ز عليها‬ ‫ُت ّ‬ ‫ُ‬ ‫أغل���ب المذاهب االجتماعية‪ ،‬إل���ى أن ّ‬

‫ملزمة م���ا كان لها أن َت ُبرز‬ ‫المجتمعي���ة ف���ي قالب أحكام فقهية ِ‬ ‫جميع���ي وباعتب���ار آخ���ر مجموع���ي‪ ...‬إن ه���ذه األح���كام في‬ ‫يلتحم بالجماعة وال ينأى بنفس���ه عنها‪ ،‬وال يرى نفسه استثناء‬ ‫منها‪ ،‬ويبذل الخير كله لها"(‪.)1‬‬

‫ال بنفسه‬ ‫إن اإلنسان في التصور اإلسالمي‪ ،‬ال يعيش مستق ًّ‬

‫ال ع���ن غي���ره‪ ،‬إنما يتب���ادل مع أف���راد مجتمع���ه اآلخرين‬ ‫منع���ز ً‬

‫التعاي���ش والتع���اون والتس���اند والتكافل في أم���ور الحياة وفي‬ ‫ش���ؤون المجتمع‪ .‬فالفرد في اإلس�ل�ام هو فرد‪ ،‬وهو في نفس‬ ‫الوق���ت عضو في جماعة؛ فه���و يتحرك بين الفردية والجماعية‬

‫قادرا على التس���امي فينتقل‬ ‫دون أن يفق���د ذاتيت���ه‪ ،‬وإنما يصبح ً‬

‫‪23‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫اهلل تعالى بهذا التصريح‪ ،‬وأنه الرزاق ذو القوة المتين‪.‬‬ ‫ال َت ْقر ُبوا ال َفو ِ‬ ‫ش َما َظ َه َر ِم ْن َها َو َما َب َط َن﴾(األنعام‪،)151:‬‬ ‫اح َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫﴿و َ َ‬ ‫وف���ي ه���ذا النع���ي حفظ لإلنس���ان نفس���ه عن كل م���ا يضره من‬

‫وباطنا‪ ،‬كالزنا‪ ،‬وشرب الخمور‪ ،‬وقول الزور‪،‬‬ ‫ظاهرا‬ ‫الموبقات‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫والحق���د والحس���د والع���داوات‪ ...‬ونحو ذلك م���ن الموبقات‬

‫المهلكات لألمم والشعوب‪.‬‬ ‫ال بِا ْل َح ِّق﴾(األنعام‪،)151:‬‬ ‫ال َت ْق ُت ُل���وا النفس ال ِتي ح‬ ‫﴿و َ‬ ‫هلل ِإ َّ‬ ‫���ر َم ا ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ َ َ َ َّ‬ ‫وهذا نهي عن قتل اإلنس���ان ألخيه اإلنس���ان‪ ،‬أو تخطي حدود‬ ‫األدب معه في حال‪ ...‬فكل المس���لم على المسلم حرام؛ دمه‬

‫وماله وعرضه كما صح عن المصطفى المعصوم ‪.‬‬ ‫﴿ َذ ِل ُك���م َو َّص ُ ِ‬ ‫ون﴾(األنع���ام‪ ،)151:‬فالعاقل‬ ‫���م َت ْع ِق ُل َ‬ ‫اكم ِبه َل َع َّل ُك ْ‬ ‫ْ‬ ‫هو الذي يدرك هذه المعاني وآثارها في الحياة‪.‬‬ ‫���ن َح َّتى َي ْب ُل َغ‬ ‫﴿و َ‬ ‫ال َت ْق َر ُب���وا َم َ‬ ‫ي���م ِإ َّ‬ ‫الي ِت ِ‬ ‫ال بِا َّل ِتي ِه َي َأ ْح َس ُ‬ ‫َ‬ ‫���ال َ‬ ‫���د ُه﴾(األنعام‪ ،)152:‬وه���ذا تنظيم للعالقة م���ع اليتيم الذي فقد‬ ‫َأ ُش َّ‬ ‫متماس���كا‪ ،‬كش���جرة واح���دة ﴿ َأ ْص ُل َها‬ ‫عائل���ه‪ ،‬ليكون المجتمع‬ ‫ً‬

‫ِ‬ ‫ي���ن بِ���إ ِْذ ِن‬ ‫���ما ِء ‪ُ ‬ت ْؤ ِت���ي ُأ ُك َل َه���ا ُك َّل ِح ٍ‬ ‫َثاب ٌ‬ ‫الس َ‬ ‫ِ���ت َو َف ْر ُع َه���ا ف���ي َّ‬ ‫ون﴾(البقرة‪.)74:‬‬ ‫﴿و َما ا ُ‬ ‫هلل ب َِغا ِف ٍل َع َّما َت ْع َم ُل َ‬ ‫َر ِّب َها﴾(إبراهيم‪َ ،)25-24:‬‬ ‫ان بِا ْل ِقس ِ‬ ‫ال‬ ‫���ط َ‬ ‫﴿و َأ ْو ُف���وا َ‬ ‫���ف َن ْف ًس���ا ِإ َّ‬ ‫الك ْي َ‬ ‫ال ُن َك ِّل ُ‬ ‫ي���ز َ‬ ‫���ل َوا ْل ِم َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫���ع َها﴾(األنعام‪ ،)152:‬وهذه قاعدة التعامل في األس���واق بالبيع‬ ‫ُو ْس َ‬ ‫والشراء كما جاء في قوله تعالى‪ِ َ :‬‬ ‫ال‬ ‫الو ْز َن بِا ْل ِق ْس ِط َو َ‬ ‫﴿و َأق ُ‬ ‫يموا َ‬ ‫ُت ْخ ِسروا ِ‬ ‫ان﴾(الرحمن‪.)9:‬‬ ‫الم َيز َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ان َذا ُق ْر َبى﴾(األنع���ام‪ ،)152:‬فهذا‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫���وا‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫اع‬ ‫ف‬ ‫���م‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫﴿و‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َ َ ُ ُ ْ َ ْ‬ ‫نظام القول والشهادة في كل األمور لجميع الناس‪.‬‬ ‫﴿وب َِع ْه ِ‬ ‫���د ا ِ‬ ‫هلل َأ ْو ُفوا﴾(األنع���ام‪ ،)152:‬فه���ذه العه���ود عقود بين‬ ‫َ‬ ‫الن���اس يراها العليم الخبير ويش���هد عليها‪ ،‬ولذا وجب الوفاء‪،‬‬ ‫وإال حوس���ب العب���د عل���ى نقض العه���د في دني���اه وأخراه من‬

‫العليم بذات الصدور‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون﴾(األنع���ام‪ ،)152:‬وهذه‬ ‫���م َو َّص ُ‬ ‫���م َت َذ َّك ُر َ‬ ‫اك ْم بِ���ه َل َع َّل ُك ْ‬ ‫﴿ َذل ُك ْ‬ ‫الذك���رى الدائمة تبع���ث فينا الحياة الطيبة‪ ،‬وفي اآلخرة الثواب‬ ‫بالجنات والنعيم المقيم‪.‬‬

‫(*) جامعة األزهر الشريف‪ ،‬كلية اللغة العربية ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬النور الخالد‪ ،‬محمد ‪ ‬مفخرة اإلنس���انية‪ ،‬لألس���تاذ فتح اهلل كولن‪ ،‬ترجمة‪:‬‬ ‫أورخان محمد علي‪ ،‬ص‪ ،21:‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪22‬‬

‫سا ِلك الطريق‬

‫فار‪ ،‬وجبال ووديان‪،‬‬ ‫وِها ٌد وِق ٌ‬ ‫وح َد َك ال ت ِ‬ ‫ـمض‪،‬‬ ‫وبمفردك في هذا الوعر ال تسر‪...‬‬ ‫ستغشاك ضبابات المساء‪،‬‬ ‫وعتمات الليالي‪...‬‬ ‫ْتمس؛‬ ‫ُع ْد‪ ،‬وصدي ًقا وفيًّا ال ْ‬ ‫خبيرا‪...‬‬ ‫بالطريق عارفًا‪ ،‬وبشعابه ً‬ ‫َعت‪،‬‬ ‫وإالَّ في ِشباك الصيّاد وق َ‬ ‫طت‪...‬‬ ‫وتحت جبروت سطوته س َق َ‬ ‫***‬


‫َي ْه َت ِ‬ ‫���ل َف ِإ َّن َم���ا َي ِضلُّ‬ ‫���دي ِل َن ْف ِس��� ِه َو َم���ن َض َّ‬ ‫ال َت ِز ُر َوازِ َر ٌة وِ ْز َر أ ُْخ َرى َو َما ُك َّنا‬ ‫َع َل ْي َها َو َ‬ ‫ال﴾(اإلسراء‪.)15:‬‬ ‫ِين َح َّتى َن ْب َع َث َر ُسو ً‬ ‫ُم َع ِّذب َ‬ ‫وجاءن���ا مس���ك الخت���ام‪ ،‬ورس���ول‬ ‫الس�ل�ام‪ ،‬ون���ور اهلل ف���ي أرض���ه لجمي���ع‬ ‫األن���ام إل���ى ي���وم الدين‪ ،‬س���يدنا وموالنا‬ ‫وش���فيعنا محم���د ب���ن عب���د اهلل م���ن ولد‬ ‫عدن���ان‪ ،‬وذل���ك عل���ى فترة من الرس���ل‪،‬‬

‫وق���د صارت البش���رية ف���ي نهايتها على‬

‫اإلنس���انية الحائ���رة وحياته���ا الخائ���رة‪.‬‬

‫الب�رشي��ة احلائ��رة يف جمي��ع‬ ‫الأزم��ان يف حاج��ة �إىل ربّ��ان‪،‬‬ ‫وقائد يهديها �س��واء ال�س��بيل‪،‬‬ ‫وح��ا ٍد يقوده��ا �إىل ال�س��عادة‬ ‫ال�رسمدي��ة يف حياته��ا الأوىل‬ ‫والآخرة‪.‬‬

‫مش���ارف اآلخ���رة‪ ،‬في حاجة ماس���ة إلى‬

‫فشباب المسلمين قد خدعوا بمدنية‬

‫الغربيي���ن‪ ،‬وظنوا أنه���ا جاءتهم بال عمل‬

‫وال جه���د‪ ،‬أو عرف���وا أنه���م يعمل���ون‪،‬‬ ‫لك���ن الش���باب ال ينظرون إلى الوس���ائل‬ ‫والبداي���ات‪ ،‬والمس���الك الموصل���ة إلى‬

‫الغاي���ات‪ ،‬وإنم���ا ب���روق المدني���ة الزائفة‬

‫وم���ا فيه���ا م���ن زخ���رف يأخ���ذ بالعي���ون‬ ‫واأللب���اب‪ ،‬فيندفع���ون نحوه���ا‪ ،‬فيا ليت‬ ‫قومي يعلمون‪.‬‬

‫رس���ول من اهلل يعدل مس���يرتها في الحياة‪ ،‬ويرس���م لها طرائق‬

‫يا معش���ر الش���باب انظروا إلى تاريخكم المش���رف في بناء‬

‫األش���هاد‪ .‬وق���د كان الن���اس في حاج���ة إلى ه���ذا النبي‪ ،‬حيث‬

‫شبابا حول المصطفى‬ ‫ورحمة الكائنات إلى يوم الدين‪ ،‬ترون ً‬

‫اآلم���ال الت���ي يرتضيه���ا خالقهم لعباده في دنياه���م‪ ،‬ويوم يقوم‬

‫دول���ة اإلس�ل�ام إبان العه���د الذهبي ال���ذي بناه س���يد العالمين‬

‫انحرف���ت به���م مس���الك الحي���اة‪ ،‬فعاش���وا في ظلم���ات كقطع‬ ‫قتل‪ ،‬وس���فك دما ٍء‪،‬‬ ‫ونهب لألموال‪ ،‬وإتيان‬ ‫ٍ‬ ‫الليل المظلم‪ ،‬من ٍ‬

‫طلب���ا لعزة اهلل في هذه الحي���اة‪ ،‬ويوم يقوم‬ ‫وآبائه���م وأمهاته���م ً‬

‫الش���باب‪ ،‬وانحالل تام في الحياة اإلنس���انية‪ ،‬فجاءهم رس���ول‬

‫ممال���ك‪ ،‬والمغارب بم���ا كانت عليه من س�ل�اطين يتعاركون‪،‬‬

‫الفواحش‪ ،‬وحروب مدمرة‪ ،‬وفساد في األخالق عند كثير من‬

‫اهلل ليخرجه���م م���ن الظلمات إل���ى النور‪ ...‬وح ًّقا م���ا قاله أحد‬

‫المحبين المخلصين‪:‬‬

‫لـــما أراد اهلل جــــل جــــــاللـــــه‬

‫ ‬

‫أهداك ربك للورى يا سيدي‬

‫ ‬

‫أن ينقـــذ الدنــيا مـــن العـــثرات‬ ‫فيضا من األنوار والــرحـــمات‬ ‫ً‬

‫ويقول األس���تاذ المربي الش���يخ محمد فتح اهلل كولن ‪-‬نفع‬

‫يحل أعقد‬ ‫اهلل ب���ه العب���اد في كل البالد‪ -‬ما ترجمته‪« :‬وكان ‪ّ ‬‬

‫المش���اكل االجتماعية بكل بساطة وسهولة‪ ،‬وبعده بثالثة عشر‬

‫ال‪ :‬ما‬ ‫قر ًن���ا أش���ار "جورج برنارد ش���و" عل���ى هذه الحقيق���ة قائ ً‬ ‫يحل له مش���اكله‪،‬‬ ‫أح���وج عصرن���ا إلى ش���خص مثل محمد ‪ّ ‬‬

‫ريثما يش���رب فنجا ًنا من القه���وة‪ ،‬وهذا هو المهم‪ ،‬فالفضل ما‬ ‫شهدت به األعداء"(‪.)1‬‬

‫األمي���ن ‪ ‬يفت���دون رس���ولهم ودينه���م بأرواحه���م وأبدانه���م‬ ‫الن���اس ل���رب العالمي���ن‪ ،‬فدان���ت لهم المش���ارق بم���ا فيها من‬

‫وق���د س���اد بينهم التطاحن ف���ي ظلمات الجهل مع الش���ياطين‪،‬‬ ‫حتى سطعت أنوار اهلل عليهم فكانوا مسلمين‪.‬‬

‫في���ا ش���باب األم���ة‪ ،‬أنتم الس���واعد القوية إلقام���ة الحضارة‬

‫اإلس�ل�امية‪ ،‬وبناء صرح األمة المرضي���ة‪ ،‬فكونوا عاملين على‬

‫ه���ذا الس���بيل‪ ...‬وهذا نبيكم الذي رباكم ف���ي بداية األمر على‬ ‫���ذا ِصر ِ‬ ‫اطي‬ ‫﴿وأ ََّن َه َ‬ ‫ه���ذا الخط المس���تقيم كما قال س���بحانه‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫الس ُب َل َف َت َفر َق ب ُِك ْم َعن َسبِي ِل ِه َذ ِل ُك ْم‬ ‫وه َو َ‬ ‫يما َف َّاتب ُِع ُ‬ ‫ال َت َّتب ُِعوا ُّ‬ ‫ُم ْس َتق ً‬ ‫َّ‬ ‫ون﴾(األنعام‪.)153:‬‬ ‫َو َّص ُ‬ ‫اكم ِب ِه َل َع َّل ُك ْم َت َّت ُق َ‬ ‫ولقد رس���م اهلل س���بحانه‪ ،‬هذا الس���بيل في اآليات الس���ابقة‬ ‫���ل َما َحر َم‬ ‫عل���ى هذه اآلي���ة فقال عز من قائ���ل‪ُ ﴿ :‬ق ْل َت َعا َل ْوا َأ ْت ُ‬ ‫َّ‬ ‫ال ُت ْش ِ���ر ُكوا ِب ِه َش ْ���ي ًئا﴾(األنعام‪ ،)151:‬وهذا هو أول‬ ‫َر ُّب ُك ْم َع َل ْي ُك ْم َأ َّ‬ ‫الس���بيل؛ توحي���د اهلل الذي ال إله س���واه‪ ،‬وأن���ه صاحب الخلق‬ ‫واألمر‪.‬‬

‫وف���ي كالم "برن���ارد ش���و" إش���ارة إل���ى ع���ودة الفت���ن الت���ي‬

‫���ن إ ِْح َس���ا ًنا﴾(األنعام‪ ،)151:‬وه���ذه صل���ة الرح���م‬ ‫﴿وبِا ْل َوا ِل َد ْي ِ‬ ‫َ‬

‫وضع���ف الدي���ن في نفوس األحياء‪ ،‬فقد كث���رت عليهم النعم‪،‬‬

‫متناصرة‪ ،‬لها ثمراتها الطيبة‪.‬‬ ‫���ن إ ِْم ٍ‬ ‫���م‬ ‫﴿و َ‬ ‫ال َت ْق ُت ُل���وا َأ ْو َ‬ ‫�ل�اق َّن ْح ُ‬ ‫الد ُك���م ِّم ْ‬ ‫َ‬ ‫���ن َن ْر ُز ُق ُك ْ‬ ‫اه ْم﴾(األنع���ام‪ ،)151:‬فاآلي���ة فيها عناية اآلب���اء باألبناء‪ .‬وكانوا‬ ‫َوإ َِّي ُ‬ ‫في الجاهلية يقتلونهم خو ًفا من الفقر‪ ،‬أو كانوا فقراء فحماهم‬

‫غط���ت العال���م لبعدهم ع���ن منهاج الس���ماء‪ ،‬وم���وت العلماء‪،‬‬ ‫وانفتح���ت الدني���ا وم���ا فيه���ا من ك���رم‪ ،‬وذلك فض���ل اهلل يؤتيه‬

‫م���ن يش���اء‪ ،‬فمن ش���كر فإنما يش���كر لنفس���ه‪ ،‬ومن ض���ل فإنما‬ ‫يض���ل عليه���ا‪ ،‬وه���ذا الضالل ه���و ال���ذي ن���راه اآلن في ركب‬

‫األول���ى‪ ،‬بحيث ل���و َن َم ْت ف���ي روح األمة‪ ،‬لرأي���ت أمة واحدة‬

‫‪21‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬فتحي حجازي*‬

‫عالج الداء‬ ‫من معين سيرة سيد األنبياء‬ ‫البش���رية الحائرة في جميع األزمان في حاجة‬ ‫ربان‪ ،‬وقائد يهديها س���واء الس���بيل‪ ،‬وحا ٍد‬ ‫إلى ّ‬ ‫يقوده���ا إل���ى الس���عادة الس���رمدية ف���ي حياتها‬

‫َص َّبارٍ َش ُكورٍ ﴾(إبراهيم‪.)5-4:‬‬ ‫وم���ر ركب الرس���االت اإللهي���ة على مدى األزم���ان‪ ،‬فكل‬ ‫رس���ول يبعث فيبلغ رس���الة ربه إلى عباده بالحكمة والموعظة‬

‫األولى واآلخرة‪ .‬فكان هذا القائد على الدوام رس���ول اهلل إلى‬

‫الحسنة‪ ،‬ويجادلهم بالتي هي أحسن‪ ،‬فمن آمن واهتدى واتبع‬

‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ال ِب ِلس ِ‬ ‫وصدق اهلل العظيم‪َ َ :‬‬ ‫���ان َق ْو ِم ِه‬ ‫﴿و َما أ ْر َس��� ْل َنا م ْن َر ُس���ول ِإ َّ َ‬

‫بالهدى‪.‬‬

‫عب���اده عل���ى م���دى األزمان حس���بما يقتضي���ه الح���ال والمقام‪،‬‬

‫سبيل اهلل مع رسول اهلل َب ُعد عن الردى‪ ،‬ونال حظه في السعادة‬

‫���اء َو ُه َو ا ْل َع ِز ُيز‬ ‫���م َف ُي ِضلُّ ا ُ‬ ‫ِل ُي َب ِّي َ‬ ‫���اء َو َي ْه ِدي َم ْن َي َش ُ‬ ‫هلل َم ْن َي َش ُ‬ ‫���ن َل ُه ْ‬ ‫ِ‬ ‫���ر ْج َق ْو َم َك ِم َن‬ ‫وس���ى ب َِآيا ِت َنا َأ ْن َأ ْخ ِ‬ ‫ي���م ‪َ ‬و َل َق ْ‬ ‫���د َأ ْر َس��� ْل َنا ُم َ‬ ‫ا ْل َحك ُ‬ ‫هلل إ َِّن ِفي َذ ِل َك لآَ َي ٍ‬ ‫ام ا ِ‬ ‫الظُّ ُلم ِ‬ ‫ات ِل ُك ِّل‬ ‫���ات ِإ َلى ال ُّنورِ َو َذ ِّك ْر ُه ْم ِب َأ َّي ِ‬ ‫َ‬

‫وم���ن زاغ ع���ن طريق م���واله وأعلن العصيان لرس���ول اهلل‪،‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪20‬‬

‫فق���د عرض نفس���ه للردى‪ ،‬وكس���ا حياته بالتعاس���ة والخس���ران‬ ‫���دى َف ِإ َّن َما‬ ‫﴿م ِ‬ ‫���ن ْاه َت َ‬ ‫واالنح���راف ع���ن اله���وى‪ ،‬كما ق���ال ‪َ :‬‬


‫رسل األمانة‬ ‫عن أبي هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪" :‬و ُت َ‬ ‫والر ِح���م فتقوم���ان َج ْنب َتي الصراط ً ِ‬ ‫لكم‬ ‫أو ُ‬ ‫فيمر َّ‬ ‫يمينا وش���ماال‪ُّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ش���يء‬ ‫أي‬ ‫وأمي‪،‬‬ ‫أنت‬ ‫بأب���ي‬ ‫قلت‬ ‫ق���ال‪:‬‬ ‫كالب���رق"‪،‬‬ ‫كمر البرق؟‬ ‫ّ‬ ‫وي ْر ِجع ف���ي طرفة عين؟‬ ‫يمر َ‬ ‫ق���ال‪" :‬أل���م تروا إلى الب���رق كيف ُّ‬ ‫���د الرج���ال ‪ ،‬تجري بهم‬ ‫كم���ر الري���ح ‪ ،‬ثم‬ ‫ث���م‬ ‫كم���ر الطير َ‬ ‫وش ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رب َس��� ِّل ْم َس��� ِّل ْم‪،‬‬ ‫قائم على الصراط يقول ِّ‬ ‫ونبي ُك���م ٌ‬ ‫أعماله���م‪ّ ،‬‬ ‫���ز أعم���ال العباد‪ ،‬حت���ى َيجيء الرجل فال يس���تطيع‬ ‫حت���ى َت ْع ِج َ‬ ‫السير إال زح ًفا" (رواه مسلم)‪.‬‬

‫إذا تأملنا قوله عليه الصالة والس�ل�ام‪" :‬ألم تروا إلى البرق‬

‫يم���ر ويرجع في طرفة عين؟"‪ ،‬نالح���ظ أنه يتطابق مع ما‬ ‫كي���ف ُّ‬

‫مؤخرا‪ .‬فق���د انتهى العلماء ‪-‬كم���ا رأينا‪ -‬إلى أن‬ ‫كش���فه العل���م‬ ‫ً‬ ‫البرق ما هو إال شرارة كهربائية ضخمة تحدث نتيجة تالمس‬

‫الش���حنة الكهربائية الس���البة الموجودة في الغيمة مع الش���حنة‬ ‫الكهربائي���ة الموجب���ة الموج���ودة ف���ي األرض ‪ ،‬وأن هنال���ك‬

‫طورين رئيسيين ال يمكن لومضة البرق أن تحدث من دونهما‬

‫أبد ًا ‪ ،‬وهما طور المرور وطور الرجوع ‪.‬‬

‫وتأم���ل معي هذه المصطلحات العلمية‪ ،‬فكلمة "‪ "Step‬التي‬

‫يستخدمها العلماء للتعبير عن المرحلة األولى تعني "يخطو أو‬ ‫يمر"‪ ،‬أما كلمة "‪ "Return‬التي يستخدمها العلماء للتعبير عن طور‬ ‫الرجوع تعني "يرجع"‪ ،‬بما يتطابق مع التعابير النبوية الشريفة‪.‬‬ ‫وه���ذا يدلُّ عل���ى دقة ال���كالم النب���وي الش���ريف ومطابقته‬

‫للحقائ���ق العلمية بش���كل كامل‪ .‬ولكن ماذا يعني أن يس���تخدم‬ ‫العلماء اليوم التعابير النبوية ذاتها؟‬

‫واحدا‪ ،‬أال وهو أن الرس���ول الكريم حدثنا‬ ‫ش���يئا‬ ‫إنه يعني‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ع���ن حقائ���ق يقينية وكأنن���ا نراها‪ ،‬وذل���ك قب���ل أن يراها علماء‬

‫أيضا على إعجاز غيبي في كالم هذا النبي‬ ‫عصرنا هذا‪ .‬ويدل ً‬

‫األمي عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫فم���ن ال���ذي أخب���ره ب���أن العلم���اء بع���ده بأربعة عش���ر قر ًنا‬

‫الصالة والسالم‪ ،‬بـ"طرفة عين"‪.‬‬

‫والعمل الذي قمت به ببس���اطة أنني بحثت في اكتش���افات‬

‫العلماء وقياس���اتهم الحديثة للزمن الذي تستغرقه موجة البرق‬

‫ليمر ويرجع؟‬ ‫ذهابا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإيابا‪ ،‬أي كم يستغرق البرق ّ‬

‫لقد وجدت بأن الزمن هو أجزاء قليلة من الثانية‪ ،‬ويختلف‬

‫ه���ذا الزمن م���ن مكان آلخر ومن وقت آلخر‪ .‬ومتوس���ط زمن‬ ‫البرق‪ ،‬هو عشرات األجزاء من األلف من الثانية‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬ه���ل هنال���ك عالقة بي���ن الزمن ال�ل�ازم لضربة البرق‪،‬‬

‫وبين الزمن الالزم لطرفة العين؟ وإذا كانت األزمنة متساوية أو‬

‫حدد زمن ضربة البرق‬ ‫متقاربة إذن يكون الحديث الشريف قد َّ‬ ‫قبل علماء أمريكا بأربعة عشر قر ًنا‪.‬‬

‫وكان���ت المفاجأة أنني عندم���ا بحثت عن زمن طرفة العين‬

‫والمدة التي تبقى فيها العين مغلقة خالل هذه الطرفة‪،‬‬ ‫وجدت‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫أيضا عش���رات األج���زاء من األلف م���ن الثانية‬ ‫ب���أن الزم���ن هو ً‬ ‫وسطيا‪ ،‬وهو ذاته الزمن الالزم لضربة البرق‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫ووجدت ب���أن زمن ضربة البرق يختلف من غيمة ألخرى‬ ‫ُ‬

‫حسب بعدها عن األرض‪ ،‬وحسب الظروف الجوية المحيطة‪،‬‬

‫وحس���ب كثافة الغيوم ومدى تش���بعها ببخار الماء‪ ،‬ولكن هذا‬ ‫الزم���ن يبق���ى‬ ‫مقدرا بعدة عش���رات م���ن الميلي ثاني���ة‪ ،‬وكذلك‬ ‫ً‬

‫وجدت أن الزمن الالزم لطرفة العين‪ ،‬يختلف من إنسان آلخر‬ ‫ُ‬ ‫أيضا يبقى‬ ‫حسب الحالة النفسية والفيزيولوجية والسن‪ ،‬ولكنه ً‬ ‫مقدرا بعدة عشرات من الميلي ثانية‪.‬‬ ‫ً‬

‫(*)‬

‫باحث في اإلعجاز العلمي والرقمي في القرآن والسنة ‪ /‬سوريا‪.‬‬

‫المراجع‬

‫‪1. MartinAUman, Lightning, Courier Dover Publications, 1984.‬‬ ‫‪2. Leslie Mullen, Three bolts from the blue, www.nasa.gov,‬‬ ‫‪June 8, 1999.‬‬

‫سيس���تخدمون هذه الكلمات؟ ولو كان الرسول األعظم صلى‬

‫‪3. Hugh Christian, Steven Goodman, Observing Lightning from‬‬

‫لجاءن���ا باألس���اطير والخرافات الس���ائدة والت���ي كان يعتقد بها‬

‫‪4. Steve Goodman, A Lightning Primer, www.nasa.gov‬‬ ‫‪5. Flash Facts About Lightning, National Geographic News,‬‬

‫اهلل علي���ه وس���لم قد تع َّلم ه���ذه العلوم من علم���اء عصره‪ ،‬إذن‬ ‫علماء ذلك الزمان‪.‬‬

‫إشارة إلى زمن البرق‬

‫هنالك إشارة رائعة في الحديث النبوي إلى الزمن الالزم الذي‬ ‫تس���تغرقه ضربة البرق‪ ،‬فقد حدده الرس���ول األعظم عليه وآله‬

‫‪Space, www.nasa.gov, 1998.‬‬

‫‪June 24, 2005.‬‬

‫‪6. Uman MA. All about lightning, New York: Dover, 1986.‬‬ ‫‪7. Time Converter, www.csgnetwork.com.‬‬ ‫‪8. Susan Chollar, In the blink of an eye, Psychology Today,‬‬ ‫‪March, 1988.‬‬

‫‪19‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫من أين تأتي هذه الشحنات؟‬

‫إن الحدي���ث ع���ن الغيوم يعني الحديث عن الماء الذي تحمله‬

‫ه���ذه الغي���وم‪ ،‬ونح���ن نعل���م أن كل جزيئة م���اء تتركب من ذرة‬ ‫أكسجين وذرتين من الهيدروجين‪ .‬إن الشحنات السالبة تنتشر‬ ‫عل���ى ذرة األوكس���جين‪ ،‬أما الش���حنات الموجبة فتنتش���ر على‬

‫ذرت���ي الهيدروجين نتيجة لما يس���مى "الرابط���ة الهيدروجينية"‬

‫مصدرا‬ ‫الموج���ودة ف���ي جزيئات الم���اء‪ ،‬وهذه الرابطة تش���كل‬ ‫ً‬ ‫مهما من مصادر الش���حنات السالبة والموجبة والتي تنتشر في‬ ‫ًّ‬ ‫أجزاء الغيمة والهواء‪ ،‬واهلل تعالى أعلم‪.‬‬

‫ولك���ي نأخ���ذ فكرة أوس���ع عن الب���رق الذي يح���دث على‬

‫األرض‪ ،‬نتأم���ل بع���ض اإلحصائي���ات الحديث���ة ع���ن ومضات‬

‫البرق على سطح الكرة األرضية‪.‬‬

‫دائما‪.‬‬ ‫التي تسبب البرق ً‬

‫عندما يكون هنالك زيادة في عدد اإللكترونات في أسفل‬

‫الغيم���ة‪ ،‬يتولد ع���ن ذلك حق���ل كهربائي س���الب‪ ،‬ويقابل هذه‬ ‫الزي���ادة ف���ي أعل���ى الغيمة نق���ص لإللكترونات ولذل���ك يتولد‬ ‫الحقل الكهربائي الموجب‪.‬‬

‫وعندما تتجمع كميات مناس���بة من اإللكترونات في أسفل‬

‫الغيمة‪ ،‬تنتقل هذه الش���حنات الس���البة بواس���طة الهواء الرطب‬ ‫الموج���ود بي���ن الغيم���ة وس���طح األرض‪ ،‬وتقترب من س���طح‬

‫األرض ذي الش���حنة الموجب���ة‪ ،‬عند ذلك تتش���كل قن���اة دقيقة‬

‫ج���دا ف���ي قاع���دة الغيم���ة‪ .‬وينطلق بعد ذل���ك عبر ه���ذه القناة‪،‬‬ ‫ًّ‬

‫ما يس���ميه العلماء "الش���عاع القائد" (‪ )Leader‬م���ن الغيمة باتجاه‬ ‫يمر ويخطو بخطوات متتالية هو‬ ‫األرض‪ ،‬وهذا الش���عاع الذي ّ‬ ‫أول مرحلة من مراحل البرق‪.‬‬

‫حقائق وأرقام‬

‫ف���ي كل ثاني���ة هنالك مئة ومضة برق ف���ي العالم‪ .‬وفي كل يوم‬

‫هنال���ك ‪ 8.6‬ملي���ون ومضة برق‪ .‬وفي س���نة واحدة يحدث في‬ ‫الوالي���ات المتحدة األمريكية أكثر من ‪ 20‬مليون ومضة برق‪.‬‬

‫وعندما يصل هذا القائد إلى األرض وبفعل الحقل السالب‬

‫ال���ذي يحي���ط به‪ ،‬يج���ذب إليه الش���حنات الموجب���ة الموجودة‬

‫بالقرب من س���طح األرض‪ ،‬وتتحرك هذه الش���حنات الموجبة‬ ‫باتجاه الش���عاع القائد وتصطدم به على ارتفاع عشرات األمتار‬

‫كهربائيا يتراوح من ‪ 100‬مليون إلى‬ ‫توترا‬ ‫ًّ‬ ‫كل ومضة برق تولد ً‬

‫عن سطح األرض‪ ،‬وتتشكل قناة اتصال بين الغيمة واألرض‪.‬‬

‫‪ 10‬آالف أمبير إلى ‪ 200‬ألف أمبير‪ .‬إذا نظرنا للكرة األرضية‬

‫كهربائ���ي ق���وي ينير على ش���كل ومضة باتج���اه األعلى يدعى‬

‫اللحظة ذاتها‪ .‬إن البرق ال ينحصر في العواصف الرعدية‪ ،‬بل‬

‫ال‪ ،‬ألن معظم الضوء يتولد عنها‪.‬‬ ‫نراه فع ً‬

‫البراكي���ن‪ ،‬وفي العواص���ف الثلجية الضخم���ة‪ .‬يمكن أن تمتد‬

‫وس���طيا بحدود ‪40‬‬ ‫‪ 160‬ألف كيلو متر في الثانية‪ ،‬وتس���تغرق‬ ‫ًّ‬

‫كيف يحدث البرق‬

‫‪ 20‬ألف أمبير‪ .‬وبعد ذلك تمر فترة توقف مدتها من ‪ 3‬وحتى‬

‫كهربائيا من‬ ‫تي���ارا‬ ‫‪ 1000‬ملي���ون فول���ت‪ .‬كل ومضة برق تنتج ً‬ ‫ًّ‬

‫ال للكهرباء‪ ،‬ويتولد تيار‬ ‫عندها تنهار عازلية الهواء ويصبح ناق ً‬

‫في أية لحظة‪ ،‬فإننا نرى فيها ‪ 2000‬عاصفة رعدية تحدث في‬

‫"ط���ور الرجوع" (‪ ،)Return Stroke‬وهذه الضربة الراجعة هي ما‬

‫تمت مش���اهدة بعض أنواع البرق ف���ي األعاصير الكبيرة‪ ،‬وفي‬

‫وتصل س���رعة ش���عاع البرق في هذه الضرب���ة الراجعة إلى‬

‫أفقيا‪.‬‬ ‫شرارة البرق إلى أكثر من عشرة كيلو مترات ًّ‬

‫مايك���رو ثاني���ة‪ ،‬و ُتنتج التي���ار الراجع والذي يق���در من ‪ 10‬إلى‬

‫نعلم من قوانين الكهرباء أنه عندما تلتقي الشحنات المتعاكسة‬

‫‪ 100‬ميلي ثانية‪ ،‬ثم تتكرر العملية من جديد باس���تخدام القناة‬

‫ينت���ج عنه���ا ومض���ة أو ش���رارة كهربائي���ة‪ ،‬وهذا م���ا يحدث في‬

‫ذاتها والتي تم تأسيسها من قبل‪ ،‬وهكذا عدة ضربات‪.‬‬

‫الب���رق‪ .‬فالغي���وم تتكون نتيجة تجمع جزيئ���ات البخار المرتفع حديث يفيض بالمعجزات‬ ‫محملة بش���حنات كهربائية‬ ‫م���ن األرض‪ ،‬هذه الجزيئات تكون َّ‬

‫نأتي بعد هذه الحقائق العلمية لنرى الحقائق النبوية الش���ريفة‪،‬‬

‫غالبا ما تكون الش���حنات الس���البة‪ ،‬في أسفل الغيمة من‬ ‫مقرر‪ً ،‬‬

‫نحمل‬ ‫اهلل وسالمه‪ ،‬الذي علّم العلماء‪ ،‬ونقارن‬ ‫َّ‬ ‫ونتدبر دون أن ّ‬

‫تق���وم بدورها في توزيع الش���حنات‪ ،‬وتكون الش���حنة الموجبة‬

‫هذا الحديث الش���ريف يطابق ويوافق مئة بالمئة ما توصل إليه‬

‫موجبة وسالبة نتيجة تفاعلها واحتكاكها واصطدامها‪ .‬وكما هو‬ ‫الجهة القريبة من األرض؛ وسبب ذلك هو تأثير الجاذبية التي‬

‫في أعلى الغيمة‪ ،‬وهذا يحدث في ما يسمى بـ"الغيوم الرعدية"‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪18‬‬

‫األمي عليه صلوات‬ ‫ونأتي لنعيش رحلة ممتعة مع كالم النبي‬ ‫ّ‬ ‫الحديث ما ال يحتمل من التأويل أو التفسير‪ ،‬ونتساءل‪ :‬أليس‬

‫العلماء اليوم؟‬


‫وقد أمكن رؤية برق كهذا بواس���طة أجهزة التصوير المثبتة‬

‫عل���ى األقم���ار االصطناعية‪ ،‬م���ع العلم أن جميع أن���واع البرق‬ ‫تحدث نتيجة التقاء شحنات متعاكسة‪.‬‬

‫وهنال���ك أن���واع أخرى كثي���رة نذكر منها م���ا يحدث داخل‬

‫الغيم���ة ذاته���ا؛ وإن كل غيم���ة تحم���ل ش���حنة موجب���ة في أحد‬ ‫طرفيها‪ ،‬وتحمل شحنة سالبة في طرفها المقابل‪ ،‬وهكذا وفي‬ ‫ظ���روف العواصف الرعدي���ة يحدث التالم���س ويتحقق البرق‬ ‫الذي يضيء األرض ولكنه ال يصل إليها‪.‬‬

‫كذل���ك هنال���ك برق يحدث في أش���هر الصي���ف وآخر في‬

‫الش���تاء‪ ،‬وهنالك برق على ش���كل كرة‪ ،‬وب���رق صفائحي وغير‬ ‫ذل���ك كثير‪ .‬كما أن العلم���اء رصدوا بر ًقا على بعض الكواكب‬

‫‪-‬مثل المشتري‪ -‬أشد بمئة مرة من تلك الضربات على األرض‪.‬‬

‫والي���وم ومن���ذ ع���دة س���نوات يعم���ل العلم���اء على دراس���ة‬

‫جدا‪ ،‬وقد‬ ‫ومراقبة البرق من الفضاء باستخدام تقنيات متطورة ًّ‬

‫توصل���وا لحقائق كثيرة عن هذه الظاهرة‪ ،‬ولذلك يمكن القول‬ ‫إن الحدي���ث ع���ن آلية الب���رق في هذا البحث ه���و حديث عن‬

‫تفس���يرا‬ ‫حقائق قطعية الثبوت‪ ،‬ألنه ال يجوز لنا أن نبني‬ ‫علميا‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫آلية كريمة أو حديث نبوي ش���ريف إال على الحقائق اليقينية‪.‬‬

‫الغيوم الرعدية‬

‫وبم���ا أن الوس���ط ال���ذي تتجم���ع فيه الغي���وم يمتل���ئ بالحقول‬

‫الكهربائية فإن احتمال تالمس الش���حنات المتعاكسة والتقائها‬ ‫جدا‪ .‬ولذلك ف���إن البرق الذي يحدث بي���ن الغيوم يمثل‬ ‫كبي���ر ًّ‬ ‫تقدر بمئ���ة ومضة في كل‬ ‫ثالث���ة أرباع ومضات الب���رق‪ ،‬والتي ّ‬

‫ثانية وذلك في مختلف أنحاء العالم‪ .‬ويعرف هذا النوع بـ"برق‬ ‫غيمة‪-‬غيمة"‪.‬‬

‫أم���ا النوع الثالث فهو ما يحدث بين الغيمة والهواء‪ ،‬حيث‬

‫محملة بش���حنة كهربائية‪ ،‬واله���واء المحيط بها‬ ‫تك���ون الغيم���ة ّ‬ ‫من أحد جوانبها يحمل ش���حنة معاكس���ة‪ .‬وعندما تكون كمية‬

‫الشحنات الكهربائية في الغيمة وفي الهواء كافية‪ ،‬ينطلق شعاع‬

‫البرق ويحدث هذا النوع الذي يعرف بـ"برق غيمة‪-‬هواء"‪.‬‬

‫إن الب���رق ال يح���دث ف���ي أية غي���وم‪ ،‬بل هنالك غي���وم محددة‬

‫يس���ميها العلم���اء بـ"الغي���وم الرعدي���ة"‪ ،‬وه���ي البيئ���ة المناس���بة‬ ‫ِّ‬ ‫لح���دوث البرق‪ ،‬وقد تك���ون هنالك غيمة واحدة أو عدة غيوم‬

‫وهو األغلب‪.‬‬

‫وهذه الغيوم تكون عادة ممتلئة بالحقول الكهربائية بسبب‬

‫الري���اح الت���ي تس���وق جزيئات بخ���ار الم���اء وتدفع���ه لألعلى‪،‬‬ ‫وتس���بب احتكاك هذه الجزيئات بعضها ببعض‪ ،‬مما يولد هذه‬

‫الحقول الكهربائية‪ .‬في الوقت نفس���ه‪ ،‬تتجمع ش���حنات سالبة‬ ‫وأخرى موجبة في الغيمة‪،‬‬ ‫وغالبا ما ترتفع الشحنات الموجبة‬ ‫ً‬ ‫لألعلى وتبقى الس���البة في أس���فل الغيمة من الجهة القريبة من‬

‫األرض‪.‬‬

‫هنال���ك ن���وع آخر وه���و البرق بي���ن الغيمة وطبق���ات الجو‬

‫أيض���ا‪ ،‬أن هنال���ك فر ًقا ف���ي الجهد‬ ‫لق���د د ّل���ت الدراس���ات ً‬

‫كهربائيا‬ ‫ال‬ ‫الركامية وبين طبقة األيونوس���فير والتي تحوي حق ً‬ ‫ًّ‬ ‫بشكل دائم‪.‬‬

‫ألف فولت‪ ،‬وهذا الفرق ينتج بسبب التوزع العالمي للعواصف‬

‫العلي���ا‪ ،‬ويح���دث ه���ذا الب���رق بين الطبق���ات العليا ف���ي الغيوم‬

‫الكهربائ���ي بين س���طح األرض وطبقة األيونوس���فير يبلغ ‪500‬‬ ‫الرعدية‪ ،‬والتي تعتبر ضرورية للحفاظ على هذا الفرق‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫جدا‪ .‬فدرجة الحرارة في مركز شعاع البرق تصل إلى ‪ 30‬ألف‬ ‫ًّ‬ ‫درجة مئوية‪ ،‬أي خمسة أضعاف حرارة سطح الشمس‪.‬‬

‫إن التوت���ر الكهربائ���ي الذي تول���ده ومضة الب���رق الواحدة‬

‫يص���ل إلى ماليي���ن الفولتات‪ ،‬وبالتالي ُتعتبر دراس���ة البرق من‬

‫أصع���ب أنواع الدراس���ة التجريبية وأكثره���ا‬ ‫تعقيدا‪ ،‬وذلك ألن‬ ‫ً‬ ‫زم���ن المراح���ل التي تش���كل ومضة البرق من مرتب���ة المايكرو‬ ‫ثاني���ة‪ ،‬أي من مرتبة الجزء من المليون من الثانية‪ ،‬وهذا الزمن‬

‫جدا وصعب اإلدراك‪.‬‬ ‫ضئيل ًّ‬

‫محي ًِرا للعلماء على مدى قرون‬ ‫ظل���ت ظاهرة البرق حد ًث���ا ّ‬

‫فكل‬ ‫طويلة‪ ،‬و ُنسجت األساطير الكثيرة حول البرق وتأثيراته؛ ّ‬ ‫حض���ارة كان���ت تنظر إلى هذه الظاهرة على أنها حدث مقدس‬ ‫يرتب���ط باآللهة‪ ،‬وكل حضارة كانت تحاول إعطاء تفس���ير لهذا‬

‫الحدث المرعب‪.‬‬

‫مث�ل�ا‪ -‬كان التفس���ير المقبول‬‫فف���ي األس���اطير اإلغريقي���ة‬ ‫ً‬

‫سالحا لإلله‬ ‫وقتها لدى علماء القرن السابع‪ ،‬هو أن البرق كان‬ ‫ً‬

‫"زي���وس" (‪ )Zeus‬ال���ذي اس���تخدمه لتخوي���ف أعدائ���ه واالنتقام‬ ‫منهم‪ .‬وحتى عهد قريب كان الناس يعتقدون في أوربا بوجود‬

‫هذا اإلله الذي يسمونه "صانع البرق"‪.‬‬

‫ومنذ منتصف القرن الس���ابع عش���ر المي�ل�ادي وحتى يومنا‬

‫هذا‪ ،‬قام العلماء بآاللف التجارب في سبيل فهم ظاهرة البرق‪.‬‬

‫فف���ي عام ‪ 1746‬ب���دأ العالم "بنيامين فرانكلي���ن" تجاربه حول‬

‫وهكذا استطاع العلماء أخير ًا بفضل التصوير فائق السرعة‬

‫الطبيعة الكهربائية للبرق‪ ،‬وأن البرق ما هو إال شرارة كهربائية‬

‫قد تتألف من عدة ضربات‪ ،‬وكل ضربة تتألف من عدة مراحل‬

‫قام الفيزيائي الس���ويدي "رتش���مان" بتجربة ح���ول البرق أثبت‬

‫ه���ذه المراحل‪ ،‬ولم يتحقق هذا إال في نهاية القرن العش���رين‪،‬‬

‫منظمة أثبت من خاللها‬ ‫الكهرباء‪ ،‬ثم اقترح أول تجربة علمية ّ‬

‫والمعالجة الرقمية للبيانات‪ ،‬أن يثبتوا أن ومضة البرق الواحدة‬

‫ناتجة عن التقاء شحنتين كهربائيتين متعاكستين‪ .‬في عام ‪1753‬‬

‫أو أطوار‪ .‬وقد تم قياس األزمنة لكل مرحلة بدقة كبيرة‪ ،‬ورؤية‬

‫فيها أن الغيوم الرعدية تحوي ش���حنات كهربائية‪ .‬واس���تمرت‬

‫التج���ارب‪ ،‬ولك���ن المعرفة بالبرق بقي���ت متواضعة حتى نهاية‬

‫وبداية القرن الحادي والعشرين‪.‬‬

‫الق���رن التاس���ع عش���ر وبداي���ة الق���رن العش���رين عندم���ا أصب���ح أنواع البرق‬ ‫التصوي���ر الفوتوغراف���ي‬ ‫ممكنا‪ .‬لقد ب���دأ التصوير الفوتوغرافي‬ ‫ً‬

‫للب���رق ع���ام ‪ 1935‬في الوالي���ات المتح���دة األمريكية‪ ،‬ولكن‬ ‫أجه���زة التصوي���ر كان���ت بطيئ���ة‪ ،‬وبقي���ت العملي���ات الدقيق���ة‬ ‫الت���ي تراف���ق ظاهرة الب���رق مجهولة حتى الس���تينات من القرن‬ ‫العش���رين‪ .‬حيث أمكن اس���تخدام التصوير الس���ريع والمراكب‬

‫الفضائية والرادارات والحاس���وب لمعالجة ودراس���ة البيانات‬ ‫التي قدمتها مختبرات مراقبة البرق‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪16‬‬

‫يحدث البرق على عدة أنواع حس���ب مكان وجود الش���حنتين‬

‫الموجب���ة والس���البة‪ .‬وأكثر األنواع‬ ‫ش���يوعا وأهمي���ة‪ ،‬هو البرق‬ ‫ً‬ ‫النات���ج من التقاء ش���حنتين متعاكس���تين بي���ن الغيمة واألرض‪.‬‬ ‫فغالبا ما تكون الغيمة ذات شحنة سالبة عند الجهة القريبة من‬ ‫ً‬

‫األرض‪ ،‬أما س���طح األرض فيكون ذا ش���حنة موجبة‪ ،‬ويسمي‬ ‫العلماء هذا النوع "برق غيمة‪-‬أرض"‪.‬‬

‫أم���ا النوع الثان���ي فهو ما يحدث بين غيم���ة وغيمة أخرى‪،‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬عبد الدائم الكحيل*‬

‫مرور البرق‬

‫بين العلم واإليمان‬

‫البرق‬ ‫لقد بينت التجارب الجديدة أن أية ومضة ْبرق‪ ،‬ظاهرة ْ‬ ‫ليست مس���تمرة كما نراها‪ ،‬بل تتألف من عدة‬

‫ظل مرتبطً ا بالخرافات واألساطير‬ ‫إن الحديث عن ظاهرة البرق َّ‬

‫يم���ر ويخطو م���ن الغيمة باتجاه األرض‪ ،‬وط���ور الرجوع وهو‬ ‫ّ‬

‫عليه وس���لم ‪-‬أي في القرن الس���ابع الميالدي‪ -‬لم يكن ألحد‬

‫يم���ر ثم يرجع خ�ل�ال زمن غير مدرك بالعي���ن المجردة‪ ،‬وهذا‬ ‫ّ‬

‫فق���د أثبتت التجارب أن هنالك عمليات فيزيائية وكيميائية‬

‫يقول النبي الكريم عليه الصالة والسالم متحد ًثا عن ظاهرة‬

‫قب���ل جميع العلماء‪ .‬ويمكن رؤي���ة هذه العمليات اليوم بفضل‬

‫أطوار‪ ،‬أهمها طور المرور وهو الش���عاع الذي‬

‫الش���رارة التي ترجع باتجاه الغيمة‪ .‬وهذا يعني أن شعاع البرق‬

‫وس���طيا بعش���رات األجزاء من األل���ف من الثانية‪.‬‬ ‫يقدر‬ ‫الزم���ن ّ‬ ‫ًّ‬

‫آلالف السنين‪ ،‬وفي الزمن الذي عاش فيه رسول اهلل صلى اهلل‬

‫أي علم عن العمليات التي تحدث داخل البرق‪.‬‬

‫محل اتفاق من‬ ‫دقيقة تحدث داخل ش���عاع البرق‪ ،‬وهي اليوم‬ ‫ّ‬

‫يمر ويرجع في طرفة عين"‬ ‫الب���رق‪" :‬ألم تروا إلى البرق كي���ف ُّ‬

‫الكامي���رات الرقمي���ة المتط���ورة‪ ،‬كما يمكن اعتب���ار وجود هذه‬

‫خصوص���ا إذا علمنا أن العلماء يس���تخدمون الكلمة ذاتها التي‬ ‫ً‬

‫جدا للبرق‬ ‫التقن���ي الكبير لهذه األجهزة تبقى المراحل الدقيقة ًّ‬

‫(رواه مسلم)‪ ،‬ففي هذه الكلمات معجزة علمية شديدة الوضوح‪،‬‬

‫استخدمها النبي الكريم عليه الصالة والسالم‪ ،‬وذلك من خالل‬

‫تعبيره���م عن طوري الم���رور والرج���وع‪ ،‬وأن هذين الطورين‬

‫يس���تغرقان مدة من الزمن تس���اوي الزمن الالزم لطرفة العين‪.‬‬

‫شك فيها‪ .‬وعلى الرغم من التطور‬ ‫العمليات كحقائق يقينية ال ّ‬ ‫محيرا للعلماء‪.‬‬ ‫لغزا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫فف���ي ظل الظروف الس���ائدة داخل ش���عاع البرق‪ ،‬ال يمكن‬

‫ألي جهاز أن يتحمل الحرارة الهائلة والتوتر الكهربائي العالي‬

‫‪15‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫فإن تحطيم هذه األس���طورة س���يؤدي إلى مزيد‬ ‫التي تحيط بها‪َّ .‬‬

‫من أنسنة هذا العالم‪ ،‬وهي مهمة تنتمي بطبيعتها إلى الثقافة"‪.‬‬ ‫يوما أن أعود إلى مجال "التنظير والتفعيل‬ ‫وأقول‪ :‬لو ِّ‬ ‫قدر لي ً‬

‫ال على ما تم ويتم من فعل إيجابي‬ ‫الترب���وي"‪ ،‬لحم���دت اهلل أو ً‬ ‫ِ‬ ‫أؤسس مدرسة أو‬ ‫هنا وهنالك‪ ،‬ولكن كذلك‪ ،‬سأعمل على أن ّ‬ ‫مدارس تتجاوز "البرنامج" و"المقرر" و"الشهادة"‪...‬‬ ‫أن‬ ‫ً‬ ‫مدركا ّ‬ ‫َّ‬ ‫ثمة قناعة من المحيط العام ترفض هذا المنحى‪ ،‬ولكن سأحاول‪،‬‬ ‫وس���أجمع فيه���ا بي���ن "التعلُّم والتأم���ل والتفكر"‪ ،‬وس���أخاطب‬

‫القلب إلى جوار العقل‪ ،‬وس���أجعل الحري���ة هي مدار الرحى‪.‬‬ ‫يمر إال‬ ‫وم���ا من ش���ك ّ‬ ‫أن الوص���ول إلى هذا المطل���ب‪ ،‬ال ُّ‬

‫عب���ر التغيير التدريجي‪ ،‬والمرحلي���ة الواعية‪ ،‬ولذا أعيد‬ ‫وأكرر‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫أي‬ ‫نفيا لم���ا مضى‪ ،‬ولكنه التذكير َّ‬ ‫ب���أن الوقوف في ّ‬ ‫لي���س هذا ً‬ ‫محط���ة واالنتهاء إليها‪ ،‬هو بداية الس���قوط‪ ،‬وه���ي نقطة العودة‬ ‫قدر لي‬ ‫واالنتكاس‪ .‬وما من ش���ك أنني س���أفتح مدرس���ة ‪-‬ل���و ِّ‬

‫وعم�ل�ا‪ ،‬وعلى‬ ‫علما‬ ‫ذل���ك‪-‬‬ ‫ً‬ ‫تخ���رج الن���اس عل���ى كت���اب اهلل ً‬ ‫ِّ‬ ‫ومنهجا‪ ،‬ثم على أساس الفهم‬ ‫موضوعا‬ ‫منهج الس���نة الطاهرة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ال‪.‬‬ ‫الء‬ ‫الصحيح لألعالم األد َّ‬ ‫اعتبارا وتم ُّث ً‬ ‫ً‬

‫الب���د أن تكون مدارس���نا ذات ن َفس إيمان���ي رباني‪ ،‬وذات‬

‫ألد أعدائها الكره وضيق األفق والتصنيفات‬ ‫ُبعد إنساني كوني‪ُّ ،‬‬

‫أكيد أنه‬ ‫سيح ّقِق هذه المطالب‪ ،‬ولسوف يرتقي هذا األفق‪ ،‬بل ٌ‬

‫يفرط في‬ ‫س���يفعل‪ ،‬واهلل تعالى معه‪ ...‬وهو ‪-‬فيما نحس���ب‪ -‬ال ِّ‬ ‫ش���يء‪ ،‬ويصل اللي���ل بالنهار لبلوغ المقص���د‪ ،‬وتحقيق المراد‪.‬‬ ‫هنالك فقط‪ ،‬ال حاجة للتفكير في الجديد‪ ،‬ولكن الواجب‬

‫يملي التركيز على التجديد‪.‬‬

‫والتجدي���د والتغيير‪ ...‬مفهوم���ان ديناميكيان‪ ...‬ال يتوقفان؛‬

‫وإن كانا يرتكزان على محور ثابت‪ ،‬وعلى مرجعية صلبة‪.‬‬

‫ولقد ‪-‬واهلل‪ -‬ضربت "مدارسنا" أروع مثال‪ ،‬من يوم نشأتها‪،‬‬

‫عل���ى يد رج���ال خ َّلص مهاجري���ن؛ رغم ق َّل���ة ذات اليد‪ ،‬وبعد‬

‫أخص هؤالء‬ ‫الش��� َّقة‪ ،‬ووهن الوعاء‪ ،‬وهشاشة النسيج‪ ...‬ولذا‬ ‫ُّ‬

‫"الوزع القوي" وأقول‪" :‬نعم‪ ...‬ولكن"‪.‬‬ ‫بالتحية مع ش���يء من‬ ‫َ‬ ‫نع���م لما تح ّق���ق‪ ...‬ولكن‪ ،‬ما بقي هو أكث���ر وأكبر‪ ...‬حتى‬

‫نبسط الخير على العالم أجمع!‬

‫ثم إني أش���ير باإلصبع إلى مش���روع "الخدم���ة"‪ ،‬في جبهته‬

‫التربوي���ة العالمي���ة‪ ،‬بعب���ارة واضح���ة‪ ،‬وبخاص���ة بع���د زيارات���ي‬ ‫العديدة عبر العالم‪ ،‬كان آخرها "أستراليا" وأقول‪:‬‬ ‫إن جميع والئنا ِ‬ ‫خد ًاما في‬ ‫لك‪ ،‬ولقد تع َّلمنا ٍّ‬ ‫بحق أن نكون َّ‬

‫صفوف "الخدمة"‪ ،‬فهي منار ٌة لنا وللعالم أجمع‪ ...‬ولذا نؤمن‬

‫الضيقة‪ ،‬فال هي بالمدارس اإلسالمية في روحية باهتة‪ ،‬وال هي‬

‫ب���أن ما أنجزت���ه وما أبدعته ه���و "من صلب ذاتن���ا الحضارية"‪،‬‬

‫أن "اإلس�ل�ام يعني أن نفهم وأن نعت���رف باالزدواجية المبدئية‬ ‫ّ‬

‫الم���دارس العلمي���ة‪ ،‬والح���رة‪ ،‬والصديق���ة‪ ...‬وغيره���ا‪" :‬ه���ذه‬ ‫َّ‬ ‫مؤسس���ات "الخدمة"‪ ،‬وعن‬ ‫مدارس���نا"‪ ...‬نق���ول بصراحة‪ ،‬عن َّ‬ ‫فكر "الخدمة"‪:‬‬

‫مدارس على نمط مادي أرضي‪ ،‬لكنها مدارس إسالمية‪ ،‬بمعنى‬ ‫للعال���م (ال���روح والمادة)‪ ،‬ث���م نتغلب على ه���ذه االزدواجية"‪.‬‬

‫"أن اإلس�ل�ام ل���م يأخ���ذ اس���مه م���ن قوانين���ه وال‬ ‫وبحقيق���ة َّ‬

‫نظام���ه وال محرماته وال من جهود النفس والبدن التي يطالب‬ ‫َّ‬ ‫اإلنس���ان بها‪ ،‬وإنما من ش���يء يشمل هذا كله ويسمو عليه من‬

‫قوة النفس‬ ‫لحظة فارقة تنقدح فيها ش���رار ُة وعي باطني‪ ...‬من ّ‬ ‫في مواجهة محن الزمان‪ ...‬من التهيؤ الحتمال كل ما يأتي به‬

‫الوجود‪ ...‬من حقيقة التسليم هلل‪ ...‬واالسم إسالم"‪.‬‬

‫ولعل المدارس األولى سيكون أسماؤها‪ ،‬حسب منطلقات‬

‫مناهجها‪ ،‬ال مجرد ش���كل وعمارة‪ ،‬بل روح وعمارة‪ ،‬مس���تقاة‬ ‫َّ‬ ‫م���ن ه���ذه األس���ماء الخالدة‪ :‬مدرس���ة علي ع���زت بيجوفيتش‪،‬‬ ‫مدرس���ة مال���ك بن نبي‪ ،‬مدرس���ة فت���ح اهلل كولن‪ ،‬مدرس���ة عبد‬

‫الوهاب المسيري‪ ...‬ثم‪...‬‬

‫مؤسس���اتنا‪ ،‬وه���ذه َّأمتن���ا‪ ...‬فالحمد هلل‬ ‫ه���ذا فكرن���ا‪ ،‬وهذه َّ‬

‫أعيننا بمثل ه���ذه الصروح‬ ‫أن أران���ا‬ ‫الي���وم الذي اكتحلت في���ه ُ‬ ‫َ‬ ‫هلل َو ِن ْعم ًة َوا ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال ِم َن ا ِ‬ ‫يم﴾(الحجرات‪،)8:‬‬ ‫الحضارية‪َ ﴿ ،‬ف ْض ً‬ ‫َ‬ ‫يم َحك ٌ‬ ‫هلل َعل ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ َف ْض ً ِ‬ ‫يم﴾(الدخان‪.)57:‬‬ ‫ال م ْن َر ِّب َك َذل َك ُه َو ا ْل َف ْو ُز ا ْل َعظ ُ‬ ‫سالمي إلى اإلخوة القائمين على مؤسسات التعليم‪ ...‬في‬ ‫جميع أصقاع العالم‪...‬‬

‫عمال العالم ا ِّتح���دوا‪ ،"...‬فلقد‬ ‫وال أق���ول له���م‬ ‫َ‬ ‫اليوم‪" :‬ي���ا َّ‬

‫مضى أوانها واهترأ بنيانها‪ ،‬ولكن أقول‪:‬‬ ‫أرشدوا‪...‬‬ ‫"يا مع ِّلمي العالم ُ‬ ‫يا مع ِّلمي العالم ارشدوا‪."...‬‬

‫استدراك‬

‫مهال‪ ،‬لعل الموجود بحول اهلل تعالى ‪-‬وهو في الطريق الصحيح‪-‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫وبالتال���ي‪ ،‬كما نقول عن المدارس الرس���مية ف���ي وطننا‪ ،‬وعن‬

‫‪14‬‬

‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬


‫عدوه‬ ‫• إذا كان يس���تعير الص���اع من ِّ‬

‫من اإلنس���انية أن يجبر على التخلي عن‬

‫ليكيل دقيقه‪.‬‬

‫• إذا كان ِ‬ ‫يفص���م اإلنس���ان عن ذاته‪،‬‬

‫ويعرضه في‬ ‫مش���وهة‪،‬‬ ‫ث���م ُيلبس���ه ذوا ًت���ا‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬

‫س���وق النخاس���ة أو على مسرح عرائس‬

‫القراقوز‪.‬‬

‫• إذا كان مج���رد ب���وق لنظري���ات‬ ‫َّ‬ ‫وأطروح���ات جاءت���ه م���ن الغ���رب ومن‬

‫الش���رق‪ ،‬بال روية وال مش���اركة حس���ب‬ ‫المفه���وم الخلدون���ي‪" :‬ول���ع المغلوب‬

‫بالغالب"‪.‬‬

‫معتقدات���ه أو التبرؤ منه���ا‪ ...‬ولذا "فهناك‬

‫كان حم ِّققو حماك��م التفتي�ش‬ ‫يف املا�ض��ي‪ ،‬يزعم��ون‬ ‫�أنه��م يُحرق��ون اجل�س��د‬ ‫لك��ي ينق��ذوا ال��روح‪ّ � ،‬أما‬ ‫املح ِّققون املعا�رصون‪ ،‬ف�إنهم‬ ‫يفعلون العك���س؛ يحرقون‬ ‫الروح ويبقون اجل�سد‪.‬‬

‫• إذا كان ي���زرع إلى جوار المعلومة‬

‫حزم��� ًة م���ن الي���أس والقن���وط‪ ،‬ويقن���ع‬ ‫ظلم���ا أنه حقير ودنيء وس���يء‬ ‫التلمي���ذ ً‬

‫عقوبات إنس���انية‪ ،‬وعفو هو أكثر ش���يء‬

‫الإنسانية"‪.‬‬

‫والقاع���دة الكلية التي نس���تنبطها من‬

‫ه���ذا الس���ياق ونس���قطها عل���ى س���ياقات‬ ‫أخ���رى‪ ،‬منه���ا س���ياق التربي���ة والتعليم‪،‬‬ ‫والمدرسة والجامعة‪ ،‬والمسجد والمنبر‪،‬‬

‫والمتجر والسوق‪ ...‬تأتي من المالحظة‬ ‫اآلتية‪" :‬كان مح ِّققو محاكم التفتيش في‬

‫الماضي‪ ،‬يزعمون أنهم ُيحرقون الجسد‬ ‫لك���ي ينق���ذوا ال���روح‪ّ ،‬أم���ا المح ِّقق���ون‬

‫المعاص���رون‪ ،‬فإنه���م يفعل���ون العكس؛‬

‫يحرق���ون ال���روح ويبق���ون الجس���د"‪.‬‬

‫الح���ظ‪ ،‬وأنه ال يصلح لش���يء وال حت���ى ُليرمى في الزبالة مثل‬

‫والتعليم اليوم‪ ،‬هل هو من النمط األول‪ ،‬أم هو من النمط‬

‫من���ا كم ه���و تعليمنا "إنس���اني"‪ ،‬وك���م هو غير‬ ‫فلينظ���ر كلٌّ ّ‬

‫الجس���د ألنه هو الحامل لل���روح‪ ،‬ويخاطب التلميذ من جميع‬

‫القش‪...‬‬ ‫ّ‬

‫إنساني؟ وكم نحن جادون أو غير جادين في "أنسنة التعليم"‪،‬‬ ‫آد َم﴾(اإلسراء‪.)70:‬‬ ‫﴿و َل َق ْد َك َّر ْم َنا َب ِني َ‬ ‫بروح َ‬

‫ال عن الجسد‬ ‫إحراق الروح بدي ً‬

‫م���ن منطل���ق الفهم الواع���ي‪ ،‬ومن ناف���ذة المنظوم���ة التوحيدية‬ ‫يحط من كرامة اإلنس���ان‬ ‫أن كل ش���يء ّ‬ ‫الرش���يدة‪ ،‬يتق���رر لدينا َّ‬

‫يش���يئه (يحيله إلى ش���يء) بتعبير مالك بن‬ ‫ومن ش���خصيته‪ ،‬أي ِّ‬

‫(يحوله إلى وس���يلة) بتعبير المسيري‪ ،‬كلُّ ما‬ ‫نبي‪ ،‬أو يحوس���له‬ ‫ِّ‬ ‫سببا في ذلك‪ ،‬هو "الإنساني" بامتياز‪.‬‬ ‫كان ً‬

‫ال عن أفعاله‬ ‫ال‪ ،‬من اإلنس���انية أن نعتبر اإلنس���ان مس���ؤو ً‬ ‫مث ً‬

‫ونحاس���به عليها‪ ،‬وليس من اإلنس���انية أن نف���رض عليه إرادتنا‬

‫الثان���ي‪ ،‬أم أن���ه يحيي الروح ألنها هي حقيقة اإلنس���ان‪ ،‬ويربي‬ ‫حد تعبير المجدد محمد فتح اهلل كولن‪ :‬من قلبه‪ ،‬ومن‬ ‫منافذه على ّ‬

‫عقله‪ ،‬ومن جوارحه‪ ،‬ومن إلهاماته‪ ،‬ووجدانه‪ ،‬وذوقه‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫وإذا م���ا علمن���ا أن���ه ف���ي "هولي���وود توج���د أكبر نس���بة من‬

‫األطباء النفس���انيين في العالم"‪ ،‬وأنه "في صفوف الجامعات"‬ ‫ِ‬ ‫تيقنا أن الجس���د‬ ‫ف���ي أمريكا يوجد أكبر نس���بة من‬ ‫المنتحرين‪ّ ،‬‬

‫شيئا إذا ما ُفصال عن الروح‪،‬‬ ‫الجبار‪ ،‬لن ُيغنيا ً‬ ‫الرشيق والعقل َّ‬

‫أعدا "للذة والمتعة" اآلنية المتناهية‪.‬‬ ‫وإذا ما َّ‬ ‫نعد تالميذنا ليكونوا مثل هؤالء؟‬ ‫فهل ُّ‬

‫لنكن صادقين مع اهلل سبحانه‪.‬‬ ‫لنصدق أنفسنا‪ ،‬وقبل ذلك ُ‬ ‫ُ‬

‫لماذا هذه الوقفة؟‬

‫ونعتبر أنفس���نا وكالء عليه‪ ...‬والحق أن الرس���ول عليه الصالة‬ ‫﴿و َما َأ ْن َت‬ ‫والسالم نفسه‪ُ ،‬ن ِف َي عنه أن يكون وكي ً‬ ‫ال على أحد‪َ :‬‬ ‫يل﴾(يونس‪،)108:‬‬ ‫َع َل ْيهِ ْم ب َِو ِك ٍ‬ ‫﴿و َم���ا َأ َنا َع َل ْي ُك ْم ب َِو ِك ٍ‬ ‫يل﴾(الزمر‪َ ،)41:‬‬ ‫يل﴾(األنعام‪.)66:‬‬ ‫﴿ ُق ْل َل ْس ُت َع َل ْي ُك ْم ب َِو ِك ٍ‬ ‫أي إنس���ان عل���ى أن يتذلل حتى‬ ‫ولي���س‬ ‫إنس���انيا أن نجب���ر ّ‬ ‫ًّ‬

‫نقدنا للحضارة‪ ،‬أو لما ُيعرف‬ ‫لكن َ‬ ‫وفي الغرب على الس���واء‪َّ ،‬‬

‫الذل ذاته حرام في عرف الشرع الحكيم‪.‬‬ ‫والمثوبة‪ ،‬ألن ّ‬

‫فالحض���ارة ال يمك���ن رفضه���ا حت���ى ل���و رغبنا في ذل���ك‪ .‬إنما‬

‫ُيصفح عنه‪ ،‬باسم القانون‪ ،‬أو المصلحة العامة‪ ،‬أو حتى األجر‬ ‫ثم إنه من اإلنسانية أن يعا َقب إنسان بسبب أخطائه‪ ،‬وليس‬

‫الغلو‬ ‫تعميم الحكم‪ ،‬فنسبة‬ ‫ال شك أن هذا النقد ال ُيقصد منه‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ف���ي الم���ادة واالنفصال عن الروح‪ ،‬تتفاوت من بلد لبلد‪ ،‬ومن‬ ‫مدرس���ة لمدرسة‪ ،‬بل من قسم لقس���م‪ ،‬ومن مع ّلِم لمع ّلِم‪ ،‬وال‬

‫تنكَ ���ر المب���ادرات الكثي���رة التي تبذل هنا وهنالك‪ ،‬في الش���رق‬

‫بالتق���دم المادي كم���ا يقول بيجوفيتش‪" :‬لي���س دعو ًة لرفضها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫نحطم األس���طورة‬ ‫الش���يء الوحيد‬ ‫الضروري والممكن هو أن ِّ‬ ‫ُّ‬

‫‪13‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫روحيا"‪.‬‬ ‫ثقافيا أو‬ ‫لم يستنر‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫اجتماعي���ا"‪ ،‬وفق قاموس‬ ‫أي أن���ه ُع ّل���م أن يك���ون "حيوا ًن���ا‬ ‫ًّ‬

‫ه���ذا الميراث يعتم���د على "الش���يء" و"الم���ادة" و"التقنية"‬

‫و"المعلوم���ة"‪ ،‬أي ه���و حري���ص على "صناعة" اإلنس���ان الذي‬

‫متحضرا‪ ،‬ال إنس���ا ًنا‬ ‫متط���و ًرا‬ ‫ق���ر ًدا‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫"داروي���ن" ُع ّل���م أن يك���ون ْ‬

‫سينتج ويصنع ويقول "نعم" إذا اقتضى األمر؛ وهو يدير ظهره‬

‫يفرق بين "الحقيقة‬ ‫وفي هذا المعنى ُيبدع "المسيري" حين ِّ‬

‫ول���ذا‪ ،‬فإن التعلي���م بهذا المدلول وبه���ذه الخلفية الكونية‪،‬‬

‫غالبا‬ ‫الغب���ي والعق���ل التوليدي الذكي"‪ ،‬ذل���ك َّ‬ ‫أن التعليم ينحو ً‬

‫علي���ه‪ ،‬أو أكث���ر حرية‪ ،‬أو أكثر إنس���انية‪" ...‬إن هذا العلم يجعل‬

‫ال‪.‬‬ ‫مسؤو ً‬

‫ال "بين العقل الفوتوغرافي‬ ‫حدا فاص ً‬ ‫والحقائ���ق"‪ ،‬وحين يضع ًّ‬ ‫إل���ى س���رد الحقائ���ق مش���تتة‪ ،‬وع���رض الجزئي���ات‪ ،‬وتحفي���ظ‬

‫ال الحقيقة والكليات واألسباب؛ أي إنه يتعامل‬ ‫التفاصيل‪ ،‬مغف ً‬ ‫مع "آلة تصوير"‪ ،‬و"مس���جلة"‪ ،‬و"أم بي‪ُ ...)MP3( "3‬ينتظر منها‬

‫عق���ل له القدرة عل���ى أن يبدع‬ ‫خ���زن فيه���ا‪ ،‬ال مع‬ ‫ٍ‬ ‫أن تعي���د م���ا ِّ‬ ‫ويو ِّلد ويأتي بالجديد‪.‬‬

‫ويضيف فتح اهلل كولن‪" :‬في حقيقة األمر‪ ،‬فش ُلك في النظر‬

‫حتما إلى‬ ‫إل���ى المس���ائل م���ن خالل نظرة كلية‪ ،‬س���وف ي���ؤدي ً‬

‫اإلفراط أو التفريط‪."...‬‬

‫َّ‬ ‫أي تعليم نمارس؟‬

‫"هلل" و"لإلنسان" و"للكون" و"للقيم" و"للفن" و"لألخالق"‪...‬‬

‫ال يمكن���ه أن يرتق���ي بالن���اس‪ ،‬وال أن يجعله���م أفضل مما هم‬ ‫نفعا للمجتمع‪ ،‬ولقد برهن‬ ‫الناس أكثر قدرة‪ ،‬أكثر كفاءة‪ ،‬أكثر ً‬

‫التاريخ على أن الرجال المتعلمين والش���عوب المتعلمة يمكن‬

‫خداما للش���ر‪ ،‬ربما‬ ‫أيضا‬ ‫التالع���ب بهم‪ ،‬بل يمك���ن أن يكونوا ً‬ ‫ً‬ ‫أكثر كفاءة من الشعوب المتخلفة"‪.‬‬

‫حكم على األصل‪ ،‬فما هو الق���ول في الظل والفرع‪،‬‬ ‫ه���ذا‬ ‫ٌ‬

‫ال���ذي يعي���ق الكف���اءة باس���م العصر‪ ،‬ثم يقتل اإلنس���ان باس���م‬

‫التط���ور؛ ف�ل�ا ه���و ‪-‬مث���ل س���يده‪ -‬يحقق الق���درة عل���ى اإلنتاج‬

‫ويعبِر‬ ‫والصناعة‪ ،‬وال هو مثل أجداده يحقق الذات الحضارية ّ‬ ‫عن الحرية والوجود الواعي‪.‬‬

‫المنظوم���ة المادي���ة ذات نظ���ام مغلَق ال يمكنه���ا أن تنفتح على الإنساني!‬ ‫عوال���م النهائي���ة‪ ،‬ألنه���ا باختص���ار ال تؤم���ن إال بالمحس���وس‬

‫م���ن مصطلح���ات العص���ر النمطي���ة‪ ،‬التي تالك مث���ل العلك أو‬

‫جسما على شكل رأس كبير‪ ،‬ال مكان للقلب‬ ‫س���مت لكانت‬ ‫ً‬ ‫ُر َ‬

‫إنس���انيا‪ ،‬وم���ن ثم كانت‬ ‫"إنس���اني"‪ ،‬فهذا إنس���اني‪ ،‬وهذا ليس‬ ‫ًّ‬

‫والمحس���وب‪ ،‬وبالمادي والمس���تدل عليه‪ ،‬أي إنها منظومة لو‬ ‫فيه وال لألحاسيس وال للقيم‪.‬‬

‫حت���ى مث���ل مطاط ق���ذِ ر على األلس���ن غي���ر الذواق���ة‪ ،‬مصطلح‬ ‫"إنس���انيا"‬ ‫تكبل الحرية‪ ،‬وكان الفجور‬ ‫ًّ‬ ‫العفة "الإنس���انية" ألنها ِّ‬

‫الشرق المولوع بالتقليد‪،‬‬ ‫وظلُّ المنظومة الغربية‪ ،‬مما يصل‬ ‫َ‬

‫يعب���ر عن الحري���ة‪ ...‬والحق أن هذه المرجعية اإلنس���انية‬ ‫ألن���ه ِّ‬

‫شبيها بالعقل‪ .‬وما من شك أن ظل الشيطان هو شيطان‬ ‫وشيئا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫"الإنسانيا" كما هو الحال اليوم في‬ ‫مس���تبد متسلط‬ ‫وق ْتل ظالم‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬

‫الرأس‪،‬‬ ‫مش���وهة ألصل أعوج؛ فهنا نش���اهد ما يشبه‬ ‫هو صور ٌة‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫مشوه؛ فال هو إنسان مكتمل اإلنسانية‪ ،‬وال هو شيطان مكتمل‬ ‫َّ‬

‫دائما هو أهون‬ ‫ال‬ ‫الش���يطانية‪،‬‬ ‫والمق���رر ‪-‬عق ً‬ ‫وواقع���ا‪َّ -‬‬ ‫ً‬ ‫أن الظل ً‬ ‫َّ‬ ‫وأس���وء م���ن أصله‪ .‬يق���ول األدي���ب العالمي "فيكت���ور هيجو"‪:‬‬ ‫أسدا آخر‪ ،‬هو في حقيقة األمر قرد"‪.‬‬ ‫"األسد الذي يق ِّلد ً‬ ‫ِ‬ ‫المس���تعمر‪،‬‬ ‫ومن ثم جاء التعليم؛ الذي ورثناه من منظومة‬

‫كم���ا ورثن���ا المل ّف���ات الكبي���رة الطويل���ة العريض���ة‪ ،‬التي نكتب‬ ‫معي���ن‪ ،‬ولغة ميتة‬ ‫معين‪،‬‬ ‫عليه���ا تقاري���ر الدرس‪ٍّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وش���كل َّ‬ ‫بخط َّ‬ ‫اليوم يعلن احتضاره وإفالسه‪.‬‬ ‫معينة مسب ًقا‪ ...‬رغم أن األصل‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ولقد ش���اهدنا م���ا حدث في أمريكا منذ أي���ام‪ ،‬من مقتل ثمانية‬ ‫ش���خصا‪ ،‬منه���م تالميذ‪ ،‬على يد ش���اب قت���ل والديه‬ ‫وعش���رين‬ ‫ً‬

‫ال‪ ،‬ثم قضى على الباقين‪.‬‬ ‫أو ً‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪12‬‬

‫"إنسانيا"‪،‬‬ ‫يجب أن ُتضبط بمعيار‪ ،‬وإال اعتبر إبادة شعب كامل‬ ‫ًّ‬

‫"قاموس اإلعالم الببغائي"‪.‬‬

‫وم���ن الص���واب القول‪" :‬إن تدريب البش���ر على أن يكونوا‬

‫مج���رد منتجين‪ ،‬وتنظيمهم في صف���وف المواطنين الصالحين‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫أيضا الإنساني"‪ .‬ومن التحقيق اعتبار التعليم‬ ‫ف‬ ‫(المص‬ ‫هو‬ ‫قين)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫"الإنسانيا"‪:‬‬ ‫ًّ‬

‫قائما على تلقين تعاليم حزبية‪.‬‬ ‫• إذا كان ً‬ ‫يفكر بطريقة مستقلة‪.‬‬ ‫• إذا لم يكن يع ِّلم الفرد كيف ِّ‬

‫يق���دم إجاب���ات جاه���زة‪ ،‬ويقت���ل روح الس���ؤال‬ ‫• إذا كان ِّ‬

‫والشك وحيرة الذات‪.‬‬ ‫���د الن���اس فق���ط للوظائ���ف المختلفة بدال من‬ ‫• إذا كان ِيع ُّ‬

‫توسيع أفقهم‪.‬‬


‫جن���ب مع الش���كل والمبنى‪ ،‬ف�ل�ا يضيع‬ ‫ه���دف وال رس���الة وال‬ ‫م���ن بي���ن أيدين���ا‬ ‫ٌ‬

‫غاي���ة حت���ى وإن لقين���ا حتفن���ا‪ ،‬وتجرعنا‬

‫األمري���ن‪ ،‬وذقن���ا المحنتي���ن‪" ...‬فذلك���م‬ ‫َّ‬ ‫الرباط‪ ،‬فذلكم الرب���اط‪ ،‬فذلكم الرباط"‬

‫(رواه مسلم)‪.‬‬

‫ف���ي ه���ذا الش���أن‪ ،‬وله���ذا الغ���رض‪،‬‬

‫أطللت اليوم مرة أخرى‬ ‫وبهذا الن َف���س‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫على ملف التعليم‪ ،‬وعلى التربة الخصبة‬ ‫راجي���ا م���ن الق���ارئ‬ ‫لبن���اء الحض���ارة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الص���دوق وم���ن العام���ل المش���وق‪ ،‬أن‬ ‫ويجبن‪ ،‬أو‬ ‫يتفاعل ويفع���ل ال أن ينفعل‬ ‫ُ‬

‫الب��د �أن تك��ون مدار�س��نا ذات‬ ‫ن َف���س �إمي��اين رب��اين‪ ،‬وذات بُعد‬ ‫�إن�ساين كوين‪� ،‬أل ُّد �أعدائها الكره‬ ‫و�ض��يق الأف��ق والت�ص��نيفات‬ ‫ال�ض��يقة‪ ..‬الب��د �أن تك��ون‬ ‫مدار�سنا مدار�س �إ�سالمية‪ ،‬مبعنى‬ ‫�أن "الإ�س�لام يعني �أن نفهم و�أن‬ ‫نع�ترف باالزدواجي��ة املبدئي��ة‬ ‫للعامل (الروح واملادة)‪ ،‬ثم نتغلب‬ ‫على هذه االزدواجية"‪.‬‬

‫ِ‬ ‫خر ًيتا‪ ،‬وهو‬ ‫وأبدأ مقالتي بهذه المالحظة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مستصحبا مع ّل ًما ِّ‬

‫حس���اب المعاني الكب���رى والكليات‪...‬‬

‫إلخ‪.‬‬

‫أن ذل���ك لي���س س���مة‬ ‫م���ع مالحظ���ة َّ‬

‫"للعصر" باعتباره "ه���ذا العصر"‪ ،‬ولكنه‬

‫مكتس���ب ونتيج���ة وصناع���ة لظ���روف‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الواقع الترب���وي‪ ،‬واإلعالم‬ ‫على رأس���ها‬ ‫ُ‬ ‫الجماهي���ري‪ ،‬واهت���زاز منظوم���ة الثقافة‪،‬‬ ‫وضع���ف التدي���ن وس���وء فهم���ه وتمثله؛‬ ‫نعبِر عن���ه بمصطلح‬ ‫وه���و م���ا يمك���ن أن ّ‬

‫"األف���كار المطبوع���ة"‪ ،‬باعتم���اد قاموس‬ ‫ابن خلدون ومالك بن نبي‪.‬‬

‫واآلن‪ ،‬إذا ل���م تس���هم المدرس���ة‬

‫يبرر‪ .‬فأنا أُحس���ن الظن فيه‪،‬‬ ‫ُي ِ‬ ‫ع���رض ثم ِّ‬

‫وأثق في جنابه‪ ،‬وأرجو النجاة من بابه‪.‬‬

‫المفرط بالجزئيات على‬ ‫القرار‪ ،‬االعتناء‬ ‫ِ‬

‫بصفة مباش���رة ومعلنة في "ترش���يد" هذا‬

‫"المهدد بالتش���تت والتش���رذم‬ ‫"المتصابي"‪ ،‬وفي "إنضاج" هذا‬ ‫َّ‬

‫وتشربت من معينهم سالفة‬ ‫ال‪،‬‬ ‫أحد الذين‬ ‫جلس���ت إليهم طوي ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫أساسا؟ ما‬ ‫الجواني"‪ ،‬فما دورها إذن؟ ولماذا أنشئت‬ ‫واالنهيار‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫تباعا؟‬ ‫الفائدة المرجوة من الدروس والمحفوظات التي تل ِّقنها ً‬

‫الء إلى جوار‪ :‬مالك‬ ‫الواس���عة‪ -‬فهو من مصادر المنظومة األد َّ‬

‫ماذا نفعل‪ ،‬هذا هو البرنامج‪ ،‬نحن مطالبون بإتمامه‪ ،‬وهذا هو‬

‫واعتقدت إمامتهم مع َمن سواهم بحق وبصدق‪ .‬وأعني‬ ‫الحق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المة "علي عزت بيجوفيتش" ‪-‬رحمه اهلل تعالى برحمته‬ ‫ب���ه الع َّ‬

‫من ضغط البرنامج إلى ضغط الروح‬

‫الوهاب المس���يري‪ ...‬وغيرهم‬ ‫بن نبي‪ ،‬وفتح اهلل كولن‪ ،‬وعبد َّ‬

‫المنتظر منا؟‬

‫الصبيانية وروح العصر‬

‫ي���ورد "بيجوفيت���ش" مالحظة ينس���بها إل���ى "يوه���ان هويزنجا"‬

‫منها القلوب‪ ،‬وتب َّلدت على إثرها األحاسيس‪ ،‬وتغابت جراءها‬ ‫َّ‬ ‫العق���ول واألفئ���دة؛ وهي لطالما ُش���هرت مثل "س���يف خش���بي‬ ‫كأن‬ ‫متآكل" أم���ام كل محاولة لإلصالح‪ ،‬وكل مبادرة للتغيير‪َّ ،‬‬

‫للكلم���ة‪ -‬أي بطريق���ة تتف���ق مع المس���توى العقل���ي للمراهقة‪:‬‬

‫يعبد"‪.‬‬ ‫الناهي‪ ،‬وتحولت إلى بعبع مخيف أو حتى إلى إله َ‬

‫من األئمة الهداة المهديين‪.‬‬

‫ِ‬ ‫وصدئت‬ ‫مجتها اآلذان‪،‬‬ ‫هذه عبارة‪ ،‬أو مكُّ وك من العبارات َّ‬

‫"أن‬ ‫(‪ )Juhan Huizinga‬يس���ميها بـ"الصبياني���ة" (‪ ،)Puerility‬وه���ي َّ‬ ‫اإلنس���ان المعاصر يتصرف بطريقة طفولية ‪-‬بالمعنى الس���لبي‬

‫والمادة‪ ...‬ومرادفاتها صارت هي اآلمر‬ ‫"الضغ���ط‪ ،‬والبرنامج‪،‬‬ ‫َّ‬

‫غي���اب روح الفكاهة األصيل���ة‪ ،‬الحاج ُة إلى‬ ‫تس���ليات مبتذَ لة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬

‫سجل األستاذ "علي عزت" هذه المالحظة الجديرة‬ ‫ولذا‪َّ ،‬‬

‫الميل إل���ى الش���عارات الر َّنانة‬ ‫أح���داث مثيرة ومش���اعر قوي���ة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التعبي���ر عن الح���ب والكراهية‬ ‫واالس���تعراضات الجماهيري���ة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اللوم والمدح المبالغ فيه‪ ،‬وغير ذلك من‬ ‫بأس���لوب مبالَغ فيه‪،‬‬ ‫ُ‬

‫العواطف الجماهيرية القاسية"‪.‬‬

‫وقال‪:‬‬

‫ش���ابا قد مر‬ ‫نتخيل‬ ‫"ف���ي هذه األي���ام‪ ،‬من الممكن ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫جدا أن َّ‬ ‫َّ‬ ‫بجمي���ع مراح���ل التعليم‪ ،‬من المدرس���ة االبتدائية حتى الكلية‪،‬‬

‫خي ًرا‬ ‫دون أن يك���ون ق���د ُذك���ر ل���ه بالض���رورة أن يكون إنس���ا ًنا ّ‬

‫وبإمكانن���ا أن نضيف إل���ى هذه المظاه���ر قائمة أخرى من‬

‫ال أن يكتب ويحسب‪ ،‬ثم يدرس الطبيعة‬ ‫وأمينا‪ .‬فهو يتع َّلم أو ً‬ ‫ً‬

‫والتقل���ب بين المواضيع بأس���لوب "تقليب القن���وات"‪" ،‬ذهنية‬

‫ال‬ ‫وعلم االجتماع‪...‬‬ ‫عددا هائ ً‬ ‫وعلوما أخرى كثيرة‪ .‬إنه يجمع ً‬ ‫ً‬ ‫يفكر‪ ،‬ولكنه‬ ‫من الحقائق‪ ،‬وعلى أحسن الفروض يتع َّلم كيف ِّ‬

‫العجز عن التركيز المتواصل‪ ،‬تش���تت الذهن‬ ‫الس���لبيات منها‪:‬‬ ‫ُ‬

‫الفايس���بوك" بتعبير أح���د باحثينا‪ ،‬التردد المبال���غ فيه في اتخاذ‬

‫والكيمياء‪ ،‬وعلم األعراق‪ ،‬والجغرافيا‪ ،‬والنظريات السياس���ية‪،‬‬

‫‪11‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫الطبائع البرشية تتهذب يف مدرسة "الدين" وترتوض وتعلو وتسمو‪ ،‬ويتعرف املنتمون‬ ‫إليها عىل حقيقتهم اإلنسانية وجوهرهم اإللهي‪ .‬وهي مدرسة يصطف فيها الكبار والصغار‬ ‫والشباب والشيوخ والرجال والنساء‪ ...‬فيها يتعلمون طأمنينة النفس‪ ،‬ويفعمون باألمن‬ ‫وأنفسهم ض ّيعوا‪.‬‬ ‫والسالم‪ .‬أما الذين فاتهم االنتساب إىل هذه املدرسة‪ ،‬ففي الخرسان وقعوا‬ ‫َ‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫أحيا ًن���ا يعوزن���ا التعري���ض فنل���وذ بالتوضي���ح‪،‬‬

‫وأحيا ًن���ا ال ُيج���دي التلمي���ح فنضط���ر إل���ى‬ ‫التصريح‪ ،‬وفي جمي���ع األحوال‪ ،‬المقصد هو‬

‫أن نلتق���ي في نقط���ة المعنى ونرتقي إلى عل���و الفهم واإلدراك‬

‫ث���م الوع���ي‪ ...‬وبخاصة ل���و تأملن���ا بجدية حالن���ا ووضعنا وما‬ ‫نح���ن في���ه وم���ا نحن صائ���رون إلي���ه‪ ،‬ال بعين الناق���م وال بعين‬ ‫���رض العمل‬ ‫البلي���د‪ ،‬ب���ل بنظر المس���ؤول الحديد‪ ،‬وبمنطق َ‬ ‫"ع ْ‬

‫على التفتي���ش"‪ .‬والمفتش األول خبير بصير‪ ،‬عليم حكيم‪ ،‬ثم‬ ‫يليه مفتش حليم حكيم هو صاحب الفضل علينا عليه الصالة‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪10‬‬

‫والس�ل�ام‪ ،‬ثم ُيعرض عملُن���ا على كل قلب وعقل يغرس فتيله‬ ‫في محبرة اإليمان ويستنير من نور اليقين‪.‬‬

‫هلل‬ ‫﴿و ُق ِل ْاع َم ُلوا َف َس َ���ي َرى ا ُ‬ ‫ألي���س هو القائل جل من قائل‪َ :‬‬ ‫ون﴾(التوبة‪.)105:‬‬ ‫َع َم َل ُك ْم َو َر ُسو ُل ُه َوا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ‬ ‫م���ن المه���م واألكي���د أن نجتهد ف���ي فتح الم���دارس‪ ،‬ومن‬

‫االجتهاد والصبر أن نداوم على سيرها وتحسينها‪ ،‬ومن الجهاد‬

‫رويدا‬ ‫والهجرة أن نسمو بها‬ ‫رويدا نحو ذروة الكمال البشري‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ولذا كان المع ِّلم والمدرس هما رمز البطولة وعنوان األمل‪.‬‬

‫جنبا إلى‬ ‫لك���ن األهم من ذلك أن نديم المقص���د والمعنى ً‬


‫الحرص على ذكر اسم اهلل في كل شيء‪.‬‬

‫أيضا مطل���وب لتحضير المحيط‬ ‫صياغ���ة ه���ذا النموذج‪ ،‬ذل���ك ً‬

‫صو ٌر من قيام األمور باسم غير اهلل وذلك‬ ‫وفي زماننا ً‬ ‫أيضا َ‬

‫قد َر الطاقة‪ ،‬أس���اس االنطالق؛‬ ‫الع���ام‪ .‬فالد ْفع في هذا االتجاه ْ‬

‫التبرؤ من‬ ‫ميزان اهلل‪ ،‬ألن "باس���م اهلل" تعني االس���تئذان‪ ،‬وتعني ّ‬

‫���ل كلُّ واحد منكم نفس���ه‬ ‫جع ْ‬ ‫حاج���ات األم���ة إل���ى العل���م‪ .‬ف ْل َي َ‬ ‫مدرس��� ًة‪ ،‬ليجعل من نفس���ه مدرسة لنفس���ه ولغيره؛ إن المسلم‬

‫مفس���د للعبادة‪ ،‬إذ ال عبادة إال إذا كانت بـ"اس���م اهلل"‪ ،‬أي على‬

‫وقبل‬ ‫���ول َّ‬ ‫َ‬ ‫الح ْ‬ ‫والط ْول‪ ،‬وتعني أن "ال ح���ول وال قوة إال باهلل"‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫فعلت‬ ‫الذي‬ ‫الفعل‬ ‫ذل���ك‬ ‫في‬ ‫هلل‬ ‫ن‬ ‫ذ‬ ‫مس���تأ‬ ‫أنت‬ ‫ذل���ك‬ ‫وحس���ب‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الفع���ل تكون قيم ُة "باس���م اهلل"‪ .‬ومن هنا ص���ار الذبح الذي لم‬ ‫ال َت ْأ ُك ُلوا ِمما َلم ُي ْذ َك ِر اس���م ا ِ‬ ‫ذكر عليه اس���م اهلل‬ ‫هلل‬ ‫﴿و َ‬ ‫ُي َ‬ ‫حراما‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫ْ ُ‬ ‫َّ ْ‬ ‫���ق﴾(األنعام‪ .)121‬القراءة بـ"اس���م اهلل" هي المنطلق‬ ‫َع َل ْي ِه َو ِإ َّن ُه َل ِف ْس ٌ‬ ‫ف���ي صياغ���ة النم���وذج المطل���وب الذي ب���ه تتم الش���هادة على‬ ‫الناس‪ ،‬ومنه تتكون األمة الش���اهدة عل���ى الناس بعدما أصابها‬

‫م���ا أصابها‪ .‬هذا هو المنطلق في إعادة إنتاج مثل هذا النموذج‬

‫أيضا ف���ي إنتاج بيئ���ة عامة كذلك‪،‬‬ ‫م���ن جدي���د‪ ،‬وه���و المنطلق ً‬ ‫موجه‬ ‫داخل دائرتها يعيش ويتنفس هذا النموذج‪ ،‬إذن هو أمر َّ‬

‫إلى األمة جملة‪.‬‬

‫المؤسسات التعليمية والقراءة باسم اهلل‬

‫ويمك���ن تحقيق ه���ذا األمل‪ :‬أمل صياغة النم���وذج المطلوب‪،‬‬ ‫بالدف���ع في اتجاه تعليم العلم الش���رعي بكل الوس���ائل الفردية‬

‫والجماعي���ة ف���ي جمي���ع األمكن���ة‪ ،‬بجمي���ع الطاق���ات‪ ،‬بجميع‬

‫وأس���اس كبير ف���ي اتجاه تلبية‬ ‫االنط�ل�اق الف���ردي والجماعي‪،‬‬ ‫ٌ‬

‫بح ْك���م إس�ل�امه‪ ،‬في موقع اإلرس���ال ال في موقع االس���تقبال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ولكنه لن يس���تطيع اإلرس���ال إال إذا امتأل وفاض‪ ،‬إال إذا امتأل‬

‫علما ثم صار كالنبع الفياض يخرج منه العلم واإليمان‪ ...‬فهذا‬ ‫ً‬ ‫ما أقصده بأن يجعل من نفس���ه مدرس���ة لنفسه ولغيره‪ ،‬ليجعل‬

‫من بيته مدرس���ة‪ ،‬ليجعل ممن معه مدرسة لإلقراء "باسم اهلل"‪،‬‬ ‫ليجع���ل من موقعه في التعليم العام والخاص مدرس���ة لإلقراء‬

‫"باسم اهلل"‪.‬‬

‫لس���د‬ ‫دفع لألمة‬ ‫ّ‬ ‫الدف���ع به���ذا االتج���اه بأقص���ى جهد‪ ،‬ه���و ٌ‬ ‫حاج���ات أساس���ية كحاجة الماء والهواء‪ ،‬وحي���ن نقول‪ :‬حاج ُة‬

‫هذه األمة‪ ،‬فهي حاج ُة الدعوة اإلسالمية‪.‬‬

‫بعد ذلك تحتاج األمة اإلسالمية إلى مستوى آخر‪ ،‬به تفعل‬

‫الفعل التاريخي المطلوب‪ ،‬وطريق تلبية هذه الحاجة هو الدفع‬

‫جدا بالنس���بة ألهل العلم في األمة‪:‬‬ ‫ف���ي اتجاه���ات ثالثة كبيرة ًّ‬ ‫الدف���ع في اتجاه التجديد في العلوم الش���رعية‪ ،‬والدفع في‬ ‫ُ‬

‫اتج���اه اآلدمية في العلوم اإلنس���انية‪ ،‬والدفع ف���ي اتجاه النفعية‬

‫الوس���ائل للدفع في هذا االتجاه‪ :‬اتجاه إقراء األمة "باسم اهلل"‪،‬‬

‫في اتجاه العلوم المادية‪ ،‬وذلك يكون بتصنيف القارئين باسم‬ ‫اهلل الذين َف ِقهوا هذا الدين‪ ،‬و َف ِقهوا تخصصاتهم الستيعاب ما‬

‫االتج���اه في غاي���ة األهمية لالنطالق الصحي���ح‪ ،‬وتهيئة المناخ‬

‫المرش���ح بحكم مستواه ألن يقتبس منه الغير‪ ،‬والمرشح فاع ُله‬

‫أجل إعادة األمة الشاهدة إلى األرض‪ ،‬ونقلها من واقعها اآلن‬

‫علميا حتى‬ ‫علميا‪ ،‬وال يك���ون‬ ‫ه���ذا الفع���ل البد أن يك���ون‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫إق���راء األم���ة أو بقاي���ا األم���ة‪ ،‬إقرائه���ا "باس���م اهلل"؛ أي تعليمها‬

‫اإليمان والفهم لقراءة كل ش���يء باس���م اهلل‪ .‬هذا الدفع في هذا‬

‫ه���و كائن لدى األمة ولدى غي���ر األمة‪ ،‬ألنه بالفعل الحضاري‬

‫الطبيع���ي ال���ذي يتنفس في���ه‬ ‫النموذج الذي يج���ب صياغته من‬ ‫ُ‬

‫لإلمامة على الناس يقع التغيير الحضاري الراشد‪.‬‬

‫إل���ى موقعه���ا الرفيع الممتاز‪ ،‬ه���ذا اإلقراء ينبغ���ي أن ُيد َفع فيه‬

‫ال س���واء في‬ ‫ُيس���توعب الموجود‬ ‫ال وتعلي ً‬ ‫ال تحلي ً‬ ‫اس���تيعابا كام ً‬ ‫ً‬

‫العامة‪ ،‬والمؤسسات التعليمية خاصة‪.‬‬

‫هذا توجه إس���تراتيجي في الس���ير البعيد المدى وليس من‬

‫بناء وفق توجيه الدين‪،‬‬ ‫تقويمها‪ ،‬ثم‬ ‫أخيرا أسلمتها‪ ،‬أي بناؤها ً‬ ‫ً‬ ‫موج ًها له���ا‪ .‬وبذلك‬ ‫وذل���ك بجع���ل علم الدي���ن‬ ‫ً‬ ‫مهيمن���ا عليها ِّ‬

‫صغيرة‪ ،‬بل هو تأس���يس للميدان كل���ه وتحضير لألرض كلها‪،‬‬

‫بعيد‪ ،‬ولك���ن ينبغي الس���ير فيه م���ن اآلن‪ ،‬ألن العلم‬ ‫ه���ذا ٌ‬ ‫أف���ق ٌ‬

‫عن طريق الجهود الجماعية‪ ،‬والجهود الفردية‪ ،‬والمؤسس���ات‬

‫العل���وم الش���رعية‪ ،‬أو العلوم اإلنس���انية‪ ،‬أو العل���وم المادية‪ ،‬ثم‬

‫فع���ل فينقطع أثره في زمن قصي���ر‪ ،‬أو يتجه إلى دائرة‬ ‫ن���وع ما ُي َ‬

‫الفعل الحضاري تس���تحق األم ُة اإلمام َة والشهادة على الناس‪.‬‬

‫جتهد فيه‪ ،‬س���واء‬ ‫وي َ‬ ‫ه���ذا ض���روري ويجب أن ُيف َقه هذا األمر‪ُ ،‬‬

‫باالتجاه والهدف في غاية األهمية للدفع في ذلك االتجاه‪.‬‬

‫عد نفس���ه‬ ‫ف���ي الصورة العصامية حين يتجه المرء إلى نفس���ه ُلي َّ‬ ‫البر والتقوى في‬ ‫‪-‬واهلل يعين���ه‪ -‬أو حي���ن يتعاون مع غي���ره على ّ‬

‫(*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫يدعى إليه قبل الدعوة إليه‪ ،‬وإال دعوت‬

‫يمك���ن تصنيف���ه صنفي���ن كبيرين؛ صنف‬

‫ه���و جزئي���ات الدي���ن وكليات���ه أحيا ًن���ا‪،‬‬

‫وصنف هو الدي���ن كله‪ ،‬والعالقة بينهما‬ ‫كالعالق���ة بي���ن الدع���وة بمعن���ى الن���داء‪،‬‬ ‫والدع���وة بمعن���ى التنزي���ل ف���ي الواق���ع‪.‬‬

‫نفس تل���ك العالقة‬ ‫تقريبا‪ ،‬توجد كذلك‬ ‫ً‬ ‫فيم���ا يدع���ى إليه؛ فهناك م���ن يدعى إلى‬

‫جزئي���ة م���ن الدين‪ :‬يدعى إل���ى الصالة‪،‬‬ ‫إل���ى ال���زكاة‪ ،‬إل���ى الصي���ام‪ ،‬إل���ى األم���ر‬

‫بالمع���روف والنه���ي عن المنك���ر‪ ،‬حتى‬ ‫إلى ابتس���امتك في وج���ه أخيك‪ ،‬يدعى‬

‫إلى أي ش���عبة من شعب اإليمان‪ ...‬كل‬

‫جع��لْ كلُّ م�س��لم نف�س��ه‬ ‫فلْيَ َ‬ ‫مدر�س�� ًة‪ ،‬ليجع��ل م��ن نف�س��ه‬ ‫مدر�س��ة لنف�س��ه ولغ�يره؛ �إن‬ ‫بح ْكم �إ�سالمه‪ ،‬يف موقع‬ ‫امل�سلم ُ‬ ‫الإر�سال ال يف موقع اال�ستقبال‪،‬‬ ‫ولكنه لن ي�ستطيع الإر�سال �إال‬ ‫�إذا امت�ل�أ وفا���ض‪� ،‬إال �إذا امتلأ‬ ‫علما ثم �ص��ار كالنب��ع الفيا�ض‬ ‫ً‬ ‫يخ��رج من��ه العل��م والإمي��ان‪.‬‬

‫"من دعا‬ ‫ذل���ك مطل���وب كما يق���ول ‪َ :‬‬

‫هدى‪ ،‬كان له من األجر مثل أجور‬ ‫إل���ى ً‬

‫أي‬ ‫شيئا" (رواه مسلم)‪ ،‬معناه ُّ‬ ‫من تبعه ال َينقص ذلك من أجورهم ً‬ ‫محد ًدا في ش���يء واحد‬ ‫أي درجة كان هذا الهدى َّ‬ ‫ه���دى على ّ‬ ‫ً‬ ‫كبي���را أو‬ ‫غلي���ظ أو رقي���ق‪ ،‬أو كان‬ ‫صغي���را في أش���ياء متعددة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫هذه دعوة لجزئيات الدين‪ ،‬ولكن هناك دعوة أش���مل من هذا‬

‫إلى شيء غامض غير معلوم أو مجهول‬

‫ال يتصور‪ .‬وفي هذه الحالة لن يستجيب‬

‫ل���ك أح���د ألن���ك تدع���وه إل���ى ض�ل�ال‪.‬‬ ‫والدع���وة‪ ،‬المطلوب فيها أن تكون على‬

‫بصي���رة وعلى نور وعلى وضوح‪ ،‬كأنك‬ ‫تبص���ر األمر بعينيك‪ .‬فمن هاهنا ليس���ت‬

‫الدع���وة مطلق���ة ولكنه���ا مقي���دة بالعل���م‬

‫ألنه���ا على بصي���رة‪ ،‬أي مقيدة بالبصيرة‪:‬‬ ‫���ل َه ِ‬ ‫���ذ ِه س���بِي ِلي َأ ْد ُع���و ِإ َل���ى ا ِ‬ ‫هلل َع َلى‬ ‫﴿ ُق ْ‬ ‫َ‬ ‫َب ِص َير ٍة﴾(يوسف‪.)108:‬‬

‫أس � � ��س تحصيل العلم الشرعي والفقه‬ ‫الدعوي‬

‫إن الدع���وة ف���ي حاجة كبيرة إلى العلم بالش���رع‪ ،‬والفقه بكيفية‬ ‫تنزيل���ه ف���ي واقع معل���وم‪ ،‬إال أن هذا العلم يحتاج إلى أس���س‬

‫يقوم عليها‪ ،‬وهذه األسس هي‪:‬‬

‫ص﴾(الزمر‪،)3:‬‬ ‫‪ -1‬إخالص الدين هلل ‪َ ﴿ :‬أ َ‬ ‫ال لهلِ ِ ِّ‬ ‫الد ُ‬ ‫ين ا ْل َخا ِل ُ‬ ‫الدين﴾(البينة‪ ،)5:‬وفي‬ ‫﴿و َم���ا ُأ ِم ُروا ِإ َّ‬ ‫���دوا ا َ‬ ‫ين َل ُه ِّ‬ ‫ال ِل َي ْع ُب ُ‬ ‫هلل ُم ْخ ِل ِص َ‬ ‫َ‬ ‫القليل" (وراه‬ ‫العمل‬ ‫دين���ك َي ْك ِفك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ص َ‬ ‫الحديث الش���ريف‪" :‬أخ ِل ْ‬ ‫الحاكم)‪ ،‬وأخلص دينك معناه‪ :‬خ ِّل ْصه من الش���وائب التي تمنع‬

‫تنس���جم م���ع الدعوة بالمفه���وم الثاني‪ ،‬هو الذي أش���ار إليه اهلل‬ ‫وحا‬ ‫الد ِ‬ ‫‪ ‬ف���ي قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫���ر َع َل ُك ْم ِم َن ِّ‬ ‫ي���ن َما َو َّصى ِب ِه ُن ً‬ ‫﴿ش َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫يسى َأ ْن‬ ‫يم َو ُم َ‬ ‫َوا َّلذي أ ْو َح ْي َنا ِإ َل ْي َك َو َما َو َّص ْي َنا ِبه ِإ ْب َراه َ‬ ‫وسى َوع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين﴾؛ هاهنا ال يوجد‬ ‫يموا ِّ‬ ‫يموا ِّ‬ ‫الد َ‬ ‫الد َ‬ ‫ين﴾(الشورى‪﴿ ،)13:‬أ َْن َأق ُ‬ ‫َأق ُ‬ ‫أمر‬ ‫بجزئي من جزئيات هذا الدين‪ ،‬بل هناك أمر بإقامة الدين‬ ‫ٍّ‬ ‫ال في الواقع على أحس���ن ص���ورة تتصور‪.‬‬ ‫كل���ه جمل���ة وتفصي ً‬ ‫ِ‬ ‫ين﴾ ِق ْس���ها عل���ى إقامة جزء من‬ ‫يموا ِّ‬ ‫الد َ‬ ‫فإقام���ة الدي���ن ﴿أ َْن َأق ُ‬ ‫الدين كإقامة الصالة‪ ،‬فكما تقيم الصالة على أحس���ن صورة‪،‬‬

‫ومقتضى "محمد رس���ول اهلل"؛ َت َح ّري السنة‪ .‬والسنة في زمانه‬

‫تقتض���ي العل���م به وفهم���ه في ح���دوده الدنيا والعلي���ا‪ ،‬والدين‬

‫جتهد فيه إلصابة الس���نة باالجتهاد الشرعي انطال ًقا من كتاب‬ ‫ُي َ‬

‫فعليك أن تقيم الدين على أحس���ن صورة‪ .‬إال أن إقامة الدين‬ ‫محدد الداللة في نصوص كثيرة‪ ،‬ومن أجمعها حديث جبريل‬

‫‪ ،‬فاإلسالم من الدين‪ ،‬واإليمان من الدين‪ ،‬واإلحسان من‬ ‫الدي���ن‪ ،‬ولذل���ك قال ‪" :‬فإن���ه‬ ‫دينكم"‬ ‫ُ‬ ‫جبريل أتاك���م يع ّل ُمكم َ‬

‫جزءا من‬ ‫(رواه مس���لم)‪ .‬ف���إن الدين ال���ذي يدعى إليه إما أن يكون ً‬ ‫ه���ذا الدين‪ ،‬وإما أن يكون من الدين كله‪ ،‬وال يدعى إلى جزء‬ ‫من الدين‪ ،‬أو إلى الدين كله دون علم بهذا الشيء‪ ،‬هل يتصور‬

‫ال؟ وهل يتصور هذا واقعا؟ البد من أصول العلم بما‬ ‫ه���ذا عق ً‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪8‬‬

‫يكن‬ ‫قبوله‪ ،‬إذ كل عمل‬ ‫تسر ْ‬ ‫قب ْل‪ ،‬ولم ْ‬ ‫بت إليه شائبة شرك لم ُي َ‬ ‫َّ‬ ‫الشركاء عن الشرك‪.‬‬ ‫عباد ًة هلل‪ ،‬ألن اهلل ‪َ ‬أ ْغنى ُّ‬

‫‪ -2‬االجته � � ��اد في تحري اإلصابة للح � � ��ق والصواب باتباع‬ ‫إخ�ل�اص الدين هلل‪،‬‬ ‫أي أن مقتض���ى "ال إل���ه إال اهلل"؛‬ ‫الس � � ��نة‪ْ :‬‬ ‫ُ‬

‫ج���د ِ‬ ‫ويج ُّد بعد زمن���ه ‪ ،‬فهو ما‬ ‫‪ ‬ه���ي م���ا نق���ل إلينا‪ّ ،‬أما ما َّ‬ ‫اهلل ‪ ‬وانطال ًقا من سنة رسول اهلل ‪ ،‬وعلى هذين األساسين‬ ‫يقوم العمل‪ ،‬أي العمل الذي فيه سد الحاجة‪.‬‬

‫‪ -3‬ق� � � �راءة الكون قراءة ربانية‪ :‬وهذه الق���راءة مأخوذة من‬ ‫���م َر ِّب َك ا َّل ِذي َخ َل َق﴾(العلق‪ ،)1:‬فإن األمر‬ ‫ِاس ِ‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬ا ْق َر ْأ ب ْ‬ ‫���ك﴾‪ ،‬وهاته اللفظة لفظة‬ ‫���م َر ِّب َ‬ ‫ِاس ِ‬ ‫القيد‪﴿ :‬ب ْ‬ ‫بالقراءة مقيد بهذا ْ‬ ‫���م ا ِ‬ ‫منع اس���تقبال ما‬ ‫ِاس ِ‬ ‫هلل" ه���ي منه���اج كامل يضع جمارك َت َ‬ ‫"ب ْ‬ ‫وأيض���ا تمنع إرس���ال ما ال ينبغي‪ .‬وهذا من أس���رار‬ ‫ال ينبغ���ي‪،‬‬ ‫ً‬


‫‪ ‬ضرورة بمقتضي نصوص كثيرة في معنى شهادة هذه األمة‬ ‫على الناس‪ِ ﴿ :‬ليكون‬ ‫يدا َع َل ْي ُك ْم َو َت ُكو ُنوا ُش َه َد َاء‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫���ول َش���هِ ً‬ ‫َ ُ َ َّ‬ ‫اس﴾(الح���ج‪ ،)78:‬إذ ال نب���ي بع���د محم���د ‪ ،‬ولذل���ك‬ ‫الن ِ‬ ‫َع َل���ى َّ‬ ‫الجميع مأمور بالدعوة وال يستثنى أحد منها‪.‬‬

‫الدعوة وإحالل الشرع في الواقع‬

‫وهن���اك الدع���وة ‪-‬إل���ى جانب هذه الص���ورة العادية البس���يطة‪-‬‬

‫المطلوبة من الجميع (الدعوة النداء)‪ ،‬هناك الدعوة التي يمكن‬ ‫مفهوما‬ ‫تسميتها بـ"تنزيل الدين في الوا ِقع"‪ .‬هذه صورة تتضمن‬ ‫ً‬

‫أضخم من المفهوم األول للدعوة اإلس�ل�امية‪ .‬فالدعوة النداء‬ ‫أي دع���وة الن���اس لالئتمار بأمر اهلل أو االنتهاء عما نهى عنه‪-‬‬‫م���ا ه���ي من جملة هات���ه الدع���وة بالمعنى العام‪ ،‬الت���ي يراد بها‬

‫إحالل الش���رع في الواقع‪ ،‬وجعل الواقع‬ ‫س���ائرا وفق الش���رع‪،‬‬ ‫ً‬

‫ففع ُل الناس في الزمان وفي المكان‪ ،‬وفي‬ ‫ً‬ ‫ومحكوما بالش���رع‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫عش���وائيا‪ ،‬ولي���س‬ ‫ببع���ض ليس‬ ‫عالق���ة اإلنس���ان بعضه‬ ‫جزافيا‬ ‫ٍ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫اعتباطيا وليس‬ ‫وليس‬ ‫خاضعا للهوى‪ ،‬بل هو محكوم بالش���رع‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫هلل من الناس‬ ‫اس‬ ‫ليك���ون عبادة كما طل���ب ا ُ‬ ‫﴿يا َأ ُّي َها َّ‬ ‫جميعا‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫الن ُ‬ ‫ْاع ُب ُدوا َر َّب ُك ُم﴾(البقرة‪)21:‬؛‬ ‫الناس كلُّ الناس مطلوب منهم عبادة‬ ‫ُ‬ ‫فع ُل البش���ر عن مس���توى النية‪ ،‬وعن مستوى‬ ‫ربهم‪ ،‬فال َيخرج ْ‬

‫بعينه‪ ،‬لدى ناس معينين‪ ...‬إذ لو كان األمر أمر توقيف في أمر‬

‫الدع���وة ‪-‬بمعنى تنزيل الش���رع في الواق���ع‪ -‬لتكفل اهلل ‪ ،‬بل‬

‫تاما في أعلى درجات‬ ‫ألمر اهلل ‪ ‬بحفظ نصوص السيرة ً‬ ‫حفظا ًّ‬ ‫الوث���وق ‪-‬كأن���ه في درج���ات الق���رآن‪ -‬لتهتدي ب���ه األمة‪ ،‬ألنه‬

‫ملز ًما لها‪ ،‬ولكان ترتيب القرآن الكريم على حس���ب‬ ‫س���يصير ِ‬ ‫أيضا على حس���ب النزول‪ ،‬وللزم‬ ‫نزول���ه ً‬ ‫أيض���ا‪ ،‬بل ولتعبدنا به ً‬

‫ال يحيد الن���اس عن ذلك‬ ‫بق���اؤه عل���ى الكيفي���ة التي نزل به���ا لئ ّ‬ ‫ثابتا هو الش���رع‬ ‫المنه���اج قيد أنملة‪ ...‬لكن اهلل ‪ ‬جعل ً‬ ‫ش���يئا ً‬

‫ف���ي نصوص���ه؛ في نص���ه المعجز‪ ،‬وف���ي نصه البي���ان‪ ،‬إذ البيان‬

‫ه���و كذلك وحي من اهلل تعال���ى‪" :‬أال إني أوتيت القرآن ومثله‬

‫معه" (رواه أبو داود) كما قال ‪ ‬لجعل الش���رع في هذا المستوى‪.‬‬

‫إذن فهناك شيء ثابت هو الشرع في نصوصه الثابتة‪ ،‬وهناك‬

‫ش���يء متغير هو الواقع إذ يتبدل باس���تمرار‪ ،‬يتبدل ويتغير‪ ،‬يؤثر‬

‫في���ه الزم���ان‪ ،‬ويؤث���ر فيه الم���كان‪ ،‬ويؤثر فيه اإلنس���ان‪ ...‬فلكل‬ ‫مقام مقال‪ ،‬ولكل حال رجال‪ ،‬ولكل ظرف اجتهاد يناس���به‪...‬‬ ‫واألص���ول الكبرى تس���تفاد من التج���ارب الكبرى من قصص‬ ‫األنبياء عليهم الصالة والسالم‪ ،‬ومن قصة رسول اهلل ‪ ،‬ومن‬

‫التجارب الالحقة الراشدة‪.‬‬

‫التعبي���ر‪ ،‬وع���ن مس���توى التفكي���ر‪ ،‬وع���ن مس���توى التدبير ‪-‬في كيفية التنزيل للشرع‪ ،‬مطلوبة من الخاصة‬ ‫فعل بش���ري عن دائرة العبادة‬ ‫أي ٍ‬ ‫الفعل والتصرف‪ -‬ال َيخرج ُّ‬

‫أساسا من الخاصة أكثر‬ ‫إذن هذه الدعوة بهذا المعنى‪ ،‬مطلوبة‬ ‫ً‬

‫وفق شرع اهلل النصي أو‬ ‫المستنبط من النصوص الشرعية‪ ،‬وإما‬ ‫َ‬

‫ولي���س في مق���دور الجميع‪ ،‬أما األول���ى‪ ،‬أي الدعوة بالمفهوم‬

‫فعل‬ ‫وي َ‬ ‫هلل أو لغي���ر اهلل ‪ .‬فه���ذا الفع���ل إما أن يراد ب���ه اهلل ‪ُ ،‬‬ ‫فعل وفق الهوى ويراد به غير اهلل ‪.‬‬ ‫أن ُي َ‬

‫مم���ا هي مطلوبة من العامة‪ ،‬ألنها تقوم‬ ‫أساس���ا على االجتهاد‬ ‫ً‬ ‫األول‪ ،‬فمطلوبة من الجميع‪ ،‬ومقدور عليها من الجميع‪ .‬هذه‬

‫فالدعوة اإلس�ل�امية إذن بهذا المفهوم‪ ،‬أوس���ع وأشمل من‬

‫الدع���وة بمعنييها‪ ،‬الحاجة فيها إلى العلم كحاجة الكائن الحي‬

‫الواق���ع‪ ،‬غاية وهد ًفا‪ ،‬وبمعنى طلب االئتمار بأمر اهلل واالنتهاء‬

‫الكائنات الحية إلى الهواء والماء الذي جعل اهلل منه كل شيء‬ ‫﴿و َج َع ْل َنا ِم َن ا ْل َما ِء ُك َّل َش���ي ٍء َح ٍي﴾(األنبياء‪ .)30:‬معنى هذا‬ ‫حيا‪َ :‬‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫الكالم أنه ال حياة للدعوة وال وجود لها وال نمو لها وال كمال‬

‫الدائرة األخرى‪ ،‬حيث تصبح الدعوة بمعنى تنزيل الش���رع في‬ ‫عما نهى عنه‪ ،‬وس���يلة‪ ،‬ولتحقيق ذلك توجد عدة أمور تستلزم‬

‫ضروب���ا م���ن العل���م ليح���دث هذا األم���ر أمر تنزيل الش���رع في‬ ‫ً‬ ‫الواقع‪ .‬وجميع قصص األنبياء موضحة لهذا األمر ‪-‬وهي في‬

‫صمي���م الدع���وة بهذا المعن���ى‪ -‬وقصة رس���ول اهلل ‪ ‬التي هي‬

‫الس���يرة النبوية‪،‬‬ ‫هي‪-‬أساس���ا قصة مرحلية لهذا األمر‪ ،‬وجميع‬ ‫ً‬

‫تج���ارب المصلحين المخلصين العلم���اء هي تجارب للدعوة‬ ‫اإلس�ل�امية به���ذا المعنى‪ ،‬هي مح���اوالت واجته���ادات لتنزيل‬

‫الشرع على الواقع في زمان بعينه‪ ،‬في مكان بعينه‪ ،‬لدى إنسان‬

‫إلى الهواء والماء‪ ،‬فحاجة الدعوة اإلسالمية إلى العلم كحاجة‬

‫له���ا إال بالعل���م‪ ،‬وال يمك���ن أن توج���د‬ ‫أساس���ا إال بالعلم‪ ،‬وال‬ ‫ً‬

‫���دها وتنتهي‬ ‫يمك���ن أن تنم���و إال بالعلم‪ ،‬وال يمكن أن تبلغ ُ‬ ‫أش َّ‬ ‫أيضا‪ِ ...‬ل َم ذل���ك؟ ألن الدعوة تقتضي‬ ‫إل���ى غاياته���ا إال بالعلم ً‬ ‫مدعوا إليه وهو الش���رع‪ ،‬وهذا المدعو إليه محدد في النصين‪:‬‬ ‫ًّ‬ ‫كتاب اهلل ‪ ‬وس���نة رس���ول اهلل ‪ ،‬وهذا المدعو له البد من‬

‫العل���م ب���ه أوال وقبل كل ش���يء‪ .‬ولتوضيح ذل���ك‪ :‬المدعو إليه‬

‫‪7‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫آد َم ا َ‬ ‫���م َاء ُك َّل َها﴾(البقرة‪.)31-30:‬‬ ‫َو َع َّل َم َ‬ ‫أل ْس َ‬

‫به���ذا العل���م اس���تخلف آدم ‪ ،‬وبهذا‬ ‫اس���ت ْخ ِلف أبناؤه من بعده‪ ...‬بهذا‬ ‫العلم ُ‬ ‫���ح لإلمامة في ذرية‬ ‫���ح َم ْن ُر ِّش َ‬ ‫العلم ُر ِّش َ‬ ‫الذ ّرية‪،‬‬ ‫آدم‪ ،‬وبه���ذا العلم َّأم َم ْن َأ َّم هذه ّ‬ ‫بدءا من الرس���ل عليهم الصالة والسالم‬ ‫ً‬

‫داهم‪ ...‬وحين نقص‬ ‫إل���ى َم ْن اهتدى ُبه ُ‬

‫العل���م ن َقص���ت األم���ة وتنقص���ت م���ن‬ ‫ُ‬ ‫أطرافه���ا‪ ،‬ول���ن يمكن ت���دارك األمر وال‬ ‫اس���تدراكه إال َبع���ودة العلم إل���ى موقعه‬ ‫وع���ودة األم���ة إل���ى موضعها‬ ‫الطبيع���ي‪َ ،‬‬

‫الطبيعي في هذا العلم‪.‬‬

‫حاج��ة الدع��وة الإ�س�لامية �إىل‬ ‫العل��م‪ ،‬كحاج��ة الكائنات احلية‬ ‫�إىل اله��واء وامل��اء ال��ذي جع��ل‬ ‫اهلل منه كل �ش��يء حيًّ��ا؛ ال حياة‬ ‫للدع��وة وال وجود له��ا وال منو‬ ‫لها وال كمال لها �إال بالعلم‪ ،‬وال‬ ‫أ�سا�سا �إال بالعلم‪،‬‬ ‫ميكن �أن توجد � ً‬ ‫وال ميكن �أن تنمو �إال بالعلم‪ ،‬وال‬ ‫ميكن �أن تبلغ � ُأ�ش�� َّدها وتنتهي �إىل‬ ‫غاياتها �إال بالعلم‪.‬‬

‫العلم رأس القوة وأساس الفالح‬

‫إعداد ما ُيس���تطاع من قوة‪...‬‬ ‫طلب‬ ‫َ‬ ‫العلم رأس القوة‪ ،‬واهلل ‪َ ‬‬

‫���ل ا ْل ِح َمارِ‬ ‫﴿ك َم َث ِ‬ ‫لم يعمل���وا بمقتضاها‪َ ،‬‬ ‫ارا﴾(الجمعة‪.)5:‬‬ ‫َي ْح ِم ُل أ َْس َف ً‬

‫الق���رآن حج ٌة ل���ك حي���ن العمل به‪،‬‬

‫وحج��� ٌة علي���ك حي���ن ع���دم العم���ل به‪.‬‬

‫فالنقصان الحاصل في العمل اآلن على‬ ‫مس���توى األم���ة جمعاء أو على مس���توى‬

‫الخاليا الحية في األمة‪ ،‬إنما هو نقصان‬

‫القص���د إذن‬ ‫أساس���ا ف���ي العل���م‪ .‬فم���ا‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫بـ"حاجة الدعوة اإلسالمية إلى العلم"؟‬

‫الدعوة مهمة شاملة‬

‫الدع���وة اإلس�ل�امية ‪-‬بمعن���ى الن���داء‪،‬‬ ‫م���ن دعاه يدع���وه إذا ناداه لفع���ل أمر أو‬

‫ترك���ه‪ -‬لها ص���ورة بس���يطة عادية‪ ،‬تكون‬

‫فيه���ا الدعوة مم َّثلة في تبليغ األوام���ر لالئتمار وتبليغ النواهي‬

‫���ب العلم‪ ،‬هو‬ ‫وأول م���ا أم���ر اهلل ب���ه في بناء ه���ذه األمة هو ط َل ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫نداء إلى رسول اهلل‬ ‫‪،‬‬ ‫ك﴾(العلق‪)1:‬‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫���م‬ ‫ِاس‬ ‫ب‬ ‫أ‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫﴿ا‬ ‫الخالد‪:‬‬ ‫النداء‬ ‫ِ‬ ‫َْ ْ ِ َّ َ‬ ‫ٌ‬ ‫داء إل���ى إخوانه الذين‬ ‫‪ ،‬ون���داء إل���ى أصحابه ِمن حول���ه‪ ،‬و ِن ٌ‬ ‫نداء إل���ى الجميع إيذا ًنا‬ ‫ج���اءوا بعده���م‪ ،‬والذين لم يأتوا ُ‬ ‫بعد‪ٌ ،‬‬ ‫وإعال ًن���ا ب���أن مرحل ًة في اإلنس���انية يجب أن تب���دأ‪ ،‬هي مرحل ُة‬ ‫والتأسس على ِ‬ ‫العلم‪ ،‬والع ْلم فقط‪.‬‬ ‫القيام‬ ‫ِ‬

‫ش���يء س���واها‪ .‬والجهاد ‪-‬بالمنزلة التي تعلمون‪ -‬هو جزء من‬

‫صحيح���ا‪ ،‬ليس���تطيعوا القي���ام بالخالفة في ه���ذه األرض وفق‬ ‫ً‬

‫منها الجهاد في س���بيل اهلل في ظرف من الظروف وفي صورة‬

‫علمي���ا‬ ‫تأهي�ل�ا‬ ‫مؤهلي���ن‬ ‫ً‬ ‫آلدم ‪َّ ‬‬ ‫يج���ب تخري���ج أبن���اء َ‬ ‫ًّ‬

‫العه���د ال���ذي عه���د اهلل ‪ ‬ب���ه آلدم ‪ ‬ولذريت���ه م���ن بع���ده‪:‬‬ ‫ال َي ْش َقى‬ ‫ال َي ِضلُّ َو َ‬ ‫اي َف َ‬ ‫﴿ َفإ َِّما َي ْأ ِت َي َّن ُك ْم ِم ِّني ُه ًدى َف َم ِن َّات َب َع ُه َد َ‬ ‫���ر ُه َي ْو َم‬ ‫ض َع ْن ِذ ْك ِري َفإ َِّن َل ُه َم ِع َ‬ ‫‪َ ‬و َم ْن َأ ْع َر َ‬ ‫يش��� ًة َض ْن ًكا َو َن ْح ُش ُ‬ ‫ا ْل ِق َي َام ِة َأ ْع َمى﴾(طه‪.)124-123:‬‬ ‫ِ‬ ‫نقص���ان القلب‬ ‫إن م���ا ُي���رى من نقص���ان هذه األم���ة‪ ،‬ومن‬ ‫أساس���ا إلى‬ ‫مرده‬ ‫الح���ي فيه���ا وه���و الدعوة إل���ى اهلل ‪ ،‬إنم���ا ُّ‬ ‫ً‬ ‫النقص���ان في ِ‬ ‫العلم‪ ،‬ألن العلم ال يمك���ن في هذا الدين فص ُله‬

‫ع���ن العمل‪ ،‬فإذا قي���ل بنقصان العلم فقد قي���ل بنقصان العمل‬ ‫أيض���ا‪ ،‬ألن م���ن ل���وازم ِ‬ ‫تص���ور ِعلم في‬ ‫العلم العمل ب���ه‪ ،‬فال ُي‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫الزم‬ ‫ه���ذا الدي���ن بغير عمل وف���ق ُمقتضى هذا العل���م‪ .‬إن هذا ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫انفصال‪ ،‬قال‬ ‫والزم منه‪ ،‬وحين ينفصالن‪ ،‬ينفصالن ش���ر‬ ‫لهذا‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫وها﴾(الجمعة‪)5:‬؛‬ ‫ين ُح ِّم ُلوا َّ‬ ‫الت ْو َرا َة ُث َّم َل ْم َي ْح ِم ُل َ‬ ‫﴿م َث ُل ا َّل ِذ َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪6‬‬

‫لالنته���اء‪ ،‬وه���ذه مأمور به���ا جميع األمة كل بحس���ب درجته‪،‬‬

‫ألنه���ا ع���ن طريق االئتم���ار بأوام���ره واالنته���اء بنواهي���ه تكون‬

‫وق���ادرا عليها الجميع إنما بش���رط‬ ‫مأم���ورا به���ا الجميع‬ ‫دع���وة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫تعب���د اهلل ‪ ‬إال بالعل���م‪ ،‬ورأس العبادة الدعوة‬ ‫العل���م‪ ...‬فال ُي َّ‬ ‫إل���ى اهلل ‪ ،‬ألن األج���ر ال���ذي يترت���ب عليه���ا ال يترتب على‬ ‫كل‪ ،‬أي ج���زء م���ن الدعوة إلى اهلل ‪ .‬فللدع���وة صور كثيرة؛‬ ‫ٍّ‬

‫م���ن الصور‪ ،‬وللجه���اد صور كثي���رة؛ منها المجاه���دة بالدعوة‬ ‫للق���رآن‪ِ َ :‬‬ ‫���م بِ��� ِه﴾ ‪-‬أي بالق���رآن الكري���م‪ِ -‬‬ ‫﴿ج َه ًادا‬ ‫﴿و َجاه ْد ُه ْ‬ ‫ِيرا﴾(الفرقان‪.)52:‬‬ ‫َكب ً‬ ‫وكل ذل���ك دع���وة إلى اهلل ‪ ‬في ص���ورة من صورها وفي‬ ‫مرحل���ة م���ن مراحله���ا‪ .‬فالدع���وة الن���داء‪ ،‬مأم���ور به���ا الجميع‬ ‫ويطيقه���ا الجميع‪ ،‬وإليها يش���ير حديث رس���ول اهلل ‪" :‬بلغوا‬

‫عن���ي ول���و آية" (رواه البخ���اري)‪ ،‬من علم آية فق���ط‪ ،‬علمها وعمل‬ ‫فأي‬ ‫به���ا‪ ،‬فعلي���ه أن يب ِّلغ تلك اآلي���ة التي يعلم المقص���ود بها‪ّ ،‬‬

‫ح���ظ م���ن العلم الش���رعي بهذا الدي���ن يجب أن يب َّل���غ‪ ،‬إذ هذه‬

‫األم���ة هي أمة الش���هادة على الناس‪ ،‬واالنتم���اء الصحيح إليها‬

‫إنم���ا يتمثل ف���ي الدعوة‪ ،‬وال يتمثل في غير الدعوة‪ .‬فالمس���لم‬

‫من أمة محمد ‪ ،‬بحكم كونه من هذه األمة‪ ،‬هو داع إلى اهلل‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي*‬

‫و‬ ‫ة‬ ‫ع‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫ى‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫ل‬ ‫حاج‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫م‬

‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫���ن‬ ‫ي���ر ٍة َأ َن���ا َو َم ِ‬ ‫ق���ال تعال���ى‪ُ ﴿ :‬ق ْ‬ ‫���ل َه���ذه َس���بِيلي أ ْد ُع���و ِإ َل���ى اهلل َع َل���ى َبص َ‬ ‫ِ‬ ‫يتبين أن العلم أس���اس‬ ‫َّات َب َعني﴾(يوس���ف‪ .)108:‬م���ن خالل هذه اآلية وغيرها‪ّ ،‬‬ ‫هذه األمة‪ ،‬بل هو أس���اس اس���تخالف هذا النوع كله على بقية األنواع في‬

‫ال ِئ َك��� ِة ِإ ِّني َج ِ‬ ‫اع ٌل ِفي ا َ‬ ‫ض َخ ِلي َف ًة َقا ُل���وا َأ َت ْج َع ُل ِف َيها َم ْن‬ ‫﴿وإ ِْذ َق َ‬ ‫���ال َر ُّب َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���ك ِل ْل َم َ‬ ‫أرض اهلل؛ َ‬ ‫ون ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال ِإ ِّني َأ ْع َل ُم َما َ‬ ‫س َل َك َق َ‬ ‫ال َت ْع َل ُم َ‬ ‫ُي ْف ِس ُد ِف َيها َو َي ْس ِف ُك ِّ‬ ‫الد َم َاء َو َن ْح ُن ُن َس ِّب ُح ب َِح ْمدكَ َو ُن َق ّد ُ‬

‫‪5‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫ال ترتقي األخالق بالعرفان وال الوجدان‬ ‫حسن الفضيل ِة من خشية اهلل في اإلنسان‬ ‫ُ‬

‫يق���ول دي���كارت‪" :‬ال قيم���ة للفكر م���ا لم يتمت���ع بالحرية"‪.‬‬

‫أم���ا كان ينبغ���ي أن نفكر على األقـل مثل دي���كارت‪ ،‬لتخليص‬

‫فهب أن الخوف من اهلل في القلوب قد غاب وانحسر‬

‫أرواحنـا من نظم التفكير السكوالس���تيكية البالية والمتعفنة في‬

‫وزد على ذلك هشاش���ـة اإلرادة وضمور المحاكمة العقلية‬

‫يج���ب على األجي���ال المن���ورة آفاقه���ا الدنيوية‪/‬األخروية‪،‬‬ ‫الت���ي س���تعين معال���م تكو ٍ‬ ‫نات يب���دو أن ال فكاك م���ن حدوثها‬ ‫ّ‬ ‫ف���ي العالم في الس���ـنوات القادم���ة‪ ،‬أن تعيد النظ���ر في األفكار‬

‫عناصر محاكمتنا األساس���ية‪ ،‬وتميي���ز الخط الفكري المنطقي‪،‬‬

‫ف���ي الداخ���ل‪ ،‬وتطهير المجتم���ع من "لوثي���ات" االغتراب عن‬

‫فلن تجد إذن للعرفان والوجدان ذرة من أثر(‪.)1‬‬

‫ووحش���ية األحاسيس البش���رية وتعطش���ها للدم كالتنين‪ ،‬لتعلم‬

‫هول الكابوس الذي نعيشه‪.‬‬

‫فم���ن الض���رورة إذن‪ ،‬أن نب���دأ العم���ل بإعـ���ادة النظ���ر ف���ي‬

‫وإيف���اء اإلرادة حـقه���ا‪ ،‬وإع���داد جيل عزوم‪ ،‬ب���ل أجيال‪ .‬فلنقر‬

‫ال بمراعاة األس���باب‪ ،‬ألننا نعيش في عالم محاط بها‪ .‬نحن‬ ‫أو ً‬ ‫نعيش في عالم األس���ـباب‪ .‬فإهمالها محض "جبرية"‪ ،‬وضاللة‬

‫بالحاص���ل‪ .‬وليس���ت مراع���اة األس���باب وحده���ا‪ ،‬ب���ل العناي���ة‬ ‫بالمناس���بة بين السبب والنتيجة (قاعدة تناسب العلية) من أهم‬

‫لوازم التكليف‪.‬‬

‫فإن لم نعين أس���س األفكار المضرة والتيارات المفس���دة‪،‬‬

‫بمش���اعر مس���ؤولية جادة لنقاومها منذ اليوم‪ ،‬فس���وف نرى في‬

‫أبعادا مختلفة للبؤس األخالقي والنكبة االجتماعية‬ ‫المستقبل‬ ‫ً‬

‫واالنحرافات األخرى‪.‬‬

‫ولي���س الحنيك م���ن ينتبه إلى النكبة والب���ؤس بعدما تظهر‬

‫النتائج عيا ًنا‪ ،‬بل من يجزم بما س���يقع وبأي س���بب وسياق من‬ ‫قبل الوقوع‪ .‬ومن العس���ير االدعاء بأننا أبدينا فراس���ة كهذه في‬ ‫ال!‬ ‫تاريخن���ا القريب‪ .‬أما أن نـزع���م بأننا أوفينا اإلرادة حقها فك ّ‬

‫بل إنساننا في هذه المدة المدلهمة ظلم ًة يشك حتى في إرادته‬ ‫الذاتي���ة وفكره وعزمه‪ ...‬بل ما يفتأ يبحث عن إرادات س���امية‬ ‫واألم ّر توهين الش���خصية‬ ‫ومدهش���ة لتدير ش���ؤونه‪ .‬واألده���ى‬ ‫َ‬

‫وأس���ر العزائم في أصحاب المش���اعر النقية والوجدان الطاهر‬

‫بإيح���اءات م���ن قب���ل المفك���ر ف�ل�ان‪ ،‬والعال���م ع�ل�ان والدولة‬ ‫ال ًنا في‬ ‫الفالني���ة! ث���م بم���رور الزم���ان‪ ،‬صرنا ّ‬ ‫نحك���م فال ًن���ا وع ّ‬

‫تفكيرن���ا وس���لوكنا‪ ،‬فأصابونا بأنـواع م���ن دوار الرأس وازورار‬ ‫التفكي���ر وانح���راف المالحظ���ة وانـزالق الش���خصية‪ .‬فأصيبت‬

‫األرواح المستس���لمة تمام االستس�ل�ام خاصة‪ ،‬بأعطاب رهيبة‬

‫م���ن المح���ال إصالحه���ا‪ .‬وكان األصل أن ال نؤم���ن أو نرضى‬ ‫محصناها ما عدا اإلرادة اإللهية‪.‬‬ ‫بإراد ٍة ما حققنا فيها وال‬ ‫ّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪4‬‬

‫معظم جوانبها‪ .‬ولكن هيهات!‬

‫ش���كلة‬ ‫الم ّ‬ ‫والمع���ادالت واألنظمة‪ ،‬الواردة إلينا من الخارج أو ُ‬ ‫وش���ده بجذور معانيه األصيلة‪ ...‬وذلك حتى يسـتطيع‬ ‫الذات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحف���اظ على جوهره وش���خصيته‪ ،‬ويتقدم إلى مس���تقبله على‬ ‫خط���ه الذاتي أثناء التعايش الحميم م���ع العالم‪ ...‬وحتى يطلع‬

‫عل���ى التف���اف الماضي بالحاض���ر إذ يتقدم‪ ،‬فال يش���يح بوجهه‬ ‫طريا من‬ ‫ع���ن الماض���ي ألنه قديم‪ ،‬وال يقبل عل���ى كل ما يظنه ًّ‬

‫غي���ر بصيرة ألنه جديـد‪ .‬إن أبرز خص���ال جيل الضياء هذا‪ ،‬أن‬

‫علما بشؤون اليوم والغد‪ ،‬ويفهم أن ما ينبغي أن يعلمه‬ ‫يحيط ً‬ ‫لي���س‬ ‫منحصرا بما نعرفه نحن‪ ،‬ويجهد في اس���تيعاب الحقيقة‬ ‫ً‬

‫بترش���يحها من مصفاة العقل والمنطق والفكر في دفء أنس���ام‬

‫اإللهام‪ ،‬إلى جانب مكتشفات المختبر‪.‬‬

‫وم���ن المه���م أن نع���رف‬ ‫جي���دا تأريخن���ا القري���ب‪ ،‬وأبطال‬ ‫ً‬

‫تطورا‬ ‫التاري���خ‪ ،‬لك���ي نحق���ق‬ ‫وتغي���را كهذا‪ ،‬فنعرف األس���باب‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ومن‬ ‫والش���خصيات المؤث���رة ف���ي تكوي���ن تاريخن���ا الحاض���ر‪َ ،‬‬

‫وحم���اس التواج���د‬ ‫عش���ق‬ ‫أث���ار‬ ‫ج���د ًدا ف���ي ص���در‬ ‫َ‬ ‫والتك���ون ُم َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫���ن بين أبناء‬ ‫وم ْ‬ ‫لحن نش���يد روح "األمة"‪ ،‬و ِم ْ‬ ‫���ن ّ‬ ‫ه���ذه األم���ة‪َ ...‬‬

‫الوط���ن أنش���دها؟‬ ‫جيدا م���ا ينبغي أن نتخذه‬ ‫فأظن أننا س���ندرك ً‬ ‫ّ‬

‫مبادئ‪ ،‬ونس���تطيع أن نضع برام���ج واضحة للغد‪ ،‬بعد أن نفهم‬ ‫َ‬

‫ما ذكرناه فهما دقي ًقا‪ ...‬ثم نس���عد بالس���ير في درب الش���جعان‬

‫الذين يحتفظون في صدورهم بحيوية الفكر والقضية والعشق‬

‫وأخالق التسامح‪.‬‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬عوني عمر لطفي أوغلو‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬ترجمة َبيتين لمحمد عاكف أرصوي‪ ،‬ديوان "الصفحات"‪ ،‬ص‪.271:‬‬


‫حص���را‪ ،‬ب���ل ثقافتن���ا الذاتي���ة‪ِ ،‬‬ ‫وح ّس���نا‬ ‫ً‬ ‫التاريخ���ي‪ ،‬ونظامنا األخالق���ي‪ ،‬وفهمنا‬ ‫للفضيل���ة‪ ،‬وتصورن���ا الفن���ي‪ ،‬وجذورن���ا‬ ‫أيض���ا‪ ،‬ق���د تعرض���ت ‪-‬وربما‬ ‫المعنوي���ة ً‬

‫مع ض���رر أعظم‪ -‬إلى الت���آكل‪ .‬فاهتزت‬

‫أواصرنـا الروحية وج ّفت منابع فضيلتنا‪،‬‬ ‫وتعمقت الهوة بين حاضرنا وماضينا‪.‬‬

‫أطوارا‬ ‫نع���م‪ ،‬ش���هد عالمنا المب���ارك‬ ‫ً‬

‫وص ّكت‬ ‫عجيب���ة فيها س���كت المثقفون‪ُ ،‬‬

‫أصح���اب القـوة‬ ‫���ر‬ ‫أف���واه الفك���ر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وظاه َ‬ ‫والق���درة الضالل��� َة واالنف�ل�ات ع���ن‬ ‫األصـ���ول‪ ،‬وتعارف���ت األجي���ال م���ع‬ ‫األحاس���يس الهامدة واآليسة والمظلمة‬

‫نحن اليوم يف �أم�س احلاجة �إىل طريق‬ ‫يو�ص��لنا �إىل احلقيق��ة والف�ض��يلة‪،‬‬ ‫ومنه��ج تفك�ير ال يخدعن��ا‪،‬‬ ‫وموازي��ن ال ت�ض��لنا‪ .‬والواق��ع‬ ‫�أن الوج��دان والقي��م الأخالقي��ة‬ ‫م�ص��ادر ن��ور تكفي حل��ل كثري من‬ ‫املع�ض�لات‪ .‬لك��ن يف �أيامنا هذه‪،‬‬ ‫الوجدان جري��ح والقيم الأخالقية‬ ‫�شتات‪ .‬فهذان املحركان قد �أجتُ ّزا‬ ‫وجفف��ت ينابيعهما‪.‬‬ ‫م��ن اجل��ذور ُ‬

‫في همهمات الحيرة وكأنها جنائز‪.‬‬

‫وأفكار مجهولة النسب كهذه!‬ ‫المنطق‬ ‫ٌ‬

‫من���ذ س���نين مدي���دة ل���م تتج���اوز‬

‫حمالت التجدي���د‬ ‫التغيير ف���ي الصورة‪.‬‬ ‫َ‬

‫فقص���رت ع���ن إدراك مقاص���د اآلم���ال‬ ‫والخي���ال‪ ،‬وع���ن أدنى غاياته���ا المعلنة‪.‬‬

‫وظ���ن الذي���ن قبض���وا عل���ى الزم���ام ف���ي‬ ‫القم���م‪ ،‬أن اإلمس���ـاك بالفرش���اة وتلطيخ‬

‫ج���روح الب���دن االجتماع���ي والوطن���ي‬ ‫باألصب���اغ ه���و المعرف���ة والحنك���ة‪ ،‬ب���ل‬

‫وانقالب���ا‪ ...‬وغ���اب عنه���م‬ ‫ظن���وه ث���ورة‬ ‫ً‬ ‫كليا النـزف الباطن‪ ،‬ومضاعفات النـزف‬ ‫ًّ‬

‫الباط���ن‪ ،‬في األعضاء الحيوية للمجتمع‬ ‫وف���ي ش���رايين روح���ه‪ .‬ه���ذا م���ا حصل‬

‫ف���ي تاريخنا القري���ب‪ ،‬باس���تثناء المظهر‬

‫دموعا ب�ل�ا حول وال حيل���ة‪ ،‬في زمن‬ ‫عي���ن تنفس���ت‬ ‫وك���م‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬

‫والتمثي���ل الخ���اص ألبط���ال كفاح االس���تقالل المس���تمد قوتـه‬

‫س ف���ي وجه أن���اس ال يعرفون‬ ‫مش���اعر القل���وب بأحادي���ث َن ْف ٍ‬

‫والصفوة المكنونة في هذه الحملة المباركة باعتبار منطلقاتها‪.‬‬

‫أحم���ر يحاصره اليأس أدخن ًة س���وداء من كل جهة‪ ،‬وصرخت‬

‫م���ن اإليم���ان واألمل والعزم‪ .‬ه���ذا‪ ،‬مع إجهاضن���ا حتى للقوة‬

‫م���ا الخجل‪ ،‬وقالت ف���ي أنينها‪" :‬ما الرجاء م���ن حيارى فتحوا‬ ‫أش���رعتهم لريح اإللحاد‪ ،‬ومن ُبل ٍه يصفقون لكل واحد ولكل‬

‫حصلت‪.‬‬

‫أم���ام الق���وة‪ ،‬ومن ش���رف وعزة ملوث���ة؟ لكن ما اهت���ز تزعزع‪،‬‬

‫وتوس���عت الهوة بينها في الس���نين األخيرة‪ ،‬إن لم تقع في فقر‬

‫شيء‪ ،‬ومن منكوبي الوجدان المعتادين على طأطأة رؤوسهم‬

‫وم���ا انه���دم خ���رب‪ ،‬وما ذه���ب انقطع‪ ،‬ولم يحل محله ش���يء‬

‫جديد‪ .‬نعم‪ ،‬قد أزيل ما تحطم ولم يقم مقامه ش���يء‪ ،‬فانقلب‬ ‫رأس���ا عل���ى عقب باعتبار قيمه‪ .‬ذلك بش���هادة القلق‬ ‫المجتمع ً‬ ‫وضياع األمان المحس���وس ‪-‬في عصرنا الحاضر خاصة‪ -‬في‬

‫فعسير أن تتحقق وحدة كالتي تحققت أو نهضة وحيوية كالتي‬ ‫فالحاص���ل أن مجامي���ع الن���اس التي انفصل���ت عن بعضها‬

‫مدق���ع ف���ي حياته���ا الفكرية وروحه���ا وجوهره���ا‪ ،‬فقد وقعت‬

‫ف���ي االغتراب ع���ن بعضها واالحت���راب فيما بينه���ا كالذئاب‪.‬‬

‫فالبي���اض عن���د بعضه���م س���واد عن���د غيره���م‪ ،‬وما يدع���و إليه‬

‫بعضه���م يخالف���ه غيرهم‪ ،‬والبديل المقترح م���ن بعضهم داعية‬

‫هم‬ ‫أغوار قلوبنا‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬حتى العقالنيين الواقعيين(!) الذين ال ّ‬ ‫لهم إال تحقيق مآربهم اليومية‪.‬‬

‫ومع هذه الس���لبيات‪ ،‬تخيل مدى هذا االحتراب‪ ،‬أو قل عراك‬

‫يوم���ا بعد يـوم حت���ى جعلت الحياة‬ ‫والمعض�ل�ات المتش���ـابكة ً‬

‫الحق وأقرب‪.‬‬

‫ب���م ننجـ���و مـن الفق���ر األخالقي‬ ‫أرجوك���م أن تتفك���روا‪َ ...‬‬

‫ثقي�ل�ا وحي���رة ال تط���اق؟ وكي���ف نتخلص م���ن نوبات‬ ‫حم�ل�ا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أمراضن���ا الفردي���ة والعائلي���ة واالجتماعي���ة؟ وكيف نس���ير إلى‬ ‫المستقبل في ثقة واطمئنان؟‬

‫أفكارا حالم���ة وخيالية من هن���ا وهنالك؟ أم‬ ‫ه���ل نس���تورد‬ ‫ً‬

‫بعقلي���ة العص���ر التي نح���اول أن نبني عليها كل ش���يء؟ كال‪...‬‬ ‫منطق كهذا‬ ‫الحمل األثقل من جبل "قاف"‬ ‫كال! لن يحمل هذا‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬

‫هزيم���ة عن���د غيره���م‪ ،‬وصالب���ة بعضهم تعصب عن���د غيرهم‪.‬‬ ‫العميان‪ ،‬وال قس���طاس يرتضيه الجميع لمعرفة أيهم أدنى إلى‬ ‫ولذل���ك‪ ،‬نح���ن اليوم في أمس الحاج���ة إلى طريق يوصلنا‬

‫إل���ى الحقيقة والفضيل���ة‪ ،‬ومنهج تفكير ال يخدعن���ا‪ ،‬وموازين‬

‫ال تضلن���ا‪ .‬والواقع أن الوج���دان والقيم األخالقية مصادر نور‬ ‫تكفي لحل كثير من المعضالت‪ .‬لكن في أيامنا هذه‪ ،‬الوجدان‬ ‫اجت ّزا من‬ ‫جريح والقيم األخالقية شتات‪ .‬فهذان المحركان قد ُ‬

‫وجففت ينابيعهما‪.‬‬ ‫الجذور ُ‬

‫‪3‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫من الفوضى إلى النظام‬ ‫(‪)1‬‬

‫أنقاضا‬ ‫من���ذ عصور والناظر إلى مجتمعنا يرى‬ ‫ً‬

‫نـزع���ت حركات التغي���ر والتحول األخيرة في العالم القناع‬

‫والفكر‪ .‬فما زال المجتمع يبحث عن نظام وفكر‬

‫الغش���اوة ع���ن عيونن���ا إل���ى ح���د م���ا‪ ...‬فتوضحت حقيق���ة كنه‬

‫وأنكا ًث���ا من حيث األخ�ل�اق والفضيلة والعلم‬

‫بدي���ل في التربية والفن واألخ�ل�اق‪ .‬والصحيح هو أننا بحاجة‬ ‫إل���ى إرادات فوالذية وأدمغة أصيلة تحتض���ن الوجود بأعماقه‬

‫جميع���ا‪ ،‬واإلنس���ان برحاب���ه الدنيوي���ة واألخروية وتفس���رهما‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ب���ل وتتدخ���ل ف���ي األش���ياء بعن���وان خالف���ة اهلل ف���ي األرض‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )36‬‬

‫‪2‬‬

‫ع���ن كثير من الوجوه‪ ،‬وأظهرتها على حقيقتها‪ .‬كذلك أزاحت‬

‫فش���يئا‪ .‬فاستطعنا أن نرى ما حصل‬ ‫شيئا‬ ‫ً‬ ‫األش���خاص واألشياء ً‬

‫بص���ورة أوضح ونس���تنبط من الحوادث نتائج أس���لم وأمتن‪...‬‬

‫وصرنا نفهم أن ما تعرض إلى ش���ؤم اإلبعاد والترك والنس���يان‬ ‫ف���ي ه���ذا البلد منذ قرنين‪ ،‬لي���س الزي والفكر وفلس���فة الحياة‬


‫المحتويات‬ ‫ من الفوضى إلى النظام‪ /  1-‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫حاجة الدعوة إلى العلم  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية) ‬

‫ يا ِّ‬ ‫معلمي العالَم ارشدوا  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (قضايا فكرية) ‬ ‫مرور البرق بين العلم واإليمان  ‪ /‬د‪ .‬عبد الدائم الكحيل (علوم) ‬ ‫ عالج الداء من معين سيرة سيد األنبياء  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬فتحي حجازي (قضايا فكرية) ‬ ‫سالِك الطريق  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫ اجتماعية اإلسالم ‪ /‬عبد احلق معزوز (قضايا فكرية) ‬ ‫التربية اإلسالمية والبعد اإلستراتيجي لقضايا التنمية‪ /  2-‬أ‪.‬د‪ .‬خالد الصمدي (تربية )‬ ‫ السلطان عبد الحميد الثاني والتصوير الفوتوغرافي  ‪ /‬حممد هبادير دوردجني (تاريخ وحضارة) ‬ ‫تعبير الرؤيا‪ ..‬محاولة جادة الستكناه النص ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل (أدب) ‬ ‫ جالوت المهزوم  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫‪2‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪36‬‬

‫وكان له ما أراد  ‪ /‬د‪ .‬عبد اهلل صاحل العريين (قصة) ‬

‫‪37‬‬

‫حدود التجديد واالجتهاد في الفقه اإلسالمي ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬علي مجعة (دراسات إسالمية) ‬

‫‪39‬‬

‫ابتهال مع موكب الحجيج  ‪ /‬حممد حممود عبد العال (شعر) ‬

‫‪42‬‬

‫اإلنسان المعرفي ‪ /‬أديب إبراهيم الدباغ (أدب) ‬

‫‪43‬‬

‫منزلة الفنون الصوتية في الرؤية اإلسالمية  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عمار جيدل (ثقافة وفن) ‬

‫‪44‬‬

‫السالم وموقف اإلسالم منه ‪ /‬د‪ .‬إسحاق بن عبد اهلل السعدي (قضايا فكرية) ‬

‫‪47‬‬

‫المسلمون وحقوق اإلنسان  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬أمحد عبادي (قضايا فكرية) ‬

‫‪52‬‬

‫رسالة حراء الخفاقة في اآلفاق واألنفس  ‪ /‬د‪ .‬مسري بودينار (أنشطة ثقافية )‬

‫‪57‬‬


‫االفتتاحية‬

‫دروس من محنة العلماء‬

‫العدد‪36:‬‬ ‫السنة الثامنة‬ ‫(مايو ‪ -‬يونيو) ‪2013‬‬

‫عبر عنها عنوان المقال‬ ‫يأتيكم العدد الجديد من حراء في أجواء ملبدة تعيش���ها أمتنا‪ ،‬ربما ّ‬ ‫الرئي���س للع���دد "م���ن الفوضى إلى النظام" لألس���تاذ محم���د فتح اهلل كولن‪ ،‬إل���ى جانب باقة من‬ ‫مقاالت نخبة من العلماء والمفكرين‪.‬‬ ‫كت���اب مجلة حراء‬ ‫ويقال عادة إن المناس���بة ش���رط؛ ومناس���بة ال���كالم هي فقدنا لكاتب من ّ‬ ‫البارزي���ن‪ ،‬ب���ل واحد من علماء األمة الكبار الذين ال يختل���ف اثنان من أبنائها على علو كعبهم‬ ‫وس���عة علمهم وس���بق عطائهم‪ ...‬إنه العالمة الش���يخ محمد س���عيد رمض���ان البوطي رحمه اهلل‬ ‫ال‪ ،‬وتجاه‬ ‫رحمة واسعة‪ .‬وألن المناسبة األليمة حبلى بالعبر والدروس‪ ،‬فالواجب تجاه األمة أو ً‬ ‫ثاني���ا‪ ،‬هو الوق���وف عليها لتكون األحداث عب���رة‪ ،‬والمحن عظ���ات هادية على طريق‬ ‫علمائه���ا ً‬ ‫المستقبل بإذن اهلل‪.‬‬ ‫من القصص البليغة في مثل هذا المقام‪ ،‬ما يروى عن هارون الرشيد (الخليفة العباسي) أنه‬ ‫أجل‬ ‫أنبل المراتب؟" قال‪ :‬ما أنت فيه يا أمير المؤمنين‪ ،‬فال أحد ُّ‬ ‫يوم���ا ليحيى بن أكثم‪" :‬ما ُ‬ ‫ق���ال ً‬ ‫أجل مني رجل ُيع ِّلم في حلقة ويقول‪ :‬قال اهلل وقال رس���ول‬ ‫من���ك‪ .‬فقال هارون الرش���يد‪" :‬ب���ل ُّ‬ ‫اهلل؛ ألن اسمه مقترن باسم رسول اهلل ‪."‬‬ ‫الكلمات الس���ابقة تش���ير إلى معنى غائب في واقعنا‪ ،‬واقع اش���تد فيه التجاذب حتى أنس���ى‬ ‫حقائ���ق الدي���ن الكلي���ة الجامعة‪ ،‬ومقتضي���ات االنتماء لألم���ة الواحدة‪ .‬وأهم ه���ذه المعاني‪ ،‬أن‬ ‫مكانة العالم ورسالته هي أسمى وأهم من كل مكانة عامة أو موقف أو اختيار عابر في الحياة‬ ‫تج ُّبه���ا االجته���ادات‪ ،‬وال ينبغي لها أصاب���ت أو أخطأت‪.‬‬ ‫الدني���ا؛ وعلي���ه ف���إن كرام���ة العا ِلم ال ُ‬ ‫المتبادل بين‬ ‫جي ًدا أن هذا االفتراق وآثاره البادية في االس���تنزاف‬ ‫َ‬ ‫بل ما ينبغي‪ ،‬هو أن ُيع َلم ّ‬ ‫ال يوافق على اجته���اد العا ِلم في الرأي‬ ‫أبن���اء األم���ة ال راب���ح منه بي���ن أبنائها‪ ،‬ولئن كان للم���رء أ ّ‬ ‫يضيعون حياة العا ِلم في الدنيا‪ ،‬غير مبالين‬ ‫فيخالفه في أساسه ودليله‪ ،‬فليس له أن يقر فعل من ّ‬ ‫مقترفه أو دوافعه‪.‬‬ ‫بضياع آخرتهم نتيجة لفعلهم هذا‪ًّ ،‬أيا كان ِ‬ ‫لقد جاءت هذه المصيبة في ظل أجواء الفتنة المحيطة باألمة في كثير من س���احاتها‪ ،‬وهي‬ ‫فيتصي ُد فرصتها م���ن ال يحب الخي���ر لهذه األمة‬ ‫فتن���ة يمتح���ن فيه���ا العلماء أكثر م���ن غيره���م‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تجل أليم من تجليات محنة‬ ‫لينتق���ص م���ن مكانة علمائها جملة‪ ،‬ويرمي دورهم في حياتها‪ ،‬في ّ‬ ‫مؤسسة العلم والعلماء في واقعنا‪.‬‬ ‫إن "موت العا ِلم ثلمة في اإلسالم‪ ،‬ال يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار"‪ ،‬هكذا يلخص‬ ‫اإلم���ام الحس���ن البصري ‪ ‬عالقة العلماء بحياة أمته���م‪ ،‬أو حياتهم ومماتهم بحالها ومآلها‪...‬‬ ‫أما إن كان موت العلماء مقتر ًنا بأزمنة الفتنة فتلك قصة أخرى‪ ...‬قصة المحنة في اش���تدادها‪..‬‬ ‫قص���ة الش���دة حي���ن تبلغ مداها‪ .‬غي���ر أن لطف اهلل الس���ابق ورحمته بهذه األمة‪ ،‬تق���رران أن بعد‬ ‫اش���ت ِّدي أزم��� ُة تن َف ِ‬ ‫رجي***قد‬ ‫العس���ر‬ ‫يس���را وأن لي���س بعد ه���ذا الضيق إال الفرج‪ .‬ألم ينش���دوا‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫قت�ل�ا ف���ي محاري���ب المس���اجد؟!‬ ‫وأي ش���دة أعظ���م م���ن م���وت العلم���اء ً‬ ‫بالب َل ِ‬ ‫���ج‪ّ ...‬‬ ‫آ َذ َن َلي ُل���ك َ‬ ‫غير أن أفق انبالج الظلمة ال يعفي من أمانة بيان الحق‪ ،‬ومسؤولية التمسك بمعالم االهتداء‬ ‫وأيا‬ ‫وجادة الصواب‪ ،‬برغم ش���دة الفتن‪ ،‬والعض على الكلمة الس���واء‪ ...‬ففيها النجاة للجميع‪ًّ .‬‬ ‫ومرب ًيا‪ ..‬فاللهم‬ ‫تكن التداعيات والظروف‪ ،‬فلمثل تلك المعاني عاش العالمة "البوطي" مع ِّل ًما‬ ‫ّ‬ ‫اغفر له‪ ،‬وارحمه رحمة واسعة‪ ،‬واجعله عندك في مقعد صدق‪ ...‬آمين‪.‬‬


‫العدد‪ / 36 :‬السنة الثامنة ‪( /‬مايو ‪ -‬يونيو) ‪2013‬‬ ‫مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m‬‬

‫الواو‬ ‫َ‬ ‫لهج باسمه‪،‬‬ ‫بلغة التجريد تَ ُ‬ ‫دوما "يا اهلل"‪،‬‬ ‫بانحناءتها تقول ً‬ ‫فوا أس ًفا على قوم َج ِهلوا رسالتَها‪،‬‬ ‫إلى السجود تُنبِّهنا إشارتُها‪..‬‬ ‫***‬

‫من الفوضى إلى النظام‪1-‬‬

‫المسلمون وحقوق اإلنسان‬

‫رسالة حراء الخفاقة‬ ‫في اآلفاق واألنفس‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.