مجلة الملحدين العرب / العدد المائة / أبريل نيسان / 2021

Page 1

‫مجلة شهرية بجهود فردية تصدر يف الثاين عرش من كل شهر‬

‫يف زمن التيه والضياع العريب‬ ‫د‪.‬عبد العزيز القناعي‬

‫أصوات من تحت الركام‬ ‫ٌ‬

‫د‪ .‬خلدون الشامي‬

‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء الخامس‬

‫العدد األول بعد املائة من مجلة امللحدين العرب للثاين عرش من شهر أبريل ‪ /‬نيسان ‪2021‬‬

‫محمد شومان‬

‫األضحية‬

‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫تهدف مجلّة امللحدين العرب إىل نرش وتوثيق أفكار امللحدين العرب املتنوعة وبحريّ ٍة كاملة‪ ،‬وهي مجلّ ٌة رقمي ٌة غري ربح ًّية‪ ،‬مبني ٌة‬ ‫أي توج ٍه سيايس‪ .‬املعلومات واملواضيع املنشورة يف املجلّة متثل آراء كاتبيها فقط‪ ،‬وهي مسؤل ّيتهم من‬ ‫بجهو ٍد طوعي ٍة ال تتبع َّ‬ ‫الناحية األدب ّية ومن ناحية حقوق النرش وحفظ امللك ّية الفكريّة‪.‬‬


‫كلمة تحرير املجلة‬

‫فريق التحرير‬

‫تُطل علينا الربوباغاندا الدينية عرب كل املنافذ‪ ،‬ويُلقى‬ ‫علينا بني الحني واآلخر ما ّ‬ ‫تخث يف جوف رجال الدين‬ ‫مذهل و ُمنفّر‪ ،‬ولكن ليس أحدث وأكرث‬ ‫ٌ‬ ‫من كل ما هو‬ ‫تنميقًا وتزيي ًنا من شيوخ وسائل التواصل االجتامعي‬ ‫(السوشيال ميديا) الذين استبدلوا الجلباب والعاممة‬ ‫باللحية الخفيفة املشذّبة ورساويل (الجينز)‪ ،‬وهم‬ ‫ليسوا نبذ ًة نادر ًة أخرجها هذا الزمن مبحض الصدفة‪،‬‬ ‫فقد كانوا االبن الرشعي لشيوخ التلفزة‪ ،‬القديم منهم‬ ‫والحديث‪ ،‬حيث بدأت صورتهم تتبلور مع مصطفى‬ ‫محمود وأخذت شكلها املثايل مع محمد العريفي الذي‬ ‫بِدوره كان من الرائدين يف استغالل هذا السوق الجديد‪.‬‬

‫املشارك يف هذا العدد‬

‫رئيس التحرير‬ ‫الغراب الحكيم‬ ‫أعضاء هيئة التحرير وبناء املجلة‬ ‫‪John Silver‬‬ ‫أسامة البني (الوراق)‬ ‫‪Alia’a Damascéne‬‬ ‫غيث جابري‬ ‫‪Abdu Alsafrani‬‬ ‫‪Raghed Rustom‬‬ ‫‪Johnny Adams‬‬ ‫ليث رواندي‬ ‫‪Rama Salih‬‬ ‫إيهاب فؤاد‬ ‫‪Yonan Martotte‬‬

‫متفائل أن هذا التبني لألدوات الجديدة‬ ‫ٌ‬ ‫قد يعتقد‬ ‫واالنفتاح عىل العامل هو إشار ٌة لتحديث الدين وتط ّوره‪،‬‬ ‫ولكن مبج ّرد نظر ٍة متواضع ٍة عىل هذه الشخصيات‬ ‫الحديثة يظهر لنا أن العفن هو نفسه‪ ،‬ولكن ُزيّن‬ ‫بح َّبتي فراولة؛ من كراهية عبدا لله رشدي الواضحة‬ ‫للنساء الاليت يَرا ُه ّن مكنات تفري ٍخ يجب أن يعشن‬ ‫يف كيس قامم ٍة إىل متلق الداعية وسيم يوسف وتقلّبه‬ ‫مع تقلب البوصلة السياسية وليس انتها ًء بامله ّرجني‬ ‫الذين ما انكفأوا يدحضون اإللحاد عن طريق نظرية أمامنا اليوم فرص ٌة ملواجهة هذا املرض‬ ‫الرثموديناميك األخالقية‪.‬‬ ‫ومؤسساته‪ ،‬واألداة بني‬ ‫املتمثل بالدين ّ‬ ‫حق أو تفنيد كذب ٍة‬ ‫أيدينا‪ ،‬وأي كلمة ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫وصف ساخ ٍر يزرع‬ ‫لقد فتحت الشبكة العنكبوتية الباب عىل مرصاعيه عىل أو فضح تزوي ٍر أو‬ ‫العامل‪ ،‬ومل يعد هناك ٌ‬ ‫مجال لخنق األصوات أو مصادرة يف املستقبل بذر ًة ستنمو وتخرج من‬ ‫التعبري مهام حاول الطغاة واملستب ّدون‪.‬‬ ‫تحت الطني والروث لتعانق السامء‬ ‫وتستمر نحو مستقبلٍ منري‪.‬‬ ‫أيضا ق ّدم لهم هذا الفضاء الرقمي فرص ًة وأدا ًة‬ ‫ولكن ً‬ ‫جديد ًة لنرش خرافاتهم وللبحث عن حلفا ٍء جد ٍد ميكن‬ ‫خداعهم وجعلهم يدافعون عن األيديولوجيا التي تحاول‬ ‫قتلهم أو تدمريهم‪.‬‬ ‫الغراب الحكيم‬ ‫‪2‬‬


‫الفهرس‬ ‫كلمة تحرير املجلة‬

‫‪2‬‬

‫الفهرس‬

‫‪3‬‬

‫يف زمن التيه والضياع العريب‬ ‫د‪ .‬عبد العزيز القناعي‬

‫‪5‬‬

‫أصوات من تحت الركام‬ ‫ٌ‬ ‫د‪ .‬خلدون الشامي‬

‫‪9‬‬

‫رب معبود ‪ -‬شيطانٌ رجيم‬ ‫ٌ‬ ‫الجزء الرابع‪ :‬التعزيز املتقطع واالستالب‬ ‫العقائدي‬ ‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬

‫‪14‬‬

‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫‪17‬‬

‫من صنع اإلسالم ‪ -‬الجزء الثالث‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫‪33‬‬

‫يف املصادر الفكرية لإللحاد الحديث جـ ‪1‬‬ ‫لُوِي ُدوپْريه‪،‬‬ ‫ترجمة أسامة البني (الو ّراق)‬

‫‪48‬‬

‫املسيحية واملحروسة – الجزء الخامس‬ ‫محمد شومان‬

‫‪53‬‬

‫كاريكاتور‬

‫‪62‬‬

‫‪3‬‬


http://arabatheistbroadcasting.com/aamagazine https://www.aamagazine.blogspot.com https://www.facebook.com/pages/AAMagazine/498136386890299 https://issuu.com/928738

4


‫يف زمن التيه والضياع العريب‬ ‫د‪.‬عبد العزيز القناعي‬

‫يف قراء ٍة موضوعي ٍة للزمن الراهن‪ ،‬يتبني أن القرن الحايل‪ ،‬هو‬ ‫عرص القوة االقتصادية بامتياز‪ ،‬وأن املؤسسات االقتصادية‬ ‫وخصوصا يف الواليات املتحدة األمريكية واالتحاد األورويب‬ ‫ً‬ ‫يف تطو ٍر مطّرد‪ ،‬وهي ليست يف أزم ٍة أو أفول‪ ،‬كام تؤكد‬ ‫ذلك بعض مراكز البحوث االسرتاتيجية يف العامل الغريب‬ ‫والعريب‪.‬‬

‫وبد ًءا من هذا الرسد‪ ،‬هل ت ُعترب األمة العربية الغارقة‬ ‫يف ديونها وتبعيتها وأزماتها االقتصادية الخانقة‪ ،‬رغم‬ ‫امتالكها ألعظم الرثوات االقتصادية الطبيعية‪ ،‬أن تكون‬ ‫فضل عن قوانني فلسفة‬ ‫مخالف ًة لواقع األشياء واملنطق‪ً ،‬‬ ‫التأريخ‪ ،‬التي أرىس أصولها الفيلسوف األمازيغي ابن‬ ‫خلدون‪ ،‬يف مقدمته الشهرية‪ ،‬يف تعبريه عن البناء الحضاري‬ ‫والعمراين‪ ،‬ثم وضع تفاصيل قوانينها‪ ،‬املفكر واملؤرخ‬ ‫الربيطاين «أرنولد توينبي»‪ ،‬يف كتابه «فلسفة التاريخ»‪،‬‬ ‫وفق دراسته التأريخية الرصينة‪ ،‬عن تطور الحضارات‪،‬‬ ‫مب ّي ًنا حتمية مرورها‪ ،‬بذات األدوار التي يعيشها الكائن‬ ‫الحي‪ ،‬فهي تنشأ ضعيف ًة أولً ‪ ،‬ثم تقوى ويشتد عضدها‪،‬‬ ‫ويف النهاية تشيب ويعرتيها الضعف والهزل‪.‬‬

‫فاملتابع للتطورات االقتصادية منذ القرن التاسع عرش‬ ‫يالحظ النمو الكبري للتجارة والصناعة وما ترتب عليهام‬ ‫ٍ‬ ‫تشابك يف العالقات االجتامعية والسياسية‪ ،‬ليست‬ ‫من‬ ‫املحلية فقط ولكن املعوملة‪ .‬فالعامل االقتصادي يلعب‬ ‫دو ًرا كب ًريا يف الحياة واملتغريات الدولية‪ ،‬فأقوى دول العامل‪،‬‬ ‫قد ًميا وحديثًا‪ ،‬هي أقواها اقتصاديًا‪ ،‬وغالبية الحروب‬ ‫قامت عىل ٍ‬ ‫أسس اقتصادية‪ ،‬وما يجرى تحدي ًدا اليوم يف‬ ‫رسم‬ ‫مجتمعاتنا الغنية باملوارد الطبيعية ما هو إال إعادة ٍ‬ ‫ملناطق النفوذ واملال والنفط بشكلٍ آمنٍ ومستقر‪.‬‬

‫ال شك أن األمة العربية تعيش اليوم يف مرحل ٍة مصريي ٍة‬ ‫وفارق ٍة يف التاريخ الحديث‪،‬‬ ‫‪5‬‬


‫يف زمن التيه والضياع العريب‬ ‫فام يحدث للدول واألنظمة والشعوب مل‬ ‫دول متصارع ًة‬ ‫يعد ميس أطرافًا معين ًة أو ً‬ ‫أو أقاليم محددةً‪ ،‬بل املَشاهد السياسية‬ ‫واالجتامعية واالقتصادية ألقت بظاللها‬ ‫عىل مجمل الوطن العريب واألمازيغي‬ ‫الكبري‪.‬‬ ‫وحتى نفهم أسباب انهيار مجتمعاتنا اليوم‪،‬‬ ‫علينا أن نستوعب أن املشاريع والخطط‬ ‫والربامج التي قامت عليها الوحدة العربية‬ ‫مل تلبي احتياجات التطور املعريف والعلمي‬ ‫أو املنافسة يف سوق املصالح واالتفاقيات‬ ‫واحتكار مناطق النفوذ‪.‬‬ ‫باإلضافة إىل غياب أو تغييب مفاهيم املواطنة والعقد االجتامعي وتداول السلطة وتطبيق الدميقراطية الليربالية‪،‬‬ ‫فمفهوم العروبة والوحدة نشأ كمحاول ٍة لحامية األقليات ومواجهة أعداء األمة‪ ،‬ومل يكن هناك إال إرسائيل أمامهم كعد ٍّو‬ ‫تاريخي مل يستطع العرب إىل اليوم من هزميتها بقدر ما عقدوا معها اتفاقيات سالم‪ ،‬إن كان بالعلن أو بالرس‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫رغم أن أعداء األمة العربية الحقيقيني ال يتمثلون باآلخر املختلف بل يف بنيتهم الداخلية‪ ،‬يف الجهل والفقر والوصاية‬ ‫واالستبداد‪ .‬فحني فشلت الشعوب يف مواجهة هذه األمراض الداخلية أصبحت بالرضورة ضعيف ًة خارج ًيا‪.‬‬ ‫أمم كثري ًة أدركت عوامل الفشل وتغلبت عليها يف النهاية‪.‬‬ ‫فالتاريخ ال يعرف أم ًة مل تواجه الفشل يف بناء كيانها‪ ،‬ولكنه يعرف ً‬ ‫فهل نحن اليوم نواجه انهيار مجتمعاتنا بشكلٍ نها ٍّيئ أم نستطيع التغلب عىل عوامل الفساد واالستبداد ومحاوالت‬ ‫الهيمنة الغربية عىل موارد النفط والغاز يف منطقتنا العربية؟‬ ‫إذا كان بإمكاننا تلخيص فشل التجربة العربية التاريخية منذ بداية استقالل الدول‪ ،‬فهذا يعود لكونها دولً تقوم عىل‬ ‫مصلحة النظام الحاكم وليس عىل مصلحة الشعب‪ ،‬حيث يتم تحويل البالد بكل مقدراتها ومؤسساتها إىل ملكي ٍة خاص ٍة‬ ‫للحاكم وبطانته‪ ،‬وللحفاظ عىل كرسيه‪ ،‬بعكس تجربة االتحاد األورويب‪ ،‬فوحدتة قامت عىل أساس مصلحة الشعوب‬ ‫واندماج فئات املجتمع بوحد ٍة مواطني ٍة اقتصادي ٍة سياسي ٍة وهو ما مل نستطع تشكيله عرب ًيا‪ ،‬حيث مل يتم األخذ بعني‬ ‫فرضا‪ ،‬ليس عىل‬ ‫االعتبار الغنى الثقايف متعدد القوميات ضمن الوحدة العربية‪ ،‬فكل محاول ٍة للوحدة كانت تُفرض ً‬ ‫العرب وحسب‪ ،‬بل عىل الشعوب املتأصلة والضاربة بجذورها قبل الغزوات اإلسالمية‪ ،‬كاألمازيغ والكرد وأبناء السودان‬ ‫الجنوبيني والنوبيني واألقباط واآلشوريني واليهود العرب الذين تم طردهم رش طرد ٍة من أوطانهم‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫يف زمن التيه والضياع العريب‬ ‫ٍ‬ ‫ومنهجي يف حامية الحريات وحقوق‬ ‫ضعف أدا ٍيئ‬ ‫كام وأن الدساتري يف املنطقة العربية تقوم يف بعض قوانينها عىل‬ ‫ٍّ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وما زالت املؤسسات الدينية تحظى مبكان ٍة حقوقي ٍة غري مرشوع ٍة قانون ًيا مام فرض بعض التاميزات الدينية‬ ‫واملذهبية التي خلقت بالتايل االصطفافات الهوياتية وضعف املواطنة واالنتامء للوطن‪ .‬ويف الجانب االجتامعي‪ ،‬كان‬ ‫لضعف التنمية العربية‪ ،‬السيام يف املجال التعليمي والتكنولوجي‪ ،‬دو ًرا مؤث ًرا يف الرتاجع‪.‬‬ ‫فام زالت الدول العربية تتبوأ مراكز متقدم ًة يف األمية وهجرة الكفاءات والخربات إىل بلدان العامل املتقدمة‪ ،‬ومن املعلوم‬ ‫أن أي أم ٍة تهاجر كفاءاتها العقلية سوف تسقط ال محالة يف براثن الجهل والتخلف‪ ،‬ناهيك عن ضعف القراءة يف العامل‬ ‫العريب‪ ،‬فوفقًا لإلحصائيات املوثوقة‪ ،‬والتي تشري إىل أن معدل قراءة العريب يف السنة ال يتجاوز الدقائق‪ ،‬ومن بني تسعة‬ ‫بكاتب من بني كل أربعامئة مواطن‪.‬‬ ‫كاتب واح ٌد مقارن ًة بأملانيا التي تحظى‬ ‫ٍ‬ ‫عرش ألف عر ٍّيب مثة ٌ‬ ‫وكام أرشت يف بداية املقال‪ ،‬أن العرص الحايل هو عرص االقتصاديات العمالقة والرشكات عابرة الحدود واألسواق املفتوحة‪،‬‬ ‫ضعف االقتصاديات العربية املرتكزة عىل النفط فقط‪ ،‬أصبح سم ًة وعالمة عج ٍز واضحة‪ ،‬فالعامل العريب ال ميلك‬ ‫بينام ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ومؤسسات تؤهله ملنافسة االقتصاديات العاملية العمالقة األوروبية واألمريكية واقتصاديات رشق‬ ‫ورشكات‬ ‫اقتصاديات‬ ‫آسيا‪ ،‬بل إن املدخرات العربية يف الخزائن الغربية والبنوك العاملية متوفر ٌة وتعمل بالضد‪ ،‬إذ تدعم النظام الحاكم ويبقى‬ ‫املحروم الوحيد منها الشعوب العربية نفسها‪.‬‬ ‫جانب آخر‪ ،‬الدول الخليجية الغنية‬ ‫ومل تعمل‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫بالنفط واملتهمة بالرتف‪ ،‬لبناء دو ٍل حديث ٍة مدني ٍة‬ ‫تساهم يف بناء الوطن العريب الفقري بإمكانياته‬ ‫دول تتآكل بفعل‬ ‫املادية بقدر ما أصبحت بنفسها ً‬ ‫سياساتها الداخلية وعجزها عن التطور وتفاقم‬ ‫خالفاتها السياسية لينفتح الباب اليوم أمام أطام ٍع‬ ‫خارجي ٍة تنذر بقدوم سنوات التيه والضياع العريب‪.‬‬ ‫إن الحقيقة التي ال مفر منها تقول باستحالة إقامة‬ ‫وحد ٍة اجتامعي ٍة وسياسي ٍة واقتصادي ٍة بدون ٍ‬ ‫أساس‬ ‫دميقراطي‪ ،‬فأملانيا مل تستع ْد وحدتها إال عىل أساس‬ ‫الدميقراطية‪ ،‬واملعنى الذي برز من خالل أزمات‬ ‫العرب يف مواجهة إرسائيل ويف تجارب الوحدة بني‬ ‫مرص وسورية ويف أزمة الخليج‪ ،‬هو أن الوحدة‬ ‫لن تتحقق إال بسقوط جدار االستبداد السيايس‬ ‫والديني كام سقط جدار برلني ليعلن عن والدة‬ ‫التغريات الدميقراطية يف العرص الحديث‪.‬‬ ‫‪7‬‬


https://www.facebook.com/groups/ArbAtheistNW/

8


‫أصوات من تحت الركام‬ ‫ٌ‬

‫د‪ .‬خلدون الشامي‬

‫ال يخفى عىل ٍ‬ ‫أحد يف هذا العامل الصغري‬ ‫جعلت منه وسائل التواصل‬ ‫الذي‬ ‫ْ‬ ‫االجتامعي قري ًة صغري ًة ينترش فيها الخرب‬ ‫كالنار يف الهشيم‪ ،‬ال يخفى عليه ما حدث‬ ‫ٍ‬ ‫انتهاكات‬ ‫وما زال يحدث يف سوريا من‬ ‫لإلنسانية باسم الدين والله ومن قبل‬ ‫كافة األطراف‪ ،‬فالكل يختبئ وراء ستارة‬ ‫الدين ويجعل الله حليفه ونصريه‬ ‫متذر ًعا ٍ‬ ‫بآيات وأحاديث يؤ ّولها كيفام‬ ‫يشاء ويتخيل الطرف اآلخر يقاتل‬ ‫وواجب‬ ‫ضده تحت راية الشيطان‬ ‫ٌ‬ ‫عليه قتاله واستئصاله من األرض‬ ‫ليعم السالم فيها حسب زعمه‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫أصوات من تحت الركام‬ ‫د‪ .‬خلدون الشامي‬

‫أود أن أنقل لكم واحد ًة من تجاريب الكثرية كمولو ٍد يف‬ ‫سوريا‪ ،‬تلك األرض التي حلت عليها هذه اللعنة والتي ال‬ ‫تأبه بطفلٍ ال يدرك ملاذا يقتل باسم دين السالم أو كام‬ ‫سمع من والديه‪ ،‬أو بامرأ ٍة تعتقد بأن الدين ك ّرمها وجعلها‬ ‫مل من هذه الحياة ويريد‬ ‫فوق نساء العاملني‪ ،‬أو مبُسنٍ ّ‬ ‫أن يعيش آخر أيامه يف سكين ٍة وراح ٍة بعي ًدا عن ضوضاء‬ ‫الحروب وصخبها‪.‬‬ ‫أود أن أخربكم عن آخر أيامي يف سوريا والتي خرجت منها‬ ‫ومحاول أن أمللم شتات نفيس‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مهزو ًما طب ًعا‬ ‫لقد كانت أيا ًما عصي ًة عىل النسيان محفور ًة خالد ًة يف الذاكرة‪ ،‬حيث كنت يف إحدى ضواحي العاصمة دمشق والتي‬ ‫وكل يربر موقفه ٍ‬ ‫بآيات وأحاديث ال تقبل الشك وال تخضع‬ ‫يحاول طرفا النزاع السيطرة عليها بكل ما أوتوا من قوة‪ٌّ ،‬‬ ‫للمناقشة دون مراعاة أدىن درجات الشفقة واإلنسانية تجاه الناس املدنيني والذين كانوا يرغبون بالذهاب إىل الجحيم‬ ‫والذي سيكون أرحم من اللحظات التي يعيشونها يف تلك األيام البائسة‪.‬‬ ‫فوق األرض ال تسمع سوى صوت الطائرات وقذائف الدبابات وهدير الصواريخ وأزيز الرصاصات‪ ،‬ال يشء سوى ذلك‬ ‫وإن استطعت بطريق ٍة ما أن تستثني تلك األصوات فإنك وبال ٍ‬ ‫شك ستقف أمام مدينة أشبا ٍح خالي ٍة من أي عالم ٍة عىل‬ ‫ٍ‬ ‫كوكب كانت فيه حضار ٌة عريق ٌة ولكن قاطنيه قد أبادوا بعضهم بسبب خر ٍ‬ ‫ومعتقدات‬ ‫افات‬ ‫الحياة وكأنك تعيش عىل‬ ‫ٍ‬ ‫بالي ٍة وال يشء سوى الركام!‬ ‫أما تحت األرض فكانت أصوات الحياة وما أكرث تلك‬ ‫األصوات‪ ،‬فقد اعتاد املدنيون أن يبقوا يف األقبية يف‬ ‫أوقات القصف الشديد ‪-‬كونها أكرث أم ًنا من البقاء‬ ‫فوق األرض‪ -‬أو باألحرى عىل أطراف الركام‪.‬‬

‫‪10‬‬


‫أصوات من تحت الركام‬ ‫د‪ .‬خلدون الشامي‬

‫ٍ‬ ‫مقومات للحياة‬ ‫بقينا عىل هذه الحال لشهو ٍر طويل ٍة دون أي‬ ‫من غذا ٍء وما ٍء وكهرباء‪ ،‬ال نعلم متى ستنتهي هذه الحرب‬ ‫وكانت كل لحظ ٍة كأنها سن ٌة ال بل أكرث‪ ،‬نشعر بثقلها عىل‬ ‫رؤوسنا‪ ،‬وقد اعتدت أن ات ّخذ لنفيس زاوي ًة من زوايا القبو‬ ‫منعزل عن بقية سكان البناء الذين كانوا حوايل العرشين‬ ‫ً‬ ‫عائل ًة‪.‬‬ ‫وبالطبع يف منتصف القبو هناك ذلك الجدار العايل بني‬ ‫النساء والرجال والذي كان ال بد من تواجده وإقامته حتى‬ ‫يف أقىس ظروف الحياة لكيال يُفنت الرجال بالنساء وتزيغ‬ ‫أعينهم باتجاههن!‬ ‫ٍ‬ ‫خافت يُعمي العيون ومل يكن ذلك الضوء أكرث سطو ًعا من أملنا بالحياة وبالخروج‬ ‫كنت أقيض الوقت بالقراءة تحت ضو ٍء‬ ‫من ذلك القبو العفن‪.‬‬ ‫ويف إحدى اللحظات وضعت كتايب جان ًبا وبدأت أتأمل وبدأ ذلك الضوء فوق رأيس بالخفوت شيئًا فشيئًا وحينها بدأت‬ ‫يشء إال حاسة السمع‪ ،‬ففي الطرف املقابل من جانب النساء سمعت أصوات‬ ‫أم ّيز األصوات وكأين فقدت اإلحساس بكل ٍ‬ ‫متتامت األدعية واالبتهاالت لله ليك ينقذنا ويخلّصنا أو عىل األقل يخفف عنا ويرضينا بهذا القدر الذي أراد هو أن نعيشه‬ ‫لحكم ٍة ما!‬ ‫وبني أصوات األدعية ميزت صوت األطفال بني أحضان أمهاتهم‪ ،‬صوتٌ تستطيع الشعور به بكل حواسك ملؤه الخوف‬ ‫وممزوج بصوت التأمل جو ًعا وحرمانًا‪.‬‬ ‫والحرية‬ ‫ٌ‬ ‫أما يف جانب الرجال فقد كانت هناك مجموع ٌة من املصلني اتخذوا ألنفسهم‬ ‫زاوي ًة وأخذوا يصلّون ويبتهلون‪ ،‬وكان صوت اإلمام يعلوا تزام ًنا مع اقرتاب‬ ‫صوت الطائرة ويصل لذروته حني تسقط قذيف ٌة أو صارو ٌخ يف الحي ألن كالم‬ ‫الله كان البد أن يعلو عىل أي صوت‪ ،‬وال زلت أذكر أن أحد املصلني قد ترك‬ ‫الصالة قبل نهايتها وجلس جان ًبا وقد برر الحقًا لبقية املصلني أنه مل يعد يستطع‬ ‫الرتكيز ولكني أجزم أنه أدرك سذاجة ما كان يفعله يف هذا املوقف‪.‬‬ ‫‪11‬‬


‫أصوات من تحت الركام‬ ‫د‪ .‬خلدون الشامي‬

‫وبالقرب م ّني كان يجلس ُمس ّنا ٌن تظهر يف وجهيهام عالمات الهم والحزن وكانا يواسيان نفسيهام بأقوا ٍل وأحاديث عن‬ ‫آخر الزمان وكيف سينرص الله عباده وأن ال بد سنخرج من هذا القبو اللعني شامخي الرؤوس ومنترصين‪.‬‬ ‫كام كان صوت بطني التي ت ّنئ من الجوع ال يقل حد ًة عن بقية األصوات وكأن الذي يحدث هو عبار ٌة عن مسابق ٍة للفوز‬ ‫بلقب أعىل نغم ٍة من النغامت وأكرثها تأث ًريا عىل الجمهور!‬ ‫يل أقوى منها جميعا‪ ،‬صوتٌ يقول يل‪:‬‬ ‫يف زحمة تلك األصوات كان هناك صوتٌ داخ ٌ‬ ‫ملاذا؟!!‬ ‫ملاذا يرى الله كل هذه املعاناة وال يحرك ساك ًنا؟!!‬ ‫هل يصله صوتنا ولكنه عاج ٌز عن فعل أي يشء؟!!‬ ‫ملاذا ال تصل له أدعية النساء وصلوات الرجال أو عىل األقل بكاء األطفال وأنينهم جو ًعا؟!!‬ ‫ملاذا ونحن الذين يُفرتض أن نكون (الفرقة الناجية) نعيش أقىس ما ميكن للبرش أن يتخيلوه‪ ،‬بينام (الكفار) ينعمون بأمنٍ‬ ‫وأمانٍ ويستمتعون مبا لذ وطاب من متع الحياة؟!!‬ ‫بقيت أردد هذه األسئلة‬ ‫حتى سكتت جميع األصوات‬ ‫ومل أعد أسمع أي يش ٍء‬ ‫عميق مل‬ ‫نوم‬ ‫ٍ‬ ‫واستغرقت يف ٍ‬ ‫أستيقظ منه إال عىل صوت‬ ‫غار ٍة جوي ٍة بالقرب من باب‬ ‫القبو أو باألحرى القرب‪ ،‬ذلك‬ ‫الصوت كان يقول حينها‪:‬‬ ‫أنا أعىل من كل يشء‪ ،‬أنا املنترص هنا‪.‬‬ ‫كان ذلك املوقف ومواقف كثري ٌة قبله وبعده مسامري ت ّ‬ ‫ُدق يف نعش إمياين وحجار ًة تُرصف عىل طريق إلحادي بإل ٍه ال يأبه‬ ‫برصخات عباده املتأملني وهو القادر عىل كل يشء!‬ ‫‪12‬‬


13


‫رب معبود‬ ‫ٌ‬ ‫شيطانٌ رجيم جـ ‪4‬‬ ‫التعزيز املتقطّع‬ ‫واالستالب العقائدي‪:‬‬

‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬

‫يستخدم الطغاة أساليب عديد ًة لتطويع الجموع‪،‬‬ ‫أخطرها وأشدها تأثريًا هي تلك النفسية منها‪ ،‬أحد‬ ‫هذه األساليب هو التعزيز املتقطّع‪ ،‬ويستخدم هذا‬ ‫األسلوب من ِقبل ذوي السلطة بهدف السيطرة‪ُ ،‬يعطي‬ ‫ٍ‬ ‫مكافآت قليل ًة مقابل خضوعٍ كاملٍ متكاملٍ‬ ‫بها املسيطر‬ ‫من ِقبل املسيطر عليه‪ ،‬ويقوم الطرف املسيطر بسحب هذه‬ ‫املكافآت متى يشاء‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫رب معبود‬ ‫ٌ‬ ‫شيطانٌ رجيم جـ ‪4‬‬ ‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬

‫يتّبع هذا األسلوب أصحاب السلطة وأحيانًا يط ّبقها‬ ‫بعض الرجال عىل نسائهم‪ ،‬حيث يدور الطرف‬ ‫الخاضع يف فَلك الطرف املسيطر وال يستطيع الخروج‬ ‫من دائرته‪ ،‬يعيش حياته من ّفذًا ألوامره منتظ ًرا‬ ‫اللحظة التي يُعطيه بها الطرف اآلخر تلك املكافئة‬ ‫التي يعتاش عليها‪.‬‬ ‫األسلوب اآلخر هو االستالب العقائدي‪ ،‬ويُط َّبق هذا‬ ‫األسلوب غال ًبا يف املجتمعات الدينية وهو أقرب إىل‬ ‫مثل‪ ،‬يقوم األهل برتبية األطفال تربي ًة‬ ‫عملية التدجني‪ً ،‬‬ ‫قاسي ًة ج ًدا هدفها السيطرة عليهم لجعلهم يقضون‬ ‫حياتهم يف سجن العادات والتقاليد باسم العقيدة‬ ‫واألمر اإللهي‪ ،‬ويُط ّبق هذا األسلوب أكرث عىل اإلناث‪،‬‬ ‫فاملرأة التي تعيش كل حياتها لخدمة أفراد األرسة فقط هي إنسان ٌة مستلب ٌة عقائديًا‪ ،‬وعندما تحاول توعيتها ترفض بشد ٍة‬ ‫وتتّهمك بأبشع االتهامات‪ ،‬مثل هذه املرأة تد ّجنت منذ صغرها وتربّت عىل أن هذا هو قدرها املحتوم وإذا زاحت عنه‬ ‫ستشعر بأنها آمث ٌة مرتكب ٌة لخطيئ ٍة كربى‪.‬‬ ‫عىل اإلنسان الواعي الناضج أن يكون مدركًا ملن حوله بد ًءا من أرسته وانتها ًء مبن ميلكون زمام شؤونه‪ ،‬فإذا وجد نفسه‬ ‫يف بوتق ٍة تحرق كيانه فلينتفض ويثبت إنسانيته قبل أن ت ُسلب منه نهائ ًيا‪.‬‬

‫الخاتـــــــــــــــــــــمة‪:‬‬ ‫برهنت بال جدا ٍل عىل مكانة‬ ‫تركت لنا األلواح الطينية املكتشَ فة يف القرن التاسع عرش‪ ،‬نصوص الترشيع العراقية التي‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫تدرجت من امرأ ٍة لرب ٍة ت ُعبد‪ ،‬تأمر فتطاع‪ ،‬يُخىش غضبها وجربوتها‪ ،‬إىل االنحدار مع الدولة البابلية‬ ‫املرأة الرافدية‪ ،‬وكيف‬ ‫ْ‬ ‫املتأخرة ليرتافق ذلك طيلة القرون الالحقة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫منصف ميكّنها كامرأ ٍة من أبسط حقوقها‪ .‬آنذاك كان من حقّها التملك وإدارة التجارة‪ ،‬ومن‬ ‫إىل اآلن تسعى لترشيعٍ‬ ‫حقّها منح الحرية ألبنائها من زو ٍج ٍ‬ ‫عبد مملوك‪ ،‬ومن حقّها أن تقود دفة الحكم وأن تكون الحامية للدين وللمعبد وأن‬ ‫تُق ّرر مصري البالد‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫ﻣﺴﻠﻤﻮ ﺃﻣﺮﻳﻜﺎ ﺍﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﻮﻥ‬

Ex-Muslims of North America NO BIGOTRY, NO APOLOGY

‫دون ﺗﻌﺼﺐ أو اﻋﺘﺬار‬ ‫ﻧﺒﻨﻲ ﺟﻤﺎﻋﺎﺕ ﺩﺍﻋﻤﺔ‬

Building Communities

‫ﻧﻨﺸﺮ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﺔ‬

Promoting Secular Values

‫ﻧﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﺨﻔﻴﻒ ﻋﻮﺍﻗﺐ ﺍﻟﺮﺩﺓ‬

Mitigating Costs of Apostasy

‫ﻧﺴﻌﻰ ﻟﺘﻄﺒﻴﻊ ﺍﻻﻧﺸﻘﺎﻕ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ‬

Normalizing Religious Dissent

facebook.com/exmna

exmna.org

@exmuslimsofna

theexmuslim.com

E MNA 16


‫األضحية‬

‫طقس مه ٌم بني اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫تحتل األضحية أهمي ًة كبري ًة يف التاريخ اإلنساين‪ ،‬فهي ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫طقس‬ ‫برشي‬ ‫واآللهة‪ ،‬وتعود جذورها ألقدم تاري ٍخ ٍ‬ ‫معروف وغري معروف‪ ،‬إنه ٌ‬ ‫بطعام أو حيوانٍ إىل مامرس ٍة معقد ٍة‬ ‫تتنوع أشكاله من تضحي ٍة بسيط ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫كالتضحية بإنسان‪ ،‬واحتار الباحثون والدارسون يف تفسري أسبابها‪ ،‬هل هي‬ ‫مقدم إلرضاء‬ ‫طعام ٍ‬ ‫ديني ٌة محضة؟ أم لها أبعا ٌد اقتصادية؟ هل هي مجرد ٍ‬ ‫طقس للسمو بالنفس البرشية للوصول إىل اإلله؟ أم هي بدع ٌة‬ ‫اآللهة؟ أم هو ٌ‬ ‫سياسي ٌة للتحكم يف الجوعى من الشعب والسيطرة عىل املوارد؟‬ ‫‪17‬‬

‫‪Ahmed Abd‬‬ ‫‪Alraziq Ali‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫هناك الكثري من التفسريات‪ ،‬ولكن جميعها تقع تحت بند التكهن بدون دليلٍ ‪ ،‬وأغلب التفسريات يت ّم طرحها بنا ًء عىل‬ ‫املعتقدات الحالية‪ ،‬وهنا نستعرض بعض الشعائر املتعلّقة باألضحية عرب التاريخ واألديان املختلفة ومحاولة فهم أسباب‬ ‫كل منها‪.‬‬ ‫ٍّ‬

‫العرص الحجري‪:‬‬ ‫يعتقد الباحثون والدارسون أ ّن تاريخ‬ ‫عام‬ ‫األُضحية والقرابني ميت ّد إىل ثالثني ألف ٍ‬ ‫نحو املايض ورمبا أقدم؛ العثور عىل عظام‬ ‫ٍ‬ ‫معي بالقرب من مواقع‬ ‫برتتيب ّ ٍ‬ ‫حيوانات‬ ‫ٍ‬ ‫الدفن والعبادة جعل الباحثون يعتقدون‬ ‫أنها رمبا طقوس أضحي ٍة حيواني ٍة لألرواح أو‬ ‫تكريم للحيوان الذي ت ّم صيده‪،‬‬ ‫لآللهة أو‬ ‫ٍ‬ ‫أيضا وجد الباحثون عظا ًما برشي ًة ُمختلط ٌة‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫حيوانات بداخل أنفاقٍ و ُحف ٍر‬ ‫مع عظام‬ ‫تُوحي بأنها أماكن خاص ٌة بالقرابني كدليلٍ‬ ‫عىل أن البرش كانوا نو ًعا من األضحية املتبعة‬ ‫عند بعض القبائل‪ ،‬أو مامرسة أكل لحوم‬ ‫البرش عند القبائل التي تعبد الجمجمة‪.‬‬

‫هياكل عظمي ٌة ليافعني تعود إىل ما قبل ‪ 27‬ألف من موراڤيا يعتقد أنهم ماتوا‬ ‫يف مراسيم تضحية برشية‬

‫اهق وفتا ٍة مشوه ٍة بأث ٍر ٍ‬ ‫طبيعي بجوار هيكلٍ لجسد ٍ‬ ‫شخص‬ ‫ملوت غري‬ ‫لقزم مر ٍ‬ ‫يف إيطاليا ت ّم العثور عىل هياكل عظمي ٍة ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫طقيس مه ٌّم بني قبائل الصيد القدمية هناك‪ ،‬وت ّم‬ ‫سليم مع الكثري من الحيل والزينة العظمية‪ ،‬يُعتقد أنه كان نشا ٌط‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫عظام تعود ألطفا ٍل يف روسيا يُعتقد أنهم ماتوا يف طقوس األضاحي‪.‬‬ ‫العثور عىل بقايا ٍ‬ ‫اختلف تفسري األضحية القدمية بني الشعائر الدينية السائدة من عبادة الطوطم الذي كانوا يتشاركون فيه لحم األضحية‬ ‫فيام بينهم وعبادة األسالف الذين كان يت ّم ترك بعض الطعام لهم ألكله واالستمرار يف حاميتهم‪ ،‬وتقديس الطبيعة‬ ‫فس البعض أن القبائل القدمية‬ ‫واألضحية ببقايا الحيون كنو ٍع من طلب تجديده وإعادته للطبيعة والحياة من جديد‪ّ ،‬‬ ‫وقتل الحيوان كان يُشعرهم بالذنب لهذا جعلوا من باقي القبيلة تقوم مبشاركتهم كنو ٍع من‬ ‫كانت من الصيادين ُ‬ ‫الشعائر لتخفيف الذنب عليهم ومشاركة الخطيئة‪ ،‬ولكن حتى اآلن ال يوجد تفس ٌري قاط ٌع ألصل وسبب األضحية قد ًميا‪.‬‬ ‫‪18‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫القبائل القدمية الشامانية‪:‬‬ ‫قبائل قدمي ٌة من الصيادين يق ّدسون األرواح واألسالف‪ ،‬وانترشوا‬ ‫ُ‬ ‫بشكلٍ واسعٍ يف مختلف البقاع‪ ،‬ويعتربهم البعض السكّان األصليني‬ ‫ألغلب الدول مثل اليابان وأسرتاليا وأمريكا‪ ،‬وبعض القبائل يف أفريقيا‬ ‫أيضا‪ ،‬ومازال البعض منهم موجو ًدا حتى اآلن وتُعطينا‬ ‫تتبع الشامانية ً‬ ‫شعائرهم ملح ًة عن املايض‪ ،‬وتشمل بعض طقوسهم أنوا ًعا مختلف ًة‬ ‫وكل قبيل ٍة كانت تحمل شعائر خاص ًة لألضحية‪ .‬بعض‬ ‫من األضحيات ّ‬ ‫القبائل كانت تقوم باألضحية بكامل الحيوان عن طريق إغراقه يف‬ ‫بحري ٍة أو عن طريق الحرق كشك ٍر لآللهة عىل ٍ‬ ‫صيد وفري‪ ،‬وكان يت ّم‬ ‫أيضا تقديم األضحية من أجل الشفاء والحامية من األخطار وغريها‪.‬‬ ‫ً‬

‫اآلينو‪:‬‬ ‫السكّان األصليون لليابان‪ ،‬وهم قبائل ٍ‬ ‫صيد وت ُع ّد شعائرهم نو ٌع من الشامانية‪ ،‬وكانت عقيدتهم قامئ ًة عىل عبادة الدب‪،‬‬ ‫دب صغريٍ يتبناه أهل القبيلة وتت ّم تربيته مل ّدة سنتني وبعدها يتم االحتفال مبهرجان الدب أو طرد‬ ‫فعند العثور عىل ٍّ‬ ‫يتجل بداخل الدب وعليهم أن يساعدوه بتحريره من جسده‪ ،‬يت ّم تقديم نو ٍع من البوم‬ ‫الدب‪ ،‬العتقادهم أن اإلله ّ‬ ‫اسمها بومة السمكة وهي أكرب أنواع البوم كقربان‪ ،‬وبعدها يجتمع أهل القبيلة حول الدب ويتم قتله ورشب دمائه‬ ‫وأكل لحمه ووض ُع رأسه عىل رم ٍح مع جِلده وتتم عبادته متم ّنني أن يكون اإلله سعي ًدا بتحريره من جسده‪ ،‬وهذا‬ ‫الطقس ال يعتربه اآلينو أضحي ًة‪.‬‬

‫سيبرييا‪:‬‬ ‫عىل الرغم من أن شعوب سيبرييا تتّبع تقاليد مختلف ًة‪ ،‬إال أ ّن العديد من املامرسات االحتفالية التي تنطوي عىل الرنّة متتلك‬ ‫ٍ‬ ‫سامت أساسي ًة مامثل ًة‪ .‬غال ًبا ما تتعلق هذه برفاهية القطيع والفوائد املالية املكتسبة نتيج ًة لذلك‪ ،‬وتعكس الرتاث البدوي‬ ‫ُعب عن عالقة اإلنسان بالتق ّدم الدوري للفصول‪ .‬تت ّم التضحيات يف «األماكن املق ّدسة»‪ ،‬والتي عاد ًة ما تكون غاب ًة‬ ‫للناس‪ ،‬وت ّ‬ ‫مق ّدس ًة تؤوي اآللهة أو األرواح‪ ،‬تتدىل جلود الرنّة والحوافر والقرون عىل األشجار املق ّدسة‪ ،‬يُعتقد أنّه من الرضوري أن يتلقى‬ ‫ٍ‬ ‫لكل قبيلة‪،‬‬ ‫طقوس مختلف ٍة ّ‬ ‫اإلله كامل الحيوان الذي تتم التضحية به أو أجزا ٍء منه بعد تناول لحمه‪ ،‬عىل الرغم من وجود‬ ‫كل هذه الطقوس تتض ّمن تقديم الحيوان لرو ٍح أو إل ٍه بطريق ٍة ما‪ ،‬أو بغرض طلب الشفاء وإطالة العمر واملساعدة يف‬ ‫فإن ّ‬ ‫تسهيل الحياة والصيد‪.‬‬ ‫‪19‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫ٍ‬ ‫املفضل أل ّن بنظرهم‬ ‫شعب الخانتي كمثا ٍل يضحي بعدة‬ ‫حيوانات مثل األبقار والكباش والديوك‪ ،‬ولكن الرنّة هي الحيوان ّ‬ ‫التضحية بحيوانٍ مفي ٌد وأكرث أهمي ًة من الحيوان العادي‪ .‬يقوم الشامان املسؤول عن الطقوس بتناول ِفط ٍر ُم ٍ‬ ‫هلوس مع‬ ‫وجود الغناء من باقي القبيلة حتّى يحصل عىل رؤي ٍة عن موقع التضحية التي تكون عاد ًة يف الغابات املق ّدسة‪ .‬يت ّم تزيني‬ ‫حيوانات الرنّة بأقمش ٍة ملونة‪ ،‬األبيض مرتب ٌط بالسامء واألسود بالعامل السفيل واألحمر بفَناء األرض‪ ،‬ويُشرتط أن تكون‬ ‫الرنّة بنفس جنس اإلله أو الروح التي ستقوم األضحية من أجلها سوا ٌء كانت ذك ًرا أو أنثى‪ ،‬بعد طقوس التلوين الخاصة‬ ‫وس ِ‬ ‫لخها مع الحرص عىل عدم إراقة الدماء عىل الثلج‪ ،‬يت ّم طهي لحومها وتناولها‪ ،‬وبعد‬ ‫وتالوة الصلوات يت ّم قتل الرنّة َ‬ ‫االنتهاء يت ّم تعليق جلودها وعظامها عىل األشجار بغرض عودة روح الرنّة إىل سيد الحيوانات حتّى يقوم ببعثها من‬ ‫ٍ‬ ‫جديد للحياة ملنفعة الناس‪ ،‬ويف الجنازات يتم وضع قرون الرنّة عىل مدافن املوىت‪.‬‬ ‫طقوسا خاص ًة باألضحية الجنائزية‪ ،‬حيث يت ّم حمل جثّة امليت عىل مزال ٍج يت ّم سحبه بواسطة‬ ‫ميتلك شعب تشوكيش‬ ‫ً‬ ‫الرنّة‪ ،‬وعند الوصول ملوقع الدفن يتم طعن الرنة والتظاهر بتوجيهها بالسوط نحو العامل اآلخر وبعد االنتهاء من هذه‬ ‫الشعائر يت ّم ذبح الرنّة وتركها كام هي مربوط ًة بالزالّجة وكأنّها تقوم بنقل امليت إىل عامل األرواح‪.‬‬

‫قبائل أفريقيا‪:‬‬ ‫أيضا إالّ‬ ‫تُع ّد املامرسة الدينية يف أفريقيا نو ًعا من الشامانية ً‬ ‫قليل‪ ،‬فبعض القبائل تعتمد عىل الزراعة‬ ‫أنها تختلف عن آسيا ً‬ ‫وأيضا اشتهرت األضحية البرشية لديهم‪.‬‬ ‫بخالف الصيد‪ً ،‬‬ ‫وكل قبيل ٍة لها‬ ‫تختلف القرابني من قبيل ٍة ألخرى يف أفريقيا ّ‬ ‫طقوسها‪ ،‬فبعضهم يقوم باألضحية كمحاكا ٍة لعملية الخلق‬ ‫أيضا‬ ‫وكيف ق ّدم اإلله التضحية والفداء لخلق العامل‪ ،‬وتُق َّدم ً‬ ‫يف أوقات الحصاد كشك ٍر لآللهة واألرواح‪ ،‬وت ُقدم أحيانًا كنو ٍع‬ ‫من التعويذة مثل قتل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫طقوس لتحضري‬ ‫أسد وحرق جثته مع‬ ‫روح املاء ومساعدتهم‪ ،‬وبعض القبائل ت ُق ّدم البرش كأضا ٍح‬ ‫وقرابني‪ ،‬مثل قتل فتاتني عذراوين وحرق جثتيهام ويت ّم‬ ‫دهن أجساد املحاربني برمادهام لحاميتهم ولنرصتهم‪ ،‬ومن‬ ‫أيضا التضحية باألطفال املصابني بال ُبهاق واعتبارهم‬ ‫املشهور ً‬ ‫ٍ‬ ‫تجسد لآللهة واعتقادهم أ ّن دماءهم ولحمهم‬ ‫شيئًا سحريًا أو‬ ‫مينح الشباب والصحة والقوة‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫‪20‬‬

‫يف تنزانيا يتم اصطياد املصابني بالبهاق للحصول عىل أطرافهم‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫بالد ما بني النهرين‪:‬‬ ‫كانت العالقة بني اآللهة‬ ‫والناس عالق ًة تبادلي ًة‪ ،‬فعىل‬ ‫اآللهة أن تحمي البالد وتل ّبي‬ ‫أمنيات العباد‪ ،‬ويحرص البرش‬ ‫يف املقابل عىل إبقاء اآللهة يف‬ ‫رض‪.‬‬ ‫حالة ً‬ ‫كانت أشكال األضحية متنوع ًة‬ ‫بتنوع اآللهة والشعائر وطلبات‬ ‫البرش‪ ،‬وأكرث من اشتهر‬ ‫باألضاحي هو اإلله مردوخ‬ ‫حيث كان يُق َّدم إليه يف اليوم‬ ‫بقايا ما يٌعتقد أنهام رجالن متت التضحية بهام مدفونان يف موقع مدينة أم املرى يف سوريا‬ ‫الواحد أكرث من أضحي ٍة عىل‬ ‫يش أجزا ٍء منها وتقدميها مع الخبز والرشاب‪ ،‬وكان يقوم بطهيها امللك أو الكهنة‪،‬‬ ‫شكل وجبات‪ ،‬يت ّم إحراقها بالكامل أو ّ‬ ‫كل أضحي ٍة تحمل رمزي ًة ودالل ًة خاص ًة‬ ‫ولكن كان للملك دو ٌر كب ٌري يف تقديم طقوس األضحية أغلب الوقت‪ ،‬ورمبا كانت ّ‬ ‫لكل إل ٍه أو حسب الهدف من األضحية‪ ،‬مثل تقديم خنزي ٍر أو قلبه للشيطان لدفع رشه بعي ًدا عنهم‪ ،‬أو اختيار ثو ٍر أسو َد‬ ‫ّ‬ ‫بعص ليت ّم إحراقه ليطرد رش الخسوف‪ ،‬أو تقديم رأس ماع ٍز ملردوخ حتّى يهدأ غضبه وسخطه‪ ،‬وكان يت ّم‬ ‫اللون مل يُرضب ً‬ ‫تقديم أنثى ماع ٍز عذراء لإللهة عشتار‪ ،‬وكانت تُق ّدم الكبد إىل أنانا حتّى يتمكن الكهنة من معرفة املستقبل وبشائره‪.‬‬ ‫شخص تقديم أضحي ٍة خاص ٍة كشك ٍر أو دفع ٍ‬ ‫كان ميكن ألي ٍ‬ ‫لكل أضحي ٍة مثل‬ ‫طقوس مختلف ٌة ّ‬ ‫مرض وابتالء‪ ،‬وكانت هناك‬ ‫ٌ‬ ‫واضح عن األضحية البرشية يف بالد ما بني النهرين يف‬ ‫دليل‬ ‫إغراق القربان أو دفنه سوا ٌء مع املوىت أو بدون‪ ،‬وال يوجد ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وكل ما ت ّم ذكره كان من التوراة اليهودية‪.‬‬ ‫السجالّت التاريخية ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ومناسبات‬ ‫ير ّجح العلامء والباحثون أنها خالي ٌة من الصحة‪ ،‬ولكن يعتقد بعض الباحثني أنه ت ّم مامرستها بشكلٍ ناد ٍر‬ ‫مح ّدد ٍة إن ُوجدت‪ ،‬أو األضحية الجنائزية كدفن الخدم والح ّراس مع بعض امللوك واألغنياء‪ ،‬ولكنها بشكلٍ ناد ٍر أو قليل‪.‬‬ ‫لكل ما هو غا ٍل لإلنسان‪ ،‬فق ّرر األخري‬ ‫أيضا بأنها تحتاج للخدمة وتحتاج ّ‬ ‫لقد آمن الشعب القديم بقوة اآللهة‪ ،‬ولكن آمن ً‬ ‫أن يضحي بكل ما هو غا ٍل ويق ّدمه لها بامتنانٍ لرتعاه دامئًا‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫األضحية عند اليونان‪:‬‬ ‫يف األساطري اليونانية استطاع بروميثيوس أن‬ ‫يرسق أحد صواعق زيوس وأخفاها داخل‬ ‫عصا مجوف ٍة صنعها من النباتات ثم أعطى‬ ‫قبس منها للبرش‪ ،‬وتعلّم البرش كيف يقتلوا‬ ‫ٌ‬ ‫الحيوانات ويطهوا لحومها‪ ،‬تصاعدت‬ ‫رائحة الشواء إىل األوليمب وعلِم زيوس‬ ‫بخيانة بروميثيوس ورسقته لل ّنار ورأى أ ّن‬ ‫البرش لن يدينوا له بالوالء املناسب إذا‬ ‫عرضا‬ ‫غرقوا يف النعم فق ّدم بروميثيوس له ً‬ ‫دليل عىل الوالء‪ ،‬عرض عليه أن يقاسم البرش لحومهم الشهية مقابل أن يسمح لهم االحتفاظ بالنار‪ ،‬قام بروميثيوس‬ ‫ً‬ ‫املشهور بالدهاء واملكر بتقديم قربانني إىل زيوس وآلهة األوليمب‪ ،‬وكان أحد القربانني عبار ًة عن قطعٍ من اللحم الطازج‬ ‫كل ما يؤكل يف الثور‪ -‬مخبأ ٌة داخل األمعاء (يش ٌء طاه ٌر زيكٌ يف صور ٍة كريهة)‪ ،‬والقربان اآلخر كان عبار ًة عن عظام‬ ‫ هي ّ‬‫وشحم ب ّراق (يش ٌء كري ٌه يف صور ٍة مبهرة)‪.‬‬ ‫ثو ٍر ملفوف ٍة يف دهنٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُخدع زيوس واختار القربان الثاين لآللهة وبذلك استطاع البرش االحتفاظ باللحم ألنفسهم وحرق العظام بعد كسيها‬ ‫بالدهن كقربانٍ لآللهة‪.‬‬ ‫كانت األضاحي والقرابني شائع ًة بشكلٍ كبريٍ عند اليونان وارتبطت دامئًا باالحتفاالت‪ ،‬وأكرث ما متّت التضحية بها هي‬ ‫املفضلة‪ ،‬وهذا مل مينع التضحية باملاعز أو الخنازير والطيور‪.‬‬ ‫الغنم‪ ،‬ولكن كان الثور هو أضحيتهم ّ‬ ‫كانت األضاحي لها شعائر خاص ًة تُ َارس عىل مذب ٍح خارج املعابد‪ ،‬حيث يت ّم تزيني الحيوان باألكاليل وتقوده فتا ٌة نحو‬ ‫أيضا‪ ،‬وبعد أن يتم ذبح األضحية‬ ‫املذبح‪ ،‬وتُخفي سكني الذبح يف سل ٍة فوق رأسها‪ ،‬وتنشد الرتانيم والصالة والرقص والغناء ً‬ ‫ٍ‬ ‫بصوت عا ٍل‪ ،‬والدم يسيل عىل املذبح ويُق َّدم الجلد للمعبد لبيعه‪ ،‬ويت ّم طهي اللحم وتناوله من قبل‬ ‫ترصخ النساء‬ ‫املحتفلني‪ ،‬وبعد االنتهاء يت ّم جمع بقاياه وإحراقها كقربانٍ لآللهة‪.‬‬ ‫عندما تكون األضحية مق ّدم ًة آللهة العامل السفيل كان يتم إحراقها بالكامل لآللهة واألرواح بدون أن يأخذوا شيئًا منها‪.‬‬ ‫وأيضا كانت ت ُق ّدم عند حدوث الكوارث أو طلب املساعدة والنرص‬ ‫طقوس األضاحي كانت متا َرس يف األعياد لغرض األكل ً‬ ‫عام كام وصفها الشاعر هيبونكس‪ ،‬وكانت تُس ّمى طقوس‬ ‫أيضا األضحية البرشية ّ‬ ‫من اآللهة‪ ،‬و ُعرفت عن اليونان ً‬ ‫كل ٍ‬ ‫‪22‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫فارماكوس مبعنى كبش الفداء البرشي‪ ،‬قبل مهرجان ثارجيليا (مهرجان الحصد)‪ ،‬واح ٌد من أهم مهرجانات أثينا تكر ًميا‬ ‫ٍ‬ ‫بخروف أو‬ ‫لإلله أبولو وارمتيس‪ ،‬حيث يت ّم اختيار رجليني بشيعي املظهر ليت ّم تقدميهام ككفارة‪ ،‬وكانت تتم األضحية‬ ‫رجل منهم يَفدي الرجال والثاين يَفدي النساء‪ ،‬ويت ّم‬ ‫خنزي ٍر إىل دميرتي إلهة الحصاد‪ ،‬وبعدها يت ّم تقديم الرجلني عاريني‪ٌ ،‬‬ ‫بعص من أغصان التني حتّى الوصول‬ ‫سحبهم بحبا ٍل من أغصان التني مربوط ًة بأعناقهم ويت ّم جلد أعضائهم التناسلية ً‬ ‫لرصخة الفداء عند الشاطئ‪ ،‬فيت ّم رجمهم حتى املوت وتُحرق جثثهم ويُنرث الرماد يف البحر أو عىل األرض‪ ،‬ويُعتقد أنه‬ ‫جرم وإلقائه من فوق صخرة الفداء‪ ،‬أو طرده خارج املدينة‬ ‫تم تغيري هذه الطقوس لقسوتها فأصبح ّ‬ ‫عام يتم اختيار ُم ٍ‬ ‫كل ٍ‬ ‫وهو يُرجم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مبهرجانات‬ ‫ومع توسع الدولة األثينية‪ ،‬كانت هناك حاج ٌة إىل العديد من الثريان إلطعام الناس يف املآدب وكانت مصحوب ًة‬ ‫رسمية‪ ،‬وأصبح املوىت الساموي (مائة ثور)‪ ،‬التسمية العامة للتضحيات العظيمة التي ت ُق ّدمها الدولة‪ ،‬تزيل مواكب‬ ‫القرابني هذه ملئات الثريان الروابط األصلية التي شعر بها املزارعون يف أثينا السابقة واألصغر بثورهم الواحد‪.‬‬

‫الشعوب اإلسكندنافية (الفايكنج)‪:‬‬ ‫من أجل خلق عامل البرش ق ّرر (أودين) وإخوته قتل العمالق األول ميري‪ ،‬وبعد قتله صنعوا العامل من جثته‪ ،‬واملحيطات‬ ‫من دمائه‪ ،‬والرتبة من جلده ولحمه‪ ،‬والنباتات من شعره‪ ،‬والغيوم من دماغه‪ ،‬والسامء من جمجمته‪.‬‬ ‫ربا تكون هذه الطقوس التي ات ّبعها أودين لخلق العامل‬ ‫ّ‬ ‫من األسباب التي جعلت أغلب شعائر الفايكنج تقوم عىل‬ ‫األضحية بشكلٍ ملحوظ‪ ،‬وكان يت ّم تقديم األضاحي مرتني يف‬ ‫السنة بشكلٍ مستم ٍر بداية الشتاء وبداية الصيف‪ ،‬وكانت‬ ‫املفضلة هي األحصنة والخنازير‪ ،‬يُض ّحى ألودين‬ ‫األضاحي ّ‬ ‫بالخيل‪ ،‬وكان يق ّدم لفريي الخنزير وثور املاعز للحامية من‬ ‫املجاعات واألخطار‪ ،‬كانت تت ّم طقوس األضحية بداخل ٍ‬ ‫معبد‬ ‫رش الدماء‬ ‫بحضور الجميع وامللك بينهم‪ ،‬يُقتل الحيوان ويت ّم ّ‬ ‫عىل جدران املعبد ومتاثيل اآللهة وعىل الحارضين‪ ،‬العتقادهم‬ ‫أن الدماء تحتوي عىل قو ٍة خاصة‪،‬ثم يُطهى اللحم ويتناوله‬ ‫والسكْر واالحتفال‪ ،‬ويت ّم تعليق‬ ‫الجميع مع رشب البرية ُ‬ ‫الرؤوس والجلود عىل األشجار‪ ،‬أحيانًا كان يت ّم تقديم األضحية‬ ‫مشنوق ًة ألودين أو يت ّم إغراقها بداخل اآلبار أو ذبحها‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫ٍ‬ ‫كل كائنٍ يف الغابات املق ّدسة ويتم تعليق رؤوسهم عىل األشجار‪،‬‬ ‫سنوات كانت تتم التضحية بتسعة ذكو ٍر من ّ‬ ‫وكل تسع‬ ‫ّ‬ ‫أي دليلٍ عىل تقديم أضحي ٍة برشي ٍة لآللهة يف اآلثار أو الرتاث الخاص بالفايكنج غري ما نُقل عن املسيحيني‪،‬‬ ‫وال يوجد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تزييف ال أكرث‪ ،‬ولكن وجود التضحية الجنائزية كام كتب عنها أحمد بن فضالن يف‬ ‫وأغلب الباحثني يؤكّدون أنّها مجرد‬ ‫ٍ‬ ‫زوجات لرغبتهم يف املوت مع سيدهم ونقلهم للعامل اآلخر معه‪ .‬من أجل خلق‬ ‫خدم أو‬ ‫رحلته أنه يتقدم من يُرد من ٍ‬ ‫متعمق يف‬ ‫العامل يجب أن تكون هناك أضحي ٌة ومن أجل الحفاظ عليه يجب أن تكون هناك أضحية‪ ،‬فالقتل والدماء‬ ‫ٌ‬ ‫جذور الفايكنج‪.‬‬

‫الهندوسية‪:‬‬ ‫تُ ارس طقوس األضحية يف‬ ‫الهندوسية منذ آالف السنني‪ ،‬وتُع ّد‬ ‫جوهر طقوس الهندوسية وأبعادها‬ ‫الروحية‪ ،‬يت ّم تنفيذ التضحيات‬ ‫ألغر ٍ‬ ‫اض مختلف ٍة هدفها األسمى‬ ‫هو إقامة رشاك ٍة مع اآللهة وطلب‬ ‫وأيضا لخدمة اآللهة‪،‬‬ ‫مساعدتهم ً‬ ‫يف الهندوسية متتلك اآللهة القوة‬ ‫وصنع‬ ‫لتحريك األرض والسامء ُ‬ ‫املعجزات ولكن ال ميكنها إطعام‬ ‫نفسها لهذا تحتاج ملساعدة البرش‬ ‫وقرابينهم‪ .‬املتلقي األسايس لألضحية هو إله النار حيث يُلقى ما يت ّم تقدميه يف نار القربان والذي يوصله إىل براهامن‬ ‫يقسم األضحية عىل اآللهة املعنية باألضحية‪ ،‬وتكون األضحية من املاعز أو الدجاج أو الحامم أو ذكر الجاموس‪،‬‬ ‫الذي ّ‬ ‫وتختلف طريقة األضحية من قطع الرأس برضب ٍة واحد ٍة أو الخنق أو طعن القلب‪ ،‬ويقوم صاحب املنزل أو الكاهن‬ ‫باألضحية ويتشارك مع الحارضين بتناولها ثم تقديم األجزاء املضحى بها مع نار القربان‪.‬‬ ‫أصبحت أغلب األضاحي الحيوانية اآلن مجرد أضا ٍح رمزي ٍة عىل شكل ُد ًمى‪ ،‬وأصبحت األضحية الفعلية تقام يف أماكن‬ ‫مادي عىل وجود أضا ٍح برشي ٍة يف الهندوسية‪.‬‬ ‫قليل ٍة اآلن‪ .‬ال يوجد ٌ‬ ‫دليل ٌ‬ ‫األضحية يف الهندوسية متتلك جان ًبا روح ًيا فقط فالهندوس يؤمنون أن األضاحي سوف تصل بهم إىل اآللهة حيث سيتم‬ ‫سام وروحاين‪.‬‬ ‫الرتابط بينهم بشكلٍ ٍ‬ ‫‪24‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫األزتك واملايا‪:‬‬ ‫هناك دامئًا مبالغ ٌة يف وصف األضحية البرشية التي كانت‬ ‫تحدث يف الحضارات القدمية يف أمريكا‪ ،‬ولكن ال نستطيع نكران‬ ‫حدوثها وارتباطها الوثيق مبعتقداتهم‪ ،‬كان يُنظر إىل األضحية‬ ‫البرشية عىل أنها اعتذا ٌر لآللهة أو سداد دينٍ لتضحياتهم‬ ‫التي ق ّدموها لخلق العامل‪ ،‬حيث تروي األسطورة أ ّن اإللهان‬ ‫العظيامن قاما بتمزيق وحش الزواحف إىل أجزا ٍء لتكوين‬ ‫وكل يش ٍء يف العامل‪ ،‬وكانوا يعتقدون أن اآللهة‬ ‫األرض والسامء ّ‬ ‫مم يعني‬ ‫تتغذى عىل الدماء واللحم املق ّدم لهم من األضحية‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تضحيات‬ ‫استمرار التوازن واالزدهار‪ ،‬وهذا ال مينع من وجود‬ ‫حيواني ٍة من الغزالن والفراشات والثعابني واألشياء الثمينة حيث‬ ‫ٍ‬ ‫طقوس معينه‪.‬‬ ‫كتخل عن يش ٍء مث ٍني أو أكلها بعد‬ ‫يتم دفنها ٍّ‬

‫مرص القدمية‪:‬‬ ‫«أيها امللك أوزريس تناول الخمرية التي انبثقت منك‪ ،‬خذ إليك‬ ‫هذا الوعاء من الجعة املصنوعة من حجر املنو»‪ .‬يتضح من‬ ‫هذا النص السابق أن مكونات الجعة سالت من جسد أوزريس‬ ‫الذي ميثّل األرض واملياه األزلية‪ ،‬أي أ ّن القربان يُعيد إىل اآللهة‬ ‫مر ًة أخرى ما انبثق منه يف بدأ الخلق‪ ،‬ونفس الفكرة تنطبق‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ومواش‪.‬‬ ‫وقامش‬ ‫عىل باقي أنواع القرابني واألضاحي من خب ٍز‬ ‫اشتهرت مرص القدمية بأشكا ٍل متنوع ٍة من األضاحي وتطورت‬ ‫مع تتابع الحضارات عىل أرضها‪ ،‬ففي معبد هرياكونبولس سنة‬ ‫ٍ‬ ‫بحيوانات خطري ٍة أو كبري ٍة مثل التامسيح وفرس النهر رمبا كرمزي ٍة عن الفوىض الطبيعية‪.‬‬ ‫‪ 3500‬ق‪.‬م كانت تت ّم التضحية‬ ‫يرشح هريودوت ‪ 440‬ق‪.‬م كيف يت ّم اختيار الثور والتضحية به‪ ،‬حيث يت ّم فحصه من قبل الكهنة وإذا ُوجدت به شعر ٌة‬ ‫فحص ذيله ولسانه وحالته الصحية ونظافته‪ ،‬وبعد الفحص يُقاد الثور إىل املذبح ويتم تجهيز‬ ‫نجسا‪ ،‬يت ّم ُ‬ ‫سوداء يُعترب ً‬ ‫النار التي س ُيحرق فيها كقربان‪ ،‬ثم يُسكب الخمر عىل املذبح وعىل الثور‪ ،‬ويُذبح الثور من الحلق وت ُقطع رأسه بالكامل‪،‬‬ ‫ث ّم يتم سلخه وتُنزع األحشاء وت ُق ّدم عىل النار ثم ت ُقطع السيقان ونهاية الخرص والكتفني والرقبة ويتم حشوه بالخبز‬ ‫‪25‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫والعسل والزبيب وأنوا ٍع من ال َبخور ث ّم يت ّم حرقه لإلله‪ ،‬ويؤكل ما تبقى وتُباع الرأس لغري املرصيني أو ت ُلقى يف النيل‪،‬‬ ‫وكل سو ٍء يه ّدد املضحيني‪.‬‬ ‫ألنهم يعتقدون أ ّن الرأس تحمل لعنات اآللهة ّ‬ ‫شكل آخر من القرابني الحيوانية وهي القرابني املح ّنطة التي تُق ّدم إىل اآللهة كغذا ٍء أو تقديم حيوانٍ مع ٍني‬ ‫أيضا ٌ‬ ‫اشتهر ً‬ ‫أيضا ارتبطت الحيوانات املحنطة بالطقوس الجنائزية حيث يتم تحنيط‬ ‫ميثّل اآللهة مثل القطط التي متثل اإلله باستت‪ً ،‬‬ ‫الحيوانات لتكون طعا ًما للميت يف الحياة األخرى‪.‬‬ ‫مل يتم ذكر األضحية البرشية يف مرص القدمية ويُعتقد أن هذه املامرسات غري شائعة‪ ،‬ولكن ُوجدت أدل ٌة عىل وجود‬ ‫األضحية الجنائزية يف مرص القدمية والتي مل تكن تتم بدون موافقة الخدم الراغبني يف التضحية بأنفسهم واملوت مع‬ ‫سيّدهم ولكنها ُمنعت بعد ذلك يف العرص الوسيط وكان عىل الخدم الراغبني بالدفن مع سيدهم انتظار موتهم‪.‬‬

‫األديان اإلبراهيمية‪:‬‬ ‫األديان الثالثة تتّفق عىل أن أول أضحي ٍة هي التي وقعت يف االختبار بني قابيل وهابيل‪ ،‬حيث ق ّرر الله أن ينظر‬ ‫ألضحيتهم ليحل الخالف بينهم‪ ،‬ووقع االختيار عىل خروف هابيل ومل تُقبل نباتات قابيل‪ ،‬ومن هنا نفهم أن األضحية‬ ‫متجذر ٌة بشكلٍ‬ ‫قصة إبراهيم ومحاولته التضحية بأحد أبنائه‪ ،‬سوا ٌء إسامعيل‬ ‫ٍ‬ ‫عميق داخل معتقدات الثالثة أديان‪ ،‬كذلك ّ‬ ‫غي الله تلك العادة بأضحي ٍة حيواني ٍة كفدا ٍء للبرش‪.‬‬ ‫أو اسحق والتي ترمز لألضحية البرشية وكيف ّ‬

‫اليهودية‪:‬‬ ‫يُطلق عليها قربا ٌن وهي الذبائح التي يق ّدمها البرش إىل الله لغرض اإلجالل مثل ما يحدث يف األعياد أو كسب النعمة‬ ‫مثل النذور أو الحصول عىل العفو مثل قربان التوبة‪ ،‬وكانت القرابني من الحيوانات الحافرة مثل املوايش (األغنام‬ ‫واملاعز) والطيور‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مثال عىل أحد الطقوس يف األضحية‪ ،‬قربان التوبة أو الخطيئة‪ ،‬كان‬ ‫يت ّم فحص الحيوان والتأكد من خل ّوه من األمراض والعيوب‪ ،‬ويت ّم‬ ‫ذبحه من العنق ويت ّم جمع دمائه ورشّ ها عىل الزوايا خارج املعبد‪،‬‬ ‫ويت ّم سلقه ثم وضعه عىل نار القربان حتى يصبح رما ًدا‪ ،‬ويحتفظ‬ ‫الكاهن بجلده‪.‬‬ ‫‪26‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫وفقًا ملا قاله موىس بن ميمون فإن حوايل مائة وصي ٍة من أصل ‪ 613‬وصي ًة تتعلّق مبارش ًة بالذبائح‪ ،‬خلص موىس بن‬ ‫ميمون إىل أن بني إرسائيل مع احتكاكهم بالقبائل املحيطة بهم اعتادوا عىل الذبائح الحيوانية التي استخدمها الوثنيون‬ ‫كطريقة تواصلٍ أساسي ٍة مع آلهتهم‪ ،‬وعىل هذا النحو كان من الطبيعي أن يعتقد اليهود أن التضحية ستكون جز ًءا‬ ‫رضوريًا من العالقة بني الله واإلنسان‪ ،‬وكان قرار الله بالسامح بتقديم األضاحي مبثابة تناز ٍل عن القيود النفسية لإلنسان‪.‬‬ ‫عارض الكثريون رأي موىس بن ميمون مثل (نهامنيدس) حيث يستشهد بأ ّن التوراة سجلت األضاحي الحيوانية وأضا ٍح‬ ‫قصة ذبح إسحاق هو توضيح األهمية السامية والحاجة‬ ‫أخرى من أزمنة إبراهيم وإسحاق ويعقوب‪ ،‬وكان الغرض من ّ‬ ‫روحي يشري إىل‬ ‫محل رجس الذبائح البرشية ‪-‬عند البعض القربان هو مجرد مع ًنى‬ ‫تحل ّ‬ ‫إىل الذبائح الحيوانية باعتبارها ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫جز ٍء من غرور الفرد والذي يت ّم التخيل عنه كذبيح ٍة لله‪ -‬كذلك يستطيع العابد أن يض ّحي بيش ٍء من هذا العامل ليتقرب‬ ‫إىل الله‪.‬‬ ‫بعد تدمري الهيكل األول والثاين توقفت األضاحي ث ّم عادت لبعض الوقت أثناء الحروب الرومانية ث ّم توقفت مر ًة أخرى‬ ‫حتى اآلن وأصبحت شيئًا رمزيًا عند البعض‪ ،‬والبعض منهم ينتظر قدوم املسيح ليت ّم بناء الهيكل الثالث وسوف تعود‬ ‫األضاحي من جديد‪.‬‬

‫املسيحية‪:‬‬ ‫يُشار إىل املسيح من ِقبل رسله عىل‬ ‫أنه َح ْمل الله‪ ،‬الشخص الذي أشارت‬ ‫اليه كل الذبائح‪ .‬يؤمن املسيحيون‬ ‫أن صلب املسيح وتضحية األب به‬ ‫وتخليص البرشية من الخطيئة يُغني‬ ‫عن تقديم األضاحي‪ ،‬ولكن ذلك مل مينع‬ ‫بعض املجتمعات املسيحية الريفية من‬ ‫التضحية بالحيوانات يف عيد الفصح‬ ‫واستهالك لحومها كجز ٍء من العبادة‪،‬‬ ‫وبعض القرى يف اليونان تضحي للقديسني‬ ‫األرثوذكس‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫اإلسالم‪:‬‬ ‫الحج يتقدم املسلمون بأضاحيهم من‬ ‫يف عيد األضحى وموسم ّ‬ ‫أبقا ٍر وجِام ٍل وأغنام‪ ،‬يقوم بها الحجيج وغريهم وهي إسقا ٌط‬ ‫ٍ‬ ‫بكبش‬ ‫قصة إسامعيل وإبراهيم حيث فدى الله إسامعيل‬ ‫عن ّ‬ ‫من السامء‪ ،‬وأن هذا األمر هو رحم ٌة من الله فلو مل يفعل لكان‬ ‫وجب عىل املسلمني التضحية بأبنائهم اقتدا ًء بإبراهيم‪ ،‬وبالرغم‬ ‫من أن األضحية مأخوذ ٌة من قص ٍة توراتي ٍة إالّ أن أغلب طقوسها‬ ‫أيضا يف نفس موسم الحج‬ ‫تشبه طقوس العرب قبل اإلسالم وت ُقام ً‬ ‫أيضا تش َمل النذر والصدقة والعقيقة‬ ‫الجاهيل‪ .‬األضحية اإلسالمية ً‬ ‫التي تُق ّدم عندما يُرزق املُسلِم مبولود‪ ،‬وكذلك يف األفراح والجنائز‪.‬‬ ‫يقص شَ عره أو أظافره ويتجنب أن ينزع شيئًا من جلده‬ ‫يُل َزم املضحي عند دخول شهر ذي الح ّجة أن ينوي األضحية وال ّ‬ ‫فضل أن يقوم بالذبح صاحب األضحية بنفسه وال ُينع أن ينوبه أح ٌد غريه‪ ،‬ويت ّم الذبح مثل‬ ‫حتّى يستعد لألضحية ويُ ّ‬ ‫ُقسم األضحية إىل ثالثة أجزاء‪ :‬ثلثٌ للمضحي وأهل بيته وثلثٌ ألقاربه وثلثٌ‬ ‫اليهود‪ ،‬النحر من الرقبة وتصفية الدماء‪ ،‬وت ّ‬ ‫لفقراء املسلمني‪.‬‬ ‫أيضا وعىل املسلمني تقديم العظام املتبقية لهم حيث يعود عليها لح ٌم من ٍ‬ ‫جديد يتغذى‬ ‫ي ّدعي الرسول أن للج ِّن طعا ًما ً‬ ‫عليه الج ّن املؤمن‪ ،‬وكأنّه نو ٌع من القربان أو املساعدة لهم‪.‬‬

‫العرب قبل اإلسالم‪:‬‬ ‫اعتاد العرب ذبح الحيوانات وتقدميها قرابي ًنا‪ ،‬وذكر املؤرخون أنهم اعتادوا ذبح الحيوانات تيم ًنا بنبي الله إبراهيم حينام‬ ‫اخترب ربّه إميانه بذبح ولده قبل أن يفديه بذب ٍح عظيم‪ ،‬وحرصوا عىل وضع السوار يف رقاب تلك الحيوانات وتركها سائب ًة‬ ‫ال يعرتضها أح ٌد ألنّها محرمة‪ ،‬وبعد ذبحها يلطخون الكعبة بالدماء‪ ،‬وتُق ّدم لحومها للفقراء‪.‬‬ ‫كان العرب قبل اإلسالم يعبدون األوثان‪ ،‬والكعبة هي مركز عبادتهم‪ ،‬وكانت مليئ ًة باألصنام‪ ،‬وخالل موسم الحج السنوي‬ ‫يزور الناس الكعبة من الداخل والخارج‪ ،‬وكانت قبيلة ٍ‬ ‫قريش مسؤول ًة عن خدمة الحجاج‪ .‬يشري شبيل النعامين إىل أ ّن‬ ‫العرب الوثنيني ق ّدموا بعض الطقوس غري املق ّدسة أثناء الحج‪ ،‬ومن الشعائر املتعلقة مب ًنى يف موسم الحج (العتائر)‪ ،‬أي‬ ‫‪28‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫النحر يف اإلسالم‪ ،‬كانوا ينحرون عىل األنصاب وعىل مقرب ٍة من األصنام ث ّم توزّع عىل الحارضين ليأكلوا جامع ًة أو تُعطى‬ ‫لألفراد‪ ،‬وقد ت ُرتك لكوارس الجو وضواري الرب وال يُص ّد عنها أي إنسانٍ أو سبع‪.‬‬ ‫الحج عند تقديم العتائر ألنها أسمى مظاهر العبادة يف األديان القدمية‪ ،‬وكانوا يقلّدون هديهم بقالد ٍة أو‬ ‫تبلغ ذروة ّ‬ ‫هدي فال يحوز االعتداء عليه‪.‬‬ ‫نعلني يعلَّقان عىل رقبة الهدي إشعا ًرا لل ّناس أ ّن الحيوان ٌ‬ ‫بعض أهل الجاهلية يسلخون جلود الهدي ليأخذوها معهم ويتفق هذا مع لفظ (ترشيق) الذي يعنى تقديد اللحم‬ ‫أيام بعد يوم العتائر‪.‬‬ ‫وإبرازه للشمس ومنه س ّميت أيام الترشيق‪ ،‬وهي ثالثة ٍ‬ ‫يحل لهم القص فإنهم‬ ‫يحل للح ّجاج يف الجاهلية حلق شعورهم أو قصها طيلة ح ّجهم وإالّ بطلت َحجتهم‪ ،‬وعندما ّ‬ ‫ال ّ‬ ‫يقصون عند أصنامهم‪ ،‬وكان عرب اليمن يضعون الدقيق عىل رؤوسهم قبل الحلق وعند الحلق يسقط الدقيق مع الشَ عر‬ ‫ّ‬ ‫فيجعلون ذلك الدقيق صدق ًة‪ ،‬فكان الناس يأخذونه ويرمون الشعر عن الدقيق‪.‬‬ ‫قصة عبد املطلب ج ّد مح ّم ٍد عندما جاءه ِحل ٌم بحفر برئ زمزم وقصته املشهورة بنذره أن‬ ‫نجد ً‬ ‫أيضا يف النصوص اإلسالمية ّ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد وأنّه بعد ذلك فداه مبائة ناق ٍة كدالل ٍة عىل وجود األضحية البرشية عند العرب‬ ‫يُضحي بابنه عبد الله والد النبي‬ ‫قد ًميا‪.‬‬

‫البوذية‪:‬‬ ‫يتحدث بوذا باحرت ٍام عن الرباهمة القدامى الذين‬ ‫رفضوا قتل األرواح ومل يسمحوا أب ًدا بأن تُلوث‬ ‫طقوسهم الدينية بقتل الحيوانات‪ ،‬لكن الفساد‬ ‫بدأ‪ ،‬وبدؤوا مامرسة التضحية بالحيوانات‪ .‬عندما‬ ‫ت ّم وضع السكني عىل رقبة املاشية‪ ،‬رصخت اآللهة‬ ‫رعب من جرمية الجحود وعدم الحساسية‬ ‫نفسها يف ٍ‬ ‫واضح‬ ‫رأي‬ ‫التي ارتُكبت ضد حيوان‪ ،‬لقد كان لبوذا ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫من األضحية الحيوانية ورأى أنّه ال فائدة منها‬ ‫والتضحية العظمى هي التضحية باألنا والغرور‬ ‫النفيس للوصول ألعىل مراحل الروح والصفاء‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫الزرادشتية‪:‬‬ ‫موقف مامن ٌع لألضحية وال تُش ّجع عليها لتعارضها مع املفهوم السامي والروحي عن الله‪.‬‬ ‫أيضا لها ٌ‬ ‫الزرادشتية هي ً‬

‫علم النفس االجتامعي واألضحية‪:‬‬ ‫هناك العديد من الدوافع واألشكال لألضحية‪ ،‬عىل الرغم من‬ ‫أنها دامئًا تنطوي عىل تقديم الحياة بشكلٍ أو بآخر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫طقس‬ ‫ترتكز معظم نظريات األضحية عىل فعلٍ وا ٍع وراء‬ ‫مق ّدس‪ ،‬وهو نو ٌع من التفكري السببي مبعنى‪:‬‬ ‫(إذا ض ّحى املجتمع فإن اآللهة سوف تستجيب لهم)‪.‬‬ ‫وصف بعض علامء األنرثوبولوجيا األضحية كالتايل‪:‬‬ ‫القرابني هي رشاك ٌة تعيد تأسيس الرابطة بني املضحي واآللهة‪.‬‬ ‫روبرتسون‬ ‫األضحية هي هدي ٌة للروح أو اآللهة‪.‬‬ ‫تايلور‬ ‫شكل من أشكال السحر البدايئ التقليدي‪.‬‬ ‫األضحية ٌ‬ ‫فريزر‬ ‫ٍ‬ ‫كوسيط بني املضحي والقوى اإللهية الخارقة‪.‬‬ ‫هوبرت وماوس األضحية تعمل‬ ‫بديل للمضحي الذي أغضب اآللهة‪.‬‬ ‫ويسرت مارك األضحية هي ٌ‬ ‫ورمزي لطلب يش ٍء ما أو الحامية والقضاء عىل خط ٍر ما‪.‬‬ ‫وديني‬ ‫سحري‬ ‫طقس‬ ‫لويزي‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫األضحية ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫كل فرد‪.‬‬ ‫األضحية تكرا ٌر غري وا ٍع لجرمي ٍة بدائي ٍة أو عىل األقل رغب ٌة غري واعي ٍة يف قتل األب الذي ورثه ّ‬ ‫فرويد‬ ‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫ٍ‬ ‫كائنات خارق ٍة للطبيعة‪ ،‬ث ّم كربت اآللهة أكرث فأكرث وتطورت‬ ‫يف األصل كانت األضحية هدي ًة ق ّدمها اإلنسان البدايئ إىل‬ ‫طقوس األضحية إلضفاء الروحانية عليها ألنها سوف تصل إىل اآللهة يف النهاية‪ ،‬ويف ٍ‬ ‫الحق اقترصت طقوس القرابني‬ ‫وقت ٍ‬ ‫عىل ال ُزهد والتنازل والتقشف كأضحي ٍة رمزي ٍة بالذات‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫فعندئذ يجب تقديم القرابني املناسبة لتأمني اإلحسان‬ ‫رصح (جيمس) أنه إذا ت ّم إفساد العالقة بني اإلنسان واآللهة‬ ‫ّ‬ ‫ناتج عن الطبيعة البرشية بفعل الذنوب فعليه أن يتطهر منها باالعرتاف أو‬ ‫والحامية اإللهية‪ ،‬وإذا كان إفساد العالقة ٌ‬ ‫نقل الخطيئة إىل حيوانٍ أو إنسانٍ والتضحية به‪.‬‬ ‫‪30‬‬


‫األضحية‬ ‫‪Ahmed Abd Alraziq Ali‬‬

‫كل مكانٍ بنفس الطريقة وخرجت من نفس الظروف للطبيعة‬ ‫يعتقد (يونغ) أ ّن الطقوس والرموز الدينية تطورت يف ّ‬ ‫البرشية‪ ،‬يف كتابه (رمزية التحول يف الق ّداس) يرشح أ ّن فعل التضحية يتمثل يف إعطاء يش ٍء يخصني (األنا)‪.‬‬ ‫إذا كانت األضحية حقيقي ًة فيجب تدمريها بالكامل يف سبيل اإلله بدون انتظار مقابل‪ ،‬ألنّه ال يجب رشوة اإلله‪ ،‬ويذهب‬ ‫كل تضحي ٍة بدرج ٍة أكرب أو أقل هي تضحي ٌة بالنفس‪ ،‬واملشاركة يف أي عملٍ من طقوس األضحية تعني‬ ‫أيضا إىل أ ّن ّ‬ ‫يونغ ً‬ ‫التنازل عن (األنا)‪.‬‬

‫خامتة‬ ‫يستمر اإلنسان يف محاوالته لتفسري الطقوس الدينية وأهميتها للوعي االجتامعي وكيف يتفاعل معها‪ ،‬وكيف تؤثر‬ ‫بالسلب أو اإليجاب عليه‪ ،‬وت ُع ّد األضحية موضو ٌع مث ٌري ومه ٌم فهو يعكس نظرة املجتمع ملفهوم القتل املق ّدس والقوة‬ ‫السحرية التي تحملها الدماء واألرواح وكيف يُنظر ملفهوم الحياة وقوة الحياة عندما تُق ّدم لإلله كهدي ٍة من أجل أن‬ ‫وأيضا ليك تتم حاميته من غضب اإلله نفسه‪ ،‬وكيف تط ّور مفهوم األضحية ليصل إىل‬ ‫يحميه من الكوارث واألمراض ً‬ ‫ٍ‬ ‫معتقد أو فكر ٍة أو قضي ٍة وكيف تُع ّزز هذه التضحية ق ّوتها وتنرصها بسبب تضحية ٍ‬ ‫شخص أو‬ ‫التضحية بالنفس يف سبيل‬ ‫جامعة‪.‬‬

‫اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻟﺮاﺋﻒ ﺑﺪوي‬ ‫‪#FreeRaif‬‬ ‫ﻓﻲ اﻟﺴﺠﻦ ﻣﻨﺬ‬ ‫‪2012‬‬ ‫‪31‬‬


‫اﺷﺘﺮك اﻵن‬ ‫ﻓﻲ ﻗﻨﺎﺗﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻴﻮﺗﻴﻮب‬ ‫‪https://www.youtube.com/c/ahmedzayedchannel‬‬

‫ﻗﺮاﺑﺔ ‪ 10‬ﻣﻠﻴﻮن ﻣﺸﺎﻫﺪة‬ ‫ﻣﺸﺘﺮك‬ ‫أﻟﻒﻣﺸﺎﻫﺪة‬ ‫و‪70‬ﻣﻠﻴﻮن‬ ‫ﻗﺮاﺑﺔ اﻟﻌﴩة‬

‫أﺣﻤﺪ ﺳﻌﺪ زاﻳﺪ‬ ‫ﻗﻨﺎة أﺣﻤﺪ ﺳﻌﺪ زاﻳﺪ ﻋﲆ اﻟﻴﻮﺗﻴﻮب ﻫﻲ ﻗﻨﺎة ﻣﻌﻨﻴﺔ ﺑﺎﻟﺘﻨﻮﻳﺮ اﻟﻔﻜﺮي واﻟﺜﻘﺎﰲ وﻫﻲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﺘﻔﻜ اﳌﻮﺿﻮﻋﻲ اﻟﻌﻘﻼ ﻣ ًﻌﺎ‪.‬‬ ‫وﺗﺠﺪون ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺴﻼﺳﻞ وﻣﻨﻬﺎ‪:‬‬

‫أﻟﻒ ﺑﺎء ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻟﺘﺒﺴﻴﻂ اﳌﻌﺮﻓﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ‬

‫ﻟﻠﺘﻮاﺻﻞ ﻣﻌﻨﺎ ﻋﲆ ﺻﻔﺤﺔ اﻟﻘﻨﺎة ﻋﲆ اﻟﻔﻴﺴﺒﻮك‪:‬‬ ‫‪https://www.facebook.com/aszayedtv‬‬

‫ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺗﻌﺮﻳﻔﻴﺔ ﺑﺮﻣﻮز ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻋﺮﺑﻴﺔ وﻏﺮﺑﻴﺔ‬

‫ﺻﻔﺤﺔ أﺣﻤﺪ ﺳﻌﺪ زاﻳﺪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ‪:‬‬ ‫‪https://www.facebook.com/ahmedsaadzayed‬‬

‫ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻻﺳﻼﻣﻴﺔ‬ ‫ﻛﺎﳌﻌﺮي واﻟﺮازي وأرﺳﻄﻮ وﻣﺎرﻛﺲ وراﺳﻞ‬ ‫ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺑﺘﺤﻠﻴﻞ ﺧﻼﻓﺎت اﻟﺼﺤﺎﺑﺔ وﻗﺘﺎﻟﻬﻢ‬

‫ﺳﻠﺴﺔ ﺗﻄﻮر ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﺎت‬

‫وﻏ ذﻟﻚ ﻛﺜ ﻣﻦ ﻣﺤﺎﴐات وﻣﻘﺎﺑﻼت ﻟﺮﻣﻮز ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻓﺎﻟﻘﻨﺎة ﺑﻬﺎ أﻛ ﻣﻦ ‪ 700‬ﻣﺤﺎﴐة‪ ،‬وﻫﻲ ﺟﻬﺪ ﻃﻮﻳﻞ وﻣﺘﻮاﺿﻊ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ‬ ‫اﻟﺜﻘﺎﰲ وﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻧﴩ اﻟﻮﻋﻲ واﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ واﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻗﺪر اﳌﺴﺘﻄﺎع ﻟﻠﻤﺘﺤﺪﺛ ﺑﺎﻟﻌﺮﺑﻴﺔ‪.‬‬ ‫ﻟﺪﻋﻢ اﻟﻘﻨﺎة‪:‬‬

‫‪https://www.patreon.com/ahmedzayed‬‬

‫‪32‬‬

‫‪https://www.paypal.me/ahmedsaadzayed/100‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم‬ ‫الجزء الثالث‬

‫إن ظننتم أن املقال يحاول إنكار املصادر‬ ‫وتفصيل‪ ،‬أو يسعى إلنكار‬ ‫ً‬ ‫اإلسالمية جمل ًة‬ ‫ٍ‬ ‫محمد أو يحاول إهامل دوره يف‬ ‫وجود‬ ‫الحركة التي ستصبح إسال ًما‪ ،‬فرمبا مل نوضح‬ ‫املسألة كام يجب‪ .‬فليس الغرض تكذيب‬ ‫ٍ‬ ‫محمد ورفاقه‪،‬‬ ‫كل التاريخ أو إلغاء دور‬ ‫وإمنا املطلوب فقط هو متحيص ما‬ ‫وصلَنا مع توسيع نطاق الفهم‪.‬‬ ‫َ‬

‫‪Moussa Eightyzz‬‬ ‫‪33‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫ إسالم ما قبل محمد‪:‬‬‫قوي‬ ‫يف الكتابات الرتاثية عن الجاهلية يظهر وجو ٌد ٌ‬ ‫ملوحدين عرب قبل اإلسالم‪ ،‬يُس ّمون «الحنفاء»‬ ‫(والكلمة يبدو أن أصلها يعني «الوثنيني» باللغة‬ ‫اآلرامية تلفظ حنپو ܰܚ ܳ‬ ‫ܢܦܐ‪ ،‬وكان يستخدمها‬ ‫َ‬ ‫املسيحيون الرسيان لوصف جريانهم العرب‪،‬‬ ‫ثم تبدل املعنى الحقًا ليعني التوحيد املم ِّهد‬ ‫لإلسالم)‪ ،‬والذين ُوصفوا بأنهم عىل دين إبراهيم‬ ‫وميارسون بعض الطقوس اإلسالمية مثل نبذ‬ ‫األصنام والنهي عن الوأد وتحريم الخمر وغريه‬ ‫من املامرسات التي ستصبح إسالمي ًة الحقًا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫تشابهات كبري ًة ج ًدا بني اإلسالم وبني تلك األديان‪،‬‬ ‫قوي لليهود واملسيحيني‪ ،‬ورمبا الصابئة واملجوس‪ ،‬ونلمح‬ ‫كام يظهر تواج ٌد ٌ‬ ‫فالعقيدة اإلسالمية (التوحيد) تشبه العقيدة اليهودية أو الحنفية العربية‪ ،‬وقصص الخلق والطوفان ورحالت اآلباء وقصص‬ ‫إبراهيم ويعقوب ويوسف واألسباط وتراث األنبياء وسرية اليهود من الدخول واالضطهاد يف مرص ثم الخروج مع موىس‬ ‫وحتى غزو فلسطني وإقامة مملكة داود‪ /‬سليامن كلها تكاد تكون مطابق ًة مع التاناخ اليهودي وكتابات الحاخامات يف‬ ‫التلمود وغريه‪ ،‬وكذلك طقوس العبادة متشابه ٌة مع طقوس اليهود واملسيحيني والزرادشتيني (ويف ثنايا القرآن نلمح اعرت ٍ‬ ‫افات‬ ‫واضح ًة بوجود الصالة والركوع والسجود والقيام و الصيام يف تراث األديان السابقة)‪ ،‬وحتى الرشيعة ال جديد فيها‪ ،‬فالحدود‬ ‫(مثل رجم الزناة هو حك ٌم تورايت‪ ،‬ونفس اليشء ينطبق عىل قطع أيدي السارقني‬ ‫تشبه ما كان موجو ًدا لدى العرب واليهود ً‬ ‫ٍ‬ ‫تعديالت طفيفة(‪.)1‬‬ ‫أيضا تُطابق ما كان ميارسه العرب مع‬ ‫والجلد)‪ ،‬واملعروف أن طقوس الحج ً‬ ‫مثل قصص والدة وطفولة‬ ‫ومنذ فرت ٍة يتكلم املسترشقون عن املصادر املسيحية التي اقتبس منها القرآن قصصه ورشائعه‪ ،‬منها ً‬ ‫عيىس\يسوع و َمشاهد ه ّز مريم للنخلة ثم ت َكلّمه يف املهد‪ ،‬فقد وردت يف أناجيل منحول ٍة (أبوكريفي ٍة) مثل إنجيل توماس‬ ‫والطفولة وغريهام‪ ،‬كام أن هناك العديد من قصص القرآن التي تجد جذورها يف األدب الرسياين املسيحي قبل اإلسالم (مثل‬ ‫(مثل قوله أن الجنة فيها‬ ‫قصة ذي القرنني وقصة أهل الكهف)‪ ،‬وتوجد أحاديث محمدي ٌة نجدها مطابق ًة ألقوا ٍل مسيحية ً‬ ‫ما ال ع ٌني رأت وال أذ ٌن سمعت وال خطر عىل قلب برش‪ ،‬مياثل قولً مشاب ًها للرسول بولس)‪ ،‬وقد م ّر بنا تشابه أحداث السرية‬ ‫ٍ‬ ‫نبي من القرن‬ ‫مع‬ ‫أحداث خارق ٍة كانت تُحىك عن القديسني املسيحيني منها قصة هبوط الوحي ذاته‪ ،‬وهناك تشاب ٌه آخر مع ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫الثالث لطائف ٍة ت ُس ّمى «الكسائيني» قيل أنه تلقّى كتابًا عن طريق ٍ‬ ‫محمد وجربيل‪.‬‬ ‫مالك عمالق‪ ،‬مام يشابه قصة‬ ‫‪ -1‬ميكن مراجعة كتاب «الجذور التاريخية للرشيعة اإلسالمية» لخليل عبد الكريم‪.‬‬

‫‪34‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫كلامت يوناني ًة (إىل جوار ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لغات أخرى)‪ ،‬مثل رصاط وزخرف وسجل وفلك‪ ،‬واألغرب‬ ‫ويالحظ البعض أن القرآن يحتوي‬ ‫(فمثل الرصاط (سرتاتا) هو الطريق املمهد املوصل بني املخيامت الحربية)‪ ،‬وهذا‬ ‫عسكري أو مدين ً‬ ‫أنها كلامتٌ ذات طابعٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كله يوحي بأن العرب الذين كتبوا القرآن أخذوا تلك الكلامت حديثًا من ِصالتهم السياسية مع بيزنطة(‪.)1‬‬ ‫ملحمد بأن كالمه هو ﴿ ٌ‬ ‫إفك افرتاه وأاعنه عليه ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ويف القرآن والرتاث اإلسالمي نجد اتها ًما واض ًحا من ٍ‬ ‫قوم آخرون﴾‬ ‫قريش‬ ‫َّ َ ُ َ ّ ُ ُ َ َ ٌ ّ َ ُ َّ‬ ‫َ َ ُ ْ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ ً َ َ ً‬ ‫وأنه ﴿أساطِري الول ِني اكتتبها ف ِه تم ٰ‬ ‫صيل﴾‪ ،‬ونسمع قولهم أن محم ًدا ﴿إِنما يعل ِمه بش ۗ ل ِسان الِي‬ ‫ل عليهِ بكرة وأ ِ‬ ‫ُْ ُ َ َْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌّ‬ ‫يل ِحدون إِلهِ أعج ِم﴾‪ ،‬ويجتهد القرآن يف محاولة الرد عىل تلك االتهامات‪.‬‬

‫ثم ترِد يف التفاسري والسرية أسامء‬ ‫عديد ٌة يبدو أنهم أث ّروا عىل‬ ‫ٍ‬ ‫محمد مثل زيد بن عمرو بن‬ ‫نفيل (قريب عمر بن الخطاب‪،‬‬ ‫يبش بدين‬ ‫والذي يُحىك عنه أنه ّ‬ ‫إبراهيم‪ ،‬وكان يعرتض عىل وأد‬ ‫البنات‪ ،‬ثم أنه مر ًة جلس مع‬ ‫ٍ‬ ‫لحم‪،‬‬ ‫محمد يف الجاهلية يأكالن ً‬ ‫مذبوح لألصنام رفض‬ ‫وملا تبني أنه‬ ‫ٌ‬ ‫زي ٌد األكل منه‪ ،‬بينام أكله محم ٌد‬ ‫نفسه)‪،‬‬ ‫ومنهم بحريا الراهب (الذي‬ ‫قابله محم ٌد يف سفره للشام قبل‬ ‫البعثة)‪ ،‬ومنهم ورقة بن نوفل (قريب خديجة زوجة محمد)‪ ،‬ومنهم سلامن الفاريس وأسام ُء غامض ٌة مثل جرب ويسار وأيب‬ ‫فكيهة وغريهم من الحنفاء والنصارى‪ ،‬بل ومنهم مسيلمة نفسه (فتقول الروايات أنه حني ذكر محم ٌد اسم «الرحامن»‬ ‫يف قرآنه اتهمه خصومه بأنه قد تعلم ذلك من مسيلمة) ‪-‬‬ ‫هذا ونالحظ أن القرآن يُق ّدم نفسه ال كدعو ٍة جديد ٍة وإمنا كمحاول ٍة إلحياء وتنقية الدعوات القدمية لألنبياء‪.‬‬ ‫‪ -2‬كتاب «تحت ظل السيف» لتوم هوالند‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫لولنغ‬

‫وانسربو‬

‫لكسنربغ‬

‫كرون‬

‫ َمن كَتب القرآن؟‬‫يعترب البعض أن جون وانسربو ‪ John Wansbrough‬هو األب‬ ‫الروحي لجامعة املؤرخني املشككني يف الرتاث اإلسالمي‪ ،‬وقد‬ ‫رأى (كتاب «الوسط املذهبي») أن القرآن بأكمله متت صياغته‬ ‫يف فرت ٍ‬ ‫ات متأخرة (القرن التاسع أو ما بعده)‪ ،‬ويؤيده بشكلٍ‬ ‫ما عدة تالميذ أهمهم باتريشيا كرون ‪ ،Patricia Crone‬وأما‬ ‫غونرت لولنغ ‪ Lüling‬وكريستوف لكسنربغ ‪ Luxenberg‬فتميل‬ ‫نصوص مسيحي ٌة‬ ‫وجهة نظرهام إىل أن القرآن هو يف األصل‬ ‫ٌ‬ ‫كانت ت ُتىل ضمن طقوس الصلوات يف الكنائس‪ ،‬وأنه يف مرحل ٍة‬ ‫ما متت ترجمة تلك النصوص وتعريبها(‪ - )3‬وقد لوحظ أن‬ ‫كلمة قرآن نفسها ذات أصلٍ رسياين‪ ،‬فكلمة «قريانا» تعني‬ ‫ٍ‬ ‫كتابات مقدس ًة‪ ،‬وكذلك كلامتٌ مرتبط ٌة بالنص القرآين مثل‬ ‫«سورة» لها ٌ‬ ‫أصول رسياني ٌة وعربية‪.‬‬

‫«كتاب عريب‪ ،‬بلسانٍ عريب‬ ‫ولو رجعنا إىل الرتاث اإلسالمي فنسجد شواهد أخرى الفت ًة‪ :‬منها تأكيد القرآن املستمر عىل أنه‬ ‫ٌ‬ ‫‪...‬إلخ» وتتك ّرر تلك التأكيدات بشكلٍ‬ ‫غريب يدعو إىل التساؤل‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫هل كانت تلك املسألة موضع ٍ‬ ‫شك يف زمنه حتى يهتم بتوكيدها بهذا الشكل؟‬ ‫ٍ‬ ‫كلامت كثري ٍة أعجمي ٍة يف القرآن؛ ومن وجهة نظر‬ ‫وبالفعل أشار كثريون (منهم مسلمون وقدماء كالسيوطي) إىل وجود‬ ‫لكسنربغ أن القرآن نفسه مرتج ٌم من الرسيانية‪.‬‬ ‫رصا يرتجم اإلنجيل إىل العربية‪ ،‬وحني رجع محم ٌد خائفًا من نوب ٍة أصابته إثر‬ ‫ويف السرية أن ورقة بن نوفل كان عاملًا متن ً‬ ‫غريب ذهبت به زوجته إىل ورقة هذا وهو من أعل َم نبي اإلسالم أن ما يتلقاه هو «ناموس موىس»‪ ،‬فكأنه‬ ‫ٍ‬ ‫رؤيته لكائنٍ‬ ‫كان ال يعلم ذلك قبلها‪ ،‬كام قيل أن الوحي قد توقف لفرت ٍة بعد موت ورقة مبارشةً‪ ،‬والحقًا قيل أن محم ًدا كان له صديق‬ ‫ٍ‬ ‫كتابات خاص ًة كانت تأتيه بالرسيانية‪ ،‬بل هناك رواي ٌة أعجب مفادها أن محم ًدا نفسه ليس‬ ‫(زيد بن ثابت) يرتجم له‬ ‫من العرب‪ ،‬وإمنا تعلم لغتهم الحقًا‪.‬‬ ‫‪ -3‬راجعوا كتاب «قراءة رسيانية آرامية للقرآن» للكسنربغ‪.‬‬

‫‪36‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫وهناك شواهد أخرى تفيد بأن القرآن مل يكن يف األصل كتابًا‪،‬‬ ‫وقيل أن أصل كلمة «قرا» تعني «جمع»‪ ،‬وهو يُس ّمي نفسه‬ ‫«فرقانا» ويبدو أن الكلمة تعني ال ِقطع واألجزاء (ومنه قوله‬ ‫«فرقنا بكم البحر» أي قسمناه‪« ،‬فكان كل فرق» أي كل‬ ‫جزء‪ ،‬وقوله «يوم الفرقان» أي يوم الفصل بني الحق والباطل‪،‬‬ ‫وقوله التربيري لنزول القرآن عىل أجزاء ﴿ َوقُ ْرآنًا فَ َر ْق َناهُ‬ ‫َ ْ َ​َُ َ​َ‬ ‫َ َ ٰ ُ ْ َ َ َّ ْ َ ُ َ ً‬ ‫َّ‬ ‫لِ قرأه ع انل ِ‬ ‫اس ع مك ٍث ونزلاه تزنِيل﴾)‪ ،‬وبالفعل تشري‬ ‫الروايات إىل أن النبي مات ومل يأمر بجمع القرآن‪ ،‬وأن القرآن‬ ‫(لو تغاضينا عن نسخة أيب بك ٍر املزعومة) قد ظل يُستخدم‬ ‫كأجزاء وفقرات (مصاحف) يتم تداولها بني املؤمنني‪ ،‬حتى‬ ‫حدث الجمع املهم يف عهد عثامن‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بروايات عن الصحف القرآنية التي قيل أنها ضاعت‬ ‫اختالفات واعرتاضات‪ ،‬ومتتلئ املصادر‬ ‫خل من‬ ‫ذلك الجمع الذي مل يَ ُ‬ ‫أو نُسيت أو تم حرقها عم ًدا‪ ،‬ونُسخ عثامن التي قيل أنها ضاعت (كلها؟) بحلول زمن عبد امللك بن مروان‪ ،‬والكالم قبلها‬ ‫اختالف يف القراءة‪ ،‬وبعدها عن وجود عدة قر ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫اءات متداولة‪ ،‬ومسألة السبعة أحرف‪ ،‬والحديث عن وجود عدة‬ ‫عن‬ ‫ٍ‬ ‫مخطوطات قرآني ٍة تعود إىل زمن النبي أو الراشدين أو‬ ‫مصاحف منسوب ٍة لعد ٍد من الصحابة‪ ،‬وحني نتذكر عدم توفر أي‬ ‫إىل األمويني حتى عبد امللك بن مروان‪ ،‬فإن كل هذا يلقي بظال ٍل من الحرية عىل كيفية تطور النص القرآين‪.‬‬ ‫ولو ألقينا نظر ًة عىل الكتابات املسيحية املبكرة فسنجد رسائل متبادل ًة منسوب ًة للحاك َمني البيزنطي واألموي (ليو الثالث‬ ‫وعمر بن عبد العزيز) يف شكل مناظر ٍة دينية‪ ،‬وفيها يقول األول للثاين أن كتابكم (القرآن) مل ينزل من الله وإمنا كتبه‬ ‫يل بن أيب طالب)‪ ،‬وأن الحجاج قد أرسل رجاله ليقوموا بجمع كتاباتكم القدمية‬ ‫أبو تر ٍ‬ ‫اب وسلامن الفاريس ( األول هو ع ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫غامضا للحجاج يف صياغة‬ ‫وأحل محلها‬ ‫أيضا تنسب دو ًرا ً‬ ‫كتابات أخرى من عنده ‪ -‬هذا ونالحظ أن املصادر اإلسالمية ً‬ ‫القرآن‪ ،‬ويف إحدى الروايات يقول الرجل أنه يعمل يف ذلك بالوحي‪.‬‬ ‫يضاف إىل ذلك كله وجود بعض اآليات القرآنية التي تبدو محشور ًة عىل السياق العام (عىل سبيل املثال اآلية ‪ 3‬من‬ ‫سورة املائدة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ​َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ْ َ َ ُ َ َ ْ ُ َ ُ َ ُ َ َ ّ َ ُ َ َّ َ ُ‬ ‫َ َ َّ َ ْ َّ‬ ‫ُ َّ ْ َ َْ ُ‬ ‫ك ُم ال َميْ َت ُة َو َّ‬ ‫ادل ُم َولْ ُ‬ ‫يحة َو َما أكل‬ ‫ي اللِ بِهِ والمنخن ِقة والموقوذة والمتدِية وانل ِط‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ِغ‬ ‫ل‬ ‫ِل‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ير‬ ‫ِن‬ ‫﴿ح ِرمت علي‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬

‫ُ َ​َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ​َ ْ َْ َْ‬ ‫ْ َ ْ َ ِ َ ٰ ُ ْ ْ ٌ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِكمْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب وأن تستقسِموا بِالزلم ۚ ذل ِكم ف ِسق ۗ الوم يئِس الِين كفروا مِن دِين‬ ‫الس ُب ُع إِل َما ذكيْ ُت ْم َو َما ذب ِ َح ع انلُّ ُص‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ ُ ُ ْ ْ َ َ ً َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َْ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ْ َْ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ ُ ْ َ ُ ْ َ​َ ْ َ ْ ُ َ َْ ُ‬ ‫ك ْم ن ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِينا ۚ ف َم ِن اض ُط َّر‬ ‫السلم د‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫يت‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ِع‬ ‫فل تشوهم واخشو ِن ۚ الوم أكملت لكم دِينكم وأتممت علي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ََْ َ َ َْ ُ َ َ‬ ‫جان ِف ِلثْم ۙ فَإ َّن َّ َ‬ ‫الل َغ ُف ٌ‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫ِيم﴾‪،‬‬ ‫ِف ممص ٍة غي مت ٍ ِ ٍ ِ‬

‫‪37‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫حيث يكون الحديث عن الطعام‪ ،‬ثم نقرأ فجأ ًة مقط ًعا عن إكامل الدين‪ ،‬ثم يعود مر ًة أخرى للحديث عن الطعام‪،‬‬ ‫فتبدو وكأن العبارة عن اكتامل الدين قد ُحرشت يف منتصف النص)‪ ،‬ومنها ما يصعب تصور أنه نزل يف عهد محمد (مثل‬ ‫ٍ‬ ‫اختالفات حول‬ ‫اآلية الخاصة باإلرساء‪ ،‬حيث مل يكن هناك مسج ٌد يف القدس آنذاك‪ ،‬ومثل اآليات التي تتحدث عن وجود‬ ‫تفسري القرآن أو اإلميان به‪ ،‬مثل اآلية ‪ 7‬من سورة آل عمران‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ َّ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ٌ ُّ ْ َ َ ٌ ُ َّ ُ ُّ ْ َ َ َ ُ ُ َ َ َ ٌ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ٌ َ َّ َ‬ ‫ِين ِف قلوب ِ ِه ْم َزيْغ ف َيتب ِ ُعون‬ ‫ات ۖ فأ َّما ال‬ ‫اب وأخر متشابِه‬ ‫﴿هو الِي أنزل عليك الكِتاب مِنه آيات مكمات هن أم الكِت ِ‬

‫َ َ​َ َ​َ ُْ ْ َ ْ َْ ْ َ َْ‬ ‫ُ ٌّ‬ ‫ْ ْ َُ ُ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ ُ َّ َّ ُ َ َّ ُ َ‬ ‫ون َ‬ ‫اء الفِتنةِ َوابتِغ َ‬ ‫ما تشابه مِنه ابتِغ َ‬ ‫الراسِخون ِف العِل ِم يقول‬ ‫اء تأوِيلِهِ ۗ وما يعلم تأوِيله إِل الل ۗ و‬ ‫آم َّنا بِهِ ك ّم ِْن عِن ِد َر ّب ِ َنا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ۗ َو َما يَ َّذ َّك ُر إ ِ َّل أولُو ْال ْلَ‬ ‫اب﴾‪،‬‬ ‫ِ‬

‫ومم ال يُتص ّور وجوده زمن النبي‪ ،‬بل يُحتمل أنه أُضيف متأخ ًرا عىل النص لقطع الطريق عىل كل من يشكك يف اآليات‬ ‫ّ‬ ‫أو يحاول تأولها)‪.‬‬ ‫ عن الفتوحات‪ :‬كيف صار العرب إمرباطوري ًة؟‬‫ٍ‬ ‫مختلف أبسط‪ :‬بفرض أن كل ما وصل إلينا عن الغزوات اإلسالمية كان دقيقًا‪ ،‬فهل تعترب تلك الحركة معجز ًة‬ ‫لنبدأ بسؤا ٍل‬ ‫سياسي ًة وعسكري ًة ال مثيل لها يف التاريخ؟‬ ‫ومن يهتم بالتاريخ يعرف أن الجواب بالنفي‪ ،‬ال شك أن تلك الفتوحات ظاهر ٌة مهم ٌة وكبري ٌة ومدهشة‪ ،‬ولكنها أبعد ما‬ ‫تكون عن التفرد أو اإلعجاز‪ ،‬وإمنا هي من األمور املدهشة التي تكررت بأشكا ٍل مختلف ٍة عرب التاريخ اإلنساين الطويل‪،‬‬ ‫وما أكرثها!‬ ‫مثال شه ًريا‪ :‬جنكيز خان‪ ،‬القائد املغويل الذي كانت‬ ‫ولنأخذ ً‬ ‫حياته األوىل شاق ًة حيث قام أعداؤه بقتل والده وتم طرده مع‬ ‫لألس والعبودية هو و زوجته‪،‬‬ ‫أرسته من القبيلة‪ ،‬ثم تع ّرض ْ‬ ‫وبدأ مسريته بعرش ٍ‬ ‫ات قليل ٍة من الرجال‪ ،‬ثم نجح ‪-‬بالقوة‬ ‫والحيلة‪ -‬يف توحيد قبائل املغول تحت سلطته وانطلق ليغزو‬ ‫مدنًا كربى ويهزم دولً عريق ًة ومل يوقفه يشء‪ ،‬حتى أن غزواته‬ ‫ت ُعترب األنجح واألوسع واألرسع يف التاريخ البرشي‪ ،‬حيث احتل‬ ‫أكرث مام احتله أي إنسانٍ آخر يف التاريخ‪ ،‬بل إنه وضع دي ًنا‬ ‫وكتابًا (الياسق) نظّم به شؤون جامعته‪ ،‬وكان ‪-‬عىل دمويته‪-‬‬ ‫متسام ًحا دين ًيا بعكس ما قد نعتقد‪.‬‬ ‫‪38‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫ثم إن حالة نجاح قبائل همجي ٍة يف احتالل مدنٍ كربى هي مسأل ٌة متكرر ٌة كث ًريا عرب التاريخ‪ ،‬منهم الهكسوس الذين‬ ‫حكموا مرص الفرعونية‪ ،‬والجرمان الذين أسقطوا روما‪ ،‬وغريهم كثري‪ ،‬بل وتكررت املسألة يف العصور الحديثة مع عدة‬ ‫مناذج إسالمية‪ ،‬فمن يتتبع تاريخ الحركة الوهابية وتأسيس السعودية‪ ،‬ثم صعود حركة داعش املعارصة يف العراق‬ ‫وسوريا‪ ،‬يجد الكثري من التشابهات بني تلك الحالتني وبني تأسيس اإلمرباطورية اإلسالمية األوىل‪ ،‬ففي كل الحاالت‬ ‫ٍ‬ ‫جامعات بسيط ًة تتّحد تحت قياد ٍة محلي ٍة ت ُح ّركها الحامسة الدينية والطمع يف السلطة واملغانم‪ ،‬وقد تنجح تلك‬ ‫نجد‬ ‫ٍ‬ ‫جيوش أكرث عد ًدا وسال ًحا و ُحكم مدنٍ أكرث تقد ًما وعراق ًة‪ ،‬فال جديد هنا‪.‬‬ ‫الحركات يف سحق‬ ‫والخالصة أن حركة الغزوات األوىل املسامة إسالمي ٌة هي ‪-‬عىل قوتها ورسعتها املدهشة بالفعل‪ -‬ليست شيئًا خارقًا أو‬ ‫ممتلئ بحركات ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وتوسعات رسيع ٍة‬ ‫توحد وقاد ٍة عباقر ٍة‬ ‫إعجازًا وحي ًدا إذا ما قسناها مبقياس التاريخ‪ ،‬فاملايض اإلنساين‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫وتقلبات مفاجئة‪.‬‬ ‫وأما لو اقرتبنا أكرث من املشهد‪ ،‬فستتبني لنا تفاصيل تجعل املسألة أقل إبها ًرا وأكرث قابلي ًة للفهم‪ .‬فبينام ميكن معرفة رس‬ ‫الضعف واإلنهاك الذي أصاب الفرس والروم قبيل اإلسالم‪ ،‬بسبب الحروب املستمرة والكوارث الطبيعية كام ذكرنا‪ ،‬فقد‬ ‫تساءل كثريون عن رس القوة العسكرية التي توفرت للمسلمني الغزاة فمكنتهم من احتالل مدنٍ جديد ٍة عليهم وحكم‬ ‫مناطق شاسع ٍة رشقًا وغربًا‪ ،‬بل وشكّك البعض يف إمكانية توافر العدد والسالح والطعام الالزمني لبدء الغزوات إن كانت‬ ‫انطلقت‪ -‬كام يُفرتض‪ -‬من قلب الجزيرة العربية‪ ،‬بينام تف ّحص آخرون املصادر القدمية وخلصوا إىل إنكار (عىل األقل‬ ‫جزيئ) للفتوحات كام نعرفها(‪.)4‬‬ ‫وظهرت نظرياتٌ تتفحص املصادر املسيحية واليهودية املعارصة مع إعادة قراءة املكتشفات األثرية كاملنقوشات والعمالت‬ ‫ٍ‬ ‫مقاالت لعدة‬ ‫فمثل كتاب «األصول الخفية لإلسالم» (وهو مجموعة‬ ‫بهدف إعادة تفسري ما حدث بشكلٍ أكرث واقعي ًة‪ً ،‬‬ ‫كتّاب) يشري إىل أنه نتيجة الصدام العنيف واملنهِك بني الفرس والروم فقد قرر هرقل االنسحاب بشكلٍ‬ ‫سلمي من الشام‬ ‫ٍ‬ ‫ومرص‪ ،‬وترك حكم تلك املنطقة للعرب؛ لو صح ذلك فيمكننا تفسري حدوث بعض املعارك بني العرب والروم يف الشام‬ ‫ومرص بأنه صدا ٌم بني الحكام الجدد القادمني مع بعض حاميات بيزنطية التي رفضت االنسحاب أو مت ّرد قوادها‪ ،‬وهي‬ ‫مسأل ٌة مل تكن نادرة الحدوث يف ذلك السياق عىل كل حال‪.‬‬ ‫كتاب آخر هو «الكونفدرالية الساسانية ‪ -‬البارثية والغزو العريب إليران»‬ ‫وأما فيام يخص فتوحات العراق وإيران‪ ،‬فيوجد ٌ‬ ‫لبارفانه بورشاريايت‪ ،‬يطرح نظري ًة مفادها أن اإلمرباطورية الساسانية كانت مفكك ًة بشكلٍ كبريٍ وقت الغزو العريب‪،‬‬ ‫وكانت تعمل عىل شكل كونفدرالية (وحد ٍة المركزية) مع البارثيني الذين كان لهم درج ٌة عالي ٌة من االستقاللية‪ ،‬وبسبب‬ ‫نز ٍ‬ ‫اعات داخلي ٍة انسحب البارثيون بعائالتهم القوية من االتحاد وأقاموا اتفاقًا جانب ًيا مع العرب‪ ،‬مام ترك الساسانيني‬ ‫عاجزين عن تشكيل دفا ٍع حقيقي‪.‬‬ ‫‪ -4‬انظروا مثال كتاب «العرب مل يفتحوا األندلس» إلسامعيل أمني‪.‬‬

‫‪39‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫ومن املصادر اإلسالمية نعلم أن عرب العراق كان لهم دو ٌر يف الغزوات‪ ،‬ف ُيحىك أن املثنى بن حارثة الشيباين كان يشن‬ ‫غار ٍ‬ ‫ات ضد الفرس‪ ،‬قبل أن يتحالف معه أبو بكر الصديق ويرسل له خالد بن الوليد مد ًدا له إلكامل ما بدأه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مواجهات عسكري ًة بالطبع‪،‬‬ ‫تحول سياسيًا‪ ،‬وإن تض ّمن‬ ‫هذا كله يعطينا انطبا ًعا أن استالم العرب لحكم املنطقة كان ً‬ ‫بشكلٍ أكرث تعقي ًدا من مجرد حمالت غزا ٍة بد ٍو ح ّركتهم الحامسة الدينية فانطلقوا يغزون العامل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫«محمد ومعاوية والتاريخ املجهول» لهشام حتاتة‪ ،‬فيالحظان‬ ‫وأما كتاب «مقدم ٌة يف التاريخ اآلخر» لسليامن بشري‪ ،‬وكتاب‬ ‫عدة أمو ٍر الفت ٍة أوردتها السرية وال تبدو مستقيم ًة مع املنطق متا ًما‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫محمد‬ ‫منها االنقالب املباغت يف موازين القوة بني املسلمني واملرشكني بعد صلح الحديبية مبارش ًة حيث ارتفع نجم‬ ‫يل بشكلٍ فجا ٍيئ غريب‪ ،‬األمر الذي أ ّدى إىل فتح مكة بعد عامني‪ ،‬ومنها أن ذلك الفتح مل ميانع يف تويل األمويني‬ ‫ٍ‬ ‫كزعيم مح ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫سلطات واسع ًة بعد ذلك‪ ،‬ومنها ما جرى من استخالف أيب بك ٍر رغم أنف األنصار وكأن مثة قو ًة عسكري ًة‬ ‫(املهزومني)‬ ‫أجربتهم عىل الخضوع‪ ،‬ومنها قدرة أيب بك ٍر آنذاك عىل إخامد رد ٍة واسع ٍة شملت كل العرب تقري ًبا‪ ،‬ومنها أن العالقة‬ ‫واملراسالت بني عمر ومعاوية توحي وكأن األخري (الوايل) يف مكان ٍة أعىل من األول (الخليفة كام يُفرتض)‪ ،‬ومنها العلامنية‬ ‫املدهشة للخلفاء األمويني مبا ال يتناسب مع الفورة اإلسالمية الناشئة‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫تلك املؤرشات قد تساهم يف رسم صور ٍة مختلف ٍة عن السيناريو التقليدي الذي وصل إلينا‪ ،‬فريى هشام حتاتة أن معاوية‬ ‫ٍ‬ ‫محمد يف يرثب هذه النقطة فقط قد تساعد يف تفسري‬ ‫كان عرب ًيا مسيح ًيا يحكم الشام وأنه يف مرحل ٍة ما تحالف مع‬ ‫وفهم األمور الغامضة السابق ذكرها‪.‬‬ ‫رص آخر مه ٌم ساهم يف تشكيل القوة املحمدية‪ ،‬ورغم أنه مذكور يف املصادر اإلسالمية إال أنه غري مشهو ٍر بني‬ ‫وهناك عن ٌ‬ ‫املسلمني‪ ،‬رمبا ألنه يتعارض مع الصورة النقية التي يراد طرحها عن نشأة الدعوة اإلسالمية‪ ،‬أال وهو عنرص الصعاليك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مستوطنات خارج املدن‬ ‫وهم األفراد املطرودين من القبائل نظ ًرا لسلوكهم اإلجرامي املارق‪ ،‬مام أ ّدى إىل تجمعهم يف‬ ‫العربية‪ ،‬حيث تخربنا املصادر أن محم ًدا بعد الهجرة راسلهم وأعطاهم األمان مقابل أن يتبعوه‪ ،‬وال شك أن ألولئك‬ ‫جليل‪ ،‬إال أن مامرساته مل‬ ‫لصا قاط ًعا للطريق فصار صحاب ًيا ً‬ ‫الصعاليك (والذين كان منهم ً‬ ‫مثل أبو ذ ٍر الغفاري‪ ،‬الذي كان ً‬ ‫تتغري كث ًريا‪ -‬فقد صار يوجهها ضد خصوم الدعوة)‪.‬‬ ‫ إذن‪ ،‬ما الذي حدث؟‬‫كامل ويقين ًيا عىل السؤال‪ ،‬وبالتايل فام سنفعله هنا ‪ -‬كختام‪ -‬هو االستناد‬ ‫قلنا يف املقدمة أننا لن ن ّدعي تقديم جوابًا ً‬ ‫عىل ما سبق لطرح سيناريو محتملٍ ال أكرث‪ ،‬ولكن يظل بنظري أكرث واقعي ًة من السيناريو الساذج املختزل الذي تُقدمه‬ ‫لنا الرواية الرسمية‪.‬‬ ‫رمبا ما حدث هو اآليت‪:‬‬

‫‪-1‬‬

‫الخلفية التاريخية لألحداث هي حروب‬

‫الفرس والروم التي أنهكت الطرفني‪ ،‬إىل جوار‬

‫كوارث طبيعي ٍة وأوبئ ٍة مل ينج منها سوى‬ ‫الصحراء العربية جنوب األحداث‪ ،‬والتي كانت‬ ‫تجري فيها أمو ٌر أخرى‪ ،‬فمنذ القدم والصحراء‬ ‫العربية تتلقى هجرات طوائف عديد ٍة‬ ‫مضطهد ٍة وهارب ٍة من الشامل والجنوب‪:‬‬ ‫يهود ومسيحيون وهراطقة‪ ،‬فتبلورت هناك‬ ‫أفكا ٌر مثل التوحيد اإللهي وتوقُّع قرب القيامة‬ ‫وغريها من األفكار التي أث ّرت عىل العرب‪.‬‬

‫لوحة تصور اإلمرباطور هرقل يف معركة نينوى عام ‪627‬م‬

‫‪41‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫مهمن‪ :‬األول مدين ٌة مقدس ٌة للعرب احتوت بيتًا للحج وحر ًما‪ ،‬وال تقع يف مكة الحالية وإمنا يف مكانٍ ما‬ ‫‪ -2‬يهمنا مركزان ّ‬ ‫شامل السعودية وجنوب األردن‪ ،‬رمبا البرتاء (سنس ّميها بكة) تتمركز فيها حول الكعبة جامع ٌة من الكهنة الالويني اليهود‬ ‫الفارين من القدس بعد هدم املعبد (بنو قورح‪ /‬قريش)‪ ،‬ويختلطون منذ قرونٍ‬ ‫بعرب وثنيني تأثر بعضهم بالتوحيد‬ ‫ٍ‬ ‫والتقاليد اليهودية (الحنفاء)‪.‬‬ ‫املدينة الثانية هي يرثب (املدينة املنورة) والتي تحولت إىل موطنٍ للمهاجرين الثائرين الفارين من االضطهاد الديني‬ ‫بعقائدهم املختلفة‪ ،‬منهم يهود وعرب‪ ،‬ويبدو أن الجدل احتدم حول املسيح اليهودي القادم ليعيد املجد اإلرسائييل‪،‬‬ ‫سيايس عسكري‪.‬‬ ‫وأن العرب التقطوا تلك الفكرة يف مرحل ٍة ما وقرروا تحويلها إىل مرشو ٍع‬ ‫ٍ‬

‫‪-3‬‬

‫يف تلك األثناء ظهر محمد؛ ال ميكن معرفة الكثري عن أصله وجذوره قبل زعامته يف يرثب (أي يف املرحلة املسامة‬

‫املكية)‪ ،‬ويبدو (من القرآن والسرية) أنه قد ُولد يف مدينة الحرم وتعلّم عند بعض اليهود‪ ،‬أو رمبا اليهود املسيحيني‬ ‫مصاب برصع الفص الصدغي (والذي تتشابه أعراضه إىل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مدهش‬ ‫حد‬ ‫(املسمون بالنصارى‪ /‬اإليبونيني)‪ ،‬وهو عىل األرجح‬ ‫ٌ‬ ‫مع ما قالت السرية أنه كان يصيبه يف حالة الوحي)‪ ،‬وتم تبنيه من قبل ورقة وخديجة‪ ،‬ثم طُرد مع آخرين من بكة أو‬ ‫تم استدعاءهم من ِقبل أهل يرثب يف إطار ٍ‬ ‫تخل من سرية اليهود‪،‬‬ ‫سيايس وليد (حيث أن بيعة العقبة يف السرية مل ُ‬ ‫حلف‬ ‫ٍ‬ ‫وسرية الحرب)؛ ويبدو أن محم ًدا مل يكن القائد الوحيد للحركة السياسية الدينية الوليدة يف املنطقة ومركزها يرثب‪.‬‬

‫‪ -4‬هنا تشكلت دولة املدينة عىل نز ٍ‬ ‫اعات داخلية‪ ،‬وعىل املنافسة الخارجية ‪-‬ثم العداء‪ -‬السيايس والديني مع أهل بكة‬ ‫جانب لدينا عربًا وثنيني يجاورهم كهن ٌة يهو ٌد أصحاب مصالح‪ ،‬وعىل الجانب اآلخر تج ّمع طوائف ديني ٍة‬ ‫يف الشامل‪ :‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫وعرب موحدين (مهاجرين‪ ،‬مطرودين) يجاورهم جامعاتٌ يهودي ٌة قبلي ٌة مسلحة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كنصوص ديني ٍة عام ٍة من وحي املكان (مرحلة سجع الكهان)‪ ،‬ثم بعد الهجرة كدعو ٍة‬ ‫أول‬ ‫ويف هذا اإلطار ُولد القرآن‪ً ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫نصوص منقول ٍة من الرتاث الكتايب ومحاول ٍة إلحياء ذلك‬ ‫لرفع راية التوحيد والتحالف ضد املرشكني يف بكة‪ ،‬ومك ّو ٌن من‬ ‫فضلهم الله عىل العاملني فخذلوا رسالته‪ ،‬ومدح أهل الكتاب الذين يؤدون حق الله‪،‬‬ ‫الرتاث‪ ،‬متضم ًنا عتاب اليهود الذين ّ‬ ‫نبي ٍ‬ ‫واحد والجهاد معه‪،‬‬ ‫وملطالبة الجميع باالتحاد خلف ٍّ‬ ‫طقوس وعباداتٌ مشرتك ٌة بني املهاجرين مستمد ٌة من أديانهم القدمية‪ ،‬ويبدو أن عد ًدا من اليهود اتّبع‬ ‫كام ستظهر‬ ‫ٌ‬ ‫محم ًدا بصفته النبي الذي مي ّهد لقدوم املسيح آخر الزمان‪ ،‬بل عىل األرجح أن محم ًدا وأصحابه يف أول األمر كانوا‬ ‫متهودين أو يهو ًدا مسيحيني يصلّون إىل القدس‪ ،‬ورمبا يحلمون بحكمها يو ًما ما مع املسيح القادم‪.‬‬ ‫‪42‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫‪ -5‬وأمام الرفض والعناد من جانب الكهنة والوثنيني يف بكة سيشتعل الجدال أكرث‪ ،‬ورسعان ما ستتحول الدعوة التي‬ ‫كانت مسامل ًة إىل حرك ٍة مسلحة‪ ،‬فحدث التبدل يف الخطاب املميز ملرحلة مكة ‪ -‬املدينة‪ ،‬إذ تراجع حديث التسامح‬ ‫ٍ‬ ‫وتحالف ومعاهدات‪،‬‬ ‫وحرب‬ ‫والقصص والغيبيات والقيامة املرتبطة بالتقوى والرهبنة والحنيفية‪ ،‬إىل حديث غز ٍو‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد ويهود يرثب حيث‬ ‫مرتبط بالصعاليك البدو‪ ،‬وتدريج ًيا بدأ االبتعاد بني‬ ‫وعبيد وجوا ٍر‬ ‫باإلضافة إىل تقسيم غنائم‬ ‫يئس من تصديقهم به وشك يف والئهم له نتيجة تعاطفهم املحتمل مع إخوانهم القرشيني يف بكة‪ ،‬فح ّول القبلة متج ًها‬ ‫إىل البيت العريب‪ ،‬وحاول استعادة تراث إبراهيم املستقل عن اليهودية (مثلام فعل املسيحيون األوائل تجاه اليهود)؛‬ ‫ٍ‬ ‫مواجهات ضيق ًة ضئيلة العدد وغري مؤثرة‪ ،‬وبدون نتائج‬ ‫واندلعت املواجهات العسكرية هنا وهناك‪ ،‬ويبدو أنها كانت‬ ‫حاسم ٍة ألحد الفريقني‪.‬‬ ‫‪ -6‬التحول املهم حصل مع تدخل ٍ‬ ‫طرف ٍ‬ ‫ثالث هم عرب‬

‫حكم‬ ‫الشام؛ ويبدو أنهم قد حصلوا عىل سلط ٍة ذات ٍ‬ ‫مستقلٍ منذ عام ‪( 622‬العام الذي سيسمى الحقًا عام‬ ‫الهجرة ويبدأ عنده التقويم العريب‪ ،‬حيث أن منقوشات‬ ‫وبرديات هذا العهد تس ّميه «حكم العرب»‪ ،‬وال تذكر شيئًا‬ ‫ٍ‬ ‫محمد أو عن الهجرة)‪ ،‬وذلك مع تصاعد املواجهات‬ ‫عن‬ ‫بني الفرس والروم‪ ،‬حيث تع ّرض هرقل إىل رضب ٍة عسكري ٍة‬ ‫قوي ٍة جعلته ينسحب من حكم املنطقة ويرتكها للعرب‬ ‫املسيحيني (سنس ّميهم األمويني) والذين ميثلهم رمبا معاوية‬ ‫الطموح‪ ،‬والذي أراد ملء فراغ بيزنطة وبسط نفوذه يف‬ ‫العمق العريب‪ ،‬ويبدو أنهم قبل ذلك كانوا متحالفني مع‬ ‫أهل بكة وتجمع بينهم التجارة واملصالح (ولهذا ستنسب‬ ‫السرية األمويني إىل ٍ‬ ‫قريش ككيانٍ واحد)‪ ،‬ورمبا تشاركوا يف‬ ‫ٍ‬ ‫محمد يف الغزوات األوىل‪ ،‬ولكن الحقًا‬ ‫الحرب ضد حزب‬ ‫تبدلت التحالفات وقرر األمويون يف الشام تغيري الحليف‬ ‫واالستفادة من قوة املهاجرين والصعاليك املتصاعدة‬ ‫يف يرثب‪ ،‬وبنفس الوقت كان محم ٌد قد يئس من نرصة‬ ‫دعم آخر ‪ -‬وهنا كان عهد‪ -‬أو‬ ‫اليهود وأراد الحصول عىل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد كسلط ٍة ديني ٍة واألمويني كسلط ٍة سياسية‪ ،‬وتم إرسال قائدين شاميني بارزين (عمرو بن العاص‬ ‫صلح‪ -‬الحديبية بني‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ملحمد وأصحابه املهاجرين‪.‬‬ ‫محمد للعمل معه‪ ،‬مع بقاء املدينة تحت نو ٍع من الحكم الذايت‬ ‫وخالد بن الوليد) إىل‬ ‫‪43‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫ٍ‬ ‫محمد‬ ‫‪ -7‬هذا الحلف كان له تأث ٌري مرك ٌّب عىل دولة املدينة‪ ،‬حيث كان فت ًحا مبي ًنا من الناحية السياسية‪ ،‬فرفع من شأن‬ ‫ٍ‬ ‫كقائد يحظى باعرتاف مملكة الشام املرموقة‪ ،‬ومن الناحية الدينية جعل الخطاب القرآين يبتعد عن‬ ‫بني قبائل العرب‬ ‫اليهودية ويزداد كر ًها لليهود ويقرتب من املسيحيني ويودهم بل ويبتهج ‪-‬بأث ٍر رجعي‪ -‬بانتصار الروم عىل الفرس‪ ،‬وأما‬ ‫من الناحية املجتمعية فقد حظي الحلف باعرتاض قطا ٍع من أهل يرثب الكارهني لبيزنطة املسيحية واملتمسكني بأصلهم‬ ‫اليهودي‪ ،‬وال يُستبعد أن محم ًدا قد فقد حياته (فقُتل مسمو ًما) من جراء تلك الخطوة‪.‬‬ ‫قريش فقد فقدوا دعمهم السيايس العسكري يف الشام‪ ،‬وكانت مسألة ٍ‬ ‫‪ -8‬وأما من جانب ٍ‬ ‫وقت حتى يفقدوا سلطتهم‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد تبدأ السيطرة األموية‬ ‫محمد واملهاجرين (فتح مكة)‪ ،‬وبعد وفاة‬ ‫حرب‪ -‬إىل‬ ‫عىل البيت املق ّدس فيتم تسليمه ‪-‬بال ٍ‬ ‫عىل قلب الجزيرة العربية واليمن من خالل حلفائهم يف يرثب‪ ،‬فيقوم أبو بكر (خليفة محمد‪ ،‬ومن لقبه «الصديق» يبدو‬ ‫أنه من أصول يهودية) بفرض سيطرته عىل القبائل واألنبياء اآلخرين مثل مسيلمة وسجاح‪ ،‬مبساعدة القادة األمويون‬ ‫خاص ًة خالد بن الوليد (الحروب التي تسمى حروب الردة)‪.‬‬ ‫كاريزمي‬ ‫‪ -9‬بعد ذلك سيحكم املدينة خليف ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫أيضا)‪،‬‬ ‫متدي ٌن هو عمر (والذي يبدو أصله‬ ‫يهودي ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ممهد‬ ‫كنبي‬ ‫وهنا يتم إعادة إحياء دور‬ ‫محمد ٍّ‬ ‫لقدوم املسيح‪ ،‬ويحاول عمر أن يلعب دور املسيح‬ ‫اليهودي شخص ًيا‪ ،‬نلمح ذلك من شخصيته التي‬ ‫أسطوري من القوة والزهد والعدالة‬ ‫تُصور بقد ٍر‬ ‫ٍّ‬ ‫بشكلٍ يفوق محمدا نفسه‪ ،‬ومن اللقب الذي حمله‬ ‫(الفاروق أي املخلص) ومن عالقاته الطيبة مع‬ ‫اليهود‪ ،‬وأخ ًريا يبدو دوره املسيحاين واض ًحا يف دخوله‬ ‫إىل القدس راك ًبا عىل حام ٍر أو بغل‪ ،‬وهي من أهم‬ ‫عالمات املسيح‪ ،‬ثم تتأكد املسألة حني يبدأ عمر‬ ‫يف إعادة بناء الهيكل اليهودي (الذي سيقال الحقًا‬ ‫أنه موضع إرساء محمد)‪ ،‬وإىل جوار ذلك تستمر‬ ‫حركة الفتوحات يف العراق ومرص وتبدو يرثب قوي ًة‬ ‫مستقل ًة أكرث من أي ٍ‬ ‫وقت مىض‪ ،‬حتى مقتل عمر‪.‬‬ ‫‪44‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫‪ -10‬أما عرص عثامن فيمثل محاولة األمويني الحتواء قوة يرثب‪ ،‬ونجاحهم يف ذلك عن طريق تعيني وا ٍل منهم منه ًيا‬ ‫أيضا عن طريق تجميع النصوص الدينية للمهاجرين وتنقيحها‬ ‫الحكم الذايت للمهاجرين‪ ،‬ثم حاولوا فرض نفوذهم الديني ً‬ ‫والتخلص من بعضها‪ ،‬مام يبدو أنه استجلب ثورة أهل األمصار الكارهة للشام وحكمها‪ ،‬حتى قُتل عثامن‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫محمد الهاربني واملهاجرين استعادة السلطة يف العراق واملدينة‪ ،‬فتنفجر األوضاع‪ ،‬األمر الذي‬ ‫ثم محاولة أهل بيت‬ ‫يل ومعارك الجمل وصفني‪ ،‬والحقًا ثورات الحسني والزبري‪ ،‬إال أن تلك املحاوالت املتحمسة دين ًيا‬ ‫متثله محطات خالفة ع ٍّ‬ ‫واملشتعلة بالثورة واالنتساب إىل النبي‪ ،‬لن يُكتب لها النجاح حتى ثور ًة متأخر ًة هي الثورة العباسية‪.‬‬ ‫‪ -11‬حتى ذلك الحني ال يبدو أن هناك دي ًنا اسمه اإلسالم‪ ،‬وال يبدو أن األمويني انضموا إىل عقيدة محمد‪ ،‬والتي مل تكن‬ ‫أكرث من دعوة إحيا ٍء وتنقي ٍة للتوحيد وتحذي ٍر من قرب اآلخرة مع قدوم املسيح املنتظر‪ ،‬وإمنا األرجح أن عرب الشام كانوا‬ ‫دها ًة سياسيني مييلون إىل املسيحية ولكن إدراكهم لطبيعة العرب جعلتهم يحاولون استاملتهم دين ًيا بهدف محاربة الثورة‬ ‫السياسية التي كانت تتخفى يف شكلٍ ديني‪ ،‬وإجهاض الزعامات التي تتخفى يف شكل نبوات؛ ومع تكرار تلك الثورات‬ ‫أموي هو عبد امللك بن مروان أن يقوم بخطو ٍة تاريخية‪ ،‬فبعد إجهاضه لثورات العراق‬ ‫من العراق والشام‪ -‬قرر حاك ٌم ٌ‬‫ٍ‬ ‫رأسا ٍ‬ ‫برأس مع اليهودية واملسيحية‪ ،‬فكان الحل‬ ‫والحجاز قرر أن يوحد الشعوب تحت حكمه تحت دينٍ‬ ‫واحد يقف ً‬ ‫ٍ‬ ‫محمد الشعبي يف العراق والحجاز مع‬ ‫هو استلهام منوذج‬ ‫إعادة تعريب وتنقيح نصوصه املكتوبة (القرآن)‪ ،‬وبالتايل‬ ‫رسمي للعرب؛ وإن كان البعض يعترب‬ ‫خلق اإلسالم كدينٍ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫عبد امللك هو مؤسس اإلسالم‪ ،‬وهذا قد يكون صحي ًحا‪،‬‬ ‫إال أنه يبدو أقرب إىل «مبتلعٍ للثورة»‪ ،‬فقد استلهم‬ ‫عقيدة العرب وح ّولها لصالحه ليك يتخلص من الثورات‬ ‫ٍ‬ ‫محمد أو باسم أنبياء آخرين‪ ،‬فشهادة‬ ‫الدينية باسم أرسة‬ ‫«محم ٌد رسول الله» هي إعالن وفا ٍة أي ثور ٍة سياسي ٍة‬ ‫تتذرع بالدين يف أي مكان‪ ،‬وقد قام الخليفة ومعاونه‬ ‫الفذ الحجاج بتعريب القرآن وفرض األفكار الجديدة عىل‬ ‫املنطقة واجتثاث أي جذو ٍر معارضة‪ ،‬حتى صار العرب‬ ‫وكتاب واحد‪ ،‬وبالتايل خليف ٌة‬ ‫ونبي واح ٌد‬ ‫ٌ‬ ‫لهم إل ٌه واح ٌد ٌ‬ ‫واح ٌد وإمرباطوري ٌة واحدة‪ ،‬و ُولد اإلسالم كدينٍ مستقلٍ‬ ‫قائم بذاته‪ ،‬وتم تحييد أفكار املسيح املنتظر (فصار‬ ‫ٍ‬ ‫املنتظر هو يسوع املسيح‪ ،‬بينام ظلت فكرة املسيح‬ ‫اليهودي قامئ ًة يف فكرة «املهدي» خاص ًة لدى الشيعة)‪.‬‬

‫يف عقد التسعينات من القرن السابع امليالدي قام عبد امللك بن مروان‬ ‫بإصدار دنانري ذهبي ٍة كبديلٍ للدنانري البيزنطية املتداولة‪ .‬كان الدينار‬ ‫يحمل صورة الخليفة وهو واقف‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫َمن َصنع اإلسالم جـ ‪3‬‬ ‫‪Moussa Eightyzz‬‬

‫‪ -12‬يف هذا اإلطار ميكننا إعادة تفسري الرصاع بني البيوت املقدسة‪ ،‬كرصا ٍع‬

‫بني األجنحة العربية واليهودية داخل الدعوة‪ :‬فال ِقبلة بدأت إىل القدس زمن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد‬ ‫محمد وأتباعه املتهودين‪ ،‬ثم تغريت إىل بكة الشاملية يف محاولة‬ ‫لتوحيد العرب بعد يأسه من اليهود‪ ،‬وظلت كذلك حتى تهدمت الكعبة‬ ‫الشاملية يف إطار حرب عبد الله بن الزبري وعبد امللك‪ ،‬والتي تضمنت‬ ‫محاولة األخري توجيه الحج إىل القدس وبناءه لقبة الصخرة هناك كامتدا ٍد‬ ‫للهيكل اليهودي الذي أعاد تأسيسه عمر‪ ،‬والحقًا قام الزبرييون بنقل الحجر‬ ‫األسود إىل قري ٍة جنوبية (مكة الحالية) لتكون بعيد ًة عن نفوذ األمويني يف‬ ‫الشام‪ ،‬وأخ ًريا ستأيت الخطوة التوفيقية ألبناء عبد امللك حني اعرتفوا بالقبلة‬ ‫الجديدة يف إطار تبنيهم لدين الحجازيني ‪-‬وقد ظل التخبط يف القبلة‬ ‫واملصحف والطقوس الدينية مستم ًرا لفرتة‪ -‬حتى يستقر إىل ح ٍّد ٍ‬ ‫بعيد يف‬ ‫العرص العبايس‪.‬‬ ‫‪ -13‬عىل التوازي تأيت مراحل أخرى تساهم يف تطور الدين‪ ،‬ومن يرثب تنطلق الروايات عن غزوات محمد‪ ،‬بهدفني‪:‬‬ ‫األول تحفيز جنود الفتوحات عىل الجهاد املق ّدس‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫رمزي ملا عاناه أهل البيت الثوار يف مواجهة األمويون‪.‬‬ ‫وثان ًيا‬ ‫كانعكاس ٍّ‬ ‫تلك الروايات التي ستجد طريقها إىل كتب الرتاث املعروفة؛ وسيظل التيار املعارض لألمويني وامللتف حول األرسة‬ ‫مستقل عن التيار الرسمي ‪-‬يف شكل اإلسالم الشيعي‪ -‬ومع الثورة العباسية سيتبلور أكرث الحديث النبوي‬ ‫ً‬ ‫املحمدية‬ ‫ويتطور الفقه تأث ًرا بيهود العراق‪ ،‬وستُكتب السرية بتأثريٍ مسيحي (ابن إسحاق)‪ ،‬حني يكون اإلسالم قد أخذ هويته‬ ‫املكتملة‪ ،‬وأما األفكار القدمية (مثل عودة املسيح اليهودي وبناء الهيكل) سيتم قمعها نهائ ًيا أو وضعها يف الظالل لصالح‬ ‫أفكار «أكرث إسالمي ًة» مثل قدسية املسجد األقىص وعودة املسيح املسيحي (عيىس ابن مريم) واملهدي املنتظر‪.‬‬ ‫سوا ٌء صح ذلك السيناريو أو صح غريه‪ ،‬فالخالصة أن الدين اإلسالمي ‪-‬كأي ظاهر ٍة إنسانية‪ -‬مل يهبط من الفضاء بني يوم‬ ‫وليلة‪ ،‬وإمنا نبت ببط ٍء يف ترب ٍة ديني ٍة خصب ٍة ُوضعت فيها بذو ٌر قدمي ٌة ثم تهيئت لها البيئة املالمئة فأخرجت مثارها يف‬ ‫القرن السابع والثامن والتاسع امليالدي‪.‬‬

‫‪46‬‬


‫قناة جسور | ‪Bridges.TV‬‬

‫رب ملن ال منرب له‪ ،‬وقنا ٌة لحرية التعبري والتواصل والتعايش مع‬ ‫قناة جسور هي من ٌ‬ ‫املختلف ولتالقح األفكار بصور ٍة حضارية‪ ..‬صوتك مقبول هنا مهام كان‪.‬‬ ‫عنوان القناة عىل اليوتيوب‪:‬‬

‫‪https://www.youtube.com/channel/UChuvYgfSwGXkLtZYmSGc8eQ‬‬ ‫صفحة جسور عىل الفيسبوك‪:‬‬

‫‪https://www.facebook.com/Bridgestv2‬‬ ‫انضموا إلينا يف مجموعة جمهورية الردة‪:‬‬

‫‪https://www.facebook.com/groups/186192008960773/‬‬ ‫إمييل القناة‪:‬‬

‫للتواصل عرب سكايب‪:‬‬

‫‪Bridgestv1‬‬

‫‪bridgestv1@gmail.com‬‬

‫لدعم القناة عىل الـ‪:PayPal‬‬

‫‪https://www.paypal.me/SalBridgesTV‬‬

‫‪47‬‬


‫يف املصادر الفكرية‬ ‫لإللحاد الحديث‬

‫الجزء الثاين‬

‫لُوِي ُدوپْريه‬

‫لقد أَخضعت ربوبية القرن الثامن‬ ‫تام‬ ‫عرش مفهوم التعايل بشكلٍ ٍ‬ ‫لسيطرة العقل‪ ،‬لدرج ٍة فَقد معها‬ ‫التمييز بني املحايثة والتعايل الكثري‬ ‫من معناه‪ ،‬والربوبيون بذلك عب ّدوا‬ ‫الطريق إىل اإللحاد بشكلٍ حتمي‪.‬‬ ‫وال يحتاج اإللحاد أن يكتسب‬ ‫معنى معاداة الدين الذي نلزمه‬ ‫ملفردة اإللحاد عادة‪.‬‬ ‫ترجمة‬ ‫أسامة البني (الو ّراق)‬

‫‪48‬‬


‫يف املصادر الفكرية‬ ‫لإللحاد الحديث‬ ‫مثل مل تبايل بطبيعة أو وجود اآللهة‪ .‬كام أن سپينوزا رفض‬ ‫فالبوذية املبكرة ً‬ ‫فكرة اإلله املشخص‪ ،‬لكن من الصعب اعتبار فكره الدينيًا‪ .‬إن اإللحاد الالديني‬ ‫رصا إضاف ًيا‬ ‫أو املعادي للدين‪ ،‬والذي يشكل موضوع دراستنا الحالية‪ ،‬يحتوي عن ً‬ ‫مييزه عن اإللحاد الديني وعن الواحدية(‪ pantheism )1‬هو أن هذا اإللحاد يهدم‬ ‫كل أشكال التعايل املطلق‪ .‬وقد نسب بعض املنادين بذلك اإللحاد يف بداياته‬ ‫املبكرة قدرة الخلق اإللهية إىل املادة‪ ،‬إذ قالوا‪ :‬ما الذي مينع املادة نفسها من أن‬ ‫تحتوي عىل بذور الكامل الذي ستتمثّله الحقًا بالتدريج؟‬ ‫والسؤال املهم هنا هو فيام لو كانت يف الطبيعة حاج ٌة تتطلب مبدأً يتعدى‬ ‫الطبيعة نفسها‪ ،‬أي يتعاىل عىل العمليات الطبيعية بحسب فهم املؤله ‪ theist‬أو‬ ‫الواحدي ‪ pantheist‬أو الحلويل(‪panentheist )2‬؟‪.‬‬ ‫حاسم يف والدة اإللحاد الحديث؟ يبدو أن ذلك املك ّون‬ ‫ما املك ّون الذي لعب دو ًرا‬ ‫ً‬ ‫هو اختزال الفعل اإللهي الخالق إىل فعلٍ سببي‪ .‬وقد كان من الحتمي للتصادم‬ ‫الذي تبع ذلك بني هذا السبب اإللهي األويل واألسباب الثانوية املخلوقة أن يؤدي‬ ‫إىل نو ٍع من الطبعانية(‪.naturalism )3‬‬ ‫لقد م ّهد الالهوت اإلسامين ‪ nominalist theology‬يف أواخر العصور الوسطى‬ ‫الطريق للطبعانية عندما فصل عامل الطبيعة عن عامل النعمة واعتربهام عالَمني‬ ‫مستقلني‪ ،‬العامل الطبيعي وما فوق الطبيعي‪ .‬فالطبيعة التي ميكن تص ُو ُرها بشكلٍ‬ ‫مستقلٍ عن أي تعا ٍل ميكن لها أن توجد بشكلٍ مستقلٍ فعل ًيا‪ .‬ويف التصور الكوين‬ ‫الجديد الذي ط ّوره غاليليو وديكارت ونيوتن‪ ،‬تكون العلة الفاعلة(‪efficient )4‬‬ ‫ٍ‬ ‫استثناءات‬ ‫‪ cause‬هي املبدأ السببي‪ ،‬ورسعان ما اختزلت الفلسفة الحديثة (مع‬ ‫مثل) كل صور العلة إىل العلة الفاعلة بصورتها‬ ‫قليل ٍة كام لدى اليبنتز ‪ً Leibniz‬‬ ‫املبنية عىل النموذج امليكانييك لنظرية الحركة‪.‬‬ ‫‪ -1‬الواحدية ترى يف الطبيعة أو الكون وحد ًة واحد ًة مع الله‪[ .‬املرتجم]‬ ‫‪ -2‬يف أحد أعامله الرئيسية «الخالصة الالهوتية» ‪ Summa Theologica‬يقدم األقويني خمسة طرق أو براهيم إلثبات‬ ‫وجود الله‪ .‬الطريق األول هو حج ٌة من الحركة (املحرك الذي ال يتحرك)‪ ،‬والثاين من السببية‪ ،‬والثالث حجة عرضية الوجود‪،‬‬ ‫والرابع حجة تدرج الوجود‪ ،‬والخامس الحجة الغائية‪[ .‬املرتجم]‬ ‫‪ -3‬مقارنة بالواحدية‪ ،‬فإن الحلولية‪ ،‬أو وحدة املوجود تنص عىل االعتقاد أن الكون أو الوجود هو جز ٌء من الله‪ ،‬حيث يؤمن‬ ‫الحلويل أن الله أو اآللهة جز ٌء من الكون ومتعال ًيا عليه‪[ .‬املرتجم]‬ ‫‪ -4‬الكالم هنا يستعمل تقسيم أرسطو للعلل كام أوردها يف كتاب الفيزيقا‪ ،‬والذي يشمل العلة املادية (وهي الجانب الذي‬ ‫تحدده مادة التغيري)‪ ،‬العلة الصورية‪ ،‬العلية الفاعلية‪ ،‬والعلة الغائية‪[ .‬املرتجم]‬

‫‪49‬‬


‫يف املصادر الفكرية لإللحاد الحديث‬

‫الجزءالثاين‬

‫لُوِي دُوپْريه‬

‫فعل سبب ًيا‪ ،‬لكنه مل ينظر إليه أب ًدا بشكلٍ‬ ‫ولطاملا اعتُرب الخلق ً‬ ‫حرصي كتأثري علّ ٍة فاعلية بهذا الشكل‪ :‬فتحول الله إىل عل ٍة‬ ‫فاعل ٍة كغريه من العلل‪ .‬وبالتدريج‪ ،‬نرى يف فكر العصور الوسطى‬ ‫فعل خارج ًيا‪.‬‬ ‫املتأخرة أن هذا الفعل السببي صار يتحول ً‬ ‫وقد بدأت هذه العملية بافرتاض قو ٍة أصيل ٍة ‪virtus inhaerens‬‬ ‫كامن ٍة يف اليشء الذي يتحرك تفقده الحاجة لقوة تديم حركته‪.‬‬ ‫فصار يبدو أن الحركة أقل اعتام ًدا عىل سببي ٍة إلهي ٍة متواصلة‪.‬‬ ‫رغم ذلك‪ ،‬فقد نسبت هذه الطبعانية الناشئة قدرات الطبيعة الخالقة إىل مصد ٍر متعا ٍل‪ ،‬فحتى مؤسيس املذهب‬ ‫غنى عن الفعل الخالق لله إليجاد اآللية الفيزيائية ثم ببدء حركتها‪ .‬إن االعتامد‬ ‫امليكانييك‪ ،‬كديكارت ونيوتن اعتربا أن ال ً‬ ‫عىل الله باعتباره عل ًة فاعلي ًة يعني أكرث مام وصفه پاسكال حني ش ّبه فعل الخلق وكأمنا هو «ببساطة حركة يد» كبادئٍ‬ ‫للحركة(‪.)5‬‬ ‫رص عىل أن فعل‬ ‫أما ديكارت‪ ،‬فهو مل يحرص فعل الله كخالق يف لحظ ٍة واحد ٍة وحيد ٍة من التواصل اإللهي‪ ،‬فهو كان ي ّ‬ ‫الخلق هو عملي ٌة مستمر ٌة ال تنتهي‪ ،‬وأن الكون بدونها سيعود مبارش ًة إىل حالة العدم‪ .‬يقول يف تأ ّمله الثالث‪:‬‬ ‫«من األمور الواضحة ج ًدا‪ ،‬والبديهية ج ًدا‪ ،‬عند الذي ميعن النظر يف طبيعة الزمان‪ ،‬أن حفظ جوه ٍر من الجواهر‪ ،‬عرب‬ ‫كل لحظات دوامه‪ ،‬يحتاج إىل القدرة عينها والفعل عينه الالزمني إلحداثه وإعادة خلقه إذا مل يكن بع ُد موجو ًدا‪ .‬فالنور‬ ‫الفطري يرينا بوضوح أن الحفظ والخلق ال يختلفان إال من حيث طريقتنا يف التفكري‪ ،‬ال من حيث واقع األمور‪)6(».‬‬ ‫ٍ‬ ‫لذا‪ ،‬نرى أن تصور ديكارت للسببية ال يربطه مبارش ًة بربوبية القرن الثامن عرش‪ ،‬ناهيك عن إلحاد تلك الحقبة‪ .‬رغم‬ ‫ذلك‪ ،‬ففي نظامه امليكانييك للعامل نرى أن الحركة متى ما بدأت تديم نفسها إىل حد ما‪ .‬ويف التصورات الكونية املبكرة‪،‬‬ ‫تسيها وتوجهها‪ ،‬أما يف التصورات الحديثة‪ ،‬فلم‬ ‫مل تكن السببية اإللهية مسؤول ًة عن ضخ قوة الحفظ‪ ،‬بل كانت كذلك ّ‬ ‫يعد التدخل اإللهي مطلوبًا أو حتى مسمو ًحا به‪ ،‬إذ إن النظام العلمي حكم نفسه بنفسه‪ .‬وحتى مسألة بداية الحركة‬ ‫مل تعد مسأل ًة محوري ًة كام كانت يف السابق‪ ،‬حيث أن نيوتن قد ّبي أن حالة السكون وانعدام الحركة ليست حال ًة أكرث‬ ‫طبيعي ًة أو أولي ًة من حال ٍة فيها حركة‪.‬‬ ‫‪5- René Descartes, Meditations, in The Philosophical Writings of Descartes, trans. John Cottingham, a.o. (Cambridge: Cambridge University Press,‬‬ ‫‪1984), Vol. II, p. 33.‬‬ ‫‪ -6‬الرتجمة العربية هي اقتباس من ترجمة كامل الحاج لتأمالت ديكارت امليتافيزيقية يف الفلسفة األوىل‪ ،‬من منشورات عويدات‪ .‬البند‬

‫‪50‬‬


‫يف املصادر الفكرية لإللحاد الحديث‬

‫الجزءالثاين‬

‫لُوِي دُوپْريه‬

‫لقد نسخ مبدأ القصور الذايت ‪ inertia‬االفرتاض التقليدي القائل بأن للسكون السبق واألولوية عىل الحركة‪ .‬بعد ذلك‪،‬‬ ‫إن هجرنا كذلك املبدأ القائل بأن للكون بداي ٌة‪ ،‬وهو مبدأٌ غري ُمثبت‪ ،‬فإن الحاجة لعل ٍة فاعل ٍة تبدأ الحركة وتوجد خارج‬ ‫الكون تختفي‪.‬‬ ‫كان هذا هو االستنتاج الذي توصل إليه ديدرو ‪ Diderot‬وسائر‬ ‫يحل ديدرو القضية‬ ‫املاديني الفرنسيني الذين جاؤوا من بعده‪ .‬وحتى ّ‬ ‫املتبقية‪ ،‬وهي أصل الحياة من املادة غري العضوية‪ ،‬أسبغ تفس ًريا‬ ‫حيويًا ديناميًا عىل النظرية امليكانيكية الساكنة‪ ،‬حيث افرتض أن‬ ‫قوى خالقة تتعدى مجرد الحاجة إلدامة الحركة‪ ،‬وقد‬ ‫املادة متتلك ً‬ ‫دليل عىل ذلك‪ ،‬فالحياة تتولد من اتحاد‬ ‫اعترب ديدرو عمليات التولد ً‬ ‫الحيوان املنوي بالبويضة‪ ،‬واللذان من وجهة نظره ليسا حقًا أحياء‪.‬‬ ‫أليس من املمكن إذًا للحياة أن تظهر من تطور املادة نفسها؟ وحتى عندما ننظر إىل أمناط الحياة العقلية العليا‪ ،‬فهل‬ ‫لسبب يقبع خارج الطبيعة بدلً من القول بأنها نتيجة عمليات تطوي ٍر داخل‬ ‫نجعل فهمها أوضح عندما ننسب أصلها‬ ‫ٍ‬ ‫الطبيعة نفسها؟ لقد عادت فكرة التصور الدينامييك للامدة للظهور مجد ًدا يف سياق الطبعانية املعارصة‪ ،‬تعززها منظوم ٌة‬ ‫مبهر ٌة من الدعم العلمي‪ ،‬فنجد الفالسفة اليوم ينظرون إىل معطيات علم األحياء املعارص‪ ،‬ويحاولون تفسري تطور الحياة‬ ‫العقلية انطالقًا من غريزة الحياة للحفاظ عىل الذات‪ ،‬والتي نشاهدها يف كل أشكال الحياة‪ ،‬وحتى يف املادة الجامدة‬ ‫إىل ٍ‬ ‫لسبب مجهول موجو ٍد خارج تلك العمليات؟‬ ‫حد ما‪ ،‬فام الذي ميكن أن نضيفه إىل فهمنا لتلك العمليات إن نسبناها‬ ‫ٍ‬ ‫ما التفسري الذي ميكن أن يكون أكرث إقنا ًعا من حيثيات تلك العمليات نفسها؟ أليست احتاملية هذا السيناريو أعىل من‬ ‫احتاملية إل ٍه يخلق فوىض مل يخرج منها كو ٌن يليق بحكمة وقوة ذلك اإلله؟ إن وجود بعض النظام يف هذا الكون ميكن‬ ‫خالق كامل‪.‬‬ ‫تفسريه بحقيقة أن الفوىض تقيض عىل نفسها مع الوقت‪ ،‬لكنه ال يكفي ليكون برهانًا أنه مه فعل ٍ‬ ‫«أحدس‬ ‫يقول األستاذ سوندرسون ‪ Saunderson‬األعمى من أوكسفورد (والذي يضع ديدرو نظريته عىل لسانه بدها ٍء)‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أنه رجالً مثيل كانوا ك ًرثا يف البدء‪ ،‬عندما كانت املادة تتخمر لتنتج الكون‪ .‬فلم ال أعمم ما أعتقده بصدد الحيوانات‬ ‫ليفرس العوامل كذلك؟ كم من عوامل مش ّوه ٍة فاشل ٍة َذ َوت وتالشت‪ ،‬أو أصلحت ذاتها‪ ،‬ثم عادت لالنتشار مجد ًدا يف كل‬ ‫لحظة‪ ،‬يف مكانٍ قيص من أرجاء الفضاء؟»(‪)7‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪7- Denis Diderot, Lettre sur les aveugles, in (Œuvres Complètes (Paris: Le Club Français du Livre, 1969), Vol. II, pp. 198-99; trans. Derek Coltman‬‬ ‫‪in Diderot’s Selected Writings (New York: Macmillan, 1966), pp. 198-99.‬‬

‫‪51‬‬


‫األخطاءاللغوية يف‬

‫ال���� ال��ي�‬ ‫د‪ .‬سامي الذيب‬

‫كتاب أخطاء القرآن حيصر أكثر من ألفني ومخسمائة خطأ لغوي يف القرآن ويرتجم‬ ‫النص القرآني لثالث لغات ويقدمه ألول مرة بالرتتيب التارخيي الصحيح‬ ‫ً‬ ‫متوفر اآلن على موقع أمازون وجمانا على الرابط التايل‬ ‫‪goo.gl/emoQDp‬‬ ‫‪52‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫جـ ‪5‬‬ ‫ويبقى أمامنا اآلن املصدر املسيحي الذي‬ ‫أيضا–‬ ‫ال تعرتف به الكنيسة –وال نحن ً‬ ‫الرب‪ ،‬إنّ ا‬ ‫عىل أنّه ُمو ًحى به من عند ّ‬ ‫نورده عىل سبيل الشائعات أو األقاويل‬ ‫املرسلة التي كانت منترش ًة يف تلك‬ ‫َ‬ ‫الفرتة وجاء أحدهم ليسجل تلك‬ ‫كتاب قد يكون له‬ ‫اإلشاعات يف ٍ‬ ‫ظل من الحقيقة‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫محمد شومان‬ ‫‪53‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء الخامس‬ ‫محمد شومان‬

‫هذا املصدر هو إنجيل يعقوب الذي سبق لنا الحديث عنه وهو يُورد‬ ‫لنا تص ّوره عن حادثة امليالد العذراوي‪ ،‬فيذكر لنا قصة زيارة رئيس‬ ‫املالئكة جربائيل شخص ًيا ملريم ذات الستة عرش ربي ًعا‪ ،‬وإحبالها املق ّدس‬ ‫بالطفل اإللهي‪ ،‬وبعد ذلك اختبأت بعارها يف بيتها ثم‪:‬‬ ‫«فَل َّم كَانَ ْت َم ْريَ ٌم ٍف شَ ْه ِر َها ال َْسا ِد ْس‪ ،‬إذًا يُ ْو ُس َف َعاْئِ ٌد ِم ْن ِع ْند َم َبانِ ْيه‬ ‫َو َد ِ‬ ‫اخ ًل َم ْن ِزلَ ُه‪ ،‬يَ ْكتَ ِش ُف أَنّ َها ُحبْ َل ب ِ​ِطفْلٍ ‪ ،‬فَلَطَ َم َو ْج َه ُه َوأَلْقَى ِب َنف ِْس ِه‬ ‫َع َل الْ َ ْرض» (يعقوب ‪.)13 -‬‬ ‫يس قد ترك بيته وخطيبته مل ّدة ستّة أشه ٍر ملامرسة‬ ‫أي أ ّن يوسف الق ّد ُ‬ ‫بعض األعامل التجارية‪،‬‬ ‫وعندما عاد حاول أن يأخذ خطيبته العذراء يف أحضانه ولك ّنه مل يتمكن من ذلك الرتفاع بطنها عن الالزم‪ ،‬وهنا أدرك‬ ‫قداسته املصيبة التي حدثت يف فرتة الستّة أشه ٍر هذه‪ ،‬فلم يتاملك نفسه من أن يلطُم عىل وجهه وهو يتم ّرغ يف الرتاب‪،‬‬ ‫قد يقول ُملح ٌد أ ّن لطم الوجه واالرمتاء عىل األرض هي حركاتٌ صبياني ٌة غري مسؤولة‪ ،‬ولك ّننا نر ُّد عليه بأ ّن هذه الحركات‬ ‫مخالف ملعلوماتنا نحن الفاسدين روح ًيا‪ ،‬ث ّم أ ّن املصيبة كبرية‪ ،‬فتخ ّيل‬ ‫عندما تصدر عن القديسني قد يكون لها مع ًنى‬ ‫ٌ‬ ‫شفاك الله لو أنّك تركت خطيبتك اآلنسة الرشيفة العفيفة ربيبة الكهنة يف بيتك وغبت عنها فقط ستة أشهر‪ ،‬لرتجع‬ ‫هائل يف بطنها مع أنها غري مصاب ٍة بالقولون العصبي‪ ،‬فامذا سيكون ر ُّد فعلك حينئذ؟‬ ‫بعدها وتجد انتفا ًخا ً‬ ‫ويسأل القديس خطيبته الحبىل‪:‬‬ ‫«فَ ِم ْن أَيْ َن إِ َذ ْن َذلِ َك الَّذْي ٍف َر ِح َم ْك؟‪ ،‬فَقَال ْ​ْت ِه َي‪َ :‬ح ٌّي ُه َو ا ْل َر ُّب‪ ،‬إِنَّ ْني لَ أَ ْعر ُِف ِم ْن أَيْ َن كَا َن ٍل»‪،‬‬ ‫بكل يشء‪ ،‬وهي‬ ‫وعندما يسألها الخطيب من أين لك هذا االنتفاخ يا آنسة‪ ،‬تجيب بأنها ال تعرف بل الله فقط هو العليم ِّ‬ ‫التنصل من املسؤولية فيلقونها عىل اإلله‪،‬‬ ‫الصيغة الشائعة الشهرية التي يستخدمها مؤمني جميع األديان حني يريدون ّ‬ ‫ويكتم الرجل مصيبته يف قلبه ويجلس يف بيته يستقبل الزوار الذين يه ّنئونه بسالمة الوصول‪ ،‬وكان أحد هؤالء الز ّوار‬ ‫فلم رأى ارتفاع بطن العذراء‬ ‫واسمه «حنان» ووظيفته األصلية كانت الكتابة‪ ،‬بينام كانت هوايته األوىل هي «الخبص»‪ّ ،‬‬ ‫دخول رشع ًيا‪،‬‬ ‫عن املسموح به لآلنسات ذهب مرس ًعا إىل الكاهن ليتّهم صديقه يوسف باعتالء مريم قبل أن يدخل بها ً‬ ‫وهنا ُج ّن جنون الكاهن‪:‬‬ ‫‪54‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء الخامس‬ ‫محمد شومان‬

‫شبَا َما ْء‬ ‫«فقال الكاهن‪ :‬أَ ِع ْد الْ َع ْذ َرا َء ال ِ‬ ‫ْتي ْاستَلَ ْمتَ َها ِم ْن َه ْيكَلِ اَلْ َر ّب‪ ،‬فَاْنْ َف َج َر يُ ْو ُس َف بَاكِ ًيا‪ ،‬فَق َ​َال الْكَا ِه ُن‪َ :‬سأُ ْع ِط ْيك َُم لِتَ ْ َ‬ ‫ش ْب‪ ،‬ث ُ ّم أَ ْر َسلَ ُه بَ ِع ّي َداٍ إِ َل ت ٍَّل تُ َرا َِب‪،‬‬ ‫الْ ِ َدانَ َة لِلْ َر ِب‪َ ،‬حتّ َى تَظْ َه ْر َخطَايَاكُّ ْم ِف ِع ُي ْونَ َك ْم‪ ،‬فَأَ َخ َذ الْكَا ِه ُن ال َْم َء‪َ ،‬وأَ ْعطَى يُ ُ‬ ‫وس َف لِ َي ّ َ‬ ‫ش َب أَيْ ًضا‪َ ،‬وأَ ْر َسلَ َها بَ ِع ْي ًدا إِ َل الْتّ ِّل ال ُ َْت ٍاب‪ ،‬فَ َعادَتْ َسالِ َم ًة‪ ،‬فَتَ َع َّج َب ك ُُّل الْشَ ْع ْب أّ َّن َخ ِط ْيئ ًة لَ ْم تَظْ َه ْر‬ ‫ث ُ َّم أَ ْعط َ​َى َم ْريَ َم لِتَ ْ َ‬ ‫ِبه َِم» (يعقوب – ‪.)16‬‬ ‫أيضا أمام الكهنة‪ ،‬وهنا قام الكهنة‬ ‫وما يه ّمنا يف هذا النص أنّه يَذكر أ ّن مريم قد انفضحت بشأن حملها و ُحوكمت ً‬ ‫املؤمنون بتطبيق الرشيعة التوراتية يف هذه الحالة حيث ج ّرعوهام ماء اإلدانة أو املاء امل ّر‪ ،‬أ ّما حكاية ماء اإلدانة هذه‬ ‫فنجدها يف التوراة يف سفر العدد‪ ،‬الذي يتحدث عن ُحكم الرشيعة بالنسبة للمرأة التي يتهمها زوجها بالزنا– نك ّرر‬ ‫«املرأة» التي يتهمها «زوجها» بالزنا– ويكون الحكم أن تقف أمام الكاهن ويسقيها ماء اللعنة املر‪:‬‬ ‫« َو َمتَى َسقَا َها ال َْم َء‪ ،‬فَ ِإ ْن كَانَ ْت قَ ْد ت َ َن َّج َس ْت َو َخانَ ْت َر ُجلَ َها‪ ،‬يَ ْد ُخ ُل ِفي َها َما ُء اللَّ ْع َن ِة لِلْ َم َرا َر ِة‪ ،‬ف َ َِي ُم بَطْ ُن َها َوت َْس ُق ُط فَ ْخ ُذ َها‪ ،‬فَتَ ِص ُري‬ ‫الْ َم ْرأَ ُة لَ ْع َن ًة ِف َو َس ِط شَ ْع ِب َها‪َ ،‬وإِ ْن لَ ْم تَكُنِ الْ َم ْرأَ ُة قَ ْد تَ َن َّج َس ْت‪ ،‬بَ ْل كَانَ ْت طَا ِه َرةً‪ ،‬تَتَ َ َّبأُ َوتَ ْح َب ُل ِب َز ْرعٍ» (العدد‪.)28-27 :5 ،‬‬ ‫وهكذا وقف جمهور الشعب يتابع العرض‬ ‫الديني املشوق‪ ،‬حيث تج ّرع يوسف ومريم املاء‬ ‫امل ّر ووقف الشعب ينتظر ُحكم الرب يهوه فيهام‪،‬‬ ‫ولكن حدثت املفاجأة إذ قرر يهوه أن اآلنسة‬ ‫مريم والشيخ يوسف مل ميارسا الزنا عىل الرغم‬ ‫من ظهور الحمل عىل مريم‪ ،‬والدليل عىل ذلك‬ ‫أ ّن مريم مل ترم بطنها أمام جمهور املشاهدين‪،‬‬ ‫وطاملا أ ّن مريم مل ترم بطنها وتسقط فخذها بعد‬ ‫رشب ماء اللعنة امل ّر‪ ،‬إذًا فقد بُرئت و َحبلت من‬ ‫مقدسا‪،‬‬ ‫زوجها ثاني ًة‪ ،‬هذا إذًا كان كالم التوراة‬ ‫ً‬ ‫كل األحوال ما يهمنا يف املوضوع بر ّمته هو‬ ‫ويف ّ‬ ‫كبغي بني شعبها‪،‬‬ ‫القول بأ ّن مريم قد اشتهرت‬ ‫ٍّ‬ ‫وأنها قد حوكمت أمام الكهنة‪ ،‬وظلت سريتها عىل‬ ‫أفواه الناس لفرت ٍة طويلة –نظنها نحن حتى دمار‬ ‫الهيكل سنة ‪ 70‬م– وبالتايل كان الناس ينظرون إىل‬ ‫يسوع بازدرا ٍء باعتباره ابن زانية‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء الخامس‬ ‫محمد شومان‬

‫وعندما متّت أيام اآلنسة مريم وحان ميعاد الوضع‪ ،‬كانت مع خطيبها يف ٍ‬ ‫قريب من أورشليم‪ -‬وليست يف إسطبلٍ‬ ‫كهف ٍ‬ ‫للبهائم كام يخربنا الروح القدس‪ -‬ويف هذا الكهف املبارك جاءتها آالم الوضع‪ ،‬فخرج يوسف مرس ًعا للبحث عن طبيب أمراض‬ ‫نسا ٍء أو عىل األقل داية‪ ،‬ووجدها بالصدفة متارس رياضة امليش بالقرب من الكهف املق ّدس‪ ،‬فأحرضها معه لتولِّد خطيبته‬ ‫التي فوجئت بأنها مع ذلك مازالت عذراء‪ -‬مع أنّها مل تلد والد ًة قيرصي ًة ‪-‬وهذا أحدث ذع ًرا للداية فذهبت لتخرب زميل ًة لها‬ ‫ٍ‬ ‫فأصت عىل أن تضع إصبعها يف مكانٍ‬ ‫حساس من جسد‬ ‫يف املهنة‪ ،‬ولكنها كانت عىل ما يبدو داي ًة من أنصار البحث العلمي‪ّ ،‬‬ ‫مريم لتكتمل رشوط التجربة العملية‪:‬‬ ‫«فَ َد َخل ْ​ْت الْقَا ِبلَ َة َوقَال َْت لِ َم ْريَم‪ :‬أَظْ ِهر ِْي نَف َْس ِك‪َ ،‬لنَّ ُه لَ ْي َس َج َد ًل بَ ِس ْيطًا َذلِ َك‬ ‫ص َخ ْت قَائِلَ ًة‪ :‬الْ َو ُيل ِل‬ ‫الّذْي َس َي ّنشُ ُب َح ْول َِك‪ ،‬فَأ ْد َخل َْت َسالُو ْمي إِ ْص َب ِع َها‪َ ،‬و َ ْ‬ ‫لِظُلْ ِمي َو َع َد ُم إِ ْ َي ِان» (يعقوب ‪.)20‬‬ ‫بعض املؤمنني بالغيظ من «بجاحة» الداية التي تأمر العذراء بأن‬ ‫قد يشعر ُ‬ ‫ٌ‬ ‫خجول ومل تفتح ساقيها‬ ‫تفتح ساقيها ليك تتأكد من عذريتها‪ ،‬مع أنها آنس ٌة‬ ‫من قبل ألحد‪ ،‬إالّ أنّنا يجب أن نشكر سالومي القابلة ألنّها تأكدت وأكّدت لنا‬ ‫ُعذرية العذراء رغم أنها ُولدت من نفس الفتحة‪ ،‬فعىل من يشكك يف عذرية‬ ‫ٍ‬ ‫بشاهد يؤكّد عدم عذريتها‪ ،‬بعد أن أىت‬ ‫مريم قبل أو بعد الوالدة أن يأيت‬ ‫ٍ‬ ‫بشاهد رأى بعينيه عذريتها‪.‬‬ ‫الكهنة‪-‬أو الرب‪-‬‬ ‫مل تصدق سالومي أن مريم عذراء‪ ،‬فام إن‬ ‫فحصتها حتى سقطت يداها‪ .‬من «كتاب‬ ‫الساعات»‪1490 ،‬م‪.‬‬

‫والسؤال اآلن هو‪ :‬هل تو ّجهنا الفكري يف هذا الطرح يُعت ّد به أم ال‪ ،‬أي هل نظر‬ ‫كبغي أنجبت اب ًنا يف الحرام أم نظروا إليها كامرأٍة‬ ‫الناس يف عرص امليالد إىل مريم ٍّ‬ ‫عادي ٍة تزوجت وأنجبت يف الحالل؟ ويف كلتا الحالتني سوف نرتك ُ‬ ‫القول الفصل للكتاب املق ّدس املسيحي‪ ،‬أي اإلنجيل املوحى‬ ‫به من عند الرب واملعتمد من الكنيسة عىل أنه كلامت الله ال َحرفية‪ ،‬ترى هل يوجد يف تلك األناجيل ما يؤيد زعمنا هذا؟‬ ‫يف الفكر املسيحي السائد واملسيطر نجد أنهم يحاولون دامئًا إظهار املسيح عىل أنه نبي الرحمة‪ ،‬والخايل من الخطيئة‬ ‫النص املق ّدس‪ ،‬بل يتعاملون بقلوبهم‬ ‫–طب ًعا فاآللهة ال تخطئ– واملؤمنون كام ذكرنا من قبل ال يتعاملون بعقولهم مع ّ‬ ‫النص األسايس لصالح تثبيت صور ٍة معين ٍة مبرور الزمن واإللحاح عليها‬ ‫للنص املق ّدس‪ ،‬و ُهنا يتم تغييب ّ‬ ‫مع رشح الكهنة ّ‬ ‫النص اإلنجييل األسايس بعقولنا لرنى مدى االختالف بينه‬ ‫النص اإللهي نفسه‪ ،‬فلنحاول إذًا أن نقرأ ّ‬ ‫تصبح أكرث قداس ًة من ّ‬ ‫وبني تفسريات الكهنة إلثبات وجهة نظرنا التي تقول أ ّن النص الديني –يف الغالب– يُخالف ال ِفكر الديني السائد‪ ،‬أي أ ّن‬ ‫ٍ‬ ‫النص‪ ،‬ويُصبح هناك اتجاهان أحدهام‬ ‫النص املق ّدس يف األغلب يكون ذا‬ ‫أهداف كهنوتي ٍة بعيد ًة متا ًما عن مقصد ّ‬ ‫تفسري ّ‬ ‫نفعي مادي‪ ،‬أ ّما‬ ‫ُموايل ّ‬ ‫ديني فطري‪ ،‬واآلخر موايل للتفسري الكهنويت املخالف للنص اإللهي بدافعٍ ٍ‬ ‫للنص املق ّدس بدافعٍ ٍ‬ ‫‪56‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء الخامس‬ ‫محمد شومان‬

‫الجزئية التي سنسلّط الضوء عليها فهي عالقة يسوع املسيح بأمه مريم العذراء‪ ،‬وهي يف تصورنا عالق ٌة مركّبة‪ ،‬فاملسيح‬ ‫أيضا ك ّم الظلم الذي حاق بها‬ ‫رس الذي حملته أمه يف صدرها ثالثني عا ًما –حتى بدأ دعوته– ويعلم ً‬ ‫يعلم بالطبع ال ّ‬ ‫من جراء نظرة اليهود إليها كزانية –حسب طرحنا السابق– ولك ّنه مع ذلك مل يكن يستحسن وجودها معه يف نفس‬ ‫املكان أمام الناس‪ ،‬ليك ال يتذكر الناس ماضيها األليم‪ ،‬ويصبح هو موضع سخريتهم بدلً من تبجيلهم‪ ،‬وسنحاول هنا‬ ‫أن نثبت هذا التصور واضعني نصب أعيننا الحقيقة التي نؤمن بها من كتابنا املق ّدس والقائلة أ ّن مريم العذراء سيدة‬ ‫تعسف الكهنة يف‬ ‫نساء العاملني‪ ،‬ولكننا هنا إنّ ا نتحدث عن كتاب املسيحيني املق ّدس‪ ،‬ونحاول إعادة قراءته بعي ًدا عن ّ‬ ‫تفسرياتهم املريضة أو املغرضة‪ ،‬لنصل –بعقولنا – إىل إثبات وجهة نظرنا من كتابهم ذاته ‪.‬‬ ‫رسا كانت فيه أ ّمه‪ ،‬وذهب هو إليه ومعه‬ ‫يقول لنا النص املقدس أن أوىل معجزات املسيح كانت يف بلدة قانا‪ ،‬إذ حرض ُع ً‬ ‫تالميذه‪َ « :‬ول َّ​َم فَ َرغ َِت الْ َخ ْم ُر‪ ،‬قَال َْت أُ ُّم يَ ُسو َع لَ ُه‪« :‬لَيْ َس لَ ُه ْم َخ ْم ٌر»‪ 4 .‬ق َ​َال لَ َها يَ ُسو ُع‪َ « :‬ما ِل َول َِك يَا ا ْم َرأَةُ؟ لَ ْم تَأْ ِت‬ ‫َسا َع ِتي بَ ْع ُد» (يوحنا ‪.)5-3 :2‬‬ ‫الصورة عىل النحو التايل‪ :‬يسوع مع تالميذه يف فر ٍح ما‪ ،‬وكانت أ ّمه بالصدفة يف هذا الفرح‪ ،‬نفذت الخمر من عند‬ ‫العريس‪ ،‬فجاءت مريم الطاهرة إىل ابنها وهي تعلم بالطبع قدرته عىل إجراء املعجزات‪ ،‬وطلبت منه أن يح ّول املاء إىل‬ ‫ٍ‬ ‫قائل‪َ « :‬ما ِل َول َِك يَا ا ْم َرأَةُ»‪ ،‬يا إلهي‬ ‫ملحوظ ً‬ ‫رب الرحمة يرد عىل أمه بجفا ٍء‬ ‫خم ٍر لتفتخر به أمام الناس‪ ،‬يسوع املسيح ّ‬ ‫أيخاطب اإلله أ ّمه هكذا «يَا ا ْم َرأَةُ»؟ أو حتّى هل يُخاطب البرش أمهاتهم هكذا عىل املأل؟ واألسوأ من ذلك أنّه بعد أن‬ ‫يحتقرها هكذا أمام الحضور يقوم بعمل املعجزة وتحويل املاء إىل خمر‪ ،‬فَلِم الرفض واالحتقار من األساس؟‬ ‫يوم آخر كان يسوع يجلس يف وسط تالميذه‪:‬‬ ‫ويف ٍ‬ ‫«فَ َجا َءتْ ِحي َن ِئ ٍذ إِ ْخ َوتُ ُه َوأُ ُّم ُه َو َوقَفُوا َخا ِر ًجا َوأَ ْر َسلُوا إِلَ ْي ِه يَ ْد ُعونَ ُه‪َ 32 .‬وكَا َن الْ َج ْم ُع َجالِ ًسا َح ْولَ ُه‪ ،‬فَقَالُوا لَ ُه‪ُ « :‬ه َوذَا أُ ُّم َك‬ ‫َوإِ ْخ َوت َُك َخا ِر ًجا يَطْلُ ُبونَ َك»‪33 .‬فَأَ َجابَ ُه ْم قَائِ ًل‪َ « :‬م ْن أُ ِّمي َوإِ ْخ َو ِت؟»‪34 .‬ث ُ َّم نَظَ َر َح ْولَ ُه إِ َل الْ َجالِ ِس َني َوق َ​َال‪َ « :‬ها أُ ِّمي‬ ‫َوإِ ْخ َو ِت‪35،‬ألَ َّن َم ْن يَ ْص َن ُع َم ِشيئَ َة اللَّ ِه ُه َو أَ ِخي َوأُ ْخ ِتي َوأُ ِّمي» (مرقس ‪.)35-31 :3‬‬ ‫يسوع يف مكان الصدارة وسط تالميذه يعظهم ويعلمهم‪ ،‬فجأ ًة يظهر مايض أ ّمه املخجل يف صورة استدعا ٍء من أ ّمه وإخوته‬ ‫بالباب‪« ،‬إِ ْخ َوت ُ ُه»؟ هل كان ليسوع إخوة؟‪،‬يقول الكهنة إنّهم إخوته يف اإلميان‪ ،‬ولك ّنه كان يعظ إخوته يف اإلميان‪ ،‬ويقول بعض‬ ‫الكهنة إنهم أوالد يوسف من امرأ ٍة أخرى غري مريم‪ ،‬ولكن كيف يكون أوالد يوسف الغريب من امرأ ٍة غريب ٍة إخو ًة ليسوع‬ ‫عليم‬ ‫نص مق ّد ٍس مو ّج ٍه من إل ٍه ٍ‬ ‫الرب؟ يقولون إن إخوته هم أبناء خالته‪ ،‬فأين هي خالته؟ وكيف يصبح أبناء الخالة إخو ًة يف ٍّ‬ ‫إىل مؤمنٍ قد يكون ضعيف الفهم؟ تساؤالتٌ حائرة‪ ،‬ولك ّنها ليست مقصدنا هنا‪ ،‬املهم‪ ،‬يرفض يسوع الخروج لرؤية حاجة‬ ‫أ ّمه وي ّدعي أ ّن أ ّمه وإخوته هم التالميذ الذين يصنعون مشيئة الله‪ ،‬يا للهول يا يسوع‪ :‬أتتهم أ ّمك بأنّها مل تصنع مشيئة الله؟‬ ‫‪57‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء الخامس‬ ‫محمد شومان‬

‫أتفضل مجموع ًة من الص ّيادين والعشّ ارين عىل‬ ‫ّ‬ ‫أ ّمك العذراء الطاهرة؟ ونالحظ يف هذا السياق‬ ‫املق ّدس أ ّن هؤالء الص ّيادين والعشّ ارين الذين‬ ‫فضلهم يسوع عىل أ ّمه الطاهرة الرشيفة كلّهم‬ ‫ّ‬ ‫بال استثنا ٍء قد تركوه وحي ًدا ساعة املحنة عىل‬ ‫الصليب‪ ،‬ومل يبق له أح ٌد سوى أ ّمه املرفوضة‬ ‫املظلومة هذه ‪-‬والله يا يسوع الذي ال إله إال‬ ‫هو إنني ألفضل تلبية نداء أمك عىل تلبية نداء‬ ‫أمي‪ ،‬ببساط ٍة يا سيدي ألنني أعلم أنها صنعت‬ ‫مشيئة الله أكرث من أي امرأ ٍة أخرى يف الكون‪.‬‬

‫عائلة مريم بريشة كوكيس القرن ‪16‬‬

‫نقف اآلن ل ُنلقي نظر ًة عىل موضوع إخوة عيىس الذي أ ّرق الكثريين من الباحثني وأصاب الكثريين من الكهنة بالذُعر‪،‬‬ ‫حيث نجد أ ّن أرسة يسوع عىل ما يبدو كانت كبرية العدد‪ ،‬فاخرتاع تنظيم األرسة مل يكن قد ُعرف بعد يف عرص امليالد‪،‬‬ ‫الرب املب ّجلة التي يذكرها اليهود وهم يستقبلون يسوع يف مدينتهم‪:‬‬ ‫ويَحيك لنا مرقس عن أرسة ّ‬ ‫ُوب‪َ ،‬ويُ ِ‬ ‫وس َويَ ُهوذَا َو ِس ْم َعانَ؟ أَ َولَ ْي َس ْت أَ َخ َواتُ ُه ه ُه َنا ِع ْن َدنَا؟ فَكَانُوا يَ ْع ُ ُثو َن‬ ‫«أَلَ ْي َس هذَا ُه َو ال َّن َّجا َر ابْ َن َم ْريَ َم‪َ ،‬وأَ ُخو يَ ْعق َ‬ ‫ِب ِه‪ ،‬فَق َ​َال لَ ُه ْم يَ ُسو ُع‪ :‬لَ ْي َس نَب ٌِّي ِبالَ كَ َرا َم ٍة إِالَّ ِف َوطَ ِن ِه َوبَ ْ َي أَقْ ِربَائِ ِه َو ِف بَ ْي ِت ِه َولَ ْم يَق ِْد ْر أَ ْن يَ ْص َن َع ُه َن َاك َوالَ قُ َّو ًة َو ِ‬ ‫اح َدةً»‬ ‫(مرقس ‪.)5-3 :6‬‬ ‫حني ذهب يسوع إىل قريته يدعو أهله إىل الدين الجديد نظروا إليه بازدرا ٍء ألنّه « ابْ َن َم ْريَ َم » ومل ينسبوه إىل يوسف‬ ‫الن ّجار مع أن نسبة الرجل إىل أمه يف املجتمع الرشقي القديم والحديث ت ُعترب س ّب ًة وإهان ًة‪ ،‬ولكن أهل قريته مل يُخطئوا‬ ‫فهم يَعرفون أنّه ابن مريم أ ّما أباه فهم يف ٍ‬ ‫شك منه مريب‪ ،‬ولذلك فشل يف ُصنع العجائب أمامهم ألنّهم ج ّردوه من‬ ‫كرامته وذكّروه ٍ‬ ‫النص املق ّدس أسامء إخوته الرجال وي ّدعي أ ّن له‬ ‫رش ٍف كان قد بدأ يف نسيانه‪ ،‬ويَذكر لنا ّ‬ ‫مباض غري م ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أيضا‪ ،‬ومن هؤالء اإلخوة نجد يعقوب الذي يُطلق عليه سفر األعامل املق ّدس‬ ‫أخوات أخر‬ ‫متزوجات عندهم يف الجليل ً‬ ‫ولعل السبب يف إغفال‬ ‫لقب «أخو الرب»‪ ،‬الذي قد أصبح بعد ذلك مؤم ًنا وتوىل رئاسة الكنيسة بعد صلب املسيح‪ّ ،‬‬ ‫األناجيل إلخوته هو أنّهم مل يص ّدقوه حني ا ّدعى النب ّوة‪ ،‬فيقول لنا الروح القدس‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫«لَ َّن إِ ْخ َوتَ ُه أَيْ ًضا لَ ْم يَكُونُوا يُ ْؤ ِم ُنو َن ِب ِه» ( يو‪ ،)5 – 7‬ورمبا كان سبب عدم إميانهم به أنّهم حسبوه يهذي أو يخ ّرف‪« :‬‬ ‫َول َّ​َم َس ِم َع أَقْ ِربَا ُؤ ُه َخ َر ُجوا لِ ُي ْم ِسكُو ُه‪ ،‬ألَنَّ ُه ْم قَالُوا‪ :‬إِنَّ ُه ُم ْختَ ٌل» (مرقس ‪.)22-21 :3‬‬ ‫‪58‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء الخامس‬ ‫محمد شومان‬

‫ولكن كيف يظن إخوته أنه ُمختل‪ ،‬أمل يروه يصنع املعجزات أمامهم يف البيت‪ ،‬أمل يسمعوا من أ ّمه من قبل أ ّن ابنها‬ ‫كل سن ّدعي أنّهم مل يروه يصنع‬ ‫هذا يُعترب اب ًنا لله‪ ،‬أمل يروا أخالقه اإللهية الرفيعة مقارن ًة بأخالقهم األرضية امللوثة؟ عىل ٍّ‬ ‫رس والدته العجيب‬ ‫املعجزات من قبل وكان ي ّدخرها جميعها ليصنعها أمام الشعب‪ ،‬وسنتفهم أ ّن أ ّمه قد حافظت عىل ِّ‬ ‫حتّى آخر ٍ‬ ‫نفس يف حياتها الطاهرة‪ ،‬وسنفرتض أخ ًريا أ ّن إخوته كانوا من نوعية إخوة يوسف القليلة اإلميان‪ ،‬وس ُنغلق أخ ًريا‬ ‫هذا امللف االعرتايض إىل ح ٍني ونعود إىل حديثنا بشأن عالقة يسوع بأ ّمه ونظرة املجتمع لهام‪.‬‬ ‫قائل‪:‬‬ ‫ولعل أخطر إهان ٍة تع ّرض لها يسوع املسيح وذُكرت يف الكتاب املق ّدس هي تلك التي أوردها يوحنا ً‬ ‫ّ‬ ‫«أَنْتُ ْم تَ ْع َملُو َن أَ ْع َم َل أَبِي ُك ْم‪ ،‬فَقَالُوا لَ ُه‪ :‬إِنَّ َنا لَ ْم نُولَ ْد ِم ْن ِزنًا لَ َنا أَ ٌب َو ِ‬ ‫اح ٌد َو ُه َو الل ُه» (يوحنا ‪.)41 :8‬‬ ‫يسوع املسيح يتعرض لليهود ويقول لهم إنّكم تعملون أعامل أبيكم «يقصد الشيطان» ولك ّن الر ّد عليه كان عبار ًة عن‬ ‫أب واح ٌد هو الله‪ ،‬أي أنّهم يعايرونه بأنّه مولو ٌد من‬ ‫طلق ٍة أصابت صميم كرامته فقد قالوا له‪ :‬إنّنا مل نولد من زنا‪ ،‬لنا ٌ‬ ‫ألب غ َري أبيه الحقيقي الذي أحبل أ ّمه و َهرب وتركها حامل ًة يف أحشائها طفل‬ ‫زنا‪ ،‬وعىل أحسن الفروض فهو‬ ‫منسوب ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫الخطيئة هذا‪ ،‬يا ليسوع املسكني الذي ال يستطيع أن يقول الحقيقة لليهود‪ ،‬فلو قال لهم أنّه ابن الله لقتلوه ‪-‬وقد حاول‬ ‫فعل ونهروه فرتاجع عن كالمه‪ ،‬راجع كتاب يوحنا اإلصحاح العارش اآلية ‪ – 33‬ولو سكت ملات من الغيظ‪ ،‬ولك ّنه‬ ‫ذلك ً‬ ‫قائل‪:‬‬ ‫لجأ إىل استعطافهم ً‬ ‫« َم ْن ِم ْن ُك ْم يُ َب ِّكتُ ِني َع َل َخ ِط َّي ٍة؟ فَ ِإ ْن كُ ْن ُت أَق ُ​ُول الْ َح َّق‪ ،‬فَلِ َمذَا ل َْستُ ْم ت ُ ْؤ ِم ُنو َن ِب؟» (يوحنا ‪.)47-46 :8‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذنب مل أرتكبه فعىل فرض أن أمي‬ ‫تكتيك‬ ‫هنا يلجأ يسوع إىل‬ ‫دفاعي بدلً من الهجومي‪ ،‬فيقول لهم ملاذا تحاسبونني عىل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫خاطئة يف نظركم فام ذنبي أنا يف ذلك؟ ها أنذا أمامكم من عرف عني أين قد ارتكبت خطيئ ًة فليواجهني بها ألتحمل‬ ‫نتيجتها‪ ،‬أ ّما خطايا اآلخرين‪ ،‬حتى لو كانوا من أهيل فأرجوكم ال تح ّملوين إياها‪ ،‬ونفهم من هذا النص أ ّن اليهود واجهوا‬ ‫يسوع بأنّه ابن زنا‪ ،‬وأنّه مل يستطع أن ير ّد عليهم‪ ،‬بل حاول أن يستعطفهم ويجعلهم ينظرون لترصفاته هو وليس ألمه‬ ‫وأخالقياتها‪ ،‬ونفس املوقف تك ّرر مر ًة أخرى عندما كان يسوع يقول لهم‪:‬‬ ‫اآلب ال َِّذي أَ ْر َسلَ ِني‪ ،‬فَقَالُوا لَ ُه‪ :‬أَيْ َن ُه َو أَبُ َوك؟» (يوحنا ‪.)19-18 :8‬‬ ‫«أَنَا ُه َو الشَّ ا ِه ُد لِ َنف ِْس‪َ ،‬ويَشْ َه ُد ِل ُ‬ ‫طب ًعا كان يقصد الله الذي أرسله‪ ،‬ولك ّنهم تجاهلوا املعنى وحاولوا إحراجه بالسؤال السخيف «أَيْ َن ُه َو أَبُ َوك؟»‪ ،‬وهكذا‬ ‫لسبب أو آلخر مل يُعلنها أو‬ ‫ظل اليهود يعايرون املسيح مبايض أ ّمه املؤمل– حسب اعتقادهم‪ -‬وهو يعلم الحقيقة‪ ،‬ولك ّنه‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫رمبا أعلنها‪ ،‬ولكنه مل يجد آذانًا صاغي ًة‪.‬‬ ‫‪59‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء الخامس‬ ‫محمد شومان‬

‫وهكذا نتأكد فقر ًة بعد أخرى من ك ّم املعاناة الرهيبة التي عاناها يسوع‬ ‫سب اليهود أل ّمه يف أع ّز ما متلك‪ ،‬ومن نظرتهم إليه عىل أنه‬ ‫املسيح من ِّ‬ ‫يظل موضع ٍّ‬ ‫شك واحتقار‪ ،‬ألنّنا‬ ‫فكل ما يقوله أو يفعله ّ‬ ‫«نغل» وبالتايل ّ‬ ‫مل نتعود يف مجتمعاتنا الرشقية عىل احرتام ابن الزنا–وال أظننا سنحرتمه–‬ ‫ومن ُهنا فإنّنا يجب أن ننظر ليسوع املسيح ونتعامل معه باعتباره إنسانًا‬ ‫تج ّرع كأس املهانة حتى الثاملة‪ ،‬ولهذا يجب علينا أن نلت ّمس له بعض‬ ‫ال ُعذر حني نرى ترصفاته املتناقضة ألنّه غال ًبا ما يكون واق ًعا تحت مؤثر ٍ‬ ‫ات‬ ‫يحب‬ ‫نفسي ٍة عنيفة‪ ،‬أ ّما يف حالته الطبيعية فيبدو أنّه كان إنسانًا ودو ًدا ّ‬ ‫والشب واملرح واملتعة الربيئة مع النساء‪ ،‬ولك ّنه يف لحظات الضغط‬ ‫األكل ُ‬ ‫ٍ‬ ‫مختلف متا ًما سرناه يف دراستنا هذه بعد قليل‪.‬‬ ‫النفيس يتح ّول إىل كائنٍ آخر‬ ‫توضح لنا إىل ح ٍّد ما العالقة املركّبة القامئة بني يسوع وأمه‬ ‫ونكتفي نحن اآلن بهذا القدر من النصوص املقدسة التي ّ‬ ‫التي كان يحبها ويؤمن بطهارتها‪ ،‬ويف نفس الوقت يخجل من الظهور معها أمام الناس حتى ال تلوك األلسنة يف سريته‬ ‫وسريتها ‪-‬بالباطل طبعا‪ ،-‬ولكن ما يهمنا هو اعرتاف األناجيل القانونية ولو بصور ٍة غري مبارش ٍة بنظرة اليهود يف عرص‬ ‫امليالد ليسوع املسيح عىل أنه ابن زانية‪ ،‬وبالتايل فمن حقّنا أن ننظر إىل الروايات اإلنجيلية املق ّدسة بعني الشك حني‬ ‫ت ُخربنا أ ّن املسيح قد عاش حيا ًة طبيعي ًة يف نظر قومه ومل يتج ّرع كأس املهانة حتى الثاملة‪ ،‬فها هو النص املق ّدس نفسه‬ ‫رصح لنا مبا حاول الكهنة إخفائه ع ّنا سوا ٌء عن حسن نيّ ٍة أو حتى عن سوء نيّة‪.‬‬ ‫يكاد ي ّ‬

‫‪60‬‬


s www.facebook.com/M-80-II-941772382615672

61


‫‪Ihab Ghazal‬‬

‫أنا سمعته قال جال جال فظهر‬ ‫الكون‬

‫‪Norma Bassily‬‬

‫ويديه االثنني ميني وسرياه‬ ‫الجميع يوم يكشف عن ساقيه‬

‫‪Jony Nasser‬‬

‫ثاليث الدجل‬

‫‪Azad Ekkaş‬‬

‫وحده ال رشيك له بل ماليني املندوبني‬ ‫والوكالء والجواسيس والجالدين‬

‫‪62‬‬


‫مجلة شهرية بجهود فردية تصدر في الثاني عشر من كل شهر‬

The Arab AtheistsisMagazine a digital publication Arab Atheists Magazine a digitalispublication produced produced by volunteers and committed to promoting entirely by volunteers committed to freedom of thought, inf thought and writings of atheists of various persuaormativetheand enlightening articles regardless of ethnicity sionsorwith complete with freedom. The Magazine not adopt gender persuasion autonomy, completedoes independenc endorse anyfree form of political ideology or affiliation e and mostorimportantly from geopolitical censorship. Contributors bear the responsibility the form content, illustraThe Magazine does notfull adopt or endorseofany of political tions and topics theyContributors provide insofar it covers and ideology or affiliation. will as assume fullcopyright responsibility issues intellectual property for the content, illustrations and topics theyofprovide pertaining to infringement of copyright and issues of intellectual property. Express permission for to publish in the Magazine is provided contributors,permission whether they members the Arab Atheistsis Theby expressed to are publish in ofthe Magazine Magazine Group of other atheists non-religious contributors provided by contributors, whether theyand are members of the Arab Atheists Magazine Editorial or other atheists and non-religious contributors. The Magazine does not publish material that is unethical or that racism bigotry The Magazine does not publish unethicalincites material thatoramongst other things perpetuate incitement to racism or bigotry. The Editorial Board reserves the right to republish content originally published theright Magazine’s Facebook group, as The Editorial Board reservesonthe to republish content origipublishing there contains consent republication nally shared on ourimplicitly magazine’s Facebook page for publishing there in the Magazine gives implicit consent to republish to the Magazine.

:‫موقع املدونة اخلاصة بنا لألرشفة على اإلنترنت‬ www.aamagazine.blogspot.com ‫البريد اإللكتروني‬ el7ad.organisation@gmail.com magazine@arabatheistbroadcasting.org


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.