رواية رجل من مدينة الله

Page 1

‫رواية‬

‫ٌ‬ ‫رجــــل مـن مدينـــــة اهلل‬ ‫ت�أليف‪ :‬د‪.‬منقذ عقاد‬


‫الكتاب‪ :‬رجل من مدينة اهلل‬ ‫امل�ؤلف‪ :‬منقذ نادر العقاد‬ ‫الت�صنيف‪ :‬رواية‬

‫النا�شر‪ :‬مجموعة دار �أبي الفداء العالمية للن�شر والتوزيع والترجمة‬ ‫الطبعة الأولى‪ :‬يناير (كانون الثاين) ‪1997‬‬

‫لال�ستف�سار عن الكتاب يرجى االت�صال على‪:‬‬

‫اجلمهورية العربية ال�سورية‪00963951211079 :‬‬ ‫الإمارات العربية املتحدة‪00971508289982 :‬‬

‫الكتاب متوفر على الإنرتنت‪:‬‬ ‫‪4shared‬‬ ‫‪www.4shared.com‬‬

‫�سوريا‪ ،‬حماة‪� ،‬ساحة العا�صي‪ ،‬مقابل الربيد‬ ‫�ص‪.‬ب‪ ،132 :‬هاتف‪ 033-2224438 :‬فاك�س‪033-2224439 :‬‬ ‫موبايل‪00963951211079 :‬‬

‫‪Syria, Hamah, Sahet Al Assy.‬‬ ‫‪P.O.Box: 132, Tel: 033-2224438 Fax: 033-2224439‬‬ ‫‪Mobile: 00963951211079‬‬

‫جميع حقوق الطبع و�إعادة الطبع والن�شر والتوزيع حمفوظة لـ«جمموعة دار �أبي الفداء العاملية للن�شر والتوزيع والرتجمة»‬ ‫ال ي�سمح ب�إعادة �إ�صدار هذا الكتاب �أو �أي جزء منه‪� ،‬أو تخزينه يف نطاق ا�ستعادة املعلومات �أو نقله ب�أي‬ ‫�شكل من الأ�شكال‪ ،‬دون �إذن خطي من جمموعة دار �أبي الفداء العاملية للن�شر والتوزيع والرتجمة‪.‬‬ ‫‪abdullahalakkad8‬‬

‫جمموعة‪-‬دار‪�-‬أبي‪-‬الفداء‪-‬العاملية‪-‬للن�شر‪-‬والتوزيع‪-‬والرتجمة‬


‫ ‬ ‫الف�صل الأول‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫بد�أ حامد زوج املرحومة «�صباح جميل ال�سعيد» بقراءة مذكراتها‬ ‫التي وجدها يف درجها اخلا�ص املجاور ل�سريرها‪ .‬كان يبدو كئيب ًا �إلى‬ ‫حد ما‪ ،‬لكنه ا�ستطاع التغلب على حزنه وكمده بطريقته اخلا�صة * فهو‬ ‫ٍّ‬ ‫�أدرى بنف�سه و�أ�سرارها كما يقول دائم ًا‪� .‬أطف�أ الفانو�س خلم�س دقائق‬ ‫ثم �أ�شعله من جديد وقد ظهر وجهه ب�سحنة جديدة �أكرث �إ�شراق ًا‪ ،‬فتح‬ ‫الدفرت و ربط املنبه على ال�ساعة الثالثة كي يوقظه من رحلته يف هذه‬ ‫املذكرات بالوقت املنا�سب‪ ،‬وبوا�سطة ال�سبابة والإبهام قلب ال�صفحة‬ ‫الأولى و�شرع يف القراءة‪:‬‬ ‫مل �أعتد يوم ًا على كتابة املذكرات بيد �أنني عندما تزوجت من‬ ‫حامد و�سافرنا مع ًا �إلى �أمريكا �أح�س�ست بفراغ كبري‪ ،‬خا�ص ًة و�أننا بع ُد‬ ‫مل ننجب �أطفا ًال‪� ،‬أ�ضف �أن الدرا�سة ت�سرق من زوجي الكثري من وقته‪،‬‬ ‫لذا فقد خطرت ببايل فكرة كتابة مذكراتي مع عائلتي قبل زواجي‬ ‫بحامد‪ .‬بالت�أكيد لن �أقارن نف�سي ب�أخي مرهف �إذ �أنه الأف�ضل بال منازع‬ ‫يف كتابات كهذه‪ ،‬لكنني �أ�شعر اليوم بحاجة �إلى رواية ذلك اجلزء من‬ ‫حياتي ولو لهذه الورقات‪.‬‬ ‫بد�أت حكايتي يف كانون الأول من عام ‪ 1985‬حيث �أقطن وعائلتي‬ ‫مدينة حماة تلك املدينة الهادئة املحبة للعزلة من املدن ال�سورية‪ ،‬والتي‬ ‫متتاز بنواعريها التاريخية الرائعة وطبيعتها الأندل�سية اخلالبة‪،‬‬ ‫يق�سمها نهر العا�صي �إلى جز�أين‪ :‬احلا�ضر و ال�سوق وي�صل بينهما‬ ‫ج�سر ال�سرايا يف مركز املدينة‪ ،‬غري �أن هذه الق�سمة الطبيعية قد‬ ‫ق�سمت �أهلها �إلى فئتني‪� :‬أهل احلا�ضر و�أهل ال�سوق‪� .‬أما �أهل احلا�ضر‬ ‫في�صفون �أنف�سهم بال�شهامة والرجولة ويل�صقون ب�أهل ال�سوق امليوعة‬ ‫‪4‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫واخلنوثة‪ ،‬و�أما �أهل ال�سوق في�شهدون لأنف�سهم بالتمدن واملعا�صرة‬ ‫ويتهمون اجلانب الأول بالبداوة وعدم التمدن‪ ،‬ومل يقف الطرفان عند‬ ‫هذا بل تعدياه �إلى املذاهب الفقهية‪ ،‬فج ُّل �أهل احلا�ضر على املذهب‬ ‫ال�شافعي وغالبية �أهل ال�سوق على املذهب احلنفي‪ ،‬وال �أدري �إن كان‬ ‫للحكم العثماين واالحتالل الفرن�سي من بعده ي ٌد يف ذلك‪.‬‬ ‫رمبا �أ�سرفت قلي ًال يف احلديث عن �أهل مدينتي على ح�ساب‬ ‫مدينتي‪ ،‬وعزائي �أن تراث املدن حمفوظ يف �سجالت ودفاتر‪� ،‬أما طباع‬ ‫�أهلها فال يعرفها حق ًا �إال �أهلها‪.‬‬ ‫واليوم وهلل احلمد باتت معامل تلك الفرقة منح�سرة عن‬ ‫املجموع با�ستثناء قلة قليلة ال �شاغل لها �إال هذه املهاترات‪ ،‬فقد لعب‬ ‫العلم والوعي دورهما القوي يف ر�أب ال�صدع‪� ،‬إذ العلم عد ُّو اجلهل ومن‬ ‫نعرات كهذه‪.‬‬ ‫احلمق تزكية ٍ‬ ‫�أعود الآن �أدراجي لعائلتي حيث كنا ن�سكن يف حي جنوب الثكنة‪،‬‬ ‫�ستت�ساءلون بال ريب �أي ثكنة؟ ف�أجيبكم ب�أنها ثكنة املحتل الفرن�سي‬ ‫�آنذاك ومنذ ذلك احلني تدعى منطقتنا بجنوب الثكنة‪ .‬كان والدي‬ ‫موظف ًا يف مديرية الرتبية و�أمي معلمة يف مدر�سة العبا�سية‪ ،‬الذكور من‬ ‫�إخوتي‪� :‬أحمد ومرهف‪ ،‬والإناث‪ :‬عائ�شة و�أنا‪� ..‬أوه ن�سيت �أن �أع ِّرفكم‬ ‫(�ص ُّبوحة)‪ .‬وذات يوم بعيد‬ ‫با�سمي‪� :‬أدعى �صباح وينادونني يف البيت َ‬ ‫عندما كنت ال �أزال تلميذة يف مدر�سة العبا�سية عدت �إلى البيت باكر ًا‬ ‫على غري عادتي فاملعلمة اعتذرت عن الدر�س الأخري لوعكة �صحية �أملَّت‬ ‫بها‪ ،‬وحينما و�صلت �إلى البيت وهممت بقرع اجلر�س �سمعت �صوت بكاءٍ‬ ‫‪5‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ونحيب َّ‬ ‫فدق قلبي ب�ش ّدة وخ�شيت من فاجعة ح ّلت بنا لكنني متالكت‬ ‫نف�سي وقرعت الباب وملّا دخلت و�شاهدت والدي و�إخوتي �أُث ِلج �صدري‬ ‫و�سكنت هواج�سي‪ .‬كانت عمتي خديجة من ينتحب‪ ،‬مل �ألق التحية على‬ ‫�أحد منهم‪ ،‬بل دخلت �إلى غرفتي بهدوء‪ ،‬غيرّ تُ مالب�سي ثم ت�سللت‬ ‫خفي ًة �إلى جوار �أختي عائ�شة و�س�ألتها هم�س ًا عما يحدث‪ ،‬ف�أجابتني‬ ‫ب�صوت يحاول تطويق ت�سا�ؤالتي‪ :‬ا�صمتي‪ ،‬لقد ُط ِّلقت عمتك!‬ ‫ٍ‬ ‫ وملاذا؟ ت�ساءلت ب�صوت مل ت�صل ذبذباته �إ ّال لها‪.‬‬‫�أن�صتي حلديث عمتك و�سوف تعرفني ما جرى‪.‬‬‫كانت عمتي تبدو منفعلة وكلما حتدثت رفعت يدها اليمنى ثم‬ ‫هوت بها على فخذها املك َّور‪ .‬مل �ألتقط اجلواب‪ ،‬فعمتي تتحدث بع�صبية‬ ‫مفرطة و�أنا مل �أعتد بع ُد متابعة �أنا�س ير�شون كلماتهم على الأ�سماع‬ ‫دفعة واحدة‪.‬‬ ‫يف امل�ساء‪ ،‬وجدت الفر�صة مواتية ملعرفة ما حدث ونحن يف‬ ‫فرا�ش النوم �إذ �أخربتني عائ�شة احلكاية‪ ،‬فعمتي قد طلقت من زوجها‬ ‫لأنه رجل فظ غليظ القلب‪� ،‬سكري من الدرجة الأولى‪ ،‬يتذرع دوم ًا بعقمه‬ ‫يف تربير �سكراته و�سوء معاملته لها‪ ،‬وكلما حاولت عمتي �إفهامه �أنها‬ ‫را�ضية مبا هو كائن‪ ،‬و�أنّ اخلمرة لي�ست احل ّل املنا�سب‪ ،‬ظنها تلوي يده‬ ‫فيزيد الطني ِب ّل ًة وي�شرب �أكرث من باب ال ِنكاية‪ ،‬وقد قام م�ؤخر ًا ب�ضربها‬ ‫وتخوينها بل وحاول قتلها �أكرث من مرة وهو �سكران خمبول‪.‬‬ ‫‪ ..‬يا له من زوج قذر‪ ،‬هكذا كانت تقول والدتي‪ ،‬ومبا �أنها ت�أثرت‬ ‫‪6‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫حلالها و�أ�شفقت عليها فقد ملّحت لوالدي ب�إمكانية �إقامتها معنا‪،‬‬ ‫فا�ستجاب والدي وح�صل ما متنت‪ .‬بيد �أن الأمور مل جتر على خري ما‬ ‫يرام الحق ًا‪ ،‬فها هي �أمي قد بد�أت تت�ضايق من تدخل عمتي يف �ش�ؤوننا‬ ‫�صغريها وكبريها وقد �ص ّرحت لوالدي بذلك �أكرث من مرة و�أخربته �أنَّ‬ ‫عليه �إيجاد ٍّ‬ ‫حل لتلك امل�شكلة فهي �أخته وهو �أدرى بها من غريه‪ ،‬فما‬ ‫يكون من والدي �إال �أن ُير ِّبت على كتفها ويقول مازح ًا‪:‬‬ ‫ • ُك ّفي بالءك عنا يا امر�أة‪.‬‬ ‫فرت ُّد عليه �أمي بلهجة املقهور‪:‬‬ ‫ •�صدق من قال‪ :‬افعل خري ًا جتن �شر ًا ثم تلتفت لعائ�شة‬ ‫فتنهرها قائلة‪:‬‬ ‫ •هيا اذهبي لدرو�سك‪ ،‬ف�أنت مقبل ٌة على فح�ص ال�شهادة‬ ‫الإعدادية‪ ،‬وتعلمني ما لهذه ال�شهادة من � ٍأثر يف م�ستقبلك‪.‬‬ ‫فرت ُّد �أختي قائلة‪:‬‬ ‫ •حا�ضر‪ ،‬دقيقة و�أذهب‪ ،‬ولكنها ما �إن تدخل غرفتها حتى‬ ‫تخاطب نف�سها وهي تنظر للمر�آة وتقول‪:‬‬ ‫ •درا�سة‪ ،‬درا�سة‪� ،‬أُ ٍف‪ ..‬لقد مللتُها‪ .‬ف�أجيبها �أنا‪:‬‬ ‫ •�إن �أمك تريد م�صلحتك‪ ،‬ثم �إن الدرا�سة �شيء جميل ولي�س‬ ‫مم ًال كما ت َّدعني ( يف احلقيقة كنت هنا �أمثل دور النا�صحة‬ ‫‪7‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫لال�ستفزاز لي�س �إال )‬ ‫ •ا�سكتي �أنت‪ ،‬وهل درو�سك كدرو�سي؟ اقرئي مث ًال هذه‬ ‫الفقرة وا�شرحيها يل �إن كنت فاحلة كما تقولني‪.‬‬ ‫ •وكيف �أ�شرحها لك وهي لي�ست من درو�سي؟ �أال تذكرين‬ ‫كيف كنت ت�ست�صعبني درو�سي التي ُت ِّ‬ ‫�سخ ِفي َنها الآن؟‬ ‫ •اذهبي عن وجهي و�إال �ضربتك‪.‬‬ ‫نور‪.‬‬

‫فكنت �أَ ِف ُّر منها �إلى ال�صالون خ�شية وعيدها‪ ،‬فالغ�ضب نار بال‬

‫يف اليوم التايل زارتنا جارتنا �أم ح�سان‪ ،‬وح�سان هذا �صديق‬ ‫لأخي مرهف منذ املهد و�أمه �صديقة لأمي �أي�ض ًا‪ ،‬فقد �سك ّنا مع ًا هذا‬ ‫احلي منذ وقت طويل‪ ،‬وقد تويف زوج �أم ح�سان بحادث طائرة ولهذا‬ ‫فهي تعي�ش وحيد ًة مع ابنها وهو يعني لها كل �شيء يف هذه احلياة‪.‬‬ ‫ح�سان ومرهف مقبالن �أي�ض ًا على امتحان ال�شهادة الإعدادية‪ ،‬فقد‬ ‫فاتني �أن �أخربكم �أن مرهف وعائ�شة تو�أم فال عجب �أن يكونا يف ال�سنة‬ ‫الدرا�سية نف�سها‪ .‬هما تو�أم �أجل‪ ،‬لكنَّ الطبائع خمتلفة‪ ،‬فعائ�شة �سريعة‬ ‫االنفعال‪ ،‬متقلبة الأمزجة وامل�شاعر‪ ،‬ال تدع ل�صدرها �سر ًا يحظى به �إ َّال‬ ‫ووزعته جمان ًا على �صدور الآخرين من الأقارب والأباعد‪ ،‬غريب ٌة �أختي‬ ‫حق ًا‪ ،‬لكنها وعلى الرغم من ذلك فهي ت�سلب منهم االحرتام ب�شكل يثري‬ ‫العجب‪ .‬و�أما مرهف فهادئ‪ ،‬كتو ٌم‪� ،‬صدره كزمرة دمه ي�أخذ وال يعطي‬ ‫�أحد ًا‪ ،‬ووجهه مثل وجه الليل ي�ستميلك �إلى الكالم من دون �أن ي�صرح‬ ‫‪8‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫بذلك‪ ،‬تنب�أ له �أ�ستاذ اللغة العربية �أنه �سي�صبح �أديب ًا حمرتف ًا‪ ،‬وهو‬ ‫ُيل َّقب بيننا باملت�أمل‪� ،‬أما عائ�شة فلقبها “مونتي كارلو” العائلة‪.‬‬ ‫‪� ..‬أم ح�سان ت�س ُّر لأمي‪:‬‬ ‫جاءين منذ يومني حممود وهو يريد الزواج مني‪.‬‬‫ �أجاد ٌة �أنت فيما تقولني؟‬‫ �أق�سم لك‪ ،‬حتى �أنه كان برفقة والدته العجوز‪.‬‬‫ وما موقف ح�سان من ذلك؟‬‫ اخف�ضي �صوتك‪ ،‬ف�أنا مل �أخربه‪� ..‬إذ كان وقتها خارج البيت‪،‬‬‫لهذا فال تخربي �أحد ًا من �أوالدك وخ�صو�ص ًا مرهف‪ .‬هنا نه�ضت‬ ‫�أمي و�أخذت تتجول يف ال�صالون للت�أكد من خلوه منا‪ ،‬فتبعتها اجلارة‬ ‫مت لهما القهوة ونظرت يف‬ ‫بالنهو�ض ثم وقفتا �أمام ال�شرفة‪ ..‬ق َّد ُ‬ ‫عيني والدتي التي �أوم�أت يل باالن�صراف‪ ،‬تظاهرت بعدم االكرتاث‬ ‫أ�صبحت خارج ال�صالون حتى‬ ‫حلديثهما كي ال ينتبها يل ولكنني ما �إن �‬ ‫ُ‬ ‫رحت �أن�صت لهما من وراء باب غرف ٍة جماورة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫احت�ست �أمي قلي ًال من القهوة‪ ،‬وفعلت جارتنا ال�شيء نف�سه ثم‬ ‫عادتا �أدراجهما �إلى(الكنبة)‪.‬‬ ‫هم�ست �أمي لها‪:‬‬ ‫‪9‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫وماذا �ستفعلني؟‬‫ ال �أعرف‪.‬‬‫ هل ترغبني بالزواج منه؟‬‫‪� ..‬صمتت اجلارة قلي ًال ثم قالت بنربة تعلوها م�سحة حياء‪:‬‬ ‫ل�ست مت�أكدة بعد‪ ،‬فمحمود رجل م�ستقيم وو�سيم وفوق هذا‬‫قد م َّر بنف�س جتربتي‪� ،‬إال �أ ّنه خرج منها دون �أطفال �أما �أنا فخرجت‬ ‫بح�سان‪ ،‬وتعلمني ما يعني يل‪� ،‬إنه دنياي كلها و�أنا ال �أريد �أن �أخ�سره‪.‬‬ ‫لك َّن ِك ب�ش ٌر‪ ،‬ومن حقك �أن تتزوجي وتلتفتي حلياتك ف�أنت ال‬‫أدراك �أن ح�سان �سيبقى �إلى‬ ‫تزالني يف العقد الثالث من عمرك‪ ،‬وما � ِ‬ ‫جوارك العمر كله؟‬ ‫ِ‬ ‫ماذا تعنني؟‬‫يوم �شاب ًا وال ريب �أنه وقتها �سيفكر‬ ‫�أعني �أنه �سيغدو ذات ٍ‬‫بالزواج واال�ستقالل‪.‬‬ ‫ ال‪ ..‬ال‪ ..‬لن يفعلها‪.‬‬‫ بل �سيفعلها‪ ،‬فهذا حقه الطبيعي‪.‬‬‫ يا �إلهي ماذا �أفعل‪ ،‬قالتها وقد و�ضعت الفنجان بح َّدة على‬‫‪10‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫الطاولة ثم ا�ستدركت و�س�ألت �أمي‪ :‬لو كنت مكاين فماذا تفعلني؟‬ ‫أطرقت والدتي يف الأر�ض ف�‬ ‫أوج�ست يف نف�سي خيف ًة و�أنا‬ ‫ُ‬ ‫حينها � ْ‬ ‫�أترقب جوابها‪ ،‬فقد قررت يف نف�سي �أال �أكلمها �أبد ًا �إن قالت‪�( :‬أتزوج)‪.‬‬ ‫لكنها تركت الأمر معلق ًا وقالت‪:‬‬ ‫ ال �أ�ستطيع �أن �أجيبك‪ ،‬فالأمر لي�س �أمر ت�صور بقدر ما هو �أمر‬‫�إح�سا�س وجتربة‪.‬‬ ‫اجلارة وقد تنف�ست ال�صعداء‪:‬‬ ‫ح�سن ًا‪ ،‬لن �أتزوج منه‪ ..‬يبدو �أن الأمر فوق ا�ستطاعتي‪� ،‬س�أعتني‬‫بولدي حتى يغدو رج ًال‪� .‬أ�ضيفي �أنَّ الأرامل يف جمتمعاتنا �إن �أردن‬ ‫الزواج ُن ِظر �إليهُنَّ على �أنهُنَّ يرك�ضن وراء الرجال‪ ،‬ال على �أ َّنهُنَّ ُير ْدنَ‬ ‫ال�سرتة وتلبية حاجاتهنَّ امل�شروعة‪.‬‬ ‫ال تكرتثي لكالم النا�س‪.‬‬‫ كيف ال �أكرتث‪ ،‬ف�أنا ال �أعي�ش يف جزيرة نائية �أو �أر�ض مهجورة‪،‬‬‫بل بني �أنا�س يهمني �أن �أعلم كيف ينظرون يل‪.‬‬ ‫دار بعدها نقا�ش مل �أ�ستطع �سماعه �إذ ك�شفني �أخي �أحمد‪،‬‬ ‫فحملني �إلى ال�شرفة املقابلة وقال موبخ ًا‪:‬‬ ‫أحد فالتج�س�س حرا ٌم‬ ‫ كم مر ٍة �س�أقول لك �أال تتج�س�سي على � ٍ‬‫وعيب‪.‬‬ ‫‪11‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫هذه �آخر مرة‪�َ ،‬صد ْقني‪.‬‬‫وعدته بذلك ويف �صوتي غ�صة ُبكاءٍ ‪.‬‬ ‫ح�سن ًا‪ ،‬مبا �أنك قد اعرتفت بخطئك فقد �ساحمتك‪ ،‬هيا اذهبي‬‫للفرا�ش‪.‬‬ ‫ذهبت للفرا�ش وال �أظن �أن احلديث بينهما قد طال كثري ًا �إذ‬ ‫عادت عمتي وعائ�شة من بيت عمي عبد اهلل‪ ،‬وال ريب �أنهما قد طويتا‬ ‫املو�ضوع �أمام عمتي و�إ َّال لعلم جميع اجلريان به‪ ،‬و�أنا فعلت ال�شيء نف�سه‬ ‫مع عائ�شة‪ ،‬فقد ورثت الرثثرة من عمتي‪ .‬لهذا مل �أبح لها بكلم ٍة‪ ،‬لكنها‬ ‫بدت كئيبة وخاملة‪ ،‬بفعل لزومها البيت حت�ضري ًا لالمتحان خا�ص ًة‬ ‫و�أنها ال تدر�س مع �أحد كما يفعل مرهف الذي يدر�س مع ح�سان‪ ،‬لهذا‬ ‫�أردت الرتويح عنها ف�أخربتها مبا كتمته عنها‪َ ،‬ف َر َب ْت وانت َ​َ�ش ْت ل�سماع‬ ‫َ‬ ‫املت�شائم �إلى وجه‬ ‫ال�شاحب‬ ‫العبو�س‬ ‫وخالل دقائق تب َّد َل الوجه‬ ‫اخلرب‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فردت يديها ومطتها يف كل‬ ‫أخذت نف�س ًا عميق ًا‪ْ ،‬‬ ‫ومرح‪ْ � .‬‬ ‫ُم ٍ‬ ‫حيوي ٍ‬ ‫نب�سط ٍ‬ ‫اجلهات وقالت يل‪:‬‬ ‫علمت بذلك؟‬ ‫كيف ِ‬‫ف�أجبتها ب�شيء من احلرج‪:‬‬ ‫هذا �سر‪.‬‬‫مل تكرتث كثري ًا لطريقة معرفتي اخلرب بقدر ما جذبها اخلرب‪.‬‬ ‫‪12‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫كم �أخط�أت ب�إخبار عائ�شة‪ ،‬فكي �أ�سليها بحت لها مبا ال يباح‪،‬‬ ‫�سر‪� ،‬إذ تغلب رغبة الكالم عندها على �إرادة‬ ‫فمثلها ال ت�ؤمتنُ على ٍ‬ ‫ال�صمت‪ .‬فها هي ذا قد �أخربت عمتي وعلمت واهلل من تخرب‪� ،‬إنها‬ ‫ِ‬ ‫ثرثارة مثلها فال عجب �أن تبتدئ بها فالطيور على �أ�شكالها تقع‪.‬‬ ‫خالل �أيام معدودات علم اجلريان كلهم بالأمر وبد�أ الغمز‬ ‫واللمز‪ ،‬لقد كانت �أم ح�سان حمقة فيما ذهبت �إليه‪ ،‬فها هو جارنا “�أبو‬ ‫رئيف” ي�صفها بال�شهوانية وتلك جارتنا “�أم �سامي” �شرعت تحُ و ِق ُل‬ ‫وتقول‪:‬‬ ‫ماذا جرى لعقل املر�أة‪ ،‬هل تريد �أن تتزوج وترمي بابنها يف‬‫ال�شارع؟ (ن�سوان �آخر زمن)‪ ..‬فتجيبها “�أم عبدو”‪� :‬أي واهلل (ن�سوان‬ ‫�آخر زمن) فحتى تربة زوجها مل جتف بعد‪ ( ،‬لك تفو عليها وعلى‬ ‫�أمثالها )‪.‬‬ ‫وهنا تتدخل احلاجة «�أم علي» وتقول بحزم وانفعال‪:‬‬ ‫كفاكنَّ خو�ض ًا يف �أعرا�ض النا�س ( يا عيب ال�شوم )‪ ،‬هل � نُ َّ‬‫أنت‬ ‫حق ًا ن�سا ٌء م�سلمات؟ وقد نه� َّ‬ ‫شنت يف �أختكنَّ �أم ح�سان كما تنه�ش الكالب‬ ‫جيف ًة ن ِتن ًة‪ ،‬ثم رفعت غطاء ال�صالة عن ر�أ�سها و�أكملت‪ :‬واهلل �أمركم‬ ‫عجيب‪� ،‬أال يوج ُد �شي ٌء �آخر ت َُخ ْ�ضنَ فيه غري �أعرا�ض النا�س؟ � نُ َّ‬ ‫أل�ست‬ ‫متزوجات وت�أوي الواحدة ِمن ُكنَّ �إلى �صدر زوجها كل ليلة (ولو قللت‬ ‫حياء) معكنَّ ثم لت�أتي وتقول‪ :‬هذا يجوز وهذا ال يجوز‪.‬‬ ‫عند هذا احلد �سكتت «�أم علي» فتابعت �أمي بحزم‪� :‬إنه الفراغ يا‬ ‫‪13‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫هم لهنَّ �سوى‬ ‫حاجة‪ ،‬فه�ؤالء الن�سوة بعد �أن يطبخن ومي�سحن البيت ال َّ‬ ‫هذا احلديث لأنه ال يتطلب �إعمال �شيء �سوى الل�سان‪ ،‬وما �شاء اهلل‬ ‫�أل�سنتنا تتنامى كل يوم‪.‬‬ ‫هذه هي املرة الأولى التي تبدي فيها �أمي وجهة نظرها احلقيقية‬ ‫يف ن�ساء َح ِّينا‪ ،‬ولهذا فقد القت ِمنهُنَّ فيما بعد العداء واملجافاة‪ ،‬قامت‬ ‫يعر ْفن كيف يجمعن �أنف�سهن‪ ،‬فهذه ال تعرف‬ ‫اجلارات بعدها وهنَّ ال ِ‬ ‫كيف ترتدي العباءة وتلك ال تعلم �أين و�ضعت خمارها وال تتجر�أ �أن‬ ‫ت�س�أل احلاجة “�أم علي” خ�شية �أن ُتو ِّبخها �أو تنهرها‪ ،‬ثم ان�صرفن‬ ‫�أخري ًا يجررن بع�ضهن كالعميان‪� ،‬أما والدتي فبقيت قلي ًال ثم ذهبت‬ ‫هي الأخرى‪.‬‬ ‫و»�أم علي» هذه عجوز وحيدة ت�سكن الطابق الأخري من بنايتنا‬ ‫روح‬ ‫ومتلك املال الكثري فزوجها كان من عائلة �إقطاعية �إال �أنها ذاتُ ٍ‬ ‫متوا�ضعة وهي ال ت�ؤيد مثل هذه الطبقات يف جمتمعنا‪ .‬يعتربها �أهل‬ ‫البناية ج ّدة اجلميع وهي فع ًال مرجعنا جميع ًا عند � ِّأي خالف �أو‬ ‫م�صيبة ال ق َّدر اهلل‪ .‬تق�ضي ُج َّل وقتها يف العبادة والذكر‪ ،‬وما تبقى‬ ‫أ�سر فقرية جماورة لت�س َّد عوزها من دون �أن تذكر‬ ‫منه تفت�ش فيه عن � ٍ‬ ‫ا�سمها �أو مكان �إقامتها لتلك الأ�سر‪ .‬كم كان والدي معجب ًا بها‪ ،‬فقد‬ ‫كان يقول دوم ًا‪� :‬إنها امر�أة تفهم مقا�صد الزكاة متام ًا‪ ،‬فهي ال تعطي‬ ‫الفقري ما ي�س ُّد رمقه �إلى حني بل ما يمُ ِّكنه من �سدِّ ه على الدوام‪� ،‬إذ‬ ‫بروح‬ ‫بر�أي والدي �أنه لو فعل جميع �أغنيائنا مثلها و�ساعدوا الفقراء ٍ‬ ‫متوا�ضعة كروحها ملا بقي وح�ش الفقر فاحت ًا فمه وهو يتل ّق ُف طاقاتنا‬ ‫و�إبداعاتنا ثم ُيخ ِّل ُف لنا الأمرا�ض والعلل‪.‬‬ ‫‪14‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�أنبني �ضمريي ملا حدث ولمِ ُت نف�سي كثري ًا لإخباري عائ�شة‬ ‫الرثثارة‪ ،‬ولكن ما باليد حيلة فقد حدث ما حدث وانتهى الأمر‪.‬‬ ‫خا�صمت عائ�شة بعدها وكنت يف خ�صامي جادة وكذا �أمي خا�صمت‬ ‫ُ‬ ‫عمتي لل�سبب نف�سه‪ .‬لكننا �أنا وعائ�شة ت�صاحلنا بعد يوم واحد‪ ،‬فكيف‬ ‫�أ�صرب على نظرات الندم يف عينيها و�أنا �أحبها �أيمَّ ا حب‪ ،‬وفح�صها فوق‬ ‫هذا على الأبواب‪� .‬أما �أمي فا�ستمرت يف خما�صمتها لعمتي التي �أبت �أن‬ ‫تعرتف بخطئها ولو مع نف�سها‪ ،‬لتبد�أ منذ ذلك احلني اخلالفات فيما‬ ‫بينهما‪.‬‬ ‫طلبت مرهف لغرفتي‪ ،‬اعرت�ضت �أمي‬ ‫عند امل�ساء قبيل النوم‪ُ ،‬‬ ‫فتحججت �أنه �سي�شرح يل ق�صيدة �صعبة‬ ‫خ�شية تعطيله عن درو�سه َّ‬ ‫الفهم‪ .‬قالت يل �أمي على الفور‪ :‬هاتها‪� ،‬س�أ�شرحها لك �أنا‪.‬‬ ‫ف�أجبتها ب�شيءٍ من الغنج‪:‬‬ ‫أنت‪ ،‬فهو ي�شرحها � َ‬ ‫منك‪� .‬ضحكت �أمي‬ ‫ال‪ ،‬ال‪ ،‬ال �أريد ُِك � ِ‬‫أف�ضل ِ‬ ‫َّثم �أوم�أت لنا بالذهاب‪.‬‬ ‫وعندما دخلنا الغرفة بادرين مرهف بالقول‪:‬‬ ‫�أين الق�صيدة‪� ،‬أرين �إ ّياها‪.‬‬‫� ُّأي ق�صيدة؟‬‫وقت مزاحك‪.‬‬ ‫لي�س الآن ُ‬‫‪15‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫أتيت َ‬ ‫بك لهذا‪.‬‬ ‫�أنا ال �أمزح فما � ُ‬‫�إذ ًا فمن �أجل ماذا؟‬‫�أردت �أن �أ�س�ألك عن �أحوال ح�سان ف�أنت �أقرب �شخ�ص منه‪.‬‬‫ح�سان؟‬‫ومن غريه �إذ ًا؟‬‫‪َ ..‬ه َّم بالنهو�ض ف�أم�سكته راجي ًة �إياه �أن يخربين احلقيقة‪ .‬تر َّدد‬ ‫يف البداية ولكنه ملَّا �شاهد الت�صميم يف عي َّني بادرين بال�س�ؤال‪:‬‬ ‫فلماذا �إذ ًا ُك ُّل هذا ِّ‬‫اللف والدوران؟‬ ‫لأننا �إن مل جنل�س هنا �سنجل�س يف ال�شرفة ويف ال�شرفة يجل�س‬‫�أحمد‪� ،‬أو يف ال�صالون وفيه �أمك وعائ�شة‪ ،‬وعائ�شة ثرثارة‪� ،‬أما هنا‬ ‫فنحن يف �أمان والق�صة بعد هذا حمبوك ٌة جيد ًا كما ترى‪.‬‬ ‫�إذ ًا �أعطني كتاب الن�صو�ص‪ ،‬ف�إن دخل علينا �أحدهم بغتة ُك َّنا‬‫يف م�أمن وحيطة من �أمرنا‪ .‬بلمح الب�صر جئته بالكتاب‪ ،‬ق َّلبه حتى‬ ‫ا�ستق َّر على ق�صيد ٍة ل�سليمان العي�سى‪َّ ،‬‬ ‫لف ِرج َل ُه ال ُيمنى على ال ُي�سرى‪،‬‬ ‫التفت �إ َّ‬ ‫يل وقال بهدوءٍ ‪ :‬ا�ستقبل ح�سان اخلرب فكان عليه كال�صاعقة‬ ‫ُث َّم ّ‬ ‫يف ُمباغتتها وح َّدتها لكنه عندما علم باملو�ضوع من البداية حتى النهاية‬ ‫التم�س لوالدته ُعذر ًا وهكذا انتهت العا�صفة دون خ�سائر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫‪16‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫احلمد هلل‪ ،‬احلمد هلل‪ ،‬ودرا�سته؟‬‫عادت كما كانت بف�ضل اهلل ونحن الآن على �أبواب االمتحان‬‫فاتركيني و�ش�أين وان�صريف‪.‬‬ ‫حت ملا قال فرح ًا �شديد ًا حتى‬ ‫فر ُ‬ ‫قالها مازح ًا‪ ،‬ثم ان�صرف وقد ِ‬ ‫علي عائ�شة �أم�سكتها‬ ‫ِ�صرت �أرق�ص من �شدة الطرب‪ ،‬وعندما دخلت َّ‬ ‫من يديها ورحت �أُرا ِق ُ�صها فترُ ا ِق ُ�صني والده�ش ُة تكا ُد ال تفارق وجهها‪..‬‬ ‫وهكذا عدت مع �أختي �سمن ًا وع�س ًال‪ ،‬فالعا�صفة قد انتهت ومل‬ ‫تطلنا �آثارها �إال من �صوب والدتي وعمتي‪� ،‬إذ ا�ستمر اخل�صام فيما‬ ‫خاطر وال بال‪.‬‬ ‫بينهما لتبد�أ م�شكالتٌ لي�ست على ٍ‬

‫‪17‬‬



‫الف�صل الثاين‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫كان �صيف هذا العام حار ًا‪ .‬الطاعنون يف ال�سن يقولون‪ :‬غ�ضب‬ ‫من اهلل‪ ،‬فبعد �أن كربت �أج�سادهم وخبت �شهواتهم �أ�ضحوا الناقدين‬ ‫ملجريات ع�صر باتوا �شيئ ًا ف�شيئ ًا يخرجون منه و�إلى الأبد‪ ،‬و�أما اجلدد‬ ‫على احلياة فيقولون‪ :‬يهذي العجائز‪ ،‬كل �شيء غ�ضب من اهلل‪ ،‬لقد‬ ‫عا�شوا زمانهم وتنعموا يف رحابه واليوم يريدون �أن ال نعي�ش زماننا‪.‬‬ ‫ال تهمنا مناق�شة �آرائهم كثري ًا‪ ،‬فح ُّر ال�صيف يعني لنا نحن عائلة‬ ‫ال�سيد جميل �شيئ ًا �آخر‪� .‬إذ قد وافق والدي وللمرة الأولى يف حياته على‬ ‫ذهابنا للبحر‪ ،‬ف�إخوتي مرهف وعائ�شة قد جنحا يف ال�شهادة الإعدادية‬ ‫وبتفوق‪ ،‬وانتقلت �أنا بامتياز �إلى مرحلة الدرا�سة الإعدادية بينما‬ ‫ح�صل �أحمد على ال�شهادة الثانوية وبعالمات ت�ؤهله لدخول كلية الطب‪.‬‬ ‫�أما �أمي وعمتي فقد ت�صاحلتا مب�ساعي والدي اجلادة وترقت �أمي من‬ ‫معلمة �إلى مديرة مدر�سة‪.‬‬ ‫�إذ ًا اجتمعت لهذا ال�صيف �أ�شياء كثرية مفرحة فك�أنها باقة ورد‬ ‫متنوعة �أهدتها ال�سماء لنا‪ .‬ق�صدنا ر�أ�س الب�سيط على ال�ساحل ال�سوري‪،‬‬ ‫فر�أ�س الب�سيط من �أماكن اال�صطياف اجلميلة كما يقول والدي‪ ،‬وهو‬ ‫فوق ذلك غري مزدحم كغريه من �أجزاء ال�ساحل‪ .‬مكثنا هناك ثالثة‬ ‫�أيام فقط‪ ،‬فقد اختلف والدي و�أخي �أحمد يف م�ساء اليوم الثاين‪.‬‬ ‫�أحمد يريد �أن يدر�س يف كلية الهند�سة امليكانيكية ووالدي يريده طبيب‬ ‫�أ�سنان وبينما نحن نحت�سي ال�شاي حتت �ضوء القمر و�أمواج البحر بني‬ ‫و ٍّد وخ�صام و�إذ بوالدي يوميء لأحمد بالتم�شي معه قلي ًال‪ ،‬وبعد ن�صف‬ ‫زيت مغلي على وجهيهما‪ .‬كنت‬ ‫�ساعة عادا و�أمارات الغ�ضب بادية كبقع ٍ‬ ‫�أنا ومرهف نلعب ال�شطرجن عندما جل�س والدي �صارخ ًا يف وجه �أمي‪:‬‬ ‫‪20‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�أر�أيت ماذا يريد ابنك املحرتم �أن يدر�س؟‬‫�أمي ب�صوت ي�شبه املواء‪:‬‬ ‫على ر�سلك‪ ،‬ماذا يريد؟‬‫يريد ح�ضرته �أن يدر�س هند�سة ميكانيكية‪.‬‬‫وماذا يف ذلك‪ ،‬دع ابنك يختار درا�سته بنف�سه؟‬‫نعم‪ ،‬نعم‪ .‬قالها بنربة حادة ت�ستجر والدتي للم�شاجرة‪.‬‬‫�أ�شارت �أمي ملرهف ويل باالبتعاد قلي ًال فرف�ضت حمتجة‬ ‫بالنعا�س‪.‬‬ ‫�أمي لوالدي ب�شيء من الغ�ضب‪:‬‬ ‫ملاذا تزعق هكذا‪ ،‬هل تظن نف�سك يف بيتك؟‬‫عمتي وقد �أخذتها احلمية لأخيها‪:‬‬ ‫ال ت�صرخي بوجه �أخي هكذا‪ ،‬احت�شمي يا امر�أة‪.‬‬‫قويل لأخيك هذا الكالم‪ .‬ولي�س يل �أنا‪.‬‬‫هل تظنني �أن على ر�أ�سك ري�شة؟‬‫ال ت�سخري يا طويلة الل�سان و�إال‪..‬‬‫‪21‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�أي�ض ًا؟‬

‫‪-‬و�إال ماذا يا ح�ضرة املديرة‪� ..‬أم تخالني نف�سك مديرة هنا‬

‫كان اجل ُّو بارد ًا‪ ،‬فان�سحبت من املكان نحو اللحاف ود�س�ست‬ ‫نف�سي حتته و�أ�سناين ي�صطك بع�ضها ببع�ض ومع هذا مل ينتبه �إ ّ‬ ‫يل � ّأي‬ ‫واحد منهم فك�أنّ �إبلي�س قد ذهب بنور عقولهم و�إدراك حوا�سهم و�أبقى‬ ‫لهم الرماد‪ ،‬وهل ي�أتي الرماد �إال من �شيء يحرتق؟‬ ‫ومما زاد الط ِني ب َّل ًة‪ ،‬هو �أن والدي قد انحاز لعمتي فنهر والدتي‬ ‫و�شتمها لأول مرة يف حياته‪ ،‬ول�ش ّدة ما �أخذتني احلمية لأمي حملقت يف‬ ‫�أخـي و�صـرخت فيـه‪� :‬أنت ال�سبب (اهلل يقطع عمرك) وعمر درا�ستك‪.‬‬ ‫لكنني ندمت بعدها ندم ًا �شديد ًا‪ ،‬فكيف �أكلم �أخي الكبري هكذا؟‬ ‫كل اخلط�أ من الكبار‪ ،‬جرين خ�صامهم ل�شتم �أخي‪ ،‬فاحلق مع �أمي ملاذا‬ ‫علي‪ ،‬بل‬ ‫ال يرتكونه يختار طريقه بنف�سه؟ والغريب �أن �أحمد مل يرد َّ‬ ‫اكتفى بالقول متمتم ًا‪ :‬ب�سيطة‪ ،‬ب�سيطة‪ ،‬اهلل يفرجها‪.‬‬ ‫ثم التفت للمجموع وقال كلمته الأخرية‪:‬‬ ‫ح�سن ًا �س�أكون كما تريدون‪.‬‬‫ما يريده �أبوك ولي�س �أنا‪.‬‬‫�أعلم يا �أمي‪ ،‬ولكن �أرجوكم يكفي‪.‬‬‫م�ضى �أ�سبوع على حادثة الت�شاجر‪ ،‬وال تزال الأجواء م�شحونة‬ ‫‪22‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫بالغ�ضب والتنافر بعد تلك النـزهة‪ ،‬حيث عادت �أمي وعمتي للخ�صام‪،‬‬ ‫�أما �أبي فلم �أعد �أ�شاهده يحت�سي القهوة كعادته مع �أمي كل �صباح‪،‬‬ ‫بل بات يخرج باكر ًا ثم يعود من عمله فيتناول غداءه وينام وعندما‬ ‫ي�ستيقظ يخرج وال يعود �إال للنوم وهكذا دواليك يف كل يوم‪.‬‬ ‫وذات �صباح ذهبت مع �أخي �أحمد �إلى مكان عمل والدي يف‬ ‫مديرية الرتبية‪ ،‬فقد كان علينا �أن ن�ساعده يف حمل ( �سحارة امل�شم�ش‬ ‫) قال لنا‪:‬‬ ‫خذا ن�صفها و�أنا �أحمل الباقي‪ ،‬خذاها قبل �أن تنفد‪ ،‬فكل من‬‫علي هذا اليوم يقول يل‪ :‬من �أين لك هذه ( اللقطة ) ثم ي�ستبيح‬ ‫ي�سلم َّ‬ ‫لنف�سه تناول ب�ضع م�شم�شات بق�صد التذوق‪ ،‬وهكذا لن يرتكوا لكم‬ ‫�شيء حتى �ساعة االن�صراف‪.‬‬ ‫ُث َّم ا�ستطرد يف �أمر �آخر فقال وهو ينه ُر �أخي‪:‬‬ ‫ملاذا جئت ب�أختك معك‪� ..‬أين مرهف �أفندي؟‬‫يف البيت‪.‬‬‫وماذا يفعل ح�ضرته؟‬‫يفك مذياع ًا قدمي ًا ويحاول تركيبه بنف�سه‪.‬‬‫هنا دخل امل�ستخدم �إلى الغرفة التي ي�شغلها عادة والدي وزميله‬ ‫ب�صب ال�شاي وخالل ذلك التفت �إلى والدي وقال‪ :‬هل‬ ‫خلدون‪ ،‬و�شرع ُّ‬ ‫‪23‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫املحرو�س �أحمد؟‬ ‫نعم هو‪.‬‬‫ما �شاء اهلل‪� ،‬أ�صبح رج ًال‪.‬‬‫�أجل‪ ،‬و�سيدخل اجلامعة‪.‬‬‫وب�أي كلية �سيلتحق؟‬‫ بكلية طب الأ�سنان‪ ،‬مع �أنه يدعي رغبته بدرا�سة هند�سة‬‫امليكانيك‪ .‬عندها و�ضع امل�ستخدم �إبريق ال�شاي على الطاولة‪ ،‬ا�ستقام‬ ‫ثم ق ّو�س ظهره قلي ًال للوراء و�أخذ �سحبة من ال�سيجارة وهو يحدق يف‬ ‫ال�سقف ثم نفث الدخان وقال‪ ( :‬ما بتلزملك ) هند�سة امليكانيك يا‬ ‫(عمو)‪ ،‬ادخل كلية الطب وتوكل على اهلل‪� .‬أما زميل والدي خلدون‬ ‫فقال موجه ًا كالمه للم�ستخدم‪ :‬ما �ش�أنك �أنت‪ ،‬دعوه يختار وفق رغبته‪.‬‬ ‫فر ّد عليه امل�ستخدم على الفور‪ :‬ك�أنك ال تعي�ش بيننا �أو ت�أكل من خبزنا‪،‬‬ ‫يا رجل ماذا �سيفعل ب�شهادة الهند�سة �إن تخرج‪ ..‬قل يل‪ ،‬موظف بثالثة‬ ‫�آالف لرية ال غري‪ ،‬هذا �إن وظفوه باخت�صا�صه ( لفها يا رجل )‪ ..‬طب‬ ‫الأ�سنان �أف�ضل له و�أكرث ربح ًا‪� ،‬أ�ضف �أنه هنا لن يكلف �أهله �شيئ ًا‬ ‫�سوى ثمن الكتب والت�سجيل‪ .‬تردد خلدون قلي ًال ثم قال له‪ :‬بل ي�ستطيع‬ ‫ب�شهادة الهند�سة �أن يفتح مكتب ًا ف�إن مل ي�ستطع وحده فبم�شاركة بع�ض‬ ‫زمالئه‪ ،‬و�إن وفقهم اهلل د َّر عليهم املكتب ذهب ًا‪.‬‬ ‫تدخل والدي وب�شيء من الع�صبية قال‪ :‬ومن �أين لنا القدرة على‬ ‫‪24‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�شراء مكتب �أو امل�شاركة يف ثمنه؟ �أنت �أدرى ( بالبري وغطاه )‪.‬‬ ‫باهلل عليك الذي ال ميلك ثمن مكتب �سوف ميلك ثمن عيادة‬‫مبليوين لرية على �أقل تقدير؟‬ ‫غادرنا مديرية الرتبية‪ ،‬ويف نف�س �أحمد �أمل �أن يغيرِّ والده ر�أيه‬ ‫بعد الذي جرى‪.‬‬ ‫وعندما و�صلنا البيت وجدت جارتنا �أم ح�سان ب�صحبة احلاجة‬ ‫�أم علي التي مل نرها قط تزور �أحد ًا غرينا‪ ،‬فهي ت ُو ُّد �أمي كثري ًا و ُت ِكنُّ‬ ‫لها االحرتام‪ ،‬وكعادتها �أمي �أوم�أت يل بتح�ضري القهوة فعائ�شة تزور‬ ‫�صديقة لها‪ .‬بعد ع�شر دقائق عدت بالقهوة التي يثري فينا بخارها‬ ‫النـزوع للق�ص�ص و�سرد احلكايات وما �إن تخطيت عتبة ال�صالون‬ ‫حتى زفني �صوت اجل ّدة بحما�س‪ ( :‬ي�سلمو‪ ،‬ي�سلمو )‪� ..‬صارت �صبية ما‬ ‫�شاء اهلل‪� ،‬أطال اهلل عمرها‪ ..‬قالتها وقد التفتت نحو �أمي التي �أجابتها‬ ‫بحبور وا�ضح‪ :‬حفظك اهلل يا ج ّدة و�أدامك فوق ر�ؤو�سنا‪ .‬احت�ست �أم‬ ‫ح�سان بع�ض القهوة ثم و�ضعت الفنجان وقالت‪� :‬أفكر يا �أم �أحمد‬ ‫بالعودة للتعليم فراتب املرحوم ال يكفينا‪.‬‬ ‫ال يكفي؟‬‫�أجل‪ ،‬وما وجه الغرابة يف ذلك؟‬‫ابنك وم�صروفه ال يزال ال ُيذكر‪.‬‬ ‫ال �شيء‪ ،‬لكنك ال ُتعيلني �سوى ِ‬‫‪25‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ لقد فاتك �أن �أق�ساط بيتنا مل تنته بعد و�أنّ ح�سان خالل‬‫ثالث �سنوات �سيكون طالب ًا جامعي ًا مب�شيئة اهلل وم�صروفه �سيزيد‪.‬‬ ‫هنا �صمتت �أمي و�أطرقت يف الأر�ض‪� ..‬أظنها كانت تفكر ب�أخي �أحمد‪.‬‬ ‫الحظتها احلاجة �أم علي ف�س�ألتها‪ :‬ما الأمر؟ تداركت �أمي املوقف‬ ‫و�أجابتها‪ :‬ال �شيء يا حاجة كنت �أفكر بحديث �أم ح�سان‪.‬‬ ‫�شعرتُ بحرج �أمي و�أردت �أن � ُ‬ ‫أخفف عنها ف�أ�شعلت التلفاز ولكنني‬ ‫من حيث ال �أدري زدت الطني ِب َل ًة فقد كانت القناة الأولى تعر�ض‬ ‫الدرجات الدنيا للقبول اجلامعي‪� ،‬أ�صغى اجلميع ملقدم الربنامج مبا‬ ‫فيهم �أنا وخالل ذلك عادت عمتي �إلى البيت وحلقتها عائ�شة بعد فرتة‬ ‫ق�صرية‪ .‬دخلت عمتي ال�صالون‪� ،‬ألقت التحية وجل�ست‪� ،‬أ�صغت معنا‬ ‫للربنامج وعندما انتهى طلبت مني فنجان ًا من القهوة و�س�ألت ال�ضيوف‬ ‫ع َّل �إحداهُ نَّ ترغب باملزيد‪ .‬نادت عمتي على عائ�شة فدخلت و�سلمت ثم‬ ‫�س�ألتها‪ :‬ماذا تريدين يا عمتي؟‬ ‫اهلل ير�ضى عليك خذي من يدي ( املانطو واملنديل ) و�ضعيهما‬‫يف اخلزانة‪ .‬ل ّبتها عائ�شة ثم عادت وجل�ست على ( كنبة م�ستقلة ) �أمام‬ ‫بال�س َّبحة ال ُبن َّية التي‬ ‫التلفاز‪ .‬كانت احلاجة �صامتة و�أخالها تذكر اهلل ُ‬ ‫ال�س َّبابة والإبهام‪� ،‬أما �أم ح�سان فبدت مرتبكة‪ ،‬تارة‬ ‫كانت تمُ ر ُرها بني ُ‬ ‫ت�شغل نف�سها ب�ضبط �ساعتها وهي م�ضبوطة و�أخرى مب�شاهدة التلفاز‬ ‫وهي غائبة عنه‪ ،‬ولعل ال�سبب هو علم اجلميع بالتوتر ال�سائد بني �أمي‬ ‫وعمتي‪.‬‬ ‫وعندما عاد والدي �إلى املنزل نادته عمتي �إلى غرفتها‪ .‬غاب‬ ‫‪26‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ن�صف �ساعة ثم خرج �إلينا وال�شرر يتطاير من عينيه‪ ،‬نظر َّيف وقال‪:‬‬ ‫�أين �أحمد؟‬ ‫ال �أدري‪ ،‬رمبا يف‪.‬‬‫ال تقويل رمبا‪� .‬إما �أجيبيني عن يقني �أو ا�صمتي‪ .‬عندها �صمتت‬‫و�أخذتُ �أت�شاغل مبتابعة برامج التلفاز و�أنا �صراح ًة ما عدت قادرة على‬ ‫الرتكيز �إذ راحت اخلواطر ال�سيئة متطر خيايل ب�شتى �صور الب�ؤ�س‬ ‫وال�ش�ؤم‪.‬‬ ‫جل�س والدي بجواري حيث كانت جتل�س احلاجة �أم علي‪َّ ،‬‬ ‫لف‬ ‫ِرج ًال على الأخرى وراح يهز الأخرية بع�صبية ويف الوقت نف�سه �أخذ‬ ‫يحرك �أ�صابع يده الي�سرى بتوتر ونزق‪ ،‬وملا فتح �أحمد الباب واجتاز‬ ‫عتبته انت�صب والدي دفع ًة واحدة ومل ينتظر حتى يبدل �أحمد ثيابه بل‬ ‫بد�أه بحد ٍة قائ ًال‪� :‬أين كنت حتى الآن؟‬ ‫عند �صديقي حمزة‪.‬‬‫�أما قلت لك �أال تت�أخر حتى هذا الوقت‪.‬‬‫لكنها العا�شرة والن�صف فقط‪.‬‬‫يكفي‪ ،‬قلت لك �أال تت�أخر‪ ،‬يعني ال تت�أخر‪.‬‬‫هم بامل�ضي نحو غرفته لكنَّ والدي تابع‬ ‫مل يجبه �أحمد بكلمة بل َّ‬ ‫فقال‪ :‬هل �أح�ضرت ورقة املفا�ضلة؟‬ ‫‪27‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫نعم �أح�ضرتها‪.‬‬‫وهل دونت فيها الرغبات التي �أمليتها عليك؟‬‫لكن يا �أبي �أنا ال �أريد �أن �أكون طبيب �أ�سنان �أرجوك �أن تتفهم‬‫رغبتي‪.‬‬ ‫وب�صوت‬ ‫مرات عدة‬ ‫ٍ‬ ‫ال �أريد �أن �أتفهم رغبتك‪ ،‬ال �أريد‪ ....‬كررها ٍ‬‫عال � ٍّ‬ ‫أج�ش ف�أجابه �أحمد بانفعال وقد �شحب وجهه‪ :‬لكنني ال �أريده‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ال �أريده‪ .‬حاولت والدتي �أن تتدخل غري �أن مرهف �أم�سك مع�صمها‬ ‫وارمتت عليها عائ�شة ترجوها الهدوء فا�ستجابت لهما والدتي وملَّا ر�آها‬ ‫والدي وقد عادت �إلى مكانها نظر يف �أحمد بق�سوة وقال بحزم‪� :‬إما �أن‬ ‫تنت�سب �إلى كلية طب الأ�سنان و�إال �أق�سم باهلل العظيم �أنني لن �أ�صرف‬ ‫عليك وال حتى ( فرنك )‪.‬‬ ‫ليكن ذلك‪ ،‬واهلل العظيم لن �أدخلها ولو تركت الدرا�سة‪.‬‬‫ف�أجابه والدي ملوح ًا بيده كمن يطرد �أحد ًا‪ :‬يف �ستني �ألف جهنم‪،‬‬ ‫لن جتني �إال على نف�سك‪ .‬هنا خرجت عمتي وهي ت َّدعي الرباءة وت�س�أل‬ ‫عما يحدث رغم �أن والدتي �أق�سمت لنا ب�أنها من �أوغل �صدر �أبي غ�ضب ًا‬ ‫وق�سوة على �أحمد‪ .‬التفت �إليها والدي وقال‪ :‬ال �شيء‪ ،‬ال�شيء‪.‬‬ ‫كيف ال �شيء و�صوتكما قد و�صل �إلى ال�شارع؟‬‫عندها نهرها �أحمد من �شدة انفعاله وقال لها‪ :‬عودي �إلى‬ ‫‪28‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫غرفتك وال تتدخلي يف �ش�ؤوين‪ .‬وما �أخاله قال هذا �إال ليغ�ضبها كما‬ ‫�أغ�ضبته انتقام ًا منها وملّا مل تكرتث كثري ًا له تابع‪ :‬اذهبي من وجهي‪،‬‬ ‫ال �أريد �أن �أراك‪ ..‬فردت عليه عمتي‪ :‬ق َّبح اهلل وجهك يا �سافل ثم بد�أت‬ ‫بالبكاء‪.‬‬ ‫ال تتباكي يا عمتي فدموعك دموع من يحاول التهام فري�سته‬‫دفعة واحدة‪ .‬هنا التفت �إليه والدي وبلمح الب�صر �صفعه على خده‬ ‫�صفعة �أ�سقطته �أر�ض ًا فراح يبكي كال�صغار‪ .‬مل ت�ستطع والدتي متالك‬ ‫نف�سها فانتف�ضت من مكانها كاملجنونة وارمتت عليه �ضمته �إلى �صدرها‬ ‫و�أخذت مت�سح �شعره وتبكي ثم قالت لعمتي‪ ( :‬يا قليلة الذوق �أودعناك‬ ‫ح�ضننا فرحت تنتفني ذقننا )‪ ..‬اخرجي من بيتنا ال �أريد �أن �أراك‬ ‫�أبد ًا‪.‬‬ ‫وقتها ما عدتُ �أعرف ما �أفعل ف�شرعت بالبكاء وكذا عائ�شة‪� ،‬أما‬ ‫ب�صمت‪ ،‬بعدها ارمتت عمتي على‬ ‫مرهف فكانت الدموع ت َُ�س ُّح من عينيه‬ ‫ٍ‬ ‫الهاتف وات�صلت بعمي عبد اهلل وطلبت ح�ضوره فور ًا‪ .‬وعندما جاء عمي‬ ‫دخل وهو يقول بقلق‪ :‬ماذا هنالك‪ ..‬ماذا هنالك؟كان يوجه ال�س�ؤال لنا‬ ‫واحد ًا واحد ًا وهو يت�صفح وجوهنا بيد �أن �أحد ًا مل يجبه حتى و�صل �إلى‬ ‫عمتي فبادرته بالبكاء والعويل وهي تقول‪ :‬طردوين من عندهم يا عبد‬ ‫اهلل‪ .‬طردوين‪.‬‬ ‫�أحمد‪.‬‬

‫‪-‬من طردك؟ فالتفتت �إلى والدتي و�أ�شارت �إليها‪ :‬هذه وابنها‬

‫‪29‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�أمعقول هذا؟ ح َّدق ب�أحمد فوجده ال يقوى على النطق بكلمة‬‫فتوجه بب�صره لوالدتي وعندها انفجرت بالبكاء هي الأخرى و�أخربته‬ ‫عندئذ توجه بعتاب رقيق لوالدي فقال له‪ :‬ملاذا‬ ‫الق�صة دفع ًة واحدة‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫فعلت هذا يا �أخي �أعرفك عاق ًال �أكرث من ذلك‪.‬‬ ‫الذي ي�أكل الع�صي ال كمن يع ُّدها‪ ،‬وماذا ينق�صك �أنت‪ ،‬ف�سفرك‬‫�إلى الإمارات حقق لك كل ما ت�صبو �إليه ولهذا ت�ستطيع وبكل ب�ساطة �أن‬ ‫تدع ابنك �أو ابنتك يدر�سان ما ي�شاءان لأنك متلك املال‪.‬‬ ‫لكنك وزوجتك تعمالن‪� ،‬أفال ت�ستطيعان �إدخال �أحمد اجلامعة‬‫التي يرغب؟‬ ‫يا له من �س�ؤال �ساذج وك�أنك ل�ست ابن هذا الواقع‪ .،‬بالت�أكيد‬‫ال يكفي‪.‬‬ ‫ �أمن �أجل بع�ض املال تدفن ذكاء ابنك وطموحه‪ ،‬لقد تفوق على‬‫رفاقه �أفهكذا تكون مكاف�أته؟‬ ‫ارمتى والدي على ( الكنبة ) ثم قال‪ :‬لي�س الذنب ذنبي �إنه ذنب‬ ‫املجتمع وولدي لن يكون �إال �ضحي ًة من �ضحاياه‪ .‬راح عمي يحوقل ويقول‪:‬‬ ‫ما هذا املنطق يا جميل‪ ..‬ما دخل املجتمع يف اختيار ولدك لدرا�سته؟‬ ‫هنا خرجت عمتي من غرفتها وقد حزمت �أمتعتها وقررت املكوث‬ ‫عند عمي عبد اهلل‪ ،‬فتوقف الأخري عن النقا�ش وما �إن �شرعا يهبطان‬ ‫الدرج حتى عادا ل�صراخنا فقد �أغمي على �أحمد‪ .‬بعد ربع �ساعة جاء‬ ‫‪30‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫الطبيب وبعد املعاينة خرج وهو يقول لعمي‪ :‬ال تدع �أحد ًا يدخل عليه‪،‬‬ ‫دعوه ينام بهدوء‪.‬‬ ‫تركنا يف تلك الليلة غرفة �أحمد م�شرع ًا بابها كي ن�سمع �صوته‬ ‫�إذا طلبنا لأن مرهف رف�ض النوم معه‪ ،‬مل ي�صرح بال�سبب لكنني فهمت‬ ‫فتى ح�سا�س‪ ،‬ال يحتمل ر�ؤية �أخيه على هذه ال�شاكلة‪.‬‬ ‫عليه �إنه ً‬ ‫يف ال�صباح جاءنا عمي يف فرتة غياب والدي حوايل ال�ساعة‬ ‫العا�شرة‪ .‬كان �أحمد قد �صحا من نومه فا�ست�أذن بالدخول عليه‬ ‫و�أبدى لوالدتي رغبته باالنفراد به‪ .‬نزلنا عند رغبته ومل نقاطعهما �إال‬ ‫عندما �أدخلت لهما ك�أ�سي لنب وبعد ن�صف �ساعة نادانا عمي فدخلنا‬ ‫م�سرعني‪ ،‬التفت لوالدتي وقال لها‪ :‬ما ر�أيك يا �أم �أحمد �أن �أ�صطحب‬ ‫معي املحرو�س �إلى ال�شارقة؟‬ ‫ال�شارقة‪ .‬قالتها �أمي بذهول وتوج�س‪.‬‬‫�أجل ال�شارقة‪.‬‬‫ودرا�سته؟‬‫�سي�سجل يف كلية الهند�سة امليكانيكية ومن ثم يوقف ت�سجيله‬‫معقول عاد �إليكم من جديد‪.‬‬ ‫مبلغ‬ ‫ٍ‬ ‫وي�سافر معي حتى �إذا ما ح�صل على ٍ‬ ‫�أ�صيبت �أمي باالرتباك والده�شة و�سرعان ما �أر�سلت نظرة �إلى‬ ‫�أحمد وقالت له بغ�صة وحزن‪� :‬أ�صحيح ما قاله عمك يا ولدي؟ ف�أجابها‬ ‫‪31‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�أخي با�ستحياء وحزن‪� :‬أجل يا �أمي فلي�س يف اليد حيلة‪ .‬غرغرت‬ ‫الدموع يف عينيها و�س�ألته ب�صوت يرجتف‪ :‬يا ولدي �أترحل عنا وقد‬ ‫عيني بر�ؤيتك �شاب ًا يربق يف عينيه الطموح واحليوية‪ ،‬يا‬ ‫ربيتك لأكحل َّ‬ ‫ولدي متهل ع َّل هناك خمرج ًا �آخر‪� .‬أبيع لك حليتي �أو �أ�ستدين مبلغ ًا‬ ‫�أو‪ .‬فقاطعها عمي وقال لها‪ :‬لو كان ير�ضى بذلك لأنفقت عليه حتى‬ ‫يتخرج لكن ابنك عنيد‪ .‬ثم نظر يف �أحمد مبت�سم ًا وقال لها‪ :‬هاك ابنك‬ ‫�سليه فقد جف ريقي من نقا�شه ومل يوافقني‪ .‬نظرت �إليه �أمي وقبل �أن‬ ‫تنطق بكلمة قاطعها بحزم وقال‪� :‬أنت �أدرى النا�س بي يا �أمي ف�أنا منذ‬ ‫نعومة �أظفاري ال �أقبل م�ساعدة �أحد وقبويل م�ساعدتكم اليوم يعني يل‬ ‫انهزامي منذ اخلطوة الأولى‪ ،‬دنت منه �أكرث ثم قالت بعطف‪� :‬أرجوك‬ ‫يا بني �أال يوجد حل �آخر؟‬ ‫أرجوك حاويل �أن تفهميني‪.‬‬ ‫ال يا �أمي‪ ،‬ال يوجد �إال هذا احلل‪ِ � ..‬‬‫عندها و�ضعت كفها على فمها و�أ�سرعت باخلروج والدموع تتدفق‬ ‫من عينيها فخرج وراءها عمي وخالل ذلك �سكن �أحمد يف فرا�شه وقد‬ ‫ث َّبت عينيه �إلى ما وراء النافذة �أما مرهف فجل�س يف زاوية بعيدة‪،‬‬ ‫يراقب بتفاعل �صامت الأحداث‪ .‬عاد عمي و�أمي التي بدت مبالمح‬ ‫جديدة �أكرث �إ�شراق ًا وتفا�ؤ ًال حتى �صوتها قد تغريت نربته ف�أ�ضحى �أكرث‬ ‫ان�سجام ًا وان�سيابية‪ .‬نظرت يف �أحمد وقالت له وقد و�ضعت يديها على‬ ‫حافة ال�سرير‪ :‬ح�سن ًا يا بني افعل ما تراه منا�سب ًا‪� ،‬ستجدين �إن �شاء اهلل‬ ‫من ال�صابرات‪ ،‬عندها وثب �أحمد �إليها و�ض ّمها بقوة قائ ًال‪ :‬لن �أن�ساك‬ ‫يا �أمي‪ ،‬لن �أن�ساك �أبد ًا و�س�أعود قريب ًا محُ ّم ًال بالب�شرى فانتظريني‪.‬‬ ‫علي‪.‬‬ ‫هنا قال عمي‪ :‬تنق�صنا موافقة والدك وهذه اتركها ّ‬ ‫‪32‬‬


‫الف�صل الثالث‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫باد يف عينيه‪ ،‬غيرَّ مالب�سه‪،‬‬ ‫عاد مرهف من املدر�سة والقلق ٍ‬ ‫وجه الكالم لوالدي ونظره‬ ‫غ�سل يديه‪ ،‬وملّا حتلقنا على مائدة الغداء‪ّ ،‬‬ ‫يف الأر�ض‪:‬‬ ‫أمر مهم‪.‬‬ ‫�أريد �أن �أ�س�ألك يف � ٍ‬‫بلع والدي اللقمة ثم نظر يف وجهه بح ّدة وقال‪:‬‬ ‫قل ما لديك‪� ،‬أنا �أ�سمعك‪.‬‬‫يا �أبي‪ ،‬ملاذا‪� .‬إحم‪� ،‬إحم‪ ،...‬ملاذا ن�ؤمن بوجود اهلل؟ قالها وقد‬‫اختل�س نظرة �سريعة يف وجه والدي‪.‬‬ ‫�إذ ًا مباذا ن�ؤمن بر�أيك؟ قالها ب�سخرية وتهكم‪.‬‬‫ال �أق�صد ذلك‪� ،‬إمنا الذي �أردت قوله هو �أننا كيف علمنا �أن اهلل‬‫موجود‪ ،‬رمبا‪.‬‬ ‫رمبا ماذا! �صرخ �أبي وقد هوى مبلعقته على الطاولة‪ .‬ا�ضطرب‬‫مرهف وقال ب�صوت خمنوق‪:‬‬ ‫ال �شيء‪ ،‬ال �شيء‪ .‬ان�س املو�ضوع‪.‬‬‫انتفخت �أوداج �أبي واحمر وجهه‪ ،‬قال وال�شرر يتطاير من عينيه‪:‬‬ ‫ما ق�صدك يا ولد‪ ،‬هل تتجاهلني؟‬‫‪34‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫معاذ اهلل يا �أبي‪ ،‬لكن ال �أريد �أن �أكمل‪ .‬ال �أريد‪.‬‬‫بل �ستكمل رغم �أنفك‪.‬‬‫قلت لك ال �أريد‪� ،‬أرجوك دعني و�ش�أين‪ .‬ثم نه�ض م�سرع ًا �إلى‬‫غرفته‪.‬‬ ‫�شرب والدي كوب ًا من املاء‪ ،‬ومتتم‪ :‬احلمد هلل‪ ،‬ثم نظر �إلى‬ ‫والدتي التي ظلت �صامتة طوال وجبة الغداء وقال‪:‬‬ ‫من يا ترى يلعب بعقله‪ ،‬ظننته نا�ضجا ف�إذا به �أحمق على �شفا‬‫الإحلاد‪،‬‬ ‫ب�س �أمي بكلمة قالت عائ�شة وهي تفرم حبات‬ ‫وقبل �أن َت ْن ْ‬ ‫الطماطم‪ :‬لقد تعلمنا هذا يف املدر�سة‪.‬‬ ‫يف املدر�سة ت�ساءلت �أمي؟‬‫يف مقرر الفل�سفة‪� ،‬إنها الفل�سفة املادية وفيها يقولون �أنّ الدين‬‫�أفيون ال�شعوب و�أنّ الكون وجد من دون خالق‪ ،‬و‪ .‬ال �أدري ماذا بعد‬ ‫فاليوم قد تعلمنا ذلك‪.‬‬ ‫�أخذ �أبي يه ُّز بر�أ�سه ويقول‪:‬‬ ‫ما هذا اجليل كلمة ت�أخذه وكلمة ت�أتي به وك�أنه ورقة يف مهب‬‫مدعم ًة‬ ‫الريح‪� .‬إنها فل�سفة بال دليل و�صنعت به هكذا فكيف �إن كانت َّ‬ ‫‪35‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫بالأدلة؟ لقد واجهنا نحن �أبناء ال�ستينات فل�سفات وتيارات كثرية ومع‬ ‫ذلك بقينا حمافظني على ديننا ومل ننحرف عنه قيد �شعرة‪.‬‬ ‫ابت�سمت والدتي وهي ته ُّم بالنهو�ض‪ ،‬ف�أم�سكها وا�ستحلفها باهلل‬ ‫�أن تخربه عن �سبب ابت�سامتها‪ ،‬ف�أجابته قائل ًة‪:‬‬ ‫لقد كاد والدكم �أن يعتنق ذات الفل�سفة لوال لطف اهلل وتدخل‬‫جدكم حفظه اهلل‪.‬‬ ‫�أطرق والدي يف الأر�ض وقد ارت�سمت على وجهه ابت�سامة‬ ‫ذكريات م�ضت ثم قال‪� :‬أوه‪ ،‬على ذكر والدي ملاذا ال‬ ‫ا�سرتجع وراءها‬ ‫ٍ‬ ‫�أر�سل له مرهف‪ ،‬ع�سى �أن يعيده لر�شده‪.‬‬ ‫–فكرة معقولة‪� ،‬أجابته وهي تتناول املالعق املتناثرة من على‬ ‫الطاولة وت�ضعها يف الزبدية الكبرية ثم ا�ستطردت‪ :‬والدك رجل مثقف‬ ‫يكلله الإميان والعزمية لكنه مغمور‪.‬‬ ‫كان جدي ي�سكن هو وجدتي يف حي البارودية قرب جامع‬ ‫البح�صة يف زقاق قدمي حيث البيت العربي ال يزال مفعم ًا بعبق‬ ‫املا�ضي‪ .‬دخلنا عليهما‪� ،‬سلمنا وقبلنا يديهما كالعادة‪ .‬مرت حلظات‬ ‫مغلف ٌة بال�صمت بعدها قالت جدتي‪:‬‬ ‫هيا يا �صبوحة‪� ،‬ساعديني على النهو�ض‪.‬‬‫�إلى �أين يا جدتي؟‬‫‪36‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�س�أ�ضع �إبريق البابوجن على النار‪.‬‬‫�أ�أ�ضعه عنك؟‬‫اتك�أت بيدها اليمنى على ع�صاها ثم و�ضعت يدها الأخرى على‬ ‫كتفي ومتتمت‪:‬‬ ‫هيا‪ ،‬هيا‪� .‬سن�ضعه مع ًا ( ففي احلركة بركة )‪ .‬خرجنا �إلى‬‫�ساحة الدار كانت متطر‪ ،‬لذلك �أ�سرعنا نحو املطبخ‪ ،‬وهناك بد�أنا‬ ‫بتح�ضري البابوجن‪ .‬كان املطبخ ُقبال َة الغرفة التي يجل�س فيها جدي‬ ‫ومرهف‪ ،‬لهذا بد�أت �أراقبهم بحرية‪ ،‬ولكنَّ امل�شكلة �أن �صوتهما مل يكن‬ ‫م�سموعا فقد تفوق عليه �صوت وقع املطر الذي كان ين�ساب على تالفيف‬ ‫�أذين لذا �سرحت قليال ثم انتف�ضت فج�أة حينما مل�ستني جدتي‪ ،‬التي‬ ‫راحت ت�ضحك من قلبها وقد �أغلقت باب املطبخ بع�صاها قائلة‪:‬‬ ‫هل كنت �شاردة؟‬‫�أظن ذلك‪.‬‬‫ح�سن ًا دعينا جنل�س هنا ون�شرب البابوجن حتى ينتهيا من‬‫حديثهما‪.‬‬ ‫ �أوه فهمت‪� ،‬إذ ًا لقد �أخرجتني جدتي من الغرفة لهذا ال�سبب‪،‬‬‫حق ًا �إنها تعرف الأ�صول وت�شعر بالآخرين‪.‬‬ ‫�شرعنا ن�شرب البابوجن‪ ،‬لكم هو �شعور رائع �أن جتل�س يف بيت‬ ‫‪37‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫يعبق بالأ�صالة ثم تنـزوي يف غرفة �صغرية ب�سيطة تراقب املطر مع‬ ‫جدتك وحتت�سي ك�أ�س بابوجن �ساخن‪ .‬بعد ذلك قمنا �إليهما و�شاركناهما‬ ‫املجل�س‪ ،‬مكثنا هناك ن�صف �ساعة‪ ،‬ثم ان�صرفنا عند توقف املطر‪ .‬ويف‬ ‫طريق العودة �س�ألت مرهف عن الأمور كيف جرت ف�أجابني والفرح‬ ‫يراق�ص �صوته‪ :‬لقد �أراحني جدنا‪� ،‬أت�صدقني �أنني مل �أكن �أت�صوره‬ ‫هكذا‪ ،‬فكم زرناه وجال�سناه لكنه مل يتكلم �أمامي كما تكلم اليوم‪ ،‬لقد‬ ‫�صال وجال ك ُمثقف حمنك �أو حكيم مجُ ِّرب‪ ،‬احلمد هلل �أنه يوجد يف‬ ‫العائلة من يفهمني‪.‬‬ ‫عندما و�صلنا �إلى البيت دخلت غرفتي فوجدت عائ�شة فيها‬ ‫اند�س حتت الو�سادة‪ ،‬دنوت‬ ‫وقد ارمتت على �سريرها تبكي ور�أ�سها قد ّ‬ ‫فانتف�ضت من مكانها فج�أ ًة‪،‬‬ ‫منها بلطف‪ ،‬هممت باجللو�س �إلى جوارها‬ ‫ْ‬ ‫نظرت �إ َّ‬ ‫يل بحدة‪ ،‬كانت مقطبة اجلبني‪ ،‬ويف عينيها تورم من �شدة‬ ‫البكاء‪ ،‬راحت مت�سح الدموع عن خديها بيديها وهي ت�أخذ َن َف�س ًا عميقا‬ ‫وت�ستجمع قوتها ثم قالت‪ :‬متى عدمتا؟‬ ‫لقد جئنا منذ قليل‪.‬‬‫وهل كانت الزيارة موفقة؟‬‫لقد كانت كذلك‪.‬‬‫احلمد هلل‪.‬‬‫نعم احلمد هلل‪.‬‬‫‪38‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫فج�أة غاب �صوتها عن احل�ضور �إذ �أنهت �أ�سئلتها ولي�س يف ذهنها‬ ‫حاولت تذكر � َّأي �شيء يجعلني‬ ‫�شيء �آخر تقوله لذا بدت مرتبكة‪ ،‬وقد‬ ‫ْ‬ ‫�أن�سى �س�ؤالها عن �سبب بكائها لكنني �سارعت �إلى اقتنا�ص حلظات‬ ‫�صمتها ف�س�ألتها وهي يف ذروة االرتباك‪ ..:‬ما بك؟‬ ‫ال�شيء‪ ،‬ال �شيء‪� .‬أجابتني وهي تق�ضم �أظافرها‪.‬‬‫كيف ال �شيء‪ ..‬ويف عينيك ُحمرة من �شدة البكاء؟‬‫قلت ال �شيء وكفى‪.‬‬‫حاولت �أن �أ�ستخدم الورقة الأخرية معها فقلت متظاهر ًة‬ ‫باحلزم‪ :‬ح�سن ًا‪ ،‬ال تقويل �س�أ�س�أل �أمك عن ال�سبب‪.‬‬ ‫ما بي‪.‬‬

‫أرجوك‪ ،‬ال تخربيها �أنني �أبكي‪ ،‬ال تخربيها و�س�أ�شرح لك‬ ‫‪-‬ال‪ ،‬ال‪ِ � .‬‬

‫تربعت يف جل�ستي على ال�سرير وو�ضعت الو�سادة يف ح�ضني‬ ‫لأ�ستند �إليها‪� ،‬أما هي فجل�ست بطريقة جعلت ذقنها ت�ستقر بني ركبتيها‬ ‫بينما طوقت �ساقيها بذراعيها وقالت‪ :‬يف غيابكما جاءتنا خاطبة‬ ‫وطلبتني البنها ف�أجابتها �أمك ب�صوت ي�شوبه �شيء من ال�سرور‪:‬‬ ‫وهل م�صري الفتاة �إال الزواج؟ ولكن البد من اال�ستف�سار �أوال‬‫عن و�ضع ال�شاب و�أخالقه‪.‬‬ ‫وهل ت�شرتطني يف ال�شاب �أن يحمل �شهادة جامعية؟‬‫‪39‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫بقيت‬ ‫أمك م�ستنكرة‪ ،‬ولكنني ُ‬ ‫لي�س �ضروريا‪ ،‬هنا نظرتُ يف � ِ‬‫�صامت ًة حتى قالت اخلاطبة‪:‬‬ ‫�إن ابني يعمل حدادا وهو مي�سور‪َ ،‬ح َ�سنُ اخللقة واخللق فهل‬‫تقبلون به �إن طلبنا يد امل�صونة؟‬ ‫عندها انت�صبت واقفة‪ ،‬وقد فقدت تقدير الأمور وقلت للخاطبة‬ ‫دون وعي ملا �أقول‪:‬‬ ‫ال ن�صيب لك عندنا‪ ،‬ف�أنا ال �أريد زوج ًا جاهال‪.‬‬‫هرعت �إ ّ‬ ‫يل �أمك حتاول دفعي للخارج و�إخرا�سي وب�آن ارت ّدت نحو‬ ‫اخلاطبة تعتذر منها وجت ُّد يف اختالق التربيرات‪ ،‬ولكنَّ اخلاطبة كانت‬ ‫قد اتخذت موقف ًا نهائي ًا فحملت نف�سها وغادرتنا وقبل �أن تغلق باب‬ ‫أمك وقالت‪:‬‬ ‫الدار خلفها التفتت ل ِ‬ ‫ع ِّلمي ابنتك الأدب لأنها تفتقده‪.‬‬‫�أغلقت �أمك الباب يف وجهها بقوة ثم �شرعت تفت�ش عني حتى‬ ‫وجدتني هنا‪ ،‬ف�أخذت توبخني وت�صفني بالوقاحة والغباء لدرجة ِب ُّت‬ ‫معها غري واعية لنف�سي فانفجرت يف وجهها غا�ضبة واتهمتها �أنها تريد‬ ‫اخلال�ص منا ب�أية و�سيلة وب�أنها ووالدك ال يحباننا بل فقط يريدان‬ ‫حت�ضرينا للزواج وك�أننا �سلعة تباع وت�شرتى بال م�شاعر �أو قلوب تفقه‬ ‫خرجت �شعرتُ بغ�ص ٍة‬ ‫كنت قا�سية مع �أمي حق ًا‪ ،‬ولهذا عندما‬ ‫�شيئا‪ .‬لقد ُ‬ ‫ْ‬ ‫�شديد ٍة‪.‬‬ ‫‪40‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫فعلت يا عائ�شة‪ ،‬لقد ارتكبت حماقة وا�ضحة‪.‬‬ ‫ماذا ِ‬‫�أعلم ذلك‪ ،‬لقد �أراحتني الدموع قلي ًال‪ ،‬لكنني ال �أزال �أ�شعر‬‫بالذنب‪� ،‬أوه ت ّب ًا لل�شيطان لقد �أخط�أت‪ ،‬خرجت عائ�شة م�سرعة �إلى‬ ‫املغ�سلة وغ�سلت وجهها‪� ،‬س َّرحت �شعرها ثم ت�سللت �إلى ال�صالون‪،‬‬ ‫كانت �أمي جتل�س وحدها تتابع برنامج درا�سات قر�آنية الذي يقدمه‬ ‫ال�شيخ البوطي‪ ،‬انتظرتها حتى انتهت ثم ارمتت عليها و�أخذت تقبلها‪،‬‬ ‫تظاهرت �أمي بال�سخط واالنزعاج ولكنها عندما �شاهدتها يف ذروة‬ ‫ال�شعور بالذنب واالعرتاف باخلط�أ بادلتها القبل وراحت ُت�س ِّرح �شعرها‬ ‫بيدها اليمنى وهي تقول‪:‬‬ ‫ملاذا فعلت هذا يا عائ�شة‪ ،‬ما يجدر بك ذلك‪.‬‬‫�ساحميني يا �أمي‪ ،‬مل �أكن �أق�صد ما تفوهت به من كلمات‬‫مبالغ فيها‪� ،‬إذ �شعرت للحظات �أنني �سلعة تباع وت�شرتى و�أنكم تودون‬ ‫اخلال�ص مني‪.‬‬ ‫�إنك واهمة‪ ،‬وتتخيلني �أ�شياء ال وجود لها ثم �أ�شارت �إيل‬‫بالدخول ففعلت وجل�ست بجانب �أمي‪ ،‬فل َّفت يدها الي�سرى على كتفي‬ ‫وقالت‪:‬‬ ‫ا�سمعاين جيدا‪ ،‬ال توجد �أم يف العامل تكره بناتها �أو تتمنى‬‫اخلال�ص منهنّ ‪ ،‬ما �أريده لكما ‪-‬ي�شهد اهلل‪ -‬هو �أن �أراكما يف بيوت‬ ‫�أزواجكن �سعيدات م�ستقرات‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫هنا و�ضعنا اجل َّمال يا �أمي‪ ،‬كل �أم ترى يخ�ضور �أحالم الفتاة‬‫الزواج والأ�سرة‪ ،‬خذيني مث ًال ف�أنا ال �أرى الزواج تاج �أما َّ‬ ‫فلدي �آمال‬ ‫ين َّ‬ ‫لدي درا�ستي‪� ،‬أحالمي اخلا�صة‪،‬‬ ‫�أخرى ال تق ُّل عن الزواج �شرف ًا و�أهمية‪َّ .‬‬ ‫رغبتي يف االرحتال وال�سفر‪.‬‬ ‫والزواج‪.‬‬‫خجول ثم هم�ست‪:‬‬ ‫كرنج�س‬ ‫تو ّرد وجه عائ�شة‪ ،‬حنت ر�أ�سها‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫�أفكر فيه يا �أمي‪ ،‬لكنه‪ ..‬لكنه لي�س كل �شيء يف حياتي‪ ،‬هنا‬‫وقلت بثق ٍة‪ :‬و�أنا �أرى ال�شيء نف�سه يا �أمي‪.‬‬ ‫تدخلت ُ‬ ‫ففركت �أمي �صيوان �أذين اليمنى وقالت �ضاحك ًة‪ :‬و�أنت ترين‬ ‫نظرات مل �أفهمها‬ ‫ال�شيء نف�سه �أي�ض ًا ثم رفعت حاجبيها و�صوبت نحوي‬ ‫ٍ‬ ‫وقالت‪ :‬عندما تفق�سني من البي�ضة �سن�ستمع �إليك يا �صباح خانوم‪.‬‬ ‫خت على عيني فخبا اتقادهما‪،‬‬ ‫تفاج�أت بقولها وك�أن الده�شة َن َف ْ‬ ‫ونَثرَ ْت الرماد على �شفتي فذب ُلت ابت�سامتها‪ .‬كان وجهي كم�سرحي ٍة‬ ‫كوميدية �أ�ضحكت �أمي و�أختي‪ .‬وبعد دقائق �سكنتا‪� ،‬أخذت �أمي َن َف�س ًا‬ ‫عميق ًا ثم قالت‪:‬‬ ‫هداك اهلل يا �صباح‪ ،‬هل هذا وقت تهريجك؟ ثم ابت�سمت‬‫ِ‬ ‫ن�صف ابت�سامة �أ�شاحت اللثام عن �ضاحكها الأمين وقالت‪:‬‬ ‫�ستدركني يوم ًا يا عائ�شة �أن الزواج لي�س قيد ًا بل حياة جديدة‬‫‪42‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫يتوجها الدفء وال�سكينة‪� .‬إنه حاج ٌة روحية وج�سدية ب� ٍآن مع ًا‪.‬‬ ‫ولكن يا �أمي‪ .‬ها هي مرمي قد ُط ِّلقت وتلك �سعاد قد �ضربها‬‫زوجها‪ .‬و‪ .‬قاطعتها �أمي بهدوء‪:‬‬ ‫كلهن �ضحايا ل�سوء اختيارهن للزوج �أو لت�سرع �أهلهن يف‬‫تزويجهن‪.‬‬ ‫�صمتت عائ�شة و�أطرقت يف الأر�ض فا�ستطردت �أمي‪:‬‬ ‫افعلي ما ترينه منا�سبا لكن تذكري‪ :‬الزواج حياة وا�ستقرار‬‫ولي�س قرب ًا معتم ًا‪.‬‬ ‫�صارت عائ�شة بعد ذلك تدخل على اخلاطبات كلما جئن‬ ‫لر�ؤيتها‪ ،‬تقدم لهن القهوة وجتال�سهن قلي ًال‪ ،‬ثم بعدها تن�صرف‪ ،‬ف�إن‬ ‫طلنب يدها يكون لها الكالم النهائي وهكذا ر�ضيت عائ�شة بهذا احلل‬ ‫و�أر�ضت �أمها �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫يوم �أ�صابت عمتي نزلة برد ف�أر�سلتنا �أمي لعيادتها‬ ‫وذات ٍ‬ ‫و�إعطائها الدواء‪ .‬كان اجلو ماطر ًا واحلافالت مزدحمة‪ ،‬لهذا �آثرنا (‬ ‫ال�سرفي�س )‪ ،‬كان ن�صفه ممتلئ ًا فظل واقف ًا يف مركز انطالقه حوايل‬ ‫‪ 10‬دقائق ينتظر االمتالء بالركاب‪ ،‬و�صدف وقتها �أن خرجت ح�شود‬ ‫ال�شباب من دار ال�سينما فاختارت جمموعة من ال�شباب الركوب يف (‬ ‫ال�سرفي�س ) نف�سه‪ ،‬جل�س وراءنا اثنان منهم‪ ،‬كانا يتكلمان عن املمثلة‬ ‫وال ُق َبل ثم َ�س َّولت لأحدهما نف�سه �أن ي�سلل �أ�صابع يده الي�سرى املتو�ضعة‬ ‫‪43‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫على م�سند مقعدنا خلف ( خمار ) عائ�شة‪ ..‬فاحمر وجهها ثم �أ�سبل يده‬ ‫بني ظهرها وامل�سند‪ .‬عندها �صرخ �أحدهم‪:‬‬ ‫�أبعد يدك يا حمرتم‪.‬‬‫وما �ش�أنك �أنت؟‬‫�أبعدها و�إال ك�سر ُتها لك‪.‬‬‫�أرين كيف �ستفعل ذلك‪.‬‬‫ام�ض بنا (خيو) �إلى �أقرب خمفر‪ .‬ف َّرد عليه ال�سائق‪:‬‬ ‫ح�سن ًا‪ِ .،‬‬‫( لفها دخيلك ) لي�س وقتها الآن‪ ،‬ف�أجابه الراكب بحزم‪:‬‬‫قلت لك �أو�صلنا لأقرب خمفر‪ ،‬و�أنا �س�أتكفل بخ�سارتك‪.‬‬‫بدت عائ�شة مرتبكة‪ ،‬نظرت �إليها ثم �صرخت بال�سائق‪:‬‬ ‫ �أنزلنا هنا من ف�ضلك‪.‬‬‫بل �ستبقيان‪ ،‬متتم ذلك الوغد ثم �أردف متوجه ًا لعائ�شة‪:‬‬‫لقد �أغريتني ثم ها�أنت تن�سلني من املو�ضوع وك�أنه ال دخل لك‪.‬‬‫فما كان من عائ�شة �إال �أن ازداد بكا�ؤها ف�صرخت �إحدى الن�سوة وهي‬ ‫بعمر والدتي‪:‬‬ ‫‪44‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫عيب عليك هذا الكالم يا ولد‪� ،‬ألي�س لك �أخوات‪� .‬ألي�س لك‬‫عائلة؟ حقا جيل �آخر زمن‪.‬‬ ‫فرد عليها بوقاحة‪:‬‬‫اخر�سي يا عجوز‪ .‬ال ينق�صني �إال �أنت‪.‬‬‫�صرخت بكل �صوتي‪:‬‬ ‫هنا‬‫ُ‬ ‫هيا �أنزلنا‪� .‬أنزلنا �أرجوك فتوقف ( ال�سرفي�س )‪ .‬وملّا هممنا‬‫�شاب‬ ‫هم �أحد �أفراد هذه املجموعة مبنعنا‪ ،‬عندها انتف�ض ٌّ‬ ‫بالنـزول َّ‬ ‫تبدو عليه ال�سكينة والوقار من مقعده الواقع يف زاوية ال�سرفي�س اخللفية‬ ‫و�صرخ‪:‬‬ ‫ابتعد عنهما يا وقح و�إ َّال‪.‬‬‫و�إال ماذا يا حلو‪ .‬ثم تناوله ب�ضربة على وجهه جعلت الدماء‬‫تندلقُ من فمه وظ ّل ي�صرخ غا�ضب ًا‪:‬‬ ‫انزلوا يا �أوغاد‪ ،‬هيا انزلوا‪.‬‬‫فر ّد عليه �أحدهم‪:‬‬ ‫ال ينق�صنا �إال �أنت‪ ،‬ا�صمت و�إال �أرديتك �أر�ض ًا يف ال�ضربة‬‫الثانية‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫هنا تدخل �أحدهم وقال للركاب‪:‬‬ ‫انزلوا من ف�ضلكم‪ُ ،‬ث َّم نظر �إلينا وقال‪:‬‬ ‫انزال‪� .‬س�أعرف كيف �ألقن هذه احلثالة در�س ًا ال تن�ساه‪.‬‬‫تابعنا طريقنا �سري ًا على الأقدام وطوال الطريق كانت عائ�شة‬ ‫تبكي وملّا و�صلنا �إلى بيت عمتي كان املطر قد بللنا فجففنا عندها ثيابنا‬ ‫و�أعطيناها الدواء مع ك�أ�س ليمون‪ .‬مكثنا عندها ن�صف �ساعة ثم عدنا‬ ‫�أدراجنا ونحن ندعو اهلل �أال يحدث معنا يف الإياب ما حدث يف الذهاب‪.‬‬ ‫***‬ ‫اليوم جاءتنا الر�سالة الثانية من �أحمد وفيها يطمئننا على‬ ‫�صحته وظروف عمله ويو�صي مرهف بالذهاب ل�صندوق الربيد �آخر‬ ‫الأ�سبوع حيث �ست�صله ر�سالة منه‪ .‬وفع ًال جلب مرهف الر�سالة‪ ،‬ولج‬ ‫غرفته م�سرع ًا‪� ،‬أغلق الباب وارمتى على الفرا�ش ثم فتح الر�سالة وراح‬ ‫ف�سمعت كل �شيء‪ ،‬حاولت حب�س‬ ‫يت�صفحها بعينيه وب�آن ب�صوت مرتفع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نف�سي عن ال�ضحك ولكنني مل �أ�ستطع‪ ،‬وثب مرهف من الفرا�ش وتوجه‬ ‫نحو م�صدر ال�صوت‪ ،‬ثم رفع الغطاء فوجدين حتت �سريره �أم�سكني‬ ‫من يدي بقوة وقال‪:‬‬ ‫هل يجوز هذا يا �شقية؟‬‫ف�أجبته مب�سكنة وخنوع‪:‬‬ ‫‪46‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ال‪ .‬ال‪ .‬لقد �أخط�أت‪.‬‬‫عليك‪ .‬املهم �أال تفعليها ثانية ثم �أردف‪� :‬أتعلمني‪ ،‬كنت‬ ‫ال ِ‬‫�س�أطلعك عليها من تلقاء نف�سي لكنك تعجلت الأمور‪.‬‬ ‫�أنا �آ�سفة‪� ،‬صدقني �آ�سفة‪.‬‬‫ح�سن ًا هذه املرة �س�أ�ساحمك‪ ،‬ثم رمقني بنظرة خاطفة و�أردف‪:‬‬‫هذه املرة فقط‪.‬‬ ‫موافقة‪.‬‬‫والآن اجل�سي �س�أ�سمعك ما كتب فيها ولكن ب�شرط �أن يبقى‬‫هذا �سر ًا بيننا‪� .‬شرع يقر�أ الر�سالة بت�أثر‪ ،‬و�أنا �أ�صغي �إليه ب�إخال�ص‪،‬‬ ‫كانت الر�سالة ال�ساد�سة بينهما منذ �سفر �أحمد ويف تلك الر�سائل‬ ‫علي ما �أر�سله‬ ‫كانا يطرحان م�شكالتهما ومعاناتهما الذاتية‪� .‬أخذ يتلو ّ‬ ‫لأحمد‪ ،‬كان وقتها متعب ًا �شاحب الوجه كئيب ال�سحنة‪ ،‬ال �أدري ما به‪،‬‬ ‫يبدو �أن هناك �أمر ًا ُي�ؤ ِّرق م�ضجعه‪ ،‬راح يقر�أ حتى و�صل لعبارة‪ :‬يا �أخي‪،‬‬ ‫�إنني �أ�شعر بال�ضياع‪� ،‬أجل �أنا �ضائع‪َ ،‬م َثلي َك َم َث ِل من َو َج َد نف�سه يف بقعة‬ ‫ملمر رئي�سي تتفرع عنه ممرات فرعية‬ ‫لها �سبعة �أبواب وكل باب ُيف�ضي ٍ‬ ‫بع�ضها م�سدود وبع�ضها الآخر يو�صل �إلى املخرج حيث النور‪ .‬النور يا‬ ‫�أخي‪.‬‬ ‫علي �أ�ساعدك‪.‬‬ ‫ افتح يل بوابة �صدرك و�أدخلني مملكتك‪ّ ،‬‬‫‪47‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ابت�سم ابت�سامة ت�شبه �شكل املنجل حماوال ح�صاد تطلعاتي من‬ ‫منبتها‪ .‬وا�ستدرك قائال‪:‬‬ ‫لن ت�ستطيعي‪ ،‬فالذي �سيدخل مملكتي عليه �أوال �أن يحيطها‬‫بوعيه وجتاربه الغنية وثاني ًا �أن يدخلها فيعي�ش فيها بغذاء الروح‬ ‫وال�شعور‪.‬‬ ‫لك لن ت�ستطيعي معي‬ ‫تب�سم وقال‪� :‬أمل �أقل ِ‬ ‫مل �أفهم ق�صدك‪َّ .‬‬‫�صرب ًا ف�إن كانت روحك بذرة فروحي ف�سيلة وكيف لبذرة �أن تدرك فراغ‬ ‫�شتلة؟‬ ‫تركت مكاين من�سحبة �إلى كر�سي يف زاوية الغرفة و�أجبته بغيظ‪:‬‬ ‫وكيف ل�شتلة �أن تدرك تطلعات البذرة؟‬‫�ضحك �ضحكا �شديد ًا بعدها �أخذ نف�سا عميقا وقال‪ :‬هذا ما‬ ‫�أ�سميه ال�سف�سطائية ب�أم عينها‪.‬‬ ‫ماذا تعني بقولك؟‬‫و�ضع الو�سادة �أمام وجهه للمداعبة وقال‪:‬‬ ‫ال �شيء‪ ،‬ال �شيء‪ ،‬ثم عاد لل�ضحك جمدد ًا ف�ضحكت ل�ضحكه‬‫وك�أين �شعرت به قد ح َّرر ب�ضحكته طاق ًة مكبوتة‪ ،‬وقبل �أن ي�ستعيد روحه‬ ‫الأولى ال�ساجية �س�ألته‪ :‬ملاذا ال ت�شرح همومك لوالدك �أو لأمك؟‬ ‫‪48‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�أطرق قلي ًال ثم رفع ر�أ�سه و�س َّدد نظراته احلادة نحوي وقال‪:‬‬ ‫والدك ال يفهم من الكالم �إال ثماره ونتائجه‪ ،‬بيد �أنه عاجز عن‬‫احلياة يف اجلذع ومراقبة تدفق الن�سغ وكيفية �إبداع احلياة يف العمق‬ ‫وراء ال�صور والأ�شكال‪ .‬و�أمك هي الأخرى عاجزة عن ذلك‪� ،‬أ�ضيفي‬ ‫�أنها حنون ٌة لدرجة متنعني من م�صارحتها ب� ِّأي �شيءٍ يعذبني‪� ،‬إين‬ ‫لأر�ضى �أن �أتعذب � َ‬ ‫تتعذب عني ولو مرة‪.‬‬ ‫أجد �أمك‬ ‫ألف مرة وال � َ‬ ‫ُ‬ ‫ويف غمرة حديثه ح�صلت منه على عنوان �أحمد اجلديد وبعثت‬ ‫له ر�سالة �شرحت فيها حال مرهف كما ر�أيتها وطلبت منه العون‬ ‫والن�صيحة‪ ،‬فجاءين ر ٌّد م�ستعج ٌل منه �أخربين فيه �أنه مطل ٌع على‬ ‫املو�ضوع و�أنه يرى �أن يتع ّرف مرهف على �صديق مقرب له ا�سمه حامد‬ ‫احلامد يدر�س هند�سة ميكانيك وميلك روح ًا تتغذى وروح مرهف من‬ ‫املنبع نف�سه‪ ،‬ويف نهاية ر�سالته كتب يل عنوانه مف�صال وطلب مني �أن‬ ‫�أعطيه ملرهف‪ .‬ت�ساءلت يف نف�سي‪ :‬ملاذا مل يخربه بذلك يف ر�سالته‪،‬‬ ‫فجاءين اجلواب مبا�شرة من خالل مالحظة َّ‬ ‫خطها يف �آخر الر�سالة‬ ‫حيث كتب‪ ( :‬ال ريب �أنك �ستت�ساءلني ملاذا مل �أخرب مرهف مبا�شرة‬ ‫واجلواب‪ :‬لأنني ال �أريده �أن يظنني راغب ًا يف التخل�ص منه‪ ،‬وثاني ًا لأنني‬ ‫مررت بتجربته نف�سها ولكنني خرجت منها بحلول متمردة �أنا نف�سي ال‬ ‫�أقرها متام ًا فلي ظرويف اخلا�صة)‪.‬‬ ‫حققت لأخي رغبته و�أخربت مرهف �أنَّ لأحمد �صديق ًا عميق‬ ‫الفهم غني الروح يدر�س الهند�سة ويعي�ش مع جدته مبفرده وقد ي�ستطيع‬ ‫م�ساعدته فقال يل‪:‬‬ ‫‪49‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ح�سن ًا‪� ،‬س�أ�ستف�سر من �أحمد عنه‪.‬‬‫فقلت له حمذر ًة من العواقب‪:‬‬ ‫لو �أخربته بالأمر و�أظهرت رغبتك بالتعرف على �صديقه هذا‪،‬‬‫�سيظن �أنك قد تخليت عنه وعن م�شورته ورمبا �سيعتربها �إهان ًة له‬ ‫فينقطع ما بينكما من و ٍّد و�صراحة‪.‬‬ ‫ال �أدري كيف ت�سللت كلماتي لقلبه مع �أنني مل �أكن مقتنعة بها‬ ‫متام ًا‪ ،‬ف�أجابني‪� :‬س�أبحث عن حامد هذا و�س� ِأج ُّد يف اكت�شاف طريق ٍة‬ ‫ب�شكل يظهر له ولأخي فيما بعد �أن امل�صادفة وحدها من‬ ‫جتمعني به ٍ‬ ‫رتَّب لذلك‪.‬‬ ‫�أر�سل �أحمد ر�سالة �إلى حامد �أخربه فيها عن حالة مرهف‬ ‫النف�سية و�آفاق فكره النامي ودعاه فيها �إلى م�ساعدته قدر الإمكان‬ ‫ُم َب ِّين ًا له الطريق التي �ستمكنهما من اللقاء والتعارف من دون �إدراك‬ ‫مرهف التخطيط امل�س َّبق لذلك‪ .‬وافق حامد على مدِّ يد املعونة‪ ،‬وبعد‬ ‫علي �أن �أُق ِن َع مرهف بالذهاب �إلى املركز الثقايف الواقع يف‬ ‫�أ�سبوع كان َّ‬ ‫�ساحة العا�صي حل�ضور �أم�سية �شعرية من �أجل تعارفه مع حامد‪ .‬قال‬ ‫يل با�ستغراب‪:‬‬ ‫كيف علمت مبجيئه �أم�سية اليوم؟‬‫ف�أجبته ب�شيء من الثقة‪:‬‬ ‫‪50‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫كان �أحمد يقول يل دوم ًا �أن له �صديق ًا ال ُيف ِّوتُ �أم�سية �أدبية‪،‬‬‫وقد علمت فيما بعد �أن ا�سمه حامد‪.‬‬ ‫وكيف �ستميزينه عن غريه �إن كنت ال تعرفني �شكله‪.‬‬‫بلى ر�أيته‪.‬‬‫والتفت �إ َّ‬ ‫يل وقال بنظرات حادة‪:‬‬ ‫عندها �أطف�أ التلفاز‬‫َ‬ ‫متى كان ذلك؟‬‫حينما ح�ضرت مع �أحمد �إحدى الأم�سيات ال�شعرية‪ ،‬حينها‬‫التقيا وتبادال �أطراف احلديث‪ ،‬ويف طريق العودة �أخربين �أحمد عن‬ ‫ا�سمه خالل درد�شة عابرة‪.‬‬ ‫هنا �أ�سند ظهره �إلى م�سند الأريكة وقال‪:‬‬ ‫ح�سن ًا‪ ،‬ح�سن ًا‪ .‬ثم �أردف‪:‬‬‫�إذ ًا جهزي نف�سك لأم�سية اليوم‪.‬‬‫خالل الأم�سية ال�شعرية كان حامد يجل�س يف ال�صف الأخري‬ ‫ولهذا مل يلفت خروجه انتباه �أحد �إال �أنا �إذ كنت �أراقبه منذ بداية‬ ‫الأم�سية‪ ،‬وكزت مرهف وهم�ست يف �أذنه‪ :‬ها هو حامد‪.‬‬ ‫ح�سنا دعينا نخرج خلفه‪.‬‬‫‪51‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫وعند بهو املركز كان حامد يقف ووجهه �صوب ال�شارع اخلارجي‪.،‬‬ ‫َح َّياه مرهف و�س�أله م�ستف�سر ًا‪:‬‬ ‫الأخ حامد؟‬‫�أجل �أنا حامد‪.‬‬‫ومن تكون ح�ضرتك؟‬‫�أنا مرهف‪ ،‬و�أخي �صديقك �أحمد‪.‬‬‫نظر �إ ّ‬ ‫يل ثم عاد بنظره �إلى مرهف وقال م�ستو�ضح ًا‪:‬‬ ‫من �أحمد؟‬‫�أحمد ال�سعيد‪ ..‬قالها وقد بدت عليه عالمات االرتباك واحلرج‬‫وك�أين �أخاله قد نوى االعتذار واالن�سحاب بيد �أن تغري نربة حامد فج�أ ًة‬ ‫طم�أن مرهف قلي ًال و�أعاد �إليه ثقته بنف�سه‪� .‬صمت لربهة ثم �س�أله‪:‬‬ ‫كيف �أحوال �أحمد؟‬‫بخري واحلمد هلل‪.‬‬‫ لقد كان �أحمد �شريكي يف مقعد الدرا�سة‪ ،‬كان متفوق ًا متوقد‬‫الذهن �صايف النف�س‪ ،‬كبري القلب‪ .‬كان بحق �شاب ًا مثالي ًا على درجة‬ ‫عالية من الفهم والطيبة‪.‬‬ ‫‪52‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫وتابع‪ :‬لقد حدثني عنك �أحمد‪ ،‬و�أخربين فيما �أخربين عن ميولك‬ ‫الأدبية‪ ،‬ثم �أوم�أ لنا بيده اليمنى للخروج �إلى ال�شارع‪ .‬مت�شينا قلي ًال‬ ‫بعيد ًا عن املركز الثقايف باجتاه حديقة �أم احل�سن‪ ،‬وخالل الطريق قال‬ ‫حامد خماطب ًا مرهف‪:‬‬ ‫ �أتكتب �شعر ًا �أم ق�صة؟‬‫�أكتب الق�صة‪ ،‬وعندي بع�ض الن�صو�ص النرثية‪.‬‬‫ه َّز ر�أ�سه ومتتم‪ :‬جيد ثم �أردف‪ :‬وملن تقر�أ من الكتاب والأدباء؟‬ ‫�أقر�أ لروائيني عرب كنجيب حمفوظ‪ ،‬ورو�س كد�ستوف�سكي‬‫وتول�ستوي‪ .‬وقر�أت وحي القلم للرافعي والأجنحة املتك�سرة جلربان‪.‬‬ ‫وغري ذلك من الق�ص�ص والق�صائد املتناثرة يف املجالت العربية‬ ‫وال�صحف املحلية‪ .‬عندها ه َّز ر�أ�سه ب�شكل �أكرب وقال‪:‬‬ ‫�إذن �سيكون لنا لقاءات عديدة �إن �شاء اهلل‪.‬‬‫منذ ذلك الوقت �صار مرهف �أف�ضل حال مما �سبق‪ ،‬وكم كرر‬ ‫على �سمعي عبارات الود واالحرتام حلامد وملَّح �أكرث من مرة �أنه �أخري ًا‬ ‫وجد ال�شخ�ص الذي ي�ستطيع فهمه وتذوق �أحواله الداخلية‪ .‬كنت �أ�شعر‬ ‫بال�سعادة الغامرة ل�سعادته وبالغرية املكتومة الجنذابه حلامد ون�سيانه‬ ‫إياي بيد �أنني يف احلقيقة �صرت �أي�ض ًا م�شدودة حلامد ولو كنت من‬ ‫� َّ‬ ‫بت به اليوم �سيكون زوجي‬ ‫عج ُ‬ ‫املُ َّط ِلعات على الغيب لعلمت �أن من �أُ ِ‬ ‫الحق ًا‪.‬‬ ‫‪53‬‬



‫الف�صل الرابع‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫م�ضى عام على ذلك اللقاء‪ ،‬تر َّدد مرهف خالله على حامد‬ ‫ثالث مرات فقط‪� ،‬إذ مر�ضت جدته ما جعلها طريحة الفرا�ش فكان‬ ‫على حامد �أن يبقى �إلى جوارها معظم �ساعات اليوم‪ ،‬ما ا�ضطره �إلى‬ ‫قطع التزاماته كافة مع مرهف وغريه من الأ�صدقاء‪ .‬حتى كتاباته‬ ‫الأدبية كادت �أن تنعدم يف تلك الفرتة �إال من ب�ضع ق�صائد كانت مبثابة‬ ‫ق�صب الناي لروحه ال�شاكية ه َّمها �إلى اهلل‪� ،‬إلى �أن جت َّلت العناية‬ ‫الإلهية فعربت بروح اجلدة �إلى مثواها الأبدي‪ .‬افتقدها كثري ًا �إذ كانت‬ ‫له مبثابة النور الذي يطرد �شبح الوحدة والك�آبة عن الت�سلل لفراغ‬ ‫البيت والروح‪ ،‬واملدِّ الأخري املتبقي من موج العائلة حيث فارق والداه‬ ‫احلياة �أثناء عودتهما من العمرة وهو يف العا�شرة من عمره فتو َّلت‬ ‫بيت يفقد احلياة‬ ‫جدته العناية به‪ ،‬ولهذا فقد �أ�ضحى غريب ًا ي�سكن يف ٍ‬ ‫ب�صخبها وهدير �أجيالها املتعاقبة واحل�ضن ال�صدوقة بدفئها وعنايتها‬ ‫�إال �أنه ميتلك يف ذات الوقت ما ت�سعى �إليه خاليا املجتمع و ُتف ِّرخ يف ع�شه‬ ‫لقمة العي�ش‪� .‬إنه املال �أجل املال الوفري املتمثل يف بناية من �ستة طوابق‬ ‫ومزرعة م�ساحتها خم�سمائة دومن و�سيولة مالية ال تقل عن مائتي �ألف‬ ‫لرية‪ .‬هذه حال حامد‪� ،‬أما عائ�شة فقد خطبها حمام موظف يف دائرة‬ ‫�سد َل ال�ستار على الف�صل‬ ‫حكومية وا�سمه �سمري عبد الباقي وبهذا فقد �أُ ِ‬ ‫الأول من حياة عائ�شة يف هذا البيت ليبقى لها منه الذكريات‪.‬‬ ‫�أ�ضحت املر�آة لعائ�شة �صديقتها املقربة فهي ال تكاد تفارقها‬ ‫وكنت كلما م ّرت بي‬ ‫حتى تعود فتالقيها ولو كان لإلقاء نظرة عابرة‪ُ ،‬‬ ‫�أخاطبها مازح ًة‪:‬‬ ‫(زفوا العرو�س زفوها وبالدبابي�س ِخزُوها )‪..‬‬‫‪56‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫علي �ضاحكة‪:‬‬ ‫فرتد َّ‬ ‫نحن ال�سابقون و�أنتم الالحقون‪.‬‬‫هكذا كنا نظن جميع ًا لكن كما يقولون‪� :‬أنت ت�شاء و�أنا �أ�شاء‬ ‫والدي م�ساء اليوم‪،‬‬ ‫واهلل يفعل ما ي�شاء‪ ،‬فقد تق َّدم حامد خلطبتي من َّ‬ ‫�أخربهم ق�صته بالكامل وو�ضعه احلايل و�ساعده مرهف يف �إكمال‬ ‫ال�صورة وو�ضع النقاط على احلروف‪ ،‬وحينما غادر ناداين والدي وقال‪:‬‬ ‫�سمعت احلديث الذي جرى فما ر�أيك؟‬ ‫لقد‬‫ِ‬ ‫الر�أي ر�أيكما �أنت و�أمي‪.‬‬‫فنظر �إلى والدتي و قال بحزم‪:‬‬ ‫من املفرو�ض �أن �أ�س�أل عن �أخالقه و�أ�سرته ب َيد �أنه كما �سمعت‬‫مقطوع من �شجرة وق�صته تكاد متزق و�شائج القلوب فهو وحيد بال‬ ‫أهل وال �أقارب والذي يطمئنني �أنه بالن�سبة لأحمد �صديق العمر فال‬ ‫� ٍ‬ ‫ريب �أنه خلوق مثله‪ ،‬ومع هذا �س�أبعث بر�سالة لأحمد ف�إن كان جوابه مـا‬ ‫�أتوقع توكلنا على اهلل وح َّددنا موعد الزفاف لكما �أنت وعائ�شة يف الليلة‬ ‫ذاتها‪ .‬بعد ذلك نظر �إلى �أمي وقال‪:‬‬ ‫ما ر�أيك فيما قلت؟‬‫ال تعقيب يل على كالمك‪ ،‬غري �أين �أرى �أن تكون هناك فرتة‬‫خطوبة حتى يتمكنا من التعرف �أحدهما على الآخر فرمبا مل ين�سجما‬ ‫‪57‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�أو يتوافقا يف الطباع وامليول‪ ،‬فهذا م�شروع حياة دائمة ولي�س حت�ضري ًا‬ ‫للقاءٍ عابر �أو �صحبة عار�ضة‪ ،‬وقبل �أن ينطق والدي بحرف واحد قلت‬ ‫لهما باندفاع‪:‬‬ ‫ال داعي يا �أمي لفرتة اخلطوبة‪ ،‬فال�شاب جيد!‬‫أدركت الزلة التي‬ ‫هنا ح ّدق اجلميع ّيف با�ستغراب وده�شة ف� ُ‬ ‫جت حرج ًا عظيم ًا لدرجة مل �أ�ستطيع معها متالك نف�سي‬ ‫أحر ُ‬ ‫وقعت بها و� ِ‬ ‫ف�سرتت وجهي امللتهب الندي بباطن كفي وغمغمت من ورائهما‪:‬‬ ‫مل�أق�صد مل�أق�صد‪.‬ف�ضحكاجلميعلت�صريفهذاوحتديد ًاعائ�شة‬‫حتى �إذا ما �سكنوا جمدد ًا �أردفت قائل ًة‪:‬‬ ‫�إنني �أق�صد �أن الأمر �إن كان يتوقف على فرتة اخلطوبة لأعرفه‬‫ويعرفني ف�أنا موافقة عليه من الآن �إن كان كما حدثني عنه �أحمد‪.‬‬ ‫نرثتُ كلماتي كحبات القمح ثم �أ�سرعت باخلروج وباطن كفي ال يزال‬ ‫ي�سرت وجهي خملف ًة ورائي ت�سا�ؤالت اعتقدت �أنها �ست�شغل بالهم‪ ،‬لكنَّ‬ ‫عائ�شة �أكدت يل فيما بعد �أن الأمر ُف�سر على �أ�سا�س رغبتي يف الزواج‬ ‫منه لي�س �إ َّال وبهذا تب ّددت ظنوين يف �أن ُيخ َّيل �إليهم �أن بيننا �شيئ ًا من‬ ‫وراء ظهورهم �أو �أن اخلطوبة دبرت م�س َّبق ًا من كلينا مع ًا‪.‬‬ ‫***‬

‫‪58‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫بعث والدي ر�سالة م�ستعجلة لأحمد يطلب منه ر�أيه و�أن ي�أتي‬ ‫ب�سرع ٍة يف حال املوافقة على حامد فجاءنا الر ُّد الذي كان مفاجئ ًا‬ ‫للجميع ب�سبب اجلفاف الطاغي على ف�ضاء الر�سالة‪ .‬كان جوابه‬ ‫مقت�ضب ًا �إلى درجة جعلتني �أحفظه عن ظهر قلب‪ ( :‬ال�سالم عليكم‬ ‫ورحمة اهلل‪ .‬وبعد‪ :‬و�صلني مطلبكم �أما من حيث ر�أيي بحامد ف�إنه‬ ‫الزوج املثايل ل�صباح الغالية كما �أت�صور‪ ،‬و�أما من حيث �إمكانية قدومي‬ ‫لأح�ضر حفلة الزفاف ف�أنا �أعتذر �أ�ش َّد االعتذار‪ .‬حتيتي و�أ�شواقي لكم‬ ‫أخ�ص بها �أمي الغالية وال�سالم عليكم )‪.‬‬ ‫جميع ًا و� ُّ‬ ‫ا�ستغرب اجلميع موقفه‪ ،‬فلي�س من عادته يف منا�سبات كهذه‬ ‫�أن يكون جدي ًا وحازم ًا �إلى هذه الدرجة‪� .‬أر�سل والدي لعمي عبد اهلل‬ ‫ي�ستف�سر منه عن ال�سبب وي�ستو�ضح الأمر‪� ،‬إال �أنّ عمي اكتفى باالعتذار‬ ‫يخ�ص �أحمد وحده‪.‬‬ ‫وقال‪ :‬هذا �أمر �شخ�صي ُّ‬ ‫أمر ُيعيقُ‬ ‫لقد زاد ر ُّد عمي الطني ِب َّل ًة‪ ،‬فك�أنه ُيل ِّمح بطريقة ما �إلى � ٍ‬ ‫�أحمد عن القدوم ولكن ما هو هذا الأمر يا ترى؟ �أخذ مرهف يت�صفح‬ ‫ر�سائلهما لبع�ضهما بع�ض ًا‪ ،‬ثم �أ�س َّر يل قائ ًال‪:‬‬ ‫لقد الحظت فع ًال تغري ًا يف خطابه معي‪ ،‬وخا�صة يف ال�شهور‬‫روح مائلة للعزلة �أ�ضحت‬ ‫الأخرية‪ ،‬فقد بد�أت ر�سائله يل تنم عن ٍ‬ ‫ت�ستقبل وال تر�سل وقد بلغ هذا ذروته يف ر�سالته الأخرية حيث قال‪( :‬‬ ‫�أن�صحك يا �أخي بحامد فهو ميلك روح ًا غنية طموحة‪� ،‬أما �أنا فدعني‬ ‫و�ش�أين �أرجوك )‪.‬‬ ‫‪59‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫وهنا �صرخت يف وجهه ب�صوت جمروح‪:‬‬ ‫وملاذا مل تخربنا هذا‪ ،‬قل يل ملاذا؟‬‫ُب ِه َت ل�صراخي ثم راح يدعك وجهه بكفه اليمنى ومتتم ب�صوت‬ ‫خمنوق‪:‬‬ ‫حقل مليءٍ بالورد‬ ‫مل �أرغب �أن �أعكر ِ‬‫عليك �صفوك و�أنت يف ٍ‬ ‫أدخل �إلى ف�صلك الربيعي غيوم �شتاء رمادية‪.‬‬ ‫والفرا�شات و�أن � ِ‬ ‫ق َّدرت م�شاعره جتاهي‪ ،‬ومعاناته‪ ،‬ولهذا �صمت و�أنا �أرنو بب�صري‬ ‫�إلى القمر ف ُيخ َّيل �إ ّ‬ ‫يل �أين �أراه �شاحب ًا مري�ض ًا‪.‬‬ ‫***‬ ‫حلمت �أمي يف حلم ًا مزعج ًا كما روت لنا يف ال�صباح‪ ،‬لكننا‬ ‫جميع ًا �أخذنا نقول لها‪� :‬إنها �أ�ضغاث �أحالم‪� ،‬إال �أخي مرهف �صمت‬ ‫وغادر املجل�س فلحقت به �إلى غرفته وقلت له‪:‬‬ ‫ ‪-‬يبدو على وجهك عالمات القلق واالنزعاج‪ .‬نه�ض من مكانه‬ ‫حماو ًال الت�شاغل ب�أي �شيء وهو يقول‪ :‬هيا اذهبي‪ ،‬ال �شيء بي‪.‬‬ ‫فنهرته بحزم‪:‬‬ ‫مرهف‪� ،‬أخربين �أرجوك‪.‬‬‫‪60‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫تب�سم ابت�سامة �شاحبة وقال ب�صوت غارق يف احلزن والقلق‪:‬‬ ‫�سمعت احللم الذي روته �أمك منذ قليل‪.‬‬‫بلى �سمعته‪ ،‬ولكن‪ :‬ملاذا ت�س�ألني؟‬‫لقد حلمت باحللم نف�سه يف الليلة املا�ضية‪.‬‬‫و�أردف‪ :‬حلمت �أنَّ �أحمد ميلك حق ًال وا�سع ًا من ال�سنابل اخلا�شعة‬ ‫لرب ال�سماء وكلما حاول جنيها و�أم�سك ب�سنبلة ا�ستحالت يف يده �إلى‬ ‫ِّ‬ ‫�سراب‪ ،‬ثم بعدها ا�ستاء من الأمر و�أراد �إحراق احلقل‪ ،‬ف�أتى بعود ثقاب‬ ‫و�أ�شعل احلقل كله لكنه فوجئ بال�سماء متطر بغزارة فك�أنها �سمعت‬ ‫�شكوى ال�سنابل العابدة و�أنين ًا بعيد ًا لروح �أحمد يف بئر ال�ضياع والغربة‪.‬‬ ‫أمر‬ ‫اق�شعر ج�سدي للخرب ق�شعريرة ت�شبه من وقف دقيقة �صمت ل ٍ‬ ‫جلل‪ .‬رمقته بنظرة حائرة فبادلني النظرة ذاتها ومتتم‪:‬‬ ‫– هذا ما حدث‪ ،‬ثم هم�س‪:‬‬ ‫�صباح‪ ،‬لقد �أ�شبعت ف�ضولك ومل �أر َّدك خائبة و�أنت باملقابل‬‫�صوين الأمانة وال تخربي �أحد ًا‪ .‬هززت له ر�أ�سي ثم خرجت من عنده‬ ‫و�شي ٌء ما ُيعيقني عن التنف�س بارتياح‪.‬‬ ‫ذهب مرهف مع والده مل�ساعدة عمتي يف نقل حقائبها �إلى بيت‬ ‫بيت �صغ ٍري‬ ‫جدي فعمي م�صطفى قد غادره لي�ستقر هو وزوجته يف ٍ‬ ‫خا�ص بهما‪ ،‬لهذا انتهزت عمتي الفر�صة وقررت العودة لبيتها الأول‬ ‫‪61‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫والذي �أبت الرجوع �إليه حينما كانت زوجة عمي موجودة‪� ،‬إذ كانت تقول‬ ‫مقولتها امل�شهورة‪:‬‬ ‫( �أبيت على الر�صيف وال �أقعد مع زوجة م�صطفى حتت �سقف‬ ‫رب املعمورة‪� .‬أما‬ ‫واحد )‪ .‬فبينهما خالفات ن�سائية ال َي ِف ُّك ُعراها �إال ُّ‬ ‫نحن �أي �أبي و�أمي وعائ�شة فقد قمنا بزيارة احلاجة �أم علي وهنالك‬ ‫التقينا مع �أم ح�سان ووافدة جديدة ا�سمها عبري كانت تبدو �صغرية‬ ‫و�أظنها بعمر �أخي �أحمد وقد �صدق ظني فيما بعد‪� .‬س�ألتها �أمي عن‬ ‫برجل يكربها بع�شرين �سنة‪ ،‬فارتبكت واحمر وجهها‬ ‫�سبب زواجها‬ ‫ٍ‬ ‫لكنها متالكت نف�سها وهم�ست ب�صوت مبحوح‪:‬‬ ‫�آ�سفة‪ ،‬هذا �شيء خا�ص‪ ،‬كررتها مر ًة �أخرى ثم �صمتت‬‫ف�أحرجت �أمي جلوابها وظلت بعدها طوال اجلل�سة �شبه �صامتة �إال عن‬ ‫قول عبارات تثري لدى احلا�ضرين �سحاب ًة من الذكريات والأحاديث‬ ‫الطريفة‪.‬‬ ‫ويف امل�ساء عندما جل�سنا �أمام التلفاز ن�شاهد امل�سل�سل اليومي‬ ‫ذهب �أبي �إلى غرفة النوم و�أ�شعل مذياعه ال�صغري لي�ستمع لآخر الأنباء‬ ‫من �إذاعة لندن لكنه كعادته نام من �شدة الإعياء تارك ًا املذياع مفتوح ًا‬ ‫حتى جاءت �أمي لتنام و�أطف�أته‪ .‬بقيت �أنا وعائ�شة وحدنا يف ال�صالون‪،‬‬ ‫كانت متطر بغزارة و�شجرة الكينا خلف النافذة تتمايل ب�سكينة كعابد‬ ‫تتنـزل عليه �أنوا ٌر لطيفة فيميد حلالوتها يف قلبه وتربو كل �أجزائه ن�شو ًة‬ ‫وحبور ًا‪.‬‬ ‫‪62‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫مل �أنتبه لعائ�شة التي غفت على ( الكنبة ) فهي منذ �صغرها‬ ‫ُي�صيبها ا َ‬ ‫خلد ُر التدريجي لدى �سماعها �صوت املطر يرتطم ب�أوراق‬ ‫ال�شجر و�سطوح احلجر ثم ال تلبث �أن تغو�ص يف نوم عميق‪� .‬أيقظتها‬ ‫و�أو�صلتها �إلى غرفتها‪ ،‬كانت تهذي وتقول‪� :‬س�أخربكم الآن �أطرف‬ ‫ما حدث معي ثم تبت�سم‪ ،‬الظاهر �أنها مل تتمكن اليوم من احلديث‬ ‫للجارات ف�شرعت ُتفرغ رغبتها يف الأحالم‪ ،‬لكم �أغبطها على تلك‬ ‫الب�ساطة التي متتلكها‪.‬‬ ‫جل�ست بعدها يف ال�صالون وحيد ًة متكور ًة عند طرف الكنبة‬ ‫�أراقب املطر و�أت�أمل ترمن تلك ال�شجرة‪ ،‬وحينما خطر ببايل �أن �أتفقد‬ ‫علي فرح ًا وهو يقول‪:‬‬ ‫مرهف تراه ماذا يفعل ف�إذا به يدخل َّ‬ ‫لقد انتهيت لتوي منها‪.‬‬‫من ماذا؟‬‫من ق�صة ق�صرية برحت يف رحم الالوعي لدي �أ�سبوع ًا كام ًال‬‫واليوم جاءها املخا�ض �إلى �ساحل الوعي فولدت جنني فكرة ح ّية وما‬ ‫علي �إال �أن �أك�سوها ثياب اللفظة املزخرفة‪.‬‬ ‫كان ّ‬ ‫قربت اللحاف من حافة ذقني و�س�ألته‪:‬‬ ‫ ولهذا دخلت فرح ًا؟‬‫�أجل‪.‬‬‫‪63‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫أتعلم‪ ،‬كنت الآن �أفكر يف �أرفع ن�شوة قد ينالها الإن�سان ومل‬ ‫� ْ‬‫�أعرف ما هي متام ًا‪ ،‬هنا خلع نعليه وتكور على نف�سه ثم هم�س‪:‬‬ ‫�إنها ن�شوة الإلهام لأنك ت�شعرين معها وك�أنك مع اهلل �أقرب ما‬‫تكونني‪.‬‬ ‫�أ�صلح جل�سته وتابع بحبور‪:‬‬ ‫�إنك جلي�سة مفعمة باحلياة‪ :‬لقد اختار اهلل حلامد زوجة‬‫حقيقية تالئم روحه متام ًا‪ .‬خفق قلبي لكلماته حتى كاد يطري وارتع�شت‬ ‫�شفتي ابت�سام ًة خجلة‪.‬‬ ‫ع�ضالتي ال�ضاحكة ملغالبتي لها فرتكت على‬ ‫َّ‬ ‫وقتها رنَّ الهاتف‪ ،‬كانت �أنفا�س عمتي ت�سبق �صوتها‪ ،‬طلبت والدي‬ ‫و�أخربته عن تدهور �صحة جدي ومع انت�شار رائحة ال�صباح والقهوة‬ ‫خرج الطبيب من غرفته و�أخربنا �أنه م�صاب بق�صو ٍر كلوي‪ ،‬حاولت‬ ‫جدتي التربع بكليتها له فوافق الطبيب على �أن جتري الفحو�ص الالزمة‬ ‫�أو ًال‪ ،‬ولكم كانت ده�شتنا كبرية ملَّا تبني �أنها �أي�ض ًا م�صاب ٌة بالق�صور‬ ‫الكلي ذاته‪.‬‬ ‫علم عمي بذلك فعزم على القدوم ب�صحبة �أحمد نهاية ال�شهر‪.‬‬ ‫ا�ستغربنا جميع ًا قرار �أحمد لكنَّ حبه العارم جلده ُيف�سر ُك َّل �شيء‪.‬‬ ‫انتقلت عمتي لبيت عمي عبد اهلل لتنظفه وترتبه قبل جميئه‪،‬‬ ‫بقيت �أنا ومرهف عند جدنا وجدتنا ملراقبتهما وخدمتهما‪.‬‬ ‫وخالل ذلك ُ‬ ‫�صار مرهف مالزم ًا جلده ي�ستمع �إليه ويحاوره لري�صد الزاوية‬ ‫‪64‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫التي �شاهد منها جده الدنيا‪� ،‬أما �أنا فكان علي �أن �أقوم برتتيب البيت‬ ‫وتنظيفه يومي ًا‪ .‬من كان يت�صور �أننا �سنق�ضي العطلة املدر�سية هنا‪.‬‬ ‫على كل حال لقد تعلم مرهف فيما يبدو يل الكثري و�أدرك �س ّر العالقة‬ ‫القوية التي تربط �أحمد بجده قال جدي بينما نحن بني ال�صحو والنوم‪:‬‬ ‫لو كنت �أعلم �أن �سبب �سفر �أحمد �إلى ال�شارقة ما رويتموه يل ما‬‫تركته يفعلها ولو على جثتي‪ ،‬ولكن يبدو �أن الأقدار هكذا َّ‬ ‫خط ْت الدرب‪.‬‬ ‫رفع مرهف ر�أ�سه عن الو�سادة و�أ�سنده على باطن كفه قائ ًال‪:‬‬ ‫ما دمت قد ذكرت �سرية الق�ضاء والقدر فما ر�أيك يا جدي‪ :‬هل‬ ‫نحن خمريون �أم م�سريون؟‬ ‫�صمت جدي لربهة ثم �س�أل �أخي مرهف‪ :‬هل ت�ستطيع يا مرهف‬ ‫�أن متنع قدوم ال�صباح؟‬ ‫�أجاب‪ :‬ال‪ .‬ف�أردف جدي‪ :‬وال حتى وقوع جرمي ٍة رمبا الآن يجري‬ ‫تب�سم جدي وقال‪:‬‬ ‫تنفيذها؟ ف�أكد مرهف جمدد ًا‪ :‬بالت�أكيد ال يا جدي‪َّ .‬‬ ‫وملاذا يا عزيزي؟‬ ‫َّ‬ ‫ان�سل مرهف �أكرث من فرا�شه وقال‪ :‬لأنني يف الأولى غ ُري م�س�ؤول‬ ‫عن نوامي�س الكون ويف الثانية ال �أعلم مبكان وال زمان وقوع هذه‬ ‫اجلرمية‪ ..‬ابت�سم جدي ابت�سامة �أكرب وقال ب�صوت حنون‪:‬‬ ‫لهذا يا عزيزي فقد قال الإمام الغزايل رحمه اهلل‪ ( :‬الإن�سان‬‫‪65‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫مخُيرَّ فيما يعلم‪ُ ،‬م�سيرَّ فيما ال يعلم )‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فهمت‬ ‫ق�صدك يا جدي‪.‬‬ ‫فكر مرهف ثم هز ر�أ�سه متمتم ًا‪ :‬الآن ُ‬ ‫بعدئذ نام اجلميع وبقيت وحدي م�ستيقظ ًة �أت�أمل هطول املطر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ت�ساءلت و�أنا يف فرا�شي الدافئ عن غرابة الأقدار فاليوم نحن وجدي‬ ‫حتت �سقف واحد جتمعنا احلياة نف�سها‪ ،‬ويف الغد تربز دروب جديدة ال‬ ‫يعلم �إ َّال ُ‬ ‫أ�سراب هي �أم واح ٌة خ�ضراء؟‬ ‫اهلل ماهيتها � ٌ‬ ‫كنا قد ق�ضينا مع جدي وجدتي �أ�سبوع ًا �سيبقى �أبد ًا حمفور ًا يف‬ ‫ذاكرتينا �أنا ومرهف‪ ،‬حالنا حال من يرافق عزيز ًا عليه �إلى حمطة‬ ‫القطار وينتظر معه حتى رحيله �إلى حمطة جديدة وعا ٍمل جديد خمتلف‬ ‫متام ًا‪.‬‬ ‫وذات مر ٍة �س�ألت مرهف حينما كنا نقر�أ رواي ًة لتوفيق احلكيم‬ ‫وبعد �أن ا�ست�سلم جدي وجدتي ل�سبات عميق‪ :‬منذ فرتة و�أنا �أعي�ش‬ ‫الهاج�س الآتي‪ :‬يا ترى‪ ،‬ما دام حامد �صديق ًا حميم ًا لأحمد وميلك ثروة‬ ‫كبرية فلماذا مل يقدم له العون املادي ويكفيه �شقاء الغربة وال�سفر؟‬ ‫لأنه مل يكن يعلم �شيئ ًا عن ثروته حتى ماتت ج َّدته �إذ �أخفت‬‫عنه رحمها اهلل تلك احلقيقة لرتبيه على الثقة باهلل واالعتماد على‬ ‫النف�س وملَّا وافاها الأجل‪ ..‬جاء محُ ٍام كانت اجلدة قد وكلته بالأمر قبل‬ ‫وفاتها و�أظهر حلامد ما خفي عنه طوال �سنني خلت‪.‬‬ ‫كانت �إذ ًا فطن ًة وحكيمة؟‬‫‪66‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫و�ضع ُ�س َّبابته الي�سرى مكان ال�صفحة التي كنا نقر�أها وتابع‪:‬‬‫ما يخ�شاه حامد الآن هو ُ‬ ‫رف�ض �أحمد مل�ساعدته �إن عر�ضها عليه‬ ‫يف هذه الزيارة‪ ،‬ثم فتح الكتاب وعدنا للرواية من جديد‪.‬‬ ‫ها قد و�صل عمي عبد اهلل وعائلته‪� ،‬أما �أحمد فقد قرر املكوث‬ ‫لب�ضعة �أيام يف العا�صمة‪ .‬مل يرق لنا ت�صرفه الغريب هذا لدرجة �أن‬ ‫�أمي يف م�ساء الأم�س كادت �أن تتهاوى على قدمي عمي تقبلهما راجي ًة‬ ‫�إياه �أن يبوح بال�سر وهي تقول له‪:‬‬ ‫يكفيك ممانع ًة يكفي‪� ،‬إما �أن تقول ما عندك �أو غادرنا بهدوء‬‫وهم باملغادرة بعد‬ ‫رجا ًء‪ ..‬ظل عمي �صامت ًا للحظات ثم انت�صب واقف ًا َّ‬ ‫�أن رمقه والدي بنظرة مملوءة بالوعيد فتلقاها برحابة �صدر وم�ضى‪.‬‬ ‫ُجنَّ جنون والدي ل�سلوكه هذا فكان كمن كويته بالنار فما عاد يطيق‬ ‫جمل�س ًا وقرر يف معمعة انفعاله �أن يذهب �إلى دم�شق للبحث عنه واملجيء‬ ‫به �إلينا‪� .‬آزرته �أمي يف القرار‪ ،‬ومع ب�شائر ال�صباح انطلقا‪ ،‬لكنهما قفال‬ ‫يف امل�ساء عائدين بخفي حنني فو�صل اخلرب لعمي الذي ات�صل ب�أحمد‬ ‫هاتفي ًا و�أبلغه احلال التي �آلت �إليها �أ�سرته ثم قام بزيارتنا‪ .‬كان يبدو‬ ‫عليه اال�ضطراب والقلق‪ ،‬فكم ر�أيته يع�ض �أطراف �أ�صابعه وي�سبح يف‬ ‫فجر والدي‬ ‫فراغ خميلته‪ ،‬تبدو على �سحنته عالمات التوج�س والهلع‪َّ ،‬‬ ‫�صمته بكلمة‪� ،‬إذ قال له‪ :‬هل علمت منه متى �سي�أتي؟‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‬ ‫�أنا؟‬‫ومن غريك �إذ ًا؟‍‍‍‍‍‍‍‍ �أجابه والدي ب�سخري ٍة ُم ّ‬‫بطنة‪.‬‬ ‫‪67‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫نزع النظارة عن عينيه وقد انزلقت �أ�صابع كفه �إليهما‪ ،‬فركهما‬ ‫َّ‬ ‫وا�سرتق الطرف لوالدتي ومتتم‪ :‬ال‬ ‫قلي ًال ثم نظر �إلى والدي با�ستحياء‬ ‫�أعلم ماذا �أقول لكم ‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍�أخرج كلماته ثم �أتبعها ب َن َف�س عميق وعاد جمدد ًا‬ ‫ل�شروده احلزين‪ ..‬قاطعه والدي وقال‪� :‬أخربنا ما حدث؟ و�أردف‪:‬‬ ‫فو�ضنا �أمرنا هلل يا �أخي وال حول وال قوة �إال به‪� .‬إن كان قد تويف يف‬ ‫ال�شارقة ف�إنا هلل و�إنا �إليه راجعون‪ ،‬و�إن كان ال يريدنا �أه ًال �أو بالأحرى‬ ‫ال يريدين �أنا �أب ًا فقد �أخط�أت يف حقه وله العتبى حتى ير�ضى‪� ،‬أخذت‬ ‫�سد َّثم انهار‬ ‫دموعه جتري من عينيه كماءٍ حب�س لوقت طويل وراء ٍّ‬ ‫ال�س ُّد دفعة واحدة وتدفق املاء‪ .‬هكذا ت�صورت والدي حينها �إذ �إنها‬ ‫املرة الأولى التي �أراه فيها يبكي وبتلك القوة حتى �أن حاله انتقل �إلينا‬ ‫ف�أجه�شنا بالبكاء لوال �أن تداركنا �صوت عمي وهو ي�صرخ‪ :‬ف�أل اهلل يا‬ ‫جماعة وال ف�ألكم هذا‪� ،‬أو ًال �أحمد ال يزال على قيد احلياة‪ ،‬وثاني ًا ما‬ ‫فكر يوم ًا بفراقكم و�أخري ًا هو يحبك يا جميل‪� ،‬أجل يحبك حب ًا حقيقي ًا‬ ‫و�صادق ًا‪.‬‬ ‫�إذ ًا ما به؟ �س�ألت �أمي بتوج�س ي�صاحبه ا�ستب�شار‪‍‍‍‍‍‍.‬‬‫ال �شيء مما ت�صورمت‪ ،‬يف احلقيقة لقد تعر�ض هناك حلادث‬‫�سري‪ ..‬انتف�ضنا جميع ًا بذهول وقلنا ب�صوت واحد‪� :‬أكمل وقد ُ�ش َّدت‬ ‫�أع�صابنا فك�أنها ع�صب واحد �سيتداعى لنقرة ته ُّز م�سامعنا و�أظن‬ ‫عمي الحظنا على تلك ال�صورة ف�أبى �صوته �إال االرتداد حللقه مع كل‬ ‫حماولة ي�سعى فيها للكالم‪ .‬كان كمن ينتظر وم�ضة خ�ضراء ليفتح‬ ‫الطريق ل�صوته‪ ،‬وفع ًال جاءته الوم�ضة من �أبي �إذ رجاه قائ ًال‪:‬‬ ‫‪68‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫هيا ح ّل اللغز فتلقي امل�صيبة يا �أخي �أهون من ترقب تلقيها‪،‬‬‫فر َّد عليه مبا�شرة‪:‬‬ ‫لقد ُ�ش َّلت �أطرافه ال�سفلى و�أ�ضحى جال�س ًا على كر�سي متحرك‪.‬‬‫كر�سي متحرك‪ ..‬ر َّدد والدي كمن ال ي�صدق ما ي�سمع وقد �شحب‬‫وجهه �شحوب ًا �شديد ًا‪ ..‬على الفور هم�س مرهف يف �أذن �أمي منبه ًا‬ ‫�إياها �إلى خطورة لوم �أبي الآن لأنها قد تكون القا�ضية‪ ،‬فا�ستجابت‬ ‫له و�أجه�شت بالبكاء يف حني �شرع والدي يت�صفح ر�سال ًة تناولها من‬ ‫يد عمي فبد�أت مالمح وجهه تتغري‪ ،‬كانت تتوزع بني احلزن العميق‬ ‫وال�سكينة الوادعة‪ .‬قر�أها مرار ًا وتكرار ًا ويف �آخر مرة �أخذ يقر�ؤها‬ ‫ب�صوت م�سموع‪ .‬كان �صوته يرجتف يف حلقومه َّثم يحلق فوق �شفتيه‬ ‫بعيد القرار‪ ،‬وكان من جملة ما بقي يف ذاكرتي‪« :‬ال �أ�ستطيع‬ ‫بهدوء ِ‬ ‫يا �أبي �أن �أعرتف لك مبا يجول الآن يف �صدري وجه ًا لوجه لأنك ما‬ ‫عودتني على البوح لك‪ ،‬ما عودتني االرمتاء على �صدرك والبكاء يف‬ ‫ح�ضنك‪ .‬لقد �ألفتك �صلب ًا‪ ،‬قا�سي ًا كاحلجارة‪ ،‬لكنني وملَّا ابتعدت عنك‬ ‫بت �أ�سمع خرير املاء العذب يف قلبك احلنون‪ .‬يا والدي لقد �ساحمتك‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫�أق�سم لك باهلل العظيم �أنني قد �ساحمتك �أبد الآبدين‪ ..‬فال حتمل‬ ‫نف�سك بعد اليوم فوق طاقتها»‪.‬‬ ‫***‬ ‫جاء �أحمد حممو ًال على كر�سيه املتحرك‪ ،‬فكان احلزن والفرح‬ ‫وكانت �أمواج الروح املتالطمة وغابات العيون املنداة بالدموع‪ .‬كان‬ ‫‪69‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫يختل�س النظر �إلى والدي فرتى احلزن والإ�شفاق وقد طغيا على �سطح‬ ‫عينيه‪ .‬مل يحاول �أن ُيث ِّبت نظره ولو ملرة واحدة يف عيني �أمي حتى ال‬ ‫كطفل �صغري‪ ،‬ولهذا وحتى يخفف من وط�أة‬ ‫ينفجر �أمامها بالبكاء‬ ‫ٍ‬ ‫والدي �أن‬ ‫املواجهة امل�ستمرة و يتكيف مع الو�ضع اجلديد طلب من‬ ‫َّ‬ ‫ي�سمحا له يف املكوث عند جدي لبع�ض الوقت مربر ًا رغبته هذه بحبه‬ ‫العارم جلده و�إح�سا�سه بحاجته لقربه �أكرث من �أي وقت م�ضى‪.‬‬ ‫***‬ ‫كنت بعدها‪ ،‬لدى انتهائي من يومي املدر�سي �أع ِّرج على بيت‬ ‫جدي ف�أجل�س هناك قلي ًال من الوقت �أ�شاهد �أخي �أحمد �إما مع جده‬ ‫يرتل القر�آن ترتي ًال فيم�سح الأخري دموعه ب�سكينة وخ�شوع‪� ،‬أو مع حامد‬ ‫الذي �أ�صبح يزوره يومي ًا فيتبادالن �أطراف احلديث يف مو�ضوعات �شتى‬ ‫و�أحيان ًا ي�ستمعان �إلى مقاطع مو�سيقية �أو يلعبان ال�شطرجن فك�أن ذلك‬ ‫ُيخرجه من دهاليز الك�آبة وي�ضعه �أمام بوابة احلياة والنور‪� .‬شيئ ًا ف�شيئ ًا‬ ‫ا�ستطاعت روحه �أن تكت�سي طيف ًا جديد ُا فتغلبت بذلك �إرادة احلياة‬ ‫على نزعة املوت اخلفية‪ ،‬بيد �أن ما حدث لوالدي خالل هذه الفرتة‬ ‫عك�س ذلك متام ًا �إذ دخلت روحه يف �سبات عميق تعداه �إلى تراب‬ ‫اجل�سد َّ‬ ‫فجف وانح�سر عن روابيه ماء احلياة وهكذا انت�صرت حقيقة‬ ‫املوت على �أ�سطورة احلياة‪ ،‬وامليدان يف هذه املرة كان والدي رحمه‬ ‫اهلل‪ .‬مل يحتمل ت�صور ما حدث البنه وو�ضع ُج َّل الالئمة على نف�سه رغم‬ ‫�أن �أحد ًا مل يوجه له �إ�صبع االتهام لكن للعيون لغتها‪.‬‬ ‫مات والدي وحزن اجلميع لفراقه حزن ًا �شديد ًا‪ ،‬مل ُنق ّيد التعزية‬ ‫بثالثة �أيام نزو ًال عند و�صيته‪ ،‬وكذلك مل ن�ست�أجر قارئ ًا للقر�آن‪ .‬لقد‬ ‫‪70‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�أح�س بال ريب بدنو �أجله فكتب هذه الو�صية لأنه خ�شي �أن نقلد الآخرين‬ ‫يف مرا�سيم كهذه‪ ،‬خا�صة و�أنه كان يرى فيها بدع ًا قد �ألفها النا�س‬ ‫و�س ّن ًة مطهرة‪.‬‬ ‫ف�صاروا يخالونها من الدين �شرع ًا ُ‬ ‫مي�ض �شهر على وفاة والدي حتى حلقته جدتي رحمها اهلل‪،‬‬ ‫مل ِ‬ ‫كان احت�ضارها حمفوف ًا باملالئكة كما قال جدي‪ ،‬فال الأنوار فارقت‬ ‫وجهها وال االبت�سامة تخلت عن ثغرها �إلى �أن �صعدت روحها ب�سكينة‬ ‫مهيبة �إلى الرفيق الأعلى تارك ًة ج�سدها يعود جم َّدد ًا �إلى وطنه الأم‪:‬‬ ‫الأر�ض‪.‬‬ ‫علي‬ ‫رجع عمي �إلى ال�شارقة م�صطحب ًا معه عمتي يف حني بقي ٌّ‬ ‫عند جده مع �أحمد الذي ا�ستقر تقريب ًا هناك واعتزل النا�س ُك َّل النا�س‬ ‫�إال �إيانا‪.‬‬ ‫***‬ ‫بد�أت �أمي ت�ألف تدريجي ًا ا�ستقرار �أحمد يف بيت جد ي‪ ،‬وقد بد أ�‬ ‫يكب على درا�سة التاريخ والفل�سفة م�ستعين ًا بتوجيهات جدي وم�ؤازرة‬ ‫ُّ‬ ‫حامد الذي كان يرفده بكل ما يحتاج �إليه ويجال�سه ل�ساعات طوال‬ ‫يحاوره فيما قر�أ وا�ستنتج‪ ،‬هذا يف الأيام الثالثة الأولى من كل �أ�سبوع‬ ‫�أما بقية الأ�سبوع فكان يخ�ص�ص فيه يوم ًا حلفظ القر�آن ودرا�سة ال�سرية‬ ‫النبوية و ما تبقى من �أيام يجعلها لدرا�سة امليكانيك مبفرده �إر�ضا ًء‬ ‫ل�شغفه القدمي �إذ مل ي�ش�أ العودة للجامعة بل �آثر الدرا�سة اخلا�صة على‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫***‬ ‫‪71‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫كان من املفرو�ض �أن تلتقي اجلارات عند �أم علي يف ال�سابعة‬ ‫والن�صف لكنَّ �أمي دعت �أم ح�سان لعندنا قبل املوعد ب�ساعة و عندما‬ ‫جاءت �أدخلتها غرفة اجللو�س وقعدنا على الأريكة املقابلة لل�صالون‪.‬‬ ‫كانت �أ�صوات ال�صبية يف ال�شارع تثري �ضو�ضاء وا�ضطراب ًا ل�سكان احلي‬ ‫ومبا �أنّ ال�صوت كان وا�ص ًال لتلك الغرفة غادرتاها لل�صالون حيث كنت‬ ‫بعدئذ نه�ضت عائ�شة �إلى‬ ‫وعائ�شة ن�شاهد برنامج ( افتح يا �سم�سم )‪ٍ .‬‬ ‫غرفتها من تلقاء نف�سها‪� ،‬أما �أنا فطلبت �أمي مني اخلروج فق�صدت‬ ‫غرفة اجللو�س‪ .‬بداية مل �أ�ستطع فهم ما تقوالن ذاك �أن �صوت الأطفال‬ ‫ي�ساوي تواتر �صوتهما فتهوي كلماتهما يف الفراغ قبل �أن يلتقطها �سمعي‪،‬‬ ‫ا�ضطجعت على الأريكة وقد انتابني �شعور بالتعب واال�ستكانة للنوم‪،‬‬ ‫وملّا كدت �أدخل حدوده انقطع التيار الكهربائي فخلت �شوارع احلي‬ ‫�صمت �إ َّال من �سيارات مت ُّر بني الفينة والأخرى عندها‬ ‫و�ساد املكانَ‬ ‫ٌ‬ ‫ُب ُّت قادر ًة على التقاط الأ�صوات املن�سابة من ال�صالون‪ .‬كانت الأريكة‬ ‫مقابلة للمو�ضع الذي جل�ستا فيه‪� ،‬أ�شعلت �أمي �شمعة كبرية ثم دخلت‬ ‫بلحاف خفيف ثم‬ ‫لتتفقدين فتظاهرت بالنوم‪ ،‬عندها عمدت لتغطيتي‬ ‫ٍ‬ ‫عادت ملكانها‪ .‬احت�ست قلي ًال من فنجانها وقالت‪� :‬أت�شكني يف الأخوة‬ ‫التي جتمعنا واجلرية التي تربطنا؟‬ ‫بالت�أكيد ال‪ ،‬ولكن مل هذا ال�س�ؤال؟‬‫�أعادت �أمي جذعها للوراء قلي ًال ثم هوت بيديها على فخذيها‬ ‫وقالت بحزم‪� :‬إن ولدك كولدي يهمني م�ستقبله و�سمعته‪ ،‬ومن الواجب‬ ‫علي �إخبارك مبا �أعرف قبل فوات الوقت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪72‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫قويل باهلل عليك ما لديك‪ ،‬ماذا فعل ح�سان؟‬‫يف احلقيقة �أخربين مرهف �أن ابنك مع بداية هذا الف�صل‬‫علي �أال �أخربك حتى ال يخا�صمه‬ ‫�صار يقف �أمام مدار�س البنات‪ ،‬و�أكد ّ‬ ‫ابنك لكن الأمر و�صل لدرجة م�صاحبته ل�شاب لوطي‪ ،‬ولهذا قررت‬ ‫�إخبارك وليحدث ما يحدث بعدها‪ .‬رجعت جارتنا قلي ًال للوراء وت�ساءلت‬ ‫با�ستنكار‪:‬‬ ‫ ح�سان يفعل ذلك؟ عجيب لمِ َ لمَ ْ �أنتبه له �أو �أحلظ تغري ًا يف‬‫�سلوكه؟‬ ‫رمبا لأنه �أجاد ت�ضليلك‪ .‬و�أردفت‪ :‬املهم عليك �إيجاد طريقة‬‫تن�شلينه فيها من الوحل قبل �أن يغو�ص‪ ،‬ويل عندك رجاء وهو رجاء‬ ‫مرهف كذلك ب�أن‪ ،.‬فقاطعتها �أم ح�سان قائلة‪:‬‬ ‫ فهمت ق�صدك‪� ،.‬أ�شكرك وابنك على �إخال�صكما‪ ،‬فلو و�صل‬‫اخلرب لإحدى اجلارات الن ّمامات لكنت الآن وابني على كل ل�سان‪.‬‬ ‫حلقت بهما �إلى احلاجة �أم علي‪ ،‬ف�س�ألتني �أمي عن‬ ‫بعد قليل‬ ‫ُ‬ ‫�سبب جميئي‪� ،‬أخربتها �أنني مل �أجد ما �أفعله فقررت املجيء قلي ًال‪.‬‬ ‫كانت احلاجة تتو�سط اجلل�سة‪ ،‬على ميينها �أم ح�سان ووالدتي‪،‬‬ ‫ويف الطرف الآخر �أنا واجلارة اجلديدة‪.‬‬ ‫قالت احلاجة‪ :‬ال يوجد عندي �شيء �أعظم من لقاءٍ حميم كهذا‬ ‫‪73‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫اللقاء‪ ،‬ثم �أخذن بعدها يتحدثن يف مو�ضوعات �شتى با�ستثناء اجلارة‬ ‫اجلديدة فقد بقيت �صامتة من�شغل ًة مبراقبة طفلتها ال�صغرية‪ .‬حتدثنّ‬ ‫عن م�شكالت التعليم ومدى ت�أهل املعلمني واملعلمات لهذه امل�س�ؤولية وكنّ‬ ‫كلما حاولن و�ضع يدهنّ على الداء وت�شخي�ص الدواء ي�صلن �إلى نقطة‬ ‫م�سدودة‪ .‬خالل ذلك الحظت �أمر ًا غريب ًا على وجه اجلارة اجلديدة‬ ‫وانتابني �شعور �أنها تو ُّد احلديث معهنّ لكنها حتجم يف اللحظة الأخرية‬ ‫ف�أردت منحها هذه الفر�صة وب� ٍآن ا�ستغالل تلك الرغبة لديها تلبية‬ ‫لدي‪ .‬دنوت من اجلارة اجلديدة وهم�ست يف �أذنها‪:‬‬ ‫لرغبة دفينة َّ‬ ‫�أت�أذنني مبنحي فر�صة التعرف عليك؟‬ ‫فابت�سمت قائلة وقد �أحنت ر�أ�سها قلي ًال للأمام وو�ضعت يدها‬ ‫اليمنى على �صدرها‪ :‬بكل �سرور يا �سيدتي‪ .‬نظرت ُك ُّل واحدة منا �إلى‬ ‫الأخرى وقد �أ�شرقت على وجهينا �أنوار املحبة واالبت�سام‪ ،‬وبلمح الب�صر‬ ‫اتخذت القرار احلا�سم وا�صطحبتها �إلى البيت‪.‬‬ ‫قالت ونحن نهبط ال�سلم‪:‬‬ ‫�أخ�شى �أن يكنّ قد غ�ضنب‪.‬‬‫ال تخايف‪� ،‬إنهنّ طيبات القلوب و�سيتفهمن الأمر بال ريب‪،‬‬‫ففارق العمر يقف حاجز ًا دون تالقينا معهن‪.‬‬ ‫هنا �ضمت �صغريها ل�صدرها وهي تتمتم‪� :‬أرجو ذلك‪.‬‬ ‫دخلنا البيت وجل�سنا يف ال�صالون‪ ،‬ويف احلال ذهبت �إلى غرفة‬ ‫‪74‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫جت على غرفة مرهف فلم �أجده هناك‪،‬‬ ‫عائ�شة فوجدتها نائمة وع ّر ُ‬ ‫دخلت املطبخ وخالل دقائق كانت القهوة جاهزة‪ ،‬وعندما عدت �إليها‬ ‫وجدتها تر�ضع �صغريتها فانتظرتها حتى انتهت‪ .‬نامت ال�صغرية على‬ ‫�صدرها فو�ضعتها برفق على الأريكة املجاورة‪ .‬قلت لها‪� :‬أخ�شى �أن‬ ‫ل�ساعات‬ ‫جنب واحد‬ ‫ٍ‬ ‫ت�سقط‪ .‬ف�أجابتني‪ :‬ال تخايف �إنها ممن ينمن على ٍ‬ ‫ابت�سمت لها و�أنا �أناولها فنجان القهوة و�س�ألتها‪:‬‬ ‫عديدة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ا�سمك عبري �ألي�س كذلك؟‬‫�أجل‪ ،‬و�أنت ما ا�سمك؟‬‫�أال تعرفني؟‬‫عذر ًا فنحن مل نلتق �سوى مرة واحدة وخاللها مل تتعرف �إحدانا‬‫ا�سمك وا�سم‬ ‫ا�سمك من �أمك وخلطت فيما بعد بني‬ ‫بالأخرى‪ ،‬فعلمت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫�أختك التي تكربك‪ .‬ارت�شفت بع�ض القهوة و�أجبتها دون �إظهار ال�ضيق‪:‬‬ ‫ ا�سمي �صباح‪� ،‬أما �أختي التي ذكرتها فا�سمها عائ�شة‪.‬‬‫تابعت‪� :‬شعرتُ بك هناك وك�أنك هممت يف اخلو�ض معهن‬ ‫ثم ُ‬ ‫حول م�شكالت التعليم لكنك تراجعت يف اللحظة الأخرية‪.‬‬ ‫�صمتت قلي ًال ثم قالت‪ :‬مل �أكن �أريد اخلو�ض يف املو�ضوع بقدر‬‫ما �أردت التعقيب عليه‪ ،‬ف�أغلب معاجلاتنا للأمور تبدو جزئية �سطحية‬ ‫ولي�ست �شمولية جذرية‪ ،‬ولهذا نخفق عندما نحاول �إيجاد احللول‬ ‫‪75‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫العملية‪ .‬هززت لها ر�أ�سي مع �أنني مل �أدرك متام ًا مقا�صدها لكنني وملَّا‬ ‫أكملت قائل ًة‪:‬‬ ‫كنت ال �أبغي الوقوف هنا � ُ‬ ‫�إلى �أي مرحلة تعليمية قد و�صلت؟‬‫ح�صلت على الثانوية مبجموع جيد‪ ،‬لكنني بعدها مل �أكمل فقد‬‫تزوجت‪.‬‬ ‫منْ ؟‬‫ِ‬ ‫�أجل منه‪.‬‬‫ولكنه يكربك بكثري‪.‬‬‫احت�ست ما تبقى من فنجانها ثم نظرت �إ َّ‬ ‫يل وقد غلبت �شهوة‬ ‫الكالم عندها ف�ضيلة ال�صمت‪:‬‬ ‫�أحيان ًا يجرب املرء على فعل �أ�شياء ال ير�ضاها‪.‬‬‫هل �أجربوك على الزواج؟‬‫لي�س متام ًا‪.‬‬‫كيف ذلك؟‬‫هنا �سكتت وك�أنها تنوي االعتذار عن املتابعة فقطعت عليها‬ ‫الطريق قائلة‪:‬‬ ‫‪76‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ما ر�أيك �أن تكوين من الآن ف�صاعد ًا مبنزلة �أختي الكبرية‬‫التي �أ�صارحها مبا ال �أ�صارح به �أحد ًا و�أنا مبنزلة �أختك ال�صغرية التي‬ ‫تخبئني لديها �أ�سرارك فتحفظها لك؟‬ ‫�أو تقدرين على حفظ ال�سر؟‬‫بالت�أكيد �أقدر‪ ،‬فقد حفظت قبل هذا �أ�سرار ًا كثرية ومل �أبح بها‬‫�أفال �أقدر على حفظ �سرك؟‬ ‫ُبهتت لكلماتي ثم بد�أت ت�ستكني جمدد ًا ل�شهوة الكالم التي بدت‬ ‫ك�أفعى ابتلعت ال�سر ف�أهبطته من فردو�سه العلوي �إلى �سرج الل�سان‬ ‫وتركته ينطلق بال اجتاه‪ .‬قالت فيما قالت‪:‬‬ ‫حينما حملتني �أمي �أق�سم �أبي �أنه �سيطلقها �إذا كان املولود بنت ًا‪،‬‬‫وفع ًال كنت الفتاة امل�ش�ؤومة التي مل يرحب �أحد مبجيئها‪� ،‬إذ ط َّلق �أبي‬ ‫�أمي َ‬ ‫وغا َدرنا دون رجعة‪ .‬قيل �أنه هجر البالد وقيل �أنه تزوج لعام واحد‬ ‫ثم مات مبر�ض ع�ضال وقيل‪ ،..‬وقيل‪ ..‬ربتنا �أمي �أنا و�أخواتي البنات‬ ‫ولكنها بقيت طوال عمرها تراين �سبب ب�ؤ�سها وطالقها من �أبي‪ ،‬و لهذا‬ ‫قررت تزويجي لأول خاطب يدق بابنا‪.‬‬ ‫بعد �أن نلت الثانوية العامة‬ ‫ْ‬ ‫وكان هذا اخلاطب هو‪.‬‬‫أ�سرعت مب�سح دموعها ودنت‬ ‫�أجل كان هو‪ .‬حينها ُف ِت َح بابنا ف�‬‫ْ‬ ‫فطلبت منها اجللو�س‪،‬‬ ‫�إلى طفلتها تت�شاغل بها‪ .‬كان القادم مرهف ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لكنها �أبت وما كادت تكمل عبارتها حتى عادت �أمي‪ ..‬ف�ألقت عليها‬ ‫‪77‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫اجلارة التحية وغادرتنا و�أمي تنتظر منها زيارة خا�صة‪.‬‬ ‫***‬ ‫مل ينتقل ابن عمي علي �إلى ال�سنة الثانية‪ ،‬فاتفق مع والده على‬ ‫البقاء هنا يف هذا ال�شتاء كي يكون على ات�صال �أكرب مع كليته‪ ،‬لكنه مل‬ ‫يكن ن�شيط ًا بال�صورة التي تخيلها والده فقد بات يركن للعزلة واالنفراد‬ ‫ومالزمة غرفته‪ ،‬بل حتديد ًا �سريره طوال النهار �إال ما ندر‪ ،‬بد�أ جدي‬ ‫يلحظه وكذلك �أحمد لكنهما مل يعريا الأمر اهتمام ًا كبري ًا وظنا �أنه مير‬ ‫بحال نف�سي َع َر�ضي �أفرزه ر�سوبه بيد �أن الأمور تطورت فج�أة ب�شكل‬ ‫خطري للغاية ف�أ�صبح انعزاله وتكوره يف �سريره �شيئ ًا غريب ًا وادِّعا�ؤه‬ ‫التهاب الكلية رغم ق�ضائه للوقت مت�سكع ًا يف ال�شوارع واحلدائق �أمر ًا‬ ‫مريب ًا‪ .‬ح ّدثه جدي �أكرث من مرة م�ستف�سر ًا عن حاله لكنه مل يكن يجيبه‬ ‫ب�شيءٍ ‪ ،‬بل ينتقل به �إلى �أمر �آخر‪ ،‬ا�ستحلفه جدي مر ًة �أن يقول ما يعاين‬ ‫منه فنظر �إلينا نظر ًة بلهاء وقال‪:‬‬ ‫ البارحة ذهبت �إلى ال�سوق‪ ..‬فكان يطاردين‪..‬‬‫من؟‬‫�إنه حممود‪ ..‬الذي ي�سكن بجوار دكان احلالق �سعيد‪.‬‬‫حممود!‪ .‬قال �أحمد بده�شة ثم تابع‪� :‬إنه �شاب طيب حديث‬‫علي �أكرث يف �سريره وقال‬ ‫الزواج ال ّ‬ ‫هم له �سوى منـزله وعمله‪ .‬انزوى ٌّ‬ ‫كطفل خائف‪:‬‬ ‫‪78‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫هم بالنـزول‬ ‫ال �إنه يتبعني‪ ،‬لقد ا�ستق ّل معي البا�ص نف�سه‪ .‬وحني ّ‬‫هم�س يف �أذن من معه قائ ًال‪� :‬إنه هو حاول متابعته‪ .‬هنا اقرتب جدي‬ ‫منه وجل�س على �سريره ثم ح�ضنه بحنان وم�سح بيده على جبينه قائ ًال‪:‬‬ ‫ال حول وال قوة �إال باهلل‪ ..‬ال حول وال قوة �إال باهلل‪ ،‬يا جدي ال‬‫ُت ْت ِعبني‪� ..‬إنني مري�ض‪ ،‬قم ( يا جدو ) ه ّيا �صلي على النبي وقم‪..‬‬ ‫�إلى �أين يا جدي‪� ..‬إلى �أين؟‬‫�إلى غرفتي كي حتدثني مبا تفكر به هذه الأيام ومتى بد�أت‬‫تفكر هكذا‪.‬‬ ‫بعدها درج �أحمد بكر�سيه �إلى جوار ال�سرير ثم رفع الو�سادة‬ ‫و�أخرج جريدة قدمية وقال‪:‬‬ ‫اقرئي هذا املقال‪.‬‬‫�شرعت بقراءته وملا انتهيت حدقت فيه بغرابة‪.‬‬ ‫بك؟‬ ‫فقال‪ :‬ما ِ‬ ‫قلت ال �شيء ولكن ملاذا �أريتني هذا املقال؟‬ ‫قال‪ :‬ما عهدتك �إال �سريعة البديهة‪.‬‬ ‫ف�أجبته‪ :‬خانتني بديهتي هذه املرة‪ ،‬فقل ما َ‬ ‫لديك‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�سحب كر�سيه للوراء و� ْأ�س َل َم ظهره للم�سند ثم تكلم قائ ًال‪:‬‬ ‫علي �إال ووجدته يطالع يف هذه اجلريدة‪.‬‬ ‫ما دخلت مرة على ٍّ‬‫وما عالقة هذا بذاك؟‬‫�إن هذا املقال ي�صف نف�سية مر�ضى ( الهو�س االكتئابي )‬ ‫ومن �صفات املري�ض اعتقاده �أنَّ النا�س يراقبونه ويكيدون له املكائد‬ ‫ويتهام�سون عليه‪ ،‬فكل غمزة وملزة وكل �إ�شارة ونظرة هي ت�صريح‬ ‫باملراقبة و�إ�شار ٌة للمالحقة‪� ،‬إنها ح�سا�سية مفرطة تنقلب على �صاحبها‬ ‫بال�سوء‪.‬‬ ‫�صمت برهة ثم تابع‪:‬‬ ‫َ‬ ‫�أخ�شى �أن الر�سوب قد دفعه للت�أثر بهذه املقالة و�ساعدته عزلته‬‫وانفراده على ذلك‪ ،‬فتق ّم�ص حال املري�ض نف�سي ًا و�صدق نف�سه‪.‬‬ ‫كالمك معقول ولكن؟ مل �أ�ستطع اال�ستدراك �إذ عاد جدي ومعه‬‫علي‪ .‬انزوى الأخري يف فرا�شه و�ص َّرح وجه جدي بف�شل املحاولة‪.‬‬ ‫***‬ ‫بعد م�ضي وقت لي�س بالطويل خرج �أحمد ولأول مرة منذ جميئه‪،‬‬ ‫�إذ بات من اليوم ف�صاعد ًا قادر ًا على مواجهة النا�س وعندما و�صل �إلى‬ ‫بيتنا َق َرع الباب‪ ،‬قال مرهف‪ :‬منْ على الباب؟ فجاءه ال�صوت‪� :‬أحمد‪.‬‬ ‫‪80‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫هُ رعنا جميع ًا �إليه‪.‬‬ ‫كان جال�س ًا على كر�سيه ينظر �إ َّ‬ ‫يل بفرح‪ .‬ت�سمرت يف مكاين‬ ‫فخاطبني‪:‬‬ ‫�أت�سمحني يل بالدخول؟‬‫عدت �إلى الوراء قلي ًال ولوحت �إليه بيدي قائلة‪:‬‬ ‫بالت�أكيد‪ .‬بالت�أكيد‪ ،‬تف�ضل‪.‬‬‫وما �إن جتاوز عتبة البيت حتى ارمتت عليه �أمي تقبله من قدميه‬ ‫�إلى جبينه كانت الدموع تنهمر من عينيها‪ ،‬وال�صوت يتك�سر يف حلقها‬ ‫حتى ا�ستطاعت جربه فقالت معاتب ًة‪:‬‬ ‫هل ن�سيت �أمك يا �أحمد؟ �أمك التي �أحبتك �أميا حب وحت ّرقت‬‫لر�ؤيتك �أميا احرتاق‪.‬‬ ‫فر َّبت على كتفها وقال‪:‬‬ ‫�أنت من �أق�سم �أال يزورين �إن مل �أزرك �أو ًال‪.‬‬‫رفعت ر�أ�سها ثم ح ّدثته قائل ًة‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫أزورك و�أنت ُ‬ ‫كيف تريدين �أن � َ‬‫تعي�ش كمن ال بيت له‪.‬‬ ‫�ضغط بكامل يديه على ركيزتي الكر�سي وقال بغ�صة‪:‬‬ ‫‪81‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫كان جدي يعاين من الوحدة‪ ،‬و�أنا كنت �أطلب العزلة وال�سكون‬‫فكان ما كان‪.‬‬ ‫والآن؟ �س�ألته �أمي بتوج�س‪.‬‬‫ال�شيء‪ ..‬لقد خرجت من خلوتي وهتكت �سرت وحدتي وعدت‬‫إليك‬ ‫كما كنت‪ْ � ..‬‬ ‫أحمد‪ ..‬ف�أبت فطرتي �إ َّال �أن ت�سوقني �أول ما ت�سو َقني � ِ‬ ‫يا �أمي‪.‬‬ ‫كان �أحمد قد قرر البقاء يوما عندنا ويوما عند جده وبهذا‬ ‫ق�سمنا املهمة بيني وبينها‬ ‫�أ�ضحى واجبا علينا �أنا وعائ�شة زيارة جدنا‪ّ .‬‬ ‫يوم ًا بيوم‪ ،‬وكان على مرهف امل�سكني �أن ي�صطحبنا يف كل مرة‪.‬‬ ‫ويف �آخر الأ�سبوع زارنا حامد‪ ،‬كنا وقتها �أنا و�أمي نعمل على‬ ‫جتهيزات العر�س ومالب�س العرو�س‪ ،‬وكانت ت�ساعدنا �أم ح�سان واجلارة‬ ‫اجلديدة‪� .‬أ�ضحت الأخرية �أختا حقيقية يل حيث �صرت �أتردد عليها‬ ‫بني الفينة والأخرى كلما �ضاقت بي الدنيا و�ضقت بها‪ ،‬وبينما كنت‬ ‫علي �أحمد وبادرين قائ ًال‪:‬‬ ‫�أح�ضر القهوة يف املطبخ دخل ّ‬ ‫�إحم‪� ..‬إحم‪..‬‬‫فارجتفت يف مكاين ومتتمت‪ :‬ب�سم اهلل‪ ..‬ب�سم اهلل‪..‬‬ ‫كنت �شاردة؟‬ ‫�أين ِ‬‫يف‪ ..‬يف‪ ،.‬قاطعني قائ ًال‪ :‬يكفي‪ ..‬يكفي‪ ..‬املكتوب وا�ضح من‬‫‪82‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫عنوانه‪� .‬أحرجني بخطابه لكنَّ غليان املاء �أ�سعفني فقلت‪:‬‬ ‫دعني �أكمل القهوة‪.‬‬‫مينعك؟‬ ‫تب�سم وقال‪� :‬أكمليها‪ ..‬ومن‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫فنظرتُ �إليه وقلت‪� :‬أال تريد �أن تذهب؟‬ ‫قائ ًال‪:‬‬

‫ج َّر كر�سيه �إلى موقع �أقرب‪� ،‬أمال عنقه �إلى اليمني ونظر مبكر‬ ‫لن �أذهب حتى �أ�سمع موافقتك‪.‬‬‫‪-‬على ماذا؟‬

‫على ماذا؟ راح ُّ‬‫ميط الكلمة متعمد ًا الت�شويق فتظاهرتُ بعدم‬ ‫وهممت باخلروج وبينما �أنا �أجتاوزه التقطت �أذين عبارته‬ ‫االكرتاث‬ ‫ُ‬ ‫الوردية‪ ( :‬على حامد )‪.‬‬ ‫ارجتفت يدي وكادت �أن ت�سقط مني فناجني القهوة‪ ..‬قال‬ ‫ْ‬ ‫�ضاحك ًا‪:‬‬ ‫بحرج‪:‬‬ ‫وج ٌه وردي على بلوزة �صفراء ين�سجمان‪ُ .‬‬‫فقلت ٍ‬ ‫دقيقة و�أعود � َ‬‫إليك‪.‬‬ ‫رجعت �إليه �سبقته �إلى الكالم فقلت معاتب ًة‪:‬‬ ‫وملا ُ‬ ‫‪83‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫علي بربود ٍة‪:‬‬ ‫�أهكذا جتعل الن�سوة يت�ساءلنّ ما بي؟ فر َّد َّ‬‫وهل يبدو عليك �شيء؟‬‫�أوه �أنت حق ًا ( فايق ورايق )‪ ..‬ا�ستدرتُ وعدتُ �أدراجي وعند‬‫ب�صوت يرتاق�ص فرح ًا‪:‬‬ ‫التفت �إليه وقلت‬ ‫مدخل ال�صالون ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫موافقة‪ ،‬فتناهت �إلى م�سامعي جملته الأخرية‪ :‬بنات �آخر‬‫زمن‪ ..‬مل �أعب�أ بها وعدت جمدد ًا لل�صالون وقلبي يكاد يحلق بعيد ًا‬ ‫آخر مدى‪..‬‬ ‫آخر‪ِ � ..‬‬ ‫خارج �صدري �إلى � ِ‬ ‫***‬ ‫يف ال�صباح �أقبلت �أمي نحوي مبت�سمة وقالت‪:‬‬ ‫أنت و�أحمد بعد �صالة‬ ‫منت � ِ‬ ‫�أوه‪..‬لقد ت�أخرت يف النوم‪ ،‬هل ِ‬‫الفجر؟‬ ‫ال‪.‬‬‫–�إلى الآن؟‬ ‫�أجل‪..‬‬‫كانت حتملق َّيف ب�شكل مث ٍري‪ ،‬ف�س�ألتها با�ستغراب‪ :‬ملاذا تنظرين‬ ‫�إ َّ‬ ‫يل هكذا؟‬ ‫‪84‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ا�ستمرت يف نظراتها وقالت‪:‬‬ ‫ما ر�أيك �أن نحقق رغبة والدك رحمه اهلل؟‬‫� ّأي رغبة؟‬‫يت فرا�شي وه َّويت الغرفة‪ ..‬بعدها‬ ‫تركتني لدقائق خاللها �س ّو ُ‬ ‫�سمعتها تنادي من ال�صالون‪� :‬صباح‪ . .‬عائ�شة‪ . .‬الفطور جاهز‪.‬‬ ‫ت�ساءلت عائ�شة‪� :‬أين �أحمد؟‬ ‫وعلى املائدة‬ ‫ْ‬ ‫ذهب لبيت جده‪.‬‬‫لعله حنَّ لتلك الدار؟‬‫أدركت �أنها تريد العودة‬ ‫هزَّت �أمي ر�أ�سها ثم نظرت َّيف جمدد ًا‪ُ � .‬‬‫لنف�س احلديث‪ .‬فابتد�أته من تلقاء نف�سي‪ .‬و�س�ألتها‪:‬‬ ‫� ّأي رغبة تلك؟‬‫أختك؟‬ ‫�أال تذكرين رغبة والدك بتزويجكما يف الليلة ذاتها � ِ‬‫أنت و� ِ‬ ‫متتمت عائ�شة م�ؤيد ًة‪ :‬نعم‪ ،‬نعم‪ ،‬لقد متنى ذلك‪ .‬ثم التفتت �إيل‬ ‫وتب�سمت مبكر كابت�سامة �أخيها يف الليلة الفائتة ومتتمت‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫لو ٌن وردي �إلى جواره بلوزة �صفراء ين�سجمان!‬‫‪85‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�أده�شني كالمها‪ .‬نظرتُ يف �أمي ثم �أعدتُ ب�صري �إليها وقلت‪:‬‬ ‫كيف عرفت؟‬‫عرفت ماذا؟‬‫�شعرتُ بوجهي يلتهب‪ ..‬وحلقي يجف‪ ..‬فقلت مبكر‪:‬‬ ‫�أق�صد كيف عرفت �أن اللون الوردي ين�سجم مع البلوزة‬‫ال�صفراء‪.‬‬ ‫لقد �سمعتها ذات يوم‪.‬‬‫حدجتها بحد ٍة وقلت‪ :‬ذات يوم! ح�سن ًا كما تريدين‪ . .‬ذات يوم!‪.‬‬ ‫ثم �أعدت ب�صري �صوب والدتي التي كانت تتناول طعامها رويد ًا‬ ‫ق�صدت بحديثك قبل‬ ‫رويد ًا ب�سبب �أ�سنانها املتخلخلة‪� .‬س�ألتها‪ :‬ماذا‬ ‫ِ‬ ‫قليل؟‬ ‫تعرفني ما ق�صدي‪ ،‬فال داعي للمناورة‪.‬‬‫أطرقت بب�صري‬ ‫‪..‬هنا �شعرتُ بدمائي تغلي‪ .‬فتكوي جلد وجهي‪ُ � .‬‬ ‫أنت موافقة؟‬ ‫يف �صحني ثم متتمت‪ .. :‬ح�سن ًا‪� ،‬إذا � ِ‬ ‫�أجل موافقة‪.‬‬‫حينها نه�ضت عائ�شة لرتى من يقرع الباب‪ .‬كان �ساعي الربيد‪.‬‬ ‫‪86‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫تناولت �أمي الر�سالة وبد�أت فتحها بذيل امللعقة‪ .‬قالت لها‬ ‫عائ�شة‪:‬‬ ‫انتظري دقيقة �س�أح�ضر لك �أداة فتح الر�سائل‪ ،‬ف�أجابتها‬‫بتلهف‪ :‬ال �أ�ستطيع االنتظار‪� .‬إنها من خالكم‪ .‬و�أنا مت�شوقة لأقر�أ ما‬ ‫بداخلها‪.‬‬ ‫قر� ْأت الر�سالة بعينيها‪ ،‬وملا انتهت من القراءة رمتها يف الهواء‬ ‫عالي ًا وقد وثبت من مكانها كطفلة �سعيدة‪ ،‬راحت تخاطبنا وا َل َعرباتُ‬ ‫يف عينيها‪ .‬وت�صرخ‪� .:‬إنه قادم‪� ،‬إنه قادم يف الأ�سبوع الآتي‪ ،‬فقلنا �أنا‬ ‫وعائ�شة ب�صوت واحد‪:‬‬ ‫�أخري ًا �سرنى خالنا الوحيد‪ .‬ف�أجابتنا بحبور‪� :‬أجل‪ .‬بعد كل هذه‬‫ال�سنوات‪ .‬قالتها بحرقة وقد انهمرت دموعها فك�أنَّ ال�سعادة ا�ستحالت‬ ‫حلزن برهة من الزمن ثم ا�ستفاقت جمدد ًا فرح ًا وحبور ًا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وبينما نحن على هذا احلال �سمعنا �صراخ ًا على درج البناية‬ ‫ف ُهرعنا ننظر ما يجري‪ .‬كانت اجلارة اجلديدة تهبط ال�سلم ب�سرعة‬ ‫وطفلتُها على يدها باكية وزوجها من الأعلى ي�صرخ قائ ًال‪:‬‬ ‫جن�سك‪.‬‬ ‫أنت وبنات‬ ‫اذهبي �إلى اجلحيم‪ ،‬ملعون ٌة � ِ‬ ‫ِ‬ ‫نادتها �أمي‪ .:‬عبري‪ ،‬عبري‪ .‬فالتفتت �إليها وقد ملأت الدموع‬ ‫وجهها وقالت‪ .:‬ماذا تريدين يا �أم �أحمد؟‬ ‫‪87‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ادخلي �أو ًال ُث ّم نتح ّدث‪ ،..‬كانت تبكي ب�شد ٍة‪ ،‬هد�أتها �أمي‪،‬‬ ‫وخففت عنها‪� .‬أما عائ�شة فقد �أخذت الطفلة وذهبت بها �إلى ال�شرفة‪.‬‬ ‫غ�سلت اجلارة وجهها وخلعت ( مانطوها )‪ ..‬خاللها عدت �إليها بك�أ�س‬ ‫بابوجن �ساخن‪ .‬احت�ست قلي ًال منه ثم تكلمت من تلقاء نف�سها‪ :‬يريدين‬ ‫�أن �أ�سكن مع �أوالده يف بيت واحد‪.‬‬ ‫وماذا يف ذلك؟ �س�ألتها �أمي‪.‬‬‫و�ضعت الك�أ�س من يدها‪ ..‬ثم قالت م�ستنكرة‪.:‬يف ذلك الكثري‪،‬‬ ‫�أو ًال‪� :‬أوالده �شباب بعمري‪ ..‬وثاني ًا‪ :‬واحد منهم يغيب الأ�سبوع كله يف‬ ‫فقلت لها‪:‬‬ ‫اجلامعة و�أما الثاين فيظل هنا‪ ،‬وب�صراحة مل �أرحت لنظراته‪ُ .‬‬ ‫وملاذا مل تخربيه بذلك؟‬ ‫�أخربته ولكنه ال ي�صدق �إال ما يريد هو‪..‬‬‫و�أين كان �أوالده؟ �س�ألتها �أمي‪ ،..‬قبل �أن جتيبها تناولت‬‫ال�صغرية من عائ�شة التي كانت قد عادت بها نائمة‪� .‬ضمتها �إلى‬ ‫�صدرها َّ‬ ‫وغطتها بـ (مانطوها) ثم قالت‪ :‬لقد كانوا عند جدتهم (والدة‬ ‫�أمهم) وعندما ماتت منذ حني جاء بهم �إلى هنا وهو يريد �أن يوفق بني‬ ‫�أ�شياء ال توافق بينها‪.‬‬ ‫وماذا �ستفعلني الآن؟‬‫�س�أذهب لأمي‪ .‬ف�إن �أ�ص َّر على موقفه ف�سوف �أطلب الطالق‪..‬‬‫‪88‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫وطفلتك؟ قالت عائ�شة‪.‬‬‫�ستكون ح�ضانتها يل‪ .‬بادلتني نظرة تفي�ض باحلزن والأمل‪.‬‬‫�شربت ب�سرعة ما بقي من البابوجن وا�ست�أذنت باالن�صراف‪ ،‬وقبل �أن‬ ‫تغادرنا ح�صلنا منها على رقم هاتفها و�أكدنا عليها �أن تت�صل بنا خالل‬ ‫وقت قريب‪.‬‬ ‫***‬ ‫بعد ذلك عاد �أحمد‪ .‬كان يت�صبب عرق ًا ووجهه بلون ال�شوندر‪.‬‬ ‫قلت له‪ :‬كان عليك �أن تنتظر حتى الزوال ثم جتيء‪ .‬ف�أجابني‬ ‫وهو مي�سح عرقه‪:‬‬ ‫مل �أ�ستطع البقاء مع الذكريات لقد كادت ت�صرعني فتهوي بي‬‫يف وادي الك�آبة من جديد‪ .‬فابت�سمت وقلت‪:‬‬ ‫ال عليك‪ ،‬لكل �شيء �ضريبة‪.‬‬‫فهز ر�أ�سه متمتم ًا‪:‬‬ ‫بلى و�ضريبة الو�صال هنا �أمل الفراق‪ .‬هُ رعت �إلى املطبخ وعدت‬‫بكوب ماء‪� .‬شربه على دفعات‪ ،‬تناولته منه و�س�ألته‪:‬‬ ‫لكن‪ ،‬كيف ا�ستطعت �أن تعود وحدك؟‬‫‪89‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�أو�صلني حامد‪.‬‬‫و�أين هو‪ .‬لمِ َ لمَ ْ ي� ِأت معك؟‬‫لقد �أو�صلني وم�ضى م�سرع ًا‪ .‬فبعد �ساعة موعد انطالق الكرنك‬‫الذي �سي�ستقله �إلى حلب‪.‬‬ ‫***‬ ‫ها قد و�صل خايل حممد �إلى دم�شق‪ .‬فات�صل بنا و�أعلمنا بقدومه‪.‬‬ ‫كانت �أمي تع ُّد الدقائق والثواين‪ ،‬فكم هي يف لهفة لر�ؤيته وت�شوق‬ ‫لقربه‪.‬‬ ‫وعندما و�صل ا�ستقبلته بالدموع واالبت�سامة حتى خلتها �ستفقد‬ ‫عقلها من كرثة �ضحكها وبكائها‪ .‬قالت له بعتاب حار‪:‬‬ ‫�ساحمك اهلل‪ ،‬كيف �أطاعك قلبك على تركي ُك َّل هذه ال�سنوات؟‬‫و�ضع حقائبه و�أجابها ب�صدق و�سكينة‪:‬‬ ‫أحمق �أو‬ ‫هكذا حال الدنيا و�أر�ض اهلل وا�سعة ال ت�ضيق �إال على � ٍ‬‫حمدود نظر‪.‬‬ ‫ه ّمت عائ�شة ب�إغالق الباب فقال لها وهو يحت�ضنها‪:‬‬ ‫انتظري قلي ًال فزوجتي و�أبنائي ورائي على الدرج‪ .‬بعد قليل ُك َّنا‬‫‪90‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫جميع ًا يف ال�صالون‪� .‬شربنا ال�شاي و�أثناء ذلك تعارفنا‪ ،‬قال خايل‪:‬‬ ‫�شابة‪.‬‬

‫‪-‬لقد كرب الأوالد �أحمد والبقية‪ ،‬حتى �صباح ال�صغرية �صارت‬

‫�أجل‪ .‬و�أوالدك �أي�ض ًا �سامر ووائل �صارا �أكرب مما ت�صورت يف‬‫ر�سائلك‪.‬‬ ‫لك �إنه حال الدنيا‪ُ ،‬ك ُّل �شيءٍ يتغري و ُك ُّل �شيءٍ �إلى زوال‪.‬‬ ‫�أمل �أقل ِ‬‫مل يطيال احلديث حيث توجه خايل و�أ�سرته �إلى الغرفة التي كنا قد‬ ‫�أعددناها لهم‪.‬‬ ‫بعدها رجعت عائ�شة مع خطيبها �إذ كانا يتم�شيان على طريق‬ ‫(الربناوي) املطل ب�شكل �ساحر على مدينة حماة ‪ ..‬وكذلك خرج �إلينا‬ ‫خايل وزوجته بعد �أن �أخذا ق�سط ًا من الراحة‪.‬‬ ‫قامت �أمي ونزعت ثوب ال�صالة و�أرادت ط ّيه �إال �أن زوجة خايل‬ ‫خاطبتها‪:‬‬ ‫من ف�ضلك‪ ..‬دعيه يف مكانه كي �أ�صلي‪.‬‬‫جاد ثغر �أمي بابت�سامة عذبة‪ ..‬و�أفلتت من �أعماقها حالة من‬ ‫ال�سرور والطم�أنينة‪ ..‬متتمت‪ :‬ال �إله �إال اهلل‪ ..‬هل �أنت م�ؤمنة؟‬ ‫‪ ..‬فر ّدت زوجة خايل الأملانية با�ستغراب‪:‬‬ ‫‪91‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫بالت�أكيد‪ُ ..‬ث َّم التفتت �إلى خايل‪ ..‬ف�ضحك لنظرة ا�ستعطافها‬‫وخاطب �أمي‪:‬‬ ‫لقد �أ�سلمت من تلقاء نف�سها عندما تعرفت على ديننا كما هو‪.‬‬ ‫تف ّر�ست فيها والدتي هُ نيه ًة‪ ..‬ثم قالت با�ش ًة‪:‬‬ ‫ لكم �أنت نبيلة ورائعة‪ ..‬فرحت الأملانية ملديحها لكنها ارتبكت‬‫ولب�سها حال من الده�شة‪ ..‬قالت‪:‬‬ ‫�أوه ال �أ�صدق‪� ..‬إنك تعطيني �أكرث من قدري‪ ..‬ما �أنا �إال فتاة‬‫عادية عرفت الإ�سالم على حقيقته ف�أعجبني و�آمنت به‪� .‬إنكم �أولى‬ ‫منا بالفخار لأن لديكم ر�سالة �سامية وتاريخ ًا جلي ًال وعلى املن�صفني‬ ‫�أن يعرتفوا بكم لين�ش�أ بني ال�شعوب تعارف ومتتد ج�سور من احلوار‬ ‫ل�س َّر من احلديث )‪.‬‬ ‫والتفاهم‪ ..‬قلت يف نف�سي‪ ( :‬لو كان �أحمد معنا ُ‬ ‫مل �أكمل خاطري حتى فاج�أنا و�صول �أحمد‪� ،‬ألقى التحية ودرج‬ ‫�صوب خاله‪ ..‬مال الأخري عليه وقال‪:‬‬ ‫كيف حالك اليوم يا خال؟‬‫احلمد هلل‪..‬‬‫ثم تلفت و�س�أل‪:‬‬ ‫�أين مرهف ال �أراه معنا؟‬‫‪92‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ف�أجابه �أحمد‪:‬‬ ‫�إنه يعمل يف حمل للملبو�سات‪.‬‬‫ه ّز ر�أ�سه ومتتم‪ :‬ح�سن ًا‪ ،‬ح�سن ًا‪ ..‬ثم التفت لأحمد وقال‪:‬‬ ‫ماذا جرى معك يا خال حتى �صرت هكذا؟‬‫نظر �أحمد يف الأر�ض ثم رفع ر�أ�سه بهدوء وحدج �أمي بنظرة‬ ‫غريبة وقال‪:‬‬ ‫تعر�ضت حلادث �سري يف الإمارات‪.‬‬‫الإمارات‪ ..‬ر ّدد مذهو ًال‪.‬‬‫�أجل ومل العجب‪ ..‬ت�ساءل �أحمد؟‬‫‪ ..‬على الفور �أجابه خايل‪ :‬من املفرو�ض �أنك طالب جامعي‪..‬‬ ‫وهذا يعني �أن تكون هنا ولي�س هناك‪.‬‬ ‫�أحرج �أخي وارتبكت �أمي �إذ �شعرت برغبة �أحمد يف التكتم‪ ..‬لكنَّ‬ ‫اهلل �ساعدنا حيث دخلت الأملانية وقالت له وهي جتفف وجهها باملن�شفة‪:‬‬ ‫قم لل�صالة‪ ..‬هيا لقد ت�أخرنا يف �أدائها‪.‬‬‫خالل ذلك زارتنا اجلارة ال�شابة‪ ..‬مل تكن طفلتها معها بينما‬ ‫الحظت خل َّو‬ ‫ذهب خايل و�أحمد �إلى �سوق املدينة فجل�ست زوجته معنا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪93‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�إ�صبع اجلارة عبري من املحب�س‪ ..‬ف�س�ألتها على �سبيل املزاح‪:‬‬ ‫�أين الـ‪ ..‬و�أ�شرت �إلى �إ�صبعها؟‬‫ف�أجابت بهدوء‪:‬‬ ‫�أ�ضعته مثلما �ضيعني زمن ًا‪.‬‬‫ت�صفحت الوجوه‪ ..‬حتى عدتُ لوجهها فقلت‪:‬‬ ‫‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ماذا تق�صدين؟‬‫أطلقت ب�صرها �إلى �أبعد نقطة يف الغرفة‪ ..‬وب�شيء من الالمباالة‬ ‫� ْ‬ ‫�أجابت‪:‬‬ ‫لقد ُطلقنا‪� ..‬أو بالأحرى لقد طلقني‪.‬‬ ‫طلقك‪� ..‬صاحت �أمي!‬‫�أجل‪ ..‬لقد فعلها �أخري ًا‪.‬‬‫وملاذا؟‬‫لأنني رف�ضت �أن �أعي�ش مع �أبنائه الذين يف �سني‪ ..‬خا�صة‬‫غبت قلي ًال ثم‬ ‫و�أن �أحدهم كان يرمقني بنظرات غري مريحة �أبد ًا‪ُ .‬‬ ‫عدتُ بالقهوة ‪ ..‬قامت الأملانية تريد م�ساعدتي‪ ..‬حاولت منعها بلطف‬ ‫لكنها �أبت �إال �أن ت�ساعدين فنـزلت عند رغبتها را�ضي ًة‪ .‬تب�سمنا جميع ًا‬ ‫‪94‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫لت�صرفها الربيء‪ ،‬عادت الأملانية ملكانها‪ ..‬ارت�شفت �شيئ ًا من القهوة‬ ‫املو�ضوع‪..‬افتعلت ال�سعال لت�صفية‬ ‫ال�ساخنة‪ ،‬ويبدو �أنها تفاعلت مع‬ ‫ْ‬ ‫موجات �صوتها ثم �س�ألت اجلارة قائل ًة‪:‬‬ ‫وماذا تنوين الآن �سيدتي؟‬‫ل�ست �أدري بعد‪.‬‬‫�أوه‪� ..‬ساعدك اهلل‪� ..‬أح�س ب�آالمك‪..‬‬‫تن ّدت عينا اجلارة وقالت ب�صوت فيه بحة ناي حزين‪:‬‬ ‫احلمد هلل‪ ،‬هكذا ق ّدر ُ�سبحانه وهكذا جتلت �أقداره‪ .‬هنا‬‫�س�ألتها عائ�شة‪:‬‬ ‫ذت باحلاجة �أم علي‪..،‬فهي مرجعنا هنا وكلمتها م�سموعة‪..‬‬ ‫لو ُل ِ‬‫�أخربتها حاجتي فل ّبت‪ ،‬ووعدت فو ّفت‪،‬ك ّلمتُه ب�ش�أين لك ّنه‬‫قطع عليها الطريق بفظاظة و�أخربها �أ ّال تتدخل فيما ال يعنيها‪� ..‬أوه‬ ‫ال تذكريني‪� ..‬أ�شعر �أنني قد �سببت لها حرج ًا‪ .‬ابتلعت الأملانية ريقها‬ ‫وقالت‪:‬‬ ‫�شكر ًا للرب �أنه ع ّرفني على الإ�سالم بالإ�سالم ‪..‬ال عليه من‬‫خالل معتنقيه و�إ َّال لرف�ضته دون �شك‪.‬‬ ‫فقلت للجارة‪:‬‬ ‫نظر بع�ضنا يف بع�ض ثم �سبقتهم يف الكالم ُ‬ ‫‪95‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫وابنتك؟‬‫ِ‬ ‫�س�أرعاها حتى تبلغ الثامنة من عمرها ثم تعود لعهدة والدها‬‫حتى بلوغها خريفها الـ ‪..18‬‬ ‫خريفها‪ ..‬ردّدتُ م�ستغربة؟‬‫احت�ست باقي الفنجان وقالت‪:‬‬ ‫نعم خريفها‪ ..‬لأنه خمطط لها من الآن �أن تعي�ش م�أ�ساة �أمها‬‫من جديد‪.‬‬ ‫ده�شنا جميع ًا‪ .‬حتى قالت �إحدانا‪:‬‬‫من ذا الذي يخطط لهذا‪ ..‬هل تق�صدين الرب؟‬‫ل َّوحت اجلارة بيديها على الفور وهي تقول‪ :‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬مل �أق�صد‬ ‫ذلك‪ ..‬بل ق�صدي والدها‪.‬‬ ‫والدها؟ ا�ستو�ضحت �أمي بغرابة‪ ،‬ف�أكدت اجلارة من جديد‪:‬‬‫�أجل والدها‪ ،‬لأنه �أق�سم على �أن يزوجها حينما ت�صبح يف‬‫عهدته من عجوز طاعن يف ال�سن‪.‬‬ ‫�أ�سندت زوجة خايل ر�أ�سها �إلى يدها ومادت كمن مييد ح�سر ًة‬ ‫و�أمل ًا ثم قالت‪:‬‬ ‫‪96‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�أمعقول �أن يوجد ظلم هكذا‪� ..‬أن تر�سم حياة �إن�سانة ال علم لها‬‫بالأمر وبهذه ال�صورة الب�شعة؟ �أوه �إن فيكم كفرة ولو قالوا ال �إله �إال اهلل‬ ‫حممد ر�سول اهلل‪.‬‬ ‫مل جنبها بكلمة واحدة ‪� ..‬إذ �أجلم احلق �أل�سنتنا‪.‬‬ ‫زفرت اجلارة زفرة عميقة ثم قالت ب�أ�سى‪:‬‬ ‫دعونا �أرجوكم من هذا املو�ضوع‪� ..‬إنه ي�سبب يل �صداع ًا‪..‬‬‫عندئذ ُقرع بابنا ف ُهرعت �إليه‪ ..‬وعندما فتحته‪ ..‬جمدتُ يف مكاين لقد‬ ‫ٍ‬ ‫أنت‪،‬‬ ‫�أ�صابني ذهو ٌل‪ ..‬ال بل �صرت �أهذي قلت‪� :‬أنت‪ ..‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬ل�ست � ِ‬ ‫فقالت ب�صوتها امل�ألوف يل وامل�شبع‬ ‫علي‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫لكنْ ‪� ..‬أوه‪ ..‬الأمر خمتلط َّ‬ ‫عذوب ًة وطفولة‪:‬‬ ‫حالك يا �صباح؟‬ ‫كيف ِ‬‫‪ ..‬لقد �أيقظ �صوتها �شيئ ًا ما يف داخلي‪� ..‬شيئ ًا لي�س بالقريب‬ ‫لدرجة التناول‪ ..‬وال بالبعيد لدرجة الإفالت‪� ..‬شيئ ًا �أنطق ذاكرتي بال‬ ‫حروف‪ ..‬فكانت احلروف على ل�ساين وعيني‪ ..‬على �أ�سارير وجهي كله‪،‬‬ ‫قلت ب�شوق وحنني و�أنا غري عابئة ب�صوت �أمي‪:‬‬ ‫أل�ست‬ ‫كيف حالك يا ليلى؟ وهنا انقلبت �إلى ال�صحو و�س�ألتها � ِ‬‫ليلى‪ ..‬ليلى طه؟ فجاءين �صوتها واثق ًا وم�ؤكد ًا‪:‬‬ ‫بالت�أكيد‪ ..‬ماذا جرى لك‪ ..‬هل ن�سيتني بهذه ال�سرعة؟‬‫‪97‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ال‪ ..‬ال‪ ..‬ولكن‪. .‬‬‫ولكن ماذا؟ على الأقل قويل يل‪ :‬تف�ضلي‪� ..‬أم تودين �أن �أظل‬‫خارج ًا؟‬ ‫أف�سحت لها الطريق ثم‬ ‫ال‪ ..‬عفو ًا‪ ..‬عفو ًا‪ ..‬مل �أنتبه‪ ..‬تف�ضلي‪� .‬‬‫ُ‬ ‫�أغلقت الباب لدى اجتيازها العتبة ودخلنا مع ًا �إلى ال�صالون‪ .‬هناك‪..‬‬ ‫ذ َّكرت �أمي و�أختي بها وع َّرفتها على زوجة خايل الأملانية ثم �أخذتها‬ ‫وخرجنا �إلى ال�شرفة‪،‬حيث جل�سنا ن�ستذكر �أيام ًا خلت‪� ..‬إلى �أن و�صلنا‬ ‫�إلى �ساعة جلو�سنا ف�س�ألتُها‪:‬‬ ‫ما الذي جاء بك حلماه‪ ..‬لزيار ٍة �أم لعمل يقوم به والدك؟‬‫ال هذا وال ذاك‪..‬‬‫�إذ ًا ملاذا �أنت هنا؟‬‫لأننا و�أ�سرتي قررنا العودة حلماة لن�ستقر فيها من جديد‪..‬‬‫كنت �أت�أرجح بالكر�سي الهزاز حينما قالت كلماتها‪ ..‬ف�أوقفته‬‫دفعة واحدة وقلت بفرح‪:‬‬ ‫ماذا قلت‪� . .‬ست�ستقرون هنا؟‬‫�أجل‪� .‬أجل‪.‬‬‫‪98‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫قفزتُ من الكر�سي وتناولتها من يدها و�أ�سرعت بها �إلى‬ ‫ال�صالون‪ ،‬كنت �أ�صرخ‪ :‬ماما‪ ..‬ماما‪.‬‬ ‫ماذا بك‪ ..‬لقد �أرعبتني؟‬‫ال�شيء‪ ..‬ال �شيء‪ ..‬لكن ليلى �ستبقى هنا‪ .‬هنا معنا؟‬‫�أ�صحيح هذا يا ليلى‪ ،‬ف�أجابتها‪� :‬أجل �سنبقى هنا‪ .‬لقد قرر‬‫والدي العودة‪ ..‬فهنا النا�س مييلون للطيبة‪ ..‬يجل�سون مع ًا ويتفقدون‬ ‫بع�ضهم بع�ض ًا‪ ،‬هنا ن�شعر بالراحة‪� .‬أما هناك‪ ..‬فك ٌل م�شغول بنف�سه‬ ‫ولي�س لديه وقت لهذه الأمور‪ ،‬هناك �شعرنا باجلفاء والغربة‪.‬‬ ‫وقتها ارت َ​َد ْت اجلارة ( املانطو ) وعزمت على الذهاب‪ ..‬قالت‬ ‫وهي ت�سري نحو الباب‪ :‬يبدو �أن بينكما �صداقة عميقة‪ ،‬وبينما هي تفتح‬ ‫الباب وته ُّم باجتيازه فاج�أها كر�سي لقعيد‪ ،‬كان �أحمد الذي ظهر من‬ ‫وراء خايل و�أوالده‪ ..‬ت�سلل الأوالد من بني الكر�سي وحافة الباب �إلى‬ ‫الداخل‪ ..‬نظرت اجلارة فيه وقالت‪:‬‬ ‫مرحب ًا‪ .‬مل يجبها بكلمة فر َّد عليها خايل بد ًال عنه‪:‬‬‫�أه ًال و�سه ًال ثم نظر يف �أمي وقال لها‪:‬‬‫ه َّال عرفتنا على الآن�سة؟‬‫�إنها تدعى ال�سيدة عبري‪ ..‬جارتنا اجلديدة‪ ..‬فنظر فيها‬‫وابت�سم قائ ًال من جديد‪� :‬أه ًال و�سه ًال‪� ..‬أه ًال و�سه ًال يف حني بقي �أحمد‬ ‫‪99‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫وتنحى جانب ًا لكي ت�ستطيع املرور فعربت‬ ‫�صامت ًا م�شدوه ًا ثم ترك مكانه ّ‬ ‫الأخرية‪ ،‬قالت وهي تختل�س النظر �إليه‪ :‬ت�صبحون على خري‪.‬‬ ‫أنت من �أهله‪� ..‬أجبناها جميع ًا �إال هو حيث ظل �صامت ًا ومل‬ ‫و� ِ‬‫َي ْنب�س بكلمة‪.‬‬ ‫***‬ ‫درج �أحمد بكر�سيه �صوبي �أنا وعائ�شة يف حني توجه خايل نحو‬ ‫�أمي وزوجته‪ ،‬قال لنا �أحمد بت�أثر‪:‬‬ ‫يف عينيها �س ٌّر ما‪� ..‬إن فيهما غابة حياة م�شبع هوا�ؤها ب�ضباب‬‫حزن خفي‪.‬‬ ‫بعيد ‪.‬‬

‫ما هذا يا �أحمد‪ ..‬لقد و�صفت حالتها وك�أنك تعرفها منذ زمن‬‫ف�أكملت عائ�شة‪:‬‬

‫�إنه الإعجاب يا �أختي‪ ..‬الآن عرفت ملاذا مل ير ّد عليها التحية‪..‬‬‫لقد كان يقر�أ ما يف عينيها‪.‬‬ ‫فنهرنا بلطف وك�أنه يداعبنا‪:‬‬ ‫يكفي يا بنات‪.‬‬‫‪100‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�صاحت �أمي‪:‬‬‫هيه �صباح‪ ..‬هل ن�سيت �صديقتك؟‬‫فلطمت جبيني قائلة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫�أوه‪ ..‬لقد ن�سيتها فع ًال!‪� .‬أين هي الآن؟‬‫غرفتك‪..‬‬ ‫يف‬‫ِ‬ ‫مللمت كتبي املبعرثة على ( الكنبة ) وخاللها �أعلمني‬ ‫ح�سن ًا‪ُ ..‬‬‫خايل �أن �أحمد �أخربه حكايته ف�أيده خايل بهز ر�أ�سه فقط‪ .‬بعدها‬ ‫اجتهت لغرفتي حيث بق ُيت مع �صديقتي �ساعة كاملة‪ ،‬حت َّدثنا خاللها‬ ‫ُ‬ ‫يف �أ�شياء كثرية‪.‬‬ ‫***‬ ‫أ�سبوع ّمت عقد قراين على حامد‪ ،‬ز ّفت �أمي اخلرب �إلى‬ ‫بعد � ٍ‬ ‫املقربني‪ .‬كانت الأملانية م�سرورة جد ًا باالحتفال حيث بدت م�شدودة‬ ‫تتابع بحبور خطواتنا يف الإعداد للعر�س وجلب الف�ساتني وا ُ‬ ‫حللي‪ ..‬وما‬ ‫يتبع ذلك‪ .‬وذات م�ساء بينما كانت الن�سوة م�شغوالت يف هذا الأمر‬ ‫كنت قد انتهيت من تطريز ما تبقى من ثوبي فا�ست�أذنت وذهبت �أنوي‬ ‫ُ‬ ‫النوم‪ ..‬وبينما �أنا �أجتاز غرفة �أحمد‪ ..‬ملحت خايل عنده ومعه مرهف‬ ‫فدخلت عليهم و�ألقيت ال�سالم‪ ..‬قلت‪:‬‬ ‫هل متانعون �أن �أجل�س معكم؟‬‫‪101‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫فر َّد خايل‪ :‬بالت�أكيد ال‪ ..‬تف�ضلي ( يا خالو )‪ ..‬ولكن �ألي�س من‬ ‫املفرو�ض �أن تكوين مع الن�سوة؟‬ ‫�صحيح‪ ..‬ع ّقب مرهف‪..‬‬‫علي‪ ..‬وهنّ جال�سات الآن للدرد�شة فقط ‪..‬‬ ‫لقد �أنهيت ما َّ‬‫وزوجتي معهن؟‬‫فابت�سمت وقلت‪ :‬بلى‪ ،‬و�إنها مل�سرور ٌة جد ًا‪ ،‬ف�ضحك وقال‪� :‬أجل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أجل‪ ..‬ثم تابع حديثه مع �أحمد الذي �س�أله متابع ًا حديث ًا قد ابتد�أه قبل‬ ‫جميئي‪:‬‬ ‫وهل هنالك يف �أملانية رف�ض للإ�سالم؟‬‫ابت�سم خايل و�أجابه بهدوء‪:‬‬ ‫ال يا خايل‪ ..‬هم ال يرف�ضونه لأنهم �أ�ص ًال ال يعرفونه‪� ،‬س�أله‬‫م�ستغرب ًا‪:‬‬ ‫�أوال يعرفونه حق ًا؟‬‫�إن من يكره الإ�سالم عندهم حكومات الغرب ولي�س �شعوبهم‬‫هم �أحمد بالكالم‪ ..‬فا�ستوقفه نق ٌر على الباب‪ُ ..‬ف ِتح الباب ف�إذا‬ ‫‪َّ ..‬‬ ‫بالزائر حامد‪ ،‬خاطبه خايل قائ ًال‪:‬‬ ‫‪102‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫تف�ضل‪ ..‬تف�ضل‪� ،‬أه ًال و�سه ًال‪.‬‬‫�شكر ًا لك ر َّد عليه حامد وقد جل�س مكان مرهف الذي غلبه‬‫النوم فغادرنا‪..‬‬ ‫تب�سم خايل وخاطبني قائ ًال‪� :‬أح�ضري خلطيبك ك�أ�س ًا فارغ ًا‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫هيا يا عرو�سنا‪ ..‬كانت فر�صة �سانحة �أتاحت يل غ�سل وجهي لإطفاء‬ ‫احتقانه‪ ..‬ثم عدت بالك�أ�س‪ ،‬ملأته �شاي ًا وقدمته على ا�ستحياء‪ ..‬تناوله‬ ‫مني وقد بادلني نظرة خاطفة لكنها تنطق بالإعجاب‪ ..‬ثم عاد للحديث‬ ‫اجلاري‪ ..‬فخاطب خايل م�ستو�ضح ًا‪:‬‬ ‫�إذ ًا �شعوبهم ال تعادي الإ�سالم‪ ،‬لأنها ال تعرفه �أ�ص ًال؟‬‫�أجل‪� ..‬أجل‪ ..‬متتم خايل فتابع الأول‪:‬‬‫ولكن كيف ال تعرفه والعامل اليوم قري ٌة كونية ينت�شر فيها اخلرب‬‫بلمح الب�صر؟‬ ‫معك حق �أن تفكر هكذا لأنك مل تخالطهم‪ ،‬خذ مث ًال زوجتي‪..‬‬‫حينما عر�ضت عليها الزواج وافقت وكدنا نقرتب من ليلة الزفاف وما‬ ‫�س�ألتني ما ديانتك‪.‬‬ ‫فا�ستغربت قائل ًة‪:‬‬ ‫‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫�أمعقول هذا يا خايل؟‬‫‪103‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫فابت�سم قائ ًال‪� :‬أجل معقول‪ ..‬تلك زوجتي فا�س�أليها‪.‬‬ ‫�أنا ال �أكذبك ولكن ‪. .‬‬‫�أعلم‪� ،‬أعلم‪ ،‬هنا ت�ساءل �أحمد وهو ينظر �إلى حامد‪ :‬ولكن ملاذا‬‫مل ت�س�ألك‪� ،‬إنه لأمر غريب؟‬ ‫�شرب خايل البقية الباقية من ك�أ�سه ثم ناولني �إياه مكتفي ًا وقال‪:‬‬ ‫زوجتي �صورة منوذجية عن ال�شعب الأملاين ‪� ..‬إنه بب�ساطة �شعب‬‫دنيوي ال يفكر بالإله وال بالدين‪ .. ،‬يعي�ش ليومه ودنياه وال ي�س�أل �أحد ًا‬ ‫عن عقيدته و�إميانه‪ ..‬الأميان بالغيب عندهم يكاد يختفي‪ ،‬ولهذا فهم‬ ‫يعي�شون حالة فراغ روحي عميق وحالة ا�ستعداد ال�ستقبال دين يحرتم‬ ‫العقل واملعا�صرة‪ ،‬و�أي دين �أن�سب لهذه املهمة غري الإ�سالم؟ نظر �أحمد‬ ‫وتب�سم قائ ًال‪:‬‬ ‫�إلى حامد ّ‬ ‫�إذ ًا هكذا حال الأملان‪ ..‬ثم تابع‪ :‬لكم نحن مق�صرون يف حق‬‫�شعوب العامل‪ ..‬فخالفه حامد قائ ًال‪:‬‬ ‫لي�س نحن‪ ،‬بل من ي ّدعون �أنهم دعاة الإ�سالم �إلى �شعوب‬‫العامل‪ ..‬ف�أيده خايل و�أكمل‪:‬‬ ‫�إن الإعالم اليوم قادر على اخت�صار امل�سافات بني الأمم‬‫وجمعهم حتت �سقف واحد �صوت ًا و�صورة‪ .‬اليوم ما عدنا بحاجة �إلى‬ ‫ن�سف الآخر بقدر ما نحن بحاجة �إلى �إعالم يفر�ض وجوده عندهم‪،‬‬ ‫‪104‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ودعاة ميل�ؤون مواقعهم ثقافة وانفتاح ًا‪� ..‬صمت �أحمد و�أطرق �ساكن ًا‬ ‫فتابع حامد بد ًال من خايل وقال‪:‬‬ ‫لقد �آن لأمم الأر�ض و�شعوبها �أن ت�شق قنوات احلوار بينها مثلما‬‫و�أن تتيح لنف�سها ولو فر�صة واحدة يف عمرها �أن تتخلى عن عيونها‬ ‫وتنظر بعيون الآخر‪� ..‬أن تن�سى �صوتها وت�سمع �صوت الآخر‪.‬‬ ‫عندها‪ ..‬نظر َّيف خايل وخاطبني �ضاحك ًا‪:‬‬ ‫أفهمت �شيئ ًا مما قيل يف النهاية؟‬ ‫باهلل عليك يا �صباح‪ِ � .‬‬‫ف�أجبته م�ستهجنة �س�ؤاله‪ ،‬قاطبة اجلبني‪:‬‬ ‫بالت�أكيد‪ ،‬ودعم حامد موقفي قائ ًال‪:‬‬‫�إنها واعية رغم �صغر �سنها‪ ..‬جميلة القلب كجمال وجهها‪.‬‬‫عميقة الفكر كعمق اخل�ضرة يف عينيها‪� ..‬إنها‪� ..‬أوقفه �أحمد وهو ُير ّدد‬ ‫مبت�سم ًا‪:‬‬ ‫يكفي‪ ..‬يكفي يا �أ�ستاذنا‪ ،‬ثم التفت �إلى خايل وقال‪:‬‬‫لقد حتول �صاحبنا من الدفاع �إلى الغزل ف�ضحك خايل‬‫وحدجني بنظرة وقال‪:‬‬ ‫ما ر�أيك يا �صباح‪..‬‬‫‪105‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�أنا؟‬‫وهل يوجد غريك بهذا اال�سم؟‬‫‪ ..‬رحت �أنتف خيوط ًا يف قما�ش تنورتي‪ ..‬والعرق ُي ّ‬ ‫رطب ب�شرتي‬ ‫هممت بالإجابة‪ ..‬ف�أنقذين يف اللحظة الأخرية‬ ‫تلعثمت عندما‬ ‫امللتهبة‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫و�سكنت نف�سي‪،‬‬ ‫�صوت �أمي وهي تناديني فنه�ضت وقد انفرج �صدري‬ ‫ْ‬ ‫قلت وقد زال التلعثم وانطلق الل�سان‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫هرعت م�سرع ًة‪ ،‬مبت�سمة ال �ألوي على‬ ‫عذر ًا‪� ..‬أمي تناديني‪َ ..‬ف ُ‬‫�شيء‪ ..‬يف حني كانت ال�ساعة تعلن انت�صاف الليل والنوم يتغلغل يف‬ ‫العروق‪.‬‬ ‫***‬ ‫�أخرب مرهف هذا ال�صباح �أحمد �أنه �سيلتقي به يف بيت جدنا‬ ‫ال�ساعة الثانية ظهر ًا ب�صحبة ح�سان ثم �أدار ظهره‪ ..‬ولدى اجتيازه‬ ‫العتبة التفت وقال مبت�سم ًا‪ُ :‬ع ِل ْم‪..‬‬ ‫فر ّد عليه �أحمد‪ُ :‬ع ِل ْم‪.‬‬ ‫ر�شفت باقي فنجاين‪ ..‬و�س�ألت �أحمد على ا�ستحياء‪� :‬أميكنني �أن‬ ‫ُ‬ ‫�أكون معكم؟‬ ‫‪� ..‬أطرق قلي ًال ثم قال‪:‬‬ ‫‪106‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ال �أرى ح�ضورك منا�سب ًا‬‫وملاذا؟‬‫راح يقلب الفنجان مينة وي�سرة لري�سم على جدرانه �أ�شكا ًال‬ ‫جمردة وبينما هو يفعل ذلك‪ ..‬رمقني بنظرة حا�سمة قائ ًال‪:‬‬ ‫وجودك‪� ..‬صدقيني ولكن‪ ..‬قاطعته قائل ًة‪� :‬أنا ال‬ ‫كنت �أمتنى‬‫ِ‬ ‫�أطلب اجللو�س معكم‪ ..‬بل رمبا �أجل�س يف غرفة جماورة‪ ..‬املهم �أن‬ ‫�أ�ستمع حلديثكم؟‬ ‫بدت فج�أة عالمات الذهول على وجهه و�س�ألني بده�شة‪:‬‬ ‫وملاذا هذا الإ�صرار على �سماع حديث �شباب قد يكون �صريح ًا‬‫�إلى درجة ال متكنني من جعلك �سامعة ملجرياته؟‬ ‫‪ ..‬ارتبكت قلي ًال ثم ا�ستعدت ثقتي بنف�سي وقلت بهدوء‪ ،‬لي�س‬ ‫ق�صدي �إ ّال �سماع مرهف‪..‬حدجني قائ ًال‪:‬‬ ‫�أنت تغالطني نف�سك‪..‬‬‫ثم �سكب ما تبقى من قهوة‪ ،‬ارت�شفها دفعة واحدة وقد �سرح‬ ‫بب�صره يف الأفق حيث بد�أت ال�شم�س تنرث �أ�شعتها يف املدى‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫لدي حل‪.‬‬ ‫ح�سن ًا َّ‬‫‪107‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ما هو؟‬‫�س�أُ�سجل اجلل�سة‪ ..‬ومن ثم �س�أحذف ما ال ُب َّد من حذفه‪..‬‬‫نه�ضت فرح ًة وقلت‪:‬‬ ‫وبعدها �أعطيك �إياها‪ ..‬فت�سمعني ما ت�شائني‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫موافقة‪ ..‬ولكن‪..‬‬‫ولكن ماذا؟‬‫قد ميانعون يف الت�سجيل‪.‬‬‫ال عليك‪� ،‬س�أرتب للأمر جيد ًا‪ ..‬والآن اذهبي و�أيقظي عائ�شة‪،‬‬‫لت�ساعداين على هبوط الدرج‪ ..‬يجب �أن �أرتب للأمر من ال�ساعة‪.‬‬ ‫ويف امل�ساء‪ .‬عادا مع ًا‪ ،‬دخل مرهف غرفته حيث كان يبدو عليه‬ ‫الإعياء والطم�أنينة بوقت واحد‪ ،‬بينما �سار �أحمد بكر�سيه املتحرك �إلى‬ ‫ال�شرفة‪ ،‬فلحقته و�س�ألته‪:‬‬ ‫تابعت‪ :‬هل �سجلت ال�شريط؟‬ ‫ماذا جرى‪ .‬و عندما ظ ّل �صامت ًا ُ‬‫عندها ر ّد ب�إيجاز وحزم‪ :‬ال‪ ،‬مل �أفعل‪ ..‬فقلت باندها�ش‪:‬‬ ‫وملاذا؟ لقد وعدتني‪.‬‬‫َحب‬ ‫�سجلت وعمدت �إلى حذف ماال ُي�ست ُّ‬ ‫وعدتك �أجل‪ ..‬لكن‪ّ :‬‬‫�سماع ِك له‪ .‬فوجدت �أن الباقي نز ٌر قلي ٌل‪ ..‬ولهذا حموته كله‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪108‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫بغيظ‪ :‬والوعد؟‬ ‫فك ّررتُ ٍ‬ ‫لقد ّ‬‫لك عذري‪ ،‬رجع بكر�سيه �إلى الوراء‪ ،‬وتركني‬ ‫و�ض ُ‬ ‫حت ِ‬ ‫دخلت وراءه‪ ،‬كان يجل�س مع‬ ‫بحزن وجه ال�سماء‪ .‬بعد قليل ُ‬ ‫وحدي �أت�أمل ٍ‬ ‫خايل يف ال�صالون بينما الن�سوة م�شغوالت يف غرفتنا‪.‬‬ ‫ت�سللت على �أ�صابع قدمي �إلى ال�صالون‪ ،‬كانا يتحدثان عن‬ ‫مرهف‪� ( ..‬أوه الظرف منا�سب لأعرف بع�ض الذي جرى )‪ ،‬و�صلتني‬ ‫بع�ض الكلمات ب�صوت خايل‪:‬‬ ‫�إنه ال�شباب املراهق‪ ،‬وكلمات �أي�ض ًا من مثل‪� :‬إنَّ و�سائل الإعالم‬‫تعر�ض املفاتن ثم تطالب ال�شباب بالعفة‪ ..‬وخا�صة �أنكم هنا ال تتزوجون‬ ‫ف�سمعت �أحمد يجيبه‪:‬‬ ‫يف وقت مبكر ما يزيد الطني ِب َّل ًة‪،.‬‬ ‫ُ‬ ‫معك حق‪� ،‬أ�ضف �أنه �شاب �ضائع بني قب�ضة الأهل اخلائفة من‬‫كل حوار �أو ا�ستيعاب وبني ترحاب ال�شارع لكل تفلُّ ٍت وانحراف‪.‬‬ ‫فج�أة فتح باب يف �آخر املمر فانتف�ضت هلعة ودخلت عليهما‪،‬‬ ‫الحظ �أحمد هلعي فقال‪:‬‬ ‫ما بك م�ضطربة هكذا؟‬‫ال�شيء‪ . .‬ال�شيء‪.‬‬‫دعها و�ش�أنها‪ .‬خاطبه خايل‪ ،‬ثم ابت�سم يل وقال‪ :‬تعايل يا (‬‫خالو )‪ ..‬هيا تعايل واجل�سي بقربي‪.‬‬ ‫‪109‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ما �إن فعلت ذلك حتى م ّر �أمامنا طيف مرهف‪ .‬ذهب �إلى‬ ‫احلمام ثم عاد بهدوء لغرفته‪ .‬خاللها َغيرَّ �أحمد املو�ضوع‪ ،‬و�شرعا يف‬ ‫مو�ضوع �آخر‪ .‬لقد �أدركت �سبب امتناع �أحمد عن �إخباري مبا جرى‪� .‬إذ‬ ‫يبدو الأمر ح�سا�س ًا للغاية‪ .‬وال ينبغي �أن ت�صارح فيه فتاة يف مثل ُعمري‪.‬‬ ‫***‬ ‫كانت ت�صرفات مرهف قد بد�أت تتغري‪ ..‬و�أخذ ي�ستعيد تدريجي ًا‬ ‫طباعه الأولى‪ .‬الظاهر �أن حوار �أحمد قد �أثمر‪ .‬كذلك �أ�صبح ح�سان‬ ‫كما فهمت من �أخي‪� .‬آه لو �أن الكبار يحاوروننا وجها لوجه من غري‬ ‫�أن ي�ضطروننا لرفع ر�ؤو�سنا حتى نراهم ُو ّعاظ ًا على كرا�سيهم العاجية‬ ‫لكانت الأجيال كموج البحر يو�صل بع�ضها بع�ض ًا �إلى �شاطئ الأمان‬ ‫وال�سالم‪ .‬على كل حال‪ ،‬ومع �أواخر هذا ال�صيف احلار ُط ِّلقت جارتنا‬ ‫عبري من زوجها وعادت لت�ستقر وابنتها مع والدتها التي ماتت هي‬ ‫الأخرى بعد ذلك ب�شهر واحد‪� ،‬أوه لقد ظننا �أن ما مرت به امل�سكينة �آخر‬ ‫م�آ�سيها‪ .‬فظهر لنا �أنه حلقة يف �سل�سلة م�آ�سي بد�أت تتعر�ض لها هذه‬ ‫الفتاة الرقيقة‪� .‬شرعت تبحث عن عمل تقتات منه وطفلتها‪ .‬فزوجها‬ ‫تخلى عنها و�أخواتها كلهن متزوجات وال ي�ستطعن م�ساعدتها ب�سبب‬ ‫�سيطرة �أزواجهن عليهن‪� .‬أ�شفق عليها �أحمد وراح يرعى لها ال�صغرية‬ ‫يف غيابها‪ .‬تل َّقت �أمي املو�ضوع بتوج�س حتى �أنها �ص ّرحت ب�شكل �أو ب�آخر‬ ‫عن خوفها من تعلق �أحمد بها و�أن ميت ّد تعاطفه معها �إلى حدِّ الزواج‬ ‫منها‪ .‬لكنه كان دوم ًا ي�ضحك وهو يقول‪� :‬إنَّ خيالك يا �أمي خ�صب ثم‬ ‫ي�شري مبرار ٍة �إلى �شلله وعجزه وين�صرف حزين ًا‪.‬‬ ‫‪110‬‬


‫الف�صل اخلام�س‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫م�ضى الآن عام على زواجنا �أنا وعائ�شة‪� .‬أ ّما عائ�شة فقد‬ ‫ا�ستق ّرت مع زوجها يف حلب حتى تنهي درا�ستها اجلامعية‪ ..‬و�أ ّما �أنا‬ ‫فقد �سافرت مع حامد �إلى �أمريكا ليتابع فيها درا�ساته العليا‪� ..‬شعرت‬ ‫يف الأ�سبوع الأول الذي ع�شته يف �أمريكا ب�سعادة بالغة‪..‬بدء ًا من ر�ؤيتي‬ ‫متثال احلرية ونحن يف الطائرة وانتها ًء بتجوالنا يف والية نيويورك‬ ‫الكبرية‪ ..‬لكن بعد ذلك بد�أ الع ّد التنازيل الختفاء �سعادتي‪ ..‬وراحت‬ ‫تظهر حملها م�شاعر الوح�شة واحلنني‪ ..‬الوح�شة من كل �شيء �إال من‬ ‫حامد ‪� ..‬إذ بدت الوجوه جميعها هنالك على الرغم من ب�ساطتها يف‬ ‫أح�سه يف وجوه بني قومي‪ ..‬وما‬ ‫�أحيان كثرية تفتقد �إلى �شيء ما كنت � ّ‬ ‫كنت لأراه �إال يف وجه زوجي الغايل الذي �سعى جهده لكي يخفف عني‬ ‫ويب ّدد ما �سكنني من روح الوح�شة والك�آبة‪� ..‬أ�ضف �أن احلنني لبلدي‬ ‫و�أهلي‪ ..‬لأمي ورفيقاتي‪ ..‬ملرهف و�أحمد‪ ..‬كان ميزّق روحي �إرب ًا �إرب ًا‪..‬‬ ‫مل �أكن �أت�صور �أنني حمب ٌة جد ًا للأ�شياء والأ�شخا�ص الذين عا�شرتهم‬ ‫يف طفولتي �إ ّال الآن‪ ..‬وكم رجوت حامد ًا �أن يعيدين لبالدي ويبقى هو‬ ‫هنا يدر�س املاج�ستري‪ ..‬لكنه رف�ض‪ ..‬قال‪� :‬إنه ي�شعر بامل�شاعر نف�سها‪،‬‬ ‫لكنه ي�ضغط على نف�سه‪ ..‬كما �أ ّنه يحتاجني كثري ًا يف جمتمع فيه ك ّل فتاة‬ ‫تقول له‪ :‬هيت لك‪.‬‬ ‫أ�ساوي الذي �أعي�شه الآن‪ ..‬و�أنا ال �أعلم عن �أحوال‬ ‫�إنه لو�ضع م� ٌّ‬ ‫�أهلي �شيئ ًا �إال الذي ي�صلني من ر�سائل �أحمد‪ .‬فهنا ال جارات �أ�ست�أن�س‬ ‫بهنّ وال �سوق �أرتاده وحدي‪� ..‬أتخ ّوف هنا من الل�صو�ص والع�صابات‪..‬‬ ‫ومن املغت�صبني جن�سي ًا‪� ..‬أم ٌر ال يطاق بالفعل‪ ..‬ولهذا فقد �آثرت منذ‬ ‫علي بذلك �أت�أمل ُجزء ًا من‬ ‫مدة وجيزة �أن �أت�س ّلى بكتابة مذ ّكراتي‪َّ ،‬‬ ‫‪112‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫حياتي قد و ّلى �إلى الأبد‪ ..‬ف�أكون من املتّعظات‪ ..‬املتجاوزات لأخطاء‬ ‫املا�ضي وهفواته‪ ،‬و�إين ال �أدري كنه �شعو ٍر داخلي عميق للغاية‪ُ ..‬ي�شعرين‬ ‫�أنني ال �أكتب مذكرات جزء من حياتي بل مذكرات حياتي كلها‪.‬‬ ‫( ال�ساعة اخلام�سة م�سا ًء ‪) ..‬‬ ‫انتهى املكتوب يف دفرت املذكرات‪� ،‬أغلقه برو ّية وو�ضعه جانب ًا‬ ‫ونظر يف ال�ساعة فكانت اخلام�سة �صباح ًا‪� .‬إذ ًا لقد رنّ جر�س املن ّبه‬ ‫عند ال�ساعة الثالثة ومل ينتبه له‪� ..‬إذ جعله العامل الذي ر�سمته زوجته‬ ‫يغو�ص �إلى البعيد‪ ..‬البعيد‪� ..‬أطف�أ الفانو�س‪� ،‬أزاح ال�ستائر وا�ستلقى‬ ‫على �سريره ي�ستذكر �أيامه اخلوايل معها‪ ،‬ثم نه�ض فج�أة وعاد بعد‬ ‫قليل وقد ك�ساه الو�ضوء �ألق ًا جديد ًا‪ ..‬م ّد �سجادة ال�صالة و�صلى الفجر‬ ‫بخ�شوع والدموع ت�س ُّح من عينيه ب�سكينة‪ ،‬بعدها ا�ستلقى جم َّدد ًا على‬ ‫�سريره وهو يراقب انبالج ال�صباح‪ ..‬ومع و�صول ر�سل ال�شم�س الأولى‪..‬‬ ‫�شعر ب�صدره وك�أن �ضلوعه قد �أ�ضحت ت َ​َ�س ُع بينها الكون كله‪ ..‬كانت‬ ‫دقائق ال�شروق‪ ..‬دقائق ت�سمح للمرء بالإ�صغاء لت ّدفق احلياة يف قلوب‬ ‫املوجودات‪ ..‬فرتتع�ش حليوية امل�شهد حتى �أنفا�س امل ّيتني وتخفق قلوبهم‬ ‫لربهة عابرة! ولعل هذا ما حدث مع ف� ٍؤاد متح ّرق كف�ؤاد حامد ‪ ..‬الذي‬ ‫نام بعد ال�شروق لي�ستيقظ بعد �أربع �ساعات وهو يتذكر موعده مع‬ ‫�أحمد‪ ..‬ويتمتم‪:‬‬ ‫‪ -‬لقد ت�أخرت‪ ..‬لقد ت�أخرت‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ويف بيت جده القدمي‪ ..‬جل�س حامد مع �أحمد‪ ..‬قال له الأخري‪:‬‬ ‫–ت�أ ّمل‪ ،‬يا لغرابة احلياة فها قد م�ضى ما يقرب من �سنتني على‬ ‫وفاة �صباح وك�أنّ ما حدث كان البارحة‪ ،‬لأنّ احلزن الذي �صاحبنا من‬ ‫ح�س الزمن لدينا‪ ..‬ف�أجابه زوجها‪:‬‬ ‫وقتها �ش ّوه ّ‬ ‫ه ّون عليك‪� .‬إنه قدر مكتوب‪� .‬أمل ت َر �إلى طريقة موتها‪ ..‬لقد‬‫كانت فوق املعقول‪ .‬كانت مق َّدرة حق ًا‪.‬‬ ‫درج بكر�سيه نحو بهو احلديقة وهناك توقف وقال‪:‬‬ ‫معك ح ٌق لقد كنتما يف الطريق من دم�شق �إلى حماة بعد العودة‬‫من �أمريكا‪..‬‬ ‫وفج�أ ًة �أوحت الأقدار الإلهية �إليها �أن تذهب �إلى املقعد الأول‬ ‫خلف ال�سائق لتحادث عجوز ًا كانت قد �ش ّبهتها بجارتكم �أم علي‪..‬‬ ‫لي�صل يف الوقت الذي و�صلت به ر�سول املوت فيذرنا جميع ًا وال ي�أخذ‬ ‫معه �إال هي‪.‬‬ ‫متتم �أخوها‪:‬‬ ‫احلمد هلل‪ ..‬ق ّدر اهلل وما �شاء فعل‪.‬‬‫ج ّر كر�سيه �إلى قلب احلديقة فتبعه حامد‪ ،‬وعندما و�صال �إلى‬ ‫و�سطها نظر �إلى �شجرة زيتون وقال‪ :‬لقد كانت موهوبة‪ ،‬ن�ضجت ثمارها‬ ‫يف عمر مبكر ف�أكد حامد‪:‬‬ ‫‪114‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�أجل‪ ..‬كانت واعية للكثري مما يزال يجهله �أبناء جيلها‪ ،‬بعدها‬‫اختارا موقع ًا ظلي ًال يف تلك احلديقة‪ ،‬وبقيا فيه حتى منت�صف النهار‬ ‫يتبادالن �أطراف احلديث‪ ،‬وعند الأ�صيل عادا للجلو�س مرة �أخرى يف‬ ‫بتعجب‪:‬‬ ‫املكان نف�سه حتت �شجرة الزيتون‪ .‬قال �أحمد وهو يبت�سم ّ‬ ‫علي من رعاية الطفلة‪.‬‬ ‫�أتعلم‪� ،‬إن والدتي تخ�شى ّ‬‫� ّأي طفلة؟ قطب جبينه ثم ب�سطه فج�أة وقال‪:‬‬‫لقد تذكرت‪� ..‬إنها ابنة اجلارة عبري‪� ..‬صمت قلي ًال‪ ..‬وتابع‪:‬‬‫ولكن ملاذا؟‬ ‫حب فتاة‬ ‫�إ ّنها تخاف �أن �أميل لعبري من باب ال�شفقة ف�أقع يف ّ‬‫متزوجة �سابق ًا ولديها طفلة‪ .‬ابت�سم ب�سخرية وتابع‪:‬‬ ‫وك�أنني �أنا الكامل ال ينق�صني �شيء‪ .‬ثم نظر بحرارة �إلى‬‫قدميه وقال بغ�صة‪:‬‬ ‫�إنني �أنا من يثري ال�شفقة‪ ..‬ثم من هي الفتاة التي �ستقبل بي‬‫مهما كان و�ضعها‪ ،‬وك�أنّ والدتي حتلم بتزويجي من �أجمل فتيات املدينة‬ ‫و�أكرثهنّ ُخلق ًا وعلم ًا؟‬ ‫كان حامد يجمع �أحجار ًا �صغرية متناثرة يف الرتاب ‪ ..‬ثم راح‬ ‫يرميها تباع ًا وهو يقول‪:‬‬ ‫ولكن ما ق�صة عبري هذه ‪ ..‬لقد وعدتني �أكرث من مرة �أن‬‫‪115‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫حتدثني عنها‪ ..‬فه ّال فعلت اليوم؟‬ ‫ح�سن ًا‪� .‬إ ّنها باخت�صار فتاة طلق �أبوها �أمها ب�سببها‪ ..‬لأنها‬‫جاءت للدنيا فتاة ولي�س فتى‪.‬‬ ‫وهكذا �سرقا من الزمن ن�صف �ساعة حكى له فيها ق�صتها‪ .‬ت�أمل‬ ‫حامد كثري ًا وق ّرر م�ساعدتها‪ ..‬قال‪:‬‬ ‫لي�س من قبيل امل�صادفة �أن جتتمع م�أ�ساة هذه الفتاة مع ما‬‫كنت �أنوي م�صارحتك به اليوم‪.‬‬ ‫كان اجل ُّو خريف ًا‪ ..‬الأوراق تت�ساقط حول �شجرة الزيتون ب�ألوانها‬ ‫املتنوعة متدرجة من ال�صفراء ال�شاحبة �إلى البنية الرتابية حتى‬ ‫احلمراء الربتقالية‪ .‬و�أع�شاب خ�ضراء �صغرية بلون الطحلب تنب�ش‬ ‫الرتاب وتخرج من قبورها‪ ..‬لت�ش ّكل غابة خ�ضراء لأرتال النمل العامل‬ ‫ليل نهار‪ .‬رفع حامد �إبريق ال�شاي و�صبه يف ك�أ�سني �صغريين‪ ،‬فراحت‬ ‫الأبخرة تت�صاعد لتتمزق يف ذروتها مع ن�سمات اخلريف الأولى‪ .‬تابع‬ ‫حامد‪:‬‬ ‫�س�أق ّدم م�ساعدة مالية لهذه الفتاة‪ ..‬فالأجدر بها �أن تلتفت‬‫لرتبية هذه الطفلة ورعايتها‪.‬‬ ‫ظ ّل �أحمد �صامت ًا ثم ت�ساءل‪:‬‬ ‫رمبا ال تقبلها؟‬‫‪116‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫هنا ي�أتي دورك يف �إقناعها‪ ،‬وتو�ضيح املوقف لها‪.‬‬‫�س�أحاول قدر امل�ستطاع‪..‬‬‫عندها ارت�شف حامد قلي ًال من ال�شاي ثم قال وهو يحت�ضن‬ ‫الك�أ�س بيده‪:‬‬ ‫�أنوي �إن�شاء جمعية خريية لرعاية الأ�سر الفقرية والأفراد‬‫املنكوبني �أمثال عبري‪ ..‬لأنني �أ�شعر بوجود م�ساكني كرث يف هذه املدينة‬ ‫ال تطالهم يد امل�ساعدة‪.‬‬ ‫ابتهج �أحمد كثري ًا‪ ..‬وقال‪:‬‬ ‫(يا عيني عليك )‪� .‬إنها فكرة رائعة‪ ..‬ال ريب �أنها �ستخدم‬‫فقراء كثريين‪ ،‬وتن�شل بع�ضهم من وديان الي�أ�س والك�آبة‪.‬‬ ‫�ضحك حامد وقال بحزم‪:‬‬ ‫توقعت منك هذا‪..‬‬‫فر ّد عليه �أحمد‪ :‬و�أنا فوجئت اليوم مببادرتك هذه‪.‬‬ ‫ملاذا؟‬‫لأننا اعتدنا ومنذ زمن طويل �أن جته�ض الكثري من الأفكار‬‫اجليدة املعافاة قبل �أن تولد رغم قابليتها الفورية للتطبيق وفر�صة جني‬ ‫‪117‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ثمارها خالل ب�ضع �سنوات‪ .‬و�ضع ك�أ�سه بني الأوراق املت�ساقطة‪ ..‬فدنت‬ ‫ب�ضع منالت منه و�صعدت عليه تبغي احلواف املُح ّالة مبا تبقى من �آثار‬ ‫ال�شاي‪ ..‬ثم �أكمل‪:‬‬ ‫خذ على �سبيل املثال ال احل�صر‪ ..‬الأموال التي تر�صد ال لبناء‬‫امل�ساجد بل لتزيينها وزخرفتها‪ ..‬ف�إن قلت‪ :‬هذا ال يجوز‪ .‬حدجوك‬ ‫بنظراتهم وقالوا‪:‬‬ ‫وهل �أ�صحاب الديانات الأخرى �أف�ضل منا؟ و�إن قلت‪� :‬أنفقوها‬‫املتف�سخة‬ ‫على الفقراء وتزويج ال�شباب وطالب العلم‪� ،‬أراحوا �ضمائرهم ِّ‬ ‫بقولهم‪:‬‬ ‫توجد جمعيات تقوم بذلك‪.‬‬‫وك�أنّ جمتمعنا قد انعدم من الفقراء وامل�ساكني والعاجزين عن‬ ‫الزواج ف�ض ًال عن �إيجاد م�أوىً ب�سيط يلوذون به من ال�شارع والأجرة‬ ‫الباهظة‪� .‬صمت بعدها وقد �أطرق يف �أر�ض احلديقة‪ ،‬وك�أنه يراقب منلة‬ ‫حتمل ق�شة وت�سرع بها �إلى وكرها‪ ،.‬فج�أة قاطعه �صوت حامد‪:‬‬ ‫يا �أ�سفي على جمتمع ميلك كل �شيء �إال العقل واحلكمة‪ ،‬رغم‬‫�أنه ي ّدعيها ليل نهار‪.‬‬ ‫فع ّقب �أحمد على الفور‪:‬‬ ‫�إنها عقدة النق�ص ففاقد ال�شيء ال يعطيه لكنه ي�ستطيع �أن‬‫‪118‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫يرثثر ويتح ّدث عنه كيفما ي�شاء‪.‬‬ ‫***‬ ‫تتالت الأيام م�سرعة‪� ..‬إلى �أن جاء يوم كان فيه بيت ال�س ّيد جميل‬ ‫ال�سعيد ي�شهد تغريات كثرية‪ ،‬فبينما �أحمد كعادته يرعى الطفلة يف‬ ‫غياب �أمها و�إذ بعائ�شة تدخل فج�أة والدموع متلأ وجهها‪� ..‬صرخ �أحمد‪:‬‬ ‫عائ�شة ما بك‪ ..‬ما الذي حدث؟‬‫فر ّدت عليه بغ�صة‪:‬‬ ‫�س�أعي�ش معكم من جديد‪..‬‬‫قت؟‬ ‫هل ُط ّل ِ‬‫ال‪ ..‬ولكن �أنوي ذلك‪ .‬حملت حقائبها و�سط ذهول �أحمد ودخلت‬‫غرفتها‪ .‬كانت الغرفة غري نظيفة ي�سكنها العنكبوت يف زوايا ال�سقف‪.‬‬ ‫بعد قليل خرجت فوجدت �أمها يف ال�صالون ‪ ..‬فهوت عليها حتت�ضنها‬ ‫وهي تبكي‪� ،‬أبعدتها الأم عن كتفها و�س�ألتها‪:‬‬ ‫ما الذي جاء بك �إلينا‪ ..‬هل تخا�صمتما؟‬‫فهزت بر�أ�سها امللتوي العنق دون �أن تنطق بحرف‪ ..‬مل حتاول‬ ‫الأم اال�ستمرار معها يف الأ�سئلة‪� ..‬إذ رثت حلالها‪ ،‬وكذلك فعل �أحمد‪.‬‬ ‫بعد قليل جاءت عبري لأخذ طفلتها ولكنها عندما �شاهدت عائ�شة ارمتت‬ ‫‪119‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫واحت�ضنتها بحرارة ك�أنها حت�ضن روح �صباح العابقة منها‪ ..‬قالت‪:‬‬ ‫نويت زيارتنا؟‬ ‫�أخري ًا ِ‬‫وب�شيء من االرتباك �أجابتها‪:‬‬ ‫�أجل‪� ..‬أجل‪ ،‬لقد �شعرت عبري �أنّ يف الأمر �س ّر ًا‪ ،‬فدنت من‬‫�أحمد وانحنت لتناول الطفلة‪ ..‬ارمتت ال�صغرية على �صدرها فرحة‬ ‫م�ستب�شرة‪ ..‬هم�س يف �أذنها �أحمد‪� :‬أريدك لدقائق‪ ،‬نظرت عبري يف‬ ‫عائ�شة وقالت بحرج‪:‬‬ ‫ح�سن ًا قل ما لديك‪.‬‬‫‪ ..‬حدج �أحمد �أخته فغادرت على الفور ثم التفت لعبري قائ ًال‪:‬‬ ‫ما ر�أيك �أن ترتكي عملك هذا؟‬‫وهل لديك البديل؟‬‫بكل ت�أكيد‪..‬‬‫وما هو‪..‬‬‫املكوث يف البيت‪..‬‬‫‪� ..‬أجل�ست ال�صغرية بجوارها وقالت بنربة م�ستنكرة‪:‬‬ ‫‪120‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ومن �سيطعمنا �أنا وابنتي؟‬‫�أنا‪.‬‬‫أف�صح؟‬ ‫‪� ..‬أطرقت قلي ًال‪ ..‬وملّا ا�ستفاقت من الذهول قالت‪ْ � :‬‬ ‫‪ ..‬ابت�سم قائ ًال‪:‬‬ ‫يف احلقيقة يل �صديق يدعى حامد‪ ..‬فقاطعته‪:‬‬‫زوج املرحومة �صباح؟‬‫�أجل‪ ..‬هو ذاك‪..‬‬‫وما �ش�أنه؟‬‫نظر �إليها قائ ًال‪ :‬دعيني �أتابع �أو ًال‪..‬‬ ‫ح�سن ًا‪� ..‬أكمل‪..‬‬‫�أخذ َن َف�س ًا وقال‪:‬‬ ‫تعلمني �أن لديه ثروة كبرية و�أنه‪ ..‬قاطعته جم ّدد ًا‪:‬‬‫هل يريد �أن يتزوجني �شفقة؟ وبحزم �أكملت‪� :‬إين �أرف�ض ذلك‪.‬‬‫‪ ..‬ف�ضحك �أحمد ب�صوت مرتفع وال�سعادة ت�ش ُّع من عينيه وقال‪:‬‬ ‫‪121‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫نيتك �سيئة‪ ،‬ما ق�صدنا ذلك‪.‬‬‫�إذ ًا ماذا؟‬‫‪ ..‬ف�أجابها معاتب ًا‪ ،‬م�ستنكر ًا‪:‬‬ ‫ما تدعني يل فر�صة للكالم �إال وتقاطعينني‪ ،‬رويدك ما عهدتك‬‫عجول ًة مثلما �أراك اليوم؟‬ ‫‪ ..‬هنا دخلت عائ�شة بالقهوة ف�أ�شار لها �أحمد �أن تبقى خارج ًا‬ ‫للحظات فقط‪ ..‬بعدها تابع‪:‬‬ ‫يريد حامد م�ساعدتك مالي ًا لتتمكني من تربية الطفلة على‬‫�أكمل وجه‪ ..‬وال يريد منك مقاب ًال‪� ،‬إنه يب ِغ وجه اهلل وحده‪.‬‬ ‫لكنني ال �أريد م�ساعدة من �أحد‪..‬‬‫ال تكوين عنيدة‪� ..‬إنه �سي� ّؤ�س�س جمعية خريية‪ ..‬وال مانع �أن‬‫تكوين ممن �سي�ساعدهنّ �إن كان ذلك �سي�سمح لك برتبية طفلتك كما‬ ‫ينبغي‪.‬‬ ‫حملت الطفلة وو�ضعتها يف ح�ضنها‪ ،‬وهنا دخلت عائ�شة من‬ ‫جديد‪ ..‬خاللها كانت عبري تقول لأحمد‪:‬‬ ‫�أخ�شى �أنك قد مللت منها؟‬‫‪122‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ال‪� ..‬أق�سم لك‪ ..‬لكن �أريد م�صلحتك وفقط‪..‬‬‫‪� ..‬أطرقت وهي تقول‪:‬‬ ‫ح�سن ًا‪� ..‬س�أفكر بالأمر‪.‬‬‫‪ ..‬نظرت عائ�شة يف �أحمد م�ستف�سرة‪� ..‬إال �أنها �صمتت �إلى �أن‬ ‫غادرت عبري وطفلتها‪ ..‬عندها �س�ألته باهتمام‪:‬‬ ‫مباذا �ستفكر عبري؟‬‫وما ر�أيك؟‬‫�أنت �أدرى‪ ..‬ف�أنت من جال�سها حوايل ن�صف �ساعة ال �أنا‪.‬‬‫�إذا �أنا الأدرى فما �ش�أنك؟‬‫غ�ضبت عائ�شة وقالت بنربة حا ّدة‪:‬‬ ‫ال تهز�أ بي‪ ..‬فل�ست عاجزة عن معرفة ما يحدث هنا‪..‬‬‫وماذا يحدث هنا يا فهيمة؟‬‫�أنت تعلم جيد ًا‪..‬‬‫عندها بد�أ الغ�ضب ي�ستب ّد به ف�صرخ‪:‬‬ ‫�أف�صحي ع ّما بداخلك‪ ..‬فقد �ضقت ذرع ًا من تلميحاتك‬‫‪123‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ال�سخيفة‪.‬‬ ‫املكتوب وا�ضح من عنوانه‪ ..‬وال داعي للإف�صاح‪.‬‬‫انتفخت �أوداجه‪ ..‬و�صرخ‪:‬‬ ‫ه ّيا‪ ..‬اغربي عن وجهي‪ ..‬هيا‪..‬‬‫وقتها هرعت الأم م�سرعة �إلى ال�صالون حيث كانا يجل�سان‪..‬‬ ‫�س�ألتهما بنربة منخف�ضة‪:‬‬ ‫ما بكما‪ ..‬هداكما اهلل؟‬‫�أحمد‪:‬‬

‫فلم يجبها �أحد منهما‪ ..‬كررت ال�س�ؤال مرة �أخرى‪ ..‬ف�أجابها‬ ‫�إنها مثلك‪ ..‬تظنّ �أنني �أنوي الزواج من عبري‪..‬‬‫‪-‬لقد قلتها مرة واحدة فحفظتها عني ك�أنها كال ٌم ُمنـزّل‪..‬‬

‫�أنا مل �أتذكرها عمد ًا لكن الكيل طفح منك �أنت وابنتك‪ ..‬ثم‬‫تابع‪ :‬رحم اهلل �صباح‪ ..‬كانت تفهمني من دون �أن �أنطق بحرف واحد‪.‬‬ ‫انفجرت الأم بالبكاء وهي ت�صرخ‪:‬‬ ‫ملاذا تكلمني هكذا‪� ..‬أن�سيت من �أنا‪..‬‬‫‪124‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫فدنت منها عائ�شة واحت�ضنتها خمففة عنها فانفجر �أحمد‬ ‫�صارخ ًا‪:‬‬ ‫تظنان �أنّ ن�ساء املدينة ترغب بالزواج مني وك�أنكما تن�سيان‬‫�أنني عاجز‪ ..‬عاجز‪ ..‬عاجز‪..‬‬ ‫بعدها خرج وقد �أغلق الباب بع�صبية مفرطة‪ ..‬وعلى الدرج‬ ‫التقى بحامد ‪ ..‬فخاطبه بحزم قائ ًال‪:‬‬ ‫خذين بعيد ًا عن هنا �إلى �أي مكان ‪ ..‬حتى ولو كانت اجلحيم‪.‬‬‫***‬ ‫ات�صل زوج عائ�شة‪ ،‬و�أخرب �أحمد �أنه لن ي�أتي ويعيدها لبيتها‬ ‫مهما حدث‪..‬ف�إن �شاءت العودة فيا مرحب ًا و�إن �شاءت البقاء عندكم‬ ‫فالباب يتّ�سع جلمل‪ .‬ا�ستاء �أحمد من طريقة كالمه‪ ..‬و�ص ّرح لأخته‬ ‫بهذا ف�أق ّرته و�شرحت له �سبب اللجوء �إليهم‪ ..‬قالت‪ :‬كنت �أظنه رج ًال‬ ‫كمحام‪ ،‬لكنني اكت�شفت �شيئ ًا �آخر‪ ،‬اكت�شفت‬ ‫م�ؤمن ًا م�ستقيم ًا يف عمله‬ ‫ٍ‬ ‫حيل غري‬ ‫�أنه نافر من الدين واملتدينني‪ ..‬منحرف يف عمله‪ ..‬ويعمد �إلى ٍ‬ ‫م�شروعة‪� ..‬إنني �أكرهه‪ ..‬وال �أريده‪..‬‬ ‫درج بكر�سيه �إلى النافذة وفتحها ليف�سح للنور طريق ًا �إلى‬ ‫الغرفة‪ ..‬ثم قال‪:‬‬ ‫على كل حال‪ ..‬ال تخ�شي �شيئ ًا‪� ،‬س�أكون �إلى جانبك‪ ..‬بل �سنكون‬‫‪125‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫جميع ًا �إلى جانبك‪ .‬ابت�سمت فرح ًة ثم �أ�سهبت يف ذكر ما اعرت�ضها من‬ ‫عقبات يف حياتها معه حتى قالت‪ :‬كان ال يحرم نف�سه من النظر ملفاتن‬ ‫الن�ساء‪ ،‬وكلما �صارحته برف�ضي لت�صرفه هذا‪ ..‬يجيبني بلكنة �ساخرة‪:‬‬ ‫لي�س الذنب ذنبي‪� ..‬إنه ذنب بنات جن�سك اللواتي ال يخفني‬‫زينتهن حتى � ّ‬ ‫أغ�ض ب�صري‪ّ .‬ثم انظري �إلى نف�سك‪ ..‬رائحتك رائحة‬ ‫الطبخ‪ ،‬وهي�أتك ال تبعث يف النف�س ال�سرور وتريدين مني �أال �أنظر‪..‬‬ ‫فكنت �أجيبه‪:‬‬ ‫وما ذنبي �أنا‪ ..‬هل تريد مني �أن �أكون كن�ساء ال�شارع اللواتي‬‫ت�شاهدهن �صباح م�ساء؟‬ ‫‪ ..‬تلت عائ�شة لأحمد بع�ض الذي كان يدور بينهما �إلى �أن قرع‬ ‫الباب‪ ..‬كان القادم حامد ًا‬ ‫‪ ..‬قال وال�سعادة تخلع على وجهه �سكينة جليلة‪:‬‬ ‫لقد �أ�س�ست �أخري ًا اجلمعية و�سيكون رئي�سها ع ّمك م�صطفى‬‫فهو �صحايف يعمل يف مكتب احلوادث االجتماعية وال ريب �أنه �سريفدنا‬ ‫باملعلومات الغزيرة عن واقع املجتمع احلقيقي‪.‬‬ ‫�أ�صبت‪ ..‬ر ّدد �أحمد‪ ..‬ثم بعدها تناول القهوة من �أخته وق ّدم‬‫الفنجان حلامد وتابع‪:‬‬ ‫و�أين �سيكون مق ّرها؟‬‫‪126‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫نحن ال نريد ت�شكيل جمعية ر�سمية بقدر ما نريد ت�شكيل جمعية‬‫خا�صة ت�ساعد الفقراء ومت ّد يد العون لهم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�أين؟ ك ّرر �أحمد‪..‬‬‫يف بيتي‪ ..‬و�س�أعلن عنها وعن مها ّمها يف اجلريدة‪ ..‬و�أترك‬‫للقراء عنوان ًا يبعثون من خالله بر�سائلهم �إلينا‪..‬‬ ‫ح�سن ًا على م�شيئة اهلل‪ .‬فلنبد�أ العمل‪..‬‬‫***‬ ‫مع بداية ت�شرين الثاين‪ ،‬ومع قب�ض املوت لروح احلياة املاثلة يف‬ ‫الطبيعة �إ ّال من �شجر الكينا و �شجر ال�سرو بد�أت رحلة الأ�صدقاء يف‬ ‫البحث عن البائ�سني واملغمورين‪ ،‬عن ك ّل م�سكني �أرهقه املجتمع‪ ..‬وكان‬ ‫الو�سطاء يتزايدون يوم ًا بعد يوم و�أولهم �أم �أحمد‪ ..‬فقد د ّلت ولدها‬ ‫و�صهرها على فقراء من بني تالميذها‪ .‬ومن �أولئك تلميذ فقري قد‬ ‫�أغمي عليه ذات يوم‪ ..‬وعندما ا�ستفاق ‪� ..‬ض ّمته �أم �أحمد كما روت �إلى‬ ‫�صدرها و�س�ألته‪:‬‬ ‫ني؟‬ ‫هل �أنت مري�ض يا ُب ّ‬‫ف�أجابها بب� ٍؤ�س‪:‬‬ ‫ال �إنني جائع‪ .‬جائع جد ًا يا مع ّلمتي‪ .‬قالت‪ :‬فهرعت �إلى غرفة‬‫املع ّلمات و�أح�ضرت له بع�ض الطعام‪ ..‬وعندما �شبع نظر �إ ّ‬ ‫يل ومتتم‬ ‫‪127‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫خج ًال‪ :‬هال �أطعمت �أختي يف الغد؟‬ ‫�أختك؟‬‫�أجل‪� ..‬إ ّنها معي يف ال�صف املجاور ل�صفنا‪.‬‬‫ح�سن ًا‪ ،‬ح�سن ًا‪ . .‬لك هذا‪ .‬قالت‪ :‬فابت�سم لوعدي ابت�سامة‬‫را�ض ّية مطمئنة‪ ..‬ف�س�ألته‪:‬‬ ‫ولكن هل يل �أن �أعرف ملاذا مل ت�أكل يف البيت‪ ..‬وملاذا �أطعم‬‫�أختك يف الغد بد ًال عنك؟‬ ‫وب�صوت يكاد يجه�ش بالبكاء قال‪:‬‬ ‫يا �آن�سة‪ ،‬نحن ال نفطر كل يوم‪ ،‬فيوم �أتناول الفطور �أنا ويوم‬‫�أختي‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫وما فطوركما؟‬‫ن�أكل اخلبز املغمو�س باملاء والزعرت‪.‬‬‫املاء والزعرت‪ .‬ر ّددتها يف داخلي ولكي ال يالحظ ده�شتي �ضبطت‬ ‫م�شاعري و�أبديت له �أن الأمر عادي و�أنّ كثري ًا من النا�س حالهم هكذا‪.‬‬ ‫هنا‪ ،‬قال �أحمد بحما�س‪ :‬هال �أخربتنا عن ا�سمه‪ .‬ع ّلنا نق ّدم له‬ ‫يد امل�ساعدة؟ ففعلت الأم ما ُط ِلب منها‪ .‬وبعد �شهور �أ�ضحت القائمة‬ ‫‪128‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫مليئة بالأ�سماء والأ�سر‪..‬‬ ‫وحينما جل�ست الأ�سرة مع بع�ضها م�ساء‪ ..‬قالت عائ�شة‪:‬‬ ‫ هل ميكنني �أن �أرى ما لديك من �أ�سماء يف القائمة؟‬‫ف�أجابها �أحمد‪� :‬إنهم كرث‪� ،‬س�أحدثك عن بع�ضهم‪ ..‬ثم تابع‪..‬‬ ‫ا�سمعي مث ًال عن �أحدهم‪ ..‬ثم �أخذ ّ‬ ‫�صححت‬ ‫يف�ض القائمة‪ ..‬خاللها ّ‬ ‫عائ�شة جل�ستها‪ ..‬وتك ّورت على نف�سها بحيث تالم�س ذقنها ركبتيها ‪..‬‬ ‫يف حني ظلت الأم �صامتة تغزل معطف ًا ملرهف‪ .‬قال‪ :‬مل يك ّلفه �أهله يوم ًا‬ ‫وال حتى �شراء ربطة خبز‪ ..‬كان والده يقوم بكل �شيء‪ ..‬وفج�أة وجد‬ ‫نف�سه م�س�ؤو ًال عن ك ّل �شيء‪ ،‬ال معيل له �إال اهلل‪ .‬فقاطعته عائ�شة‪ :‬كيف‬ ‫حدث ذلك‪.‬‬ ‫لقد ّمت اتهام والده بق�ضية ر�شوة‪ ..‬و�أ�سدل ال�ستار على املو�ضوع‬‫منذ �سنوات عدة خلت‪ ..‬واليوم بعد �أن تقاعد والده وا�ستق ّر بني �أبنائه‪..‬‬ ‫و�ص ّرح �أنه �سي�شرع بكتابة مذكراته ومالزمة البيت‪ُ ..‬فتح ّ‬ ‫ملف الق�ضية‬ ‫على حني غرة‪ ..‬وق ّرروا متابعة املو�ضوع واحلكم على املتّهمني‪ ..‬ف�ألقوا‬ ‫وزجوا به يف ال�سجن‪ ..‬قاطعته عائ�شة ثانية‪:‬‬ ‫القب�ض على والده ّ‬ ‫وماذا ُح ِكم عليه؟‬‫مل ي�صدر احلكم بعد‪ ..‬وقد م�ضى على �إيقافه �سنة كاملة‪..‬‬‫خاللها كاد ابنه اجلامعي ُي َجنّ ‪� ،‬إذ وجد نف�سه يف مواجهة مباغتة مع‬ ‫املجتمع‪ ..‬فكم من �أبواب �أغلقت يف وجهه‪ ..‬وكم من دروب �س ّدت‪ ،‬وكم‬ ‫‪129‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫من �أ�شخا�ص كانوا يف املا�ضي �أ�صدقاء وهم اليوم �أعداء‪ ..‬حتى �أعمامه‬ ‫رف�ضوا م�ساعدته‪ .‬قالوا له‪:‬‬ ‫عمل يطعمك و�أ�سرتَك‪.‬‬ ‫اترك اجلامعة واعمل � ّأي ٍ‬‫ولكن‪..‬‬‫ولكن ماذا؟ �أال تفهم؟ نحن ال نقدر على �إطعام �أبنائنا حتى‬‫نطعم غريهم‪.‬‬ ‫فخرج من عندهم يائ�س ًا‪ ،‬واعتزل �أ�صدقاءه و�صار كتوم ًا جا ّد ًا‬ ‫و�شر�س ًا حا ّد ًا‪ ..‬بات ال يفكر �إال يف اللرية كيف يجنيها ومن �أين؟ وكم‬ ‫كان حيا�ؤه ورهافته ي�سببان له احلرج لدرج ٍة �أنه ما كان يطلب م�ساعدة‬ ‫من �أحد �إن ظنّ �أنه لن يق ّدمها له‪.‬‬ ‫يبدو �أن الأمر �ش ّد انتباه الأم ف�أ�سقطت املعطف من يديها ومل‬ ‫ت�شعر‪ ..‬ثم انتبهت‪ ..‬فا�ستعادته و�س�ألت ولدها‪:‬‬ ‫وكيف عرفت بوجود هذا ال�شخ�ص؟‬‫�إنه �صديق حامد‪ ..‬وقد حكى له ق�صته بعد �أن علم مب�ساعدته‬‫للبائ�سني واملحتاجني‪ ..‬فتمتمت ب�سعادة‪:‬‬ ‫جزاكم اهلل خري ًا يا �أبنائي‪ ..‬ال �شك �أن اهلل يباهي بكم املالئكة‪.‬‬‫�أعادت عائ�شة ظهرها للوراء‪ ،‬وقالت برتقب‪:‬‬ ‫‪130‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫هل لديك املزيد من مثل هذه الق�ص�ص امل�ؤثرة؟‬‫أعجبك‪ .‬ع ّلق �أحمد مبت�سم ًا‪ ..‬فر ّدت عليه‪:‬‬ ‫يبدو �أن الأمر � ِ‬‫ال‪ ..‬لي�س الأمر �أمر ا�ستمتاع ب�أوجاع الآخرين بقدر ما هو‬‫موا�ساة لنف�سي لتعلم �أنها لي�ست الوحيدة البائ�سة‪ ،‬فهناك الكثري من‬ ‫البائ�سني على هذه الأر�ض‪.‬‬ ‫اختفت على الفور ابت�سامته يف ظل التغريات ال�سريعة الطارئة‬ ‫على وجهه‪� ..‬أطرق وقال بغ�صة‪:‬‬ ‫�أجل‪ ..‬من ر�أى م�صيبة غريه هانت عليه م�صيبته‪� ..‬أخذ ُيق ِّلب‬‫�أوراق القائمة‪ ..‬حتى ا�ستوقفه �أحد الأ�سماء فتمتم‪:‬‬ ‫نحن الآن �أمام م�أ�ساة من نوع �آخر‪ ،‬اجنذبت �أنظارهما وترقبتا‬‫كلماته قال‪:‬‬ ‫�إنها م�أ�ساة �شاب مبدع‪ ،‬ترك اجلامعة لأنه مل ي�ستطع ت�ضميد‬‫جرحه‪.‬‬ ‫� ّأي جرح؟ �س�ألت عائ�شة‪.‬‬‫كان من املتفوقني‪ ..‬دوم ًا الأول على رفاقه‪ ،‬وعندما و�صل �إلى‬‫بجد وح�صل على عالمات طيبة‪ .‬لكن‪:‬‬ ‫مرحلة ال�شهادة الثانوية در�س ٍّ‬ ‫هنا امل�أ�ساة‪.‬‬ ‫‪131‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫هنا! علقت �أمه با�ستغراب‪.‬‬‫وب�صوته الهادئ املن�ساب قال‪:‬‬ ‫�أجل‪ ..‬هنا امل�أ�ساة‪� ..‬إذ نق�صه عن املجموع الذي ي�ؤهله لدرا�سة‬‫الطب درجة واحدة فقط‪. .‬هذه الدرجة هي التي كانت م�صدر ب�ؤ�سه‬ ‫و�شقائه‪..‬‬ ‫وملاذا مل يدر�س � ّأي تخ�ص�ص �آخر؟ ع ّقبت الأم‪� ،‬أو يعيد درا�سة‬‫الثانوية العامة؟ قالت عائ�شة‪..‬‬ ‫لأنه يحب درا�سة الطب ووالده طبيب يكاد يغلق العيادة ب�سبب‬‫كربه يف ال�سن‪ ،‬وقد كان ُحل ُمه �أن يرثها ابنه من بعده‪� ،‬أ�ضيفي �أنه بات‬ ‫مي ُّل الدرا�سة ويخ�شى �أن تتجدد معه امل�أ�ساة لو �أعاد الثانوية العامة‪..‬‬ ‫بعدها ابت�سم مبرارة وقال‪ :‬والأنكى من كل هذا تلك الطرفة التي‬ ‫حدثت معه‪.‬‬ ‫� ّأي طرفة؟ ت�ساءلت عائ�شة‪..‬‬‫حينما كان يف امتحان اللغة العربية يف اليوم الأخري ‪ ..‬كان �أحد‬‫املراقبني يريد انق�ضاء الوقت ب�أ�سرع ما ميكن‪ ..‬فكان يحثُّ الطالب‬ ‫على اخلروج‪ ..‬وقبل ربع �ساعة مل يبق �سواه‪ ..‬كان يحاول تذكر مو�ضوع‬ ‫التعبري‪ ..‬حينما �أنطق القدر ل�سان املراقب بكلمة عجيبة فقال له‪:‬‬ ‫أنت‪ ..‬هيا خل�صني‪ .‬هل �سيتوقف م�صريك على‬ ‫الك ّل خرج �إال � َ‬‫‪132‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫درج ٍة واحدة زياد ًة �أو نق�صان ًا‪� ..‬أم �أنك �ستدخل بها كلية الطب و�أنا ال‬ ‫�أعلم؟‬ ‫لطمت عائ�شة وجهها وقالت بده�شة‪:‬‬ ‫يا �إلهي �أجا ٌّد فيما تقول؟‬‫نعم‪ ..‬نعم‪ ..‬ومتتمت الأم‪ :‬يا �سبحان اهلل‪ ..‬هلل يف خلقه �ش�ؤون‪..‬‬‫ثم �أردفت قائلة‪:‬‬ ‫و�إالم �آل حاله اليوم؟‬‫�إنه اليوم من �أتع�س النا�س‪ ..‬فوالده قد �أغلق العيادة لكربه يف‬‫ال�سن‪ ..‬وهو بعد �أربع �سنوات ال يزال حائر ًا ومت�شرد ًا‪ ..‬ينظر للم�ستقبل‬ ‫ب�سوداو ّية‪.‬‬ ‫وماذا �ستفعلون له؟ �س�ألت �أخته‪..‬‬‫�أظن �أننا �سوف ن�سعى لإقناعه كي يدر�س من جديد‪ ..‬وال ريب‬‫ح�صل جمموع الطب‪.‬‬ ‫�أنه �إن �أخذ الأمور بجد ّية �س ُي ِّ‬ ‫بعدها �صار يقلب الأوراق على عجالة حتى ختم عر�ضه بق�صة‬ ‫م�ؤملة المر�أة عجوز‪� ..‬صادفها حامد وهي تق�صد حافة الر�صيف‪ .‬قال‬ ‫يل‪:‬‬ ‫عندئذ‬ ‫�س�ألتها �أتودين امل�ساعدة يا ج ّدة؟ فرحبت مب�ساعدتي‪..‬‬‫ٍ‬ ‫‪133‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ني‪ ..‬فال �أحد عندي؟‬ ‫�أو�صلتها حتى بيتها‪ ،‬قالت‪ :‬ادخل يا ُب َّ‬ ‫قلت‪� :‬أين �أبنا�ؤك يا ج ّدة؟‬ ‫ُ‬ ‫قالت‪ :‬كلهم تركوين‪� ..‬إنهم يقرفون مني‪ ..‬ف�أنا عجوز طاعنة يف‬ ‫فت عنها قدر ا�ستطاعتي‪،‬‬ ‫ال�سن‪ ..‬ثم راحت تن�شج وتبكي مبرارة‪ .‬خ َّف ُ‬ ‫تابعت‪:‬‬ ‫ثم ْ‬ ‫قال �أحدهم خذوها لبيت العجزة وقال �آخر‪ :‬بل دعوها متوت‬‫علي باملوت‪.‬‬ ‫هنا ونرتاح منها‪� ..‬أما ابنتي فكانت تدعو ّ‬ ‫‪ ..‬رمت �أمه ال�صوف من يدها بع�صبية وقالت بح ّدة‪:‬‬ ‫يا لل�سماء‪ .‬ال ريب �أنك تبالغ‪..‬‬‫�أق�سم لك �أنها احلقيقة‪.‬‬‫وهل �ست�ساعدونها؟‬‫بالت�أكيد‪ ..‬فهي ال حتتاج للمال بقدر ما حتتاج ملن ي�أتي لها‬‫بالطعام والدواء ويتفقدها كل حني‪..‬‬ ‫هنا راحت الأم حتوقل وقد و�ضعت مو�ضع �سرتها كف ًا فوق كف‬ ‫وقالت‪:‬‬ ‫ذ َّكرتني بامل�سكينة �أم علي‪ ،‬ف�أوالدها ال يزورونها رغم مر�ضها‬‫‪134‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ال�شديد ‪..‬ولوال مالها ورعاية اجلريان لها لكانت م�أ�ساتها ال تق ّل مرار ًة‬ ‫عن م�أ�ساة هذه العجوز‪.‬‬ ‫عند هذا احل ّد توقف �أحمد ثم �شرع يجر كر�سيه �إلى غرفته وهو‬ ‫يتمتم مقولة ل�شاعر �إنكليزي « �أال يحقّ يل �أن �أبكي ملا فعله الإن�سان‬ ‫بالإن�سان؟»‪.‬‬ ‫***‬ ‫كانت �أ�صوات الأطفال مفعمة باحلياة و�صخبها‪ ،‬وهم يهبطون‬ ‫�أدراج البنايات وينت�شرون يف الأزقة وال�شوارع‪ ،‬بع�ضهم ي�سري �إلى‬ ‫مدر�سته منفرد ًا و �آخرون ي�سريون على هيئة زمر وجماعات‪ .‬نظرت‬ ‫الأم من النافذة‪ ،‬وهي تقول‪� :‬سقى اهلل �أيام كنت معلمة‪ .‬كنت �أ�شعر‬ ‫بن�شوة و�أنا �أرى التالميذ وهم يتجمعون حويل يف زقاق احلي ويقولون‪:‬‬ ‫�صباح اخلري يا �آن�سة‪ .‬فكنت �أجيبهم فرح ًة‪� :‬صباح النور يا �أوالد‪ ،‬هل‬ ‫در�ستم جيد ًا؟ فكان �أحدهم يجيبني‪:‬‬ ‫نعم يا �آن�سة‪ .‬ولكنَّ فالن ًا من التالميذ مل يدر�س‪ ،‬فكنت �أوبخه‬‫ف�أقول‪:‬‬ ‫وما �ش�أنك �أنت بغريك؟ عليك بنف�سك‪ .‬فيخرج له الآخر‬‫التفت �إليه والحظني يتظاهر فور ًا بالتثا�ؤب‪ ،‬ف�أقول له و�أنا‬ ‫ل�سانه‪ ..‬ف�إن ُّ‬ ‫ال �أ�ستطيع حب�س نف�سي عن ال�ضحك‪:‬‬ ‫ملاذا تتثاءب ول�سانك خارج فمك‪ ..‬فيجيبني بارتباك وقد و�ضع‬‫‪135‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫يده كعادة الأطفال مكان نقرته و�أخذ يحك �شعره‪:‬‬ ‫لقد ن�سيت يا �آن�سة‪ ..‬لقد ن�سيت ثم ي�أخذ بالرك�ض م�سرع ًا نحو‬‫املدر�سة‪.‬‬ ‫يبدو �أنك يا �أمي حتنني ب�شدة �إلى �أيام املدر�سة‪ .‬قال �أحمد‪.‬‬‫ف�أجابت بغ�صة وهي تعيد فرد ال�ستار املزموم‪:‬‬ ‫�أجل �أحنّ ‪� ..‬أحنّ كثري ًا‪ ..‬ثم �أكملت‪ :‬رحم اهلل والدكم ‪ ..‬كان‬‫يحب كثري ًا ر�ؤية الأطفال وهم يف طريقهم �إلى املدر�سة‪ .‬كان يردِّد دوم ًا‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫مالئكة مت�شي على الأر�ض‪ ..‬ثم التفتت �إلى �أحمد وقالت‪� :‬أال تذكر‬ ‫ذلك؟ فر َّد رمبا‪ .‬تلعثم يف الكالم وك�أنه �أراد �أن يقول �شيئ ًا فقاطعته‪:‬‬ ‫عليك يا حبيبتي �صباح‪ .‬كانت �أختكم ال يفوتها‬ ‫�ألف رحمة تنـزل ِ‬‫�شيء من هذه الطرائف ال�صغرية‪..‬ثم �أخذت تبكي �أقبلت عليها عائ�شة‬ ‫و�ضمتها قائلة‪:‬‬ ‫ما ذكرك بهما الآن يا �أمي؟‬‫وهل تظنني �أنني �أن�ساهما؟ ثم متتمت‪ :‬احلمد هلل‪ ..‬احلمد هلل‪.‬‬‫�إنا هلل و�إنا �إليه راجعون‪.‬‬ ‫خالل ذلك كان �أحمد قد ان�سحب من املكان ودخل غرفته دون‬ ‫�أن يقول كلمة واحدة‪.‬‬ ‫‪136‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫بعدئذ‪ ..‬ذهبت الأم �إلى احلاجة �أم علي لتق�ضي لها حوائجها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يف حني �شرعت عائ�شة برتتيب البيت وخالل ذلك رنّ جر�س الهاتف‪..‬‬ ‫فخرج �أحمد ب�سرعة وقبل �أن ترفع �أخته ال�سماعة قال لها‪� :‬إن كان‬ ‫املت�صل �أحد �أ�صدقائي فقويل له �أنني ل�ست هنا‪ ..‬وا�ضمري يف نيتك‪:‬‬ ‫( �أي ل�ست هنا يف ال�صالون) ثم عاد جمدد ًا لغرفته‪ ..‬فدخلت عليه‬ ‫الغرفة وقالت‪� :‬إنه حامد‪.‬‬ ‫وماذا يريد؟‬‫قال �إنه م ّر اليوم �صباح ًا‪ ..‬ومتتمت بينها وبني نف�سها‪� :‬إذ ًا‬‫هو من كان ينقر الباب �صباح ًا‪ ..‬ثم ا�ستدركت‪ :‬وقال �إنه يريد ر�ؤيتك‬ ‫أمر �ضروري‪� .‬صمتت قلي ًال وتابعت‪ ..:‬لكنَّ �أغرب ما يف الأمر عبارته‬ ‫ل ٍ‬ ‫الأخرية‪.‬‬ ‫� ّأي عبارة؟ �س�ألها �أحمد باهتمام‪.‬‬‫قال يل قبل �أن ينهي املكاملة‪ :‬اذهبي وقويل له �أنني �أو ُّد ر�ؤيته‪.‬‬‫وما الغرابة يف ذلك؟‬‫�أمل تالحظ؟ ا�ستعاد العبارة يف نف�سه مرة �أخرى حتى ا�ستوقفته‬‫نف�س الكلمة ‪ ..‬فراح يتمتم دون �أن ي�شعر بنف�سه‪ :‬اذهبي وقويل له‪،‬‬ ‫اذهبي ‪� . .‬أوه‪� ..‬صحيح‪� ..‬صحيح‪ ..‬ولكن كيف عرف �أنني هنا‪..‬‬ ‫عادت عائ�شة �أدراجها �إلى املطبخ‪� .‬أما �أحمد فخرج �إلى ال�شرفة‬ ‫‪137‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫بع�ض الوقت ثم عاد لل�صالون جم ّدد ًا‪ ،‬وبينما هو منغلق على خواطر‬ ‫نف�سه رنّ جر�س الباب‪� ..‬صاحت عائ�شة من الداخل‪� :‬أحمد افتح الباب‬ ‫ف�أنا م�شغولة‪ ..‬اجته �إلى الباب وهو �شارد الذهن ثم فتحه‪ ..‬نظر يف‬ ‫الطارق‪ ..‬للوهلة الأولى ظ ّل عادي ًا ثم ارت َّد للخلف بكر�سيه جف ًال وهو‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫ما الذي جاء بك �إلى هنا؟‬‫جئت لأجلك‪ ..‬نظر �إليه متب�سم ًا و�أردف‪� :‬ألن ت�سمح يل‬‫بالدخول؟ ظ ّل �أحمد جامد ًا يف مكانه للحظات ثم �أخري ًا �أزاح كر�سيه‬ ‫وقال بربودة‪:‬‬ ‫تف�ضل‪� ،‬أدخل‪..‬‬‫لقد انزعج كثري ًا من زيارته الق�صرية تلك‪ ..‬وبقي خاللها‬ ‫مظهر ًا اجلفاء واملقاطعة بيد �أنه بعدها عندما زارتهم عبري تغيرَّ حاله‬ ‫وارت�سمت على وجهه ب�سمة م�شرقة ‪ ..‬م ّد يده ليتناول منها الطفلة‪،‬‬ ‫وبعد �أن �صارت يف ح�ضنه‪� ..‬أخذ يداعب �شعرها وهو يقول لأمها‪:‬‬ ‫كيف جرى ور�أيناك؟‬‫كنت م�شغولة بالعمل‪.‬‬‫و�أين كنت تودعني الطفلة؟‬‫�صرت �أ�صطحبها معي �إلى العمل‪.‬‬‫‪138‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫كيف هذا؟‬‫‪�..‬أطرقت قلي ًال‪ ..‬ثم رفعت ر�أ�سها على ا�ستحياء ومتتمت‪:‬‬ ‫كنت �أ�ضعها يف غرفة اال�سرتاحة على �أريكة منعزلة‪ ..‬فت�ساءلت‬‫عائ�شة‪:‬‬ ‫وهل كانت ت�سكت من دونك؟ متتمت بارتباك‪� ( :‬إم‪� ..‬إم )‪..‬‬‫�أمعقول هذا‪ ..‬ع َّلق �أحمد‪..‬‬‫ومل ال؟ ا�ستنكرت عبري‪.‬‬‫لأنه ي�ستحيل على طفلة يف عمرها �أن تظل �أربع �ساعات بطولها‬‫دون �أن تتحرك �أو تبكي �أو‪ ..‬فقاطعته‪:‬‬ ‫كنت �أو�صي بها م�ستخدمة طيبة‪ ،‬فكانت تتفقدها كل حني‪.‬‬‫ال �أدري ملاذا ال �أ�ستطيع �أن �أ�صدقك؟ احم ّر وجه عبري ونظرت‬‫�إلى عائ�شة ف�أكمل �أحمد قائ ًال‪:‬‬ ‫أح�سه‪ ..‬و�أنا‬ ‫بالت�أكيد جتدين كالمي غريب ًا‪..‬لكنني �أحدثك مبا � ُّ‬‫ما تعودت يف حياتي �إال ال�صراحة‪ ..‬رمقها بنظرة خاطفة ومتتم‪:‬‬ ‫�ساحميني ف�أنا �صريح‪� ،‬صريح جد ًا‪ ،‬مل جتب عبري بكلمة‪ ..‬ظهر‬‫عليها االرتباك وحماولة الهروب من املوقف‪ ..‬ف�أنهت احلديث بقولها‪:‬‬ ‫‪139‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫على كل حال �أنا اليوم مل � ِآت من �أجل الطفلة بل جئتك مبو�ضوع‬‫�آخر‪ .‬فقاطعها‪:‬‬ ‫قررت؟‬ ‫�أوه‪ ..‬فهمت‪..‬ثم تابع‪ :‬وماذا ِ‬‫موافقة‪.‬‬‫موافقة؟ قالها بنربة حادة بع�ض ال�شيء‪.‬‬‫أكملت‪� :‬شعرت بك وك�أنك تريدين �أن �أوافق‪ ،‬وملَّا ر�ضيت بالأمر‬ ‫� ْ‬ ‫�أراك ت�ستنكر‪ ..‬عجيب �أمرك اليوم!‬ ‫انتبه �أحمد لنف�سه فرتاجع ب�سرعة عن موقفه وقال‪:‬‬ ‫عفو ًا‪ ..‬عفو ًا‪ ،‬ما ق�صدت ذلك‪ ،‬لقد فهمتني ب�شكل خاطئ‪..‬‬‫ثم تابع‪ :‬ح�سن ًا مع بداية ال�شهر القادم خذي �إجازة مفتوحة وتفرغي‬ ‫لرتبية ابنتك اجلميلة‪ .‬عندها ت�ساءلت عائ�شة؟‬ ‫عم تتحدثان؟‬‫ّ‬ ‫ف�أ�سكتها �أحمد‪ ،‬تناولت عبري الطفلة‪ .‬ودثرتها جيد ًا‪ ،‬قالت وهي‬ ‫جتتاز عتبة الدار‪:‬‬ ‫ح�سن ًا‪� ..‬س�أم ّر عليك الحق ًا لتعطيني اخلرب اليقني‪ .‬بعدها متتم‬‫�أحمد بغبطة ‪:‬‬ ‫‪140‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫يا لها من امر�أة رائعة‪ ،‬ترينها مبت�سمة رغم ُك ِّل الذي تعانيه‪..‬‬‫�إنها رائعة حق ًا‪.‬‬ ‫على ر�سلك‪ ..‬قلت لك يف الأم�س‪� :‬إنك معجب بها فخا�صمتني‬‫وكدت تنفجر يف وجه �أمك‪ ..‬وها �أنت اليوم متدحها مدح املحبني‪.‬‬ ‫مل يعر كالمها با ًال‪ ،‬بل درج بكر�سيه �إلى ال�صالون و�س�ألها‪:‬‬ ‫�أين �أمك‪ .‬مل �أرها هنا؟‬‫�صعدت �إلى احلاجة �أم علي فهي مري�ضة جد ًا‪.‬‬‫كان اهلل يف عونها فهي امر�أة نبيلة‪ .‬ثم دخل �إلى ال�صالون‪.‬‬‫فلحقت به وقالت‪:‬‬ ‫والآن �أخربين ما امل�ساعدة التي تنتظرها منك عبري؟‬‫ح�سن ًا‪..‬اجل�سي �أحدثك ‪ . .‬ثم راح يروي لها الق�صة كاملة‪،‬‬‫حينها كانت طبول ال�سماء تتوعد ال�ساهرين بليل ٍة ماطرة‪.‬‬ ‫***‬ ‫بعد ع َّدة �أيام ات�صلت عبري وقالت‪:‬‬ ‫ماذا جرى بخ�صو�ص املو�ضوع؟‬‫�أخربت عمي م�صطفى و�أ�ضحى الأمر جاهز ًا‪ ،‬عليك �أن ت�أخذي‬‫‪141‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�إجازة مفتوحة وانتهى الأمر‪.‬‬ ‫قالت ب�صوت تك�سوه نربة الفرح‪:‬‬ ‫ح�سن ًا‪..‬ح�سن ًا ‪ ..‬وقبل �أن تنهي املكاملة‪ ..‬باغتها �صوته الهادئ‬‫حينما قال ُمل ِّمح ًا‪:‬‬ ‫يف املرة القادمة �أرجو �أال تعطي ابنتك حب ًا منوم ًا‪.‬‬‫غرق �صوتها يف ِّلج خواطرها املتالطمة‪ ،‬قالت‪ :‬من �أخربك‬ ‫بذلك؟‬ ‫هذا لي�س من �ش�أنك‪ ..‬املهم �أال تتكرر ثاني ًة‪..‬‬‫�أرجوك قل يل من �أخربك؟‬‫لك من وقتها �أنني ال �أ�صدق ادعاءك‪ ..‬ولهذا ذهبت �إلى‬ ‫قلت ِ‬‫�شخ�ص يعمل هناك �أنك تعطني ابنتك ح ّب ًا‬ ‫مكان عملك وعلمت من‬ ‫ٍ‬ ‫منوم ًا‪.‬‬ ‫ظلت �صامت ًة و�أحمد يردِّد‪� :‬ألو‪� ..‬ألو‪� ..‬ألو‪ ..‬عبري هل ت�سمعينني‪،‬‬ ‫فج�أ ًة عاد �صوتها من جديد‪ ..‬كان هذه املرة خمنوق ًا مرجتف ًا‪ ..‬قالت‪:‬‬ ‫�شكر ًا‪ . .‬ثم �أغلقت اخلط دون �أن تزيد على ذلك حرف ًا‪ .‬يف تلك‬‫الليلة ظ ّل �أحمد �ساهر ًا حتى الفجر ‪ ..‬يراجع كلماته‪ ،‬وكلما تذكر �صوتها‬ ‫وهي تقول‪� :‬شكر ًا لك‪ ..‬ي�شعر بغ�صة وبالعربات تفلت من عينيه‪ ..‬قال‬ ‫‪142‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫يف نف�سه‪:‬‬ ‫ �أخ�شى �أنني قد جرحتها �أو �أيقظت وح�ش احلزن يف غابتها‪ .‬يا‬‫�إلهي ال ب ّد �أنه �سيفرت�سها‪� ،‬إنها ذات طبيعة رقيقة‪ .‬هوى بقب�ضته على‬ ‫الو�سادة ومتتم‪:‬‬ ‫ال ب ّد �أن �أعتذر لها‪� ،‬أجل ال ب ّد من ذلك‪ .‬كان املطر وقتها قد‬‫توقف فبان القمر �صغري ًا با�سم ًا بعامله ال�ساحر وخيمته الف�ضية امل�شعة‪.‬‬ ‫ومع هطول �شالل الفجر وامتداد ال�صباح‪ ،‬زحف �أحمد على‬ ‫كفيه �إلى طرف ال�سرير‪ ..‬فتح النافذة‪� .‬أخذ نف�س ًا عميق ًا‪ .‬كان ال�صباح‬ ‫�صافي ًا م�شرق ًا‪ ،‬والهواء مفعم ًا بالرطوبة‪ .‬اقرتب من كر�سيه املتحرك‪،‬‬ ‫جل�س عليه ثم حترك نحو ال�صالة ومنها �إلى ال�شرفة‪ .‬ففوجئ ب�أمه‬ ‫جال�س ًة هناك يف الزاوية حتت�سي القهوة‪�..‬ألقى عليها حتية ال�صباح ثم‬ ‫قال‪:‬‬ ‫أراك م�ستيقظة‪.‬‬ ‫� ِ‬‫�أجل‪ ..‬ر�أيت الطق�س جمي ًال ف�أحببت �أن �أغتنمها فر�ص ًة و�أحت�سي‬‫قهوتي هنا قبل �أن يداهمنا ال�شتاء فج�أة ف�أحرم من ذلك ف�ص ًال كام ًال‪.‬‬ ‫معك حق‪ ..‬فاحلديقة التي نط ُّل عليها‪ ،‬و�شجرة الكينا الوا�صلة‬‫�إلينا تخلع على �شرفتنا �شيئ ًا ما من دفء الطبيعة ون�ضرة خ�ضرتها‪.‬‬ ‫نه�ضت �أمه وقالت‪ :‬انتظرين قلي ًال‪� ..‬س�أح�ضر القهوة لك و�أعود �سريع ًا‪..‬‬ ‫احت�ساها �أحمد على دفعتني‪ ..‬ونظر �إلى �أمه يت�أملها‪ ..‬فابت�سمت وقالت‪:‬‬ ‫‪143‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ما بك؟ هل تراين لأول مرة؟‬‫ابت�سم وقال‪ :‬ال �أدري ما �أقول‪ .‬حق ًا �إن احلياة غريبة‪ .‬ال �أدري‬ ‫ملاذا �أ�شعر �أن يف ال�صباح �س ّر ًا خا�ص ًا‪ .‬متتمت الأم‪� ( :‬إم )‪ ..‬وك�أنها‬ ‫تريده �أن يتابع‪ .‬قال‪:‬‬ ‫�أ�شعر يف ال�صباح �صفاء وراحة‪ ..‬وك�أنني �أجاور الغيوم و�أو�شك‬‫�أن �أمل�س حدود ال�سماء!‬ ‫‪ ..‬دمعت عني الأم وقالت ب�صوت ج ْر�سه كج ْر�س الندى‪:‬‬ ‫‪..‬كالمك م�ؤثر‪ ،‬ثم نظرت �إليه وت�ساءلت‪ :‬هل حق ًا �أنت ولدي‬‫الذي خرج من جويف؟ ثم �أردفت‪ :‬يا �سبحان اهلل‪� ..‬إن بني �آدم يت�شابهون‬ ‫يف �أج�سادهم لكن �أرواحهم ت�سبح يف ملكوت خا�ص وتنهل من معينها‬ ‫هم �أحمد بالتعقيب مع دخول عائ�شة ف�أم�سك عن الكالم‪.‬‬ ‫اخلا�ص‪ّ ،‬‬ ‫قالت عائ�شة‪ :‬الفطور جاهز‪.‬‬ ‫متى َّ‬‫ح�ضرته؟ ت�ساءلت الأم بده�شة فابت�سمت عائ�شة و�أجابتها‪:‬‬ ‫ ا�ستيقظت ف�شاهدتكما يف ان�سجام ووفاق �إلى �أبعد حد‪ ..‬فقلت‬‫يف نف�سي‪:‬‬ ‫يا بنت‪ ..‬دعيهم يف حالهم وفاجيئيهم بفطو ٍر فاخر‪.‬‬‫وبينما هم يتناولون طعام الفطور‪� ،‬شرع املذيع يتلو ن�شرة الأخبار‬ ‫امل�ص ّورة‪ ..‬كان اخلرب امل�ص ّور الثاين يت�ضمن م�شهد ًا لفتاة فل�سطينية‬ ‫‪144‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫يف نهاية طفولتها وهي حما�صرة بجنود �صهاينة ي�ضربونها بع�شوائية‬ ‫ووح�شية ب�أقدامهم وبنادقهم‪ ،‬ثم جروها من �شعرها �إلى ال�سيارة‪..‬‬ ‫عندها رجفت عائ�شة ل�صوت الزجاج الذي تناثر يف �أر�ض ال�صالون‪..‬‬ ‫فقد ت�أثر �أحمد بامل�شهد فرمى الك�أ�س من يده وراح يبكي كال�صغار وهو‬ ‫ي�صيح‪:‬‬ ‫كيف ننعم بالراحة‪ ..‬والقد�س ت�ستغيث بنا‪ ،‬هاكم �أخواتنا‬‫تحُ قرن �أمامنا‪ ..‬هاكم �أطفالنا تقاوم باحلجارة ونحن جال�سون هنا‪.‬‬ ‫�أال ليتني مل �أخلق يف ع�صرنا هذا‪ ..‬ثم تابع �صارخ ًا‪:‬‬ ‫كم �أكره العجز‪ ،‬كم �أكرهه‪ ،‬كم �أكرهه‪.‬‬‫رعت‬ ‫�سقط من كر�سيه على الأر�ض‪ ..‬فارمتت عليه �أمه وهُ ْ‬ ‫عائ�شة للمطبخ وعادت بك�أ�س ليمون‪� ..‬شربها وخرج �إلى ال�شرفة‪ ..‬قال‪:‬‬ ‫دعوين �أرجوكم وحيد ًا لبع�ض الوقت وعندما عاد‪ ..‬قالت له �أمه‪:‬‬ ‫ا�ستحلفك باهلل �أال تغ�ضب مرة �أخرى هكذا‪.‬‬‫ال �أ�ستطيع يا �أمي‪ ..‬ال �أ�ستطيع‪.‬‬‫ني ما باليد حيلة هكذا م�شيئة اهلل‪.‬‬ ‫يا ُب َّ‬‫ف�صرخ‪ :‬ال‪ ،‬لي�ست م�شيئة اهلل‪� ..‬أنتم دوم ًا تتجنبون مواجهة‬ ‫�ضعفكم وتن�سبون ف�شلكم �إلى م�شيئة من اهلل‪..‬‬ ‫ولكن‪ .‬قاطعها‪ :‬ولكن ماذا؟ ال تخدعي نف�سك كما الآخرين‬‫‪145‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫يا �أمي‪ ..‬فما كان اهلل ليغري نعمة �أنعمها علينا �إال �إن نحن �أ�س�أنا له‬ ‫وع�صينا �أمره‪� ..‬صمت برهة ثم �أكمل‪� :‬أعجب ملاذا نفهم كل �شيء يف‬ ‫الإ�سالم على نقي�ض معناه؟‬ ‫على ر�سلك‪ ،‬على ر�سلك‪ ..‬قالت عائ�شة‪ ..‬ثم تابعت‪ :‬بعد قليل‬‫تكفرنا جميع ًا‪.‬‬ ‫�أنا مل �أق�صد هذا‪ ..‬ولكن كل �شيء باملقلوب‪� ،‬إن قلت‪ :‬الإميان‬‫بالق�ضاء الإلهي واجب قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬ثم ف�سروه ا�ست�سالم ًا وجمود ًا‪ .‬و�إن‬ ‫قلت‪ :‬الزهد يف الدنيا �أكمل‪ ..‬قالوا‪� :‬أ�صبت‪ ..‬ثم راحوا يتق�شفون يف‬ ‫امل�أكل وامللب�س وقلوبهم ال تزال معلقة يف ج ّرة فخار‪ .‬قاطعته �أمه‪:‬‬ ‫�إيه‪� ..‬إيه‪ ..‬ماذا جرى لك‪ ..‬قنبلة وانفجرت‪ ..‬انظر �إلى نف�سك‬‫كنت حتتاج �إلى كلمة حتى تقذف من جوفك منذ ال�صباح مليون كلمة‪.‬‬ ‫على ر�سلك‪ ..‬ما بالك وقد انتفخت �أوداجك‪ ..‬و�شحب وجهك‪ ،‬هل تريد‬ ‫�إ�صالح العامل مبفردك؟ ال تكن �أبله ًا‪ .‬ثم نظرت �إلى عائ�شة وقالت‪:‬‬ ‫�أنا �صاعدة �إلى احلاجة �أم علي‪ ،‬اعتني يف غيابي باملنزل‪.‬‬‫‪ ..‬كانت عائ�شة قد مللمت ال�صحون التي على الطاولة‪� ..‬س�ألها‬ ‫�أحمد ب�صوت مبحوح‪:‬‬ ‫هل معك رقم هاتف عبري؟‬‫معي‪ ..‬ولكن‪ :‬ملاذا؟‬‫‪146‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫البارحة ات�صلت بي من �أجل ذلك املو�ضوع‪ ..‬ف�صارحتها‬‫مبو�ضوع احلبوب املنومة‪.‬‬ ‫وملاذا فعلت هذا؟‬‫ال �أدري‪ ..‬كنت غا�ضب ًا منها‪ ..‬فلم �أ�ستطع �إخفاء م�شاعري‪،‬‬‫ولكنني ت�ضايقت بعدها �إلى درجة جعلتني ليلة البارحة عاجز ًا عن‬ ‫النوم‪..‬‬ ‫�ألهذا كنت �شديد االنفعال؟‬‫ال‪ ..‬ولكنها حقائق م�ؤملة اجتمعت كلها يف وقت واحد‪.‬‬‫بد�أ يت�صل مر ًة تلو الأخرى فال يجيبه �أحد و�أخري ًا طرق �صوتها‬ ‫�سمعه فاعتذر لها عما بدر منه البارحة وهي باملقابل وعدته بن�سيان‬ ‫املو�ضوع‪.‬‬ ‫***‬ ‫دخل مرهف عائد ًا من اجلامعة‪ ،‬و�ضع حقيبته على الأر�ض و�سار‬ ‫�إلى ال�صالة‪ ،‬ارمتى على �أمه يقبلها وهو يقول‪ :‬لقد ا�شتقت �إليك‪.‬‬ ‫ثم التفت لعائ�شة وقال‪� :‬أراك هنا؟‍‍‬ ‫مللت مني؟‬ ‫وهل َ‬‫‪147‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ال‪ .‬ولكن‪ ،‬قاطعته‪ :‬مل يحدث �شيء بعد‪..‬‬‫ح�سن ًا‪ ..‬تلفت مينة وي�سرة وت�ساءل‪:‬‬‫�أين �أحمد؟‬‫يف غرفته‪.‬‬‫�إذ ًا �سوف �أ�ستحم �أو ًال ثم �أدخل لأحدثه يف بع�ض الأمور‪.‬‬ ‫وبينما كانت عائ�شة مت�سح الغبار عن الأثاث‪ ،‬رنّ جر�س الهاتف‪،‬‬ ‫كانت عبري‪� ..‬ألقت التحية على عائ�شة ثم �س�ألتها عن �أحمد‪ ..‬ف�أجابتها‬ ‫بجفاءٍ وارتياب‪:‬‬ ‫يا عبري ابتعدي عن �أخي ودعيه و�ش�أنه‪.‬‬‫هل فعلت �شيئ ًا ما ال �سمح اهلل حتى تقويل يل هذا الكالم؟‬‫يف احلقيقة ال‪ .. ،‬لكنني �أخ�شى على �أخي منك‪.‬‬‫مني؟‬‫�أجل‪ ..‬ف�أنا �أ�شعر وكذلك �أمي �أن �أحمد يتعلق بك يوم ًا بعد يوم‪،‬‬‫و�أنت تعلمني �أنه عاجز ونحن ال نريد له �أن يطارد �سراب ًا ‪ ..‬هنا َّ‬ ‫انق�ض‬ ‫عليها �أحمد كالوح�ش الغا�ضب ووقع �أر�ض ًا‪ ،‬فقفزت عائ�شة هلع ًة ثم‬ ‫قالت مذعورة‪ :‬ما بك‪ ،‬ملاذا فعلت هكذا؟‬ ‫‪148‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫متفجر بالغ�ضب قال‪:‬‬ ‫وب�صوت‬ ‫ٍ‬ ‫ا�س�أيل نف�سك‪.‬‬‫ماذا تق�صد؟‬‫لقد �سمعت حديثك مع عبري ثم تابع‪ :‬من �سمح لك �أن تفعلي‬‫اقرتبت‬ ‫هذا؟ �إنه ظلم ‪ . .‬ظلم ثم راح ي�ضرب الأر�ض بيده وهو يبكي‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫منه تنوي م�ساعدته على النهو�ض �إلى الكر�سي ف�أبى ونهرها بنربة‬ ‫حادة‪ :‬هيا ابتعدي عني ثم زحف بوا�سطة يديه �إلى غرفته تارك ًا يف‬ ‫ال�صالون كر�سي ًا فارغ ًا ور�أ�س ًا مليئ ًا باملخاوف‪.‬‬ ‫وعندما عادت الأم‪ ،‬وقفت جامدة يف مكانها‪ ،‬و�أ�شارت بفزع �إلى‬ ‫الكر�سي الفارغ و�صاحت‪:‬‬ ‫�أين �أحمد‪� ،‬أين هو يا عائ�شة؟‬‫يف غرفته‪.‬‬‫يف غرفته؟‬‫�أجل‪.‬‬‫كيف والكر�سي هنا؟ ثم �أردفت ب�صوت مرجتف‪:‬‬‫هل جرى له مكروه؟‬‫‪149‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ال‪ ،‬ال ق ّدر اهلل‪..‬‬‫�إذ ًا ما هذا؟ هيا قويل‪.‬‬‫دنت عائ�شة من �أمها‪ ،‬و�أخذتها �إلى الأريكة املتو�ضعة ببهو‬ ‫ال�صالة‪ ،‬ثم حكت لها الق�صة كاملة فوقفت الأم منت�صبة‪ ،‬واجتهت �إلى‬ ‫غرفة �أحمد‪.‬‬ ‫دقت على الباب نقرات عدة فلم يجيبها �أحد‪ ،‬حاولت فتحه‬ ‫فوجدته مقف ًال من الداخل فراحت تبكي وتتو�سل �إليه �أن يفتح‪� ،‬أخري ًا‬ ‫ا�ستبان نور خافت �سقط على �أر�ض املمر املظلم‪ .‬هرعت الأم �إلى الباب‬ ‫ف�أكملت فتحه ثم دخلت و�أغلقته وراءها‪ .‬يف تلك احلني ظلت عائ�شة‬ ‫واقفة يف مكانها و�سط ال�صالة متوج�سة هلعة وملَّا عاد مرهف ور�آها‬ ‫هكذا خاف خوف ًا �شديد ًا وب�صوت ال يكاد يظهر قال‪ :‬عائ�شة هل �أ َّمل‬ ‫ب�أحد مكروه؟‬ ‫ب�صوت يغرقه �س ُّح الدموع‪:‬ال‪ ،‬مل يقع �شيء من هذا‪.‬‬ ‫ف�أجابته‬ ‫ٍ‬ ‫�إذ ًا ماذا جرى؟ ‪ ..‬وقد �سكنت قلي ًال نف�سه‪ ،‬لكنّ املخاوف ظلت‬‫تقفز �إلى �صهوة �صوته ثم تقع عند �أول كلمة‪.‬‬ ‫انظر هناك‪.‬‬‫�أين؟ ثم متتم‪ :‬الكر�سي‪� .‬أوه �أين �أحمد؟‬‫يف غرفته‪.‬‬‫‪150‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫كيف هذا؟ راحت حتكي له ما جرى يف حني كانت الأم يف تلك‬‫الغرفة حتاول ا�سرت�ضاء �أحمد‪ .‬قالت له بحنني دافق‪ :‬يا بني‪� ،‬أرجوك‬ ‫كلمني‪� ..‬أرجوك‪ ،‬ثم هوت عليه تبكي‪ .‬كان مند�س ًا حتت حلافه ومل‬ ‫يحرك �ساكن ًا ومل ي�سمح لأمه �أن ترفع الغطاء عنه‪ .‬فج�أة ومن تلقاء‬ ‫نف�سه �أخرج ر�أ�سه‬ ‫�شاحب‪ .‬رفعت الأم ر�أ�سها‪ ،‬ودنت منه ثم �ضمته �إليها‬ ‫فظهر وج ٌه‬ ‫ٌ‬ ‫وقالت‪:‬‬ ‫�أتبكي يا ولدي و�أنت رجل قوي‪.‬‬‫ال بل �ضعيف‪� ،‬ضعيف‪.‬‬‫كنت حتاكم الأمور هكذا‪.‬‬ ‫ني ما َ‬ ‫ال يا ُب َّ‬‫لقد مللت يا �أمي‪ ،‬مللت‪ .‬ثم �أردف‪� :‬أ�شعر �أن العامل مليء‬‫بالزيف واخلداع‪.‬‬ ‫بالآالم والأوجاع‪� ،‬أ�شعر بالغربة‪ . .‬ثم جاءت عائ�شة و�أغرقت‬ ‫�آخر ق�شة كنت �أتعلق بها‪.‬‬ ‫عبري؟‬‫ال �أق�صدها حتديد ًا‪.‬‬‫�إذ ًا ماذا؟‬‫‪151‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫كنت �أُقنع نف�سي دائم ًا �أنني �أ�ستطيع االعتماد عليها‪� ،‬أنني‬‫قادر على مدِّ يد العون للآخرين‪ ،‬ولكم كنت �أ�شعر بالغبطة و�أنا �أ�ساعد‬ ‫املحتاجني واملغمورين‪ .‬لن ت�ستطيعي ت�صور فرحتي يا �أمي‪..‬ثم جاءت‬ ‫عائ�شة فج�أة وهدمت كل �شيء‪ ،‬وبلمح الب�صر وجدت نف�سي �أمام‬ ‫احلقيقة‪� :‬أنا �شخ�ص عاجز ومثار �شفقة ورحمة‪ .‬كنت �أظن نف�سي‬ ‫�أ�ستطيع م�ساعدة عبري وطفلتها لكنَّ عائ�شة غرزت اخلنجر يف قلبي‪..‬‬ ‫فوجدتني �أرمتي على قاتلي �أحاول منعه ف�سقطت عن الكر�سي‪ ،‬وما‬ ‫عدت راغب ًا بالعودة �إليه‪.‬‬ ‫وعندما خرجت الأم نظرت �إلى عائ�شة وقالت‪� :‬ساحمك اهلل‬ ‫ماذا فعلت؟‬ ‫وقالت‪:‬‬

‫�أطرقت عائ�شة تنظر يف الأر�ض ثم رفعت ر�أ�سها على ا�ستحياء‬

‫ماذا جرى معك؟‬‫ال �شيء‪.‬‬‫كيف هذا؟�س�ألها مرهف‪� .‬صمتت قلي ًال ثم قالت‪:‬‬‫لقد قرر مالزمة الفرا�ش على الدوام‪.‬‬‫والكر�سي؟ قال مرهف بده�شة‪.‬‬‫لن ي�ستخدمه �إال لق�ضاء حاجة ملحة‪.‬‬‫‪152‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫فعلت؟ لقد َّ‬ ‫مت �أخي ومل �أنتبه ملا اقرتفه‬ ‫حط ُ‬ ‫يا �إلهي ماذا ُ‬‫ل�ساين‪ ،‬ثم نظرت �إلى �أمها وقالت‪:‬‬ ‫بر�أيك هل هي زوبعة غ�ضب و�ستزول عما قريب؟‬‫ال �أظن ذلك‪ .‬ف�أنتما تعرفانه جيد ًا‪� ،‬إنه ال يرتاجع بب�ساطة عن‬‫�شيء قاله‪.‬‬ ‫حتى ولو كان منفع ًال؟‍‍‍‍ �س�ألتها عائ�شة‪.‬‬‫حتى ولو كان منفع ًال‪ ،‬لأنَّ االنفعال عنده لي�س وليد اللحظة بل‬‫نتيجة تراكمات طويلة‪.‬‬ ‫راحت عائ�شة تندب حظها‪ .‬بعدها التفتت ملرهف و�س�ألته‪:‬‬ ‫بر�أيك‪.‬هل ي�ستطيع حامد �إخراجه من عزلته هذه؟‬‫ال‪.‬‬‫وملاذا؟ تابعت عائ�شة‪..‬‬‫�صمت مرهف قلي ًال ثم قال‪ :‬لأنهما على خالف حالي ًا‪.‬‬‫على خالف! قالت الأم مت�سا ِئل ًة‪.‬‬‫نعم‪.‬‬‫‪153‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ولكنني ر�أيتهما يتحادثان يف الأم�س فمتى تخا�صما؟‬‫هما يتحادثان نعم‪ .‬ولكن ب�شكل ر�سمي‪� .‬إذ فج�أة تال�شت كل‬‫الروابط بينهما‪ .‬ومل يبق من املا�ضي �إال عبقه‪.‬‬ ‫كيف هذا؟‬‫ال �أدري‪ ،‬ولكنني علمت من عمي م�صطفى �أن الذي ابتد�أ‬‫باالبتعاد واجلفاء هو �أحمد ولي�س حامد‪.‬‬ ‫ماذا يجري لولدي؟‬‫اهلل �أعلم‪ ،‬متتم مرهف‪ .‬بعدها قامت الأم وعائ�شة �إلى املطبخ‬‫لتح�ضري الغداء‪ ،‬يف حني ظ ّل مرهف يف ال�صالون يزرع املكان ب�أقدامه‬ ‫حتى م ّل فخرج �إلى ال�شرفة‪.‬‬ ‫م�ضى �أ�سبوع و�أحمد على حاله مل يتغري‪� .‬صار مالزم ًا للفرا�ش‪.‬‬ ‫على ي�سار �سريره جمموعة من الكتب والروايات ومذيا ٌع �صغري يخفي‬ ‫َط َرف ًا من منبه �أخ�ضر اللون‪ ،‬ال�ستار منح�سر عن النافذة والنور رغم‬ ‫�أنه رمز البهجة وال�سرور �إال �أنه وب�سبب الغيم الرمادي‪..‬يرتك يف‬ ‫النف�س �إح�سا�سا بالك�آبة وامللل‪ .‬كان هذا �شعور اجلميع �إ َّال �أحمد الذي‬ ‫كان �سعيد ًا و�سعادته تنبع من �أنه مل يكن ملتفت ًا �إلى اجل ِّو وتقلباته بل‬ ‫كان منقطعا عن هذا كله‪ ،‬خمتلي ًا مع الكتاب‪ ،‬غارق ًا يف �شخو�ص رواياته‬ ‫ناظر ًا فكري ًا لأفكار و�آراء كتب �أخرى‪ ،‬ولهذا ما‬ ‫ومفاج�آت �أحداثها‪ ،‬و ُم ِ‬ ‫عاد يتذكر عجزه و�ضعفه �إال قلي ًال‪ .‬وكان كلما �شعر برغبة يف �شحذ‬ ‫‪154‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫تي�سر له من‬ ‫نف�سه بقوة روحية جديدة مي�سك القر�آن الكرمي ويتلو ما ّ‬ ‫الآيات بتدبر وتذوق‪� ،‬أو يقر�أ يف كتاب حياة ال�صحابة (للكاندهلوي)‬ ‫ل ُي َّل ِقنَ َنف�سه در�س ًا يف ال�صرب والإميان احلقيقي‪.‬‬ ‫دخلت عليه �أمه فر�أته يبكي‪ .‬ف�س�ألته عن ال�سبب‪.‬‬ ‫مر ًة ْ‬ ‫نظر �إلى ما وراء النافذة وقال ب�صوت دافئ‪ :‬تذكرت حممد ًا‪!‍‍‍‍‍‍‍...‬‬‫عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬متتمت الأم‪.‬‬‫عليه ال�صالة وال�سالم‪ ( ،‬قال مثلها )‪.‬‬‫وهل نحن نن�ساه حتى نتذكره؟‬‫حدجها بنظرة حادة وقال م�ؤكد ًا‪ :‬تذكرته حق ًا‪ ،‬ثم �أردف‪:‬‬ ‫تذكرت يوم وفاة هذا الر�سول العظيم‪ .‬حق ًا يا �أمي الأمر جلل‪� .‬أ�ستطيع‬ ‫الآن �أن �أت�صور الفاجعة التي �أملّت ب�صحابة الر�سول‪� .‬إذ اعتادوا ردح ًا‬ ‫من الزمان على تديل ال�سماء‪..‬وعلى قربها حتى تكاد تكون معهم يف‬ ‫كل حلظة‪ .‬تق ّوم �أفعالهم‪ ،‬وتز ّكي نفو�سهم‪ .‬متنحهم قوة تخ ُّر �أمامها‬ ‫اجلبال وت�صبح هبا ًء منثور ًا‪�..‬صمت قلي ًال ُي�ص ِغ للقطرات الأولى التي‬ ‫بد�أت تهبط على الأوراق ثم تابع‪ :‬كانوا يدركون متام ًا بقلوبهم الوا�سعة‬ ‫معنى كونه ر�سول اهلل‪.‬‬ ‫قاطعته �أمه‪ :‬وهل نحن ال نعلم �أنه ر�سول اهلل؟‬ ‫حدجها مرة �أخرى وقال‪ :‬نحن نكررها يف حياتنا مليون مرة‬ ‫‪155‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫وال نعيها ولو مر ًة واحدة‪ ،‬ثم �أردف‪ :‬عندما �شعر �أنها ت�صغي �إليه‪ :‬هم‬ ‫وعوها متام ًا‪ .‬كانوا يرونه ر�سول اهلل‪ُ ،‬‬ ‫اهلل‪� .‬إل ُه هذا العامل ال�شا�سع‪.‬‬ ‫ولهذا كانوا حينما يرجعون �إليه فهم يلوذون باهلل‪ .‬وفج�أ ًة ُ�ص ِع ُقوا بنب�أ‬ ‫وفاته‪ .‬فج�أة وجدوا �أنف�سهم وقد عادوا جم ّدد ًا غرباء على هذه الأر�ض‪.‬‬ ‫ارت ّدوا لل�ساحل وراحوا يتل ّم�سون الأثر وي�ست�ضيئون بالكتاب والعقل بعد‬ ‫�أن كانوا يف بحر النور‪.‬‬ ‫هنا بد�أت الأم تبكي‪ .‬تفاعل لبكائها ثم �أنهى حديثه بقوله‪:‬‬ ‫فج�أ ًة يا �أمي عادت ال�سماء لل�صمت ينطق عنها كتابها‪ ،‬و�ستبقى‬‫هكذا حتى القيامة الكربى‪.‬‬ ‫م�سحت الأم دموعها وا�ستغلت الفر�صة �إذ ر�أتها �سانحة فقالت‪:‬‬ ‫عائ�شة على الباب تريد �أن ت�ستميحك عذر ًا‪.‬‬‫عائ�شة‪ .‬هزَّت ر�أ�سها وهي تتمتم‪� ( :‬إم ) �صمت قلي ًال وهو يرنو‬‫بب�صره �إلى ما وراء النافذة ثم قال وب�صره حيث كان‪:‬دعيها تدخل‪.‬‬ ‫على الفور ارمتت الأم على الباب وفتحته‪.‬غابت للحظات ثم عادت‬ ‫بعائ�شة التي دخلت وهي الوية العنق‪ ،‬متوج�سة من املواجهة‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫�أحمد‪ .‬فنظر �إليها مبت�سم ًا و�أجابها‪ :‬نعم يا عائ�شة‪.‬‬ ‫�ساحمني �أرجوك‪� .‬شعر �أنها تكاد جته�ش بالبكاء فلم ي�ش�أ �أن‬‫يعذبها �أكرث فقال لها‪:‬‬ ‫‪156‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫لقد �ساحمتك ولكن �أرجو �أال تعيديها ثاني ًة‪ .‬هنا ارمتت عائ�شة‬‫على �سريره وقد انفجرت بالبكاء وهي تقول‪� :‬شكر ًا لك‪� ،‬شكر ًا لك‪.‬‬ ‫نظرت حولها وت�ساءلت‪:‬‬ ‫�أين �أمك‪ ،‬لتوها كانت هنا؟‬‫�شرعت فيها‬ ‫ابت�سم وقال جميب ًا‪ :‬لقد خرجت منذ اللحظة التي‬ ‫ِ‬ ‫بالكالم‪.‬‬ ‫حق ًا!‬‫�أجل‪� .‬ضحكت قلي ًال‪ .‬نه�ضت عن الفرا�ش‪ .‬قالت وهي تتجه‬‫�صوب الباب‪:‬‬ ‫هل �ستطول �صحبتك لهذا الفرا�ش؟ فابت�سم و�أجابها بطم�أنينة‪:‬‬‫دعي الأمور ت�أخذ �أجلها‪ .‬لقد تعلمت �أنه لن ت�سقط ثمر ٌة حتى‬‫ت�ؤتي �أ�ؤكلها‪ .‬ولن حتني نهاية حتى تلوح يف الأفق بداية جديدة‪.‬‬

‫م�ضى �شهر كامل‪ ،‬وال يزال �أحمد م�صر ًا على عزلته‪ ،‬ال يربح‬ ‫الفرا�ش‪ ،‬ال يلتقي ب�أحد‪ ،‬وقد تفرغ للقراءة والت�أمل‪� .‬إلى �أن جاء يوم‪،‬‬ ‫كانت وقتها ال�ساعة العا�شرة �صباح ًا‪ُ .‬ن ِقر الباب‪ ،‬ف�أجاب �صوت من‬ ‫الداخل‪ :‬من؟‬ ‫‪157‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�أنا �أمك‪.‬‬‫ادخلي �إذ ًا‪.‬‬‫لكن معي �ضيف‪.‬‬‫�ضيف؟‬‫�أجل‪ .‬غاب �صوته قلي ًال‪� .‬أخري ًا قال‪.:‬ح�سن ًا �أدخليه‪ .‬على الفور‬‫ُف ِتح الباب وظهرت الأم وحدها‪ .‬كان �أحمد مت�شوق ًا ملعرفة الزائر‪.‬‬ ‫جتاوزت عتبة الباب نظرت وهي تبت�سم وقالت‪:‬‬ ‫هيا ادخلي يا عبري‪.‬‬‫عبري! �صرخ منده�ش ًا‪.‬‬‫�أجل عبري‪ .‬وما الغرابة؟ �أجابته عبري م�ستنكرة‪.‬‬‫ال‪ ،‬ال‪ .‬ل�ست م�ستغرب ًا‪ ..‬ولكن‪ ،‬فقاطعته بحزم‪:‬‬‫ولكن ماذا؟‬‫ابت�سم وقال‪ :‬ال�شيء‪ ،‬ال�شيء‪ .‬ثم �أردف‪ :‬ه ّال ناولتني الطفلة ف�أنا‬ ‫م�شتاق �إليها‪.‬‬ ‫لك هذا‪ .‬ثم �أقبلت عليه وو�ضعتها يف ح�ضنه‪ .‬راحت ال�صغرية‬‫تعبث مبا حولها وكلما م َّلت ترمتي �إلى ح�ضنه‪ .‬فكان ي�ضمها بحنان‬ ‫‪158‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ودفء كما ي�ضم �أب عطوف ابنته الأولى‪.‬‬ ‫ماذا ت�شربني؟ �س�ألت الأم‪.‬‬‫ال �شيء �شكر ًا‪.‬‬‫ال يجوز‪ ،‬ال ب ّد من ال�ضيافة‪.‬‬‫تناولت عبري كر�سي ًا من ركن الغرفة‪ ،‬ثم و�ضعته بني ال�سرير‬ ‫والنافذة وجل�ست عليه‪ .‬بعدها نظرت �إلى �أم �أحمد من جديد‪ .‬ابت�سمت‬ ‫وقالت على ا�ستحياء‪:‬‬ ‫ح�سن ًا �أريد كوب ًا من ال�شاي‪.‬‬‫على الفور نادت الأم على عائ�شة‪ ،‬وطلبت منها حت�ضري ال�شاي‪.‬‬‫وبينما كان �أحمد يداعب ال�صغرية‪ ،‬ان�سل �صوت عبري بهدوء‪.‬‬ ‫قالت‪ :‬هل �ستطول عزلتك؟‬ ‫ف�أجابها‪:‬ل�ست �أدري‪ ،‬لعلها لن تطول‪.‬‬ ‫�سكتت عن الكالم زمن ًا ثم عادت �إليه ف�س�ألته وقد ظهر عليها‬ ‫االرتباك‪:‬‬ ‫هل �أ�ستطيع �أن �أودع عندك الطفلة ليوم كامل؟‬‫‪159‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫بالت�أكيد‪ ،‬بالت�أكيد �أجابها �أحمد‪ .‬وقالت �أمه‪:‬‬‫ن�ضعها يف عيوننا‪ ..‬على الرحب وال�سعة‪..‬على الرحب وال�سعة‪.‬‬‫ُ�س ّرت عبري لذلك �سرور ًا كبري ًا‪ .‬بعدها قالت‪:‬‬ ‫ال �شك �أنكم �ستت�ساءلون‪ :‬ماذا �س�أفعل باليوم الذي �س�أترك فيه‬‫الطفلة عندكم؟‬ ‫لي�س �ضروري ًا �أن تخربينا‪�،‬إن كان الأمر حمرج ًا‪.‬‬‫�أجل‪�،‬أجل ‪� . .‬أكدت �أمه‪.‬‬‫ال‪ ،‬ال �أ�شعر باحلرج منكم‪ .‬ف�أنتم مثل �أهلي‪.‬‬‫يف تلك اللحظة دخلت عائ�شة وهي حتمل فناجني ال�شاي‪ ،‬راحت‬ ‫تدير عليهم الك�ؤو�س واحد ًا واحد ًا‪ ،‬ابتداء من عبري ثم جل�ست بجوار‬ ‫علي �أن‬ ‫�أمها‪ .‬ارت�شفت عبري قلي ًال من ال�شاي ثم قالت‪ :‬يف احلقيقة ّ‬ ‫أمر �ضروري‪� .‬شعر �أحمد بحرجها فقاطعها‪:‬‬ ‫�أ�سافر �إلى العا�صمة ل ٍ‬ ‫لي�س �ضروري ًا �أن تتابعي و�س�أتعهد ال�صغرية بالعناية ريثما‬‫تعودين‪ .‬ا�صطبغ وجهها بحمرة زاهية ومتتمت وهي مطرقة‪:‬‬ ‫�أخ�شى �أن تتعبك‪� ،‬إنها فتاة م�شاغبة‪ ،‬كثرية احلركة‪.‬‬‫ال تخايف‪� ،‬س�أ�شغلها بالألعاب‪.‬‬‫‪160‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫و�أنا كذلك �سوف �أ�ساعده‪�..‬ص ّرحت عائ�شة‪.‬‬‫ال �أعرف كيف �أعبرِّ لكم عن �شكري‪.‬‬‫ابت�سمت الأم وقالت‪ :‬ا�شكرينا يف وقتها ولي�س الآن‪.‬‬ ‫فع َّقبت عائ�شة مازحة‪ :‬ال يا �أمي‪ ،‬دعيها ت�شكرنا الآن ويف وقتها‪.‬‬ ‫فنحن �سنقوم بخدمة �صعبة‪.‬‬ ‫قالت عبري وهي تخرج من الباب‪� :‬شكر ًا لكم‪.‬ثم التفتت لعائ�شة‬ ‫وهم�ست يف �أذنها‪� :‬أو�صلي �شكري لأحمد‪ ،‬ف�أجابتها عائ�شة بحزم‪:‬‬ ‫�سي�صله �شكرك حا ًال‪ .‬رمقتها عبري بنظرة با�سمة‪ُ ،‬ث َّم �شرعت تهبط‬ ‫الدرج وقتها كان ي�صعد �أحدهم‪ ،‬فج�أ ًة تب َّدت مالحمه‪ .‬كان زوجها‬ ‫ال�سابق‪� .‬أم�سك مع�صمها بقوة ومتتم‪ .:‬ماذا تفعلني هنا يا حمرتمة؟‬ ‫ح ّررت مع�صمها من قب�ضته‪ ،‬وه َّمت بالنـزول غري عابئة به ولكنه مل‬ ‫يدعها و�ش�أنها‪ ،‬فحاول جم ّدد ًا �إعاقتها والتحر�ش بها‪ ،‬وبينما هما‬ ‫يتجادالن على الدرج م َّر من جوارهما مرهف‪� ،‬ألقى ال�سالم على اجلار‬ ‫وهو ينظر �إلى تعابري وجه عبري ثم �أكمل �صعوده‪ .‬وبعد قليل ُ�س ِم َع ُ�صرا ٌخ‬ ‫وا�ستغاثة امر�أة‪ .‬هُ ِر َع بع�ض �سكان البناية �إلى م�صدر ال�صوت‪� .‬صرخ‬ ‫�أحمد من الداخل‪� :‬أمي‪ ..‬عائ�شة‪� .‬أجيبوين‪.‬‬ ‫نحن هنا ماذا تريد؟‬‫ماذا هنالك‪� ،‬إنها عبري ت�صرخ‪ .‬ف�أجابته الأم مطمئنة‪ :‬عبري‬‫ذهبت منذ ن�صف �ساعة فقاطعها مرهف‪ :‬رمبا هي‪.‬‬ ‫‪161‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫كيف ذلك؟‬‫لقد �شاهدتها مع زوجها ال�سابق على الدرج كان يبدو عليها‬‫االرتباك و‪. .‬‬ ‫وماذا؟‬‫و‪ . .‬وك�أنها تريد �أن ت�ستغيث ب�أحد‪.‬‬‫وملاذا مل ت�ساعدها؟ �أنكرت عليه عائ�شة‪.‬‬‫مل �أ�ستطع �أن �أت َّدخل بينهما‪ ،‬خ�صو�ص ًا و�أنني ما �سمعت هذا‬‫منها بل قر�أته يف وجهها‪.‬‬ ‫تناولت الأم معطفها وخرجت فلحقتها عائ�شة ومرهف‪ .‬دنت‬ ‫الأم من الزوج‪ .‬وقالت له‪ :‬ابتعد عنها‪� ،‬إنها الآن حرة ال يربطها �شيء‬ ‫معك‪.‬‬ ‫ال تتجاوزي حدودك يا �أم �أحمد‪ ،‬و�إ َّال‪ .‬وقبل �أن يكمل قاطعه‬‫�صوت عبري وهي ت�صرخ بهلع‪:‬‬ ‫�أين ال�صغرية؟ ثم راحت تتلفت حولها‪.‬‬‫معك؟ �س�ألتها �أم �أحمد‪.‬‬ ‫�أمل تكن ِ‬‫نعم كانت‪ ،‬ولكنه عندما ا�ستوقفني ومنعني من النـزول �أنزلت‬‫‪162‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ال�صغرية �إلى الأر�ض قلي ًال‪..‬بعدها دخلت معه يف معركة كالمية حتى‬ ‫ارتفع �صوتنا‪ ،‬وو�صلت ا�ستغاثتي لل�سكان فلم �أعد �أ�شعر مبن حويل‪.‬‬ ‫�صاح �أحد اجلريان‪:‬‬ ‫لقد ر�أيتها تنـزل الدرج‪..‬‬‫�أين؟ �صرخت �أمها‪..‬‬‫ال �أدري‪ ،‬كانت هناك‪ . .‬و�أ�شار �إلى �أ�سفل الدرج‪ .‬لكنَّ �أحد‬‫املوجودين نفى ما جاء به الأول‪.‬قال‪ :‬بل ر�أيتها ت�صعد الدرج!‬ ‫يا الهي لقد �ضاعت ابنتي‪ .‬لقد �ضاعت‪.‬‬‫هوين عليك‪� ،‬أين �ستذهب‪ .‬ال ب ّد �أنها قريبة من هنا‪ .‬ثم �أ�شارت‬‫�أم �أحمد ملرهف وعائ�شة لل�شروع يف البحث عنها‪ ،‬وكذا فعل ُك ُّل من كان‬ ‫واقف ًا‪ .‬يف حني جل�ست عبري على الدرج تتو�سل وتت�ضرع هلل �أن يحمي‬ ‫لها ابنتها و�أن يجدها الباحثون عنها‪ .‬راحوا يزرعون الأدراج �صعود ًا‬ ‫ونزو ًال‪..‬فت�شوا يف الأزقة املجاورة‪� ..‬س�ألوا عنها يف الدكاكني املجاورة‬ ‫حتى �أنهم �صعدوا �إلى �سطح البناية‪ ،‬وحينما مل تفلح م�ساعيهم بد�أ‬ ‫الي�أ�س واخلوف يت�سلل �إلى قلوبهم‪ ،‬كانت وجوههم ال�صفراء و�شفاههم‬ ‫اجلافة ُتنبئ �أمها مبخاوفهم وف�شلهم من دون �أن ينطقوا بحرف‬ ‫واحد‪ ..‬راحت �أمها ت�صرخ وتندب حظها‪ .‬فتجمع ال�سكان حولها‪.‬‬ ‫ويبدو �أن �أحمد �سمع �صوتها‪.‬فراح ينادي على �أهل البيت فلم يجبه �أحد‬ ‫فاجلميع يف اخلارج‪ .‬لكنَّ اخلوف والقلق د ّبا يف نف�سه ومت َّكنا من عقله‪،‬‬ ‫�شم‬ ‫فما عاد يخطر على ف�ؤاده �إال �صور وم�شاهد تنبئ باخلطر‪ .‬فج�أ ًة ّ‬ ‫‪163‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫رائحة حريق‪ .‬يف البداية مل يعب�أ بها‪ .‬لكنها ملَّا قويت وت�سللت �إلى غرفته‬ ‫�أدرك امل�أزق الذي وقع فيه‪ ،‬وراح ي�صرخ فلم يجبه �أحد‪ ،‬فنـزل من‬ ‫الفرا�ش وزحف على الأر�ض حتى و�صل �إلى كر�سيه القابع يف الزاوية‪.‬‬ ‫حاول �صعوده مرار ًا ويف كل مرة كان يف�شل وي�سقط �أر�ض ًا‪� .‬أخري ًا‪..‬‬ ‫زحف �صوب الباب‪ ،‬ارتقى بجذعه حتى ا�ستطاع فتحه ثم خرج �إلى‬ ‫ال�صالون‪ .‬نظر �إلى باب الدار فوجده مغلق ًا‪ ،‬ثم اجته بنظره �إلى الغرفة‬ ‫ال�صغرية فر�أى ُ�س ُحب ًا من الدخان الرمادي تخرج من �شقوق بابها‪ .‬وملَّا‬ ‫هم باالجتاه �صوب الباب اخلارجي ِليف َّر بنف�سه �سمع بكاء �صغرية يف‬ ‫ّ‬ ‫الداخل‪� .‬أ�صغى لل�صوت �أكرث ثم �صاح بده�شة‪:‬‬ ‫�إنه �صوتها‪� .‬إنها ابنة عبري‪ ..‬ثم �صار يدور يف مكانه‪ .‬و�أ�صبح‬‫وجهه كمنظفي املداخن ‪..‬يف حني تهتَّك جزء من بنطاله وهو يزحف‬ ‫على الأر�ض بحث ًا عن م�صدر ال�صوت‪ ..‬كان كامل�صروع‪ ..‬كمن م�سته‬ ‫اجلن‪� ..‬أخري ًا ارمتى على الأر�ض من الإعياء‪ .‬كان �أهل البناية يف‬ ‫اخلارج يفت�شون يف ال�شوارع والأحياء املجاورة ومل يخطر ببالهم �شقة‬ ‫�أم �أحمد التي ترك �أوالدها الباب مفتوح ًا‪ .‬كانت ال�صغرية تبكي و�أحمد‬ ‫مرمي على الأر�ض يف و�سط ال�صالة‪ .‬وفج�أ ًة اختفى �صوت ال�صغرية‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ومل يعد ُي�س َمع �إال �سعال متقطع يدلل على و�ضع متدهور‪ .‬تن َّبه �أحمد‬ ‫�إلى باب الغرفة ال�صغرية‪ ،‬فزحف �إليه‪ ..‬ثم ارتقى ملقب�ضه بكل ما �أوتي‬ ‫مغمي عليها بني جمموعة من عيدان‬ ‫من قوة وفتحه و�إذ بال�صغرية ٌّ‬ ‫أطراف‬ ‫الكربيت ونار ت�ضطرم‪ .‬وهنا ح�صلت املعجزة‪ ،‬ود ّبت احلياة يف � ٍ‬ ‫ميتة‪ ..‬اتك�أ بيده على م�سند الكر�سي ثم ا�ستند على ركبتيه‪ .‬و�ضع قدمه‬ ‫اليمنى على الأر�ض وحاول النهو�ض لكنها يف البداية مل ُت ِع ْنهُ‪ .‬بعدها‬ ‫‪164‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫و�ضع يديه على امل�سند ونه�ض بقوة خارقة‪ .‬م�شى الهوينى �إلى حيث‬ ‫ترقد ال�صغرية‪ .‬حملها على يديه‪ ،‬وخرج بها �إلى ال�صالون‪ .‬فج�أ ًة �شعر‬ ‫بدوار يف ر�أ�سه‪ ،‬فو�ضع الطفلة على الأر�ض وارمتى مغ�ش ّي ًا عليه‪ .‬عندما‬ ‫�أفاق وجد نف�سه حماط ًا ب�أهله نظر فيمن حوله ف�شاهد حامد ًا‪ ،‬وعمه‬ ‫م�صطفى ‪..‬وعبري ًا‪� ..‬أعاد ر�أ�سه للو�سادة وهو يتمتم‪:‬‬ ‫�أنقذوا ال�صغرية‪ ..‬و�ضعت �أمه يدها على جبينه وقالت بثقة‪:‬‬‫لقد �أنقذناها‪ ..‬اطم�أن‪.‬‬‫قال والدموع تت�سلل من �أجفانه املطبقة‪ :‬هل فعلتم ذلك؟‬‫�أجل‪� ..‬أجابت عبري‪ ..‬فابت�سم ابت�سامة را�ضية ومتتم‪ :‬احلمد‬‫هلل‪ ،‬احلمد هلل‪ ..‬ثم عاد للنوم جمدد ًا‪.‬‬

‫‪165‬‬



‫الف�صل ال�ساد�س‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ها قد تعافى �أحمد من العجز وتخل�ص من كر�سيه املتحرك ومن‬ ‫�إعاقته احلركية‪ ،‬و�أ�صبح مب�سوط ال�سرائر با�سم الثغر‪ ..‬على جبينه‬ ‫تقر�أ الت�صميم ويف عينيه يطالعك بريقها بحياة ال تن�ضب وعزمية ال‬ ‫تخور‪ .‬ذلك هو �أحمد بعد �أن �أكرمه اهلل و�أجزل �إليه العطاء ف�صار‬ ‫العب ُد �شاكر ًا لربه واثق ًا برحمته‪ .‬و�صارت النف�س متعلقة بتلك الطفلة‬ ‫الربيئة‪ ..‬والتي �شاءت الأقدار �أن تكون البل�سم وال�شفاء‪�( .‬أيا ليت‬ ‫رحمتك يا ربي ت�سع ُك َّل عاجز وم�سكني كما و�سعتني وغمرتني بلطائفها)‬ ‫كان هكذا يت�ضرع �إلى ربه وهو يتدرب على ال�سري من جديد مب�ساعدة‬ ‫الأ�صدقاء واملقربني �إليه حتى �أ�صبح قادر ًا على ال�سري‪ْ .‬مل تكن �سعادته‬ ‫وهو ي�سري لأول مرة وحده تقل عن �سعادة طفل حدث معه ال�شيء نف�سه‪.‬‬ ‫وذات م�ساء زاره عمه م�صطفى فجل�سا على ال�شرفة‪ ،‬قال له‬ ‫عمه وهو يحت�سي ال�شاي‪:‬‬ ‫�أما �آن لك �أن ت�صطلح مع حامد‪ ..‬ويحك �أن�سيت من هو؟‬‫ال يا عماه ما ن�سيت يوم ًا قدره و�صنيعه معي‪..‬‬‫�إذ ًا؟‬‫ال �شيء‪ ،‬ال �شيء‪..‬‬‫كيف هذا يا ولدي؟‬‫قلت ال �شيء‪� ..‬أرجوك‪.‬‬‫‪168‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫و�ضع الك�أ�س ال�شاي وهو يقول‪:‬‬ ‫باهلل عليك �أن تقول‪ .‬ثم �أردف‪ :‬يا �أحمد ما بك‪� ..‬أال ت�شعر‬‫مبعاناة �صديقك‪ ..‬لقد �أ�شعرته �أن به �شيئ ًا قبيح ًا جعلك تنفر منه‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬معاذ اهلل‪.‬‬‫�إذ ًا ماذا؟‬‫قلت ال �شيء‪.‬‬‫بني ‪ ..‬لقد بد�أنا مع ًا م�سرية طيبة يف م�ساعدة الفقراء‬ ‫يا ّ‬‫وامل�ساكني ويف دعم املبدعني‪� ،‬أفما �آن لك وقد عافاك اهلل من �أعظم‬ ‫بلية ابتليت بها �أن ترجع �إلينا ملزاولة عملك معنا جنب ًا �إلى جنب لإكمال‬ ‫الطريق؟ ه ّز �أحمد ر�أ�سه وهو يتمتم‪� :‬إن �شاء اهلل‪.‬‬ ‫متى؟‬‫قريب ًا يا عماه‪� ،‬صدقني قريب ًا‪.‬‬‫وذات �صباح من �صباحات الربيع‪ ،‬ومع قرع الندى لأجرا�س‬ ‫ال�صباح‪� .‬صنع �أحمد قهوة ال�صباح له ولأمه وجل�سا على ال�شرفة‬ ‫يحت�سيان القهوة‪ .‬نظرت �إليه �أمه وقالت‪:‬‬ ‫م�ضى وقت طويل على �آخر مرة جل�سنا فيها هنا‪.‬‬‫‪169‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�أجل‪ .‬ثم راح ينظر يف الأفق‪ .‬قال هام�س ًا‪:‬‬‫ما ر�أيك بعبري؟‬‫عبري؟‬‫َ‬ ‫أيي؟ارتبك بع�ض ال�شيء‬ ‫�أجل‪� .‬صمتت ثم قالت‪ :‬وملاذا تطلب ر�‬‫لكنه متالك نف�سه وقال‪:‬‬ ‫ب�صراحة‪ ،‬ر�أيك يهمني‪ ..‬حدجته �أمه ثم ابت�سمت وقالت‪:‬‬‫�أتريد �أن‪ ..‬فقاطعها‬‫�أجل‪ .‬احت�ست باقي الفنجان وقالت‪:‬‬‫أنت الآن واحلمد هلل ما عاد �شي ٌء يعيقك عن‬ ‫ني � َ‬ ‫ولكن يا ُب ّ‬‫الزواج من �أي فتاة كانت‪ .‬فلماذا عبري بالذات؟ قطب جبينه وقال‪:‬‬ ‫ هل �صار �شفائي حاجز ًا؟ مل تدر �أمه ما جتيبه فظلت �صامته‪..‬‬‫التفت �أحمد �إلى �شحرور ّ‬ ‫حط على ال�شجرة ثم عاد بنظره �إلى �أمه‬ ‫و�أردف‪ :‬يا �أمي �أرجوك افهميني‪ ،‬لقد ع َّلمني عجزي �أال �أن�سى معروف‬ ‫�أحد‪ ..‬علمني �أنَّ الإن�سان لي�س بق�شوره و�إن كانت جميلة بل بروحه‬ ‫�أي�ض ًا‪ ..‬و�أنت تعلمني علم اليقني �أن عبري متلك روح ًا رائعة ف�ض ًال عن‬ ‫جمال �صورتها‪ .‬بقيت �أمه �صامتة فتابع‪ :‬لقد جعل اهلل على يد ابنتها‬ ‫�شفائي و�أنا �س�أذكر هذا �أبد ًا‪ ،‬لن �أن�ساه حتى لو ن�سيت نف�سي‪.‬‬ ‫‪170‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫وبينما هو كذلك‪ ..‬جاءه �صوت �أمه مفعم ًا بالب�شرى‪..‬قالت‪:‬‬ ‫�أحمد‪..‬‬‫فالتفت �إليها و�أجاب مبت�سم ًا را�ضي ًا‪:‬‬‫نعم يا �أمي‪..‬‬‫�أنا موافقة‪ .‬رجع بر�أ�سه للوراء كمن تلقى �صدمة‪ ..‬متتم‪:‬‬‫موافقة‪ .‬فج�أة ت�شكلت على ثغره ابت�سامة كزورق وجد َّ‬ ‫ال�شط‪ ..‬وتلألأت‬ ‫يف بلور عينيه َعبرَ اتٌ ك�أنها النجوم الزهر‪ ..‬ارمتى على �أمه‪� ،‬ض ّمها‪..‬‬ ‫قفز عالي ًا‪ ..‬رجع �إليها وقال‪:‬‬ ‫�أتقولني ال�صدق؟‬‫فابت�سمت ور َّدت‪:‬‬ ‫�أجل‪� ..‬أجل‪ .‬ثم �أردفت‪� :‬ألهذا احلد �أفرحتك العرو�س؟ بعدها‬‫تتمتم‪:‬‬ ‫�ضحكت وهي ُ‬ ‫لقد ذهب عقل ولدي‪ ..‬وبينما هي كذلك‪ ..‬دخلت عليهما‬‫عائ�شة وهي ت�س�أل‪:‬‬ ‫ماذا هنالك؟‬‫ال �شيء‪� ..‬أجابتها �أمها‪..‬‬‫‪171‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫كيف هذا‪ ..‬وقد �سمعت �أ�صوات ًا و�ضحك ًا و؟‬‫�إنه �أحمد‪..‬‬‫ما به؟‬‫ال �شيء‪ ،‬ر ّد عليها �أحمد‪ ..‬و�أردف‪ :‬كل ما يف الأمر �أن �أمك‬‫وافقت‪.‬‬ ‫وافقت على ماذا؟‬‫على زواجه من عبري‪� ..‬أكملت �أمه عنه‪.‬‬‫قالت‪:‬‬

‫‪-‬عبري! �صرخت عائ�شة‪..‬ثم نظرت �إليه ورمقته بنظرة حادة‪..‬‬

‫لك � َ‬ ‫منذ البداية و�أنا �أقول َ‬‫عجب بها‪ ،‬فكنت تغ�ضب وتقول‪:‬‬ ‫أنك ُم ٌ‬ ‫ال‪..‬ال‪� ..‬أنت واهمة!‪.‬قاطعها‪ :‬كفاك �شطط ًا‪.‬‬ ‫أنت‪ .‬قالتها ثم غادرته مع �أمها لق�ضاء بع�ض‬ ‫�أنا يا �أحمد‪� ..‬أم � َ‬‫احلوائج‪.‬‬ ‫ذهبت عائ�شة لعبري َّ‬ ‫لتزف لها اخلرب‪ .‬كان �أحمد ينتظرها على‬ ‫�أح َّر من اجلمر‪..‬يف حني �صعدت �أمه �إلى احلاجة �أم علي املري�ضة‬ ‫جد ًا‪ ..‬وبينما هو يزرع املكان ذهاب ًا و�إياب ًا دخلت عائ�شة ومل تنتظره‬ ‫حتى ي�س�ألها �إذ قالت فور ًا‪ :‬لقد وافقت‪ .‬وما كادت تقولها حتى قفز من‬ ‫‪172‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫الفرح‪ ..‬لكنها �أردفت‪:‬‬ ‫انتظر حتى �أنهي كالمي‪..‬توقف وقال‪� :‬أمل تنته بعد؟‬‫ال‪ ،‬لي�س بعد‪ ..‬ثم �أردفت‪ ..:‬وافقت ولكنْ ‪..‬‬‫ولكن ماذا؟ارمتت على ( الكنبة )‪ ..‬رفعت ر�أ�سها �إليه وتابعت‪:‬‬‫‪..‬امل�شكلة يف الطفلة!‬‫أنت تعلمني ما تعني يل هذه‬ ‫الطفلة‪!..‬ر َّدد منده�ش ًا ثم تابع‪ِ � :‬‬‫الطفلة‪..‬فكيف تكون هي امل�شكلة؟‬ ‫مل تفهم ق�صدي‪..‬‬‫ماذا تعنني؟‬‫�أعني �أنها تق�صد والد الطفلة‪ ..‬فهي �إذا تزوجت ذهبت ُعهدتُ‬‫الطفلة �إلى �أبيها‪..‬ووالدها حلف �إذا عادت �إليه ابنته �أن يزوجها قبل �أن‬ ‫تبلغ الـ ‪ 18‬من عمرها‪.‬‬ ‫وملاذا؟‬‫كيد ًا ب�أمها‪.‬‬‫يا لغبائه‪ ..‬ما ذنب هذه الطفلة‪..‬ثم تابع‪:‬‬‫‪173‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫وما احلل؟‬‫احلل �أال تتزوجا حتى تبلغ الطفلة ال�سن القانوين الذي يتيح‬‫لها االختيار‪.‬‬ ‫�أمعقول هذا‪� ..‬سن�صرب �أحد ع�شر عام ًا حتى نتزوج‪� .‬صمت‬‫حلظة ثم �أردف‪:‬‬ ‫�س�أكون حينها يف الأربعني وهي قد �شارفت على ذلك �أي�ض ًا‪ُّ � .‬أي‬‫حل هذا؟‬ ‫أنت ُح ٌّر من االرتباط‬ ‫وافقت كان به‪ ،‬و�إ َّال ف� َ‬ ‫�إنه احلل الوحيد ف�إن َ‬‫لك‪َ � :‬‬ ‫أقول َ‬ ‫بها وبظروفها‪ ،‬وقد طلبت مني �أن � َ‬ ‫إنك ح ٌّر يف اختيار الأن�سب‬ ‫َ‬ ‫تعذرك‪.‬‬ ‫لك‪ ،‬ولو �أنها ترى �أنّ احلل الثاين هو الأن�سب ول�سوف‬ ‫نه�ض متجه ًا �إلى غرفته وهو يقول‪ :‬دعيني �أفكر و�س�أخربك بردي‬ ‫الحق ًا‪ .‬وقبل �أن يدخل باب غرفته �س�أل عائ�شة‪:‬‬ ‫هل �ستنام �أمك عند احلاجة �أم علي؟‬‫رمبا‪�..‬إنها متعبة جد ًا‪ ،‬ورمبا كانت حتت�ضر‪.‬‬‫يا �إلهي‪� ،‬ألهذا احلد حالتها متدهورة‪ ،‬وال ي�س�أل عنها �أوالدها؟‬‫زيتون‪:‬‬ ‫‪174‬‬

‫�إنها ّ‬ ‫تتغ�ضب عليهم �صباح م�ساء ثم �أردفت وهي تتناول حبة‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫من يت�صور �أنَّ نهاية هذه ال�صاحلة تكون هكذا؟‬‫�إنّ اهلل �إذا �أحب عبد ًا ابتاله‪.‬‬‫يف تلك الليلة وحينما �شرع الفجر ي�شقّ �أقني ًة يف الليل احلالك‬ ‫ليف�سح ل�صاحبة اجلاللة (ال�شم�س) طريق ًا ت�سري من خالله ب�ضوئها‬ ‫املعهود‪ُ . .‬ق ِر َع الباب‪ .‬يف البداية كان هناك نق ٌر عليه ّثم �أ�صبح اجلر�س‬ ‫يرن‪ .‬هرع �أحمد وعائ�شة �إلى ال�صالون‪ .‬نظرا �أحدهما يف الآخر ثم‬ ‫اجته �أحمد والى الباب‪ .‬نظر فلم ير �أحد ًا ب�سبب الظالم‪.‬‬ ‫قال‪ :‬من الطارق؟‬ ‫�أنا �أمك‪ ،‬هيا افتح الباب‪ .‬كانت �شاحبة الوجه‪ ،‬يف عينيها حزن‬‫عميق‪ .‬هرعت �إليها عائ�شة‪ ،‬و�س�ألها �أحمد بخوف‪ :‬ما اخلطب يا �أمي؟‬ ‫نظرت �إليه وقالت‪ :‬لقد ماتت احلاجة �أم علي‪ .‬ثم راحت تبكي‬ ‫بحرقة‪.‬‬ ‫ماتت؟ �صاح �أحمد‪ .‬وكذلك فعلت عائ�شة‪.‬‬‫�أجل ماتت‪ ..‬ماتت‪ .‬وهي َّ‬‫تتغ�ضب على �أوالدها الذين ر َّبتهم‬ ‫و�أح�سنت ترتيبهم‪ ..‬فقاطعوها وتخ ّلوا عنها يف �أ�صعب �أحوالها و�أم ِّر‬ ‫�أوقات حياتها‪.‬‬ ‫ه ِّوين عليك يا �أمي‪ ..‬هكذا �صار جمتمعنا نحن �أ�صحاب القيم‬‫واحل�ضارة‪.‬‬ ‫‪175‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ال �أ�ستطيع‪� .‬أنا ال �أبكيها لأنها ماتت فاملوت حق علينا‪ ..‬ولكنني‬‫�أبكيها لأنها ماتت وقلبها يحرتق غيظ ًا وقهر ًا‪ ،‬وعيناها تت�شهى ر�ؤية ولو‬ ‫طيف �أحد �أبنائها‪.‬‬ ‫والآن ما العمل يا �أمي؟ كفكفت الأم دموعها‪� ،‬أغلقت الباب‬‫ثم دخلت �إلى ال�صالة‪ ،‬دنا �أحمد من الهاتف وقال‪ :‬هل �أت�صل ب�أحد‬ ‫�أبنائها؟‬ ‫ال‪ ،‬لقد �أو�صتني قبل وفاتها �أال �أُخرب �أحد ًا منهم‪ ،‬و�أال يخرج‬‫�أحد منهم يف جنازتها‪.‬‬ ‫�إذ ًا ما العمل؟‬‫ ات�صل بعمك م�صطفى‪ ..‬و�أطلب منه �أخذ �إجازة مل�ساعدتنا يف‬‫�ش�ؤون اجلنازة والدفن‪.‬‬ ‫فكر ٌة معقولة‪� ..‬أجابها وهو ِيه ُّم باخلروج‪ .‬يف حني ظلت عائ�شة‬‫�إلى جوارها ريثما ينبلج ال�صباح‪.‬‬ ‫م�ضى على وفاة احلاجة �أم علي ما يقارب ال�شهر‪ .‬وبينما كان‬ ‫�أفراد العائلة يحت�سون القهوة على ال�شرفة قرع العم م�صطفى الباب‬ ‫جت عليكم قبل �أن �أذهب للجريدة لأ�شرب من يد‬ ‫ودخل ّثم قال‪ :‬ع َّر ُ‬ ‫عائ�شة فنجان ًا من القهوة‪ .‬ابت�سمت الأخرية وقالت‪:‬‬ ‫�سيكون عندك خالل دقائق ثم �أ�سرعت لتح�ضريه‪ .‬خالل ذلك‬‫‪176‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫نظر العم م�صطفى �إلى �أحمد وقال‪ :‬جئت خ�صي�ص ًا من �أجلك‪.‬‬ ‫من �أجلي �أنا؟ ت�ساءل �أحمد م�ستغرب ًا‪.‬‬‫�أجل‪ .‬ثم �أردف معاتب ًا‪� :‬أما �آن لك �أن ت�صطلح مع حامد‪ .‬يا بن‬‫�أخي ت�صرفك هذا خمالف ملا هو معروف عنك من �أخالق وذكاء‪ ،‬ف�أين‬ ‫كل ذلك من فعلتك هذه؟‬ ‫ني‪ .‬لقد �آن لك �أن ت�صاحله‪ ،‬فهذا ال يجوز‪ّ .‬ثم تابعت‪:‬‬ ‫فع ًال يا ُب َّ‬‫ال يجوز للم�ؤمن �أن يهجر امل�ؤمن فوق ثالث‪.‬‬ ‫�أنا مل �أهجره يا �أمي‪ ،‬فنحن نتحادث ولكننا مل نعد كما كنا‬‫�سابق ًا‪.‬‬ ‫و�إلى متى هذا يا بن �أخي؟‬‫نظر �أحمد �إلى عائ�شة التي عادت بفنجان القهوة وبينما كان‬ ‫العم يتناول الفنجان ويه ُّم بارت�شاف الر�شفة الأولى خاطبه �أحمد‪:‬‬ ‫ح�سن ًا يا عمي‪� .‬أخرب حامد �أن يزورين يف الغد متى �شاء‪.‬‬‫ويف م�ساء اليوم التايل ّ‬ ‫مت�شى حامد برفقة �أحمد على طريق‬ ‫(الربناوي)‪..‬‬ ‫وهناك انتقيا �شجرة ُمع َّمرة فجل�سا حتتها وهما ي�شرفان على‬ ‫مدينة حماة يف �أجواء �ساحرة‪� .‬سيطر ال�صمت يف البداية‪ ..‬ثم التفت‬ ‫‪177‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫حامد �إليه وقال‪:‬‬ ‫والآن‪ ،‬نحن وحدنا ف�أخربين �سبب مقاطعتك املفاج�أة يل‪.‬‬‫ال �أدري ما �أقول لك‪� .‬أو ًال �أريد �أن تعلم �أن ما �أبعدين عنك لي�س‬‫�سوء ًا بدر منك ف�أنت ال تزال يف نظري كما �أنت‪.‬‬ ‫تناول حامد عود ًا ياب�س ًا وراح ينب�ش الرتاب وهو يقول‪:‬‬ ‫�إن كان الأمر كذلك فما الذي فعلته ومل تر�ضه مني حتى‬‫جافيتني هكذا؟‬ ‫اتك�أ �أحمد �إلى جذع �شجرة و قال‪:‬‬ ‫يف احلقيقة هناك ثالثة �أ�سباب لهذه املقاطعة‪ ،‬ال�سبب الأول‬‫منها هو ت�سرعك يف القرارات وخلطك بني العاطفة والعقل‪..‬‬ ‫وكيف هذا؟‬‫�أتذ ُكر يوم جئتنا بر�سالة من �إحدى الفتيات وقد غ َّرر بها‬‫�أحدهم و‪. .‬‬ ‫قاطعه‪� :‬أذكر‪�..‬أذكر‪� .‬إنها �سماح خطيبتي!‬‫خطيبتك؟‬‫�أترى كم �أنت مت�سرع يا حامد؟‬‫‪178‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ملاذا؟ لأنني مددت يد العون لفتاة ت�ستغيث‪ ،‬فرميت لها حبل‬‫الإنقاذ و�أخرجتها من �إع�صار كاد يفتك بها؟‬ ‫ولكنك ال تعرفها‪ ..‬رمبا كانت كاذبة‪� ،‬أو رمبا عادت للخطيئة‬‫جمدد ًا �أو‪ . .‬قاطعه حامد‪:‬‬ ‫يكفي‪ .‬هذه حجج واهية‪...‬ف�أنا قد التقيت بها و�أدركت �صدقها‪،‬‬‫حتى انتهى بي املطاف خلطبتها‪ ،‬ولكم كانت فرحتها عظيمة حينما‬ ‫�أعلنت لها ذلك‪� .‬صدقني كانت �أ�سعد من رجل ُل َّف حول عنقه حبل‬ ‫امل�شنقة ويف اللحظة التي �س ُين َّفذ فيها احلكم جاءه العفو‪� .‬إنها اليوم‬ ‫فتاة طاهرة ووقورة‪..‬بل ولقد ذهبت �أكرث من ذلك‪� .‬أتعلم ماذا قررت؟‬ ‫قررت االن�ضمام �إلينا‪ ،‬وم�ساعدتنا يف ن�شل من وقعن مثلها يف الربكة‬ ‫ذاتها‪ ..‬فالبع�ض منهن �ضحايا‪ ،‬وما �أكرثهنّ يف هذا العامل‪.‬‬ ‫�صمت �أحمد لبع�ض الوقت ثم قال‪ :‬ح�سن ًا يف هذه غلبتني‪ ،‬ثم‬ ‫تابع‪ :‬و�أما ال�سبب الثاين فعدم احرتامك لروح �صباح‪� .‬صباح التي‬ ‫�أخل�صت لك �أميا �إخال�ص‪ ،‬و�أحبتك �أميا حب �أفهكذا جزاء الإح�سان‬ ‫يا �أخي؟ �أن ت�ستبدل بها واحدة �أخرى ومل مي�ض على موتها �إال القليل؟‬ ‫مال وجه حامد للحزن العميق �أم�سك بعود خ�شب ياب�س من طرفيه‬ ‫ثم ك�سره وقال‪� :‬إنها هنا وقد �أ�شار لقلبه و�أردف‪ :‬ما احلب �إال للحبيب‬ ‫تحرك‬ ‫القلب يف حبه َك َم ِثل �صغري احليوان ف�أول خملوق ُم ٍ‬ ‫الأول‪َ .‬م َث ُل ِ‬ ‫تراه عيناه هو �أمه وكذا حال القلب‪..‬‬ ‫نظر حامد قلي ًال �إلى م�شهد تداخل ال�ضوء مع قبة الفراغ املهيمن‬ ‫‪179‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫على �أجواء املدينة‪ ،‬وقال‪� :‬س�أبوح اليوم َ‬ ‫لك ب�سر‪ُ :‬قبيل وفاة املرحومة‪،‬‬ ‫رفعت ر�أ�سها �إلى �صدري فنظرت �إيل والدموع‬ ‫وبينما هي حتت�ضر ُ‬ ‫تنهمر من عينيها وقالت‪:‬‬ ‫ابتلعت ريقها ثم تابعت‪:‬‬ ‫�أرجوك افعل ما �س�أو�صيك به الآن‪.‬‬‫ْ‬ ‫تزوج يا حامد‪ .‬تزوج من �أول فتاة تعجبك خ�صالها ولو لقيت مثل هذه‬ ‫الفتاة يف الغد‪ .‬ثم ابت�سمت والدموع تلثم �شفاهها ومتتمت‪ :‬احلمد هلل‪.‬‬ ‫لقد �شاء ربي �أ َّال �أكون يف غدكم ذاك‪ ،‬بعدها �أ�سلمت روحها والب�سمة ما‬ ‫برحت ثغرها‪ .‬راح �أحمد يبكي بحرقة لدرجة غادر معها �صديقه َ‬ ‫بع�ض‬ ‫الوقت ثم عاد �إليه وقد جفت دموعه‪ ،‬ومن دون �أن يعود لذكر �أخته‬ ‫جمدد ًا‪ ..‬تابع‪ :‬و�أما ال�سبب الثالث فهو الأهم واملنطقي من بني تلك‬ ‫الأ�سباب‪ .‬ا�ضطجع حامد على جنبه الأمين و�أ�سند ر�أ�سه على باطن‬ ‫كفه الأمين ثم قال‪:‬‬ ‫ح�سن ًا‪ُ .‬ك َّلي �آذا ٌن �صاغية‪ ..‬اتك�أ �أحمد جم ّدد ًا �إلى جذع ال�شجرة‬‫قال وهو يرنو بب�صره �إلى الأفق‪� :‬س�أطرح عليك الآتي‪.‬‬ ‫تف�ضل‪.‬‬‫�أت�ؤمن بالكذب؟‬‫ال‪..‬‬‫وبجدال الأحمق واجلاهل؟‬‫‪180‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫بالت�أكيد ال‪..‬‬‫ح�سن ًا‪� .‬أت�ؤمن بالرثثرة؟‬‫�إنني �أمقتها جد ًا‪..‬‬‫�سم ما �أجبتني عليه �سابق ًا �أنه قناعاتٌ �شخ�صية‬ ‫ح�سن ًا‪ ..‬دعنا ُن ِّ‬‫ومبادئ اتخذتها ُم ُث ًال‪.‬‬ ‫ليكن هذا‪ .‬ما اخلطب يف ذلك؟‬‫كذبت مث ًال �أو جادلت �أحمق ًا‬ ‫�س�آتيك بالكالم‪ .‬الآن ت�صور �أنك َ‬‫َ‬ ‫موقفك من نف�سك؟‬ ‫�أو �صرت ثرثار ًا ولو �ساع ًة‪ ..‬فما‬ ‫�إن حدث ما تقول ف�إنني لن �أ�ساحمها �أبد ًا‪ ..‬بل رمبا �س�أقرف‬‫منها و�أكره اليوم الذي ولدت فيه‪.‬‬ ‫جيد‪ .‬هذا ما �أريده‪ ..‬هنا قام حامد‪� ،‬ص ّلح جل�سته ونظر �إلى‬‫�أحمد وقال باهتمام �شديد‪ّ :‬‬ ‫و�ضح يل ب�سرعة �أرجوك‪ .‬ولأول مرة منذ‬ ‫عاد ابت�سم �أحمد ثم قال‪ :‬يا �صديقي لقد جتاوزنا يف �صداقتنا الكثري‬ ‫من احلواجز التي تف�صل بني �شخ�ص و�آخر حتى �صارت َن ْف ُ�س َك جارة‬ ‫نف�سي‪ ،‬ف�صرتُ �أراين من خاللك‪ ..‬وغدوتُ �أراق ُب َك يف كل حركاتك‬ ‫و�سكناتك‪..‬ف�إن ارتكبت نف�سنا ما ال نر�ضاه مقتناها ونفرنا منها‪..‬وهذا‬ ‫ما حدث يل متام ًا‪ ،‬لقد رحت �أراقبك وا�ستنكر بع�ض ال�صغائر التي ال‬ ‫�أ�سامح نف�سي عليها فرتاكمت حتى �صارت جب ًال جاثم ًا على �صدري‬ ‫‪181‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫فتعبت من حمله وقررت االبتعاد عنك كي �أر ّد نف�سي �إلى مر�آة ذاتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فكان تهورك �آنئذ �أو قل كما ر�أيته �أنا هو اليد التي و َّقعت على ذلك‬ ‫القرار‪ .‬ثم تابع فقال‪:‬‬ ‫�إنّ �شدة القرب و�شدة البعد �س ّيان‪ ..‬وهما ي�ؤديان �إلى االفرتاق‪،‬‬‫هذا من ا�ستحالة التفاهم واالن�سجام وذاك من �شدة التفاهم والت�آلف‬ ‫حتى درجة التماهي‪..‬‬ ‫ابت�سم حامد يف وجه �صديقه �أحمد وقد اتفقا على موا�صلة‬ ‫�صداقتهما و�شراكتهما يف الأعمال االجتماعية اخلريية‪.‬‬

‫‪182‬‬


‫الف�صل ال�سابع‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫قفزت اجلمعية قفزات وا�سعة و�صار لها ا�سمها وم�ؤيدوها‪ .‬لقد‬ ‫ا�ستطاعت حتى الآن م�ساعدة الكثري من الأ�سر الفقرية‪ ..‬كما متكنت‬ ‫من ت�سليط ال�ضوء على بع�ض املغمورين املبدعني ال�ساقطني يف �شباك‬ ‫الإحباط والي�أ�س‪ .‬بيد �أنها مل تتوقف عند هذا احل ّد بل جتاوزته �إلى‬ ‫تنفيذ فكرة جديدة ملعت يف ذهن �أحمد وا�ستوحاها من الع�صور‬ ‫يخت�ص‬ ‫الذهبية للأمة‪..‬تلك الفكرة تتمثل يف �إن�شاء فرع من اجلمعية‬ ‫ّ‬ ‫مب�ساعدة ال�شبان املقدمني على الزواج‪ ..‬لكنهم وب�سبب �إقبال الكثريين‬ ‫على طلب العون و�ضعت اجلمعية �شروط ًا ملن ي�ستحق احل�صول على‬ ‫تلك امل�ساعدة املالية حتى ال يت�سلل بع�ض الطامعني في�سلب احلق من‬ ‫املحتاجني‪ .‬وبينما هم يكتبون قوائم ب�أ�سماء املر�شحني من ال�شبان �إذا‬ ‫ب�شاب طويل القامة‪ّ ،‬‬ ‫رث الثياب يدخل عليهم‪� ..‬ألقى ال�سالم ثم �أخذ‬ ‫يخربهم عن عجزه عن العفة‪ ،‬قائ ًال‪� :‬إنني �أنفق �أجرتي اليومية على‬ ‫اخلمر والزنى‪ .‬قاطعه العم م�صطفى وقد نه�ض من مكانه م�ستنكر ًا‪:‬‬ ‫وملاذا تطلب م�ساعدتنا ما دمت تتلذذ باحلرام ك ّل ليلة؟ هيا اذهب من‬ ‫هم ال�شاب بالنهو�ض لكنّ حامد �أ�شار �إليه �أن ال يتحرك من‬ ‫حيث �أتيت‪ّ .‬‬ ‫مكانه ثم التفت للعم م�صطفى وقال‪� :‬إن ال�شاب ي�صارحنا ب�أ�شياء تدل‬ ‫على �صدقه مع نف�سه ومع الآخرين؟‬ ‫�أت�سمي هذا �صدق ًا مع النف�س؟ هنا تدخل �أحمد وقال‪:‬‬‫دعنا ن�سمعه للنهاية يا عماه ثم بعدها نتباحث يف الأمر‪ .‬ثم‬‫�أوم�أ لل�شاب باملتابعة فقال‪ :‬ال �أخفيكم �شهوتي للن�ساء وتعلقي باخلمرة‬ ‫على الرغم من �أنني �أ�ؤمن باهلل و�أعلم �أنّ الزنى فاح�شة و�أعي �أن‬ ‫اخلمرة �ضارة‪ ..‬ولكنني‪.‬‬ ‫‪184‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫ ‪-‬لكنك ماذا �س�أله حامد؟‬ ‫ ‪ -‬لكنني قرفت من معا�شرة ن�ساء تعا�شر غريي‪ ،‬لقد مللت ك ّل‬ ‫هذا وعندما �سمعت بجمعيتكم هرعت �إليكم لأطلب يد امل�ساعدة‪..‬‬ ‫_ نظر الثالثة بع�ضهم يف بع�ض‪ .‬ثم قال �أحدهم‪:‬‬ ‫ح�سن ًا �أيها ال�شاب‪� ،‬سن�ساعدك قدر الإمكان ولن ندع �شاب ًا‬‫مثلك يريد التوبة مما تلطخت به روحه �أن يغرق يف الوحل من جديد‪.‬‬ ‫نه�ض ال�شاب مبت�سم ًا‪ ،‬وقد بدت عليه عالمات الغبطة وال�سرور‪.‬‬

‫و�ضعت عائ�شة القهوة على الطاولة ثم جل�ست وهي ت�شري بيدها‬ ‫�إلى الفناجني وتقول‪ :‬احت�سوها قبل �أن تربد وبد�أت بنف�سها فتناولت‬ ‫فنجانها‪ .‬تناول حامد فنجانه‪ .‬نظر يف عائ�شة وقال‪:‬‬ ‫�سمعنا �أنك �ستعودين لزوجك؟ ابت�سمت و�أجابت على ا�ستحياء‪:‬‬‫�أجل‪� .‬أجل‪..‬‬‫و�أخري ًا قرر ح�ضرته ا�سرتجاعك؟‬‫لقد �أدرك خط�أه واعرتف �أنني على �صواب‪.‬‬‫هنا قال �أحمد لها‪� :‬سنفتقدك كثري ًا‪ ..‬فاغرورقت عيون الأم‬ ‫‪185‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫بالدموع ومتتمت‪:‬‬ ‫�أجل‪..‬‬‫بعدها التفت �أحمد لأمه وقال‪:‬‬ ‫تذكرين ق�صة هرب مي�سون مع �أحد زمالئها يف املعهد؟‬‫هزت �أمه ر�أ�سها ومتتمت‪� :‬أجل �أذكر‪ .‬فتابع‪ :‬وكيف �أن �أهلها‬ ‫باتوا منك�سرين‪ ،‬مهطعي ر�ؤو�سهم‪ ،‬فقاطعته �أمه‪:‬‬ ‫نعم‪� ،‬ساعدهم اهلل‪ .‬حتى �إن �أ ّم الفتاة �أ�صيبت مبر�ض نف�سي‬‫وهي حتى ال�ساعة ال ت�صدق �أن ابنتها فعلت ذلك‪.‬‬ ‫قلبت عائ�شة فنجانها ثم رفعته و�أخذت تت�أمله وهي تقول‪:‬‬ ‫من كان ي�صدق يوم ًا �أن مي�سون تلك الفتاة اخلجولة‪ ،‬املحافظة‬ ‫تفعل ذلك؟‬ ‫تابع �أحمد حديثه قائ ًال‪ :‬اليوم التقيت بخطيب و�إمام م�سجدنا‬ ‫و�سردت له ق�صة تلك الفتاة دون ذكر �أ�سمها ف�أخذ يت�أ�سف وهو يتمتم‪:‬‬ ‫�أر�أيت �إلى الن�ساء ال يجلنب �إال البالء‪.‬‬ ‫فقلت له‪ :‬رويدك يا �شيخنا‪ .‬ملاذا ُنح ّمل الن�ساء دوم ًا امل�س�ؤولية‬ ‫دون الرجال؟‬ ‫‪186‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫فحدجني وقال‪ :‬ومن بر�أيك امل�س�ؤول؟‬ ‫كلنا �شركاء يف امل�س�ؤولية‪.‬‬‫ماذا تق�صد؟‬‫�أق�صد �أننا ُنح ّمل يف حالتنا هذه مث ًال الفتاة كل امل�س�ؤولية‬ ‫ونتنا�سى م�س�ؤولية ال�شاب الذي حر�ضها �أي�ض ًا‪ .‬وكذلك نتنا�سى دور‬ ‫الأ�سرة اجلاهلة التي �أ�سدلت اخلمار على عقل الفتاة‪ ،‬قبل �أن ت�سدله‬ ‫على وجهها‪.‬‬ ‫كيف هذا؟ �س�ألني بح ّدة؟‬‫ف�أجبته‪� :‬إن فتياتنا كالدمى يفعلن ما ي�ؤمرن من دون �أن يحطن‬ ‫علم ًا بالأ�سباب واحلكمة‪ ،‬ولهذا ي�أتي �إميانهنّ ناق�ص ًا‪..‬مبتور ًا‪.‬‬ ‫فنه�ض و�صاح يف وجهي‪ :‬ويحك ثم �أ�شار ب�إ�صبعه املرجتفة وقال‪:‬‬ ‫�أنت و�أمثالك �سبب تخلفنا؟‬‫بل واهلل �أنتم يا �أن�صاف املتعلمني‪ .‬قاطعه حامد مت�سائ ًال‪:‬‬‫�أهكذا قلت له؟‬ ‫�أجل‪..‬‬‫وماذا �أجابك؟ �س�ألته عائ�شة‪.‬‬‫‪187‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫ظل �صامت ًا فتابعت قائ ًال‪� :‬إنكم تقلدون الكبار �إلى درجة تثري‬ ‫الغثيان‪ ،‬فقاطعني‪ :‬لقد جتاوزت حدودك‪ ..‬مل �أعب�أ بتهديده وتابعت‪:‬‬ ‫�أل�ستم كذلك؟ �ألي�ست عقولكم بيوت ًا مهجورة بدل �أن تكون‬‫حجرات م�ضيئة؟‬ ‫قاطعه حامد قائ ًال‪:‬‬ ‫لقد ق�سوت على الرجل فلي�س الأمر �إلى هذا احلد‪.‬‬‫بل هو كذلك‪ ..‬فال تدافع عنهم‪ .‬ثم تابع‪:‬‬‫يا رجل يتهمون غريهم �أنهم عقبة يف طريق التقدم وهم‬ ‫املتخلفون حق ًا ولكنهم ال ي�شعرون‪.‬‬ ‫�ألهذا احلدِّ �أنت م�ستاء منهم؟‬‫بل و�أكرث من ذلك‪� ..‬صمت حلظة ثم �أردف‪� :‬أنا �أعجب ممن‬‫يق�صي ك�أ�س ًا عن املاء وال�صابون‪ ،‬ممن مينع وجه ًا من االغت�سال ثم‬ ‫ي�أتي ويقول لك‪:‬‬ ‫انظر �إلى هذا الك�أ�س ما �أو�سخه �إنه بيت الداء‪ ،‬وت�أمل ذلك‬‫الوجه كم هو خامل وباعث للتكا�سل‪ .‬فرك حامد جبينه قائ ًال‪:‬‬ ‫ماذا تق�صد بال�ضبط؟‬‫‪188‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�أق�صد �أننا ن�شري �إلى املر�أة ب�أ�صابع االتهام ونتهمها بالتخريب‬‫ونحن �أول من خ ّربها‪.‬‬ ‫�أو�ضح �أكرث‪.‬‬‫بيد املر�أة �صالح املجتمع �أو ف�ساده‪ .‬لأنها الأم‪ ،‬والأم هي الأ�صل‬‫و�إن ف�سد الأ�صل ف�سدت الفروع‪ .‬لذا علينا �أو ًال �إ�صالح املر�أة قبل �إ�صالح‬ ‫الرجل‪ .‬لأن الرجل �أي ًا كان يخرج من مدر�ستها‪ .‬وهذا ما ال نراه يف‬ ‫جمتمعنا‪.‬‬ ‫�صدقت‪� ..‬صدقت!‪ .‬هنا دخلت عائ�شة عليهما وقالت‪:‬‬‫هل تريدان �شيئ ًا قبل �أن �أذهب �إلى النوم؟‬‫ف�أجاباها بالنفي و�شكراها ل�س�ؤالها‪ ،‬ثم ا�ست�أذن حامد ينوي‬ ‫االن�صراف‪ ،‬ف�أو�صله �أحمد �إلى منت�صف الطريق‪..‬وخالل �سريهما‬ ‫ع َّقب حامد‪:‬‬ ‫عليك �أن تعلم �أن خطباءنا لي�سوا كلهم كذلك‪.‬‬‫�أعلم ذلك‪ ،‬فها هو اخلطيب اجلديد مث ًال ‪� ..‬إنه رجل مثقف‬‫وع�صري يف تفكريه وحياته دون �أن ُيخ َّل بتعاليم الدين ومبادئه‪..‬‬ ‫قاطعه حامد قائ ًال‪:‬‬ ‫نعود ملو�ضوعنا الرئي�سي ‪ ..‬كيف بر�أيك نحن نف�سد املر�أة؟‬ ‫‪189‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫نف�سدها حينما نق�صيها عن �أماكن الطهارة �إلى الربك املوحلة‪.‬‬‫كيف هذا؟‬‫بر�أيي لقد �آن للمر�أة �أن ت�صطلح مع امل�سجد‪� ،‬آن لها �أن حت�ضر‬‫خطبة اجلمعة وتعلم �شيئ ًا عن دينها‪ ..‬يف املا�ضي �أ�صاب بع�ض الفقهاء‬ ‫حينما قالوا مبنع ذهاب املر�أة �إلى امل�سجد ب�سبب ما كان يحدث يف‬ ‫زمانهم من فنت وحماقات‪� ،‬أما اليوم وبو�ساطة تقنيات الع�صر �صار‬ ‫مبقدورنا �أن نتالفى الكثري مما كان يقع يف زمانهم‪.‬‬ ‫وجهة نظر معقولة‪� ..‬أجابه حامد ‪ ..‬ثم توقفا عند مدخل باب‬‫النهر وافرتقا هناك‪.‬‬

‫‪190‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫الف�صل الثامن‬

‫‪191‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫هاهي عدة �أعوام مت ُّر على اجلمعية‪ ،‬وهم يعملون ليل نهار‪ ..‬ويف‬ ‫كل يوم كانوا يزيحون فيه �ستار ًا من �ستائر الواقع كانت ت�ضاف حجر ٌة‬ ‫من �أحجار احلزن �إلى قلب �أحمد‪ .‬التفت حامد لأحمد وهما يف طريق‬ ‫العودة من اجلمعية وقال له‪:‬‬ ‫منذ مدة و�أنا �أالحظ �أنك ل�ست على ما يرام‪..‬‬‫علي �شيء ما؟ فابت�سم حامد و�أجابه‪:‬‬ ‫هل يبدو ّ‬‫لي�س من ال�ضروري �أن يبدو عليك �شيء من هذا القبيل ف�أنا‬‫�أ�شعر بك و�إن مل ي�صرح �شيء منك بذلك؟‬ ‫ابت�سم �أحمد وظل �صامت ًا مطرق ًا بب�صره يف الأر�ض‪..‬يبدو عليه‬ ‫هم بذلك �أحجم يف اللحظة‬ ‫�أنه يريد قول �شيء ما ل�صاحبه وكلما ّ‬ ‫الأخرية‪� .‬إال �أنه يف اخلتام ا�ستجمع قواه‪ ،‬وقال ل�صاحبه حامد‪:‬‬ ‫لقد قررت �أمر ًا مهم ًا‪.‬‬‫وما هو؟نظر �إليه ملي ًا بينما كانت ال�سيارات مت ّر بجوارهما‬‫تباع ًا حتى �إذا ما خلى الطريق منها‪� ،‬أطرق جمدد ًا ثم �س�أل حامد‪ :‬هل‬ ‫مزرعتك جمهزة لل�سكن‪ .‬ح ّدق فيه و�أجابه‪ :‬نعم جمهزة ولكن‪ :‬ملاذا؟‬ ‫�إنني �أحتاجها؟‬‫حتتاجها؟‬‫‪192‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�أجل‪ ،‬لبع�ض الوقت‪ ..‬فهل متانع يف ذلك؟‬‫بالت�أكيد ال �أمانع‪ ،‬ولكن �أريد �أن �أعرف ال�سبب؟‬‫‪ ..‬قطعا ال�شارع �إلى الر�صيف املقابل‪ ..‬بعدها كرر حامد ت�سا�ؤله‪:‬‬ ‫�ألن تخربين ال�سبب؟‬ ‫ح�سن ًا �س�أخربك‪�..‬أريدها كي �أخلو مع نف�سي فرتة من الزمن؟‬‫وملاذا؟‬‫لأنني بحاجة خللوة مع نف�سي‪ ..‬بحاجة العتزال النا�س وت�أمل‬‫الأمور من بعيد ‪..‬بعيد جد ًا‪� ..‬أثناء ذلك كانا قد و�صال �إلى البيت‪،‬‬ ‫فاختارا ال�شرفة لكن حرارة اجلو �أرغمتهما على دخول ال�صالة ‪..‬‬ ‫جلبت لهما عائ�شة القهوة وان�صرفت‪ ..‬تابعها حامد بب�صره حتى �إذا‬ ‫ما خرجت التفت �إلى �أخيها و�س�أله م�ستغرب ًا‪:‬‬ ‫�ألي�س من املفرو�ض �أن تكون عائ�شة يف بيت زوجها؟‬‫الآن‪.‬‬

‫‪-‬لقد �سافر �إلى الإمارات فرتكها عندنا‪ ..‬ولن يعود قبل عام من‬

‫احت�سى حامد قلي ًال من القهوة‪ ..‬ثم �أخرج مندي ًال وجفف‬ ‫به عرقه‪ ،‬بعدها حدق يف �صاحبه وقال‪� ..:‬إنَّ لهجتك �أ�شبه ما تكون‬ ‫بلهجة حكيم يائ�س ويف قلبه �صورة املدينة الفا�ضلة وقد اعرتاها الذبول‬ ‫واالنح�سار‪.‬‬ ‫‪193‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫نظر �أحمد �إلى ما وراء النافذة‪ ..‬كان يبدو عليه الإعياء والي�أ�س‪..‬‬ ‫َف َ�ش ْع ُر ُه كموج بحر متك�سر وقد جت ّمد يف مكانه ويف عينيه قط ٌع �شاردة‬ ‫من الليل البهيم‪ .‬ظل ينظر �إلى ما وراء النافذة ثم ابت�سم فج�أة وقال‪:‬‬ ‫كفاين ما ر�أيته من النا�س‪ ..‬يقولون �شيئ ًا ويفعلون �شيئ ًا �آخر يخالفه‪.‬‬ ‫لي�س كلهم هكذا‪.‬‬‫�أجل‪ .‬ولكنّ غالبيتهم كذلك‪.‬‬‫وما �ش�أنك بهم؟‬‫�أنت تقول هذا؟‬‫�أجل �أنا وما الغرابة يف هذا؟‬‫�أعاد �أحمد ظهره للوراء ثم قال‪� :‬أنت �أول من حت ّم�س لفكرة‬ ‫�إن�شاء جمعية خريية و�أنت املمول الأ�سا�سي لها وتقول هذا‪ ،‬تقول �إنه ال‬ ‫�ش�أن لنا باملجتمع!‬ ‫انحنى حامد قلي ًال للأمام واتك�أ ب�ساعديه على فخذيه ثم قال‪:‬‬ ‫�أريد �أن �أ�ساعدك ولكنك ترف�ض امل�ساعدة‪ ،‬فلو �أنك ت�ستطيع �أن تتجاوز‬ ‫عرثات املجتمع لتمكنت من العي�ش فيه ولكنك ترف�ض مثل هذه احللول‬ ‫وتختار دوم ًا ما يدعم �أفكارك‪.‬‬ ‫تب�سم وقال م�ستنكر ًا‪:‬‬ ‫انحنى �أحمد مثله ثم ّ‬ ‫‪194‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫يا �صاحبي ما تريدين �أن �أجتاوزه لي�س عرثات بقدر ما هي‬‫وحل‬ ‫�أخطاء فادحة‪ ..‬فجدار الكالم (املُز َّوق) والذي يخفي وراءه برك ٍ‬ ‫قذرة هي جرمية ب�شعة‪� ،‬أخذ �شيء من الإ�سالم وترك �شيء �آخر مهزلة‬ ‫كربى‪.‬‬ ‫ارت�شف ما تبقى من قهوته ثم �أردف‪ :‬لقد �أفادتني اجلمعية‬ ‫وعملي يف م�صنع الأحذية �أن ع َّرفاين على �أ�صناف من النا�س ما كنت‬ ‫�أتوقعها �أبد ًا‪.‬‬ ‫قاطعه حامد‪:‬‬ ‫لكنك لو ا�ستمعت لر�أي ال�سائحني لوجدتهم يعرتفون بنا ك�أمة‬‫ح�ضارية �إال �أنها م�شلولة الأطراف‪.‬‬ ‫هم يرون ما ي�شاهدونه عندنا مقارنة مبا عندهم ح�ضارة‬‫قائمة ونحن نراه بقايا ح�ضارية من تاريخ �أمة عريقة‪.‬‬ ‫هنا دخلت �أمه فلحقتها عائ�شة وبعدها جاء العم م�صطفى‪.‬‬ ‫حاول اجلميع تغيري قراره ولكنهم رفعوا الراية البي�ضاء �أمام ت�صميمه‬ ‫وعناده‪ ..‬ج ّرب معه عمه فقال‪� :‬أنا �أ�سمي هذا هروب ًا من حتمل امل�س�ؤولية‬ ‫وحماولة الإ�صالح‪.‬‬ ‫�أتريدين �أن �أجنّ �أم �أن �أ�شتمهم وي�شتمونني؟‬‫ال هذا وال ذاك‪.‬‬‫‪195‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�إذا دعني و�ش�أين يا عماه‪ ..‬فقد �ضقت ذرع ًا ب�أمة �ضائعة‪..‬‬‫ثم ا�ستطرد‪ :‬يا عماه نحن �أمة مغ�ضوب عليها‪ ..‬لأن اهلل اخت�صنا من‬ ‫بني جميع �أمم الأر�ض بالر�سالة فال نحن متثلناها يف �سلوكنا وال نحن‬ ‫نقلناها كما هي �إلى �شعوب العامل‪.‬‬ ‫ح�سن ًا‪ .‬ح�سن ًا ال تغ�ضب وافعل ما تراه منا�سب ًا‪ .‬ثم نظر لأمه‬‫التي ظلت �صامتة‪ ،‬مطرقة بنظرها �إلى الأر�ض وقد ظهر عليها االكتئاب‬ ‫واال�ست�سالم‪ .‬كانت بني الفينة والأخرى ت�سرق من �ألبوم الزمن �صورة‬ ‫لولدها الواقف �أمامها وتخفيها يف تالفيف الذاكرة‪ .‬نظرت �إليه وقالت‬ ‫ب�صوت عاله �صد�أ احلزن‪:‬‬ ‫هل عزمت على اعتزالنا؟‬‫�أجل يا �أمي‪� ،‬أريد �أن �أراجع نف�سي مب�سائل كثرية‪ ..‬و�أن �أ�سرت ّد‬‫ال�صفاء امل�سروق مني‪.‬‬ ‫ومن �سرقه منك؟�س�ألته عائ�شة‪.‬‬‫�أنتم واملجتمع وك ّل من يبيعنا الكالم‪� ..‬أيا ليتنا نخلع عن �أنف�سنا‬‫ثوب التدين الكاذب ونبدو على حقيقتنا فراغا يحتويه فراغ‪.‬‬ ‫يف تلك الأثناء عاد مرهف �إلى البيت‪ ..‬وما �إن دخل وجل�س حتى‬ ‫تف َّر�س ب�أحمد و�س�أله‪:‬‬ ‫يبدو �أنك يف م�أزق يا �أخي‪.‬‬‫‪196‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�أنا‪ ..‬وملاذا؟‬‫لقد ا ّدعى خطيب امل�سجد ال�سابق �أنك م�شو�ش الفكر والدين‪،‬‬‫و�أنك من املخدوعني بظلم املجتمع للمر�أة‪.‬‬ ‫وهل يخدع املرء باحلقيقة؟ هذه لعمري طامة جديدة‪.‬‬‫وماذا �أجبته؟ �س�أله حامد وقد تناول ك�أ�س ال�شاي من عائ�شة‬‫التي عادت قبل حلظات‪.‬‬ ‫قلت له �إن �أحمد مل يق�صد ذلك‪ ..‬ووعدته �أن �أجيء بك �إليه يف‬‫�أقرب فر�صة لتعتذر منه‪.‬‬ ‫�أنا‪� ..‬صاح �أحمد؟‬‫ومل ال؟ فقد �أخط�أت وعليك االعتذار‪ .‬هنا ت ّدخل عمهم وقال‪:‬‬‫ال تفتحوا لنا باب النقا�ش بينكما من جديد‪ ..‬فالتفت �إليه �أحمد وقال‪:‬‬ ‫لدي‪.‬‬ ‫فقط دعني �أقول ما ّ‬ ‫لي�س الآن‪ ..‬لي�س الآن‪ ..‬ر ّدد عمه‪ ..‬لكنه �أ�ص ّر على موقفه ثم‬‫التفت ملرهف وقال‪:‬‬ ‫علي �أنني خمطئ �سلف ًا و�أنت بعد مل ت�سمع وجهة‬ ‫كيف حتكم َّ‬‫نظري؟‬ ‫�إنك موهوب يف احلوار كما قال عنك خطيب امل�سجد‪ ،‬ولكنك‬‫‪197‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫تهمل املنقول من الأثر على ح�ساب املعقول من املقا�صد‪.‬‬ ‫ولكنه املنقول من اجتهادات الفقهاء والعلماء ولي�س املنقول‬‫من الكالم املُنزّل؟‬ ‫�أترمي بعر�ض احلائط اجتهادات الأئمة؟‬‫هنا نه�ض �أحمد فنه�ضت �أمه‪ ..‬وقال بانفعال‪:‬‬ ‫تب ًا لك ولهم‪� ..‬إلى متى �س�أحتمل جهلكم وق�صر نظركم؟‬‫�أحمد‪ ..‬مرهف اجل�سا و�إال غ�ضبت عليكما‪� ..‬صاحت �أمهما‬‫بهما‪� ،‬أم�سك �أحمد ك�أ�س ال�شاي بيده ثم قال‪:‬‬ ‫حامد‪� ..‬أعطني مفتاح املزرعة لو �سمحت‪..‬‬‫ولكن‪ ..‬قاطعه‪:‬‬‫�أال تريد م�ساعدتي؟‬‫بلى‪ ..‬بلى‪..‬‬‫�إذ ًا �أعطني �إياه‪..‬‬‫يا عماه ال حترج �صديقك‪ .‬فالتفت �إليه وقال‪:‬‬‫�أنا �أ�س�أله با�سم الأخوة وهو ح ٌّر يف النهاية‪.‬‬‫‪198‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫�أخرج حامد املفتاح من جيبه ثم و�ضعه على الطاولة ‪ ..‬فتناوله‬ ‫�أحمد وراح يت�أمله بغبطة ثم متتم‪ :‬هذا مفتاح املدينة الفا�ضلة‪ ،‬هذا‬ ‫مفتاح املدينة الفا�ضلة‪.‬‬ ‫** *‬ ‫ومع تبا�شري ال�صباح جل�س �أحمد مع �أفراد عائلته يتناق�شون‬ ‫فيما عزم عليه‪ ..‬حاولت �أمه جاهدة �إقناعه لكنها عبث ًا حاولت‪� ..‬أخري ًا‬ ‫نه�ض مرهف وقال لهم‪:‬‬ ‫دعوه و�ش�أنه فلن يفعل �إال ما يفكر به‪.‬‬‫تهم بالذهاب �إلى املطبخ رنّ جر�س‬ ‫خالل ذلك وبينما كانت الأم ّ‬ ‫الهاتف رفعت عائ�شة ال�سماعة فجاءها منها �صوت يرق�ص طرب ًا‬ ‫وحيوية‪ ..‬يف البداية مل تتعرف على �صاحبة ال�صوت‪ ،‬لكنها تداركت‬ ‫املوقف وقالت بارتياب‪� :‬أل�ست عبري؟‬ ‫بلى‪� ،‬أما عرفتني؟‬‫لقد اعرتاين ال�شك‪ ..‬اعذريني ثم �أردفت‪ :‬ففي العادة يعلو‬‫�صوتك م�سحة حزن واليوم �أراه موار ًا بالفرح‪.‬‬ ‫�ضحكت عبري للحظات ثم قالت‪ :‬معك حق‪..‬فقد كنت يوم ًا ما‬ ‫هكذا‪ ،‬على كل حال‪� ..‬إنها �أيام وم�ضت‪.‬‬ ‫�أيام م�ضت‪ ..‬قالت عائ�شة بذهول‪..‬والتفتت لأمها التي �أ�شارت‬‫‪199‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�إليها م�ستف�سرة‪ .‬فرفعت عائ�شة ال�سماعة عن �أذنها وغطت طرفها‬ ‫بيدها ثم قالت لأمها‪� :‬إنها عبري‪ .‬بعدها �أعادتها لأذنها فوجدت عبري‬ ‫تقول لها‪:‬‬ ‫وملاذا ت�ستغربني؟ فقد مات زوجي ال�سابق‪.‬‬‫من؟‬

‫مات! �صرخت عائ�شة‪..‬فهرع اجلميع �إليها و�صاحوا بتوج�س‪:‬‬‫التفتت �إليهم عائ�شة وابت�سمت قائل ًة‪ :‬ما بكم؟‬ ‫من الذي مات؟ �س�ألتها �أمها‪.‬‬‫�إنه زوج عبري ال�سابق‪.‬‬‫‪�-‬أمات حق ًا؟ متتم �أحمد بني م�صدق وغري م�صدق‪.‬‬

‫�أجل مات‪� .‬أجابت عائ�شة‪ ..‬ثم عادت لعبري وقالت لها‪ :‬ح�سن ًا‬‫لن ينفع احلديث على الهاتف‪ ،‬دعينا نراك اليوم ثم �أنهت املكاملة‪.‬‬ ‫بعدها �شرعوا بتناول الطعام ب�شكل عادي‪ ..‬كانوا متفائلني‬ ‫بعدول �أحمد عن قراره بعد الذي جرى قبل قليل‪ ..‬لكن �آمالهم ذهبت‬ ‫مع الريح �إذ اقتلعها �أحمد من قلوبهم دفعة واحدة حينما �أخرج من‬ ‫جيبه املظروف ومتتم‪ :‬هذه الر�سالة �أعطوها لعبري حينما تزوركم‬ ‫اليوم‪.‬‬ ‫‪200‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫و�أنت؟ �س�ألت عائ�شة‪.‬‬‫ذاهب ال�ساعة‪.‬‬ ‫�أنا ذاهب �إلى املزرعة‪ٌ ..‬‬‫�أمه‪.‬‬

‫‪�-‬أما عدلت عن ر�أيك بعد الذي �سمعته من �أخبار �سارة؟ �س�ألته‬

‫ف�أجابها وقد ارت�سمت على وجهه ابت�سامة �صغرية‪ :‬بل ازددت‬ ‫�إ�صرار ًا على الذهاب‪ ..‬لقد �أك�سبني اخلرب قوة وحياة‪ ..‬لأنني اليوم لن‬ ‫�أذهب من �أجل نف�سي بل ومن �أجل غريي �أي�ض ًا‪ .‬ثم نه�ض و�سط ذهول‬ ‫�أهله وحريتهم‪ ..‬دخل غرفته وغاب فيها حوايل ال�ساعة ثم خرج‪ ،‬يف‬ ‫يده اليمنى حقيبة كبرية ويف الي�سرى معطف قدمي‪ .‬وعندما �صار يف‬ ‫نهاية ال�صالة و�ضع احلقيبة على الأر�ض واملعطف على الأريكة ثم دنا‬ ‫من �أمه التي نه�ضت �إليه بعفوية فاحت�ضنها بقوة ثم ابتعد عنها �إلى‬ ‫الوراء خطو ًة ‪� ..‬أجال النظر يف املجموع ‪ ..‬ورفع حقيبته عن الأر�ض‬ ‫وهم باخلروج التفت �إليهم وقال ب�صوت ك�أنه‬ ‫وعندما و�صل �إلى الباب ّ‬ ‫� ٍآت من بعيد‪:‬‬ ‫�أراكم بخري‪� ..‬إلى اللقاء‪ .‬ثم م�ضى وقد خ ّلف وراءه طيور‬‫ال�صمت حتوم يف املكان وتلتقط الكلمات اخلارجة من �أوكارها‪ ،‬ليبقى‬ ‫ال�صمت وحده �س ّيد هذه اللحظات يف نهر الزمان املتدفق‪..‬‬ ‫***‬

‫‪201‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫‪ ..‬م�ضى �شهر على عزلة �أحمد ومل يت�ضح بعد لأحد متى �سيقرر‬ ‫الرجوع �إليهم‪ .‬قال حامد ذات مرة لعمه م�صطفى‪:‬‬ ‫�إنه غريب الأطوار ت�صور �أنه ال يكلمني حينما �أح�ضر له الطعام‬‫�إال قلي ًال‪.‬‬ ‫�صرب ًا عليه‪ ..‬لعله يرى يف ال�صمت كوخ ًا للت�أمل في�ؤثره على‬‫الكالم‪.‬‬ ‫�إنها كلماته نف�سها ‪ ..‬ر ّدد حامد مذهو ًال‪ ،‬ف�ضحك العم‬‫بت �أعرف طريقة تفكري ابن �أخي‪� ..‬إنه �إن�سان‬ ‫م�صطفى وقال‪ :‬لقد ُّ‬ ‫يطمح لأن جترب روحه �أكرث من حياة قبل �أن يفنى ج�سده‪ ،..‬وهو يحلم‬ ‫ليل نهار �أن ي�ستيقظ ذات �صباح فيجد املدينة الفا�ضلة على �سطح‬ ‫الأر�ض وقد غطى احلمام الأبي�ض خط الأفق وح ّل ال�سالم يف �أرجاء‬ ‫املعمورة بدل احلرب‪ ..‬و�صار النا�س قلبهم قلب رجل واحد ‪ ...‬و�أ�ضحت‬ ‫الأمم متفاهمة متعاونة وكلها ترى الطريق �إلى اهلل لي�س طق�س ًا بقدر ما‬ ‫هو ر�سالة للإعمار‪.‬‬ ‫وما �أدراك بكل هذا؟ �س�أله حامد ثم �أردف‪ :‬حتى �أنا ال �أعلم‬‫عنه كل هذه الأ�شياء‪.‬‬ ‫عندها �أخرج العم م�صطفى ر�سالة من جيبه وو�ضعها على‬ ‫الطاولة وتابع قائ ًال‪:‬‬ ‫من هذه عرفت كل هذه الأ�شياء‪.‬‬‫‪202‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫وما هذه؟‬‫ ‪�-‬إنها ر�سالة منه‪.‬‬ ‫ ‪-‬متى �أعطاك �إياها؟‬ ‫ ‪-‬قبل �أن يغادرنا بيوم واحد‪.‬‬ ‫ ‪�-‬إذ ًا هكذا؟ ثم قال وهو يغالب ال�ضحك‪:‬‬ ‫ذاهب �إليه؟‬ ‫ ‪-‬ح�سن ًا هل تريد منه �شيئ ًا‪ ،‬ف�أنا اليوم ٌ‬ ‫ ‪�-‬أبلغه �سالمي فح�سب‪.‬‬ ‫***‬ ‫هناك‪ ،‬حينما و�صل حامد �إلى املزرعة‪ ..‬فت�ش عنه فلم يجده‪..‬‬ ‫قال يف نف�سه‪:‬‬ ‫( �أين ذهب يا ترى‪..‬هل عاد �إلى بيته �أم رمبا رحل ملكان �آخر �أو‬ ‫‪ . .‬؟ يا �إلهي �أين �س�أجده؟)‬ ‫ثم �صعد �إلى �سطح الدار ونظر منه �إلى ما حوله وفج�أ ًة ملحه‪..‬‬ ‫كان يجل�س حتت �شجرة زيتون يراقب �شيئ ًا ما وهو متكور على نف�سه‪.‬‬ ‫و�ضع له حامد الطعام وترك على الطاولة ورقة مكتوب عليها‪:‬‬ ‫( جئت ومل �أجدك هنا فرتكت لك هذا الطعام‪)..‬‬ ‫‪203‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫‪ ..‬وهكذا م�ضت الأيام و�أحمد على هذه احلال و�صديقه املخل�ص‬ ‫يرعى �ش�ؤونه من بعيد من دون �أن يع ّكر خلوته‪� ..‬إلى �أن جاء يوم‬ ‫من �أيام اخلريف كان فيه حامد كعادته ذاهب ًا �إلى املزرعة بالطعام‬ ‫هم باملغادرة جاءه �صوت من الداخل‪ ..‬كان‬ ‫وبالثياب النظيفة وحينما ّ‬ ‫�أحمد الذي خرج �إليه وهو يقول‪:‬‬ ‫�أريد �أن �أرى �أمي لقد ا�شتقت �إليها كثري ًا‪� ..‬صمت بره ًة ثم‬‫�أردف‪ :‬وكذلك ا�صطحب معك عبري و�إخوتي‪� ..‬أريدهم جميع ًا‪ ..‬جميع ًا‬ ‫يا حامد‪.‬‬ ‫كما تريد �س�أ�صطحبهم معي يف املرة القادمة‪ .‬ابت�سم �أحمد‬‫جلوابه ثم عاد جم ّدد ًا �إلى غرفته‪ ..‬بعد �أ�سبوع التقى �أحمد ب�أهله‪..‬‬ ‫و�س َّر الطرفان لذلك‪� ..‬س�ألته �أمه‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫�أمل يحن بعد وقت عودتك �إلينا؟‬‫ابت�سم ب�شحوب وقال‪:‬‬ ‫قريب ًا يا �أمي قريب ًا‪.‬‬‫لقد ا�شتقنا �إليك‪ ..‬قالت عبري‪.‬‬‫و�أنا ا�شتقت �إليكم‪ ..‬ولكن‪..‬‬‫ولكن ماذا؟ �س�أل مرهف‪..‬‬‫‪204‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫فحدجه قائ ًال‪ :‬ولكن مل يحن وقت احل�صاد‪.‬‬ ‫� ّأي ح�صاد؟ ت�ساءلت عائ�شة‪ ..‬فابت�سم وقال‪:‬‬‫�أنت دائم ًا ت�س�ألني �أ�سئلة مثل هذه الأ�سئلة‪ ،‬ثم �أردف بعد �أن‬‫�أخذ نف�س ًا عميق ًا‪:‬‬ ‫عندما خلوت بنف�سي ا�صطبغ كل �شيء فيها بال�صمت كما‬‫ي�صبغ النهار الليل بطالء ال�ضوء ‪ ..‬و�أنا الآن �أت�أمل ليلي و�أنتظر حلظة‬ ‫االنبالج‬ ‫ّ‬ ‫مطت عائ�شة �شفتها ال�سفلى وقالت‪ :‬مل �أفهم ق�صدك؟‬ ‫ف�ضحك وقال‪ :‬وال �أنا؟‬ ‫ماذا تعني؟ عقبت عائ�شة‪.‬‬ ‫�إنه يعني �شيئ ًا �آخر‪ ..‬ع ّلق مرهف‪ ،‬فالتفتت �إليه عائ�شة وقالت‪:‬‬‫ح�سن ًا‪� ...‬أخربين به‪.‬‬‫�إنه يعني �أنه مل يدرك بعد غاية وجوده‪.‬‬‫�أعوذ باهلل من هذا الكالم‪ ..‬قالت �أمه‪ ..‬ثم �أردفت‪ :‬لقد خلقنا‬‫اهلل لنعبده‪.‬‬ ‫ولكن ما معنى العبادة هنا؟ �س�ألها مرهف‪..‬‬‫‪205‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫‪ ..‬تلعثمت �أمه يف البداية ثم قالت‪� :‬أي ننفذ �أوامره وجنتنب‬ ‫نواهيه ثم نظرت �إلى �أحمد فابت�سم قائ ًال‪:‬‬ ‫�أو�صال �سالمي لعمي م�صطفى‪ .‬نظر بع�ضهم �إلى بع�ض ثم‬‫توجهوا �إليه بنظرهم فقالت �أمه‪:‬‬ ‫بني‪ ..‬عد‬ ‫ح�سن ًا �سرناك قريب ًا ثم التفتت حلامد وقالت‪ :‬هيا يا ّ‬‫بنا �إلى املدينة‪.‬‬ ‫ح�سن ًا‪ ..‬تف�ضلوا وقد �أ�شار للجميع مبغادرة املكان‪ .‬فخرجوا‬‫با�ستثناء عبري التي ت�أخرت عنهم لكي تنفرد ب�أحمد‪ ..‬دنت منه وقالت‪:‬‬ ‫عدين ب�أال تت�أخر علينا‪.‬‬‫�أعد بذلك‪.‬‬‫متى؟‬‫�صمت برهة وهو ينظر �إلى ما وراء النافذة ثم قال‪:‬‬ ‫مع بداية ف�صل الربيع‪ .‬ت�أملته عبري ملي ًا ثم ا�ستجابت لأ�صواتهم‬‫وخرجت خلفهم‪.‬‬ ‫***‬

‫‪206‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫‪ ..‬مع بداية ف�صل ال�شتاء �صار الو�صول �إلى املزرعة ع�سري ًا ومع‬ ‫هذا ا�ستمر حامد يف عمله وحافظ على وفائه ل�صديقه‪ .‬وباملقابل خ�صه‬ ‫�أحمد دون غريه بر�سائل خا�صة‪ .‬كان حامد كلما �أح�ضر له مع بداية‬ ‫الأ�سبوع الطعام والثياب يجد على الطاولة ر�سالة‪ ..‬فيتناولها ومي�ضي‪.‬‬ ‫لقد كان �أحمد ميلأ ر�سائله ب�أفكاره اجلديدة و�أحواله اخلا�صة فكانت‬ ‫ر�سالة �أول الأ�سبوع تخت�صر بكلماتها جتربة ذلك الأ�سبوع‪ .‬وذات يوم‪..‬‬ ‫بينما كان حامد يرتب �أوراق درجه وقعت حتت يده تلك الر�سائل فراح‬ ‫ي�ستذكرها برتتيبها الزمني حتى و�صل �إلى �إحداها فا�ستوقفته كثري ًا‪،‬‬ ‫�إذ كانت حتتوي خال�صة عقلية جديرة بالتدبر كتب يقول فيها‪:‬‬ ‫بت اليوم �أكرث وعي ًا ملجريات الأمور و�أكرث �إن�صاف ًا‬ ‫( يا �صديقي ُّ‬ ‫للحقائق‪ ..‬ثم �أردف يف الن�صف الثاين من الر�سالة‪� .‬إن �أمم الأر�ض‬ ‫عرب تاريخها كانت و�ستبقى �أمم ًا ت�سودها احلروب ويحكمها قانون‬ ‫الإن�سان‪ ..‬ذاك املخلوق ال�ضعيف �أمام رغباته‪ ،‬القا�صر النظر �أمام‬ ‫خمططاته‪� .‬إنها مدن الإن�سان‪ ..‬ت�صطدم مع بع�ضها بع�ض ًا وما تفرز �إال‬ ‫الف�ساد والويالت واملجرمني‪ .‬يا �صديقي‪ :‬ذات يوم غابر من �أيام التاريخ‬ ‫برزت مدينة اهلل على وجه الأر�ض‪ ،‬لكنها مل تبق �إال بقاء الومي�ض ثم‬ ‫اختفت‪ ..‬اختفت حلظة تدخل الإن�سان من جديد يف قانون اهلل‪� ..‬إنها‬ ‫املدينة الفا�ضلة وهي قابعة الآن يف قلب التاريخ‪.‬‬ ‫ثم ختم ر�سالته بقوله‪ ..:‬يا �صديقي‪� ..‬إنّ عودة ظهور مدينة اهلل‬ ‫على الأر�ض بيد اهلل وحده‪� ،‬أما ظهورها فينا فب�أيدينا نحن‪ ،‬لذا فكل‬ ‫�إن�سان لو �شاء ي�ستطيع �أن يبني �صورة لتلك املدينة يف قلبه و�سيكون‬ ‫حينها رج ًال من مدينة اهلل‪ ..‬رج ًال قادم ًا من قلب التاريخ‪ ..‬ي�ش ُّع من‬ ‫‪207‬‬


‫رجل من مدينة اهلل‬

‫�صدره نو ٌر هو نور اهلل وتبدو عليه مالمح ح�ضارية هي من ح�ضارة‬ ‫الإن�سان الأول‪.‬‬ ‫�أعاد الر�سالة ملظروفها وقد �أطرق فرت ًة من الزمن ثم ا�ستفاق‬ ‫على ارتطام حبات املطر بوجه الأر�ض‪.‬‬ ‫***‬ ‫ومع حلول ربيع هذا العام ترك �أحمد ل�صديقه ر�سالة يخربه‬ ‫فيها �أن ي�أتي مع بداية الأ�سبوع القادم ال�صطحابه �إلى بيته وطلب منه‬ ‫�أال يخرب �أحد ًا لوقتها و�أن ينتظره ب�سيارته على حافة الطريق العام يف‬ ‫�أ�صيل يوم ال�سبت القادم‪ ..‬قال له �أي�ض ًا‪:‬‬ ‫�إنني الآن �أ�شرف على االنتهاء من رواي ٍة كنت قد بد�أت بها منذ‬‫�أول يوم جئت به �إلى هنا‪ ..‬ولقد �سميتها‪ ( :‬رج ٌل من مدينة اهلل!)‬ ‫و�س�أطلعك عليها يف الأ�سبوع الآتي مب�شيئة اهلل‪.‬‬ ‫انتظر حامد ذلك اليوم بفارغ ال�صرب وحت ّمل كتم خ ٍرب كهذا‬ ‫عمن حوله نزو ًال عند رغبة �صاحبه‪ ،‬حتى جاء اليوم املوعود فذهب‬ ‫حامد قبل املوعد ب�ساع ٍة كاملة وتوقف عند حافة الطريق العام ونهاية‬ ‫طريق املزرعة ثم راح ينتظر قدوم �صاحبه‪.‬‬ ‫يف ذلك احلني كان �أحمد قد حزم �أمتعته وو�ضعها عند بهو‬ ‫يوم �آخر‪ ..‬فقد كان يحمل �أوراق ًا‬ ‫ال�صالة عازم ًا يف نف�سه �أخذها يف ٍ‬ ‫‪208‬‬


‫منقذ نادر العقاد‬

‫كثرية يقب�ض عليها ب�شدة وقد ارتدى معطفه القدمي ثم و�ضع رجله‬ ‫عند عتبة البيت‪ ..‬كان اجلو غائم ًا والرياح قوية‪ .‬نظر �أحمد يف الأفق‬ ‫وما �إن و�ضع قدمه على �أول الطريق وقد ان�شغل ذهنه مب�شهد الطبيعة‬ ‫حتى كانت الرياح العا�صفة قد �س ّلت الأوراق من بني يده فتطايرت‬ ‫يف كل مكان‪ ،‬حاول يف البداية جمعها وراح يلتقطها كاملجنون ولك ّنه‬ ‫ملَّا ي�أ�س من ذلك‪ ..‬ارمتى على الأر�ض راكع ًا على ركبتيه وراح يت�أمل‬ ‫الأوراق كيف تذروها ريا ٌح غربية يف كل مكان ثم يجذبها طني الأر�ض‬ ‫ال�شرقية �إليه فيذهب مبالحمها وكلماتها وال يبقى منها �إال �أ�شكال‬ ‫بحزن عارم واكتئاب �شديد‬ ‫م�شوهة مم�سوخة‪ ..‬كان يت�أمل املنظر‬ ‫ٍ‬ ‫ولكن ما �إن ارتطمت بوجهه واحد ًة من الورقات الكثرية حتى ّ‬ ‫ف�ضها‬ ‫فوجدها حتمل العنوان‪ ..‬العنوان فقط‪ ..‬فاعت�صرها يف ثم راح ي�ضحك‬ ‫ب�شكل ه�ستريي‪ ..‬بعدها نه�ض من جديد على قدميه وو ّلى وجهه �شطر‬ ‫الطريق العام‪ ..‬كان ي�سري بتثاقل وقد خ ّلف وراءه �أوراقه و�آثار �أقدامه‬ ‫املغمو�سة يف الطني‪ ..‬ظل ي�سري ونظره معلق يف �أقرب �أفق حتى �إذا ما‬ ‫و�صل �إلى �أول الطريق العام توقف فج�أة ‪ ..‬خلع معطفه وو�ضعه جانب ًا‬ ‫ثم نظر يف يده اليمنى ففتحها وراح ينظر يف الورقة امل�ضغوطة على‬ ‫نف�سها‪ ..‬بعدها غر�س كرة الورق تلك يف جوار املعطف ثم تناول حجر ًا‬ ‫قريب ًا وو�ضعه فوقها عند �آخر �أثر من �آثار �أقدامه‪ ..‬واجته �إلى ال�سيارة‬ ‫فا�ستقبلها قا�صد ًا مدينة الإن�سان‪ . .‬ومن وقتها غاب �أحمد يف مدينة‬ ‫الإن�سان ومل يعد حتى هذه اللحظة‪.‬‬

‫‪209‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.